المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 17 ص -3-
باب الرجوع عن الشهادة في الطلاق والنكاح
قال رحمه الله: وإذا شهد رجل وامرأتان على طلاق امرأة ورجل وامرأتان على دخوله
بها فقضى القاضي بالصداق والطلاق ثم رجعوا
فعلى شهود الدخول ثلاثة أرباع المهر وعلى شهود
الطلاق ربع المهر لأن شهود الطلاق ألزموه نصف
المهر بدليل أنهم لو انفردوا قضى القاضي على
الزوج بنصف المهر وشهود الدخول ألزموه جميع
المهر بدليل أنهم لو انفردوا قضى القاضي عليه
بجميع المهر فنصف المهر اختص بشهود الدخول
بإيجابه على الزوج فعند الرجوع ضمانه عليهم
ونصف المهر اشتركوا فيه فضمانه عند الرجوع على
كلا الفريقين نصفان
فإن قيل: لا كذلك بل جميع المهر واجب على الزوج بالعقد فما ألزمه واحد من
الفريقين شيئا من المهر بما شهدوا به قلنا نعم
وجب جميع المهر بالعقد ولكن بمقابلة البضع على
أنه فوت تسليم البضع على وجه لا ينتهي به
النكاح فلا شيء على الزوج منه وقد تحقق ذلك
بالفرقة بينهما ولولا شهادة شهود الطلاق لم
يكن عليه نصف المهر ولولا شهادة شهود الدخول
لم يكن عليه جميع المهر ولكنهما حين شهدا
بوجود التسليم قبل ظهور الفرقة فكأنهما ألزماه
جميع المهر وحين شهدا الآخران بالفرقة قبل
التسليم مضافا إلى الزوج فكأنهما ألزماه نصف
المهر فيجب ضمان ذلك عند الرجوع عليهم لأنهم
حالوا بينه وبين المهر بشهادتهم فكأنهم غصبوه
ذلك أحد الفريقين النصف والفريق الآخر الكل
ولو رجع شاهد الدخول وحده ضمن ربع المهر لأن
النصف الذي اختص شهود الدخول بإلزامه بقي فيه
امرأتان على الشهادة وببقائهما يبقى نصف ذلك
النصف فيجب على الراجع نصف ذلك النصف وفي
النصف الآخر قد بقي على الشهادة حجة تامة. ولو
رجع شاهد الطلاق وحده لم يضمن شيئا لأن في
النصف الذي لزم بشهادة شهود الطلاق قد بقي على
الشهادة حجة كاملة ولو رجع شهود الدخول كلهم
ضمنوا النصف لأن النصف الآخر قد بقي على
الشهادة حجة كاملة ولو كان شهود الطلاق هم
الذين رجعوا لم يضمنوا شيئا لأنه بقي على
الشهادة بجميع المهر حجة تامة وهم شهود الدخول
ولو رجعت امرأة من شهود الطلاق وامرأة من
شهود الدخول فعلى الراجعة من شهود الدخول ثمن
المهر لأن النصف الذي اختص به شهود الدخول بقي
على الشهادة فله رجل
ج / 17 ص -4-
وامرأة
فبقي الحجة في ثلاثة أرباعه بتفاوتهما ويجب
على الراجعة ربع ذلك النصف ولا ضمان على شاهد
الطلاق لأنه بقي على الشهادة في ذلك النصف حجة
كاملة بعد رجوعها .
ولو شهد شاهدان أنه طلق امرأته واحدة وآخران
أنه طلقها ثلاثا ولم يكن دخل بها فقضى بالفرقة
وبنصف المهر لها ثم رجعوا جميعا فضمان نصف
المهر على شهود الثلث ولا ضمان على شهود
الواحدة لأن أصحاب الثلث هم الذين قطعت
بشهادتهم.
ألا ترى أنها لا تحل له قبل الزوج ومعنى هذا
أن بالثلث يثبت في المحل صفة الحرمة وشيء من
تلك الحرمة لا يثبت بالواحدة لأن حرمة المحل
لا تحتمل التجزي وإنما قضي القاضي بحرمة المحل
وذلك من موجبات ما شهد به شهود الثلث خاصة
فعرفنا أن القضاء كان بشهادتهم فالضمان عند
الرجوع عليهم وهو نظير ما ذكر بعده ولو شهد
شاهدان أنه حلف لا يقربها يوم النحر وآخران
أنه طلقها يوم النحر فأبانها القاضي منه ولم
يكن دخل بها وألزمه نصف المهر ثم رجعوا
فالضمان على شهود الطلاق دون شهود الإيلاء
لأنه إنما قضي بالفرقة بشهادة شهود الطلاق دون
شهادة شهود الإيلاء وهذه المسألة حجة لأبي
حنيفة رحمه الله في أن الثلاث غير الواحدة وقد
بيناه فيما إذا شهد أحد الشاهدين بتطليقة
والآخر بثلاث
وإذا شهد على رجل أنه تزوج امرأة على ألف درهم
وهي مهر مثلها قضي بذلك ونقدها الألف ثم رجعا
لم يضمنا شيئا أيهما كان المدعي في ذلك لأنه
إن كانت المرأة هي المدعية فقد ألزما الزوج
الألف وأدخلا في ملكه البضع بمقابلته والبضع
عند دخوله في ملك الزوج متقوم لأنه يتملك
البضع ومن ضرورة التملك يقوم المملوك به
كالاستيلاء لما كان يتملك به الحربي يتقوم به
نفسه وقد بينا أن الإتلاف بعوض يعدله لا يوجب
الضمان.
ولو كان الزوج هو المدعي فقد أثبتنا عليه
الملك وعوضاها بمقابلته ما يعدله وهو الألف
فإن كان مهر مثلها خمسمائة وكان الزوج منكرا
ضمنا له الفضل لأنهما ألزماه الألف وعوضاه ما
يتقوم بخمسمائة فقيمة البضع مهر المثل
فالخمسمائة الأخرى أتلفاها عليه بغير عوض وإن
كان المدعي هو الزوج فلا ضمان عليهما سواء كان
مهر مثلها أقل أو أكثر لأنهما أتلفا البضع
عليهما بغير عوض دون قيمة البضع ولكن البضع لا
يتقوم على المتلف وإنما يتقوم على المتملك
لضرورة التملك فلم يضمن الشاهدان لهما شيئا
وعند الشافعي رحمه الله يضمنان ما زاد على
الألف إلى تمام مهر مثلها .
وأصل المسألة ما إذا شهد شاهدان بالتطليقات
الثلاث بعد الدخول ثم رجعا بعد القضاء بالفرقة
لم يضمنا شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله
يضمنان للزوج مهر المثل وكذلك إن قتل المرأة
رجل لم يضمن القاتل للزوج شيئا من المهر عندنا
وعند الشافعي يضمن مهر المثل وكذلك لو ارتدت
المرأة بعدالدخول لم يغرم للزوج شيئا عندنا
وعند الشافعي للزوج مهر المثل على القاتل
وعليها وإن ارتدت لأن البضع متقوم بدليل أنه
متقوم عند دخوله في
ج / 17 ص -5-
ملك
الزوج فيقوم عند خروجه من ملكه أيضا لأنه إنما
يخرج من ملكه عين ما دخل في ملكه فمن ضرورة
التقوم في إحدى الحالتين التقوم في الحالة
الأخرى كملك اليمين فإنه يتقوم عند ثبوته
ابتداء ويتقوم أيضا عند الإزالة بطريق الإبطال
وهو العتق حتى يضمن شهود العتق القيمة إذا
رجعوا والدليل عليه أن شهود الطلاق قبل الدخول
إذا رجعوا ضمنوا نصف المهر فلو لم يكن البضع
متقوما عند الطلاق لما ضمنوا شيئا وإذا ثبت
التقوم قلنا المتقوم مضمون بالإتلاف مالا أو
غير مال كالنفس.
وحجتنا في ذلك أن البضع غير متقوم بالمال عند
الإتلاف لأن ضمان الإتلاف يتقدر بالمثل ولا
مماثلة بين البضع والمال صورة ومعنى فأما عند
دخوله في ملك الزوج المتقوم هو المملوك دون
الملك الوارد عليه وكان تقومه لإظهار خطر ذلك
المحل حتى يكون مصونا عن الابتدال ولا يملك
مجانا فإن ما يملكه المرء مجانا لا يعظم خطره
عنده وذلك محل له خطر مثل خطر النفوس لأن
النسل يحصل به وهذا المعنى لا توجد في طرف
الإزالة فإنها لا تتملك على الزوج شيئا ولكن
يبطل ملك الزوج عنها .
ألا ترى أن ما هو مشروط لمعنى الخطر عند
التملك كالشهود والولي لا يشترط شيئا منه عند
الإزالة وأن الأب لو زوج ابنه الصغير بماله
يصح ذلك ولو خلع ابنته الصغيرة بمالها من
زوجها لم يصح ذلك وهذا بخلاف ملك اليمين فهو
ملك مال والمال مثل المال صورة ومعنى فعند
الإتلاف يضمن بالمال وهذا بخلاف ما إذا شهدا
بالطلاق قبل الدخول لأنهما لا يغرمان هناك
قيمة البضع فقيمة البضع مهر المثل ولا يغرمان
شيئا من ذلك عندنا وإنما يغرمان نصف الصداق
لأنهما أكدا على الزوج ما كان على شرف السقوط
فإن المرأة إذا ارتدت يسقط عنه المهر وكذلك
إذا قتلت بن زوجها فهما أكدا عليه ما كان على
شرف السقوط فكأنهما ألزماه ذلك هو عبارة
المتقدمين رحمهم الله.
والأوجه أن تقول وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط
جميع الصداق إذا لم يكن مضافا إلى الزوج ولا
كان متهيئا للنكاح للفقه الذي ذكرنا في أول
الباب فهما بإضافة الفرقة منعا العلة المسقطة
من أن يعمل عليها في النصف فكأنهما ألزما
الزوج ذلك النصف بشهادتهما فيضمنان له ذلك عند
الرجوع وفي هذا أيضا نوع من الشبهة فإن الابن
إذا أكره امرأة أبيه حتى زنا بها قبل الدخول
يغرم الأب نصف المهر ويرجع به على الابن ولم
يوجد منه ما تصير به الفرقة مضافة إلى الأب
ولكنا نقول هو بإكراهه إياها منع صيرورة
الفرقة مضافة إليها وذا موجب نصف الصداق على
الأب فكأنه ألزمه ذلك وعلى هذا الخلاف شهود
العفو عن القصاص إذا رجعوا لم يضمنوا شيئا
عندنا وعند الشافعي رحمه الله يضمنون الدية
لأن القصاص ملك متقوم للولي.
ألا ترى أن القاتل إذا صالح في مرضه على
الدية يعتبر ذلك من جميع المال وقد أتلفوا
عليه ذلك بشهادتهم فيضمنون عند الرجوع وإن لم
يكن مالا كما تضمن النفس بالإتلاف
ج / 17 ص -6-
حالة
الخطأ ولكنا نقول ملك القصاص كملك البضع للزوج
من حيث إنه لا يظهر إلا في حق الاستيفاء وقد
بينا أن ملك البضع غير متقوم وإنما المتقوم
المحل المملوك فكذلك ملك القصاص إلا أن بالصلح
القاتل إنما يلتزم الدية بمقابلة ما هو من
أصول حوائجه فهو محتاج إلى هذا الصلح لإبقاء
نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث فيعتبر من
جميع المال لهذا .
والمريضة إذا اختلعت فإنما التزمت المال لا
بمقابلة ما هو من أصول حوائجها فاعتبر من
الثلث كذلك ولأنه يسلم للقاتل المحل المملوك
وهو نفسه وذلك متقوم وهنا بالطلاق بطل ملك
الزوج من غير أن يسلم لها شيء كان قد أشرف على
الزوال عنها وقد بينا أنه لا قيمة للملك
الوارد على المحل فأما تقوم النفس بالدية عند
الإتلاف فللصيانة عن الهدر وإظهار خطر المحل
وهذا لا يوجد في ملك القصاص فالعفو مندوب إليه
فيكون إهداره حسنا بهذا الطريق لأن القصاص
حياة حكما وفي العفو حياة حقيقة فلا يمكن
إيجاب الضمان على المتلف هنا بمعنى الصيانة
ولو لم يكن فرض الزوج لها مهرا فشهدا بالطلاق
قبل الدخول وقضى القاضي لها بالمتعة ثم رجعا
غرما المتعة له لأن المتعة في نكاح لا تسمية
فيه بمنزلة نصف الصداق في نكاح فيه تسمية فكما
أن هناك عند الرجوع يغرمان للزوج ما قضي به
القاضي وهو نصف المهر فكذلك هنا يغرمان له ما
قضي به القاضي وهو المتعة.
وزفر رحمه الله
يقول في الفصلين: لا يغرمان شيئا لأن جميع المهر وجب على الزوج بالعقد وإنما يسقط
عنه نصفه بالطلاق قبل الدخول فهما أسقطا عنه
البعض وما أوجبا عليه شيئا وإنما ضمنا فإنما
ينبغي أن يضمنا لها لأنهما أتلفا ملكها في بعض
الصداق وفيما قررنا جواب عن كلام زفر رحمه
الله.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه تزوج امرأة على
ألف والزوج يجحد ومهر مثلها خمسمائة وشهد
آخران أنه طلق قبل الدخول فقضي بذلك ثم رجعوا
فعلى شاهدي النكاح مائتان وخمسون وعلى شاهدي
الطلاق مائتان وخمسون لأن ما زاد على
الخمسمائة إلى تمام ألف ألزمه شهود العقد من
غير عوض بمقابلته وقد سقط عنه نصف ذلك بالطلاق
وبقي النصف فيغرمان له ذلك عند الرجوع وذلك
مائتان وخمسون ومقدار الخمسمائة ألزماه بعوض
فلا ضمان عليهما في ذلك ولكن شهود الطلاق قبل
الدخول كأنهما ألزماه نصف ذلك النصف تمنعهما
العلة المسقطة من أن يعمل عملها حين أضافا
الفرقة إلى الزوج فيضمنان ذلك عند الرجوع
ولو شهد آخران أيضا بالدخول فألزمه القاضي ألف
درهم ثم رجعوا فعلى شاهدي النكاح خمسمائة
الفضل على مهر مثلها لأنهما ألزماه ذلك بغير
عوض وأما الخمسمائة الأخرى ألزماه بعوض يعدله
فلا يضمنان له شيئا من ذلك ولكن بقي في ذلك
شاهدا الدخول وشاهدا التطليق فثلاثة أرباعه
على شاهدي الدخول وربعه على شاهدي الطلاق
بمنزلة جميع المسمى في مسألة أول الباب على ما
قررنا
ج / 17 ص -7-
وإذا
شهد شاهدان على امرأة أنها اختلعت من زوجها
قبل أن يدخل بها على أن برأته من المهر والزوج
يدعي ذلك وهي تجحد فقضي بذلك ثم رجعا ضمنا نصف
المهر لأنه لولا شهادتهما لكان لها نصف المهر
لوقوع الفرقة قبل الدخول بإقرار الزوج فهما
أتلفا عليهما ذلك النصف بشهادتهما ولو كان دخل
بها بعد الزوج والمهر عليه ضمنا لها جميع
المهر لأنه لولا شهادتهما لكان لها جميع المهر
على الزوج لأن الفرقة وقعت بإقراره بعد الدخول
فهما أتلفا جميع المهر عليها بشهادتهما بالخلع
والإبراء من المهر فيضمنان ذلك لها عند الرجوع
كشاهدي الإبراء في سائر الديون.
ولو ادعى رجل أنه تزوج امرأة على مائة درهم
وقالت المرأة بل تزوجني على ألف درهم وذلك مهر
مثلها فأقام الزوج شاهدين بما ادعى وقضى بذلك
وقد دخل بها ثم رجعا ضمنا لها تسعمائة في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولم يضمن لها
شيئا في قول أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على
مسألة كتاب النكاح إذا اختلف الزوجان في المهر
ومهر المثل مثل ما تقوله المرأة فعندهما القول
قولها وعنده القول قول الزوج ولولا شهادة
الشاهدين لكان يقضي لها على الزوج بالألف فهما
أتلفا عليها بشهادتهما مقدار تسعمائة فيضمنان
لها ذلك عند الرجوع .
وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الزوج في
المهر فالشاهدان لم يتلفا على المرأة شيئا
فبهذا يتبين أن الصحيح في معنى المستنكر عند
أبي يوسف رحمه الله أن يدعي الزوج دون العشرة
فأما إذا ادعى نقصانا كثيرا عن مهر المثل
فالقول قوله كما فسره في هذه المسألة ولو
طلقها قبل الدخول لم يضمنا لها شيئا بالاتفاق
لأن القول قول الزوج بعد الطلاق كما ذكره في
كتاب النكاح فلا يضمنان لها شيئا لذلك وذكر في
بعض نسخ الأصل يضمنان لها أربعمائة وخمسين
درهما وهذا إن صح فهو بناء على ما ذكره في
الجامع من تحكيم المتعة بعد الطلاق عندهما أن
تكون متعتها خمسمائة فقد أتلفا عليها ما زاد
على الخمسين وذلك أربعمائة وخمسون فيضمنان ذلك
لها وكذلك إن كانت لم تقر بالنكاح لم يضمنا
لها شيئا لأنهما ما أتلفا عليها شيئا من المال
إنما أتلفا عليها ملك البضع بشهادتهما وقد
بينا أن البضع لا يتقوم على غير المتملك
ولو ادعت امرأة على زوجها أنه صالح من نفقتها
على عشرة دراهم كل شهر فقال الزوج صالحتك على
خمسة فشهد شاهدان أنه صالحها على عشرة فقضي
بها ثم رجعا فإن كانت نفقة مثلها عشرة أو أكثر
فلا ضمان عليهما لأن القول قولها في مقدار
نفقة مثلها فالشهود ما ألزموا الزوج شيئا بغير
عوض وإن كانت نفقة مثلها أقل من عشرة ضمنا
الفضل للزوج فيما مضى لأنه لولا شهادتهما لكان
القول قول الزوج في إنكاره الفضل على نفقة
مثلها فإنما ألزماه ذلك بشهادتهما.
وإذا قضى القاضي لامرأة بمهر أو متعة أو نفقة
فمضت مدة ثم شهد شاهدان عليها
ج / 17 ص -8-
بالاستيفاء وقضى به ثم رجعا ضمنا ذلك للمرأة
لأن ذلك كان دينا مستحقا لها على الزوج فنفقة
الزوجة تصير دينا بقضاء القاضي وقد بينا أن
الشهادة باستيفاء الدين موجب الضمان عند
الرجوع وكذلك الولد وكل ذي رحم محرم ممن فرض
له القاضي النفقة وهذا على رواية الجامع حيث
يقول أن نفقة ذوي الأرحام تصير دينا بقضاء
القاضي فأما على رواية كتاب النكاح يقول لا
تصير ذلك دينا بعد مضي المدة وإن قضي القاضي
فعلى تلك الرواية شهود الاستيفاء لا يضمنون
شيئا وقد بينا وجه التوفيق بين الروايتين فيما
أملينا من شرح الجامع.
ولو شهد رجلان على الطلاق ورجلان على الدخول
ثم رجع شاهد الطلاق وأحد شاهدي الدخول ضمنوا
جميعا نصف المهر على شاهد الدخول من ذلك نصفه
والنصف الباقي عليهم أثلاثا لأن في النصف الذي
لزمه بشهادة شاهدي الدخول خاصة بقي أحدهما على
الشهادة فتبقى الحجة في نصف ذلك النصف ببقائه
فعلى الراجع منهما نصف ذلك النصف وفي النصف
الباقي يبقى نصفه أيضا ببقائه على الشهادة
وإنما انعدمت الحجة في نصف ذلك النصف وقد كان
ثبت بشهادتهم جميعا فعند الرجوع يجب ضمان ذلك
النصف عليهم أثلاثا.
وإذا طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض
لها مهر فشهد شاهدان أنه صالحها من المتعة على
عبد ودفعه إليها وقبضته وهي تنكر ذلك ثم رجعا
عن شهادتهما فإنهما يضمنا المتعة لها وهي
ثلاثة أثواب مثل كسوتها في بيتها ولا يضمنان
لها العبد لأن أصل حقها هو المتعة وقد أتلفا
بشهادتهما ذلك عليها فأما العبد كان ملكا
للزوج لولا شهادتهما فلا يضمنان لها العبد وإن
شهدا عليها بقبضه لأن وجوب ذلك لها بشهادتهما
وهي تنكر فلا يكون لها أن تضمنهما قيمة العبد
مع ما سبق من إنكارها وإنما تضمنهما أصل حقها
وهو المتعة فإن كان مهر مثلها عشرة دراهم ضمنا
له خمسة دراهم لأنه لا يراد بالمتعة على نصف
مهر المثل فلولا شهادتهما كان لها هذه الخمسة
فلهذا ضمنا لها عند الرجوع الخمسة.
ولو شهد شاهدان على الطلاق وشاهدان على الدخول
ولم يكن سمى لها مهرا فقضي بذلك ثم رجعوا ضمن
شاهدا الطلاق نصف المتعة وشاهدا الدخول بقية
المهر لأن المتعة في نكاح لا تسمية فيه كنصف
المسمى في نكاح فيه تسمية المهر وقد بينا أن
هناك شهود الطلاق يغرمون ربع المسمى فكذلك هنا
يغرمون نصف المتعة وما زاد على ذلك إلى تمام
مهر المثل ثابت بشهادة شهود الدخول فيغرمون
ذلك عند الرجوع.
ولو شهد شاهدان على مائة درهم بعينها في يد
رجل أنها لرجل آخر وآخران على مائة منها أنها
له فقضي له بذلك ثم رجع أحد شاهدي المائتين
ضمن خمسين لأن مقدار المائة استحق بشهادته
وشهادة صاحبه خاصة وقد بقي نصفه ببقاء صاحبه
على الشهادة فيغرم نصفه وذلك خمسون وإن رجع
أحد شاهدي المائة أيضا لم يضمن شيئا لأن مقدار
المائة ثبت بشهادة الأربع وقد بقي اثنان على
الشهادة بتلك المائة فلا يغرم الراجعان شيئا
من ذلك والله أعلم بالصواب
ج / 17 ص -9-
باب عن الرجوع عن الشهادة أيضا
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان ذميان لذمي على ذمي بمال أو خمر أو خنزير فقضي
بذلك ثم رجعا ضمنا المال وقيمة الخمر مثل قيمة
الخنزير لأن ضمان الرجوع بمنزلة ضمان الغصب
والإتلاف وأهل الذمة في ذلك يستوون بالمسلمين
ويضمنون في الخمر المثل وفي الخنزير القيمة
وإن كان الشاهدان أسلما ثم رجعا عن شهادتهما
ضمنا قيمة الخنزير لأن الخنزير ليس من ذوات
الأمثال وكان الواجب عليهما ضمان القيمة بنفس
الإتلاف وإسلامهما لا يمنع نفوذ ذلك وفي الخمر
عند محمد رحمه الله يضمنان القيمة وعند أبي
يوسف رحمه الله لا يضمنان شيئا بناء على إسلام
المسلمين المطلوب بعد إتلاف الخمر وقد بيناه
في الغصب ولو لم يسلم الشاهدان وأسلم المشهود
عليه ثم رجعا ضمنا قيمة الخنزير ولم يضمنا
الخمر لأن الواجب عليهما مثل الخمر وإسلام
الطالب يسقط الخمر لا إلى بدل فالمشهود عليه
في حقهما طالب فأما إتلاف الخنزير يوجب القيمة
وإسلام الطالب لا يمنع بقاءها واستيفاءها.
ولو شهد ذميان بمال على ذمي وأسلم المشهود
عليه قبل أن يقضي القاضي بشهادتهما لم يقض بها
أن إسلام المشهود عليه لو اقترن بشهادتهما منع
العمل بها فكذلك إذا طرأ قبل القضاء وهذا لأن
القاضي لا يقضي إلا بحجة وشهادة أهل الذمة لا
تكون حجة على المسلمين.
وإذا شهد محدودان بقذف بشهادة ولم يعلم القاضي
بذلك حتى قضي بشهادتهما ثم علم بذلك وليس من
رأيه إمضاؤه فإنه يرد القضاء ويأخذ المال من
المقضي له لأنه ظهر له الخطأ في قضائه وهذا
بناء على أن قضاء القاضي في المجتهدات إنما
ينفذ إذا صدر عن اجتهاد فأما إذا لم يكن عن
اجتهاد وإنما كان عن تلبيس واشتباه لم ينفذ
وهو ظاهر المذهب على ما أشار إليه في الجامع
ذكره الخصاف وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله
أن قضاءه في المجتهدات نافذ وإن لم يكن عن
اجتهاد منه لأنه لا ينقض قضاءه ما لم يتبين له
الخطأ بيقين وفي الاجتهاد لا يتبين ذلك فعلى
تلك الرواية لا ينقض القضاء هنا أيضا .
قال وكذلك لو علم أنهما عبدان أو كافران أو
أعميان أما في العبدين والكافرين فقد ظهر أن
قضاءه كان بخلاف الإجماع فهو باطل وفي
الأعميين الجواب مثل الجواب في المحدودين في
القذف لأن قضاءه حصل فيما هو مجتهد فيه وإن لم
يقصد الاجتهاد وقد نص على أنه قول أبي حنيفة
وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله يعني رد القضاء
وأخذ المال من المقضي له .
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وقضى
القاضي بذلك ثم رجعا ضمنا قيمة العبد لأنهما
أتلفا عليه ملكا هو مال متقوم ولا يمنع وجوب
الضمان عليهما بثبوت الولاء للمولى لأن الولاء
ليس بمال متقوم بل هو كالنسب فلا يكون عوضا
عما أتلفا عليه من ملك
ج / 17 ص -10-
المال
ولو شهدا عليه أنه دبره فقضى القاضي بذلك ثم
رجعا ضمنا ما نقصه التدبير لأنهما أوجبا حق
العتق للعبد بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقصه
التدبير لأنهما أوجبا حق العتق للعبد وبذلك
ينقض ملك المالية للمولى فيضمنان ذلك النقصان
وقد بينا في كتاب العتاق مقدار نقصان التدبير
فإن مات المولى يخرج العبد من ثلثه عتق وضمن
الشاهدان قيمته مدبرا لأن تلف ما بقي من المال
عند موت المولى حصل بشهادتهما فالتدبير موجب
حق العتق في الحال وحقيقة العتق في الثلث بعد
الموت وقد كان ضمنا ما أتلفاه معجلا وما زاد
على ذلك كان مؤجلا فيضمنان ذلك عند تحقق
الإتلاف وذلك بعد موت المولى.
وإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه ويسعى في
ثلثي قيمته ويضمن الشاهدان ثلث القيمة إذا عجل
العبد الثلثين فإن بدل ما زاد على الثلث قد
سلم للورثة من جهة العبد فإتلاف الشاهدين لذلك
حصل بعوض فلا يضمنانه عند الرجوع فأما مقدار
الثلث أتلفاه على الورثة بغير عوض فيضمنان ثلث
قيمته مدبرا ولا يرجعان بذلك الثلث على العبد
لأن رجوعهما غير مقبول في حق العبد وإن لم
يعجل العبد الثلثين من القيمة وعجز عنها
فللورثة أن يرجعوا به على الشاهدين لأنهما
حالا بين الورثة وبين ذلك القدر من ماليته
بشهادتهما والعوض في ذمة المفلس فكأنهما أتلفا
ذلك بغير عوض فيضمنان للورثة كالثلث ويرجع
الشاهدان بذلك على العبد لأنهما قاما مقام
الورثة حين ضمنا ذلك وقد كان للورثة حق الرجوع
على العبد بذلك فكذلك لمن قام مقامه بخلاف ثلث
القيمة وحالهما في الثلثين كحال شهود الكتابة
فإنهما لو شهدا عليه أنه كاتب عبده على ألف
درهم إلى سنة فقضي بذلك ثم رجعا وهو يساوي
ألفين أو ألفا فإنهما يضمنان قيمته لأنهما
حالا بين المولى وبين مالية العبد بشهادتهما
عليه بالكتابة فكانا بمنزلة الناصبين ضامنين
للقيمة ثم يتبعان المكاتب بالمكاتبة على
نحوهما لأنهما قاما مقام المولى في ذلك حين
ضمنا قيمته.
ولا يعتق المكاتب حتى يؤدي ما عليه لأنه قبل
رجوع الشاهدين ما كان يعتق إلا بعد أداء جميع
الألف إلى المولى فكذلك حاله مع الشاهدين بعد
ما ضمنا القيمة فإذا أداه عتق والولاء للذي
كاتبه لأن الشاهدين قاما مقام المولى في قبض
بدل الكتابة منه فأداؤه إليهما كأدائه إلى
المولى وهذا لأن رجوعهما في حق المكاتب غير
صحيح وقد استحق المكاتب أن يعتق على المولى
ويكون ولاؤه له فلا يبطل ذلك الحق برجوع
الشاهدين وإن عجز ورد في الرق كان لمولاه لأن
رقبته لم تصر مملوكة للشاهدين فالمكاتب ليس
بمحل النقل من ملك إلى ملك فرجوعهما غير صحيح
في حقه ويرد المولى ما أخذ من الشهود عليهم
لأن الحيلولة قد زالت بعجز المكاتب فهو نظير
غاصب المدبر إذا ضمن القيمة بعد ما أبق ثم رجع
فيكون مردودا على مولاه ويرد المولى على
الغاصب ما أخذ منه.
ولو شهد شاهدان أنه حلف بعتقه إن دخل هذه
الدار وشهد آخران أنه قد دخلها فقضى بعتقه ثم
رجعوا جميعا ضمن شاهد اليمين قيمة العبد ولا
ضمان على شاهدي الدخول عندنا
ج / 17 ص -11-
وقال
زفر رحمه الله الضمان عليهم جميعا لأن تلف
المال حصل بشهادة الفريقين جميعا ولكنا نقول
شهود اليمين أثبتوا بشهادتهم العلة الموجبة
للعتق وهو قوله أنت حر وشهود الدخول إنما
أثبتوا شرط العتق والشرط لا يعارض العلة في
إحالة الحكم عليه فالحكم يضاف إلى علته حقيقة
لأنه واجب بها شرعا وإلى الشرط مجازا لأنه
موجود عند الشرط لا به والمجاز لا يعارض
الحقيقة بل متى كانت العلة صالحة لإضافة الحكم
إليها لا يضاف شيء إلى الشرط وهو نظير حافر
البئر مع الملقي فإن الضمان على الملقى دون
الحافر وعلى القائد دون الممسك لهذا المعنى
وقد بينا هذا في مسألة شهود الإحصان في كتاب
الحدود.
ولم يذكر هنا أن اليمين لو كانت ثابتة بإقرار
المولى وشهد شاهدان بالشرط ثم رجعا ظن بعض
مشايخنا رحمهم الله أنهما يضمنان في هذا الفصل
وقالوا إن العلة لا تصلح لإضافة الحكم إليها
هنا فإنها ليست تتعدى فيكون الحكم مضافا إلى
الشرط على أن الشرط يجعل حلفا عن العلة هنا
باعتبار أن الحكم يضاف إليه وجودا عنده وشبه
هذا حفر البئر وهو غلط بل الصحيح من المذهب أن
شهود الشرط لا يضمنون بحال نص عليه في
الزيادات وهذا لأن قوله أنت حر مباشرة الإتلاف
للمالية وعند وجود مباشرة الإتلاف الحكم يضاف
إليه دون الشرط سواء كان بطريق التعدي بخلاف
مسألة الحفر فالعلة هناك ثقل الماشي وذلك ليس
من مباشرة الإتلاف في شيء فلهذا يجعل الإتلاف
مضافا إلى الشرط وهو إزالة المسكة بحفر البئر
الذي في الطريق.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده عن مدبر
منه وآخران أنه أعتق عبده ألبتة فقضى به ثم
رجعوا فضمان القيمة على شاهدي العتق ولا ضمان
على شاهدي التدبير لأن القضاء كان بشهادة
شاهدي العتق فمنع جر العتق المضاف إلى ما بعد
الموت ولو شهد شاهدا التدبير فقضى القاضي به
ثم شهد شاهدا العتق فقضى به ثم رجعوا فعلى
شاهدي التدبير لأن ضمان ما نقصه التدبير ذلك
الجر تلف بشهادتهما حين قضى بها القاضي ويضمن
شاهدا العتق قيمته مدبرا لأنهما أتلفا مالية
المولى بشهادتهما وعند شهادتهما كان هو مدبرا
فيضمنان ذلك عند الرجوع ولو كان شاهدا العتق
على الثياب شهدا أنه أعتقه قبل التدبير فأعتقه
القاضي ثم رجعوا ضمن شاهد العتق قيمته ولا
ضمان على شاهدي التدبير لأنه تبين أن شاهدي
التدبير ما أتلفا عليه شيئا وأن القاضي أخطأ
في قضائه بالتدبير حين قامت الحجة على الحرية
قبل ذلك فإنما حصل تلف المالية بشهادة شاهدي
العتق فالضمان عليهما عند الرجوع:
ألا ترى أنهما لو شهدا أنه باع عبده من هذا
بألف درهم ووقتا لذلك وقتا قبل التدبير فإن
القاضي يبطل التدبير وينفذ البيع فإن رجعوا
بعد ذلك لم يضمن شهود التدبير شيئا وضمن شهود
البيع فضل القيمة على الثمن لأن الإتلاف في
الفضل حصل بشهادتهم بغير
ج / 17 ص -12-
عوض
وإن كانت القيمة أقل من الثمن والمشتري هو
المنكر ضمنا للمشتري فضل الثمن على القيمة
لأنهما أتلفا عليه الفضل بغير عوض ولو كان
سواء وشهدا أنه نقد الثمن والبائع منكر ثم
رجعا عن البيع ولم يرجعا عن نقد الثمن لم
يضمنا شيئا لأنهما بالشهادة على البيع أزال
ملكه عن العبد بعوض يعدله وهما ثابتان على
شهادتهما بنقد الثمن فهو وما لو شهد به غيرهما
سواء ولو رجع عن نقد الثمن ضمن الثمن لأنهما
أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ملك البائع في الثمن
بشهادتهما عليه بالاستيفاء ولو كان البائع هو
المدعي والمشتري يجحد لم يضمنا شيئا لأنهما
أدخلا في ملك المشتري ما يعدل ما ألزماه من
الثمن.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده على ألف
درهم إلى سنة وقيمته خمسمائة فأجاز القاضي ذلك
ثم رجعا فاختار المولى ضمان الشاهدين فله ذلك
لأنهما حالا بينه وبين مالية العبد بشهادتهما
وبدل الكتابة في ذمة العبد المفلس كالتأوي فإن
قبض المولي منهما القيمة لم يعتق المكاتب حتى
يؤدي ألف درهم إلى الشاهدين لأنهما قاما مقام
المولي في استيفاء بدل الكتابة حين ضمنهما
القيمة ويتصدقان بالفضل لأن ذلك ربح حصل لهما
بكسب خبيث وهو شهادة الزور وإن لم يجبر المولى
يضمنهما ولكن جعل يتقاضى المكاتب حتى قبض منه
مائة درهم أو لم يقبضها غير أنه علم برجوع
الشاهدين فهذا اختيار للمكاتبة ولا يضمن
الشاهدان شيئا أبدا ما خلا خصلة واحدة وهي أن
تكون المكاتبة أقل من القيمة فإن هنا له أن
يأخذ المكاتب بالمكاتبة ويرجع على الشاهدين
بفضل القيمة لأنه بعد ما علم برجوع الشاهدين
كان مخيرا بين تضمين الشاهدين القيمة ومطالبة
المكاتب ببدل الكتابة فاختاره اتباع المكاتب
بالتقاضي منه يتضمن براءة الشاهدين كما في
الغصب مع غاصب الغاصب ولكن هذا في مقدار بدل
الكتابة فأما ما زاد عليه إلى تمام القيمة
فحقه فيه قبل الشاهدين خاصة فلا يكون اختياره
اتباع المكاتب ببدل الكتابة أبرأ الشاهدين عن
ذلك الفضل فلهذا يرجع عليهما به.
ولو شهدا أنه باع عبده من رجل بألف درهم إلى
سنة وقيمته خمسمائة والمشتري يدعي ذلك والبائع
يجحد فأجاز القاضي ثم رجعا فهو مخير بين أن
يبيع المشتري الثمن وبين أن يضمن الشاهدين
القيمة لإتيانهما الحيلولة بينه وبين ملكه في
الحال والبدل لا يصل إليه إلا بعد مضي الأجل
فإن ضمن الشاهدين القيمة قاما مقامه في الرجوع
على المشتري بالثمن وتصدقا بالفضل لأنه حصل
لهما بكسب خبيث ولأنه من وجه كالملك للثمن
منهما فإن استوفي منهما من القيمة وتمليك
الألف بالخمسمائة ربا فلشبهة بالربا يلزمهما
التصدق بالفضل.
وإن اختار المولى اتباع المشتري بالثمن لم
يرجع على الشاهدين بشيء أبدا لأن ذلك منه رضا
بالبيع بالثمن المؤجل وكذلك لو تقاضى المشتري
بعد رجوعهما فذلك منه رضا بالثمن في ذمة
المشتري فيكون مبرئا لهما باختيار اتباع
المشتري فلا يتبع الشاهدين بشيء بعده أبدا نوي
ماله على المشتري أو خرج
ج / 17 ص -13-
وإذا
شهد رجلان على رجل أنه حلف بعتق عبده أن في
قيده عشرة أرطال وحلف الرجل بعتقه بين يدي
القاضي أن لا يحل القيد أبدا فشهد شاهدان على
المولى أن في قيده خمسة أرطال فأعتقه القاضي
بشهادتهما ثم أطلقه من القيد ثم نظر إلى القيد
فإذا فيه عشرة أرطال فإن أبا حنيفة رحمه الله
قال على الشاهدين قيمة العبد وهو قول أبي يوسف
الأول رحمه الله وفي قوله الآخر لا ضمان على
الشاهدين وهو قول محمد رحمه الله وهو بناء على
ما تقدم من اختلافهم في نفوذ قضاء القاضي
شهادة الزور باطنا فعند أبي حنيفة رحمه الله
لما نفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا فإنما عتق
بشهادتهما قبل أن يحل القيد وعندهما لم ينفذ
قضاؤه باطنا فإنما عتق بحل القيد لا بشهادتهما
والشهود في الصورة يشهدون بالشرط ولكن في
المعنى يشهدون بتنجيز العتق لأن تعليق العتق
بشرط موجود تنجيز ولا يقال كيف ينفذ قضاء
القاضي باطنا وظاهرا هنا وقد تيقنا بكذبهم
بمعرفة وزن القيد فيكون هذا بمنزلة ما لو ظهر
نص بخلاف قضاء القاضي أو ظهر أن الشهود عبيد
أو كفار وهذا لأن القاضي حين قضى بالعتق لم
يكن مخاطبا بمعرفة وزن القيد حقيقة لأنه لا
طريق إليه ما لم يحل القيد وحل القيد معتق
للعبد وقضاؤه إنما ينفذ باطنا باعتبار أنه سقط
عنه تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهذا موجود
هنا ولو لم يحله وعلم أنهما شهدا بباطل رد في
الرق عندهما لأن قضاء القاضي لم ينفذ باطنا
وكذلك لو هلك العبد وأقر أنهما شهدا بزور فهو
وما سبق سواء لأنهما رجعا عن شهادتهما في مجلس
القاضي فذلك كمعرفة القاضي كذبهما أو أقوى منه
في إيجاب الضمان عليهما.
ولو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده عام أول
في من رمضان فأجاز القاضي شهادتهما وأعتقه ثم
رجعا وضمنهما القيمة أو لم يضمنهما حتى شهد
شاهدان أنه أعتقه عام أول في شوال فإنه لا
تقبل شهادة الآخرين لأنه حكم بعتقه بشهادة
الأولين في أول يوم من رمضان ألا ترى أن حكمه
في ذلك الوقت في جزاء جنايته وحدوده وغير ذلك
حكم الأحرار فالفريق الثاني إنما شهدوا بإعتاق
من هو محكوم بحريته وذلك لغو وعلى الأولين
ضمان القيمة يوم أعتقه القاضي لأنهما بالرجوع
أقرا أنهما أتلفا عليه ماليته حين أعتقه
القاضي بشهادتهما بالزور وإقرارهما حجة عليهما
فيضمنان قيمته في ذلك الوقت وكذلك لو شهدا على
أن مولاه أقر به حين ولد أنه لهذا الرجل وأنكر
المولى وشهد يوم شهدوا والعبد رجل شاب ثم قضي
به القاضي ثم رجعا ضمنا قيمته يوم قضي القاضي
لأنهما أتلفا عليه ماليته فيه يومئذ.
ولو شهدا عليه أنه أعتق عبده عام أول في رمضان
فقضي به القاضي ثم رجعا ثم شهد آخران أنه
أعتقه أول يوم من رمضان أول من عام الأول فإن
شهادة الآخرين مقبولة ولا ضمان على الأولين
وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما عند
أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل شهادة الفريق
الثاني لأن من أصله أن الشهادة على عتق العبد
لا تقبل من غير دعوى
ج / 17 ص -14-
ولا
مدعي لما شهد به الفريق الثاني لأن العبد
محكوم بحريته فلا يمكنه أن يدعي بشهادتهما
والفريق الأول لا تصح منهم الدعوى لأن كلامهم
متناقض وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
الشهادة على عتق العبد مقبولة من غير دعوى
فيثبت بشهادة الفريق الثاني في عتقه في وقت
سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الأول
ويتبين به أنهما شهدا بأنه أعتق حرا فيسقط
الضمان عنهما كذلك بخلاف ما إذا كانت شهادة
الفريق الثاني بالعتق بعد وقت العتق الأول حتى
قالوا إذا كان هناك من يدعي حريته في وقت سابق
على الوقت الذي شهد به الفريق الأول بأن كان
يدعي عليه حدا أو قصاصا في الطريق فإن شهادة
الفريق الثاني مقبولة ويسقط به الضمان عن
الفريق الأول لوجود المدعي لما شهد به الفريق
الثاني.
ولو شهدوا عليه أنه طلق امرأته عام أول في
رمضان قبل أن يدخل بها فقضي به القاضي وألزمه
بنصف المهر ثم رجعا فضمنهما القاضي بنصف المهر
ثم شهد شاهدان أنه طلقها عام أول في شوال قبل
أن يدخل بها لم يقبل ذلك ولم ينتفع به الأولان
لأنها صارت مطلقة بقضاء القاضي في وقت سابق
على الوقت الذي شهد به الفريق الثاني فإنما
شهد به الفريق الثاني بطلاق من هي أجنبية منه
في الحكم فكان ذلك لغوا ولو أقر الزوج بذلك
عند القاضي لم يكن على الشاهدين ضمان ورد
عليهما ما كان ضمنا له.
وكذلك إقرار المولى في العتق لأن المولى
بإقراره يزعم أنه تلف المالية عليه وتقرر نصف
الصداق كان بمباشرته الطلاق والعتاق لا
بشهادتهما ومباشرة ذلك رضا منه ضرورة وإقراره
حجة عليه فتبين به أن الشهود ما أتلفوا عليه
شيئا حين قضي القاضي بشهادتهم بخلاف البينة
فإنها لا تكون إلا بقضاء القاضي والقاضي لا
يقضي بشهادة الفريق الثاني بعد ما قضي بالطلاق
والعتاق في وقت متقدم بشهادة الفريق الأول ولو
شهد الفريق الثاني بالطلاق في وقت متقدم على
الوقت الذي شهد به الفريق الأول قبلت الشهادة
لأن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعوى
وتبين بهذه الشهادة أن الفريق الأول ما أكد
عليه شيئا من الصداق بشهادتهما فيسقط الضمان
عنهما.
ولو شهدا عليه أنه حلف بعتق عبده أنه لا يدخل
هذه الدار وأنكر ذلك المولى ثم دخل العبد
الدار فقضي القاضي بعتقه ثم رجعا عن شهادتهما
ضمنا قيمته لأنهما أثبتا سبب إتلاف المالية
بشهادتهما وهو اليمين فعند وجود الشرط إنما
يعتق العبد باليمين لا بوجود الشرط ولو ادعى
العبد أن مولاه كاتبه على ألف درهم وهي قيمته
وقال المولى كاتبته على ألفين وأقام البينة
فقضي القاضي بذلك على المكاتب فأداها ثم رجعا
فإن القاضي يضمنهما ألف درهم للمكاتب لأنه
لولا شهادتهما لكان القول قول المكاتب لإنكاره
الزيادة في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر فما
زاد على الألف إنما لزمه بشهادتهما فيضمنان له
ذلك عند الرجوع ولو كان المكاتب لم يدع
المكاتبة وقال مولاه كاتبته على ألفين فجحد
المكاتب ذلك وأقام المولى بينة فإنه لا تقبل
بينته على ذلك لأن البينة إنما تقبل إذا كانت
ملزمة وهذه بينة لا يلزم
ج / 17 ص -15-
العبد
شيئا فإنه يتمكن من أن يعجز نفسه ليفسخ
الكتابة فلا معنى لقبول البينة من المولى على
ذلك ولكن يقال للمكاتب إن شئت فامض على
الكتابة وإن شئت فدعها وكن رقيقا بخلاف الأول
فهناك يدعي العبد الكتابة فند دعواه الكتابة
إنما يلزمه مقدار الألفين بشهادتهما فلهذا وجب
قبول شهادتهما فإن كان المكاتب يدعي أنه حر
فجاء المولى بشاهدين فشهدا أنه كاتبه على
ألفين فقضي عليه بذلك وأدى المال ثم رجعا ضمنا
الألفين للمكاتب وإن كانت قيمته أقل من ذلك
لأنهما ألزماه الألفين بشهادتهما فإنه لولا
شهادتهما لكان القول قول من يدعي أنه حر وقد
أقر بالرجوع أنهما ألزماه الألفين بغير حق
بشهادتهما فيضمنان له ذلك.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه عبد لهذا الرجل
فقضي القاضي به ثم أعتقه على مال ثم رجعا عن
شهادتهما لم يضمنا للمشهود عليه شيئا لأنهما
ما ألزماه مالا بالشهادة إنما أبطلا حريته
وألزماه الرق بشهادتهما وذلك ليس بمال وقد
بينا أن ما ليس بمال لا يضمن بالمال بالشهادة
الباطلة ثم العبد التزم المال باختياره حين
قبل العتق بجعل وذلك لا يوجب الضمان على
الشهود بخلاف الأول فقد ألزمه المال هناك
يوضحه أنهما لو ضمنا إنما يضمنان باعتبار قضاء
القاضي برقه فذلك الضمان يكون للمولى لأنه
محكوم بأنه عبده فماله يكون لمولاه والمولى
يكذبهما في الرجوع بخلاف مسألة المكاتب فهناك
إنما يضمنان المال للمشهود عليه لا لمولاه وهو
مصدق لهما في الرجوع.
ولو شهدا على رجل أنه أعتق عبده على خمسمائة
وقيمته ألف درهم فأعتقه القاضي ثم رجعا
فالمشهود عليه مخير إن شاء ضمن الشاهدين الألف
ويرجعان على العبد بخمسمائة لأنهما قاما مقام
المولى في ذلك إن شاء رجع على العبد بخمسمائة
وأيهما ما اختار ضمانه لم يكن له أن يرجع على
الآخر بعد ذلك بشيء أبدا بمنزلة الغاصب مع
غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين
أحدهما والله أعلم بالصواب.
باب الرجوع عن الشهادة في النسب والولاء
والمواريث
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل أنه بن رجل والأب يجحد فأقام البينة أنه ابنه ولد
على فراشه وأنه وارثه فقضي بذلك ثم رجعوا عن
شهادتهم فلا ضمان عليهم لأنهم لم يشهدوا عليه
بمال إنما ألزموه النسب بشهادتهم والنسب ليس
بمال ولا يدري أيهما يموت قبل الآخر فيرثه
الآخر وكذلك لو أقام شاهدين أن هذا مولاه
أعتقه وهو يملكه وقال المشهود عليه أنا حر
الأصل ثم رجعوا بعد القضاء بشهادتهم لم يضمنوا
شيئا لأنهم ألزموه الولاء بشهادتهم والولاء
كالنسب ليس بمال ولو مات فورثه ثم رجعوا عن
شهادتهم لم يضمنوا شيئا أبدا لأن شهادتهم
بالنسب أو الولاء كانت في حال الحياة وذلك لا
يكون شهادة بالميراث وهذا لأن استحقاق الميراث
بالنسب والموت جميعا فكان حكما متعلقا بعلة
ذات وصفين فإنما يحال به على آخر الوصفين
وجودا لأن العلة تتم به وثبوت الحكم باعتبار
ج / 17 ص -16-
كمال
العلة وهذا بخلاف ما إذا شهد واحد ثم آخر فقضي
القاضي ثم رجعا فإنهما يضمنان ولا يحال
بالإتلاف على شهادة الثاني لأن الشهادة لا
توجب شيئا بدون القضاء وإنما يقضي القاضي
بشهادتهما جميعا فهو وما لو شهدا معا سواء
وهنا السبب قد ثبت قبل الموت ثم الموت لم يكن
مشهودا به استحقاق الميراث به لأنه آخر
الوصفين وجودا.
ولو شهدا على رجل أنه بن هذا القتيل لا وارث
له غيره والقاتل يقر أنه قتله عمدا فقضي
القاضي بالقصاص وقتله الابن ثم رجعوا عن
شهادتهم فلا ضمان عليهم في القصاص لأن القصاص
ليس بمال فلا يضمنونه للورثة المعروفين وإن
أتلفوه بشهادتهم عليهم كما لو شهدوا بالعفو عن
القصاص على المولى يضمنون كل مال ورثه هذا
الابن من القتيل لورثته المعروفين لأنهم شهدوا
بالنسب بعد الموت فكان المشهود به متمما علة
استحقاق الميراث فإنما يحال باستحقاق الميراث
على شهادتهم وقد أقروا بالرجوع ثم أنهم أتلفوه
على الورثة المعروفين بغير حق ولو رجع شهود
العفو قبل أن يقضي القاضي بها كان القصاص
واجبا على حاله لأن الشهادة لا توجب شيئا ما
لم يقض القاضي بها ولا يتمكن القاضي من القضاء
بها بعد ما رجعوا .
ولو شهدوا لرجل مسلم كان أبوه كافرا أن أباه
مات مسلما وللميت بن كافر فقضي القاضي بمال
ابنه للمسلم ثم رجعوا عن شهادتهم ضمنوا
الميراث كله للكافر لأنه لولا شهادتهم لكان
القول قول الابن الكافر والميراث كله له لأنه
عرف كفر أبيه في الأصل فإنما صار الميراث كله
مستحقا للابن المسلم بشهادتهما فعند الرجوع
يضمنان ذلك.
ولو أسلم كافر ثم مات وله ابنان مسلمان كل
واحد منهما يدعي أنه أسلم قبل موت أبيه وأقام
كل واحد منهما شاهدين فورثهما القاضي ثم رجع
شهود أحدهما ضمنوا جميع ما ورثه الآخر لأن
الآخر ببينته أثبت استحقاق جميع الميراث لنفسه
لولا شهادتهما فالمشهود له إنما أخذ نصف ذلك
بشهادتهما له وقد أقر بالرجوع أنهما شهدا بغير
حق وكذلك إن مات رجل عن أخ معروف فادعى آخر
أنه ابنه وشهد له به شاهدان وحكم له بالميراث
ثم رجعا ضمنا جميع ذلك للأخ لأن الأخ كان
مستحقا بجميع الميراث لولا شهادتهما بنسب
الابن وقد أقر بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه
بغير حق.
ولو كان صبي في يد رجل لا يعرف أنه حر أو عبد
فشهد شاهدان على إقراره أنه ابنه فأثبت القاضي
نسبه منه ثم مات الرجل فقضي له بميراثه ثم
رجعا لم يضمنا شيئا لأنهما شهدا بالنسب في
حياته واستحقاق الميراث إنما يحال به على آخر
الوصفين وجودا وهو الموت دون ما شهدا به وكذلك
لو شهدا لامرأة بالنكاح على مهر مثلها فقضي به
ثم مات الرجل فورثت منه ثم رجعا فلا ضمان
عليهما ولو كانت الشهادة بعد الموت ضمنا جميع
ما أخذته المرأة لأن آخر الوصفين ما شهد به
الشهود هنا وبه يتم علة استحقاق الميراث ولو
كان في يد رجل عبد صغير وأمة فشهد شاهدان أنه
أقر أن الصبي ابنه وشهد آخران أنه أعتق
ج / 17 ص -17-
هذه
الأمة ثم تزوجها على ألف درهم وهو يجحد ذلك
فقضي القاضي بجميع ذلك ثم مات الرجل عن بنتين
سوى الصبي فقضي القاضي للمرأة بالمهر وقسم
المال بينهم على الميراث ثم رجع الشهود عن
شهادتهم فإن شهود الابن يضمنون قيمة الابن
للورثة إلا نصيب الابن منها لأنهم أتلفوا ملكه
في العبد بشهادتهم فإنه لولا شهادتهم لكان
القول قوله أن الصغير عبده فإنه لا يعبر عن
نفسه وقد أقر عند الرجوع أنهما أتلفا عليه ذلك
بغير حق فيضمنان قيمته للمولى ويصير ذلك
ميراثا عنه لورثته لا أنه يطرح عنهما حصة
الابن المشهود له لأنه يكذبهما في الرجوع
ويزعم أنهما كانا صادقين في الشهادة بنسبه
وأنه لا ضمان عليهما وزعمه معتبر في نصيبه
ويضمن شهود الأمة قيمة الأمة إلا ميراث الأمة
منها لهذا المعنى لا يضمنون غير ذلك إلا أن
يكون المهر أكثر من مهر مثلها فيضمنون الفضل
لإقرارهم أنهم ألزموه ذلك الفضل بغير عوض ولكن
يطرح من ذلك حصتها منه بميراثها لأنها تكذبهم
في الرجوع وتصدقهم في الشهادة فيعتبر زعمها في
حصتها ولا ضمان على أحد من الشهود فيما أخذ
المشهود له من الميراث لما بينا أنهم شهدوا
بالنسب والنكاح في حالة الحياة.
وإذا مات الرجل فادعى رجل أنه أوصى له بالثلث
من كل شيء وأقام شاهدين فقضي له ثم رجعا عن
شهادتهما ضمنا الثلث لأن المشهود له استحق
الثلث بشهادتهما فكذلك لو شهدوا أنه أوصى له
بالثلث في حياة الميت ولم يختصموا في ذلك حتى
مات وفي هذا نوع إشكال فالوصية أخت الميراث
وقد بينا أنهم لو شهدوا بالنسب في حال الحياة
لم يضمنوا شيئا بعد الموت وإذا شهدوا بالوصية
ضمنوا لأن استحقاق الوصية عند الموت بالعقد لا
بالموت فإن الملك للموصى له ملك متجدد ثابت
بالعقد بخلاف الميراث فإنه خلافه على معنى أنه
يبقى للوارث من الملك ما كان ثابتا للمورث
وهذه الخلافة لا تتحقق إلا بالموت .
يوضح الفرق أن الشهادة بالنسب في حالة الحياة
وإن كانت توجب الميراث بعد الموت ففيها معنى
المعاوضة لجواز أن يموت المشهود له أولا فيرثه
المشهود عليه فلهذا لا يجب الضمان على الشهود
ولا تتحقق مثل هذه المعاوضة في الشهادة
بالوصية بالثلث فكان هذا بمنزلة الشهادة على
النسب بعد الموت فيكون موجبا للضمان عليهما
إذا رجعا ولو شهدا بعد موته أنه أوصى بهذه
الجارية لهذا المدعي وهي تخرج من ثلثه فقضي له
بها فاستولدها ثم رجعا عن الشهادة ضمنا قيمتها
يوم قضي بها ولم يضمنا العقر ولا قيمة الولد
لأنهما أتلفا ملك الرقبة على الورثة بشهادتهما
الملك للموصي له فيضمان قيمة الرقبة كذلك
بمنزلة ما لو شهدا بالهبة والتسليم في حياة
صاحبها وكذلك لو ولدت من غيره لم يضمنا للورثة
شيئا من قيمة الولد لأنهم ما استحقوا الولد
فالاستحقاق لا يثبت إلا بعد الوجود وعند وجود
الولد هي مملوكة للموصي له يحكم الحاكم دون
الورثة وإن كانت ميتة فالقول في قيمتها قول
الشاهدين في قيمتها لإنكارهم الزيادة وإن كانت
حية فقال الشاهدان قد ازدادت قيمتها لم يصدقا
على ذلك وضمنا قيمتها اليوم إلا أن يقيما
البينة على ما قالا لأن قيمتها في الحال
ج / 17 ص -18-
دليل
ظاهر على قيمتها فيما مضى والبناء على الظاهر
واجب وعلى من يدعي خلاف الظاهر إقامة البينة
فإن أقام البينة أخذ بذلك إلا أن تقيم الورثة
البينة على أن قيمتها يوم شهدا أكثر مما قال
شهودهما فيؤخذ ببينة الورثة لما فيها من إثبات
الزيادة.
ولو شهدا أن الميت أوصى إلى هذا في تركته فقضي
القاضي بذلك ثم رجعا لم يضمنا شيئا لأنهما ما
أتلفا على الميت ولا على الورثة شيئا
بشهادتهما إنما نصبا من يحفظ المال عليهم
ويقوم التصرف فيه لهم وذلك غير موجب إتلاف شيء
عليهم فإن استهلك الوصي المال فهو ضامن لأنه
كان أمانة في يده ولا ضمان على الشاهدين
لأنهما لم يشهدا على استحقاق في علمه المال
بعينه وإنما أتلف المال باستهلاك الوصي
باختياره فيكون ضمانه عليه والله أعلم.
باب الرجوع عن الشهادة على الشهادة
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على شهادة أربعة وشاهدان على شهادة شاهدين بحق
فقضى به ثم رجعوا فعلى الشاهدين الذين شهدوا
على شهادة الأربعة الثلثان وعلى الشاهدين
الآخرين الثلث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله وقال محمد رحمه الله الضمان على
الفريقين نصفين لأن شهادة كل فريق على شهادة
غيره في حكم الضمان عند الرجوع بمنزلة شهادته
على شهادة نفسه .
ألا ترى أن الإتلاف يحصل بشهادة كل فريق إذا
انفرد سواء شهد على شهادة نفسه أو على شهادة
غيره وسواء شهد على شهادة شاهدين أو شهادة
أربعة فلما استويا في علة الإتلاف يستويان في
الضمان عند الرجوع وهذا لأن شهادة الاثنين على
شهادة الأربعة أضعف من شهادتهما على الحق
بعينه لأنهما في الشهادة على الحق بعينه
يشهدان على معاينة وفي الشهادة على شهادة
الأربعة يشهدان عن خبر ثم لو شهدا على الحق
بعينه وشهد آخران كذلك ثم رجعوا كان الضمان
على الفريقين نصفين كذا هنا وأبو حنيفة وأبو
يوسف رحمهما الله قالا اللذان شهدا على شهادة
الأربعة في الصورة اثنان وفي المعنى أربعة لأن
القضاء يكون بشهادة الأصول لا بشهادة الفروع
ولهذا يعتبر عدالة الأصول وهذا لأن الفروع
ينقلون شهادة الأصول إلى مجلس القاضي فكان
الأصول حضروا بأنفسهم وشهدوا وإذا ثبت هذا كان
بمنزلة ما لو شهد أربعة على الحق واثنان على
الحق ثم رجعوا جميعا بعد القضاء فيكون الضمان
عليهم أسداسا ثم ما يجب على الأربعة لو حضروا
وشهدوا يقضى به على من أثبت شهادتهم في مجلس
القاضي بشهادته وهما اللذان شهدا على شهادة
الأربعة.
قال ألا ترى أن أربعة لو شهدوا على شهادة
اثنين وشهد اثنان على شهادة اثنين ثم رجعوا
بعد القضاء أن نصف الضمان على الأربعة ونصفه
على الاثنين وما كان ذلك إلا باعتبار عدد
الأصول دون الفروع وكذلك في الفصل الأول إلا
أن محمدا رحمه الله يفرق بينهما ويقول شهادة
الأربعة على شهادة المثني أضعف من شهادتهم على
الحق بعينه فلهذا لا يجب
ج / 17 ص -19-
عليهم
ما يلزمهم أن لو شهدوا على الحق بعينه وفي
الأول كذلك يقول شهادة الاثنين على شهادة
الأربعة أضعف من شهادتهما على الحق فلا يجوز
أن يلزمهما به أكثر مما يلزمهما أن لو شهدوا
على الحق بعينه فإنما أنظر في الوجهين إلى
الأقل مما يلزم الشهود بشهادتهم وشهادة من
شهدوا على شهادته فألزمهم الأقل من ذلك وهذا
نوع استحسان فيه والقياس ما ذهب إليه أبو
حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله.
وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين وشاهدان على
شهادة شاهدين فقضي القاضي بذلك ثم رجع واحد من
هؤلاء وواحد من هؤلاء فعلى الراجعين ربع المال
لأن ببقاء أحد الشاهدين من أحد الفريقين يبقى
نصف المال فإنه مع صاحبه كان حجة تامة في جميع
المال فيبقى ببقائه نصف المال وكذلك بقاء
الواحد من الفريق الآخر يبقى نصف المال إلا أن
هذا النصف شائع نصفه مما هو باق بشهادة الواحد
من الفريق الأول فإنما يعتبر بقاء نصف هذا
النصف ببقائه على الشهادة وإنما انعدمت الحجة
في ربع المال فيضمن الراجعان ذلك.
وقع في بعض النسخ: فعلى كل واحد من الراجعين
ربع المال ووجهه أنهم لو رجعوا جميعا ضمن كل
واحد منهم ربع المال وبقاء المثنى هنا على
الشهادة لم تبق الحجة بجميع المال فيجب على
الراجعين ما يلزمهما لو رجعوا وذلك نصف المال
وقيل هذا قول أبي يوسف رحمه الله فأما عند
محمد رحمه الله على الراجعين ثمنان ونصف على
ما ذكره في الجامع وهي مسألة الفئة معروفة
بناء على اعتبار حال من بقي على الشهادة في
القوة والضعف فقد ذكر هناك مسألة الرجوع لا
كمال الحجة فيها وجه واحد وأوجب على الراجعين
ثلاثة أثمان المال وذكر مسألة لإكمال الحجة
فيها ثلاثة وجوه وأوجب على الراجعين ثمني
المال ثم قال في هذه المسألة لإكمال الحجة
وجهان أن يشهد واحد على شهادة هذين أو يشهد
واحد على شهادة الآخرين فكان حال من بقي على
الشهادة في هذا الفصل دون حاله في الوجه
الثاني وفوق حاله في الوجه الأول فباعتبار ذلك
أوجب على الراجعين ثمنين ونصفا وقد بينا ذلك
فيما أمليناه من شرح الجامع.
وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين فقضي به
القاضي ثم أن الشاهدين الأولين أتيا القاضي
فقالا لم نشهدهم على شهادتنا فقضاء القاضي ماض
على حاله لأن إنكارهما الإشهاد خبر متمثل بين
الكذب والصدق فلا يبطل قضاء القاضي كما لو
شهدا بأنفسهما وقضي القاضي ثم رجعا ولكن لا
ضمان عليهما هنا لأنهما ينكران سبب الإتلاف
وهو الإشهاد على شهادتهما ولو قال كنا
أشهدناهم على شهادتنا ولكنا رجعنا عن ذلك
فكذلك الجواب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله وقال محمد رحمه الله هما ضامنان للمال
لأن الفرعين قاما مقامهما في نقل شهادتهما إلى
مجلس القاضي فأما القضاء حصل بشهادة الأصلين
ولهذا تعتبر عدالتهما فكأنهم حضرا بأنفسهما
وشهدا ثم رجعا فيلزمهما الضمان وهما قالا
الموجود منهما شهادة في غير مجلس القضاء
والشهادة في غير مجلس القضاء لا
ج / 17 ص -20-
تكون
سببا لإتلاف شيء فلا يلزمهما الضمان وإن رجعا
عن ذلك لأن الشهادة تختص بمجلس القضاء كالرجوع
وقد بينا أن الرجوع في غير مجلس القضاء لا
يوجب الضمان على الشهود فكذلك الشهادة في غير
مجلس القضاء ولا نقول أن الفروع نائبون عن
الأصول في نقل شهادتهم إلى مجلس القاضي فإنهم
بعد الإشهاد لو منعوهم عن أداء الشهادة كان
عليهم الأداء إذا طلب المدعي ولو كانوا نائبين
عن الأصول لما كان لهم ذلك إذا منعهم الأصول
عن الأداء ولكنهم يشهدون على ما تحملوا وهو
إشهاد الأصول إياهم على شهادتهم ولو شهدوا على
الحق بعينه ما كانوا نائبين فيه عن أحد فكذلك
إذا شهدوا على شهادة الأصول.
ولو رجع الفروع والأصول جميعا فالضمان على
الفروع خاصة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله لما بينا أن سبب الإتلاف الشهادة
القائمة في مجلس القاضي وإنما وجد ذلك من
الفروع دون الأصول فالضمان عليهم عند الرجوع
وعند محمد رحمه الله المشهود عليه بالخيار إن
شاء ضمن الفروع وإن شاء ضمن الأصول لأن كل
واحد من الفريقين لو رجع وحده كان ضامنا للمال
المقضي به عند محمد رحمه الله فإذا رجع
الفريقان يجعل في حق كل فريق كأنه هو المنفرد
بالرجوع ويتخير المشهود عليه لأنه لا يجانس
بين شهادة الفريقين فقد كانت شهادة الأصول على
أصل الحق وشهادة الفروع على شهادة الأصول ولا
مجانسة بينهما ليجعل الكل في حكم شهادة واحدة
فيكون الضمان عليهم جميعا بل يجعل كل فريق
كالمنفرد للمشهود عليه بالخيار يضمن أي
الفريقين شاء كالغاصب مع غاصب الغاصب للمغصوب
منه أن يضمن أيهما شاء والله أعلم.
باب الرجوع عن الشهادة في الحدود وغيرها
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بسرقة ألف درهم بعينها فقطعت يده ثم رجعا
ضمنا دية اليد في مالهما ولا قصاص عليهما
عندنا لأن لوجوب منهما بسبب القصاص والقصاص
يعتمد المساواة ولا مساواة بين المباشرة
والسبب ولأن اليدين لا يقطعان بيد واحدة هكذا
ذكره إبراهيم رحمه الله عن علي رضي الله عنه
قال لا يقطع يدان بيد فإذا امتنع وجوب القود
عليهما ضمنا دية اليد في مالهما لأن رجوعهما
عن الشهادة قول وهو ليس بحجة في حق العاقلة
وضمنا الألف أيضا لأنهما أتلفاه على المشهود
عليه وكذلك كل قصاص في نفس أو دونها والشافعي
رحمه الله يوجب القود على الشهود عند الرجوع
والمسألة في الديات .
ولو شهد أربعة على رجل بالزنى ولم يحصن فجلده
الإمام وجرحته السياط ثم رجعوا عن الشهادة
فعند أبي حنيفة رحمه الله ليس عليهم أرش
الجراحة خلافا لهما وقد بينا في الحدود ولو لم
تجرحه السياط فلا ضمان عليهم بالإتلاف كما لو
باشروا ضربا غير مؤثر وعلى هذا حد القذف وحد
الخمر والتعزير .
ولو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده وشهد
عليه أربعة بالزنى والإحصان فأجاز .
ج / 17 ص -21-
القاضي
شهادتهم وأعتقه ورجمه ثم رجعوا فعلى شهود
العتق قيمة العبد لمولاه لأنهم أتلفوا مالية
المولى فيه بشهادتهم بالعتق وعلى شهود الزنى
الدية لمولاه أيضا إن لم يكن له وارث غيره
لأنهم أتلفوا نفسه بشهادتهم عليه بالزنى
والإحصان بغير حق فإن قيل المولى كان جاحدا
للعتق فكيف يضمنون الشهود الدية قلنا لأن
القاضي حكم بعتقه وزعم المولى بخلاف ما قضي
القاضي بعد قضائه غير معتبر فإن قيل كيف يجب
للمولى بدلان عن نفس واحدة قلنا وجوب القيمة
على شهود العتق بدل عن المالية ووجوب الدية
باعتبار النفسية ثم الدية لا تجب للمولى ولكن
للمقتول حتى تنفذ منه وصاياه ويقضي ديونه.
ألا ترى أنه لو كان له بن حر كانت الدية له
دون مولاه أرأيت لو شهدوا أنه ابنه وشهد آخرون
بالزنى والإحصان ثم رجعوا أما كان على شهود
النسب القيمة وعلى شهود الزنى الدية وكذلك لو
كان شاهدا العتق بعض شهود الزنى فعليهما من
القيمة حصتهما من الدية لأن المشهود به مختلف
فاتحاد الشهود في ذلك واختلافهم سواء وكذلك لو
كان شهود العتق رجلا وامرأتين لأن العتق ليس
بسبب للحد وهما مما يثبت مع الشبهات فشهادة
رجل وامرأتين به كشهادة رجلين ولو شهد أربعة
على العتق والزنا والإحصان فأمضى القاضي ذلك
كله ثم رجعوا عن العتق ضمنوا القيمة لإقرارهم
بالرجوع لأنهم أتلفوا مالية المولى فيه بغير
حق ولا شيء عليهم من الدية لأنهم مصرون على
الشهادة عليه بالزنى وفي حق العتق هم بمنزلة
شهود الإحصان ورجوع شهود الإحصان لا يوجب
الضمان عليهم عندنا ولو رجع اثنان عن الزنى
واثنان آخران عن العتق فلا ضمان على شهود
العتق لأنه قد بقي على العتق حجة كاملة وعلى
اللذين رجعا عن الزنى نصف الدية لأن الباقي
على الشهادة في حكم الرجم نصف الحجة فيجب على
الراجعين نصف الدية وحد القذف.
ولو شهد أربعة على رجل بالزنى والإحصان فقضي
القاضي بذلك وأمر برجمه فرجعوا عن الشهادة وقد
جرحته الحجارة وهو حي فإن القاضي يدرأ عنه
الرجم بمنزلة ما لو رجعوا قبل أن يأخذوا في
رجمه وهذا لأن الإمام لا يتمكن من استيفاء
الحد إلا بحجة قائمة ولم تبق الحجة بعد رجوعهم
وهم ضامنون أرش جراحته لأن ذلك مما استحق
بشهادتهم فضمانه عليهم عند الرجوع.
ولو شهدا أنه صالحه من دم عمدا على ألف درهم
ثم رجعا لم يضمنا شيئا أيهما كان المنكر للصلح
لأنه إذا كان المنكر للصلح هو المولى فقد شهدا
عليه بسقوط حقه بعوض وقد بينا أنهما لو شهدا
عليه بالعفو بغير عوض ثم رجعا لم يضمنا فهذا
أولى وإن كان المنكر هو القاتل فقد سلم له
بنفسه وما ألزماه من العوض دون بدل نفسه وقد
بينا تقوم النفس في حقه ولهذا لو صالح في مرضه
على قدر الدية أو دونه اعتبر من جميع المال
فلا يضمنان له شيئا لذلك.
ج / 17 ص -22-
ولو
شهدا أنه صالحه على عشرين ألفا والقاتل يجحد
ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الفضل على الدية
لأنهما ألزماه ما زاد على الدية بغير عوض
وكذلك هذا فيما دون النفس إن شهدوا على الصلح
على مقدار الأرش أو دونه لم يضمنا عند الرجوع
شيئا وإن شهدا على الصلح على أكثر من الأرش
ضمنا الفضل للجارح إذا كا ن جاحدا لذلك ولو
قال الطالب صالحتك على ألف درهم وقال المدعي
عليه بل على خمسمائة فالقول قوله مع يمينه
لإنكاره الزيادة فإن أقام الطالب بينة على ألف
درهم فقضى له بها ثم رجع شهوده ضمنوا
الخمسمائة التي وجبت بشهادتهم لأنه لولا
شهادتهم لكان القول قول المنكر فإنما لزمته
تلك الزيادة بشهادتهم .
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه عفا عن دم خطأ أو
جراحة خطأ أو عمدا فيها أرش فقضى بذلك ثم رجعا
ضمن الدية وأرش تلك الجراحة لأنهما أتلفا على
المشهود عليه المال بشهادتهما فالخطأ موجب
للضمان فيضمنان ذلك عند الرجوع ولكن بال 4 صفة
التي كانت واجبة وقد كانت الدية واجبة مؤجلة
في ثلاث سنين فيجب عليهما ضمانها في ثلاث سنين
أيضا وما بلغ من أرش الجراحة خمسمائة فصاعدا
إلى ثلث الدية في سنة وما زاد على ذلك إلى
الثلث ففي سنة أخرى وإن كان الأرش أقل من
خمسمائة ضمناه حالا وكذلك الدية إن كانت قد
وجبت حالة ولم يؤخذ منها شيء فشهدا أنه أبرأه
منها وقضى بالبراءة ثم رجعا ضمنا ذلك حالا
لأنهما كذلك أتلفاه بشهادتهما على المشهود
عليه ألا ترى أنهما يضمنان الجيد بمثله
والرديء بمثله وهذا لأن وجوب الضمان عليهما
بطريق الجبران وإنما يتحقق ذلك إذا كان الضمان
نصفه الفائت .
وإذا شهد شاهدان على عبد في يد رجل أنه لفلان
فقضى القاضي له به والذي في يده العبد يجحد
ذلك ثم رجعا وضمنهما القاضي القيمة فأدياها أو
لم يؤدها حتى وهب المشهود له العبد من المشهود
عليه وقبضه فإن الشاهدين يبرآن من الضمان
ويرجعان فيما أديا لأن وجوب الضمان عليهما
لأجل الجبران وقد انعدمت الحاجة إلى ذلك برجوع
العبد إلى يد المولى من غير عوض وهو يزعم أن
العبد سلم له بملكه القديم لا بالهبة التي
باشرها المشهود له فزعمه معتبر في حقه فإن رجع
الواهب في العبد وقبضه رجع المشهود عليه
بالضمان على الشاهدين لأن فوات ملكه ويده كان
بسبب شهادتهما لولا ذلك لما تمكن المشهود له
من استرداد العبد منه ولأن الهبة لما انفسخت
بالرجوع صارت كان لم تكن.
وإن مات المشهود له فورث المشهود عليه منه
العبد رجع عليه الشاهدان بما أعطياه من القيمة
لأنه يزعم أن وصول العبد إلى يده بقديم ملكه
لا بالموت وكذلك لو كان العبد قتل فأخذ
المشهود له القيمة فورث المشهود عليه منه تلك
القيمة لأن عود بدل العبد إليه كعود عينه
وكذلك لو ورث مثلها من تركته لأن في زعمه أن
القيمة دين له على المشهود وأنه استوفى تركته
بحساب الدين دون الميراث وكذلك إن كان معه
وارث آخر وفي حصته من
ج / 17 ص -23-
تركة
الميت وفاء بالقيمة ففي حقه يجعل ذلك سالما له
بجهة دينه كما يزعم وينعدم النقصان بسببه فلا
يجب ضمانه على المشهود بطريق الجبران.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه تزوج هذه المرأة
على ألف درهم وهي مهر مثلها والزوج يجحده فقضى
القاضي بذلك ثم طلقها عند القاضي ثم رجعا فلا
شيء عليها لأنهما أدخلا في ملكه ما هو مثل لما
ألزماه فالبضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم
ثم تقرر نصف الصداق على الزوج كان بإيقاعه
الطلاق باختياره .
ولو كان الزوج قال تزوجتها بغير تسمية مهر كان
على الشاهدين فضل ما بين المتعة إلى الخمسمائة
التي غرمها الزوج لأن النكاح قد ثبت هنا
بتصادقهما والقول قول المنكر للتسمية لولا
شهادتهما ولا يلزمه أكثر من المتعة عند الطلاق
فما زاد على المتعة إلى تمام الخمسمائة إنما
لزمه بشهادتهما فيضمنان ذلك له عند الرجوع ولو
شهد آخران على الدخول قبل الطلاق ثم رجعوا
فعلى شهود الدخول خمسمائة خاصة لأن تلك
الخمسمائة إنما لزمته قبل الطلاق بشهادتهما
عليه بالدخول وعليهما وعلى الشاهدين بالألف
فضل ما بين المتعة والخمسمائة نصفان لأن لزوم
ذلك القدر إياه بشهادة الفريقين جميعا.
ولو شهد آخران أيضا على الطلاق فقضى القاضي
بجميع ذلك ثم رجعوا فعلى شاهدي الدخول خمسمائة
لأن لزوم ذلك بشهادتهما خاصة وعليهما أيضا
وعلى شاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى نصف
الأول وعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية
وشاهدي الطلاق قدر المتعة أثلاثا على كل
شاهدين ثلث ذلك لأن تقرر ذلك القدر كان
بشهادتهم جميعا.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه تزوج امرأة على
ألف درهم ومهر مثلها خمسمائة وشهد آخران على
الدخول وآخران على الطلاق والزوج يجحد ذلك كله
ثم رجعوا فعلى شاهدي النكاح خمسمائة لأنهما
ألزماه ألفا وعوضاه من ذلك ما يساوي خمسمائة
فما زاد على ذلك أتلفاه بغير عوض فيضمنان ذلك
له وليس عليهما غير ذلك
ألا ترى أنهما لو شهدا عليه بالنكاح بخمسمائة
لم يضمنا شيئا فأما في الخمسمائة الباقية
فيضيف ذلك على شاهدي الدخول خاصة لأن ذلك إنما
لزمه بشهادتهما على الدخول فالخمسمائة التي
ضمنهما شهود العفو شائعة فكذلك الخمسمائة
الأخرى تكون شائعة نصف ذلك مما يتقرر عليه
بالدخول فيجب ضمان ذلك على شاهدي الدخول ونصف
هذه الخمسمائة عليهما وعلى شاهدي الطلاق نصفان
لأن تقرر ذلك عليه بشهادة الفريقين .
وإذا شهد أربعة نفر على رجل بحق فشهد عليه
اثنان بخمسمائة واثنان بألف فقضى به القاضي ثم
رجع أحد شاهدي الألف فعليه ربع الألف لأن نصف
الألف ثبت بشهادته وشهادة صاحبه على الشهادة
وإنما انعدمت الحجة في نصفه فإن رجع معه شاهد
الخمسمائة
ج / 17 ص -24-
كان
على شاهدي الألف ربع الألف كما بينا وعليه
أيضا وعلى الآخرين ربع سهم أثلاثا لأن الشهود
على النصف الآخر كانوا أربعة وقد بقي نصفه
ببقاء الواحد على الشهادة فيجب على الذين
رجعوا نصف ذلك النصف بينهم أثلاثا وإن رجع أحد
شاهدي الخمسمائة وحده أو هما جميعا فلا شيء
عليهما لأنه قد بقي على الشهادة بتلك
الخمسمائة من يتم الحجة بشهادته وإن رجعوا
جميعا كان على شاهدي الألف خمسمائة خاصة لأن
ذلك يستحق بشهادتهما خاصة والخمسمائة الأخرى
عليهم أثلاثا أرباعا لأنها ثابتة بشهادة
الأربعة فعند الرجوع ضمانها عليهم أرباعا وإن
رجع شاهدا الألف وأحد شاهدي الخمسمائة فنصف
الألف على شاهدي الألف خاصة والربع عليهم
أثلاثا لأن الحجة بقيت في ربع الألف ببقاء أحد
شاهدي الخمسمائة على شهادته وإذا شهد على
مجهول الحال أنه عبد لهذا الرجل فقضى
بشهادتهما ثم رجعا فلا شهادة عليهما للعبد
لأنهما أبطلا عليه الحرية الثابتة له باعتبار
الظاهر والحرية ليست بمال ولأنهما لو ضمنا
إنما يضمنان للعبد وما يكون للعبد فهو لمولاه
منكرا لرجوعهما فإن كان العبد كاتب نفسه على
مال أو اشترى نفسه بمال ثم رجع فلا شيء له على
الشاهدين لأنهما لو رجعا قبل العتق والمكاتبة
لم يضمنا شيئا فكذلك بعده ولأن هذا المال
التزمه العبد باختياره فلا يستوجب الرجوع به
على الشاهدين.
رجل مات وترك عبدين وأمة ومالا فشهد شاهدان أن
هذا الرجل أخوه لأبيه وأمه ووارثه لا وارث له
غيره فقضى بالمال له والعبدين والأمة ثم شهد
شاهدان بعد ذلك أن أحد العبدين بعينه بن الميت
فأجاز القاضي شهادتهما وأعطاه الميراث كله ثم
شهد آخران أن العبد الثاني بن الميت فقضى به
أيضا ثم شهد آخران أن الميت أعتق هذه الأمة
وتزوجها في حياته وصحته فقضى بذلك وجعلها
وارثة معهم ثم رجع اللذان شهدا للعبد الأول
ضمنا قيمته بين الابن الآخر والمرأة أثمانا
لأنه لولا شهادتهما لكانت رقبة المشهود له بين
الآخر والمرأة على ثمانية فإنما تلف ذلك
عليهما بشهادتهما فقد أقرا بالرجوع أنهما
أتلفا ذلك بغير عوض وكذلك لو لم يرجع ورجع
شهود الابن الثاني ضمنا قيمته بين الابن الأول
والمرأة أثمانا لما قلنا ويضمنان ميراثه لأخته
دون المرأة لأن جميع الميراث كان مستحقا له
بقضاء القاضي قبل شهادتهما فإنما أتلفا عليه
ذلك بشهادتهما وما أتلفا شيئا من الميراث على
المرأة بشهادتهما لأن استحقاقها عند الشهادة
لم يكن ثابتا وإنما ثبت بالبينة على نكاحها
بعد ذلك.
ولهذا في الفصل الأول لا يضمن الشهود شيئا مما
يورث الابن الأول لأنهما لم يثبتا استحقاق ذلك
على الابن الثاني والمرأة بشهادتهما
فالاستحقاق لم يكن ظاهرا عند شهادتهما وإنما
ثبت بثبوت سببه بعد ذلك ولا يضمنان للأخ أيضا
لأن ما استحق بشهادتهما على الأخ مستحق عليه
بشهادة غيرهما ففي حق الأخ بقيت الشهادة حجة
تامة في حق استحقاق الميراث عليه ولو لم يرجع
هذان ورجع شاهد المرأة ضمنا قيمتها وميراثها
بين الابنين لأنهما أتلفا بشهادتهما ملك
الابنين في رقبتها وأثبت استحقاقها الميراث
عليهما بشهادتهما بالنكاح وقد أقرا
ج / 17 ص -25-
بالرجوع أنهما شهدا بذلك كله بغير حق وإن كان
الشاهدان للمرأة هما الشاهدان على نسب الابن
الأول والابن الآخر ثم رجعوا عن الشهادة كلها
كان الضمان عليهم كذلك لأن المشهود به مختلف
فلا فرق بين اتحاد المشهود واختلافهم في ذلك
وسواء رجعوا معا أو متفرقين لأن أصل الشهادة
كان مختلفا بعضها قبل بعض والضمان عليهم عند
الرجوع باعتبار الشهادة السابقة ولو شهد
شاهدان على ذلك كله معا وبعضهم لا يصدق بعضا
ثم رجعا ضمنا ثمن المرأة وقيمتها بين الاثنين
لأنهما أتلفا على الاثنين فلولا شهادتهما بذلك
لكان ذلك مستحقا للاثنين بقضاء القاضي بينهما
ويضمنان من قيمة كل بن لصاحبه سبعة أسهم من
ثمانية أسهم وللمرأة الثمن كما لو شهد بكل شيء
شاهدان آخران وكذلك لو رجعا عن الشهادة واحد
بعد واحد كان الحكم كما بينا والله أعلم .
باب من الرجوع أيضا
قال رحمه الله: رجل له جاريتان لكل واحدة
منهما ولد ولدته في ملكه فشهد شاهدان لأحد
الابنين أن الرجل أعاده وهو منكر وشهد آخر أن
للولد الآخر بمثل ذلك فقضى القاضي بأيهما
أتياه وجعل الأمتين كالولد ثم رجعوا عن
شهادتهم والولد حي ضمن كل شاهدين منه قيمة
الولد الذي شهدوا له وبين قيمتها أمة إلى
قيمتها أم ولد لأنهما أتلفا عليه ذلك القدر
بشهادتهما فالثابت في شهادتهما في حياته حرية
الولد ونقصان الاستيلاء في الأم فإذا غرما ذلك
واستهلكه الأب ثم مات ولا وارث له غيرهما وكل
واحد من الاثنين يجحد صاحبه ضمن كل شاهدين
للولد الآخر نصف قيمة أم الولد الذي شهدوا له
لأنها عتقت عند الموت بشهادتهما فيضمنان ما
بقي من قيمتها إلا أن ذلك ميراث بين الابنين
نصفان والابن المشهود له يصدقهما في الشهادة
ويكذبهما في الرجوع فسقطت حصته من ذلك فإنما
يبقى على كل فريق حصة الابن الآخر لأنه مدعي
لذلك عليهما ويرجع شاهدا كل ولد في الميراث
الذي ورثه الولد الذي شهدا له بجميع ما أخذ
منهما الوالد في حياته لأن المشهود له يقران
ذلك دينا لهما على الأب وأنه قد استوفى ذلك
منهما بغير حق لأنهما صادقان في الشهادة وأحد
الوارثين إذا أقر بدين على الميت يستوفي جميع
ذلك من نصيبه ولا يرجعان في نصيبه بما ضمنهما
أخوه من نصف قيمة أمه لأنهما يزعمان أنهما
شهدا بغير حق فكانا ضامنين جميع ذلك له .
وإذا شهد شاهدان على الرجل بطلاق وهو يجحده
فقضى القاضي بالفرقة وبنصف المهر لها ثم مات
الرجل ثم رجعا عن شهادتهما غرما لورثة الزوج
نصف المهر الذي أخذته المرأة لأنهما لو رجع في
حياة الزوج كانا ضامنين ذلك له وقد نبه بعد
موته أنهم يحلفونه فيضمنون ذلك للورثة إذا
رجعوا بعد الموت أيضا.
ولا ميراث للمرأة منه إن كانت ادعت الطلاق أو
لم تدع إن أقر الورثة أنه طلقها أو لم يطلقها
لأنها قد بانت في حياته وإنما تستحق الميراث
بالنكاح إذا انتهى بالوفاة فإذا بانت في حياته
وصحته بقضاء القاضي لم تكن
ج / 17 ص -26-
هي
وارثة له فلا ينفعها قول الورثة والشهود ما
أتلفوا عليها شيئا من الميراث لأنهم شهدوا
بالفرقة في حياة الزوج ولم تكن هي مستحقة
للميراث عند ذلك لجواز أن تموت قبله.
ولو كان شهدا بذلك بعد موت الزوج وادعى ذلك
الورثة فقضى القاضي لها بنصف المهر في ماله ثم
رجعا عن شهادتهما ضمنا للمرأة نصف المهر
والميراث لأن حقها في جميع المهر قد تقرر بموت
الزوج واستحقت الميراث أيضا فإنما بطل حقها عن
نصف المهر وعن الميراث بشهادتهما بالفرقة في
حال الحياة فيضمنان ذلك عند الرجوع ولا يضمنان
لسائر الورثة شيئا لأنهما لم يتلفا على سائر
الورثة شيئا قد تقرر حقها في جميع المهر بموت
الزوج قبل ظهور الفرقة فهما نفعا للورثة
بإسقاط نصف مهرها وميراثها عنهم فلهذا لم
يضمنا للورثة شيئا والله أعلم بالصواب . |