المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 17 ص -27-
كتاب الدعوى
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة
وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخي
إملاء اعلم بأن الله تعالى خلق الخلق أطوارا
علومهم شتى متباينة ولتباين الهمم تقع
الخصومات بينهم فالسبيل في الخصومة قطعها لما
في امتدادها من الفساد والله تعالى لا يحب
الفساد وطريق فصل الخصومات للقضاة بما ذكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"البينة
على المدعي واليمين على المدعى عليه"
وهذا وإن كان من اختيار الآحاد فقد تلقته
العلماء رحمهم الله بالقبول والعمل به فصار في
حيز التواتر وعد هذا من جوامع الكلم على ما
قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم" واختصر لي الحديث اختصارا فقد تكلم كلمتين استنبط العلماء رحمهم
الله منهما ما بلغ دفاتر فقال قتادة في قوله
تعالى:
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[صّ:20]
إن الحكمة النبوة وفصل الخطاب البينة على
المدعي واليمين على المدعى عليه فهذا دليل على
أن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد
كان في شريعة من قبله وفي هذا الحديث بيان أن
المدعي غير المدعى عليه لأنه صلى الله عليه
وسلم ميز بينهما وذلك تنصيص على المغايرة كما
في قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" يكون تنصيصا على أن العاهر غير صاحب الفراش
والمدعي لغة من يقصد إيجاب حق على غيره
فالمدعى فعل يتعدى مفعوله فيكون المدعى اسما
لفاعل الدعوى كالضارب والقاتل إلا أن إطلاق
اسم المدعي في عرف اللسان يتناول من لا حجة له
ولا يتناول من له حجة فإن القاضي يسميه مدعيا
قبل إقامة البينة فأما بعد إقامة البينة يسميه
محقا لا مدعيا ويقال لمسيلمة مدعي النبوة ولا
يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي
النبوة لأنه قد أثبته بالمعجزة فعرفنا أن
إطلاق الاسم على من لا حجة له عرفا.
وهذا الحديث يشتمل على أحكام بعضها يعرف عقلا
وبعضها شرعا فقوله صلى الله عليه وسلم:
"البينة على
المدعي" يدل على أنه لا يستحق بمجرد الدعوى وهذا معقول لأنه خبر متمثل بين
الصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة فدل على
أنه يستحق بالبينة وهذا شرعي وفي خبر الشهود
الاحتمال قائم ولا يزول بظهور العدالة لأن
العدل غير معصوم عن الكذب أو القصد إلى الكذب
فحصول البينات أو الاستحقاق بشهادتهم شرعي
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"اليمين على
المدعى عليه" ففيه دليل
على أن القول قوله وهذا معقول لأنه متمسك
بالأصل فالأصل براءة ذمته وانتفاء حق الغير
عما في يده وفيه دليل توجه اليمين عليه وهذا
شرعي وكان المعنى فيه والله أعلم أن المدعي
يزعم أنه صار متويا حقه بإنكاره فالشرع جعل له
حق استحلافه حتى إن كان الأمر كما زعم فاليمين
العمومي مهلكة للمدعى عليه
ج / 17 ص -28-
فيكون
أتوا بمقابلة اتواء وهو مشروع وإن كان بخلاف
ما زعم نال المدعى عليه الثواب بذكر اسم الله
تعالى على سبيل التعظيم صادقا ولا يتضرر به.
وفيه دليل على أن حبس البينات في جانب
المدعيين لإدخال الألف واللام في البينة فلا
تبقى بينة في جانب المدعى عليه لأن مطلق
التقسيم يقتضي انتقاء مشاركة كل واحد منهما عن
قسم صاحبه فيكون حجة لنا أن بينة ذي اليد على
إثبات الملك لنفسه غير مقبولة في معارضة بينة
الخارج ويدل على أن جنس الأيمان في جانب
المدعى عليه ولا يمين في جانب المدعي فيكون
دليلا لنا في أنه لا يرد اليمين على المدعي
عند نكول المدعى عليه وهكذا ذكره عن إبراهيم
رحمه الله في الكتاب فقال كان لا يرد يعني
عملا بالحديث كان لا يرد اليمين ويكون حجة لنا
في أنه لا يجوز القضاء بشاهد واحد مع يمين
المدعي إذ لا يمين في جانب المدعي ولأنه جعل
الفاصل للخصومة سببين بينة في جانب المدعي
ويمينا في جانب المدعى عليه والشاهد واليمين
ليست بينة ولا يمين المدعى عليه فكون إثبات
طريق ثالث وهو مخالف لهذا الحديث وقوله صلى
الله عليه وسلم المدعي عام لم يدخله خصوص
فالمدعي لا يستحق بنفس الدعوى ويستحق بالبينة
في الخصومات كلها وقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على المدعى عليه" عام دخله خصوص وهو ما لا يجري فيه الاستحلاف من الحدود وغيرها.
قال: وإذا كانت الدار في يدي رجل فادعى رجل
كلها أو طائفة منها فالبينة على المدعي
واليمين على من الدار في يديه ويحتاج هنا إلى
معرفة أشياء أحدها أن الدعوى نوعان صحيحة
وفاسدة فالصحيحة ما يتعلق بها أحكامها وهو
احتضار الخصم والمطالبة بالجواب واليمين إذا
أنكرو مثل هذه الدعوى يمكن إثباتها بالبينة
والدعوى الفاسدة ما لا يتعلق بها للأحكام التي
بيناها وفساد الدعوى بأحد معنيين إما أن لا
يكون ملزما لخصم شيئا وإنما ثبتت كمن ادعى على
غيره أنه وكيله أو أن يكون مجهولا في نفسه
فالمجهول لا يمكن إثباته بالبينة فإن القاضي
لا يتمكن من القضاء بالمجهول بينة المدعي ولا
بنكول المدعى عليه ثم الدعوى الصحيحة لا توجب
استحقاق المدعي للمدعى بنفسها فإن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على
المدعي واليمين على المدعى عليه"
وفي رواية: على من أنكر.
ولأن على القاضي تحسين الظن بكل واحد فلو
جعلنا نفس الدعوى موجبة استحقاق المدعي للمدعى
فيه إساءة الظن بالآخر وذلك لا يجوز ولكن على
المدعي البينة لإثبات استحقاقه بها فيطالبه
القاضي بذلك لا على وجه الإلزام عليه بل على
وجه التذكير له فلعله يغفل عن ذلك وفيه نظر
للآخر أيضا فإنه لو حلفه ثم أقام المدعي
البينة افتضح باليمين الكاذبة فلهذا بدأ بطلب
البينة من المدعي فإذا لم يكن له بينة فاليمين
على ذي اليد لأنه منكر واليمين على من أنكر
وهذه اليمين حق المدعي فإذا لم يكن له بينة
فاليمين على ذي اليد وهذه حق لا يستوفى إلا
بطلبه هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حديث الحضرمي والكندي
ج / 17 ص -29-
للمدعي
منهما ألك بينة فقال لا قال عليه الصلاة
والسلام لك يمين فقال يحلف ولا يبالي فقال
صلوات الله عليه ليس لك إلا هذا شاهداك أو
يمينه فذلك تنصيص على أن اليمين حق المدعي.
فإن قيل: كيف يستحقها بنفس الدعوى؟ قلنا كما
يستحق الإحضار والجواب وذلك ثابت بالنص قال
الله تعالى:
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية.
فقد ألحق الوعيد بمن امتنع من الحضور بعد ما
طولب به وذلك دليل أن الحضور مستحق عليه
والضرر عليه في الحضور والانقطاع عن أشغاله
فوق الضرر عليه في الجواب واليمين فإذا ثبت
ذلك بالنص ثبت هذا بطريق الأولى مع أن دعوى
المدعي وإنكار المدعى عليه خبران قد تعارضا
ولا يتمكن القاضي من تركهما على ذلك لما فيه
من امتداد الخصومة بينهما فلا بد من طلب رجحان
جانب الصدق في خبر أحدهما وذلك في بينة المدعي
أو يمين المدعى عليه وهذا يدل على أن هذه
اليمين حق للمدعى عليه لأن ما ترجح صدقه يكون
حقا له إلا أنه لما كان لا يستحق إلا بطلب
المدعي فذلك دليل على أنه حق المدعي ومعنى حقه
فيه أنه يوصله إلى حقه عند نكول المدعى عليه
ويرجح معنى الصدق في جانبه فلهذا يصير القاضي
إليه بمجرد طلب المدعي ويستوى فيما ذكرنا صنوف
الأملاك وأنواع المدعيين من حر أو عبد مسلم أو
ذمي مستأمن أو مرتد فالقاضي مأمور بالعدالة
والإنصاف في حق كل واحد.
وكذلك إذا ادعاه شراء من ذي اليد أو هبة أو
صدقة أو إجارة أو رهنا لأنه يدعي استحقاق ملك
العين أو المنفعة واليد على ذي اليد ببعض هذه
الأسباب فكان مدعيا ولا يتوصل إلى إثبات ما
ادعاه إلا بإثبات سببه فيصير السبب مقصودا
بالإثبات بالبينة لأن ما لا يتوصل إلى المطلوب
إلا به يكون مقصودا قال وأصل معرفة المدعي من
المدعى عليه أن ينظر إلى المنكر منهما فهو
المدعى عليه والآخر المدعي وهذا أهم ما يحتاج
إلى معرفته في هذا الكتاب وما ذكره في الكتاب
كلام صحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
المدعى عليه المنكر بقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر" ولكن تمام بيان الحد لا يحصل بها فقد يكون مدعيا صورة واليمين في
جانبه كالمودع يدعي رد الوديعة أو هلاكها وذو
اليد إذا قال العين لي فهو مدع صورة ولا يخرج
من أن يكون مدعيا عليه.
ولكن الفرق بينهما على ما قاله بعض أصحابنا
رحمهم الله أن المدعي من يستدعي على الغير
بقوله وإذا ترك الخصومة يترك والمدعى عليه من
يستدعي عليه بقول الغير وإذا ترك الخصومة لا
يترك وقيل المدعي من يشتمل كلامه على الإثبات
ولا يصير خصما بالتكلم بالنفي فإن الخارج لو
قال لذي اليد هذا الشيء ليس لك لا يكون خصما
مدعيا ما لم يقل هو لي والمدعى عليه من يشتمل
كلامه على النفي فيكتفي به منه فإن ذا اليد
إذا قال ليس هذا لك كان خصما بهذا القدر وقوله
هو لي فصل من الكلام غير محتاج إليه وقيل
ج / 17 ص -30-
المدعي
من لا يستحق إلا بحجة كالخارج والمدعى عليه من
يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد فإنه
إذا قال هو لي كان مستحقا له ما لم يثبت الغير
استحقاقه فأما المودع يدعي رد الوديعة أو
هلاكها فهو مقبول القول في ذلك لأن الخصم سلطه
على ذلك فيثبت بمجرد قوله فكان مدعى عليه أو
لأنه منكر الضمان في ذمته فكان مدعى عليه فعلى
الوجه الأول يحلف لنفي التهمة وعلى الوجه
الآخر يحلف لإنكاره الضمان.
ألا ترى أن الرد لا يثبت يمينه حتى لو ادعى
الرد على الوصي لا يكون الوصي ضامنا وإن كان
الذي في يديه ادعى أنه باعه من هذا الرجل أو
أجره فهو المدعي وعليه البينة لأنه يدعي سبب
نقل الملك في العين أو المنفعة إليه واستحقاقه
العوض عليه فيكون مدعيا محتاجا إلى إثبات صدقه
وعلى الآخر اليمين لإنكاره.
قال: وإن ادعى دينا على رجل بوجه من الوجوه
فأنكر الآخر فالبينة على المدعي بدعواه أمرا
عارضا وهو اشتغال ذمة الغير بحقه والمدعى عليه
هو المنكر لتمسكه بالأصل وهو براءة ذمته فإن
أقر بالدين وقال قد قبضته إياه كان هو المدعي
لأن القضاء يعترض الوجوب فهو الذي يدعي الآن
أمرا عارضا وكذلك إن ادعى الإبراء أو التأجيل
فهو المدعي لأن الإبراء مفرغ لذمته بعد
اشتغالها باتفاقهما والتأجيل يؤخر المطالبة
بعد تقرر السبب بوجه المطالبة باتفاقهما فهو
الذي يدعي أمرا عارضا فعليه البينة ويدعي
الآخر اليمين.
قال دار في يد رجلين كل واحد منهما يدعي أنها
له وكل واحد منهما يدعي لما في يد صاحبه لأن
في يد كل واحد منهما نصف الدار فكأن الدار
الواحدة بمنزلة دارين في يد كل واحد منهما أو
أحدهما وكل واحد منهما يدعيها فكان كل واحد
منهما مدعيا لما في يد صاحبه فعليه البينة
ومنكر الدعوى صاحبه فيما في يده فإن أقاما
البينة قضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد
صاحبه فرجحنا بينة الخارج على بينة ذي اليد في
دعوى الملك المطلق.
فلو لم يقم لهما بينة يحلف كل واحد منهما على
دعوى صاحبه وأيهما حلف بريء منهما وأيهما نكل
عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله قائم
مقام إقراره لما ادعاه صاحبه فقد أسلمت هذه
البينة على فصلين أحدهما أن بينة الخارج وبينة
ذي اليد إذا تعارضتا على الملك المطلق فبينة
الخارج أولى بالقبول عندنا وفي أحد قولي
الشافعي تتهاثر البينتان ويكون المدعي لذي
اليد كان في يده لإقضائه له وفي القول الآخر
ترجح بينة ذي اليد فيقضي به لذي اليد فقضاء
ملك بالبينة وطريقه على القول الأول أن بينة
الخارج حجة يجوز دفعها بالطعن فيها فيجوز
دفعها بالمعارضة كالأدلة الشرعية فإذا تحقق
التعارض فالقاضي تيقن بكذب أحدهما لأن العين
الواحدة في وقت واحد لا تكون كلها ملكا لكل
واحد منهما فبطلت البينتان وبقي اليمين في يد
ذي اليد بحكم يده وطريقه على القول الآخر أن
ذا اليد له نوعان من الحجة اليد والبينة
وللخارج نوع واحد وذو الحجتين يترجح على ذي
حجة واحدة كما في دعوى النكاح وما في معناه
وكما لو ادعيا تلقى الملك من واحد وأحدهما
ج / 17 ص -31-
قابض
فأقاما البينة وهذا لأن بينة ذي اليد وجب
قبولها الآن لصيرورته محتاجا إلى إقامتها
بإقامة الخارج البينة
ولنا في المسألة طريقان: أحدهما أن بينة ذي اليد تقوم على ما شهد له الظاهر به فلا تكون
حجة كبينة المدين على أن لا دين عليه ألا ترى
أنه لو أقامها قبل إقامة الخارج البينة لم
تقبل وهو محتاج إليها في إسقاط اليمين عن نفسه
والبينة تقبل لهذه الحاجة كما لو أقام المودع
البينة على رد الوديعة أو هلاكها فكذلك بعد
إقامة الخارج البينة وهذا لأن شهود ذي اليد
يشهدون له باعتبار يده القائمة ولا طريق
لمعرفة الملك إلا اليد وبينة الخارج لا تندفع
بيد ذي اليد وإن كان القاضي يعاينها فكذلك لا
تندفع ببينة تعتمد تلك اليد بخلاف النتاج فإن
باعتبار اليد لا يجوز لهم الشهادة على النتاج
وإنما اعتمدوا سببا آخر ذلك غير ظاهر عند
القاضي فلا بد من قبول البينة عليه وبخلاف
بينة مجهول الحال على حريته لأن الشهود لا
يجوز لهم أن يشهدوا بحريته بسبب الدار فإنما
اعتمدوا شيئا آخر ذلك غير ظاهر عند القاضي
وكذلك شهود الشراء لذي اليد الذي اعتمدوا سببا
ذلك غير ظاهر أيضا عند القاضي فوجب قبول بينته
ثم يترجح بيده.
والطريق الآخر أن البينات تترجح بزيادة
الإثبات والإثبات في بينة الخارج أكثر لأنه
يثبت الملك على خصم هو مالك وبينة ذي اليد لا
يثبت الملك على خصم هو مالك لأن بمجرد إقامة
الخارج البينة لم تثبت الاستحقاق له قبل
القضاء فلا يصير هو مقضيا عليه لو قضي ببينة
ذي اليد وإذا قضى ببينة الخارج صار ذو اليد
مقضيا عليه فلزيادة الإثبات رجحنا بينة الخارج
بخلاف دعوى الخارج فإن كل واحد من البينتين
هناك يثبت أولية المالك لصاحبه وذلك لا يكون
استحقاقا على غيره ولهذا لا يصير ذو اليد
مقضيا عليه إذا أقام البينة على النتاج حتى لو
أقام ذو اليد البينة على النتاج بعد قضاء
القاضي للخارج وجب قبول بينته فلما استويا في
الإثبات رجحنا بينة ذي اليد.
وكذلك إذا دعيا تلقى الملك من واحد فقد استوت
البينات في الإثبات لأن استحقاق كل واحد منهما
على البائع فرجحنا بينة ذي اليد لتأكيد شرائه
بالقبض وهذا بخلاف الأدلة الشرعية فإنها حجة
في النفي والإثبات فيتحقق التعارض وهنا
البينتان للإثبات لا للنفي وحاجة ذي اليد إلى
استحقاق الخارج فلم يتحقق التعارض
والفصل الثاني أن يكون المدعى عليه عن اليمين
موجب للقضاء عليه بالمال عندنا ولكن ينبغي
للقاضي أن يعرض عليه اليمين ثلاث مرات ويخبره
في كل مرة أن من رأيه القضاء بالنكول إيلاء
لعذره فإن لم يحلف قضي عليه وعند الشافعي رحمه
الله يرد اليمين على المدعي فإن حلف أخذ المال
وإن أبى انقطعت المنازعة بينهما وحجته في منع
القضاء بالنكول أنه سكوت في نفسه فلا يكون حجة
للقضاء عليه كسكوته عن الجواب في الابتداء
وهذا لأنه محتمل قد يكون للتورع عن اليمين
الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة
كما فعله عثمان رضي الله عنه وقال خشيت أن
يوافق قدر يميني فيقال أصيب بيمينه
ج / 17 ص -32-
والمحتمل لا يكون حجة وحجته في رد اليمين على
المدعي على ما روي أن عثمان رضي الله عنه ادعى
مالا على المقداد بن الأسود الكندي رضي الله
عنه بين يدي عمر رضي الله عنه الحديث إلى أن
قال المقداد رضي الله عنه ليحلف عثمان رضي
الله عنه ليحلف عثمان رضي الله عنه ويأخذ حقه
فقال عمر رضي الله عنه لقد أنصف المقداد وعن
علي رضي الله عنه أنه حلف المدعي بعد نكول
المدعى عليه والمعنى فيه أن اليمين في جانب
المدعى عليه في الابتداء لكون الظاهر شاهد له
وبنكوله صار الظاهر شاهدا للمدعي فيعود اليمين
إلى جانبه ولهذا بدأنا في اللعان بأيمان
الخروج لشهادة الظاهر له فإنه لا يلوث فراشه
كاذبا وبدأت أنا في القيامة بيمين الولي
للشهادة الظاهرة فإن المسألة فيما إذا كانت
العداوة ظاهرة بين القيل وأهل المحلة وكان
العهد قريبا بدخولهم في محلتهم إلى أن وجد
قتيلا ولنا في المسألة حديث عمر رضي الله عنه
فإنه قضى على الزوج بالطلاق في قوله حملك على
غاربك عند نكوله عن اليمين على إرادة الطلاق .
وقضى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لصحة
الرجعة عند نكولها عن اليمين على أنها كانت
بعد حل الصلاة لها وقال بن مليكة رضي الله عنه
كنت قاضيا بالبصرة فاختصم إلي امرأتان في سوار
فطلبت البينة من المدعية فلم أجد وعرضت اليمين
على الأخرى فنكلت فكتبت إلى أبي موسى رضي الله
عنه فورد كتابه أن أحضرهما واتل عليهما قوله
تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَناً قَلِيلاً }
[آل عمران: 77] ثم أعرض اليمين على المدعية
عليها فإن نكلت فاقض عليها وقضى شريح رحمه
الله بالنكول بين يدي علي رضي الله عنه فقال
له قالون وهي باللغة العربية أصبت وما روي عن
علي رضي الله عنه أنه حلف المدعي فبناء على
مذهبه لأنه كان يحلف مع تمام حجة القضاء
بالبينة ولسنا نأخذ بذلك.
وتأويل حديث المقداد رضي الله عنه أنه ادعى
الإيفاء على عثمان رضي الله عنه وبه نقول ومن
حيث المعنى إما طريقان أحدهما أن حق المدعي
قبل المدعى عليه هو الجواب وهو جواب يوصله إلى
حقه وهو الإقرار فإذا فوت عليه ذلك بإنكاره
حوله الشرع إلى اليمين خلفا عن أصل حقه فإذا
منعه الحلف يعود إليه أصل حقه لأنه لا يتمكن
من منع الحلف شرعا إلا بإيفاء ما هو أصل الحق
وهذا الطريق على قولهما وأنهما يجعلان النكول
بمنزلة الإقرار والطريق الآخر أن الدعوة لما
صحت من المدعي يخير المدعى عليه بين بدل المال
وبين اليمين فإذا امتنع منهما وأحدهما تجري
فيه النيابة دون الآخر ناب القاضي منابه فيما
تجري فيه النيابة وهذا لأن تمكنه من المنازعة
شرعا بشرط أن يحلف فإذا أبى ذلك صار تاركا
للمنازعة بتفويت شرطها فكأنه قال لا أنازعك في
هذا المال فيتمكن المدعي من أخذه لأنه يدعيه
ولا منازع له فيه.
وهذا الطريق على أصل أبي حنيفة رحمه الله حيث
جعل النكول بدلا ولا عبرة للاحتمال في النكول
لأن الشرع ألزمه التورع عن اليمين الكاذبة دون
الترفع عن الصادقة
ج / 17 ص -33-
فيترجح
هذا الجانب في نكوله ولأنه لا يتمكن من الترفع
عن اليمين إلا ببدل المال فإنه إنما يرتفع
ملتزما الضرر على نفسه لا ملحقا الضرر بالغير
يمنع الحق والذي قال من شهادة الظاهر للمدعي
عند نكول المدعى عليه لا يكون ذلك إلا بترجح
جانب الصدق في دعوى المدعي وذلك موجب للقضاء
ثم اليمين مشروعة للنفي لا للإثبات وحاجة
المدعي إلى الإثبات فلا تكون اليمين حجة له
هذا معنى تعليل محمد رحمه الله لا أحول اليمين
عن موضعه وهذا لأنها في النفي لا توجب النفي
حتى تقبل بينة المدعي بعد يمين المدعى عليه
ففي غير موضعه وهو الإثبات أولى أن لا يوجب
الإثبات والشهادات للإثبات ثم لا يستحق المدعي
بشهادته لنفسه شيئا بحال فلان لا يستحق يمينه
لنفسه وهو في غير موضع الإثبات كان أولى.
وإذا تنازع رجلان في دار كل واحد منهما يدعي
أنها في يده فعلى كل واحد منهما البينة لأن
دعوى اليد مقصودة كما أن دعوى الملك مقصودة
لأن باليد يتوصل إلى الانتفاع بالملك والتصرف
فيه فإن أقام كل واحد منهما البينة أنها في
يديه جعل يد كل واحد منهما نصفها لتعارض
البينتين وتساويهما فالمساواة في سبب
الاستحقاق توجب المساواة في الاستحقاق فإن كان
المدعي قابلا للاشتراك يقضي لكل واحد منها
بالنصف لمعنى الضيق والمزاحمة في المحل قال
فإذا أقام أحدهما البينة أنها له قضيت بها له
لأنه استحق بالبينة الملك فيما في يد صاحبه
ولم يعامله صحابه بمثله ولا منافاة بين القضاء
باليد لصاحبه والملك له بالبينة.
وقد كان أصحابنا رحمهم الله يقولون إذا قال
المدعي هذا الشيء ملكي وفي يدي لم يسمع القاضي
دعواه وقال له إذا كان ملك في يدك فماذا تطلب
مني فتأويل تلك المسألة أن الخصم لا يدعي إليه
لنفسه وهنا الخصم يدعي اليد لنفسه فلهذا قبل
دعوى اليد لنفسه وقضى له بها عند إقامة البينة
.
وذكر الخصاف رحمه الله أن من ادعى دارا في يد
غيره وأنها له وأقام البينة فما لم يشهد
الشهود أنها في يد المدعى عليه تقبل بينته
لجواز أن يكون تواضعا في محدود في يد ثالث على
أن يدعيه أحدهما ويقر الآخر بأنه في يده ليقيم
البينة عليه بذلك وهو في يد غيرهما ولكن تأويل
تلك المسألة أن الخصم الآخر لم يثبت يده
بالبينة وهنا قد أثبت كل واحد منهما يد البينة
فلهذا قبلنا بينة أحدهما على صاحبه بإثبات
الملك له وإن لم يقم لهما بينة على اليد وطلب
كل واحد منهما يمين صاحب ما هي في يده فعلى كل
واحد منهما أن يحلف البينة ما هي في يد صاحبه
لأنه لو أقر لصاحبه بما ادعى لزمه حقه فإذا
أنكر حلف عليه وإن لم يجعلها القاضي في يد
واحد منهما لأن حجة القضاء باليد لم تقم لواحد
منهما ولكن يمنعهما من المنازعة والخصومة من
غير حجة فأيهما نكل عن اليمين لم يجعلها في
يده لأن صاحبه قد حلف ولم يجعلها في يد الذي
حلف بنكول هذا الناكل أيضا لجواز أن تكون في
يد ثالث وأنهما تواضعا للتلبيس على القاضي
وذلك يمنع الناكل عن منازعة الآخر لأن
ج / 17 ص -34-
نكوله
حجة عليه فإن وجدها في يد آخر لم ينزعها من
يده الذي أنفذه بين هذين لأن نكولهما ليس بحجة
على غيرهما والقضاء بحسب الحجة .
قال عبد في يدي رجلين ادعاه آخر وأقام البينة
أنه كان في يده أمس لم يقبل ذلك منه لأنهم
شهدوا بعد عرف القاضي زوالهما ولم يثبت سبب
الزوال ومثل هذه الشهادة لا تكون مقبولة لأن
الشهادة على ما كان في الزمان الماضي إنما
تقبل بطريق أن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه
واستصحاب الحال إنما يجوز بقاؤه والعمل به
فيما لم يتيقن بزواله وروى أصحاب الإملاء عن
أبي يوسف رحمه الله أن الشهادة تقبل بناء على
أصله أنهم لو شهدوا أنه كان في ملكه أمس عنده
تقبل ولكن هذا القياس غير صحيح فإن الملك غير
معاين ولا يتيقن القاضي بزوال ما شهدوا به في
الحال فكان لاستصحاب الحال طريقان بخلاف اليد
فإنه معاين قد علم القاضي انفساخ يده باليد
الظاهر للغير فلا طريق لاستصحاب الحال فيه.
ولو أقر ذو اليد أنه كان في يد المدعي أمس أمر
بالرد عليه لأن الإقرار ملزم بنفسه قبل اتصال
القضاء به فيظهر بإقراره يد المدعي أمس فيؤمر
بالرد عليه ما لم يثبت حقا لنفسه فأما الشهادة
لا توجب الحق إلا باتصال القضاء بها ويتعذر
على القاضي القضاء بشيء يعلم والحال خلافه
وكذلك لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنه كان في
يد المدعي أمس أمر بالرد عليه لأن الثابت من
إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أقام
المدعي البينة أن هذا العبد أخذه منه هذا أو
انتزعه منه أو غصبه منه أو غلبه عليه فأخذه
منه أو أرسله في حاجته فاعترضه هذا في الطريق
أو أبق مني هذا فأخذه هذا الرجل فهذه الشهادة
جائزة ويقضي بالعبد له لأنهم أثبتوا سبب زوال
يده فصار ذلك كالمعاين للقاضي وأثبتوا أن
وصوله إلى يد ذي اليد كان بأخذ المدعى عليه
منه فعليه رده لقوله صلى الله عليه وسلم
"على اليد ما أخذت" حتى ترد
واحدة من غير حق ظاهر له في المأخوذ عدوان
والفعل الذي هو عدوان واجب الفسخ شرعا وذلك
بالرد .
قال ولو ادعى عينا في يد رجل أنه له وقال الذي
هو في يديه أودعنيه فلان أو أعارنيه أو وكلني
بحفظه لم يخرج من خصومة المدعي إلا أن يقيم
البينة على ما قال عندنا وقال بن أبي ليلى
رحمه الله يخرج من خصومته بمجرد قوله من غير
بينة وقال بن شبرمة لا يخرج من خصومته وإن
أقام البينة على ما قال أما بن أبي ليلى رحمه
الله فإن كلام ذي اليد إقرار منه بالملك
للغائب والإقرار يوجب الحق بنفسه لقوله تعالى:
{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] ولأنه لا تهمة فيما يقر به على نفسه فيثبت ما أقر به
بنفس الإقرار ويتبين أن يده يد حفظ لا يد
خصومة والدليل على صحة هذه القاعدة أن من أقر
بعين لغائب ثم أقر به لحاضر فرجع الغائب وصدقه
يؤمر بالتسليم إليه وكذلك لو أقر لغيره بشيء
ثم مرض فصدقه المقر له كان إقراره إقرار صحة .
وأما بن شبرمة رحمه الله فقال إنه بهذه البينة
يثبت الملك للغائب وهو ليس بخصم في إثبات
الملك لغيره لأنه لا ولاية لأحد على غيره في
إدخال شيء في ملكه بغير رضاه ثم
ج / 17 ص -35-
خروجه
عن الخصومة في ضمن إثبات الملك لغيره فإذا لم
يثبت ما هو الأصل لا يثبت ما في ضمنه كالوصية
بالمحاباة إذا ثبت في ضمن البيع فيبطلان البيع
بطلب الوصية ولنا أن هذه البينة تثبت أمرين
أحدهما الملك للغائب والحاضر ليس بخصم فيه
والثاني دفع خصومة المدعى عنه وهو خصم في ذلك
فكانت مقبولة فيما وجدت فيكون خصما فيه كمن
وكل وكيلا بنقل امرأته أو أمته وقامت البينة
أن الزوج طلقها ثلاثا وأن المولى أعتقها تقبل
هذه البينة في أقصر يد الوكيل عنها ولا تقبل
في وقوع الطلاق والعتاق ما لم يحضر الغائب
وهذا لأن مقصود ذي اليد ليس هو إثبات الملك
للغائب إنما مقصوده إثباته أن يده يد حفظ
وليست بيد خصومة وفي هذا المدعي خصم له فيجعل
إثباته عليه بالبينة بمنزلة إقرار خصمه به
وهذا بخلاف ما إذا ادعى غصبا على ذي اليد حيث
لا تندفع الخصومة عنه بهذه البينة لأن هناك
إنما صار خصما بدعوى الفعل عليه دون اليد فأما
في الملك المطلق إنما صار خصما بيده.
ألا ترى أن دعوى الغصب مسموعة على غير ذي اليد
ودعوى الملك غير مسموعة فإذا أثبت أن يده غيره
التحق في الحكم بما ليس في يده فلهذا قلنا أن
بمجرد قوله قبل إقامة البينة لا تندفع الخصومة
عنه لأن المدعي استحق عليه الجواب فصار هو
خصما له بظهور الشيء في يده فلا يملك إسقاطه
بمجرد قوله وهو لا يثبت إقراره بالبينة كما
زعم هو إنما يثبت عليه إسقاط حق مستحق عليه عن
نفسه وهو جواب الخصم .
وعن أبي يوسف رحمه الله إن كان ذو اليد رجلا
معروفا بالحيل لم تندفع الخصومة عنه بإقامة
البينة وإن كان صالحا تندفع الخصومة عنه رجع
إلى هذا حين ابتلى بالقضاء وعرف أحوال الناس
فقال قد يحتال المحتال ويدفع ماله إلى من يريد
شراء ويأمر من يودعه علانية حتى إذا ادعاه
إنسان يقيم البينة على أنه مودع ليدفع الخصومة
عن نفسه ومقصوده من ذلك الإضرار بالمدعي
ليتعذر عليه إثبات حقه بالبينة فلا تندفع
الخصومة عنه إذا كان متهما بمثل هذه الحيلة
فإن شهد شهود ذي اليد أنه أودعه رجل لا يعرفه
لم تندفع الخصومة عنه فلعل ذلك الرجل هو الذي
حضر ينازعه وليس في هذه الشهادة ما يوجب دفع
الخصومة.
والثاني أن الخصومة إنما تندفع عن ذي اليد إذا
حوله إلى غيره بالبينة والتحويل إنما يتحقق
إذا أحاله على رجل يمكنه اتباعه ليخاصمه فإذا
أحاله إلى مجهول ولا يمكنه اتباع المجهول كان
ذلك باطلا لا يجوز وإن قال الشهود أودعه رجل
نعرفه بوجهه إذا رأيناه ولا نعرفه باسمه ونسبه
فعلى قول محمد رحمه الله لا تندفع الخصومة عنه
وعند أبي حنيفة رحمه الله تندفع الخصومة عنه
ذكره في الجامع وجه قول محمد رحمه الله أنه
أحاله على مجهول لا يمكنه اتباعه ليخاصمه فكان
هذا بمنزلة قولهم أودعه رجل لا نعرفه وهذا لأن
المعرفة بالوجه لا تكون معرفة على ما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل
"أتعرف فلانا" فقال نعم قال صلى الله عليه
وسلم "هل يعرف اسمه" قال لا قال صلوات الله
عليه" إذا لا تعرفه"
ج / 17 ص -36-
ومن
حلف لا يعرف فلانا وهو يعرف وجهه دون اسمه
ونسبه لا يحنث وأبو حنيفة رحمه الله قال قد
أثبت ببينته أنه ليس بخصم للمدعي فإنا نعلم أن
مودعه ليس هو المدعي لأن الشهود يعرفون المودع
بوجهه ويعلمون أنه غير هذا المدعي ومقصود ذي
اليد إثبات أن يده يد حفظ وأنه ليس بخصم لهذا
الحاضر وهذه البينة كافية في هذا المقصود ثم
أن تضرر المدعي بأن لم يقدر على اتباع خصمه
فذلك الضرر يلحقه من قبل أنه جهل خصمه لا من
جهة ذي اليد ونحن نسلم أن المعرفة بالوجه لا
تكون معرفة تامة فإن الغائب لا يمكن استحضاره
به ولكن ليس على ذي اليد تعريف خصم المدعي له
وإنما عليه أن يثبت أنه ليس بخصم له وهذا كله
بناء على أصلنا أن القضاء على الغائب بالبينة
لا يجوز فلا بد من خصم حاضر للمدعي ليقيم عليه
البينة
فأما عند الشافعي رحمه الله القضاء على الغائب
بالبينة جائز ويستوي في ذلك إن كان غائبا عن
البلدة أو عن مجلس الحكم حاضرا في البلدة وهو
الصحيح من قوله وإنما يحضره القاضي لرجاء
إقراره حتى يقصر به المسافة عليه ولا يحتاج
المدعي إلى تكلف البينة واحتج بقوله صلى الله
عليه وسلم:
"البينة على المدعي"
فاشتراط حضور الخصم لإقامة البينة تكون زيادة
ولما قالت هند لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني
وولدي فقال صلوات الله عليه وسلامه "خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف من مال أبي سفيان" فقد
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفقة وهو
غائب ولأن هذه بينة عادلة مسموعة فيجب القضاء
بها كما لو كان الخصم حاضرا وبيان الوصف أن
عندكم تسمع هذه البينة للكتاب بها وتأثيره أن
بغيبة الخصم ما فات إلا إنكاره وإنكاره غير
مؤثر في إيصال المدعي إلى حقه ولأن الأصل هو
الإنكار فيجب التمسك به وإذا ثبت إنكاره بهذا
الطريق قبلت البينة عليه ولو كان مقرى كان
القضاء متوجها عليه لإجماعنا أن القضاء على
الغائب بالإقرار جائز فعليه نقيس فعله أنه
إحدى حجتي القضاء
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله
عنه :"لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر فإنك إذا سمعت كلام الآخر
علمت كيف تقضي"
فبين أن الجهالة تمنعه من القضاء وأنها لا
ترتفع إلا بسماع كلامهما فأما قوله صلى الله
عليه وسلم البينة على المدعي فدليلنا أن
البينة اسم لما يحصل به البيان وليس المراد في
حق المدعي لأنه حاصل بقوله ولا في حق القاضي
لأنه حاصل بقول المدعي إذا لم يكن له منازع
إنما الحاجة إلى البيان في حق الخصم الجاحد
وذلك لا يكون إلا بحضوره ألا ترى أنه جعل
البينة على المدعي في حال لو ادعى عدمها
استحلف الخصم فقال "واليمين على من أنكر" وذلك
لا يكون إلا بمحضر منه وهذا لأن البينة اسم
للحجة ولا تكون حجة عليه ما لم يظهر عجزه عن
الدفع والطعن والقرآن صار حجة على الناس حين
ظهر عجزهم عن المعارضة وظهور عجزه لا يكون إلا
بمحضر منه ولا حجة في حديث هند لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان عالما بسبب استحقاق
النفقة على أبي سفيان وهو النكاح الظاهر
ج / 17 ص -37-
ألا
ترى أنها لم تقم البينة والمعنى فيه أنه أحد
المتداعين فيشترط حضوره للقضاء بالبينة
كالمدعي بل أولى فإن المدعي ينتفع بالقضاء
والمدعى عليه يتضرر به وتأثيره أن دعوى المدعي
وإن كان الخصم شرط للعمل بالبينة حتى لا يسمع
البينة على المقر ولا يقضي بها إذا اعترض
الإقرار قبل القضاء بها وبغيبة المدعي يفوت
أحد الشرطين وهو الدعوى وبغيبة المدعى عليه
يفوت الشرط الآخر وهو الإنكار وفوات شرط الشيء
كفوات ركنه في امتناع العمل به وإنكاره إن كان
ثابتا بطريق الظاهر .
فالشرط بطريق الظاهر لا يثبت عندنا ما لم
يتيقن به ولهذا إذا قال لعبده إن لم أدخل
الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم فقال قد دخلت
وقال العبد لم تدخل لم يعتق وإن كان عدم
الدخول ثابتا بطريق الظاهر وعلى هذا قال أبو
يوسف رحمه الله لو حضر وأنكر فأقيم عليه
البينة ثم غاب يقضي عليه لأن إنكاره سمع نصا
وقال محمد رحمه الله لا يقضي عليه لأن إصراره
على الإنكار إلى وقت القضاء شرط وذلك ثابت بعد
غيبته باستصحاب الحال لا بالنص وقوله أنها
مسموعة عندنا غير مسموعة للقضاء حتى أن الخصم
وإن حضر لا يجوز القضاء بها إنما هي مسموعة
لنقلها إلى قاضي تلك البلدة بالكتاب بمنزلة
شهادة الأصول عند الفروع مسموعة لنقل شهادتهم
لا للقضاء بها واعتبار البينة بالإقرار فاسد
لأن الإقرار موجب للحق بنفسه دون القضاء بخلاف
البينة
ألا ترى أن الإقرار للغائب صحيح بخلاف البينة
وهذا لأنه ليس للمقر حق الطعن في إقرار نفسه
فليس في القضاء عليه مع غيبته بالإقرار تفويت
حق الطعن عليه بخلاف البينة قال دار في يد رجل
ادعاها رجل أنها له آجرها من ذي اليد وادعى
آخر أنها له أودعها إياه وأقام البينة قضي بها
بينهما نصفين لأن كل واحد منهما أثبت ببينته
أن وصولها إلى يد ذي اليد من جهته فتتحقق
المساواة بينهما في سبب الاستحقاق وذلك يوجب
المساواة في الاستحقاق عندنا على ما نبينه في
الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
قال وإذا كان العبد في يد رجل ادعى أنه غصبه
إياه أو أقام البينة وادعى آخر أنه له وديعة
في يد ذي اليد قضى به لصاحب الغصب لأن بينته
طاعنة في البينة الأخرى فإنه يثبت بها أن يد
ذي اليد كانت غصبا من جهته وذلك يتقي كونه
وديعة للآخر فلهذا رجحنا بينة الغصب وقضينا به
لصاحبها والله أعلم.
باب الدعوى في الميراث
قال رحمه
الله عبد في يد رجل فأقام رجل البينة أن أباه
مات وتركه ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره
وأقام آخر البينة أن أباه مات وتركه ميراثا له
لا يعلمون له وارثا غيره فإنه يقضي بالعبد
بينهما نصفان لأن كل واحد من الوارثين خصم عن
مورثه فكأن المورثين حيان وأقام البينة على
ملك مطلق لهما في يد ثالث وفي هذا يقضي بالملك
بينهما نصفان عندنا وعلى قول مالك رحمه الله
يقضي بأعدل البينتين وعند الأوزاعي رحمه الله
يقضي
ج / 17 ص -38-
لأكثرهما عددا في الشهود وفي أحد قولي الشافعي
رحمه الله تتهاتر البينتان وفي القول الآخر
يقرع بينهما ويقضي لمن خرجت قرعته فمالك يقول
الشهادة إنما تصير حجة بالعدالة فالأعدل في
كونه حجة أقوى والضعيف لا يزاحم القوي
والأوزاعي رحمه الله يقول طمأنينة القلب إلى
قول الجماعة أكثر منه إلى قول المثني فيترجح
أكثرهما شهودا بزيادة طمأنينة القلب في قولهم.
والشافعي على القول الذي يقول بالتهاتر يقول
قد تيقن القاضي بكذب أحد الفريقين ولا يعرف
الصادق من الكاذب فيمتنع العمل بهما كما لو
شهد شاهدان أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة
آخران أنه أعتق عبده بالكوفة في ذلك اليوم
وهذا لأن تهمة الكذب تمنع العمل بالشهادة
فالتيقن بالكذب أولى واستدل بملك النكاح فإنه
لو تنازع اثنان في امرأة وأقام كل واحد منهما
البينة أنها امرأته لم يقض القاضي بواحدة
منهما.
وعلى القول الذي يقول بالقرعة استدل بحديث
سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رجلين تنازعا
في أمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأقام كل واحد منهما البينة أنها أمته فأقرع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: "اللهم أنت تقضي بين عبادك بالحق"
ثم قضى بها لمن خرجت قرعته.
وروي أن رجلين تنازعا في بغلة بين يدي علي رضي
الله عنه فأقام أحدهما شاهدين والآخر خمسة من
الشهود فقال علي رضي الله عنه لأصحابه ماذا
ترون فقالوا يعطى لأكثرهما شهودا فقال فلعل
الشاهدين خير من خمسة ثم قال في هذا قضاء وصلح
أما الصلح أن يجعل البغلة بينهما سهاما على
عدد شهودهما وأما القضاء أن يحلف أحدهما ويأخذ
البغلة فإن تشاحا علي الحلف أقرعت بينهما
وقضيت بها لمن خرجت قرعته ولأن استعمال القرعة
لتعيين المستحق أصل في الشرع كما في قسمة
المال المشترك ولنا حديث تميم بن طرفة رضي
الله عنه أن رجلين تنازعا في عين بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأقام البينة فقضى به
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلين اختصما
في شيء بين يديه وأقام البينة فقال ما أحوجكما
إلى سلسلة كسلسلة بني إسرائيل كان داود عليه
السلام إذا جلس لفصل الخصومات نزلت سلسلة من
السماء فأخذت بعنق الظالم ثم قضى بينهما نصفين
وما روي من استعمال القرعة فقد كان في وقت كان
القمار مباحا ثم انتسخ ذلك بحرمة القمار لأن
تعيين المستحق بمنزلة الاستحقاق ابتداء فكما
أن تعليق الاستحقاق بخروج القرعة يكون قمارا
فكذلك تعيين المستحق بخلاف قسمة المال المشترك
فللقاضي هنا ولاية التعيين من غير قرعة وإنما
يقرع تطييبا لقلوبهما ونفيا لتهمة الميل عن
نفسه فلا يكون ذلك في معنى القمار .
وحديث علي رضي الله عنه يعارضه ما روي عن عمر
وعلي رضي الله عنهما في رجلين تنازعا في ولد
أنهما قضيا بأنه ابنيهما ولم يستعملا القرعة
فيه وقد كان علي رضي الله عنه استعمل القرعة
في مثل هذه الحادثة واليمين في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فدل أنه عرف انتساخ
ج / 17 ص -39-
ذلك
الحكم بحرمة القمار والمعنى فيه أنهما استويا
في سبب الاستحقاق والمدعي قابل للاشتراك
فيستويان في الاستحقاق كالغريمين في التركة
إذا كانت التركة بقدر حق أحدهما والموصي لهما
كل واحد منهما بالثلث يقتسمان الثلث بينهما
نصفين وبيان الوصف أن المدعي يقبل الاشتراك
وهو ملك العين بخلاف ملك النكاح فإنه لا يحتمل
الاشتراك وهذا لأن البينات حجج فيجب العمل بها
بحسب الإمكان وكيف يترك في يد ذي اليد وقد
اتفق الفريقان على استحقاق الملك عليه .
وقوله القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين ضعيف فكل
واحد منهما اعتمد سببا أطلق به أداء الشهادة
وهو معاينة اليد لمن شهد له وبه فارق مسألة
مكة والكوفة فقد علمنا هناك أن أحدهما كاذب
بيقين لأن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون
بمكة والكوفة وقد تتوالى يدان لشخصين على عين
واحدة في وقتين فلهذا أوجبنا القضاء هنا بحسب
الإمكان وكذلك لو وقت شهود أحدهما سنة ولم
يوقت شهود الآخر فقضى به بينهما نصفين لأن
تنصيص أحدهما على التوقيت لا يدل على سبق ملكه
على الآخر فلعل ملك الآخر أسبق منه وإن لم
نؤقت شهوده وذكر المسألة في النوادر في دعوى
الملك من خارجين إذا وقت شهود أحدهما ولم يوقت
شهود الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله يقضي به
بينهما نصفين وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي به
للذي وقت شهوده وعند محمد رحمه الله يقضي به
للذي لم يوقت شهوده.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ما بينا أن
التاريخ ليس بسبب للملك وتنصيص أحدهما عليه لا
يبقى مساواة الآخر أو سفه عليه فكان ذكره
وجودا وعدما بمنزلة وأبو يوسف يقول قيام
المنازعة بينهما في الملك للحال والذي وقت
شهوده ثبت الملك له من حين أرخ شهوده ولا
منازعة له في ذلك الوقت فلا يستحق عليه الملك
بعد ذلك إلا بسبب من جهته كما لو أقام البينة
على النتاج ومحمد رحمه الله يقول البينة على
الملك المطلق تثبت الاستحقاق من الأصل ولهذا
تستحق به الزوائد ويرجع الباعة بعضهم على
البعض بالثمن فكان التاريخ الذي لم يوقت شهوده
أسبق من هذا الوجه ولكن يبطل هذا بفصلين
أحدهما إذا أقام أحدهما البينة على النتاج
والآخر على الملك المطلق فصاحب النتاج أولى
فلو كانت البينة على الملك المطلق تثبت
الاستحقاق من الأصل لاستويا والثاني إذا ادعى
عبد على مولاه أنه مملوكه أعتقه وادعى رجل أنه
ملكه وأقام البينة فبينة العتق أولى.
ولو كان الاستحقاق يثبت لمدعي الملك المطلق من
الأصل لصار هو أولى من مدعي العتق وإن وقتت
بينة أحدهما سنة وبينة الآخر سنتين قضي بالعبد
لصاحب السنتين في قول أبي يوسف الآخر وهو قول
محمد رحمه الله وفي قوله الأول العبد بينهما
نصفان والوقت وغير الوقت في ذلك سواء هكذا ذكر
في نسخ أبي حفص رحمه الله.
وقال في نسخ أبي سليمان رحمه الله على وقت أبي
حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله يقضي به
لصاحب
ج / 17 ص -40-
السنتين وعلى قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد
رحمهما الله يقضي به بينهما نصفين فاشتبه مذهب
محمد رحمه الله لاختلاف النسخ.
وجه قول أبي يوسف الآخر أن صاحب التاريخ
السابق أثبت الملك لنفسه في وقت لا منازع له
فيه فيثبت ملكه في ذلك الوقت ثم لا يستحق عليه
الملك إلا لسبب من جهته والآخر لا يدعي الملك
بسبب من جهته وهو نظير ما لو ادعى الملك
بالشراء كل واحد منهما من رجل أو من واحد
وأرخا وأحدهما أسبق تاريخا كان صاحب أسبق
التاريخين أولى فهذا مثله.
وجه قوله الأول أن التاريخ ليس بسبب للملك
فوجود ذكره كعدمه ثم كل واحد منهما ينتصب خصما
عن مورثه في إثبات الملك له ولا تاريخ في ملك
المورثين فيقضي به بينهما نصفين حتى لو أرخا
ملك المورثين وتاريخ أحدهما أسبق كان هو أولى
هكذا ذكر هشام في نوادره عن محمد رحمهما الله
فأما مسألة الشراء فقد ذكر في الإملاء عن محمد
رحمه الله أنهما إذا لم يؤرخوا ملك البائعين
يقضي به بينهما نصفين فعلى هذه الرواية لا فرق
بين الفصلين فأما على ظاهر الرواية الفرق
بينهما أن ملك المشتري لا ينبني على ملك
البائع ولكن يحدث للمشتري ملك جديد بسبب جديد
وهو الشراء فاسبقهما تاريخا أثبت ملكا متجددا
لنفسه في وقت لا ينازعه فيه غيره فكان هو أولى
فأما ملك الوارثين ينبني على ملك المورثين لأن
الوراثة خلافة ولا تاريخ في ملك المورثين
فاستويا لهذا .
قال وإن أقام رجل البينة أن أباه مات وتركه
ميراثا منذ سنة وأقام ذو اليد البينة أن أباه
مات وتركه ميراثا له منذ سنة أو لم يوقتوا
وقتا أو وقتوا أقل من سنة فإنه يقضي به للخارج
أما إذا وقت شهود ذي اليد أقل مما وقت شهود
الخارج أو لم يوقتوا فلا شك فيه لأن الخارج
أثبت ملكه في وقت لا ينازعه فيه ذو اليد وإن
وقت شهود ذي اليد مثل ما وقت شهود الخارج فقد
استوت البينتان ومن أصلنا أن بينة الخارج
تترجح على بينة ذي اليد عند التساوي في دعوى
الملك وذكر التاريخ لم يفد شيئا هنا فكأنهما
لم يذكراه.
وإن وقت شهود ذي اليد سنتين فهو لذي اليد في
قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وهو قول محمد
رحمهم الله.
وفي قوله الأول هو للمدعي وهذا الخلاف بناء
على الفصل الأول وقد ذكرنا هناك أن على قول
أبي يوسف الأول لا غيره للتاريخ وكأنهما لم
يذكراه فكذلك هنا لأن غيره للتاريخ فيقضي به
للخارج وفي قوله الآخر صاحب أسبق التاريخين
أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه فيه غيره
فهو أولى خارجا كان أو صاحب يد وهذا لأن يد ذي
اليد تدل على الملك ولكن لا تدل على سبق
التاريخ فوجب قبول بينته على التاريخ كما يجب
قبول بينته على النتاج وإذا وجب قبول بينته
وتاريخه أسبق كان هو أولى.
وذكر بن سماعة رحمه الله في نوادره أن محمدا
رحمه الله رجع عن هذا القول بعد
ج / 17 ص -41-
انصرافه من الرقة قال لا أقبل من ذي اليد بينة
على تاريخ ولا غيره إلا النتاج وما في معناه
لأن التاريخ ليس بسبب لأولية الملك بخلاف
النتاج قال ولو كانت أرض في يد رجل أقام رجل
البينة أن أباه مات وهي في يديه لا يعلمون له
وارثا غيره وأقام آخر البينة أن أباه مات
وتركها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره قضى
بها بينهما نصفين لأن شهادة شهود الأول أنه
مات وهي في يديه مثل شهادتهم أنه مات وتركها
ميراثا له فإنهم شهدوا بيد مجهولة له عند
الموت والأيدي المجهولة عند الموت تنقلب يد
ملك ولهذا إذا مات المودع مجهولا للوديعة صار
متملكا ضامنا والملك إذا ثبت له عند الموت
ينتقل إلى ورثته فكان هو وشهادتهم بأنه تركها
ميراثا له سواء
وكذلك إن أقام أحدهما البينة بأن أباه مات
وتركها ميراثا وأقام آخر البينة أنها له قضى
بها بينهما نصفين لأن الوارث ينتصب خصما عن
مورثه فكأن مورثه كان حيا مدعيا للملك والآخر
خصما عن نفسه في دعوى الملك فاستويا فكان
المدعي بينهما نصفين فإن أقام أحدهما البينة
أن أباه مات وتركها ميراثا له وأقام آخر
البينة أنه اشتراها من أب المدعي بمائة درهم
ونقده الثمن قضي بها للمشتري لأن الوارث خصم
عن مورثه في إثبات الشراء عليه وما يثبت شراؤه
منه في حياته لا يصير ميراثا لوارثه بعد موته
إنما يخلفه الوارث في ملك قائم عند الموت فكان
بينة مدعي الشراء طاعنة في بينة مدعي الميراث
فجعل هو أولى فكذلك لو ادعى صدقة أو هبة
مقبوضة من الميت في صحته فأقام البينة لما
بينا أنه أثبت خروجه عن ملك مورثه في حياته
إليه وكذلك لو أقام البينة أن أب هذا تزوج أمة
عليها وأن أمه ماتت وتركها ميراثا له لأنه خصم
عن أمه وقد أثبت سبب تملكها على أب آخر في
حياته وهو النكاح فلا يتصور أن يكون ميراثا له
عن أبيه وقد ثبت خروجه من ملك أبيه في حياته
قال وإن ادعاها أنها له فشهد شاهدان أنها
لأبيه ولم يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لم
يقض له بها لأن الدعوى خالفت الشهادة فإنه
ادعى الملك لنفسه والشهود شهدوا بالملك لابنه
وهذا اللفظ يوجب أن الأب حي فالميت ليس بأهل
للملك ولا حق له في ملك الأب في حياته وإن كان
الأب ميتا فقد شهدوا بملك عرف القاضي زواله
فلا تقبل شهادتهم لهذا وكذلك لو شهدوا أنها
كانت لأبيه حين مات في قول أبي حنيفة ومحمد
وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله ثم رجع
فقال شهادتهم مقبولة لأنهم أثبتوا ملك الأب في
الزمان الماضي وما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه إلا
أن يتبين سبب زواله ولم يتبين لزوال ملكه سببا
سوى الموت وهو ناقل إلى الوارث فكانت هذه
الشهادة بالملك له من هذا الوجه فيجب قبولها
كما لو صرحوا بهذا لأن الثابت لمقتضى الكلام
فيما يرجع إلى تصحيح الكلام كالمصرح به.
يوضحه أنه لو أقر ذو اليد أنها كانت لأبيه أو
قامت البينة على إقراره بذلك أمر بالتسليم
إليه فكذلك إذا ثبت بالبينة وجه قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله أنهم شهدوا بملك عرف
ج / 17 ص -42-
القاضي
زواله ولم يبينوا سبب الزوال فلا تقبل شهادتهم
كما لو ادعى ملكا بالشراء فشهدوا أنها كانت
لبائعه وهذا لأن القاضي لا يتمكن في الحال من
أن يقضي بالملك لابنه لعلمه بزوال ملكه فلا
يمكنه أن يقضي بالملك للمدعي لأن خلافته لأبيه
بطريق الميراث إبقاء له ما كان ثابتا لأبيه لا
أن يوجب إثبات الملك ابتداء ولأن قيام ملك
الأب وقت الموت شرط الانتقال إلى الوارث وقد
بينا أن الشرط لا يثبت بالظاهر بل بالنص فإذا
نص الشهود على انتقاله بالميراث يثبت بالشرط
وإن لم ينصوا عليه لم يثبت ما هو الشرط والملك
الذي كان له في حياته لا يكون دليل ملكه عند
الموت نصا بخلاف الإقرار فإنه يوجب الحق بنفسه
وقد بينا هذا الفرق في اليد للمدعي أمس فكذلك
هنا ثم على قول أبي يوسف الآخر رحمه الله ما
لم يقم المدعي البينة على عدد الورثة لم ينفذ
القضاء لاحتمال أن تكون الورثة عددا فلا يرث
هو الكل.
ولو أقام البينة أن أباه مات وتركها ميراثا
ولم يعرفوا الورثة فإن القاضي يقول قد ثبت
بهذه البينة الملك لفلان وقت الموت وذلك يوجب
الانتقال إلى ورثته ولكن لم يثبت عندي أنكم
ورثته فهاتوا بينة أنكم ولده وأنه لا وارث
للميت غيركم فإذا أقاموا البينة على هذا قضي
بها لهم ولو لم يقيموا البينة على أنهم لا
يعلمون له وارثا غيرهم يتأنى القاضي في ذلك ثم
يدفع إليهم لأن وراثتهم قد ثبتت ووجود مزاحم
لهم في الميراث محتمل فعلى القاضي أن يتأنى
لكيلا يبتلى بالخطأ ولا يحتاج إلى نقض قضائه
ولم يتبين في الكتاب مدة التأني وذلك على حسب
ما يراه القاضي لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال
الميت في الشهرة والخمولة وباختلاف أحوال
ورثته في الغيبة والحضور.
وذكر الطحاوي أن التقدير لمدة التأني الحول
فإن المقصود إيلاء العذر في حق وارث غائب يمسي
والحول مدة تامة لإيلاء العذر قال القائل:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما.
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر.
وهو نظير أجل العنين ويأخذ منهم كفيلا بما دفع
إليهم وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا يأخذ منهم
كفيلا وقال في الجامع الصغير هذا شيء احتاطته
القضاة وهو ظلم وجه قولهما أن القاضي مأمور
بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه ومن الجائز
أن للميت غريما أو وارثا غائبا فلو لم يأخذ من
الحاضر كفيلا بما يدفع إليه يفوت حق الغائب
ففي أخذ الكفيل نظر للغائب ولا ضرر فيه للحاضر
وهو نظير الآبق واللقطة إذا دفعها القاضي إلى
رجل أثبت عنده أنه صاحبها أخذ منه كفيلا بها
لهذا المعنى ولأن عليه صيانة قضاء نفسه وهذه
الصيانة إنما تتحقق بأخذ الكفيل حتى إذا حضر
غريم أو وارث لا يتعذر عليه إيصاله إلى حقه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول حق الحاضر ثابت
معلوم وحق الغائب موهوم ولا يقابل الموهوم
المعلوم فلا يؤخر القاضي تسليم حقه إليه إلى
إعطاء الكفيل أرأيت لو لم يجد
ج / 17 ص -43-
كفيلا
أكان يمنعه حقه هذا ظلم منه وما ذكر في الآبق
واللقطة قولهما لا قول أبي حنيفة رحمه الله
ولأنه لو أخذ الكفيل إنما يأخذ المجهول
والكفالة للمجهول لا تصح ولا يقال يأخذ الكفيل
لنفسه لأنه ليس بخصم ولا يقال يأخذه للميت لأن
حق الميت في تسليم ماله إلى وارثه وقد أثبت
الحاضر ورثته فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل.
ولو أقام البينة أنها كانت لجده مات وتركها
ميراثا له لم يقض له حتى يشهدوا أنه وارث جده
لا يعلمون له إرثا غيره ولو شهدوا أن الجد مات
وتركها ميراثا لابنه لم يقض له حتى يشهدوا أنه
وارث وجده لا يعلمون له وارثا غيره أو شهدوا
أن الجد مات وتركها ميراثا لأبيه ثم مات أبوه
وتركها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو
يوسف أقضي بها للجد وأضعها على يدي عدل حتى
يصححوا عدد ورثة الجد وهو قول بن أبي ليلى
رحمه الله .
وهذا نظير الفصل الأول أن عند أبي يوسف رحمه
الله يجب القضاء بما لو قامت البينة عليه
وعندهما لم يجيزا الميراث إليه لا يظهر
استحقاقه وكونه خصما في إثبات ملك الجد فلا
يقضي القاضي بشيء إلا أن يخيروا الميراث كما
بينا.
قال دار في يدي رجل أقام رجل البينة أن أباه
مات وتركها ميراثا له ولأخيه فلأن لا وارث له
غيرهما وأخوه غائب قضى القاضي بحصته لأنه أثبت
استحقاقه بالحجة وهو خصم عن الميت في إثبات
ملكه فأما نصيب الغائب يترك في يدي ذي اليد
حتى يحضر في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو
القياس في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن
كان ذو اليد منكرا أخرج القاضي نصيب الغائب من
يده ووضعه على يد عدل ولو كان مقرى ترك نصيب
الغائب في يده وهذا استحسانا .
ووجهه أن القاضي مأمور بالنظر للغائب فإذا كان
ذو اليد مقرى فالنظر في تركه في يده لظهور
أمانته عنده وإذا كان منكرا فليس من النظر
تركه في يده لأنه قد ظهرت خيانته مرة بالجحود
فلا يأمن بأن يجحده فيتعذر على الغائب إذا حضر
استيفاء حقه منه لأن الحجة لا توجد في كل وقت
فكان النظر في إخراجه من يده ووضعه على يدي
عدل ولأن ذا اليد إذا كان منكرا لا يمتنع من
التصرف فيه عدلا كان أو غير عدل فإنه يزعم أنه
مالك والعدل لا يمتنع من التصرف فيما عنده أنه
ملكه وإذا كان مقرى يمتنع من التصرف فيه فيجوز
تركه في يده .
وأبو حنيفة رحمه الله يقول الحاضر ليس بخصم عن
الغائب في استيفاء ملكه فيجعل في حق الغائب
وجود حضوره كعدمه وقد عرفها القاضي في يد ذي
اليد فلا يتعرض لها إلا بخصم يحضر لأنه لو
أخرجها من يده احتاج إلى وضعها في يد آخر مثل
هذا أو دونه ولأن هذا مختار الميت في حفظها
والذي يضعه على يده ليس بمختار الميت ولا
مختار وارثه فصار هذا نظير الإقرار والفرق
الذي ذكره ساقط فإنه بعد ما صار مسجلا مبينا
في
ج / 17 ص -44-
خريطة
القاضي يؤمن جحود ذي اليد لعلمه أنه لا يلتفت
إلى ذلك ويؤمن بتصرفه فيه لعلمه أن القاضي لا
يمكنه فيه بخلاف ما إذا كان في الابتداء ثم
إذا تركها في يد ذي اليد والمدعي منقول بقي
مضمونا عليه والعقار كذلك على قول من يرى
الضمان فيها بالغصب ويضمن بالجحود عند الكل
وإذا وضعه على يد عدل كان العدل أمينا فيه
والنظر في تركه في يد ذي اليد للغائب أكثر
فيترك في يده فإذا حضر الغائب قال بعض مشايخنا
رحمهم الله يحتاج على قول أبي حنيفة رحمه الله
إلى إعادة البينة بالقياس على مسألة القصاص
والأصح أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن الحاضر أثبت
الملك للميت في الكل بما أقام من البينة فإن
أحد الورثة خصم عن الميت فيما يدعي له وعليه
فلا يحتاج الثاني إلى إقامة البينة بخلاف
القصاص فإنه يثبت للوارث بعد موت المورث فمن
هذا الوجه كان الحق يثبت فيه للوارث ابتداء
فلا بد للذي يحضر من إعادة البينة على حقه ألا
ترى أن هناك لم يتمكن الحاضر من استيفاء نصيبه
بما أقام من البينة وهنا قد تمكن من ذلك.
قال دار في يدي رجل وبن أخيه فادعى العم أن
أباه مات وتركها ميراثا ولا وارث له غيره
وادعى بن الأخ أن أباه مات وتركها ميراثا له
لا وارث له غيره وأقام البينة قضى بها بينهما
نصفان لأن كل واحد منهما خصم عن مورثه فكأنهما
حيان أثبت كل واحد منهما الملك لنفسه والأب مع
الابن في الخصومة في الملك بمنزلة الأجنبيين
فإذا تساويا في سبب الاستحقاق وجب القضاء
بينهما نصفان وإن قال كانت الدار بين أخي وأبي
نصفين وصدقه بن الأخ بذلك ثم أقام البينة أن
أخاه مات قبل ابنه وأقام بن الأخ البينة أن
جده مات قبل أبيه ثم مات أبوه فورثه فإنه يقضي
لكل واحد منهما بالنصف الذي كان لأبيه لأن
معنى هذه المنازعة أن العم يقول مات أخي أولا
عن بن وأب فللأب السدس من نصيبه والباقي للابن
ثم مات أبي عن بن وبن بن فكان ماله لابنه فلي
سبعة أسهم من اثني عشر سهما من سهم الدار وبن
الأخ يقول مات الجد أولا عن ابنين فصار نصيبه
بينهما نصفين ثم مات أبي عن بن وأخ فصار نصيبه
لي وذلك ثلاثة أرباع الدار فإذا ظهرت هذه
المنازعة بينهما ووقع التعارض بين البينتين في
إثبات التاريخ لموت كل واحد منهما ولا ترجيح
لأحدهما على الآخر يجعل كأنهما ماتا معا لتعذر
إثبات والترتيب التاريخ من غير حجة ولو ماتا
معا لم يرث واحد منهما من صاحبه لأن بقاء
الوارث حيا بعد موت المورث شرط لإثبات الخلافة
في ملكه فصار نصيب كل واحد منهما لوارثه الحي
فلهذا قضي بالدار بينهما نصفين والله أعلم
بالصواب.
باب شهادة أهل الذمة في الميراث
قال رحمه الله رجل مات وله ابنان أحدهما مسلم
والآخر كافر فزعم كل واحد منهما أن الأب مات
على دينه وأن ميراثه له فالقول قول المسلم
لأنه يخبر بأمر ديني وهو وجوب الصلاة عليه
ووجوب دفنه في مقابر المسلمين والدعاء له
بالخير وخبر الواحد في
ج / 17 ص -45-
أمور
الدين حجة كما روي خبرا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإذا صلينا عليه فقد حكمنا بإسلامه
عند موته وذلك يمنع كون ميراثه للابن الكافر
فلهذا قضينا بالميراث للابن المسلم ولما ترجح
جانبه بهذا السبب كان بمنزلة ترجح جانبه
بشهادة الظاهر له والقول قوله مع يمينه على ما
ادعاه خصمه وأيهما أقام البينة على ما ادعاه
وجب قبول بينته لأنه نور دعواه بها والبينة
العادلة لا تعارضها الدعوى ممن شهد له الظاهر
أو لا يشهد فإن أقاما جميعا البينة فالبينة
بينة المسلم عندنا .
وقال الشافعي رحمه الله تبطل البينات للمنافاة
بينهما كما هو أصله لأن كل واحد منهما يدعي
خلافة الميت عن أمواله ملكا وفي دعوى الملك لا
تترجح البينة بالدين كما لو ادعى كافر ومسلم
ملكا في يد ثالث فأقام كل واحد منهما البينة
لا يترجح المسلم ولنا أن إحدى الحجتين توجب
إسلام الميت عند موته والأخرى توجب كفره
فيترجح الموت الموجب للإسلام كالمولود بين
مسلم وكافر يجعل مسلما عملا بقوله صلى الله
عليه وسلم "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" ولأنه
لا بد من الصلاة لأن هذا الحكم ثبت بخبر
الواحد فكيف لا يثبت بالحجة وإن وقع التعارض
بين البنتين بقي خبر المدعي بالإسلام حجة في
الصلاة عليه وذلك يوجب ترجيح بينة المسلم
وانقطاع منازعة الكافر عن ميراثه.
فإن قيل من أصلكم أن البينة تترجح بزيادة
الإثبات وبالحاجة إليها وهذا في بينة الكافر
لأن المسلم متمسك بما هو الأصل وهو أن من كان
في دار الإسلام فالظاهر أنه مسلم ولا حاجة به
إلى البينة لأنا جعلنا القول قوله فينبغي أن
تترجح بينة الآخر قلنا موضوع هذه المسألة فيما
إذا كان الأب في الأصل كافرا فإن أحد وارثيه
مقر على الكفر ولا يقر الولد الآخر على الكفر
بخلاف ما إذا كان الأب في الأصل مسلما لأنه
حينئذ إذا يكون مرتدا وإذا كان في الأصل كافرا
فشهود الكافر يتمسكون بالأصل وشهود المسلم
يثبتون إسلامه العارض فكان زيادة الإثبات من
هذا الجانب وإنما جعلنا القول قوله عند عدم
البينة لا للتمسك بالأصل بل لإخباره بأمر ديني
ولو كان شهود الذمي مسلمين وشهود المسلم ذميين
جعلتها للمسلم أيضا لأن كل واحد منهما أقام من
الحجة ما هو حجة على خصمه فكان هذا بمنزلة ما
لو كان الفريقان مسلمين .
وهذه المسائل إنما تنبني على قولنا إن شهادة
أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة ولا تقبل على
المسلمين اعتبارا بالولاية وعند بن أبي ليلى
رحمه الله كذلك إذا اتفقت مللهم وإن اختلفت لا
تقبل شهادة بعضهم على بعض فإنهم عنده أهل ملل
مختلفة والولاية تنقطع بينهم باختلاف الملل
وعند الشافعي رحمه الله لا شهادة لبعضهم على
البعض لنقصان الكفر الذي هو أكثر تأثيرا من
نقصان الرق والصغر وهي مسألة الشهادات.
ولو قال أحد الابنين كنت مسلما وكان أبي مسلما
وقال الآخر صدقت وقد كنت أيضا أسلمت في حياته
وكذبه الآخر وقال أسلمت بعد موته فالميراث
الذي اجتمعا على
ج / 17 ص -46-
إسلامه
في حياته لأن الابن الآخر في حياته أقر بسبب
حرمانه وهو كفره في حياة أبيه ثم ادعى ما
يزيله وهو إسلامه قبل موت الأب فلا يصدق في
ذلك إلا بحجة وهذا لأن إسلامه حادث والحوادث
إنما يحال بحدوثها على أقرب الأوقات فمن ادعى
تاريخا سابقا فعليه إثباته بالحجة.
والأصل في جنس هذه المسائل أن سبب الاستحقاق
متى ثبت بتصادقهما وادعى أحدهما ما يزيله
وأنكر الآخر فالقول قول المنكر ومتى أقر بسبب
الحرما ن ثم ادعى زواله بسبب حادث لم يقبل
قوله إلا بحجة والقول قول خصمه ومن ادعى
الاستحقاق وسبب الحرمان فيه قائم في الحال لا
يثبت استحقاقه إلا بحجة والقول قول خصمه كمن
جاء وهو مرتد يطلب ميراث أبيه المسلم ويزعم
أنه ارتد بعد موته لا يقبل قوله لأن ما يحرمه
الإرث وهو الردة قائمة فيه في الحال فمتى وقع
الاشتباه في الزمان الماضي بحكم الحال
كالمستأجر مع صاحب الرحا إذا تنازعا في جريان
الماء في المدة فإن كان الماء للحال جاريا
فالقول قول من يدعي أنه كان جاريا فيما مضى
وإن كان للحال منقطعا فالقول قول من يدعي أنه
كان منقطعا فيما مضى.
فإن قيل فإذا كان الابن مسلما في الحال ينبغي
أن يجعل مسلما فيما مضى حتى يرث أباه المسلم
قلنا هذا ظاهر يعارضه ظاهر آخر وهو أنه لما
ثبت كفره فيما مضى فالظاهر بقاؤه حتى يظهر
إسلامه ثم موافقته إياه في الدين عند الموت
شرط للإرث والشرط لا يثبت فالظاهر إنما يثبت
بالنص لأن الاستحقاق يثبت عند وجوده والظاهر
حجة لدفع الاستحقاق لا لإثباته ألا ترى أن ذا
اليد يستحق الملك لما في يده بالظاهر ولا تثبت
به الزوائد التي في يد غيره وكذلك لو كان
الاختلاف في العتق والميراث الذي اجتمعا على
عتقه في حياة الأب لأن عتق الآخر بعد ثبوت رقه
حادث على ما بينا .
قال دار في يد ذمي أقام مسلم بينة من أهل
الذمة أن أباه مات وتركها ميراثا له لا وارث
له غيره وأقام ذمي بينة من أهل الذمة على مثل
ذلك فإنه يقضي بها للمسلم لأن المسلم أقام ما
هو حجة على ذي اليد وعلى خصمه الذمي وأقام
الذي ما هو حجة على ذي اليد وليس بحجة على
خصمه المسلم فلا تتحقق المعارضة بين الحجتين
فصار في حق المسلم كأنه لا حجة للذمي فلهذا
قضي للمسلم وإن كانت بينة الذمي مسلمين فهو
بينهما نصفين لأن كل واحد منهما أقام ما هو
حجة على ذي اليد وعلى خصمه فاستويا فيقضي
بينهما نصفان فإن قيل الاستحقاق بشهادة
المسلمين ثبت للذمي في الكل فلو بطل في النصف
إنما يبطل بشهادة أهل الذمة والاستحقاق بشهادة
المسلمين لايجوز إبطالها بشهادة أهل الذمة
قلنا نحن لا نبطل شيئا من ذلك الاستحقاق فكل
واحد منهما يستحق الكل كما شهد به شهوده ولكن
القضاء نصفين لضيق المحل ثم هذا إنما يستقيم
أن لو كانت الشهود خصما فيها وليس كذلك فالخصم
لا يكون شاهدا
ج / 17 ص -47-
قال
دار في يد مسلم فقال مات أبي وهو مسلم فتركها
ميراثا لي وقال أخو الميت مات أخي وهو على
ديني فالقول قول الابن والميراث له لأنه لو
كان مدعي الكفر إبنا آخر كان القول قول المسلم
فكيف إذا كان أخاه ولو كان الأخ هو المسلم
المدعي لإسلامه والابن كافر يدعي كفره فالقول
قول الابن لأن الأخ محجوب بالابن فهو كأجنبي
آخر فإن قيل أليس أنه يخبر بالصلاة عليه وهو
ديني قلنا إخباره بهذا كإخبار أجنبي آخر حين
لم يكن هو من ورثته ظاهرا فلا يكون من ضرورته
استحقاقه للميراث وإن أقاما البينة أخذت بينة
الابن المسلم لأن فيها إثبات إسلامه وإن أقام
الأخ بينة من أهل الذمة على ما قال ولم يقم
الابن بينة لم أجز شهادتهم على المسلم لأن
الأخ ببينته يبطل استحقاق المسلم لميراثه بعد
أن ثبت استحقاقه بقوله وبينة أهل الذمة على
الاستحقاق الثابت للمسلم لا تكون مقبولة.
وإن قالت امرأة الميت وهي مسلمة مات زوجي وهو
مسلم وقال أولاده وهم كفار بل توفي أبونا وهو
كافر وصدق أخو الميت المرأة وهو مسلم قضيت
بالميراث للمرأة والأخ لأن المرأة لا تحجب عن
الميراث بأحد فهي وارثة على كل حال فكانت
بمنزلة بن وابنة تدعي إسلامه فالقول قوله وإذا
حكمنا بإسلامه بقولها وجعلنا الميراث لها
والأولاد كفار لا يرثون منه شيئا فلا يحجبون
الأخ فكان الباقي للأخ وقد سعد بالمرأة فإنها
لو لم تكن ما كان قول الأخ مقبولا وكذلك لو
ترك ابنا وابنتا وأخا فقالت الابنة وهي مسلمة
مات أبي مسلما وصدقها الأخ وهو مسلم وقال
الابن وهو كافر مات أبي كافرا فالميراث للابنة
والأخ لأنها غير محجوبة بالابن فترجح قولها في
دعوى الإسلام سعد الأخ بها كما بينا فإن كان
له ابنة وأخ أحدهما مسلم والآخر كافر فالقول
قول المسلم منهما أيهما كان لأن كل واحد منهما
وارث مع صاحبه بخلاف الابن والأخ فالأخ محجوب
بالابن لا قول له وهذا كله إذا لم يقر المسلم
أن الأب كان كافرا فإن أقر بذلك وادعى أنه
أسلم قبل موته لم يصدق إلا بحجة لأن ما ثبت من
كفره يبقى إلى أن يظهر ما يزيله ولم يظهر ذلك
بمجرد قوله لأنه عارض يدعيه ولا ميراث له .
ولو أقرت زوجة الرجل بعد موته أنه طلقها في
الصحة واحدة وأقرت بانقضاء العدة وزعمت أنه
راجعها وكذبتها الورثة فالقول قول الورثة
لأنها أقرت بسبب الحرمان وهو ارتفاع النكاح
بانقضاء العدة ثم ادعت بعد ذلك سببا حادثا
للاستحقاق فلا يظهر السبب بمجرد قولها بخلاف
ما إذا ادعت الورثة أنه طلقها وانقضت عدتها
وهي تنكر فالقول قولها لأن سبب استحقاقها ثابت
باتفاقهم فالورثة يدعون عليها سبب الحرمان
حادثا وهي تنكر وهذا الفصل إنما أورده إيضاحا
لما سبق فيما إذا لم يقر الابن المسلم بكفر
أبيه أو أقربه وادعى إسلامه بعد موته
قال زوجان ذميان مات بن لهما عن بن فقالا مات
ابننا كافرا وقال الابن وهو مسلم مات أبي
مسلما فالقول قوله الابن ولا ميراث للأبوين
لأن الولد مع الأبوين وارث
ج / 17 ص -48-
غير
محجوب فكان القول قوله في إسلام الميت كما لو
كانت المنازعة بين اثنين وقد قررناه فيما سبق.
قال رجل مات وترك ميراثا في يدي رجل فأقام
ابنه البينة أنه ابنه ووارثه ولم تشهد شهوده
أنه لا وارث له غيره وقال ذو اليد له ولد غير
هذا أو قال لا أدري أله ولد سوى هذا أم لا
تلوم القاضي في ذلك زمانا رجاء أن يحضر وارث
آخر فإذا لم يحضر قضي بالميراث له لأن سبب
استحقاقه قد ثبت بالحجة وقد تيقنا بكونه وارثا
خليفة للميت في ملكه فيدفع ماله إليه ويستوثق
منه بكفيل من أصحابنا رحمهم الله من قال أخذ
الكفيل هنا قولهم جميعا بخلاف ما قال أبو
حنيفة رحمه الله فيما سبق لأن هنا الشهود لم
يشهدوا بانتفاء وارث آخر فكان الموضع موضع
الاحتياط لأخذ الكفيل والأصح أنه على الخلاف
كما بينا وقد ذكرنا أيضا مدة التلوم وعن أبي
يوسف رحمه الله أنه قدر ذلك بشهر لأن ما وراء
الشهر في حكم الأجل فيتضرر به الوارث بتأخير
حقه وفيما دون الشهر ليس له كثير ضرر .
وكذلك لو كان الابن كافرا وقال مات أبي كافرا
وكذلك هذا الجواب في كل من لا يحجب عن الميراث
بآخر إذا ثبتت قرابته يقضي له بالمال بعد
التلوم إذا لم تشهد الشهود أنه لا وارث له
غيره حتى لو كانت أما أو بنتا يقضي لها بجميع
ماله لأنه لا عصبة للميت ظاهرا فكان جميع
الميراث لها فرضا وردا فأما إذا كان من يثبت
وراثته ممن يحجب بغيره كالجد والجدة والأخ
والأخت فإنه لا يعطي شيئا ما لم تقم البينة
على عدد الورثة أو يشهدوا أنهم لا يعلمون له
وارثا غير هذا لأن استحقاق الأخ للميراث يتعلق
بشرط أن يكون الميت كلالة قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً }
[النساء: 12] وقال الله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}[النساء: 176] والكلالة من ليس له ولد ولا والد فما لم يثبت هذا
الشرط بالنص من الشهود لا يكون هو وارثا وما
لم يثبت وارثته لا يدفع المال إليه بخلاف ما
سبق فإنه وارث بنسبة غير محجوب بأحد.
فإن قيل كيف يثبت استحقاقه بقول الشهود لا
وارث له غيره أو لا نعلم له وارثا غيره وهذه
شهادة على النفي
قلنا أما إذا قالوا لا وارث له غيره فعند بن
أبي ليلى رحمه الله هذا لا تقبل لتيقن القاضي
أنهم جازفوا إذ لا طريق لهم إلى معرفة نفي
الوارث وعندنا تقبل بناء على العادة أن مراد
الناس من هذا لا نعلم له وارثا غيره وهذه
شهادة منهم على إثبات شرط الوراثة إلا أن
الشرط نفي والشرط يجوز إثباته بالبينة نفيا
كان أو إثباتا كما لو قال لعبده إن لم تدخل
الدار اليوم فأنت حر فأقام العبد البينة أنه
لم يدخلها فأما الزوج والزوجة إذا أثبت أحدهما
سبب إرثه بالبينة ولم يثبت أنه لا وارث للميت
غيره فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
يقضي لهما بأكثر النصيبين بعد البلوغ للزوج
بالنصف وللمرأة بالربع وعند أبي يوسف رحمه
الله يقضى لهما بأقل النصيبين للزوج بالربع
وللمرأة بالثمن.
قال لأن استحقاق الزوج والزوجة لأكثر النصيبين
يتعلق بشرط عدم الولد بالنص قال
ج / 17 ص -49-
الله
تعالى:
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ
وَلَدٌ}
[النساء: 12] وقد بينا أن الشرط لا يثبت
باعتبار الظاهر وإنما يثبت بنص من الشهود فإذا
لم يوجد لا يقضى لهما إلا بالمتيقن ولأن
الزوجية في استحقاق الميراث بها دون الأخوة
فبالأخوة تستحق جميع المال ولا تستحق ذلك
بالزوجية بحال ثم الأخ لا يستحق شيئا ما لم
يقم البينة أنه لا وارث له غيره لأنه لا تيقين
باستحقاق شيء له فكذلك الزوج فيما لا يتيقن
باستحقاقه بمنزلة الأخ في الكل أو دونه
وحجتهما في ذلك أنه أثبت سبب الوراثة من لا
يحجب عن الميراث بأحد فيستحق جميع ميراثه بعد
التلوم كالأب والولد وهذا لأن حرمانه عن أكثر
النصيبين بولد يحجبه وهذا الحاجب غير ظاهر
فيبقى مستحقا بما أثبت من السبب وصار الزوج في
استحقاق ما زاد على الربع كالأبوين في استحقاق
ما زاد على السدس وكل واحد منهما يتعلق بشرط
عدم الولد قال الله تعالى:
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ
إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}
[النساء: 11] الآية ثم هناك يقضي لهما بالجميع
لأن الولد الحاجب غير ظاهر هناك كذلك هنا
وعن أبي يوسف رحمه الله يعطى للمرأة ربع الثمن
لأن أقل نصيبها هذا فلعل للمرء ثلاث نسوة
سواها وهذا ليس بقوي فالزوجية سبب تام
لاستحقاق الثمن لها بيقين وإنما يقسم الثمن
بين الزوجات للمزاحمة ولا مزاحم لها هنا فكيف
ينقص حقها من الثمن وعن الحسن بن زياد رحمه
الله قال يقضى لها بربع التسع وللزوج بالخمس
لأن المتيقن هذا المقدار فمن الجائز أن الرجل
مات عن أبوين وابنين وأربع نسوة وهي المتبرأة
التي قال فيها علي رضي الله عنه في البديهية
حين سئل وهو على المنبر انقلب ثمنها تسعا فإن
أصل الفريضة من أربعة وعشرين للنسوة الثمن
ثلاثة وللأبوين الثلث لكل واحد سدس ثمانية
وللابنتين الثلثان ستة عشر تعول بثلاثة فكانت
من سبعة وعشرين فللنسوة ثلاثة وهي التسع حظ
الواحدة الربع من ذلك فيقضي لها بهذا القدر
واليقين في جانب الزوج في الخمس لجواز أن يكون
تركة أبوين وابنتين وزوجا فللزوج الربع
وللأبوين السدسان وللابنتين الثلثان أصله من
اثني عشر وتعول بثلاثة فللزوج ثلاثة من خمسة
عشر وذلك الخمس ولكن هذا ليس بقوي فإن اعتبار
العول لمعنى المزاحمة والضيق في المحل فكيف
يثبت ذلك عند عدم ظهور وارث آخر سوى الزوج أو
الزوجة والمعلوم لا يقابل الموهوم فدل أن
الصحيح ما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
والله أعلم
باب اختلاف الأوقات في الدعوى وغير ذلك
قال رحمه
الله دار في يدي رجل فادعى رجل أنها له منذ
سنتين وأقام البينة وادعى ذو اليد أنها في يده
منذ سنتين وأقام البينة ولم يشهدوا أنها له
قضيت بها للمدعي لأن شهود المدعي شهدوا له
بالملك نصا وشهود ذي اليد إنما شهدوا له باليد
والأيدي تنوعت إلى يد أمانة ويد ضمان ويد ملك
فلا تعارض بينته بينة الخارج ولأن الثابت من
يده بالبينة كالثابت
ج / 17 ص -50-
بالمعاينة وذلك لا يمنع القضاء بالملك للمدعي
إذا أثبتها بالبينة في الحال فكذلك في الوقت
الذي أسند شهوده إليه.
قال دابة في يد رجل فأقام آخر البينة أنها له
منذ عشر سنين فنظر القاضي في سنها فإذا هي
أبنة ثلاث سنين يعرف ذلك فبينته باطلة لأن
القاضي تيقن بمجازفة الشهود في شهادتهم فإنهم
شهدوا بالملك له فيها في وقت يتيقن أنها لم
تكن موجودة فيه والملك لا يسبق الوجود ولأنه
لا يمكنه القضاء بالملك في الحال لأنه خلاف
الشهادة ولا في الوقت المضاف إليه لأنه محال.
قال وإذا كانت الدار في يدي رجل أقام آخر
البينة أنها له منذ سنة وأقام آخر البينة أنها
له اشتراها من آخر منذ سنتين وهو يملكها يومئذ
فإني أقضي بها لصاحب الشراء لأنه أسبق تاريخا
وقد أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه الآخر
فيه وهو خصم عن بائعه في إثبات الملك له في
الوقت الذي أرخ شهوده فكان هو أولى بها وكذلك
لو شهدوا أنها له اشتراها من فلان منذ سنتين
فشهادتهم بالملك للمشتري بمنزلة شهادتهم
بالملك للبائع إذا شهدوا بالشراء وكذلك لو لم
يشهدوا بالملك للبائع ولا للمشتري ولكن شهدوا
أن فلانا باعها منه وسلمها إليه من سنتين أو
أنه اشتراها من فلان منذ سنتين وقبضها فهذا
وشهادتهم بالملك له سواء لأن البائع في الظاهر
إنما يتمكن من التسليم إذا كان مالكا للمبيع
وكذلك المشتري إنما يتمكن من القبض إذا
اشتراها من المالك ولأن سبب الملك يتأكد
بالتسليم فشهادتهم على سبب ملك متأكد بمنزلة
الشهادة على الملك.
ولو شهدوا أن فلانا باعها منه واستوفى الثمن
أو أنه اشتراها ونقد البائع الثمن ولم يشهدوا
بالقبض والتسليم لم يقض لمدعي الشراء بشيء
لأنهم شهدوا بمجرد العقد وذلك يتحقق من غير
المالك موقوفا على إجازة المالك فلا يوجب
الملك للمشتري قبل الإجازة فلم يكن في هذه
الشهادة إثبات الملك للمشتري نصا ولا دلالة
فلا يقضي بها له وفي كل موضع قضينا بالملك
للمشتري إذا حضر البائع وأنكر أن يكون باعه لم
يلتفت إلى إنكاره لأن ذا اليد انتصب خصما عن
البائع في إنكاره للبائع البيع والمشتري لا
يتوصل إلى إثبات الملك لنفسه إلا بإثبات سببه
وهو الشراء من الغائب ومتى كان حق الحاضر
متصلا بحق الغائب انتصب الحاضر خصما عن الغائب
فقد اتصل القضاء ببينة قامت على خصم فلا حاجة
إلى إعادتها بعد ذلك.
قال دار في يدي رجل أقام رجل البينة أنها له
ولم يوقت شهوده وأقام ذو اليد البينة أنها له
منذ سنة فإني أقضي بها للمدعي لأن تاريخ ذي
اليد ليس بدليل سبق ملكه فلعل شهود المدعي لو
أرخوا ذكروا تاريخا سابقا فلا يستحق ذو اليد
الترجيح بما هو محتمل في نفسه والتحق بما لو
لم يذكر الوقت فتترجح بينة المدعي ولو أقام
المدعي البينة أنها له منذ سنة أو سنتين شك
الشهود في ذلك وأقام ذو اليد البينة أنها له
منذ سنتين قضيت بها لذي
ج / 17 ص -51-
اليد
لأن شهود الخارج شكوا فيما زاد على السنة ومع
الشك لا يمكن إثبات التاريخ فإنما يثبت من
تاريخهم ما يتفقوا به وذلك سنة فصار تاريخ ذي
اليد أسبق فتترجح بينته وقد بينا اختلاف
الروايات فيه فيما سبق ولووقت شهود المدعي سنة
ووقت شهود ذو اليد سنة أو سنتين شكوا في ذلك
فهو للمدعي لأن ما شك فيه شهود ذي اليد لم
يثبت وفيما يتفقوا فيه استوى تاريخ ذي اليد
والخارج فتترجح بينة المدعي ولو شهد شهود
المدعي أنها كانت له عام أول وشهود ذي اليد
أنها له منذ العام قضيت بها للمدعي لأن تاريخ
شهوده أسبق ولو شهد شهود المدعي أنها له منذ
العام وشهود ذي اليد أنها له عام أول قضيت بها
لذي اليد لأن شهوده شهدوا بتاريخ أسبق من
تاريخ المدعي فثبت ملكه في ذلك الوقت وبعد
ثبوت ملكه لا يستحقه الغير إلا من جهته .
قال دار في يد رجلين أقام أحدهما البينة أنها
له منذ سنة وأقام الآخر البينة أنها له منذ
سنتين قضيت بها لصاحب السنتين لأن في يد كل
واحد منهما نصف الدار ففي النصف الذي في يد من
أرخ شهوده سنة بينة الخارج قامت بتاريخ سابق
فكان هو أولى وفي النصف الذي في يد من أرخ
شهوده بسنتين بينة ذي اليد قامت على تاريخ
سابق على بينة الخارج فيستحق الترجيح به أيضا
ولو أقام أحدهما البينة أن له ثلثها منذ سنة
وأقام الآخر البينة أن له ثلثها منذ سنين فإني
أقضي بالثلثين لصاحب السنتين لأن دعواه تنصرف
إلى ما في يده أولا ثم فيما يفضل على ما في
يده ينصرف دعواه إلى ما في يد صاحبه لأن يده
يدا محقة تحسينا للظن بالمسلم وحملا لفعله على
الصحة .
ولو صرفنا دعواه إلى ما في يد غيره لم تكن يده
يدا محقة وفي يده نصف الدار فما زاد على النصف
إلى تمام الثلثين وهو السدس اجتمع فيه بينة
الخارج وبينة ذي اليد وتاريخ الخارج أسبق فهو
أولى ولأن الآخر ليس يدعي إلى الثلث ودعواه
منصرفة إلى ما في يده فما زاد على الثلث هو لا
ينازع الآخر فيه وقد أثبت الآخر استحقاقه
بالبينة على ما في يده فيقضي له به وترك الثلث
في يد صاحب الثلث فيكون ذلك له قضاء ترك لأن
بينته لم تقم على منازع له فيه يد ولا ملكا
فهذا الطريق فيما إذا كان من أرخ سنة يدعي
ثلثها والطريق الأول فيما إذا كان يدعي نصفها
وقد اختلفت النسخ في وضع هذه المسألة.
قال أمة في يد رجل فأقام رجل البينة أنها أمته
منذ ستة أشهر وأنه أعتقها ألبتة منذ شهر وأقام
آخر البينة أنها أمته منذ سنة وأنه أعتقها عن
دبر منه منذ سنة فإنه يقضي بها مدبرة لمدعي
التدبير لأن تاريخ شهوده أسبق فإنهم أثبتوا
الملك والتدبير له منذ سنة والملك المتأكد
بالتدبير لا يحتمل النقض فشهود الآخر إنما
شهدوا بالعتق فيمن لا يملكها وذلك غير مفيد
ذكره في بعض النسخ وفي قول أبي يوسف رحمه الله
الأول البينة بينة مدعي العتق وهي حرة ألبتة
وهذا بناء على ما سبق أن الخارجين إذا أرخا
الملك بتاريخين في قوله الأول يقضي بها بينهما
نصفان ولا يترجح أحدهما لسبق التاريخ وقد بينا
هذا في
ج / 17 ص -52-
باب
دعوى الميراث فهنا لما استويا في إثبات الملك
على هذا القول بقي الترجيح بما أثبتوا من
العتق والعتق والتدبير إذا اجتمعا يترجح العتق
لاستحالة أن يوطأ بملك اليمين وقد قامت البينة
على حريتها من جهة من أثبت ملكه فيها بالحجة.
قال دار في يد رجل ادعى رجل أنه اشتراها منه
بمائة درهم ونقده الثمن وادعى آخر أنه اشتراها
منه بمائتي درهم ونقده الثمن ولم توقت واحدة
من البينتين وقتا فكل واحد منهما بالخيار إن
شاء أخذ نصفه بنصف الثمن الذي بين شهوده وإن
شاء ترك لأنهما تصادقا على أن الملك في الأصل
كان لذي اليد وادعى كل واحد منهما التملك عليه
بسبب الشراء وقد استويا في ذلك ولو استويا في
إقامة البينة على الملك المطلق عليه قضي به
بينهما نصفان فكذلك هنا فإن قيل قد تيقن
القاضي بكذب أحد الفريقين لأن التعين على دار
واحدة من رجلين من كل واحد منهما بكماله لا
يتصور في وقت واحد فينبغي أن تبطل البينتان.
قلنا الشهود شهدوا بنفس البيع لا بصحته ولم
يشهدوا بوقوع البيعين معا ويتصور بيعان في
وقتين من واحد لعين واحدة من كل واحد منهما
وكل واحد منهما اعتمد سببا أطلق له الشهادة
فيجب العمل بها بحسب الإمكان ولأن البيعين
يتصور وقوعهما في وقت واحد من وكيل المالك
ويضاف عقد الوكيل إلى الموكل مجازا فلعل
الوكيلين باعا معا فيقضي لكل واحد من
المشتريين بنصفها ويخير كل واحد منهما لتفرق
الصفقة عليه فإنه أثبت عقده في الكل فلتبعض
الملك حين لم يسلم له إلا النصف خيرهما فإن
رضيا به فعلى كل واحد منهما من الثمن بقدر ما
يسلم له من البيع وذلك النصف فإن رضي به
أحدهما وأبى الآخر فليس للذي رضي به إلا نصفه
لأن القاضي حين خيرهما فقد فسخ بيع كل واحد
منهما في النصف حين قضي به لصاحبه فلا يعود
بيع أحدهما بترك صاحبه المزاحمة معه إلا أن
يكون ترك المزاحمة قبل أن يقضي القاضي بشيء
فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن فإنه
أثبت شراءه في الكل ولم يفسخ القاضي بيعه في
شيء وإنما كان القضاء له بالنصف لمزاحمة صاحبه
معه فإذا زالت المزاحمة قضي له بالكل
كالشفيعين إذا أسلم أحدهما قبل قضاء القاضي
لهما يقضي للآخر بجميع الدار بخلاف ما لو كان
تسليمه بعد القضاء فإنه لا يكون للآخر إلا نصف
الدار
ولو وقتت كل واحدة من البينتين وقتا قضيت بها
لصاحب الوقت الأول لأنه أثبت شراءه في وقت لا
ينازعه الآخر فيه فاستحقها من ذلك الوقت
فيتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك فكان
شراؤه باطلا وإن وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى
قضيت بها لصاحب الوقت لأن شراءهما حادث فإنما
يحال بحدوثه على أقرب الأوقات ما لم يثبت
التاريخ فإنما يثبت شراء الذي لم توقت شهوده
في الحال وقد أثبت الآخر شراءه سابقا فكان هو
أولى وهذا بخلاف ما إذا ادعى الشراء من رجلين
ووقته أحدهما ولم يوقت الآخر يقضي بها بينهما
نصفين لأن كل واحد منهما هناك خصم عن تابعه في
إثبات الملك له وتوقيت
ج / 17 ص -53-
أحدهما
لا يدل على سبق ملك بائعه فلعل ملك البائع
الآخر أسبق فلهذا قضينا به بينهما فأما هنا
اتفقا على الملك لبائع واحد فإنما حاجة كل
واحد منهما إلى إثبات سبب الانتقال إليه لا
إلى إثبات الملك للبائع وسبب الملك في حق الذي
وقت شهوده أسبق فكان هو بالدار أحق.
وإن لم يوقت واحد منهما وكانت الدار في يد
أحدهما وقد قبضها قضيت بها لذي اليد لأن قبضه
صادر عن العقد الذي أثبته بالبينة حملا لفعله
على الصحة فكان شراؤه متأكدا بالقبض فيترجح به
لمعنيين أحدهما أنه قبضه اقترن بعقد الآخر وهو
صادر عن عقده فلا بد من أن يكون عقد سابقا
ولأنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على البائع
فقط وذلك في بينته فأما الخارج يحتاج إلى
إثبات الاستحقاق على ذي اليد كما يحتاج إلى
إثباته على البائع وليس في بينته ما يوجب
الاستحقاق على ذي اليد لجواز أن يكون عقد ذي
اليد سابقا وهذا بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من
اثنين واحدهما قابض فإن الخارج أولى هناك لأن
كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه
أولا فاجتمع في حق البائعين ببينة الخارج
وبينة ذي اليد فكانت بينة الخارج أولى فأما
هنا لا يحتاج إلى إثبات الملك للبائع بل هو
ثابت بتصادقهما عليه إنما حاجتها إلى إثبات
سبب الاستحقاق وسبب القابض أقوى فكان هو أولي
فإن شهد شهود الخارج على وقت لم ينتفع به لأن
تمكن القابض من القبض دليل سبق عقده وهو دليل
معاين والتاريخ في حق الخارج مخبر به وليس
الخبر كالمعاينة ثم يد ذي اليد ثابتة بيقين
فلا ينقض إلا بيقين مثله وبذكر الوقت من شهود
الخارج لا يزيل احتمال سبق عقد ذي اليد فلا
ينقض قبضه إلا أن يشهدوا أن بيع الخارج كان
قبل بيع ذي اليد فحينئذ يكون بيع الخارج أولى
لأن تقدم العقد ثبت بنص من شهوده وتبين أن
القابض اشترى من غير المالك.
وإن كان المدعيان أقام كل واحد منهما البينة
على الشراء من رجل آخر والدار في يد المدعى
عليه قضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما
ثبت الملك لبائعه أولا وقد استوت البينتان في
إثبات الملك للبائع فيقضي بها بينهما نصفين
ويتخير كل واحد من المشتريين لما بينا وإذا
اختار الأخذ رجع كل واحد منهما على بائعه بنصف
الثمن إن كان نقده إياه لأنه لم يسلم له إلا
نصف المبيع ولو وقتا وقتين كان صاحب الوقت
الأول أولى لإثباته الملك لبائعه في وقت لا
ينازعه الآخر فيه ويرجع الآخر بالثمن على
بائعه لاستحقاق المبيع من يده .
ولو أقام أحدهما البينة أنه اشتراها من فلان
بثمن مسمى وهو يملكها وأقام الآخر البينة أن
فلانا آخر وهبها له وقبضها منه وهو يومئذ
يملكها قضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد
منهما ينتصب خصما عمن ملكه في إثبات الملك له
أولا ثم لنفسه فالحجتان في إثبات الملك لهما
سواء فيقضي بها بينهما نصفين وكذلك لو أقام
ثالث البينة على الصدقة من ثالث مع
ج / 17 ص -54-
القبض
وأقام رابع البينة على إرثه من أبيه قضي بينهم
أرباعا لما بينا أن كل واحد منهما خصم عمن
ملكه .
فإن قيل إنما وضع المسألة في الدار فكيف يجوز
القضاء بالهبة والصدقة في جزء منهما مشاعا
قلنا قيل موضوع هذه المسألة في الدابة ولئن
كان في الدار فكل واحد منهما أثبت استحقاقه في
الكل إلا أنه لأجل المزاحمة يسلم له البعض
وهذه المزاحمة بعد القبض فكان شيوعا طارئا
وذلك لا يبطل الهبة والصدقة وهذا بخلاف ما إذا
كانت الدار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه
اشتراها من فلان بثمن مسمى وتقابضا وأقام آخر
البينة أن فلانا ذلك وهبها منه وقبضها قضي بها
لصاحب الشراء لأنهما لا يحتاجان هنا إلى إثبات
الملك لمن ملكها فإنه ثابت بتصادقهما وإنما
الحاجة إلى إثبات سبب الملك عليه والشراء أقوى
من الهبة لأنه عقد ضمان يوجب الملك في العوضين
والهبة تبرع لأن الشراء يوجب الملك بنفسه
والهبة لا توجب الملك إلا بعد القبض فكان ملك
مدعي الشراء سابقا فلهذا جعل أولى.
وكذلك لو ادعى أحدهما الشراء والآخر الصدقة
وادعى أحدهما الشراء والآخر الرهن فالشراء
أولى لما بينا وإذا ادعى رجل الشراء وادعت
المرأة أن فلانا ذلك تزوجها عليها فعلى قول
أبي يوسف رحمه الله يقضي لكل واحد منهما
بالنصف ثم للمرأة نصف القيمة على الزوج ويرجع
المشتري بنصف الثمن إن كان نقده إياه وقال
محمد رحمه الله يقضي بها لصاحب الشراء وللمرأة
على الزوج قيمة الدابة وجه قول محمد رحمه الله
أن تصحيح البينات والعمل بها واجب ما أمكن
لأنها حجج وهنا يمكن تصحيح البينتين بأن يجعل
الشراء سابقا فإن تسمية ملك الغير صداقا تسمية
صحيحة موجبة لقيمة المسمى عند تعذر تسليم عينه
فلهذا جعلنا الشراء سابقا ولأن الشراء مبادلة
مال بمال موجب الضمان في العوضين والنكاح
مبادلة مال بما ليس بمال غير موجب للضمان في
المنكوحة فكان الشراء أقوى من هذا الوجه فجعل
أولى.
وأبو يوسف رحمه الله يقول كل واحد من البينتين
يثبت الملك لنفسهما فتتحقق المساواة بينهما في
الاستحقاق كما في دعوى الشرائين ومن وجه
النكاح أقوى لأن الملك في الصداق يثبت بنفس
العقد متأكدا حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم
بخلاف الملك في المشتري ويجوز التصرف في
الصداق قبل القبض بخلاف المشتري فإن لم يترجح
جانب النكاح بهذا فلا أقل من المساواة وفيما
قال محمد رحمه الله إثبات تاريخ لم يشهد به
الشهود والتاريخ بين العقدين يثبت من غير حجة
فإذا قضينا به بينهما نصفين استحق على المرأة
نصف الصداق فيرجع بقيمة المستحق واستحق على
المشتري نصف المبيع فيرجع بثمنه وإن ادعى
أحدهما الرهن والقبض والآخر الهبة والقبض
فالرهن أولى .
وذكر في كتاب الشهادات أن الهبة أولى في
القياس ووجهه أن الهبة تفيد ملك العين.
ج / 17 ص -55-
والرهن
لا يوجب فكان السبب الموجب لملك العين أقوى
وجه الاستحسان أن الرهن عقد ضمان والهبة عقد
تبرع وعقد الضمان أقوى من عقد التبرع ولأنه
يثبت بدلين المرهون والدين والهبة لا تثبت إلا
بدلا واحدا فكان الرهن أولى من الهبة وكذلك
الرهن أولى من الصدقة والنكاح أولى من الهبة
والصدقة لأنه يوجب الملك بنفسه كالشراء فأما
الهبة والصدقة سواء حتى لو ادعى أحدهما الهبة
والآخر الصدقة يستويان لأن كل واحد منهما تبرع
لا يتم إلا بالقبض فإن قيل الصدقة لا رجوع
فيها بخلاف الهبة فكانت الصدقة أقوى قلنا
امتناع الرجوع لحصول المقصود بها وهو الثواب
لا لقوة السبب ولو حصل المقصود بالهبة وهو صلة
الرحم لم يرجع فيها أيضا .
قال:
دار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه اشتراها
من ذي اليد بألف درهم ونقده الثمن وأقام ذو
اليد البينة أنه اشتراها من المدعي ونقده
الثمن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تتهاتر البينتان جميعا سواء شهدوا بالقبض
أو لم يشهدوا ويترك الدار في يد ذي اليد وعند
محمد رحمه الله يقضي بالبينتين جميعا فإن لم
تشهد الشهود بالقبض يجعل شراء ذي اليد سالما
فيأمن بتسليمه إلى الخارج وإن شهدوا بالقبض
يجعل شراء الخارج سابقا فيسلم لذي اليد وجه
قول محمد رحمه الله أن البينات حجج فمهما أمكن
العمل بالبينتين لا يجوز إبطال شيء منها
كالحجج الشرعية وهنا العمل بالبينتين ممكن أما
إذا لم تشهد الشهود بالقبض فإمكان العمل بها
في جعل شراء ذي اليد سابقا لأنا لو جعلنا شراء
الخارج سابقا لم يصح بيعه من بائعه قبل القبض
ولأن قبض ذي اليد صادر عن عقده الذي أثبته
بالبينة وذلك دليل سبق عقده فإن شهد الشهود
بالقبض يجعل عقد الخارج سابقا لأن انقضاء قبضه
دليل سبق عقده وقيام قبض الآخر دليل تأخر عقده
ولأنا لو جعلنا عقد ذي اليد سابقا كان قبضه
غصبا حراما ولو جعلنا عقده متأخرا كان قبضه
بحق فلهذا أثبتنا التاريخ بين العقدين بهذه
الصفة وهذا عمل بالدليل
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما
الله قال: كل واحد منهما بدعوى الشراء أثبت إقرار صاحبه بالملك له فكل بائع
مقر بوقوع الملك للمشتري فكان هذا بمنزلة ما
لو أقام كل واحد منهما البينة على إقرار صاحبه
بالملك له ولو كان كذلك تهاتر الإقرار لأن
الثابت من الإقرارين بالبينة كالثابت
بالمعاينة ولو عاين إقرار كل واحد منهما
بالملك لصاحبه معا بطل الإقرار أن جميعا فهذا
مثله لمعنى أن شهود كل واحد منهما لم يشهدوا
بالتاريخ فكل أمرين ظهرا ولا يعرف سبق أحدهما
جعل كأنهما وقعا معا فلا يجوز إثبات التاريخ
بينهما لأنه قضاء بما لم تشهد به الشهود فإذا
جعلنا كالواقع معا بطلا للمنافاة بينهما وإنما
يعتبر إمكان العمل بالبينتين بما شهدوا به دون
ما لم يشهدوا به فإن وقت الشهود وقتين فهذا
على وجهين إما أن يكون وقت الخارج سابقا أو
وقت ذي اليد وكل وجه على وجهين إما أن تشهد
الشهود
ج / 17 ص -56-
بالقبض
أو لم يشهدوا به فإن كان وقت الخارج سابقا فإن
لم تشهد الشهود بالقبض قضي بها لذي اليد عند
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن شراءه
ثبت سابقا ثم اشتراه منه ذو اليد قبل التسليم
وبيع العقار قبل القبض عندهما جائز.
وعند محمد رحمه الله: يقضي بها للخارج لأنه لا يجوز بيع العقار قبل القبض وإن شهد
الشهود بالقبض يقضي بها لذي اليد عندهم جميعا
لأن الخارج باعها من بائعه بعد ما قبضها وذلك
صحيح وإن كان وقت ذي اليد سابقا يقضي بها
للخارج سواء كان الشهود شهدوا بالقبض أو لم
يشهدوا أما إذا شهدوا بالقبض فلا إشكال وكذلك
إن لم يشهدوا به لأن ذا اليد قابض وقد ثبت
شراؤه سابقا فيجعل قبضه صادرا لا عن عقده ثم
الخارج إنما اشتراها منه بعد قبضه فيؤمر
بتسليمها إليه.
قال:
أمة في يد رجل فأقام رجل البينة على الشراء
منه وأقامت الأمة البينة على العتق أو التدبير
فإن بينتها أولى لأن كل واحد من البينتين موجب
للحق بنفسه والعتق أقوى فإنه لا يحتمل النقض
بعد وقوعه وكذلك التدبير بخلاف الشراء ولأن
العبد بالعتق يصير قابضا لنفسه ولأن العتق
ينفرد به المعتق والشراء لا يتم إلا بالإيجاب
والقبول وكان العتق والتدبير سابقا من هذا
الوجه ولو استويا لم يمكن القضاء بالشراء
لإقران العتق به فإن معتق البعض لا يحتمل
البيع فلهذا جعلنا بينتها أولى وإن وقتت
البينتان فأولهما أولاهما إن كان العتق أولا
فغير مشكل وإن كان الشراء أولا فلأن المشتري
أثبت الملك لنفسه في وقت لا تنازعه الأمة فيه
ثم هي أثبتت العتق والتدبير من غير المالك
وذلك لا يوجب لها حقا ولو وقتت بينة الشراء
ولم توقت بينة العتق أو التدبير كان العتق
والتدبير أولى لما بينا أن العتق والتدبير يقع
مسلما بنفسه فوجد القبض في أحد الجانبين
والوقت في الجانب الآخر وكان القبض أولى.
فإن كان المشتري قد قبضه فهو أولى لأن تمكنه
من القبض دليل سبق عقده ولأن قبضه معاين وقبض
الآخر ثابت حكما فكان المعاين أولى وحمل فعل
المسلم على الصحة والحل واجب ما أمكن إلا أن
تقوم البينة أن العتق أول أو وقتوا وقتا يعرف
أنه أول فحينئذ يكون العتق أولي لانعدام
مزاحمة المشتري في ذلك الوقت وكذلك إن لم يوقت
بينة الشراء إلا أن المشتري قد قبضه فهو أولى
لما بينا أن قبضه دليل تقدم عقده إلا أن تقوم
البينة أن العتق أول وكذلك الهبة والصدقة مع
العتق في جميع ما ذكرنا من التفريع لأن الهبة
والصدقة مع القبض موجبة للملك كالشراء.
ولو كانت الدار أو الأمة في يد رجل فأقام آخر
البينة أن ذا اليد وهبها له وقبضها منه وأقام
ذو اليد البينة على المدعي بمثل ذلك فإنه يقضي
بها لذي اليد أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله لتهاتر البينتين كما بينا وعند
محمد رحمه الله لأن الشهود شهدوا بالقبض
فانقضا وقبض الخارج دليل سبق عقده وقيام قبض
ذي اليد دليل بآخر عقده .
ولو ادعى رجل أنه اشترى الأمة من ذي اليد بألف
درهم وأنه أعتقها وأقام البينة، وأقام
ج / 17 ص -57-
آخر
البينة على الشراء منه أيضا فإنه يقضي بها
لصاحب العتق لأن سببه يتأكد بالعتق حتى لا
يحتمل النقض ولأن العتق قبض منه فإن المشتري
إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا وقد
بينا أن أحد المشتريين إذا أثبت القبض كان هو
أولى ولو ادعى رجل هبة مقبوضة وادعى الآخر
صدقة مقبوضة وأقام البينة فإن وقتت إحدى
البينتين ولم توقت الأخرى قضيت بها لصاحب
الوقت لأن كل واحد منهما أثبت سبب ملك حادث
فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات وقد أثبت
أحدهما تاريخا سابقا بالتوقيت فيقضي بها له.
وإن كانت في يد من لم يوقت شهوده قضيت بها له
لأن قبضه دليل سبق عقده وهو دليل معاين والوقت
في حق الآخر مخبر به وليس الخبر كالمعاينة إلا
أن يقيم الآخر البينة أنه أول فحينئذ يكون هو
أولى لإثبات الملك في وقت لا ينازعه فيه صاحبه
وإن لم يكن هناك تاريخ ولا قبض معاين لأحدهما
ففيما لا يقسم يقضي بينهما نصفان لاستوائهما
في سبب الاستحقاق وفيما يحتمل القسمة كالدار
ونحوه تبطل البينتان جميعا إذا لم يكن فيها ما
يرجح إحداهما من قبض أو تاريخ لأنا لو عملنا
بها قضينا لكل واحد منهما بالنصف الآخر والهبة
والصدقة في مشاع تحتمل القسمة لا تجوز قيل هذا
على قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله ينبغي أن يقضي لكل
واحد منهما بالنصف على قياس هبة الدار من
رجلين وقيل ينبغي على قولهم جميعا أن يقضي لكل
واحد منهما بالنصف لأن كل واحد منهما أثبت
قبضه في الكل ثم الشيوع بعد ذلك طارى ء وذلك
لا يمنع صحة الهبة والصدقة والأصح أن المذكور
في الكتاب قولهم جميعا لأنا لو قضينا لكل واحد
منهما بالنصف إنما يقضي بالعقد الذي شهد به
شهوده وعند اختلاف العقدين لا تجوز الهبة من
رجلين عندهم جميعا وإنما يثبت الملك بقضاء
القاضي ويكون الشيوع في الملك المستفاد بالهبة
مانع صحتها.
وإذا اختصم رجلان في دابة أو عرض من العروض
كائنا ما كان وهو قائم بعينه فإن القاضي لا
يسمع من واحد منهما البينة والدعوى حتى يحضرا
ذلك الذي اختصما فيه لأن إعلام المدعي شرط
لصحة الدعوى والشهادة وتمام الإعلام بالإشارة
إلى العين وإحضار ما ينقل بيسر فيؤمر ذو اليد
بإحضاره .
ولا يقال كيف كلف إحضاره ولم يثبت الاستحقاق
عليه لأن بالإجماع يكلف الحضور بنفسه وإن لم
يثبت عليه شيء بعد نظرا للمدعي ليتمكن من
إثبات حقه فكذلك يكلف بإحضار العين إذ ليس
عليه فيه كثير ضرر إلا أن يكون المدعي عقارا
فحينئذ إحضاره متعذر فيقام ذكر الحدود في
الدعوى والشهادة مقام الإشارة إلى العين لأنه
هو المتيسر والواجب من التعريف في كل محل
القدر المتيسر وهو نظير ذكر الاسم والنسب في
حق الغائب والميت وإن كان العين المدعي
مستهلكا فحينئذ يتعذر إحضاره فيقام ذكر الوصف
والقيمة مقام الإشارة إلى العين في صحة الدعوى
والشهادة ولأن المدعي هنا في الحقيقة دين في
الذمة وهو القيمة فإعلامه بذكر صفته وقيمته
والله أعلم.
ج / 17 ص -58-
باب الدعوى في النتاج
قال رحمه الله: دابة في يد رجل ادعاها آخر أنها دابته نتجها عنده وأقام البينة على
ذلك وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك قضي بها
لذي اليد استحسانا وفي القياس يقضي بها للخارج
وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله ووجهه أن مقصود
كل واحد منهما إثبات الملك حتى لا يصير خصما
إلا بدعوى الملك لنفسه وفيما هو المقصود بينة
ذي اليد لا تعارض بينة الخارج كما بينا في
دعوى الملك المطلق ولا فرق بينهما فإن إقامة
البينة على الملك المطلق توجب الاستحقاق من
الأصل كإقامة البينة على النتاج إلا أنا
استحسنا للأثر وهو ما رواه أبو حنيفة رحمه
الله عن الهيثم عن رجل عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنه أن رجلا ادعى ناقة بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم على رجل وأقام البينة
أنها ناقته نتجها وأقام ذو اليد البينة أنها
دابته نتجها فقضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بها للذي هي في يديه ولأن يد ذي البينة
لا تدل على أولوية الملك فهو يثبت ببينته ما
ليس بثابت فوجب بظاهر يده فوجب قبول البينة ثم
تترجح بيده بخلاف الملك المطلق فإن هناك لا
يثبت ببينته إلا ما هو ثابت له بظاهر يده فوجب
قبول بينته.
ومعنى هذا الكلام وهو أن حاجة ذي اليد إلى دفع
بينة الخارج وفي إقامته البينة على النتاج ما
يدفع بينة الخارج لأن النتاج لا يتكرر فإذا
أثبت أنه نتجها اندفع استحقاق الخارج ضرورة
فأما في الملك المطلق فليس في بينته ما يدفع
بينة الخارج لأن ملكه في الحال لا يبقى ملكا
كان للخارج فيه من قبل فلهذا عملنا بينة
الخارج هناك وكان عيسى بن إبان رحمه الله يقول
الطريق عندي في النتاج تهاتر البينتين لتيقن
القاضي بكذب أحدهما إذ لا تصور لنتاج دابة من
دابتين فإنما يقضي بها لذي اليد فصار ترك
لتهاتر البينتين وهذا ليس بصحيح فقد ذكر في
الخارجين أقام كل واحد منهما البينة على
النتاج إنما يقضي بها بينهما نصفين ولو كان
الطريق ما قال لكان يترك في يد ذي اليد وكذلك
لو كانت الشاة المذبوحة في يد أحدهما وسقطها
في يد الآخر وأقام كل واحد منهما البينة على
النتاج فيما يقضي بها وبالسقط لمن في يده أصل
الشاة ولو كان الطريق تهاتر البينتين لكان
يترك في يد كل واحد منهما ما في يده ولا معنى
لقوله بأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين لأن
الشهادة على النتاج ليس بمعاينة الانفصال في
الأم بل بدونه الفصيل يتبع الناقة فكل واحد من
الفريقين اعتمد سببا صحيحا لأداء الشهادة فيجب
العمل بها ولا يصار إلى التهاتر بمنزلة شهادة
الفريقين على الملكين
وكذلك لو كانت الدعوى في العبد والأمة وأقام
كل واحد منهما البينة على الولادة في ملكه
فهذا والنتاج في الدابة سواء وكذلك إذا أقام
كل واحد منهما البينة أنه ثوبه نسجه فإن النسج
في الثوب يوجب أولوية الملك فيه وهو لا يتكرر
كالنتاج في الدابة إلا أن يكون الثوب بحيث
ينسج مرة بعد مرة كالخز ينسج ثم ينكث فيغزل
ثانيا فحينئذ يقضي به
ج / 17 ص -59-
للخارج
والحاصل أن النتاج مخصوص من القياس بالسنة فلا
يلحق به إلا ما في معناه من كل وجه فأما ما
ليس في معناه إلا من بعض الوجوه لا يلحق به
لأنه لو ألحق به كان بطريق القياس ولا يقاس
على المخصوص من القياس لأن قياس الأصل يعارضه
وكل قياس لا ينفك عما يعارضه فهو باطل إذا ثبت
هذا فنقول ما لا يتكرر فهو في معنى النتاج من
كل وجه فيلتحق به ويكون إثبات الحكم فيه
بدلالة النص وما يتكرر ليس في معنى النتاج من
كل وجه فيعاد فيه إلى أصل القياس .
قال:
ولو ادعى الدابة خارجان أقام كل واحد منهما
البينة أنها دابته نتجها عنده ويقضي بها
بينهما نصفين لاستوائهما في سبب الاستحقاق فإن
وقتت بينة أحدهما ولم توقت بينة الآخر وهي
مشكلة السن قضي بها بينهما نصفين لأن الذي لم
يوقت أثبت ملكه فيها من حين وجدت والملك لا
يسبق الوجود فلم يكن التوقيت مفيدا شيئا في حق
من وقته إذا كانت مشكلة السن فكان ذكره كعدم
ذكره.
فإن كان السن على أحد الوقتين وقد وقتت بينة
كل واحد منهما وقتا قضيت بها لمن وافق توقيته
سن الدابة ولا عبرة بالأول والآخر لأن علامة
الصدق ظهرت في شهادة من وافق سن الدابة توقيته
وعلامة الكذب تظهر في شهادة الفريق الآخر
فيقضي بالشهادة التي ظهر فيها علامة الصدق وإن
كانت على غير الوقتين أو كانت مشكلة قضيت بها
بينهما نصفين.
من مشايخنا
رحمهم الله من قال: جمع في السؤال بين الفصلين ثم أجاب عن أحدهما وهو ما إذا كانت
مشكلة فأما إذا كان سنها على غير الوقتين يعلم
ذلك ظهر بطلان البينتين على قياس ما تقدم إذا
كان المدعي واحدا ووقت شهوده الملك منذ عشر
سنين وهي بنت ثلاثين سنة أن بينته باطلة فكذلك
هنا إذا كان سنها على غير الوقتين فقد علم
القاضي بمجازفة الفريقين وكذبهما في الشهادة
وقد فعل محمد رحمه الله مثل هذا في الكتب جمع
بين السؤالين ثم أجاب عن أحدهما وترك الآخر في
النكاح والإجارات وغيرهما أو يكون معنى قوله
أو كانت مشكلة أو تأتي بمعنى الواو قال الله
تعالى:{أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] معناه ويزيدون فهنا أيضا معناه إذا كان على غير
الوقتين وكانت مشكلة فحينئذ الجواب صحيح
والأصح أن يقول جوابه صحيح للفصلين أما إذا
كانت مشكلة فلا شك فيه.
وكذلك إذا كانت على غير الوقتين لأن اعتبار
ذكر الوقت لحقهما وفي هذا الموضع في اعتباره
إبطال حقهما فيسقط اعتبار ذكر الوقت أصلا
وينظر إلى مقصودهما وهي إثبات الملك في الدابة
وقد استويا في ذلك فوجب القضاء به بينهما
نصفان لأنا لو اعتبرنا التوقيت بطلت البينتان
وبقيت في يد ذي اليد وقد اتفق الفريقان على
استحقاقهما على ذي اليد فكيف يترك في يده مع
قيام حجة الاستحقاق عليه وإن أقام ذو اليد
البينة على النسج والثياب والنتاج والملك له
وأقام الخارج البينة على مثل ذلك قضيت بها لذي
اليد على
ج / 17 ص -60-
المدعي
لأن البينتين استويا فيترجح ذو اليد بحكم يده
وإن وقتت البينتان في الدابة وقتين فإن كانت
الدابة على وقت بينة المدعي قضيت بها له لأن
علامة الصدق ظهرت في شهادة شهوده وعلامة الكذب
ظهرت في شهادة شهود ذي اليد وإن كانت الدابة
على وقت بينة ذي اليد أو كانت مشكلة قضيت بها
لذي اليد إما لظهور علامة الصدق في شهوده أو
لسقوط اعتبار التوقيت إذا كانت مشكلة.
قال:
وإذا كان الثوب في يد رجل فأقام خارج البينة
أن ثوبه نسجه وأقام ذو اليد البينة على مثل
ذلك فإن كان يعلم أن مثل هذا لا ينسج إلا مرة
فهو لذي اليد وإن كان يعلم أنه ينسج مرة بعد
مرة فهو للخارج لأن هذا ليس في معنى النتاج
وإن كان مشكلا لا يستبين أنه ينسج مرة أو
مرتين قضيت به للمدعي وهذا قول محمد رحمه الله
وفي بعض نسخ الأصل قال وهذا قول أبي حنيفة
رحمه الله ولا خلاف بينهم في الحاصل وكان
المعنى فيه أنه ليس في معنى النتاج لأن النتاج
يعلم أنه لا يكون إلا مرة فما يكون إلا مشكلا
لا يكون في معنى ما هو معلوم حقيقة من كل وجه
فيؤخذ فيه بأصل القياس ويقضي به للمدعي.
وكذلك إن كانت المنازعة في نصل سيف وأقام كل
واحد منهما البينة أنه سيفه ضربه فإنه يسأل
أهل العلم بذلك من الصياقلة لأن هذا مشكل على
القاضي فيسأل عنه من له علم به لقوله تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ
لا تَعْلَمُونَ}[النحل: من الآية43] وقال النبي الله صلى الله عليه وسلم "لا
تنازعوا الأمر أهله" فإن قالوا لا يضرب إلا
مرة يقضى به لذي اليد وإن قالوا يضرب مثله
مرتين أو أشكل عليهم فلم يعرفوا يقضي به
للمدعي لأن هذا ليس في معنى النتاج من كل وجه
قال:
ولو كانت الدعوى في غزل بين امرأتين يقضي به
للذي هو في يديها لأن القطن لا يغزل إلا مرة
فكان هذا في معنى النتاج وبهذه المسألة
استدلوا على أن من غصب قطنا فغزله بملكه فإن
المذكور في كتاب الغصب إذا غزله ونسجه ولم
يذكر هذا الفصل ولما جعله هنا في معنى النتاج
من كل وجه والنتاج سبب لأولية الملك في الدابة
عرفنا أن الغزل سبب لا ولية الملك في المغزول
للذي غزله وفي الشعر إذا كان مما ينقض ويغزل
يقضي به للمدعي وكذلك المرعزي لأنه ليس في
معنى النتاج وكذلك في الحلى يقضي به للمدعي
لأنه يصاغ مرتين فإن أقاما البينة على خطة
الدار قضيت بها للمدعي لأن الخطة قد تكون غير
مرة فإنه عبارة عن قسمة الإمام عند الفتح يخط
لكل واحد من الغانمين خطا في موضع معلوم يملكه
ذلك بالقسمة فيكون خطه له وهذا وهذا قد يكون
غير مرة بأن يرتد أهلها وتصير محكومة بأنها
دار الشرك لوجود شرائطها ثم يظهر عليها
المسلمون ثانية فيقسمها الإمام بالخط لكل واحد
منهم كما بينا
قال:
وإن كانت الدعوى في صوف فأقام كل واحد منهما
البينة أن له جزة من غنمه فإنه يقضي به لذي
اليد لأن الجز لا يكون إلا مرة واحدة وكذلك
المرغزي والجز والشعر,
ج / 17 ص -61-
فكان
هذا في معنى النتاج فإن قيل كيف يكون الجز في
معنى النتاج وهو ليس بسبب لأولية الملك فإن
الصوف وهو على ظهر الشاة كان مملوكا له فكان
مالا ظاهرا قبل الجز قلنا نعم ولكن كان وصفا
للشاة ولم يكن مالا مقصودا إلا بعد الجز ولهذا
لا يجوز بيعه قبل الجز وأن ما تنازعا فيه مال
مقصود .
قال
:وإذا كانت الأرض والنخل في يد رجل فأقام آخر
البينة أنه نخله وأرضه وأنه غرس هذا النخل
فيها وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك يقضي
بها للمدعي وكذلك الكروم والشجر لأن أصل
المنازعة في ملك الأرض فإن النخل بمنزلة البيع
للأرض حتى يدخل في بيع الأرض من غير ذكر وليس
لواحد منهما في الأرض معنى النتاج ولأن النخل
يغرس غير مرة فقد يغرس الثالثة إنسان ثم
يقلعها غيره ويغرسها فلم يكن في معنى النتاج
وإن كانت الدعوى في الحنطة وأقام كل واحد
منهما البينة أنها حنطة زرعها في أرضه قضيت
بها للمدعي لأن الزرع قد يكون غير مرة فإن
الحنطة قد تزرع في الأرض ثم يغربل التراب
فيميز الحنطة ثم تزرع ثانية فلم يكن هذا في
معنى النتاج.
وكذلك لو كانت أرض فيها زرع فأقام كل واحد
منهما البينة أن الأرض والزرع له وأنه زرعها
يقضي بها للمدعي لأن أصل المنازعة في ملك
الأرض وليس لواحد منهما فيها معنى النتاج
وكذلك قطن أو كتان في يد رجل أقام هو مع خارج
كل واحد منهما البينة أنه له زرعه في أرضه
فإنه يقضي به للمدعي لما بينا أن الزرع قد
يكون غير مرة وكذلك كل ما يزرع مما يكال أو
يوزن قال وهذا لا يشبه الصوف والمرعزي لأن
الرجل قد يزرع في أرض غيره ويكون للزارع ولا
يستحقه رب الأرض بخروجه من أرضه وأما الصوف
والمرعزي لا يكون إلا لصاحب الغنم فمن ضرورة
كون الشاة التي في يد ذي اليد مملوكة له أن
يكون الذي جز منها مملوكا له وليس من ضرورة
كون الزرع في أرض هي مملوكة لذي اليد أن يكون
الزرع مملوكا له ولأن الجز في معنى النتاج
والزرع ليس في معناه لاحتمال التكرر فلهذا
قضينا به للمدعي .
قال:
ولو كان القطن شجرا ثابتا في أرض في يد رجل
فأقام آخر البينة أنها أرضه وأنه زرع هذا
القطن فيها وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك
يقضي بها للمدعي لأن أصل المنازعة في الأرض
وليس لواحد منهما فيها معنى النتاج وكذلك لو
كانت هذه المنازعة في دار وأقام كل واحد منهما
البينة أنها داره بناها بماله يقضي بها للمدعي
لأن البناء يكون مرة بعد مرة ولم يكن في معنى
النتاج .
قال
:ولو كانت أمة في يد رجل ادعاها آخر أنها أمته
وأنها ولدت عنده في ملكه من أمته في يديه
وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك يقضي بها
لذي اليد لأن الولادة في بني آدم كالنتاج في
البهائم ولو كان المدعي أقام البينة على أمها
التي عند المدعى عليه أنها أمته وأنها ولدت
هذه في ملكه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك
قضيت بها وبأمها للمدعي لأن
ج / 17 ص -62-
أصل
الدعوى في الأم وليس لواحد منهما فيها معنى
النتاج فوجب القضاء بها للمدعي ثم الولد يملك
بملك الأم وكان من ضرورة القضاء بالأم للمدعي
القضاء بالولد له وكذلك لو كانت الدعوى في صوف
فأقام المدعي البينة أنه جزة من شاته هذه وهي
في ملكه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك من
شاة أخرى في يده قضيت بها لذي اليد ولو أقام
المدعي البينة على الشاة أنها في يد المدعى
عليه أنها شاته وأنه جز هذا الصوف في ملكه
منها وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك قضيت
بها للمدعي لأن الدعوى في أصل الشاة فإنما
أثبت كل واحد منهما بالبينة الملك المطلق فيها
فتترجح بينة المدعي ثم الصوف يملك بملك الأصل.
فإن قيل: قد يكون الصوف والولد لغير صاحب الأصل بأن يوصي بما في بطن جاريته
للإنسان وبرقبتها لآخر أو يوصي بالشاة لإنسان
وبصوفها لآخر قلنا لا كذلك فالولد والصوف يملك
بملك الأصل إلا أن يملك غيره بسبب ينشئه مالك
الأصل من وصية أو غيره .
قال:
عبد في يدي رجل فأقام آخر البينة أنه عبده ولد
في ملكه من أمته هذه ومن عبده هذا وأقام ذو
اليد البينة على مثل ذلك فإنه يقضي به للذي هو
في يديه لإثباته أولية الملك لنفسه فيه فيكون
بن عبده وأمته دون بن عبد الآخر وأمته لأن
بينته لما ترجحت بالقضاء بالملك صارت البينة
الأخرى مدفوعة لا يقضى بها بالنسب كما لا يقضى
بها بالملك وإن أقام الخارج البينة أنه عبده
اشتراه من فلان وأنه ولد في ملك بائعه وأقام
ذو اليد البينة أنه عبده اشتراه من فلان آخر
وأنه ولد في ملكه قضي به لذي اليد لأن كل واحد
منهما خصم في إثبات نتاج بائعه كما هوخصم في
إثبات ملك بائعه ولو حضر البائعان وأقام
البينة على النتاج كان ذو اليد أولى فهذا مثله
وكذلك لو أقام الخارج البينة على نتاج بائعه
وأقام ذو اليد البينة على النتاج في ملكه
فبينة ذي اليد أولى لما بينا.
وكذلك لو أقام البينة على وراثة أو وصية أو
هبة مقبوضة من رجل وأنه ولد في ملك ذلك الرجل
لأنه يتلقى الملك من جهة مورثه وموصيه فيكون
خصما عنه في إثبات نتاجه.
ولو كان عبد في يدي رجل فأقام آخر البينة أنه
عبده ولد في ملكه ولم يسموا أمه وأقام آخر
البينة أنه عبده ولد عنده من أمه هذه فإنه
يقضي للذي أمه في يديه لأن البينات تترجح
بزيادة الإثبات وفي بينة من عين أمه زيادة وهو
إثبات نسبه من أمه فيترجح بذلك فإن شهد الشهود
لذي اليد أنه له ولد في ملكه من أمته هذه لأمة
أخرى قضي به لذي اليد لأن بينة الخارج في
الولادة لا تعارض بينة ذي اليد سواء حصل من
واحدة أو من اثنتين فأما أمه فإنه يقضى بها
للذي العبد في يده الذي أقام البينة عليه لأنه
لامزاحم له في الأم بحجة يقيمها على إثبات
الملك فيه فلهذا قضيت بها للذي العبد في يديه
الذي أقام البينة .
قال:
وإن كان عبد في يد رجل فأقام آخر البينة أنه
عبده ولد في ملكه من أمته هذه ومن عبده هذا
وأقام آخر البينة على مثل ذلك فإنه يقضي بها
بينهما نصفان لاستوائهما في الحجة على الولادة
في الملك ثم قال ويكون الابن من الأمتين
والعبدين جميعا فأما ثبوت
ج / 17 ص -63-
نسبه
من العبدين فهو على قول علمائنا وعلى قول
الشافعي رحمه الله لا يثبت نسب الولد من رجلين
بحال حرين كانا أو عبدين ادعيا لقيطا أو ولد
جارية بينهما ولكنه يرجع إلى قول القائف فإن
قال القائف أنه ابنه يثبت النسب منه.
وإن كان موضعا لا يوجد القائف فيه يقرع بينهما
ويقضي بالنسب لمن خرجت قرعته واحتج في المنع
من ثبوت النسب من اثنين أن ثبوت نسب المولود
من الوالد بكونه مخلوقا من مائه ونحن نتيقن
أنه غير مخلوق من ماء رجلين لأن كل واحد منهما
أصل للولد كالأم بمنزلة البيض للفرخ والحب
للحنطة فكما لا يتصور فرخ واحد من سنبلة واحدة
من حبتين فكذلك لا يتصور ولد واحد من مائين
وهذا لأن وصول المائين إلى الرحم في وقت واحد
لا يتصور وإذا وصل أحد المائين في الرحم ينسد
فم الرحم فلا يخلص إليه الماء الثاني فإذا
تعذر القضاء بالنسب منهما جميعا يرجع إلى قول
القائف لحديث عائشة رضي الله عنها قالت دخل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسارير
وجهه تبرق من السرور وقال: "أما ترين يا عائشة
أن مجزر المدلجي مر بأسامة وزيد وهما نائمان
تحت لحاف واحد قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما
فقال هذه الأقدام بعضها من بعض" فسرور رسول
الله صلى الله عليه وسلم بقول القائف دليل على
أن قوله حجة في النسب ولأن القائف يعتبر الشبه
وللشبه في الدعاوي عبرة كما قلتم في متاع
البيت إذا اختصم فيه الزوجان فما يصلح للرجال
فهو للرجل وما يصلح للنساء فهو للمرأة وكذلك
إذا اختلف الآجر والمستأجر في ملك لوح موضوع
في الدار فإن كان تصاويره تشبه تصاوير ما في
السقف وموضعه ظاهر فالقول قول الآجر وإن كان
يخالف ذلك فالقول قول المستأجر وفي الموضع
الذي لا يوجب القائف يسار إلى الإقراع كما هو
مذهبه في جواز استعمال القرعة لتعيين المستحق
عند الإقرار وقد استعمله علي رضي الله عنه في
دعوى النسب حين كان باليمن .
وحجتنا في إبطال المصير إلى قول القائف أن
الله تعالى شرع حكم اللعان بين الزوجين عند
نفي النسب ولم يأمر بالرجوع إلى قول القائف
فلو كان قوله حجة لأمر بالمصير إليه عند
الاشتباه ولأن قول القائف رجم بالغيب ودعوى
لما استأثر الله عز وجل بعلمه وهو ما في
الأرحام كما قال الله تعالى
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:34] ولا برهان له على هذه الدعوى وعند انعدام البرهان كان في
قوله قذف المحصنات ونسبة الأولاد إلى غير
الآباء ومجرد الشبه غير معتبر فقد يشبه الولد
أباه الأدنى وقد يشبه الأب الأعلى الذي
باعتباره يصير منسوبا إلى الأجانب في الحال
وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أتاه رجل فقال أنا أسود شديد السواد وقد ولدت
امرأتي ولدا أبيض فليس مني فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم
"هل لك من إبل"؟ فقال نعم فقال الله صلى الله عليه وسلم "ما لونها"؟
قال حمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هل فيها من أورق"؟ فقال
نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من ذاك"؟ فقال لعل عرق نزع أو فقال صلى الله عليه وسلم: "ولعل هذا عرقا نزع" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا عبرة للشبه وفي متاع البيت
عندنا الترجيح بالاستعمال لا بالشبه وفي اللوح
الترجيح بالظاهر لا بالشبه
ج / 17 ص -64-
ألا
ترى أن إسكافا وعطارا لو تنازعا في أداة
الأساكفة لا يترجح الإسكاف بالشبه وثبوت نسب
أسامة رضي الله عنه كان بالفراش لا بقول
القائف إلا أن المشركين كانوا يطعنون في ذلك
لاختلاف لونهما وكانوا يعتقدون أن عند القافة
علم بذلك وإن بني المدلج هم المختصون بعمل
القيافة ومجز ريشهم فلما قال ما قال كان قوله
رد الطعن المشركين فإنما سر به رسول الله صلى
الله عليه وسلم لهذا لا لأن قول القائف حجة في
النسب شرعا فأما الدليل على إثبات النسب منهما
حديث عمر وعلي رضي الله عنهما حين قال في هذه
الحادثة إن لبسا فلبس عليهما ولو بينا لبين
لهما هو أبنهما يرثهما ويرثانه وهو للباقي
منهما والمعنى فيه أنهما استويا في سبب
الاستحقاق والمدعي قابل للاشتراك فيستويان في
الاستحقاق وبيان ذلك أن ثبوت النسب من الرجل
باعتبار الفراش لا بحقيقة انخلاقه من مائة لأن
ذلك لا طريق إلى معرفته ولا باعتبار الوطء
لأنه سر عن غير الواطئين فأقام الشرع الفراش
مقامه تيسيرا فقال صلى الله عليه وسلم
"الولد للفراش" وكل واحد
من البينتين يعتمد على ما علم به من الفراش.
والحكم المطلوب من النسب الميراث والنفقة
والحضانة والتربية وهو يحتمل الاشتراك فيقضي
به بينهما وهو الجواب عن قوله أنه لا يتصور
خلاق الولد من المائين فإن السبب الظاهر متى
أقيم مقام المعنى الخفي تيسيرا سقط اعتبار
معنى الباطن مع أن ذلك يتصور بأن يطأها أحدهما
فلا يخلص الماء إلى أحدهما حتى يطأها الثاني
فيخلص الماآن إلى الرحم معا ويختلط الماآن
فيتخلق منهما الولد بخلاف البيضتين والحبتين
لأنه لا تصور للاختلاط فيهما.
قال:
وإن كان المدعي للنسب أكثر من اثنين فعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله يثبت منهم وإن كثروا أخذا
بالقياس كما قررنا وعند أبي يوسف رحمه الله لا
يثبت فيما زاد على المثني لأن ثبوته من اثنين
بحديث عمر وعلي رضي الله عنهما ففيما زاد على
ذلك يوجد بأصل القياس الذي قرره الخصم
لاستحالة إثبات نسب من عشرة أو أكثر ومحمد
رحمه الله يقول يثبت من ثلاثة لأنها أدنى
الجمع ولا نهاية للزيادة على الثلاثة فالقول
به يؤدي إلى التفاحش فاعتبرت أدنى الجمع وقلت
يثبت من ثلاثة ولا يثبت من أكثر من ذلك فأما
في الأمتين يثبت النسب عند أبي حنيفة رحمه
الله وكذلك من الحرتين إذا ادعتا لقيطا
وأقامتا البينة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله لا يثبت النسب من المرأتين بحال وحجتهما
في ذلك أن ثبوت النسب من المرأة بسبب انفصال
الولد عنها ولهذا يثبت من الزانية وهذا سبب
معاين يوقف عليه فيعتبر حقيقته ولا تصور
لانفصال ولد واحد من المرأتين فيتيقن بكذب أحد
الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب فتبطل
البينتان بخلاف الرجلين فسبب ثبوت النسب من
الرجل الفراش على ما قررنا.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: نعم حقيقة هذا
النسب من امرأتين محال ولكن المقصود من النسب
حكمه لا عينه وهو الحضانة والتربية من جانب
الأم وهذا الحكم قابل للاشتراك فيقبل البينتان
لإثبات الحكم ويكون ذكر السبب كناية عن الحكم
مجازا وهو نظير ما قاله أبو
ج / 17 ص -65-
حنيفة
رحمه الله فيمن قال لعبده وهو أكبر سنا منه
هذا ابني يعتق عليه وإن كان صريح كلامه محالا
ولكن يجعل كناية عن حكمه مجازا وما قالا يبطل
بدعوى النتاج فإن ولادة شاة واحدة من شاتين
حقيقة محال ومع ذلك إذا أثبت الخارجان ذلك
بالبينة يقضي بالحكم المطلوب وهو الملك لأنه
قابل للاشتراك فهذا مثله.
قال:
وإذا كان قباء محشوا في يد رجل فأقام رجل
البينة أنه له قطعه وحشاه وخاطه في ملكه وأقام
ذو اليد البينة على مثل ذلك فإنه يقضي به
للمدعي لأن الحشو والخياطة قد تكون غير مرة
فلم تكن في معنى النتاج وكذلك الحبة المحشوة
والفرو وكل ما يقطع من الثياب والبسط والأنماط
والوسائد لأن هذا مما يتكرر وكذلك الثوب
المصبوغ بالعصفر أو الزعفران أو الورس إذا
أقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة
على أن له صبغه في ملكه لأن الثوب يصبغ غير
مرة وقد يصبغ على لون ثم يصبغ على لون آخر فلم
يكن ذلك في معنى النتاج وكذلك أواني الصفر
والحديد يقضي به للمدعي إلا أن يعلم أنه لا
يصبغ إلا مرة فحينئذ يكون في معنى النتاج
وكذلك الأبواب والسرر والكراسي إذا أقام كل
واحد منهما البينة أنه يجره في ملكه فإن كان
ذلك لا يكون إلا مرة واحدة يقضي به لذي اليد
لأنه يكون في معنى النتاج فإن كان يكون غير
مرة أو لا يعلم يقضي بها للمدعي لأنه ليس في
معنى النتاج وعلى هذا الخفاف والنعال
والقلانس.
قال:
ولو كانت الدعوى في سمن أو زيت أو دهن وأقام
كل واحد منهما البينة أنه له عصره وسلاه في
ملكه فإنه يقضي به لذي اليد لأن هذا لا يكون
إلا مرة واحدة فهو في معنى النتاج وكذلك
السويق والعصير والخل والجبن وأشباه ذلك وأما
الشاة المسلوقة إذا أقام كل واحد منهما البينة
أنها شاته ضحى بها وسلخها فإنه يقضي بها
للمدعي لأن الذبح والسلخ ليس بسبب للملك ألا
ترى أن الغاصب لا يملك به فلم يكن هذا في معنى
النتاج في إثبات أولية الملك به فلهذا قضينا
به للمدعي.
قال: وإن أقام خارجان البينة دعوى الدابة أحدهما على الملك المطلق
والآخر على النتاج فإنه يقضي بها لصاحب النتاج
لإثباته أولية الملك لنفسه فإنها لا تتملك إلا
من جهته والآخر لا يدعي تملكها من جهته وفي
الكتاب قال عن شريح رحمه الله الناتج أحق من
العارف يعني بالعارف الخارج الذي يدعي ملكا
مطلقا ولو كانت الدعوى في لحم مشوي أو سمكة
مشوية وأقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما
البينة أنه شواه في ملكه يقضي بها للمدعي لأن
الشي قد يكون غير مرة فإن اللحم يشوى ثم يعاد
ثانيا فلم يكن في معنى النتاج وكذلك المصحف
إذا أقام كل واحد منهما البينة أنه مصحفه كتبه
في ملكه يقضي به للمدعي لأن الكتابة ليست بسبب
للملك ولكنه قد يتكرر يكتب ثم يمحي ثم يكتب
فلهذا قضينا به للمدعي .
قال ولو كانت الدعوى في أمة فأقام أحد
الخارجين البينة أنها أمته ولدت في ملكه وأقام
آخر البينة أنها أمته سرقت منه فإنه يقضي بها
لصاحب الولادة وكذلك لو شهد شهود
ج / 17 ص -66-
السرقة
أنها أمته أبقت منه أو غصبها إياه ذو اليد فهي
لصاحب الولادة لأن في بينته إثبات أولية الملك
وليس في البينة الأخرى ذلك فكان استحقاقه
سابقا وكذلك في الدابة إذا شهد شهود أحدهما
بالنتاج وشهود الآخر أنها دابته أجرها من ذي
اليد أو أعارها أو رهنها إياه فهي لصاحب
النتاج لأن في شهادة شهوده دليل سبق ملكه.
قال:
وإذا كان الثوب في يد رجل فأقام آخر البينة
أنه نسجه ولم يشهدوا أنه له لم يقض له به لأنه
لم يشهدوا له بالملك نصا فقد ينسج الإنسان ثوب
الغير بإذنه ولا يملكه كالنساج ينسج ثياب
الناس وكذلك لو أقام البينة في دابة أنها نتجت
عنده أو في أمة أنها ولدت عنده فليست هذه
اللفظة شهادة بالملك للمدعي فلا يستحق به شيئا
وكذلك لو شهدوا أنها ابنة أمته فليس في هذا
اللفظ شهادة بالملك له إنما فيه شهادة بالنسب
ألا ترى أنه قد يشتري أمة ولها ابنة في يد
غيره فهي ابنة أمته ولا تكون مملوكة له أو
بشيء بعد الانفصال عنها فهي ابنة أمته ولا
تكون مملوكة له وكذلك لو شهدوا على ثوب أنه
غزل من قطن فلان ونسج لم يقض له به لأن ملك
القطن لا يكون سببا لملك الغزل والثوب وأن
الغاصب إذا غزل القطن ونسجه كان الثوب مملوكا
له وإن لم يكن مالكا للقطن والمغصوب منه كان
مالكا للقطن ولا يملك الثوب به فليس في هذا
اللفظ شهادة بالملك له نصا فإن قال أنا أمرته
أن يغزل وينسج قضي له بالثوب لأن عمل الغير
بأمره كعمله بنفسه والذي غزله ونسجه بإنكاره
الأمر يدعي بملكه عليه فلا يصدق إلا بحجة.
ولو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع حصد من أرض
فلان فأراد صاحب الأرض أخذ الحنطة لم يكن له
ذلك وفي رواية أبي حفص رحمه الله قال له أن
يأخذ الحنطة لأنهم أضافوا الأرض إليه ملكا
ويدا فما في أرضه من الزرع يكون في يده وهذا
بمنزلة شهادتهم أنه أخذها من يده فيؤمر بالرد
عليه وجه رواية أبي سليمان رحمه الله أنهم ما
شهدوا بالملك له في الزرع إنما أضافوا الأرض
إليه بالملكية وقد تكون الأرض مملوكة له
والزرع الذي فيها لغيره كمن غصب أرضا فزرعها
وكذلك ما شهدوا باليد في الزرع ولا في الأرض
نصا فإنه ليس من ضرورة كون الأرض مملوكة له أن
تكون في يده فلهذا لا يستحق شيئا .
وكذلك لو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع كان في
أرضه أو أن هذا التمر من نخل كان في أرضه وأن
هذا الزبيب من كرم كان في أرضه لأنهم ما
أضافوا ما وقع فيه الدعوى إليه ملكا ولا يدا
وقد يكون النخل والكرم في الأرض لغير صاحب
الأرض ملكا ويدا ولو أقر بذلك الذي في يديه
أخذ به لإقراره بالأخذ من ملكه والإقرار
بالأخذ من ملكه بمنزلة الإقرار بالأخذ من يده
فيؤمر بالرد عليه وهذا لأن الإقرار يوجب الملك
بنفسه قبل أن يتصل به القضاء فنوع احتماله فيه
لا يمنعنا من العمل بظاهره فأما الشهادة لا
توجب الحق إلا بقضاء القاضي وإنما يقضي القاضي
بالمشهود به فإذا لم يكن في الشهادة تنصيص على
ملك أو يد للمدعي فالمدعي لا يقضى به له
ج / 17 ص -67-
توضيح
الفرق أن في إقراره بيان أنه كان في يده فكأنه
قال كان في يد هذا أمس فيؤمر بالرد عليه وفي
الشهادة كذلك ولكن لو شهدوا أنه كان في يده
أمس لا يستحق به شيئا قال وإن شهدوا أن هذا
التمر أخذه هذا من نخل فلان قضي له به بمنزلة
ما لو شهدوا أنه أخذه من يد فلان لأن المتصل
بنخله من التمر يكون في يده ولو شهدوا أنه خرج
من نخل فلان وهو يملكه أو أن هذا العبد ولدته
أمة فلان وهو يملكها قضي له بجميع ذلك لأنهم
صرحوا بالولد من ملكه والمتولد من ملك الإنسان
يكون مملوكا له إلى أن يتملكه الغير بسبب عارض
من وصية أو غيرها فكان هذا وشهادتهم بالملك له
في المدعى سواء وكذلك لو شهدوا أن هذه الحنطة
من زرع هذا لأنهم أضافوا إليه بالملكية وشهدوا
أن هذه الحنطة جزء منه فإن من للتبعيض فكان
هذا تنصيصا على الشهادة بالملك له في الحنطة
وكذلك لو شهدوا أن هذا الزبيب من كرم هذا وهذا
التمر من نخل هذا قضي له به لشهادتهم بالتولد
من ملكه .
ولو شهدوا أن فلانا غزل هذا الثوب من قطن فلان
وهو يملك القطن ونسج الثوب فإني أقضي على الذي
غزل مثل ذلك القطن لما بينا أن ملك القطن ليس
بسبب لملك الثوب ولكن من غزل قطن الغير ونسجه
فالثوب له وهو ضامن لمثل ذلك القطن وإن قال
صاحب القطن أمرته بذلك أخذ الثوب لأنهما اتفقا
على أنه كان مالكا للقطن والذي غزل ونسج يدعي
تملكه عليه بالضمان وهو منكر لذلك فكان القول
قوله كما لو ادعى التملك عليه بالبيع فأنكره
وكذلك لو شهدوا أن فلانا طحن هذا الدقيق من
حنطة فلان وهو يملكها قضي عليه بحنطة مثلها
وإن قال رب الحنطة أنا أمرته أخذ الدقيق لما
بينا .
قال:وإذا
كان الدجاج أو الشيء من الطيور في يد رجل
فأقام رجل البينة أنه له فرخ في ملكه وأقام ذو
اليد البينة على مثل ذلك قضي به لذي اليد لأن
هذا في معنى النتاج لا يتكرر ولو أقام المدعي
البينة أن البيضة التي خرجت هذه الدجاجة منها
كانت له لم يقض له بالدجاجة ولكن يقضي على
صاحب الدجاجة ببيضة مثلها لصاحبها لأن ملك
البيضة ليس بسبب لملك الدجاجة فإن من غصب بيضة
وحضنها ذلك تحت دجاجة كان الفرخ للغاصب وعليه
بيضة مثل المغصوبة وهذا لا يشبه الولادة
والنتاج لأن من غصب أمة أو دابة فولدت عنده لا
يملك الولد بل هو لصاحب الأصل وهذا لأن البيضة
بالحضانة تصير مستهلكة فيحال بحدوث الفرخ على
عمل الحضانة بخلاف الدابة والأمة فإنها لا
تصير مستهلكة بالولادة فيكون مملوكا لصاحب
الأصل لتولده من ملكه.
قال ولو غصب دجاجة فباضت عنده فالبيضة لصاحبها
لتولدها من ملكه فإن باضت بيضتين فحضنت
الدجاجة نفسها على أحدهما فخرج منها فرخ
وحضنها الغاصب على الأخرى فخرج منها فرخ
فالفرخ الأول للمغصوب منه مع الدجاجة والفرخ
الآخر للغاصب لأن ماحصل بفعله يصير مملوكا له
وما حصل بفعل الدجاجة نفسها لا صنع للغاصب فيه
فلا يملكه بل يكون لمالك الأصل كما قلنا فيمن
غصب حنطة وزرعها كان
ج / 17 ص -68-
الزرع
له ولو هبت الريح بالحنطة فجعلتها مزروعة في
الأرض كان الزرع لصاحب الحنطة لأن بناء الحكم
على فعل الريح غير ممكن فيجعل مملوكا لصاحب
الأصل ولأن ما حضنها الغاصب صار مستهلكا بفعله
فيكون ضامنا لمثله ويصير مملوكا له بالضمان
فإنما يتولد الفرخ من ملكه فأما ما حضنت
الدجاجة بنفسها لم تصر مضمونة على الغاصب فلا
يملكها فبقي ذلك الفرخ لصاحب الأصل.
قال:ثوب مصبوغ بعصفر في يد رجل فشهد شاهدان أن
هذا العصفر الذي في هذا الثوب لفلان صبغ به
هذا الثوب فلا يدري من صبغه وجحد ذلك صاحب
الثوب فادعى صاحب العصفر أن رب الثوب الذي فعل
ذلك فإنه لا يصدق عليه لأنه يدعي ضمان قيمة
العصفر دينا في ذمته وهو منكر وليس في شهادة
شهوده ما يوجب ذلك فإن ثوب الغير إذا هبت به
الريح والقته في صبغ إنسان فانصبغ كان الصبغ
لصاحبه في الثوب الآخر وليس له أن يضمن صاحب
الثوب شيئا ولكن يقوم الثوب أبيض ويقوم مصبوغا
فإن صاحب الثوب يضمن له ما زاد العصفر في ثوبه
وإلا بيع الثوب فيصرف فيه صاحب الثوب بقيمة
ثوبه أبيض وصاحب العصفر ما زاد العصفر في ثوبه
لأنهما شريكان في الثوب المصبوغ أحدهما بالثوب
والآخر بالعصفر ولكن الثوب أصل والعصفر فيه
وصف فكان الخيار لصاحب الأصل دون صاحب الوصف.
قال وإن كانت الدعوى في لبن فأقام الخارج وذو
اليد كل واحد منهما البينة أنه له ضربه في
ملكه يقضي به للمدعي لأن اللبن يضرب غيره مرة
بأن يضرب ثم يكسر ثم يضرب فلم يكن في معنى
النتاج فلهذا قضي به للمدعي .
قال:وإن كانت الدعوى في جبن فأقام الخارج وذو
اليد كل واحد منهما البينة أنه جبنه صنعه في
ملكه فهو للذي في يديه لأن الجبن لا يصنع إلا
مرة وهو سبب لأولية الملك بمنزلة النتاج.
فهذه المسألة على خمسة أوجه أحدها ما بينا
والثاني إذا أقام كل واحد منهما البينة أن
اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ملكه فيقضي به
للمدعي لأن أصل المنازعة في اللبن وبينة كل
واحد منهما فيه قامت على الملك المطلق والثالث
أن يقيم كل واحد منهما البينة أن حلب اللبن
الذي صنع منه هذا الجبن من شاته في ملكه فيقضي
لذي اليد لأن الحلب في اللبن لا يتكرر فكان في
معنى النتاج والرابع إذا أقام كل واحد منهما
البينة أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع
منه هذا الجبن ملكه فيقضي به للمدعي لأن
المنازعة في ملك الشاة وبينة كل واحد منهما
فيها قامت على المطلق والخامس أن يقيم كل واحد
منهما أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع
منه هذا الجبن شاته ولدت في ملكه من شاته
فالبينة بينة ذي اليد لأن الحجتين قامتا على
النتاج في الشاة التي كانت المنازعة فيها.
قال:ولو كانت الدعوى في آجر أو جص أو نورة
وأقام كل واحد منهما البينة أنه له صنعه في
ملكه قضيت به لذي اليد وكان ينبغي أن يقضي
بالآجر للخارج ويجعل هذا بمنزلة
ج / 17 ص -69-
الشيء
في اللحم ولكنه قال طبخ الآجر لا يتكرر فإنه
بالطبخ الأول يحدث له اسم الآجر فإن أعيد طبخه
بعد ذلك لا يحدث به اسم آخر فعرفنا أنه مما لا
يتكرر وكذلك طبخ الجص والنورة فكان هذا في
معنى النتاج.
قال: فإن كانت الدعوى في جلد شاة وأقام كل
واحد منهما البينة أنه جلده سلخه في ملكه قضي
به لذي اليد لأن سلخ الجلد لا يتكرر فكان في
معنى النتاج ولو لم يقم البينة على ذلك لهما
ولكن المدعي أقام البينة أنه جلد شاته ولم
يشهدوا له به لم يقض له بالملك وكذلك لو شهدوا
على صوف أنه صوف شاته أو على لحم أنه لحم شاته
قال عيسى رحمه الله هذا غلط وأرى جواب محمد
رحمه الله في هذه الفصول لا يستمر على أصل
واحد وقد قال قبل هذا إذا قالوا هذه الحنطة من
زرع هذا أو هذا الزبيب من كرمه أو هذا التمر
من نخلة قضي له به وأي فرق بين تلك المسائل
وبين هذه المسائل بل الجلد والصوف واللحم في
كونه مملوكا بملك الأصل أبلغ من ملك الزرع
والتمر والزبيب بملك الأصل فإن قيل أن هنا قد
ينفصل ملك الصوف عن ملك الأصل بالوصية فكذلك
في تلك المسائل ولكن ما ذكره محمد رحمه الله
صحيح لأنهم ما جعلوا المدعى هنا في شهادتهم من
ملكه إنما نسبوه إلى شاة ثم نسبوا إليه الشاة
بالملكية فلم يكن شهادة بالملك في المدعى نصا
فأما هناك شهدوا أن المدعاة من ملكه وذلك
شهادة بالملك له في المدعا نصا .
قال ولو كانت شاة مسلوخة في يد رجل وجلدها
ورأسها وسقطها في يد آخر فأقام ذو اليد في
الشاة البينة أن الشاة والجلد والرأس والسقط
له وأقام الذي في يديه السقط البينة على مثل
ذلك فإنه يقضى لكل واحد منهما بما في يدي
صاحبه لأن كل واحد منهما أثبت فيما في يد
صاحبه ملكا مطلقا بالبينة وبينة الخارج في
دعوى الملك المطلق تترجح ولو أقام كل واحد
منهما البينة أن الشاة شاته نتجت عنده في ملكه
فذبحها وسلخها وأن له جلدها ورأسها وسقطها
يقضي بالكل للذي الشاة في يده لأنه أثبت
ببينته النتاج في الشاة فاستحق القضاء بأولية
الملك له فيها وجلدها ورأسها وسقطها ببيعها
فلهذا قضينا بالملك لذي اليد.
قال: ولو كانت شاة في يدي رجل وشاة أخرى في يد
آخر فأقام كل واحد منهما البينة على شاة صاحبه
الذي في يديه أنها شاته ولدت في ملكه من هذه
الشاة القائمة في يده فإنه يقضي لكل واحد
منهما بشاة صاحبه التي في يديه وتأويل هذه
المسألة فيما إذا كان سن الشاتين مشكلا فأما
إذا كان معلوما واحدهما تصلح أما للأخرى
والأخرى لا تصلح أمالها وكانت علامة الصدق
ظاهرة في شهود أحدهما وعلامة الكذب ظاهرة في
شهادة شهود الآخر يقضي بها بما ظهر فيه علامة
الصدق فأما عند الإشكال لا تظهر علامة الصدق
ولا الكذب في شهادة أحدهما وكل واحد منهما
فيما في يده أقام البينة على الملك المطلق
وصاحبه أقام البينة على النتاج وبينة الخارج
على النتاج أولي من بينة ذي اليد في الملك
المطلق فلهذا قضينا لكل واحد منها بما في يد
صاحبه
ج / 17 ص -70-
وعن أبي
يوسف رحمه الله :أنه يبطل البينتان جميعا لتيقننا بكذب أحدهما فإن كل واحد منهما
لا يتصور أن تكون والدة لصاحبتها ومولودة
منهما ولو أقام البينة أن الشاة التي في يده
شاته ولدت في ملكه وأن شاة صاحبه ولدتها شاته
هذه في ملكه وأقام الآخر البينة على مثل ذلك
يقضى لكل واحد منهما بما في يديه لأن كل واحد
منهما فيما في يده أقام البينة على النتاج
وبينة ذي اليد على النتاج مقدمة على بينة
الخارج ولو أقام أحدهما البينة أن الشاة التي
في يده شاته ولدت في ملكه وأن شاة صاحبه له
ولدتها شاته في ملكه وأقام الآخر البينة على
مثل ذلك فهذا والأول سواء يقضي لكل واحد منهما
بما في يده لإثباته النتاج فيها .
قال: ولو كانت شاتان في يد رجل أحدهما بيضاء
والأخرى سوداء فادعاهما رجل وأقام البينة
أنهما له وأن هذه البيضاء ولدت هذه السوداء في
ملكه وأقام ذو اليد البينة أنهما له وأن هذه
السوداء ولدت هذه البيضاء في ملكه فإنه يقضى
لكل واحد منهما بالشاة التي ذكر شهوده أنها
ولدت في ملكه لأنه أثبت النتاج فيها بالبينة
وصاحبه أثبت فيها ملكا مطلقا والبينة على
النتاج أولى من البينة على الملك المطلق سواء
كان من ذي اليد الخارج.
قال: وإذا كانت شاة في يد رجل فأقام رجل
البينة أنها شاته ولدت في ملكه فقضى القاضي له
بهائم جاء آخر وأقام البينة أنها شاته ولدت في
ملكه وقال ذو اليد للقاضي قد قضيت لي بالولادة
بالبينة فإن اكتفيت بذلك وإلا أعدتها فإنه
يأمره أن يعيد بينته لأن القضاء بالبينة
الأولى كان على خصمه خاصة فيجعل إقامتها في حق
الثاني وجودا وعدما بمنزلة لأن المقضي به
للملك وثبوت الملك بالبينة في حق شخص لا يقتضي
ثبوته في حق شخص آخر .
ألا ترى أن في الملك المطلق يصير ذو اليد
مقضيا عليه دون غيره من الناس فإن إعادة بينة
قضي بها له تقديما لبينة ذي اليد على بينة
الخارج في النتاج وإن لم يعدها قضي بها للمدعي
فإن قضي بها للمدعي ثم أقام المقضى له الأول
شهوده على الولادة فإن القاضي يقبل بينته
ويبطل قضاءه للآخر وهذا استحسان وفي القياس لا
تقبل بينته لأنه صار مقضيا عليه بالملك فلا
تقبل بينته إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة
المقضي له ووجه الاستحسان أن من يقيم البينة
على النتاج يثبت أولية الملك لنفسه وأن هذا
العين حادث على ملكه فلا يتصور استحقاق هذا
الملك على غيره فلم يصر ذو اليد به مقضيا عليه
وقد تبين بإقامة البينة أن القاضي أخطأ في
قضائه وأن أولية الملك لذي اليد فلهذا انقضى
قضاؤه بخلاف الملك المطلق.
فإن قيل القضاء ببينة الخارج مع بينة ذي اليد
على النتاج مجتهد فيه فعند بن أبي ليلى رحمه
الله بينة الخارج أولى فينبغي أن لا ينقض قضاء
القاضي لمصادقته موضع الاجتهاد قلنا إنما يكون
قضاؤه عن اجتهاد إذا كانت بينة ذي اليد قائمة
عنده وقت القضاء فتترجح باجتهاده بينة الخارج
عليها وهذه البينة ما كانت قائمة عند قضائه
فلم يكن قضاؤه على
ج / 17 ص -71-
اجتهاد
بل كان لعدم ما يدفع من ذي اليد فإذا أقام حجة
الدفع انتقض القضاء الأول وعلى هذا لو أقام
الخارج البينة على الملك المطلق وقضي القاضي
بها له ثم أقام ذو اليد البينة على النتاج
يقضي بها له وينتقض القضاء الأول لما بينا .
قال: أمة في يد رجل أقام رجل البينة أن قاضي
بلد كذا قضي له بها على هذا الرجل بشهادة شهود
شهدوا عنده وأقام ذو اليد البينة أنها أمته
ولدت في ملكه فهذه المسألة على ثلاثة أوجه في
وجه منها يقضي القاضي بها للمدعي بالاتفاق وهو
إذا شهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضي له
بها مطلقا ولم يزيدوا على هذا شيئا لأن من
الجائز أن ذلك القاضي إنما قضي له بها بشهادة
شهود شهدوا عنده أنه اشتراها من ذي اليد أو
وهبها له فلا تكون بينة ذي اليد على الولادة
في ملكه مبطلا لذلك وكذلك القضاء بل يكون
مقررا له وكذلك إن فسر شهود القضاء بهذا
التفسير فهو آكد في تنفيذ ذلك القضاء والوجهان
الآخران أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا
قضي له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنها
مملوكته أو بشهادة شهود شهدوا عنده أنها أمته
ولدت في ملكه فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله بينة المدعي أولى في هذين الفصلين
ولا ينقض القاضي الثاني قضاء الأول وعلى قول
محمد رحمه الله بينة ذي اليد على الولادة في
ملكه أولى فيقضى بها له.
وجه قوله أن ذا اليد لو أقام هذه البينة عند
القاضي الأول نقض الأول قضاءه وقضى بها لذي
اليد فكذلك إذا أقامها عند الثاني لأن ثبوت
قضاء الأول عند الثاني بالبينة لا يكون أقوى
من مباشرته القضاء بنفسه وهذا لأن الشهود لما
بينوا سبب العقار إلى احتمال التملك على اليد
بسبب من جهته.
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن
قضاء القاضي الأول نفذ بيقين فليس للثاني أن
يبطله مع الاحتمال كما في الفصل الأول وبيان
الاحتمال هنا إذا قالوا بشهادة شهود شهدوا
عنده أنها مملوكته فيحتمل أنها مملوكته
اشتراها من ذي اليد ولكنهم تركوا هذه الزيادة
للتلبس على القاضي بأن قالوا بشهادة شهود
شهدوا عنده أنها ولدت في ملكه فيحتمل أن ذي
اليد كان أقام هذه البينة عند ذلك القاضي
فتترجح شهادة بينة الخارج وقضي بها له وكان
ذلك قضاء نافذا لا يجوز إبطاله بعد ذلك فلهذا
لا ينقض الثاني قضاء الأول مع الاحتمال ومثل
هذا الاحتمال لا يوجد إذا أقام ذو اليد بينة
على الولادة عند القاضي الأول وكذلك لو تنازعا
فيها خارجان أقام كل واحد منهما البينة أنها
أمته قضي له بها قاضي بلد كذا بشهادة شهود
شهدوا عنده أنها له على هذا وأقام آخر البينة
أنها أمته ولدت في ملكه فعند محمد رحمه الله
يقضى بها لصاحب الولادة وعندهما يقضى بها
لصاحب القضاء لأن مع الاحتمال لا يجوز نقض
القضاء كما بينا.
قال محمد رحمه الله :عبد في يد رجل فأقام آخر البينة أنه عبده ولد في ملكه ووقتوا وقتا
فكان العبد أكثر من ذلك أو أصغر معروف فشهادة
الشهود باطلة ليتقن القاضي بمجازفتهم
ج / 17 ص -72-
فيها
وهذا يبين لك أن الصواب في القضاء نصفان في
قوله فإن كانت الدابة على غير الوقتين أو كانت
مشكلة أنه في أحد الفصلين فأما إذا كانت على
غير الوقتين فالجواب بطلان الشهادتين والله
أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الولادة والنسب
قال رحمه الله:
عبد صغير في يد رجل يدعى أنه عبده فالقول قوله
لأن من لا يعبر عن نفسه بمنزلة المتاع وقول ذي
اليد فيما في يده حجة للدفع فإن ادعى آخر أنه
ابنه فعليه البينة لأنه يدعي نسب ملك الغير
فلا يقبل قوله إلا بحجة .
فإن أقام البينة أنه ابنه قضي أنه بن له
لإثباته دعواه بالحجة وجعل حرا لأن في الحكم
بثبوت النسب حكما بأنه مخلوق من مائه وماء
الحر جزء منه فيكون حراما لم يتصل برحم الأمة
وحين لم يسموا أمة في الشهادة لم يظهر اتصال
مائه برحم الأمة فبقي على الحرية فهذه موجبة
البينة حرية الولد فلا يعارضها قول ذي اليد في
إثبات رقه.
وكذلك لو كان الذي في يديه يدعي أنه ابنه
فالمدعي الذي أقام البينة أولى بالقضاء بالنسب
له لأن البينة لا يعارضها اليد ولا قول ذي
اليد وكذلك لو كان المدعي ذميا أو عبدا يثبت
النسب منه لإثباته دعواه بالحجة والعبد والذمي
من أهل النسب كالحر المسلم فإن أقام ذو اليد
البينة أنه ابنه وأقام الخارج البينة أنه ابنه
قضيت بنسبه لذي اليد لأن هذا في معنى النتاج
وقد بينا أن بينة ذي اليد هناك تترجح على بينة
الخارج وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة
أنه ابنه من امرأته هذه قضي بنسبه من ذي اليد
ومن امرأته وإن جحدت هي ذلك لأن السبب هو
الفراش بينهما قائم والحكم متى ظهر عقيب سبب
ظاهر يحال به على ذلك السبب وذلك الفراش
بينهما يثبت النسب منهما فمن ضرورة ثبوته من
أحدهما بذلك السبب ثبوته من الآخر فلا ينتفي
بجحودها وكذلك لو جحد الأب وادعت الأم .
قال ولو كان الصبي في يد عبد وامرأته الأمة
وأقاما البينة أنه ابنهما وأقام آخر من العرب
أو من الموالي أو من أهل الذمة أنه ابنه من
امرأته هذه وهي مثله فإنه يقضي بينة الخارجين
لأن في بينتهما زيادة إثبات الحرية للولد
والبينات للإثبات فتترجح بزيادة الإثبات.
قال ولو كان الصبي في يد رجل فأقام رجل البينة
أنه ابنه من امرأته هذه وهما حران وأقام ذو
اليد البينة أنه ابنه ولم ينسبوه إلى أمه فإنه
يقضى به للمدعي لزيادة الإثبات في بينته وهو
ثبوت النسب من أمه فصارت الزيادة في إثبات
النسب كزيادة إثبات الحرية وكذلك إن كانت الأم
هي المدعية فإن ثبوت النسب بالفراش بينهما
فيكون أحدهما خصما عن الآخر فلا إثبات ولو
أقام الخارج البينة أنه ابنه وشهد شهود ذي
اليد على إقراره أنه ابنه قضي به للمدعي لأن
ثبوت إقرار ذي اليد بالبينة لا يكون أقوى من
سماع القاضي إقراره وذلك يندفع ببينة الخارج
ثم أعاد مسألة الرجلين والمرأتين وقد بيناه.
فرع عليه ما لو وقت كل واحد منهما وقتا قال
ينظر إلى سن الصبي فإن كان مشكلا
ج / 17 ص -73-
فهو
وما لم يوقتا سواء يقض به لهما وإن كان مشكلا
في أحدهما وهو أكبر سنا من الآخر أو أصغر
معروف قضيت به للمشكل لأن علامة الكذب ظهرت في
شهادة الآخرين ولم تظهر في شهادة هؤلاء لكونه
محتملا للوقت الذي وقتوه .
قال ولو كان الصبي في يد رجل فأقامت امرأة
شاهدين أنه ابنها قضيت بالنسب منها لإثباتها
الدعوى بالحجة وإن كان ذو اليد يدعيه لم يقض
له به لأن مجرد الدعوى لا يعارض البينة فإن
قيل لا منافاة بين ثبوته منه ومنها قلنا نعم
ولكن لا يمكن إثبات النسب منهما إلا بالقضاء
بالفراش بينهما ومجرد قوله ليس بحجة عليها في
إثبات الفراش في النكاح بينهما ولو لم تقم
المرأة إلا امرأة واحدة شهدت أنها ولدت فإن
كان ذو اليد يدعي أنه ابنه أو عبده لم يقض
للمرأة بشيء لأن الاستحقاق الثابت باليد لا
يبطل بشهادة المرأة الواحدة فإنها ليست بحجة
في إبطال حق ثابت للغير وإن كان الذي في يديه
لا يدعيه فإني أقضي به للمرأة بشهادة امرأة
واحدة وهذا استحسان وفي القياس لا يقضى لأن
اليد في اللقيط مستحق لذي اليد حتى لو أراد
غيره أن ينزعه من يده لم يملك فلا يبطل ذلك
بشهادة امرأة واحدة وفي الاستحسان تمحض هذا
منفعة للولد في إثبات نسبه وحريته وليس فيه
إبطال حق لذي اليد لأنه لا يدعي في الولد شيئا
إنما يده فيه صيانة عن ضياعه فلهذا أثبتنا
النسب منها بشهادة القابلة.
قال
:عبد في يد رجل أقام رجل البينة أنه عبده ولد
في ملكه وأنه أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه
عبده ولد في ملكه فإني أقضي به للذي أعتقه لأن
في هذه البينة زيادة الحرية فلو رجحنا بينة ذي
اليد جعلناه مملوكا له وكيف يجعل مملوكا وقد
قامت البينة على الحرية ولو كان المدعي دبره
أو كاتبه لم يستحق بهذا شيئا أما في الكتابة
لا إشكال لأنه عقد محتمل للفسخ كالبيع
والإجارة فكأنه أقام البينة على تصرفه فيه
ببيع أو إجارة فلا يترجح به وأما في التدبير
فقد أعاد المسألة في آخر الكتاب وجعله كالعتق
ففيه روايتان.
وجه تلك الرواية أن بالتدبير يثبت له حق عتق
لا يحتمل الفسخ فكان معتبرا بحقيقة العتق لأنه
يثبت الولاء على العبد ببينته في الموضعين
جميعا وإذا كان الولاء هو المقصود والملك بيع
فتترجح بينة الخارج لهذا وجه هذه الرواية أن
التدبير لا يخرجه من أن يكون مملوكا كالكتابة
فكان الملك هو المقصود بالإثبات لكونه قائما
فتترجح بينة ذي اليد لإثبات الولادة في ملكه
بخلاف العتق فإن الملك لا يبقى بعد العتق
فيكون المقصود هناك إثبات الولاء ولو أقام
الخارج البينة أنه ابنه ولد في ملكه وأقام ذو
اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه قضي به
للمدعي لأن في بينته إثبات الحرية فإن المولود
من أمته في ملكه حر الأصل وإذا كان يترجح عنده
إثبات حرية العتقفعند إثبات حرية الأصل أولى.
قال صبي في يد امرأة فأقامت شاهدة أنه ابنها
وأقامت التي هو في يديها شهادة أنه ابنها قضيت
به للذي هو في يديها لأن الحجتين استويا في
دعوى النسب فيترجح جانب
ج / 17 ص -74-
ذي
اليد وكذلك لو شهد لكل واحدة منهما رجلان
وللتي هو في يديها امرأة قضيت به للمدعية لأن
شهادة المرأة الواحدة لا تقابل شهادة رجلين
لأن شهادة رجلين حجة تامة على الإطلاق وشهادة
المرأة حجة ضرورية
قال: ولو كان الصبي في يد رجل وامرأة يدعيان
أنه ابنهما فشهدت لهما امرأة واحدة وأقام رجل
آخر شاهدين أنه ابنه من امرأته هذه قضيت به
للمدعي لأن شهادة المرأة الواحدة لا تقابل
شهادة رجلين لأن شهادة رجلين حجة تامة على
الإطلاق وشهادة المرأة حجة ضرورية.
قال: ولو كان الصبي في يد رجل وامرأتان تدعيان
أنه ابنهما فشهدت لهما امرأة واحدة وأقام رجل
آخر شاهدين أنه ابنه من امرأته هذه قضيت به
للمدعي لأن شهادة المرأة الواحدة لا تعارض
شهادة رجلين فسقط اعتباره وبقي اليد في أحد
الجانبين والبينة في الجانب الآخر واليد لا
تعارض البينة قال ولو كان صبي في يد ذمي فشهد
له ذميان أنه ابنه وأقام مسلم شاهدين مسلمين
أنه ابنه قضيت به للمسلم لأن بينة المسلم حجة
على خصمه الذمي وبينة الذمي ليست بحجة على
خصمه المسلم.
وكذلك لو كان شهود المسلم من أهل الذمة فإن
كان شهود الذمي من المسلمين وشهود المسلم من
أهل الذمة أو من أهل الإسلام قضيت به لذي اليد
لأن بينة كل واحد منهما حجة على خصمه فلما
استويا ترجح ذو اليد بهذه البينة لأن هذا في
معنى النتاج لا يتكرر وإن كان الصبي في يد
ثالث مسلم أو ذمي قضيت به للمسلم لأن في بينته
إثبات الزيادة وهو إسلام الولد ولأن أحد
البينتين يوجب كفره والأخرى توجب إسلامه
فيترجح الموجب للإسلام على الموجب للكفر.
قال
:ولو كان الصبي في يد رجل وامرأته فقال الرجل
هو ابني من فلانة لامرأة غيرها وقالت المرأة
هو ابني من زوج فلان وأقام كل واحد منهما
البينة جعلته بن هذين اللذين في يدهما لأن سبب
النسب فيما بينهما ظاهرا وهو الفراش فيحال به
على هذا السبب ويثبت النسب منهما ولأن أكثر ما
في الباب أن كل واحد من الحاضرين ينصب خصما عن
كل واحد من الغائبين والغائبان الخارجان لو
أقاما البينة بأنفسهما ترجحت بينة ذي اليد على
بينتهما فكذلك هنا .
قال:
صبي في يد رجل فأقام مسلم البينة أنه ابنه من
امرأته هذه الحرة وأقام عبد البينة أنه ابنه
ولد على فراشه من هذه الأمة وأقامت مكاتبة
البينة أنه ابنه ولد على فراشه من هذه
المكاتبة فإني أقضي به للحر لأن البينات استوت
في إثبات النسب وفي الحر زيادة إثبات الحرية
للولد فإن لم يدعه الحر وإنما ادعاه العبد
والمكاتب فإني أقضي به للمكاتب لأن في بينته
زيادة فإن ولد المكاتبة يكون مكاتبا والكتابة
تفسد العتق ويثبت به للمكاتب ملك اليد
والمكاتب فكان المثبت للزيادة من البينتين
أولى
ج / 17 ص -75-
قال: ولو ادعى نصراني ويهودي ومجوسي وأقام كل واحد منهم البينة قضيت به
لليهودي والنصراني لأن دين اليهودي والنصراني
إذا قوبل بدين المجوسي فدين المجوسي شر منه
ألا ترى أن ذبائح اليهود والنصارى تحل وكذلك
مناكحتهن ولا تحل ذبائح المجوسي ومناكحتهن
للمسلمين فكان حال اليهودي والنصراني مع
المجوسي كحال المسلم مع اليهودي ولهذا قلنا أن
المولود بين المجوسي والكتابي يكون بمنزلة
الكتابي تحل ذبيحته وعلى قول زفر والشافعي
رحمهما الله لا تترجح البينة في هذه المواضع
بالدين اعتبارا لدعوى النسب بدعوى الملك ولو
ادعى مسلم وكافر ملكا وأقاما البينة أو كتابي
أو مجوسي وأقاما البينة لم تترجح أحدهما ولكنا
نقول في دعوى الملكين ليس في بينة أحدهما
زيادة لأن المسلم والكافر يستويان فأما في
النسب في إحدى البينتين زيادة منفعة للولد
فتترجح تلك البينة لهذا.
قال:
ولو ادعى عبد مسلم أنه ابنه ولد على فراشه من
هذه الأمة وادعى حر ذمي أنه ابنه ولد على
فراشه من امرأته هذه يقضى للحر الذمي لأن في
بينته إثبات الحرية للولد وذلك منفعة عاجلا
ولأنه إذا بلغ لا يمكنه اكتساب الحرية لنفسه
ولعل الله تعالى يهديه فيسلم بنفسه وكان ترجيح
جانب الحرية أولى في حقه.
قال
:صبي في يد رجل لا يدعيه فأقامت امرأة البينة
أنه ابنها ولدته وأقام رجل البينة أنه ابنه
ولد على فراشه ولم يسموا أمه جعلته بن الرجل
والمرأة لأن العمل بالبينتين ممكن فإن الولد
يكون ثابت النسب من الرجل والمرأة جميعا وكذلك
لو كان في يد المرأة وليس في قبول بينتها ما
يدفع بينة الرجل فقضينا بالنسب منهما ومن
ضرورته القضاء بالفراش بينهما وما ثبت لضرورة
الشهادة فهو كالمشهود به والله أعلم بالصواب .
ج / 17 ص -76-
لم تجز
الورثة ومما اتفقوا على أن القسمة فيه بطريق
المنازعة فضولي باع عبد رجل بغير أمره وباع
فضولي آخر نصفه فأجاز المولى البيعين فالقسمة
بين المشتريين بطريق المنازعة أرباعا.
وأصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن قسمة
العين متى وجبت بسبب حق في العين كانت القسمة
على طريق العول فالتركة بين الورثة ومتى وجبت
بسبب حق كان في العين كالأصل فالقسمة على طريق
المنازعة كما في بيع الفضولي فإن حق كل واحد
من المشتريين كان في الثمن يتحول بالشراء إلى
المبيع وفي مسألة الدعوى حق كل واحد من
المدعيين في العين فكانت القسمة على طريق
العول لمعنى أن حق كل واحد منهما شائع في
العين فما من جزء منه إلا وصاحب القليل مزاحم
فيه صاحب الكثير بنصيبه فلهذا كانت القسمة
بطريق العول والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله
أن كل واحد منهما إذا كان يدلي بسبب صحيح
معلوم فالقسمة على طريق العول كالورثة في
التركة وإذا كان يدلي لا بسبب صحيح ثابت
فالقسمة على طريق المنازعة وما لا منازعة فيه
لصاحب القليل يسلم لصاحب الكثير في بيع
الفضولين فإن بيع كل واحد منهما غير صحيح قبل
إجازة المالك وهذا لأن المضاربة إنما يصار
إليها عند الضرورة وذلك عند قوة السبب واستواء
السببين في صفة الصحة ففي مسألة الدعوى سبب
استحقاق كل واحد منهما الشهادة وهي لا توجب
شيئا قبل اتصال القضاء فلم يكن كل واحد من
السببين معلوم الصحة فلهذا كانت القسمة على
طريق المنازعة وما قال يبطل بحق الغرماء في
التركة فإن قسمة العين بسبب حق كان في الذمة
ومع ذلك كانت القسمة عوليا.
قال:
فإن كان المدعون ثلاثة يدعي أحدهم جميعها
والآخر نصفها والآخر ثلثها وأقاموا البينة
فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله القسمة بطريق
العول فتكون أصل المسألة من ستة يضرب مدعي
الكل بسهام الدار ستة ومدعي الثلثين بسهام
الثلثين أربعة ومدعي النصف بثلاثة فيقسم الدار
بينهم على ثلاثة عشر سهما وعند أبي حنيفة رحمه
الله القسمة بطريق المنازعة ولا منازعة لصاحب
النصف والثلثين فيما زاد على الثلثين وصاحب
الجميع يدعي ذلك فيسلم له بلا منازعة وما زاد
على النصف إلى تمام الثلثين لا منازعة فيه
لصاحب النصف فيكون بين صاحب الجميع والثلثين
نصفين يبقى ستة استوت منازعتهم فيه فكان بينهم
أثلاثا فيسلم لمدعي النصف سدس الدار ولمدعي
الثلثين ربع الدار ولمدعي الجميع ما بقي وذلك
سبعة أسهم من اثني عشر.
قال
: ولو كانت الدار في يد رجلين فادعى أحدهما
نصفها والآخر جميعها فالبينة على مدعي الجميع
لأن دعوى كل واحد منهما منصرف إلى ما في يده
أولا ليكون يده محقة في حقه وهذا لأن حمل أمور
المسلمين على الصحة واجب فصاحب النصف لا يدعي
شيئا مما في يد صاحب الجميع وصاحب الجميع يدعي
شيئا مما في يد صاحب النصف فعليه إثباته
ج / 17 ص -77-
بالبينة فإن أقاما البينة فالدار كلها لصاحب
الجميع لأنه إن اجتمع بينة الخارج وبينة ذي
اليد فيما في يد صاحب النصف فبينة الخارج أولى
بالقبول.
قال:
ولو كانت الدار في يد ثلاثة نفر فادعى أحدهم
جميعها والآخر ثلثيها والآخر نصفها وأقاموا
البينة واستحلف كل واحد منهم ونكل فعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله القسمة على طريق المنازعة
بينهم فتكون من أربعة وعشرين سهما لأن في يد
كل واحد منهم ثلث الدار ودعوى كل واحد منهم
ينصرف إلى ما في يده ثم فيما فضل في ذلك إلى
ما في يد صاحبه لأنه ليس أحدهما بأولى به من
الآخر ولا بينة لكل واحد منهم فيما في يده
فأما الثلث الذي في يد صاحب النصف لا بينة له
في ذلك وصاحب الجميع يدعي الجميع وصاحب النصف
يدعي الثلثين لأنه يدعي الثلثين ثلث في يده
وثلث في يد صاحبه فيكون دعواه فيما في يد كل
واحد منهما نصف الثلث فيسلم نصف هذا الثلث
لصاحب الجميع بلا منازعة والنصف الآخر بينهما
نصفان لاستواء منازعتهما فيه فصار هذا الثلث
على أربعة والثلث الذي في يد صاحب الثلثين
صاحب الجميع يدعي جميعه وصاحب النصف يدعي ربعه
لأنه يدعي النصف والثلث في يده فإنما بقي
الثلث في يد صاحبه فكان دعواه في يد كل واحد
منهما نصف السدس وذلك ربع ما في يديه فثلاثة
أرباع ما في يده سالم لصاحب الجميع.
واستوت منازعتهما في الربع فكان بينهما نصفين
وما في يد صاحب الجميع يدعي صاحب الثلثين نصفه
وصاحب النصف ربعه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد
منهما بقدر ما ادعاه فإن جعلت سهام الدار على
أربعة وعشرين كان في يد كل واحد منهم ثمانية
والسالم لصاحب الجميع مما في يد صاحب النصف
ستة ثلاثة أرباع ما في يده وله مما في يد صاحب
الثلثين سبعة ويبقى له مما كان في يده سهمان
فجملة ما سلم له خمسة عشر وصاحب الثلثين أخذ
مما في يد صاحب الجميع أربعة ومما يد صاحب
النصف سهمين وذلك ستة فهو له وصاحب النصف أخذ
مما في يد صاحب الجميع سهمين ومما في يد صاحب
الثلثين سهما فإذا جمعت بين هذه السهام كانت
أربعة وعشرين وعندهما القسمة على طريق العول.
فصاحب الجميع يضرب فيما في يد صاحب النصف
بالجميع وصاحب الثلثين بالنصف فصار هذا الثلث
أثلاثا وصاحب الجميع فيما في يد صاحب الثلثين
بالجميع وصاحب النصف بالربع فصار هذا الثلث
أخماسا وصاحب النصف يأخذ مما في يد صاحب
الجميع الربع وصاحب الثلثين يأخذ النصف فصار
هذا الثلث أرباعا فقد وقع الكسر بالأثلاث
والأرباع والأخماس فاضرب خمسة في ثلاثة فيكون
خمسة عشر ثم في أربعة فيكون ستين فصار كل ثلث
من الدار على ستين سهما فيكون جميعها مائة
وثمانين فما في يد صاحب النصف وذلك ستون سهما
لصاحب الجميع ثلثاه أربعون وصاحب الثلثين
ج / 17 ص -78-
عشرون
وما في يد صاحب الثلثين لصاحب النصف خمسة وذلك
اثنا عشر ولصاحب الثلث أربعة أخماسه ثمانية
وأربعون ويأخذ صاحب النصف مما في يد صاحب
الجميع ربعه خمسة عشر وصاحب الثلثين النصف
ثلاثين فيبقى في يد صاحب الجميع خمسة عشر وقد
وصل إليه من يد الآخرين ثمانية وثمانون وذلك
مائة وثلاثة أسهم فذلك نصيبه.
وصاحب الثلاثين أخذ من يد صاحب الجميع ثلاثين
ومن يد صاحب النصف عشرين وذلك خمسون وصاحب
النصف أخذ من يد صاحب الثلثين اثني عشر ومن يد
صاحب الجميع خمسة عشر فيكون سبعة وعشرون فإذا
جمعت بين هذه السهام كانت مائة وثمانين مثل
سهام الدار فاستقام .
قال
:دار في يد رجل منها منزل وفي يد آخر منها
منزل فادعى أحدهما الدار بينهما نصفين وقال
الآخر هي كلها لي وأقاما البينة فلمدعي الكل
المنزل الذي في يده ونصف المنزل الذي في يد
الآخر لأن دعوى الآخر في نصف شائع فإنما يدعي
هو نصف ما في يده ولا دعوى له في النصف الآخر
ومدعي الجميع يدعي ذلك لنفسه فيأخذه لأنه لا
منازع له ومدعي النصف يدعي نصف المنزل الذي في
يد مدعي الجميع وهو ينازعه في ذلك فلا يستحقه
إلا بحجة.
قال
:ولو كانت الدار كلها في أيديهما ولم يعرف شيء
منها في يد واحد منهما فهي بينهما نصفان لأن
مدعي النصف تنصرف دعواه إلا ما في يده فلا
يستحق الآخر عليه شيئا من ذلك إلا بحجة وإن
كان سفلها في يد رجل وعلوها في يد آخر وطريق
العلو في الساحة فادعى كل واحد منهما أن الدار
له فالدار لصاحب السفل إلا العلو وطريقه فإنه
لصاحب العلو لأن العلو في يد صاحب العلو وكذلك
طريقه في السفل فإنه مستعمل له بالتطرق فيه
إلى علوه فأما السفل والساحة ففي يد صاحب
السفل لأن هو المستعمل للساحة بوضع أمتعته وصب
وضوئه وكسر حطبه فيه فالقول فيه قوله وإن
أقاما البينة فلكل واحد منهما ما في يد صاحبه
ترجيحا لبينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى
الملك.
قال
:ولو كانت الدار في يد ثلاثة فادعي أحدهم
النصف والآخر الثلث والثالث السدس وجحد بعضهم
دعوى البعض فإن في يد كل واحد منهم الثلث
فالثلث الذي في يد مدعي السدس له نصفه لأنه لا
يدعي أكثر من ذلك والنصف الآخر موقوف عنده فإن
قامت البينة لصاحب النصف أخذ من يد كل واحد من
صاحبيه نصف سدس الدار لأنه يدعي النصف وفي يده
الثلث فما زاد عليه إلى تمام النصف وهو السدس
يدعيه وفي يد صاحبيه إذ ليس أحدهما يصرف دعواه
إلى ما في يده بأولى من الآخر فإذا أثبت ذلك
بالبينة أخذ من يد كل واحد منهما نصف السدس
ولا يقال أن نصف ما في يد مدعي السدس هو لا
يدعيه فينبغي أن ينصرف دعوى مدعي النصف إليه
حتى يأخذ كل ذلك السدس من غير إقامة البينة
عليه لوجهين أحدهما أنه يدعي بعض ذلك في يد
صاحب الثلث فكيف يأخذه من يد مدعي
ج / 17 ص -79-
السدس
وهو إنما يدعيه في يد غيره والثاني أن باعتبار
دعواه شيئا مما في يد صاحب الثلث كان صاحب
الثلث منازعا له في هذا السدس الذي في يد صاحب
السدس وهو لا يدعيه ومع تمكن المنازعة لا
يتمكن من أخذه إلا بحجة والله أعلم بالصواب.
باب دعوى الحائط والطريق
قال رحمه الله: وإذا كان الحائط بين دارين فادعاه صاحب كل واحد من الدارين فإن
كان لأحدهما عليه جذوع وليس للآخر عليه جذوع
فهو لصاحب الجذوع عندنا وقال الشافعي رحمه
الله لا يستحق بوضع الجذوع ترجيحا على صاحبه
لأن وضع الجذوع محتمل قد يكون عن ملك وقد يكون
عن استعارة وقد يكون عن غصب والمحتمل لا يكون
حجة ولنا أن واضع الجذوع مستعمل للحائط بوضع
حمله عليه والاستعمال يد وعند تعارض الدعوتين
القول قول صاحب اليد كما لو تنازعا في دابة
لأحدهما عليها حمل كان هو أولى بها ولأن
الظاهر شاهد له ولأن وضعه الجذوع دليل على أنه
بنى الحائط لحاجته إذا وضع حمله عليه ومثل هذه
العلامة تثبت الترجيح كما إذا اختلف الزوجان
في متاع البيت يجعل ما يصلح للرجل للرجل وما
يصلح للنساء للمرأة وإن كان لأحدهما عليه
هوادي أو بواري لا يستحق به شيئا لأن هذا ليس
بجهل مقصود بني الحائط لأجله فلا يثبت به
الترجيح كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليه
مخلاة علقها لا يستحق به الترجيح بخلاف الجذوع
فإنه حمل مقصود يبني الحائط لأجله فيثبت له
اليد باعتباره وكذلك إن كان لأحدهما عليه جذوع
أو أنصال وللآخر بواري فهو لصاحب الجذوع
والأنصال وإن كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر
أنصال فصاحب الجذع أولى ومراده من هذا مداخلة
إنصاف اللبن بعضها في بعض إذا كان من أحد
الجانبين هذا النوع من الاتصال ببناء أحدهما
لأن وضع الجذوع استعمال للحائط والاتصال
مجاورة واليد تثبت بالاستعمال دون المجاورة
فكان صاحب الجذوع أولى كما لو تنازعا في دابة
واحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب
أولى.
وذكر الطحاوي رحمه الله: أن صاحب الاتصال أولى لأن الكل صار في حكم حائط واحد فهذا النوع
من الاتصال في بعضه متفق عليه لأحدهما فيرد
المختلف فيه إلى المتفق عليه ولأن الظاهر أنه
هو الذي بناه مع حائطه فمداخلة إنصاف للبن لا
يتصور إلا عند بناء لحائطين معا فكان هو أولى
قال في الكتاب إلا أن يكون اتصال تربيع بيت أو
دار فيكون لصاحب الاتصال حينئذ وكان الكرخي
رحمه الله يقول صفة هذا الاتصال أن يكون هذا
الحائط المتنازع من الجانبين جميعا متصلا
بحائطين لأحدهما والحائطان متصلان بحائط له
بمقابلة الحائط المتنازع حتى يصير مربعا شبه
القبة فحينئذ يكون الكل في حكم شيء واحد فصاحب
الاتصال أولى.
والمروي عن أبي يوسف رحمه
الله :أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع بحائطين
ج / 17 ص -80-
لأحدهما فأما اتصال الحائطين بحائط أخرى غير
معتبر وعليه أكثر مشايخنا رحمهم الله لأن
الترجيح إنما يقع له يكون ملكه محيطا بالحائط
المتنازع من الجانبين وذلك يتم بالاتصال
بجانبي الحائط المتنازع ولصاحب الجذوع موضع
جذوعه لأن استحقاق صاحب الاتصال بالظاهر وهو
حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير
فلا يستحق به على صاحب الجذوع رفع جذوعه.
فإن قيل :لما قضي بالحائط لصاحب الاتصال فينبغي أن يأمر الآخر برفع الجذع
لأنه حمل موضوع له في ملك الغير بغير سبب ظاهر
لاستحقاقه كما لو تنازعا في دابة لأحدهما
عليها حمل وللآخر مخلاة يقضى لصاحب الحمل
ويؤمر الآخر برفع المخلاة قلنا لأن وضع
المخلاة على دابة الغير لا يكون مستحقا له في
الأصل بسبب فكان من ضرورة القضاء بالدابة
لصاحب الحمل أمر الآخر برفع المخلاة فأما هنا
فقد يثبت له حق وضع الجذوع على حائط لغيره بأن
كان ذلك مشروطا في أصل القسمة فليس من ضرورة
الحكم لصاحب الاتصال استحقاق رفع الجذوع على
الآخر وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة
وقضي له به يؤمر الآخر برفع جذوعه لأن البينة
حجة للاستحقاق فيستحق صاحبها رفع جذوعه عن
ملكه وإن لم يكن متصلا ببناء أحدهما ولم يكن
عليه جذوع فهو بينهما نصفان لاستوائهما فيه في
اليد حكما فإنه بكونه بين داريهما يثبت لكل
واحد منهما عليه اليد حكما وإن كان لأحدهما
عليه عشر خشبات وللآخر عليه خشبة واحدة فلكل
واحد منهما ما تحت خشبته ولا يكون بينهما
نصفان استحسن ذلك في الخشبة والخشبتين وهكذا
ذكر في كتاب الصلح.
وقال في كتاب الإقرار :الحائط كله لصاحب عشر خشبات إلا موضع الخشبة فإنه لصاحبها وروى
بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن
الحائط بينهما نصفان وهو قول أبي يوسف رحمه
الله وهو القياس ووجهه أن الاستعمال بموضع
الخشبة يثبت يد صاحبها عليه فصاحب القليل فيه
يستوي بصاحب الكثير كما لو تنازعا في ثوب
عامته في يد أحدهما فطرف منه في يد الآخر كان
بينهما نصفين ووجه رواية كتاب الإقرار لصاحب
العشر خشبات عليه حمل مقصود يبني الحائط لأجله
وليس لصاحب الخشبة الواحدة مثل ذلك ولأن
الحائط لا يبنى لأجل خشبة واحدة عادة وإنما
ينصب لأجلها أسطوانة فكان صاحب العشر خشبات
أولى به كما في الدابة إذا كان لأحدهما عليها
حمل مقصود وللآخر مخلاة يقضى بها لصاحب الحمل
إلا أنه لا يرفع خشبة الآخر لأن استحقاق صاحب
الخشبات باعتبار الظاهر يستحق به رفع الخشبة
على الآخر.
وأما وجه رواية كتاب الدعوى أن الاستحقاق
باعتبار وضع الخشبة فيثبت لكل واحد منهما
الملك فيما تحت خشبته لوجود سبب الاستحقاق به
في ذلك الموضع فأما ما بين الخشبات لم يذكر في
الكتاب أنه يقضي به لأيهما لأن من أصحابنا
رحمهم الله من قال يقضي بالكل بينهما على إحدى
عشر سهما عشرة لصاحب الخشبات وسهم لصاحب
الخشبة
ج / 17 ص -81-
الواحدة اعتبار لما بين الخشبات بما هو تحت كل
خشبة من الحائط وأكبرهم على أنه يقضي به لصاحب
العشرخشبات لأن استحقاق الآخر بالخشبة لا
بعلامة يستدل بها على أنه هو الذي بنى الحائط
أو للآخر عليه علامة يستدل بها على أنه هو
الذي بنى الحائط فإن الحائط يبنى لوضع عشر
خشبات لا لوضع خشبة واحدة فلهذا كان الكل
لصاحب الخشبات إلا موضع الخشبة الواحدة لضرورة
استعمال صاحبها والثابت بالضرورة لا يعدو
مواضعها وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات
وللآخر ثلاث خشبات فصاعدا قضي به بينهما نصفان
اعتبارا لأدنى الجمع بأقصاه وهذا لأن لكل واحد
منهما عليه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله فلا
يعتبر التفاوت بعد ذلك في القلة والكثرة.
كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليه خمسون
منا وللآخر مائة من كانت بينهما نصفين وإن كان
لأحدهما عليه خشب وللآخر عليه حائط سترة
فالحائط الأسفل لصاحب الخشب لكونه مستعملا له
بوضع حمل مقصود عليه ولصاحب السترة السترة على
حالها لأن بالظاهر لا يستحق رفعه سترة الآخر
بمنزلة سفل لأحدهما وعليه علو لآخر وإن كان
لأحدهما عليه سترة وليس للآخر عليه شيء يقضي
به لصاحب السترة لأن الحائط قد يبنى لأجل
السترة فكانت هذه علامة لاستحقاق صاحبها وهذا
بخلاف الهوادي فإن الحائط لا يبنى لأجله فلا
يستحق صاحبه به الترجيح .
قال
:وإذا كان جص بين دارين يدعيه كل واحد من
صاحبي الدارين والقمط إلى أحدهما قضي به
بينهما نصفان في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقضي لمن عليه
القمط واستدل بحديث دهيم بن قران أن رجلين
اختصما في جص فبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليقضي
بينهما فقضى بالجص لمن إليه القمط ثم أخبر
بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصوبه
وأبو حنيفة رحمه الله احتج فقال نفس القمط
متنازع فيه فلا يجوز أن يجعل ذلك دليل الملك
لأحدهما وهو المتنازع فيه بعينه ولأن الإنسان
قد يتخذ جصا ويجعل القمط إلى جانب جاره ليكون
جانبه مستويا فيطينه ويجصصه وتأويل الحديث أن
صاحب القمط أقام البينة حين تحاكما فقضى له
حذيفة رضي الله عنه بالبينة وذكر القمط على
سبيل التعريف كما يقال قضي لصاحب العمامة
والطيلسان وكذلك لو اختلفا في حائط ووجهه إلى
أحدهما وظهره إلى الآخر فهو بينهما عند أبي
حنيفة رحمه الله وعندهما يقضى لمن كان إليه
ظهر البناء وإنصاف اللبن لأن العادة أن
الإنسان يجعل ظهر البناء إلى جانب نفسه ليكون
مستويا وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه العادة
مشتركة قد يجعلها إلى جانب جاره وقد يجعلها
إلى الطريق فلا يكون ذلك دليل انعدام ملكه في
الحائط وكذلك إن كانت الطاقات إلى أحدهما
فالحاصل أن ظهر البناء كله متنازع فلا يمكن
جعله دليلا للحكم به لأحدهما .
قال:
وإذا كان سفل الحائط لرجل وعلوه لآخر فأراد
صاحب السفل أن يهدم السفل
ج / 17 ص -82-
فليس
له ذلك لأن السفل فيه حق لصاحب العلو من حيث
قرار بنائه عليه فلا يكون له أن يبطل حق الغير
عن ملك نفسه وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله
ليس له أن يفتح فيه بابا ولا كوة ولا يدخل فيه
جذعا لم يكن قبل ذلك إلا برضاء صاحب العلو
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له أن
يفتح ذلك إذا كان لا يضر بصاحب العلو فإن كان
شيء من ذلك يضر به لم يكن له أن يفعله وكذلك
لم يحفر في سفله بئرا وكذلك لو أراد صاحب
العلو أن يحدث على علوه بناء أو يضع عليه
جذوعا أو يشرع فيه كنيفا لم يكن له ذلك في قول
أبي حنيفة رحمه الله أضر بالسفل أو لم يضر
وعندهما إن أضر بالسفل منع من ذلك أو لم يضر
بالسفل لم يمنع.
حجتهما :أن كل واحد منهما إنما يتصرف في خالص حقه فلا يمنع من ذلك إلا أن
يلحق الضرر بمن له فيه حق كالموصى له بالخدمة
على الموصي له بالرقبة فإنه لا يمنع الموصى له
بالرقبة من التصرف في ملكه إلا ما يضر بالموصي
له بالخدمة وأبو حنيفة رحمه الله يقول لصاحب
العلو حق بناء قدر معلوم على بناء السفل وإذا
أراد أن يزيد على ذلك منع منه كما لو استأجر
دابة ليحمل عليها حملا معلوما فليس له أن يحمل
أكثر من ذلك وإن لم يضر بالدابة .
وكذلك صاحب العلو له حق في بناء السفل من حيث
قرار علوه عليه وفتح الباب والكوة يوهن البناء
وكذلك حفر البئر في ساحة السفل يوهن البناء
فلا يكون له أن يفعل ذلك إلا برضا صاحب العلو
.
ألا ترى أن كل واحد منهما يمنع من التصرف الذي
يضر بصاحبه فلو كان الملك لكل واحد منهما
خالصا لم يمنع أحدهما من التصرف وإن أدى إلى
الإضرار بصاحبه كالجارين.
قال
:وإذا كان الحائط بين رجلين فأقام رجل البينة
على أحدهما أنه أقر أن الحائط له قضيت له
بحصته من الحائط لأن ثبوت إقراره بالبينة
كثبوته بالمعاينة وإقرار أحد الشريكين في نصيب
نفسه صحيح لأن لا ضرر فيه على الشريك فلا فرق
في حقه بين أن يشاركه في الحائط المقر أو
المقر له فإن كان الحائط في يد رجل وله جذوع
شاخصة فيه على دار رجل آخر فأراد أن يجعل
الدار فكما لا يكون لغيره أن يحدث في ساحة
داره عليه كنيفا فلصاحب الدار أن يمنعه من ذلك
لأن هواء الدار حق لصاحبها كساحة بناه بغير
رضاه فكذلك لا يكون له إحداث البناء في هواء
داره بغير رضاه والجذوع الشاخصة نوع ظاهر يدفع
به الاستحقاق فلا يستحق به شيئا وليس لصاحب
الدار أن يقطع الجذوع لأنها وجدت كذلك ويحتمل
أن تكون حجة لذلك إلا أن تكون نفس الجذوع بحق
مستحق لصاحبها فلا يكون لصاحب الدار أن يقطعها
إلا بحجة والظاهر لا يصلح حجة كذلك إلا أن
تكون جذوعا لا يحمل على مثلها شيئا إنما هو
أطراف جذوع خارجة في داره فحينئذ يكون له أن
يقطعها لأن عين الجذوع غير مقصودة بعينها إنما
المقصود هو البناء عليها فما لا يبنى على مثله
لا يجوز أن يكون مستحقا له في ملك الغير فكان
لصاحب الدار أن يقطعها وما يبنى
ج / 17 ص -83-
عليه
يجوز أن يكون مستحقا له بسبب فلا يكون له
قطعها ما لم يتبين أنه أحدث نصبها غصبا قال
وإذا كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم لم
يجبر صاحب السفل على بناء السفل لأنه ملكه ولا
يجبر صاحب الملك على بناء ملكه فله حق التدبير
في ملك نفسه كإنشاء بيع أو بناء بخلاف ما إذا
كان صاحب السفل هو الذي هدمه لأنه صار متعديا
بالهدم لما لصاحب العلو في بناء السفل من حق
قرار العلو عليه فيجبر على بنائه بحقه كالراهن
إذا قبل المرهون أو المولى قبل عبده المديون
فأما عند الانهدام لم يوجد من صاحب السفل فعل
هو عدوان ولكن لصاحب العلو أن يبني السفل ثم
يبني عليه العلو لأنه لا يتوصل إلى بناء ملكه
إلا ببناء السفل فكان له أن يتطرق ببناء السفل
ليتوصل إلى حقه ثم يمنع صاحب السفل من أن يسكن
سفله حتى يرد على صاحبه العلو قيمة البناء
لأنه مضطر إلى بناء السفل ليتوصل إلى منفعة
ملكه فلا يكون متبرعا فيه والبناء ملك الثاني
فكان له أن يمنعه من الانتفاع بالبناء حتى
يتملكه عليه بأداء القيمة وذكر الخصاف رحمه
الله أنه إنما يرجع على صاحب السفل بما أنفق
في بناء السفل ووجهه أنه مأذون في هذا الانفاق
شرعا فيكون كالمأمور به من صاحب السفل لأن
للشرع عليه ولاية .
ووجه هذه الرواية أن البناء ملكه فيتملكه عليه
صاحب السفل بقيمته كثوب الغير إذا انصبغ بصبغ
غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذ ثوبه يعطي صاحب
الثوب ما زاد الصبغ في الثوب لأن الصبغ ملك
صاحب الصبغ في ثوبه
وذكر في الأمالي عن أبي يوسف رحمه الله أن
السفل كالمرهون في يد صاحب العلو ومراده من
ذلك منع صاحب السفل من الانتفاع بسفله بمنزلة
الرهن .
قال:
ولو كان بيت بين رجلين أو دار فانهدمت لم يكن
لأحدهما أن يجبر صاحبه على البناء لأن تمييز
نصيب أحدهما من نصيب الآخر بقسمة الساحة ممكن
فإن بناها أحدهما لم يرجع على شريكه بشيء لأنه
غير مضطر في هذا البناء فإنه يتمكن من مطالبة
صاحبه بالقسمة ليبني في نصيب نفسه بخلاف العلو
والسفل وكذلك الحائط إن لم يكن عليه جذوع لأن
أس الحائط محتمل للقسمة بينهما إلا أن يكون
بحيث لا يحتمل القسمة نحو الحائط المبني
بالخشبة فحينئذ يجبر أحدهما على بنائه وإذا
بناه أحدهما مع صاحبه من الانتفاع به حتى يرد
عليه قيمة نصيبه كالعبد المشترك إذا كان عاجزا
عن الكسب وامتنع أحد الشريكين من الانفاق عليه
كان لصاحبه أن يجبره على ذلك.
وإن كان على الحائط جذوع لهما فلأحدهما أن
يجبر صاحبه على المساعدة معه في بنائه وإن لم
يساعده على ذلك بناه بنفسه ثم يمنع صاحبه من
وضع جذوعه عليه حتى يرد عليه قيمة حصته من
البناء لأن لكل واحد منهما حق في نصيب صاحبه
من حيث وضع الجذوع عليه وذلك يبطل بقسمة أس
الحائط بينهما فإن كان الجذوع على الحائط
لأحدهما دون الآخر فلصاحب الجذوع أن يبني
الحائط ولا يشاجر صاحبه على المطالبة بقسمة
الحائط
ج / 17 ص -84-
لأن له
حق وضع الجذوع على نصيب صاحبه فإن كان هو الذي
يطالب بالقسمة فليس له أن يمتنع من ذلك لأن
ترك القسمة كان لحقه وقد رضي هو بسقوط حقه
وصار هو في حق الآخر كأنه ليس لواحد منهما
عليه جذوع وكذلك الحمام المشترك إذا انهدم فهو
بمنزلة الدار لأن قسمة الساحة ممكن فإذا بناه
أحدهما لم يرجع على صاحبه بشيء.
قال
:وإذا كان لرجل باب من داره في دار رجل فأراد
أن يمر في داره من ذلك الباب فمنعه صاحب الدار
فصاحب الباب هو المدعي للطريق في دار الغير
فعليه إثباته بالبينة ورب الدار هو المنكر
فالقول قوله مع يمينه وبفتح الباب لا يستحق
شيئا لأن فتح الباب رفع جزء من الحائط ولو رفع
جميع حائطه لا يستحق به في ملك الغير شيئا
فكذلك إذا فتح بابا وقد يكون فتح الباب لدخول
الضوء والريح وقد يكون للاستئناس بالجار
والتحدث معه فلا يكون ذلك دليلا على طريق له
في الدار فإن أقام البينة أنه كان يمر في هذه
الدار من هذا الباب لم يستحق بهذه الشهادة
شيئا لأنهم شهدوا بيد كانت له في هذا الطريق
فيما مضى وبهذه الشهادة لا يستحق المدعي شيئا
ألا ترى أنا لو عايناه مر فيه مرة لم يستحق به
شيئا إلا أن يشهدوا أن له فيها طريقا ثابتا
فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم
والطريق يجوز أن يكون مستحقا له في دار الجار
في أصل القسمة أو أوصى له به فتقبل البينة على
إثباته وإن لم يجدوا الطريق ولم يسموا ذرع
العرض والطول بعد أن يقولوا أن له طريقا في
هذه الدار من هذا الباب إلى باب الدار
فالشهادة مقبولة ومن أصحابنا رحمهم الله من
يقول تأويله إذا شهدوا على إقرار الخصم بذلك
فالجهالة لا تمنع صحة الإقرار فأما إذا شهدوا
على الثبات لا تقبل شهادتهم لجهالة في المشهود
به والأصح أنها تكون مقبولة لأن الجهالة إنما
تمنع قبول الشهادة إذا تعذر على القاضي القضاء
بها وهنا لا يتعذر فإن عرض الباب يجعل حكما
فيكون عرض الطريق له بذلك القدر وطوله إلى باب
الدار
قال في بعض النسخ :فإن لم يجدوا الطريق فذلك أحور للشهادة وفي بعضها قال وإن سموا
الطول والعرض فذلك أحور للشهادة وهذا ظاهر لأن
الجهالة ترتفع به وأما اللفظ الأول فوجهه أنه
لا حاجة إلى التحديد للعمل بالشهادة وربما
يمتنع بذكرها العمل بها فإن من العلماء من
يقدر الطريق بسبعة أذرع لحديث روى فيه فلو بين
الشهود عرض الطريق ربما يذكرون أقل من ذلك أو
أكثر والقاضي يذهب إلى ذلك المذهب فيرد
شهادتهم وإذا أطلقوا عمل القاضي بشهادتهم فكان
ترك التحديد أنفذ للشهادة ومعنى قوله أحور أي
نفذ وكذلك لو قالوا مات أبوه وترك هذا الطريق
ميراثا لأنهم بينوا سبب ملكه وذلك لا يقدح في
شهادتهم.
قال
:ولو كان لرجل ميزاب في دار رجل فأراد أن يسيل
فيه الماء فمنعه رب الدار فليس له أن يسيل فيه
الماء حتى يقيم البينة أن له في هذه الدار
مسيلا لأن الميزاب مركب في
ج / 17 ص -85-
ملكه
كالباب فلا يستحق به حقا في دار الغير إلا
بحجة فإن أقام البينة أنهم قد رأوه يسيل فيه
الماء لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لما بينا
أنهم شهدوا بيد كانت له فيما مضى وقد ذكر في
كتاب الشرب أنهما لو تنازعا في نهر وأحدهما
يسيل فيه ماءه فالقول قوله لأن يده قائمة في
النهر باستعماله بتسييل الماء فيه فأما هنا
ليست له يد قائمة في الدار بتسييل الماء في
الميزاب في وقت سابق.
وبعض مشايخنا من المتأخر رحمهم الله قالوا
إذا كان مسيل الماء إلى جانب الميزاب ويعلم
أنه قديم لم يحدث صاحب السطح فإنه يستحق تسييل
الماء فيه من غير بينة لأن الظاهر شاهد له فإن
الإنسان لا يجعل سطحه إلى جانب ميزاب إلا بعد
أن يكون له حق تسييل الماء فيه بعمله أما إذا
امتنع من تسييل الماء فيه يتعذر عليه تغييره
إلى جانب آخر فإن شهد الشهود أن له مسيل ماء
فيها من هذا الميزاب قبلت الشهادة لأن الثابت
بالبينة كالثابت بإقرار الخصم في حقه فإن
شهدوا أنه لماء المطر فهو لماء المطر وإن
شهدوا أنه لصب الوضوء فيه فهو لذلك لأنهم
بينوا صفة ما شهدوا به من الحق وإن لم يفسروا
شيئا من ذلك فالقول قول رب الدار في ذلك مع
يمينه لأن أصل الحق ثابت بالشهادة ولا يثبت
صفته فالقول قول صاحب الدار لأن ضرر ذلك يختلف
في حقه فإن المسيل لماء المطر يكون ضرره في
وقت خاص ولصب الوضوء فيه يكون الضرر في كل وقت
فيكون القول في البيان قول صاحب الدار وعليه
اليمين على جحوده دعوى صاحبه اعتبارا للصفة
بالأصل.
وإن كانت الدار التي ادعى الطريق أو المسيل
فيها بين الورثة فأقر بعضهم بالطريق والمسيل
وجحد ذلك البعض لم يكن للمدعي أن يمر فيه ولا
يسيل ماءه بقول بعضهم لأنه لا يتوصل إلى
الانتفاع إلا بنصيب الجاحدين وإقرار المقر ليس
بحجة في حقهم فلا يتمكن من التطرق أو بسيل
الماء في نصيب المقر خاصة لأنه غير متميز عن
نصيب شركائه وهذا بخلاف الإقرار بالملك فإن
إقرار أحد الشركاء في نصيبه يجعل المقر أحق
بنصيب المقر من حيث التصرف فيه والانتفاع به
لتمكنه من ذلك في نصيب المقر على أن يكون
قائما مقامه وقد ذكر في موضع آخر فإن وقع ذلك
الموضع في نصيب المقر تطرق فيه المقر له ويسيل
ماءه وإن وقع في نصيب غيره يضرب المقر له
بالطريق أو المسيل في نصيب المقر بقدر ذلك
ويضرب المقر بحصته سوى الطريق والمسيل فيكون
بينهما على ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله وقال محمد رحمه الله إن كانت
الورثة ثلاثة ضرب المقر بثلث المسيل وإنما
أراد به إذا أقر له بملك الطريق أو المسيل
وأصله فيما ذكر في كتاب الإقرار دار مشتركة
بين اثنين أقر أحدهما ببيت بعينه لإنسان
وسنذكر ذلك في موضعه في كتاب الإقرار إن شاء
الله تعالى.
قال
:وإذا كان مسيل الماء في قناة فأراد أن يجعله
ميزابا لم يكن له ذلك إلا برضاء أصل أهل الدار
الذين عليهم المسيل وكذلك لو كان ميزابا فأراد
أن يجعله قناة لم يكن له
ج / 17 ص -86-
ذلك
إلا برضاهم لأن في القناة الماء لا يفيض على
وجه الأرض ولكنه مغور يسيل الماء في بطنه وفي
الميزاب يسيل الماء على وجه الأرض فإذا أراد
أن يجعل القناة ميزابا ففيه زيادة ضرر على أهل
الدار بأن يفيض الماء في ساحة الدار وإذا أراد
أن يجعل الميزاب قناة يحتاج إلى حفر ساحة
الدار وفيه ضرر على صاحب الدار وإنما يثبت له
من الحق قدرا معلوما فلا يكون له أن يلحق
الضرر بهم في الزيادة إلا برضاهم وقيل هذا إذا
لم يكن ذلك الموضع مملوكا له وإنما له حق
تسييل الماء فيه فأما إذا كان الموضع مملوكا
له فله أن يجعل القناة ميزابا والميزان قناة
لأنه يتصرف في خالص ملكه فلا يمنعه منه ضرر
يلحق جاره.
قال
:أرأيت لو جعل ميزابا أطول من ميزابه أو أعرض
كان له ذلك لأنه إن جعله أطول كان انصباب
الماء فيه من غير الموضع الذي كان حقه فيه وإن
جعله أعرض ينصب الماء فيه أكثر مما هو حقه ولو
أراد أن يسيل فيه ماء سطح آخر لم يكن له ذلك
لأنه لم يكن لذلك السطح حق تسييل الماء في هذا
الدار وفيه زيادة ضرر على صاحب الدار وكذلك لو
أراد أن ينقل الميزاب عن موضعه لأنه ينصب
الماء فيه في غير الموضع الذي هو حقه وكذلك لو
أراد أن يرفعه أو يسفله ففي كل ذلك نوع ضرر
على صاحب الدار سوى ما كان مستحقا لصاحب
الميزاب فلا يملكه إلا برضاه.
قال
:ولو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطا ليسد
مسيله لم يكن لهم ذلك لأنهم قصدوا منع حق
مستحق للغير في دارهم وإن أرادوا أن يبنوا
بناء يسيل ميزابه على سطحه كان لهم ذلك لأنه
لا ضرر فيه على صاحب الميزاب إذ لا فرق في حقه
بين أن ينصب ماء المطر في ساحة الدار أو على
ظهر بيت يبنونه في ذلك الموضع وليس لهم أن
يبنوا في ساحة الدار ما يمنع صاحب الطريق من
التطرق فيه ولكنهم إذا أرادوا أن يبنوا الساحة
ينبغي لهم أن يتركوا من الساحة بقدر الطريق
ويثبتون ما سوى ذلك لأنه لا حق له إلا في موضع
الطريق فإن وقعت المنازعة بينهم في عرض ما
يتركون له من الطريق جعلوه قدر عرض باب الدار
لأن ذلك متفق عليه فيرد عليهم المختلف فيه
ولأنه لا منفعة لصاحب الطريق في الزيادة على
ذلك فإنه لا يحمل مع نفسه في الطريق إلا ما
يتمكن من إدخاله في باب الدار ويتمكن لذلك في
طريق عرضه مثل عرض باب الدار والله أعلم.
باب الدعوى في شيء واحد من وجهين
قال رحمه الله: دار في يد رجل ادعى رجل أن أباه مات وتركها ميراثا له منذ سنة جاء
بشاهدين فشهدا أنه اشتراها من ذي اليد منذ
سنتين لم تقبل هذه البينة لأن شرط قبول البينة
تقديم الدعوى فإن حقوق العباد إنما يجب بقاؤها
عند طلب صاحب الحق أو من يقوم مقامه وما شهد
به شهوده لم يتقدم الدعوى به منه ولا يتمكن من
أن يدعيه لأن دعواه الأول يناقض دعواه الثاني
فإن بما ورثه عن أبيه منذ سنة لا يتصور أن
يكون مشتريا له من ذي اليد منذ سنتين والتناقض
يعدم ميراثا قد أكذب شهوده على الشراء فلهذا
لا تقبل شهادتهم له.
ج / 17 ص -87-
وكذلك
لو شهدوا بهبة أو صدقة له من ذي اليد منذ
سنتين ولو كان المدعي ادعى أن ذي اليد تصدق
بها عليه منذ سنة وشهد الشهود على الشراء منذ
سنتين لم تقبل أيضا لأن بعد دعواه الأولى لا
يمكنه دعوى الشراء منذ سنتين فلانعدام الدعوى
أولا كذلك شهوده تمنع العمل بشهادتهم.
وكذلك لو ادعى الشراء أولا منذ سنة ثم أقام
البينة على الصدقة منذ سنتين ولو ادعى الصدقة
منذ سنة ثم أقام البينة على الشراء منذ شهر لم
تقبل إلا أن يوفق فيقول جحدني الصدقة
فاشتريتها منه فحينئذ يقضي بها له لأن من حيث
الظاهر الشهادة مخالفة للدعوى إلا أن التوفيق
ممكن فقد يجحد المتصدق الصدقة فيشتريها منه
المتصدق عليه بعد ذلك فتقبل البينة عند
التوفيق كما لو ادعى ألفا وشهد له الشهود بألف
وخمسمائة لم تقبل إلا أن يوفق المدعي فيقول
كان حقي ألفا وخمسمائة ولكني استوفيت منه
خمسمائة ولم يعلم به الشهود بخلاف ما تقدم فإن
هناك لا يمكنه أن يوفق فيقول جحدني الصدقة منذ
سنة فاشتريتها منه منذ سنتين.
وكذلك لو ادعى الشراء منذ سنة ثم أقام البينة
على الصدقة منذ شهر وقال جحدني الشراء فسألته
فتصدق علي بها بعد ذلك فهذا توفيق صحيح ينعدم
به التناقض وإكذاب الشهود وكذلك لو ادعى
الميراث من أبيه منذ سنة وشهد الشهود على
شرائها من ذي اليد منذ شهر فقال جحدني ذلك ولم
يكن له بينة فاشتريتها منه منذ شهر فهذا توفيق
صحيح وكذلك لو ادعى أمة في يدي رجل فقال
اشتريتها منه بعبدي هذا منذ سنة ثم جاء
بالبينة أنه اشتراها منذ سنة وجاء بشاهدين
فشهدا أنه اشتراها منه بألف درهم مطلقا أو منذ
شهر تقبل الشهادة إذا وفق أو قال حين جحدني
الشراء بالعبد فاشتريتها بألف درهم بعد ما
قمنا من مجلسك أيها القاضي والبيع الثاني ينقض
البيع الأول فيتمكن القاضي من القضاء بالعقد
الذي شهدوا به عند هذا التوفيق ولو شهدوا أنه
اشتراها بألف درهم منذ سنة أو أكثر لم أقبل
شهادتهما لأن اختلاف اليد يوجب اختلاف العقد
فالتوفيق غير ممكن أن شهدوا بالشراء منه منذ
سنة لأنه لا تاريخ بين العقد المدعا والمشهود
به وإن شهدوا بالشراء بألف منذ أكثر من سنة لا
يتمكن القاضي من القضاء بالعقد الذي شهدوا به
لأن العقد المدعا كان بعده بزعم المدعي وهو
ينقض العقد الأول فلا يمكنه القضاء بالعقد
المدعا لأن الحجة لم تقم به فلهذا لا تقبل
الشهادة .
قال
:فإن ادعى عينا في يد رجل أنه له وشهد شهوده
أنه اشتراه من ذي اليد ونقده الثمن أو وهبه ذو
اليد أو تصدق به عليه أو أنه ورثه من أبيه
قبلت الشهادة لأن المعتبر الموافقة بين الدعوى
والشهادة معنى لا لفظا
ألا ترى أن المدعي يقول ادعى عليه كذا والشاهد
يقول أشهد عليه بكذا والموافقة معنى موجود هنا
لأنه ادعى الملك وقد شهدوا له بالملك مع بيان
سببه ولا بد للملك من سبب فبيان سبب الملك من
الشهود في الشهادة إن
ج / 17 ص -88-
لم
يؤكد شهادتهم بالملك لا تندفع بها وهذا بخلاف
ما إذا ادعى الشراء من ذي اليد وشهد له الشهود
بالملك مطلقا لأن الشهادة هناك أزيد من الدعوى
فإن الملك بالشراء حادث والشهادة على الملك
المطلق تثبت الاستحقاق من الأصل حتى يرجع
الباعة بعضهم على بعض بالثمن فأما إذا ادعى
ملكا مطلقا وشهد الشهود بالشراء فالملك به دون
المدعا فذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو ادعى
ألفا وشهد له الشهود بخمسمائة تقبل ولو ادعى
خمسمائة وشهد له الشهود بألف لا تقبل.
وكذلك لو ادعى أنه له ثم ادعى أنه لفلان وكله
بالخصومة فيه وأقام البينة على ذلك تقبل بينته
لأنه لا منافاة بين الدعوتين فالوكيل بالخصومة
قد نصف العين إلى نفسه على معنى أن له حق
المطالبة به فيتمكن القاضي من القضاء بما شهد
به الشهود بعد دعواه الأول ولو ادعى أول مرة
أنه لفلان وكله بالخصومة فيه ثم أقام البينة
أنه له لم أقبل بينته لأن ما هو مملوك له لا
يضاف إلى غيره عند الخصومة فلا يتمكن القاضي
من القضاء بالمشهود به وهو الملك له بعد ما
أقر أنه وكيل فيه بالخصومة بما ادعاه الأول
ولا يتمكن من القضاء بالملك لأن الشهود لم
يشهدوا به وكذلك إن أقام البينة أنه لفلان آخر
وكله بالخصومة فيه لا أقبل ذلك منه لأن الوكيل
بالخصومة في العين من جهة زيد لا بصفة إلى
غيره فيتمكن من التناقض بين الدعوتين على وجه
لا يمكن التوفيق بينهما.
قال
:ولو ادعاه لرجل زعم أنه وكله فيه بالخصومة ثم
قال بعد ذلك أنه باعه من فلان وهو يملكه وكلني
فلان المشتري بالخصومة وجاء بالبينة على ذلك
قبلت بينته وقضيت به للموكل الآخر لأنه وفق
بين الدعوتين بتوفيق ممكن لو عاينا ذلك صححنا
دعواه الثانية فكذلك إذا وفق بتلك الصفة ويقضي
به للموكل الآخر وتأويل هذا إذا شهدوا الشهود
بالملك بالشراء فأما إذا شهدوا بالملك المطلق
لا تقبل الشهادة قال ولو ادعى القاضي في صك
جاء باسمه ثم جاء بالبينة أن ذلك المال لغيره
وأنه قد وكله بالخصومة فيه قبلت ذلك منه لما
بينا أن الوكيل بالخصومة قد يضيف المال إلى
نفسه على معنى أن له حق المطالبة به فيتمكن
القاضي من القضاء بالشهادة والله أعلم بالصواب
.
باب ادعاء الولد
قال رحمه الله :ذكر عن شريح رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه
إذا أقر الرجل بولده لم يكن له أن ينفيه وهكذا
عن علي رضي الله عنه وبقولهما نأخذ أنه متى
ثبت النسب بإقراره لم يكن له أن ينفيه بعد ذلك
لأن النسب لا يحتمل النقض والنسخ ولا يتصور
تحويله من شخص إلى شخص وبإقراره ثبت منه لكون
الإقرار حجة عليه فإن قيل أليس أن النسب يثبت
من الزوج بفراش النكاح ثم يملك نفيه باللعان
قلنا لأن ثبوته هناك بحكم الفراش على احتمال
أن لا يكون منه فيتصور نفيه أما هنا بثبوت
النسب منه بتنصيصه على أنه مخلوق من مائه فلا
يبقى بعده احتمال النفي كالمشتري إذا أقر
بالملك
ج / 17 ص -89-
للبائع
ثم استحق من يده ورجع بالثمن لم يبطل إقراره
حتى إذا عاد إلى يده يوما يؤمر بتسليمه إلى
البائع بخلاف ما إذا اشتراه ولم يقر له بالملك
لأن نفس الشراء وإن كان إقرار بالملك
فالاحتمال فيه باق بخلاف الإقرار به نصا.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه :قال مر عمر رضي الله عنه على جارية تسقي مع رجل من بئر فقال لمن
هذه فقالوا لفلان قال ولعله يطأها قالوا نعم
قال أما أنها لو ولدت ألزمته ولدها وبظاهره
يأخذ الشافعي رحمه الله فنقول الأمة تصير
فراشا بنفس الوطء ولا حجة له فيه لأن عنده
الفراش إنما يثبت بإقرار المولى وهنا الإقرار
في الأجانب وبه لا يثبت الفراش فأما أن يحمله
على أنه عرف أنها أم ولده أو يحمل على أن
مراده من ذلك حث الناس على تحصين الجواري
ومنعهن عن الاختلاط بالرجال فقد ظهر أن عمر
رضي الله عنه ما يخالف هذا على ما روي عن عمر
رضي الله عنه أنه كان له جارية وكان يطأها
فجاءت بولد ونفاه وقال اللهم لا يلحق بآل عمر
من لا يشبههم فأقرت أنه من فلان الراعي.
وعن زيد بن ثابت رضي الله
عنه: أنه كان يطأ جاريته فجاءت بولد فنفاه فقال كنت أطأها ولا أبغي
ولدها أي أعزل عنها وهكذا نقل عن بن عباس وبن
عمر رضي الله عنهما والذي ذكر في الكتاب عن بن
عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال
من وطى ء وليدة له فضيعها فالولد منه والضياع
عليه لا حجة فيه للخصم لأن الوليدة اسم لأم
الولد فإنه فعيل بمعنى فاعل أي والده وذكر عن
عمر رضي الله عنه قال حصنوهن أو لا تحصنوهن
أيما رجل وطى ء جارية فجاءت بولد ألزمته إياه
وإنما قال ذلك على سبيل الحث للناس على تحصين
السراري ومنعهن عن الخروج ثم لا خلاف بين
العلماء رحمهم الله أن النسب يثبت بالفراش
والفراش تارة يثبت بالنكاح وتارة يثبت بملك
اليمين فأما الفراش في النكاح الصحيح يثبت
بنفسه إذا جاءت بالولد لمدة يتوهم أن العلوق
بعد النكاح ثبت النسب على وجه لا ينتفي إلا
باللعان إذا كان من أهل اللعان وكذلك النسب
يثبت بشبهة النكاح إذا اتصل به الدخول وهذه
الشبهة تثبت بالنكاح الفاسد تارة وبإخبار
المخبر أنها امرأته تارة لأن الشبهة تعمل عمل
الحقيقة فيما هو مبني على الاحتياط وأمر النسب
مبني على الاحتياط.
ألا ترى أن في حق وجوب المهر والعدة جعلت
الشبهة بمنزلة حقيقة النكاح فكذلك في النسب
ومتى ثبت النسب بالشبهة لا يمكن نفيه بحال لأن
نفي النسب بعد ثبوته لا يكون إلا باللعان ولا
يجري اللعان في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة
وأما بملك اليمين لا خلاف أن لنسب لا يثبت
بنفس الملك ولا بالوطء بشبهة الملك بدون
الدعوة وإنما الخلاف في أن بنفس الوطء بملك
اليمين لا خلاف أن النسب لا يثبت بنفس الملك
ولا بالوطء بشبهة الملك بدون الدعوة وإنما
الخلاف في أن بنفس الوطء بملك اليمين هل يصير
فراشا حتى لا يثبت النسب به عندنا إلا أن يقر
المولى بالنسب وعند الشافعي يثبت بنفس الوطء
ولكن إذا كان المولى يطأها ويمنعها من الخروج
ج / 17 ص -90-
فالأولى له أن يدعي ولدها ولا ينفيه فإن
الميرة في هذا ولكن لا يلزمه حكما إلا بالدعوة
واحتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن زمعة
وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما اختصما بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد
ولدته زمعة فقال عبد ولد أبي ولد على فراش أبي
وقال سعد رضي الله عنه بن أخي عهد إلي فيه أخي
وأمرني أن أضمه إلى نفسي فقال صلى الله عليه
وسلم: "هو لك
يا عبد الولد للفراش وللعاهر الحجر"
فقد أثبت النسب من زمعة بإقرار من يخلفه بوطئه
إياها ولم يسبق من زمعة دعوة النسب فدل أن
الفراش يثبت بنفس الوطء والمعنى فيه أنه وضع
ماءه حيث له وضعه فيثبت النسب منه كما في فراش
النكاح وهذا لأن الوطء بملك اليمين ينزل منزلة
عقد النكاح.
ألا ترى أنه تثبت به حرمة المصاهرة كما يثبت
بالنكاح بل أقوى فحرمة الربيبة تثبت بالوطء
ولا يثبت بنفس النكاح وكذلك يحرم الجمع بين
الأختين وطئا بملك اليمين كما يحرم الجمع
بينهما نكاحا ثم الفراش في حق النسب يثبت
بالنكاح فكذلك بالوطء بملك اليمين ولنا أن وطء
الأمة كملكها وبملكها لا يثبت الفراش لأنه
محتمل قد يكون لبيعها وقد يكون لوطئها فكذلك
وطئه إياها محتمل قد يكون للاستفراش وقد يكون
لقضاء الشهوة وتحقيق ذلك بالعزل عنها عادة
وينفرد بذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة فلا
يثبت النسب منه إلا بالدعوة التي لا يبقى
بعدها احتمال بخلاف النكاح فإنه لا يكون إلا
للفراش عادة.
ألا ترى أن التمكن من الوطء هناك جعل بمنزلة
حقيقة الوطء وهنا بالتمكن من الوطء لا يثبت
النسب بالاتفاق للاحتمال فكذلك بحقيقة الوطء
ولأن هناك لا يبطل بثبوت النسب ملكا باتا
للزوج وهنا يبطل ملك المالية والتصرف فيها
بثبوت نسب ولدها والمحتمل لا يكون حجة في
إبطال الملك المتحقق به وبه فارق حرمة
المصاهرة فليس في إثباتها إبطال الملك بل باب
الحرمة مبني على الاحتياط فيجوز إثباته مع
الاحتمال ولأن ثبوته باعتبار الاتحاد بين
الواطئين حسا حتى تصير أمهاتها وبناتها
كأمهاته وبناته وذلك حاصل بملك اليمين.
ألا ترى أن الرضاع في إثبات الحرمة جعل كالنسب
ولم يجعل كهو في إبطال الملك به يعني بالعتق
عليه وكذلك حرمة الجمع بين الأختين نكاحا
للتحرز عن قطيعة الرحم بينهما وذلك يحصل
بالوطء بملك اليمين فأما حديث عبد فقد ذكر أبو
يوسف رحمه الله في الأمالي أن وليدة زمعة كانت
أم ولد له وفي بعض الروايات في الحديث زيادة
قال ولد أبي ولد على فراش أبي لأني أقربه أبي
وعندنا إذا أقر المولى بالنسب يثبت النسب منه
على أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"هو لك يا عبد" ليس بقضاء
بالنسب بل هو قضاء بالملك له لكونه ولد أمة
أبيه ثم أعتقه عليه بإقراره بنسبه .
ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال لسودة:
"فأما أنت يا سودة فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك"
والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم:
"الولد للفراش"
تأكيد
ج / 17 ص -91-
نفي
النسب عن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه لأنه
كان عاهرا لا إلحاق النسب بزمعة.
قال
:وإذا حبلت الأمة عند رجل ثم باعها وقبض ثمنها
فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فادعاه البائع
ثبت النسب منه وقضي بأنها أم ولد له ولدها حر
الأصل وعليه رد الثمن على المشتري عندنا
استحسانا وفي القياس لا يثبت النسب منه ما لم
يصدقه المشتري وبه أخذ زفر والشافعي رحمهما
الله.
وجه القياس في ذلك أن البائع مناقض في كلامه
ساع في نقض ما قد تم به وهو البيع فلا يقبل
قوله كما لو قال كنت أعتقتها أو دبرتها قبل أن
أبيعها وهذا لأن إقدامه على بيعها إقرار منه
أنها ليست بأم ولد له ولنا أنا تيقنا بحصول
العلوق في ملكه وذلك ينزل منزلة البينة في
إبطال حق الغير عنها كالمريض إذا جاءت جاريته
بولد في ملكه فادعى نسبه نزل ذلك منزلة البينة
في إبطال حق الغرماء والورثة عنها وعن ولدها
وتفسير الوصف أن أدنى مدة الحبل ستة أشهر فإذا
جاءت بولد من ذلك فقد تيقنا بحصول العلوق قبل
البيع وتأثيره وهو أن بحصول العلوق في ملكه
يثبت له حق استلحاق النسب بالدعوة وذلك لا
يحتمل الإبطال وإنما يبطل البيع ما كان محتملا
للإبطال فأما فيما لا يحتمل إلا إبطال الحال
بعد البيع وقبله سواء فإذا بقي حق استلحاق
النسب له بقي ما كان ثابتا وهو التفرد به من
غير حاجة إلى تصديق المشتري وخفاء أمر العلوق
يكون عذرا له في إسقاط اعتبار التناقض وقبول
قوله في إبطال البيع كما أن الزوج إذا كذب
نفسه بعد قضاء القاضي بنفي النسب ثبت منه وبطل
حكم الحاكم ولا ينظر إلى التناقض.
وهذا لأن الإنسان قد يعلم تدينا أن العلوق
ليس منه ثم يتبين له أنه منه ولا يوجد مثل هذا
في دعوى العتق والتدبير فلهذا لا يقبل قول
البائع فيه فإن ادعاه المشتري بعد ذلك فعلى
طريق القياس يثبت النسب منه لأن دعوة البائع
لم تصح وعلى طريقة الاستحسان لما ثبت النسب من
البائع لا تصح دعوة المشتري لأن البيع قد
انتقض فصار هو كأجنبي آخر ولأن الولد قد
استغنى عن النسب بثبوت نسبه من البائع وإن كان
المشتري ادعاه أولا ثبت النسب منه لأنها
مملوكته في الحال يملك إعتاقها وإعتاق ولدها
فتصح دعوته أيضا لحاجة الولد إلى النسب
والحرية ويثبت لها أمية الولد بإقراره ثم لا
تصح دعوة البائع بعد ذلك لأن الولد قد استغنى
عن النسب حين ثبت نسبه من المشتري ولأنه قد
يثبت فيه ما لا يحتمل الإبطال وهو حقيقة النسب
فيبطل به حق الاستلحاق الذي كان ثابتا للبائع
ضرورة فإن ادعياه معا ثبت النسب من البائع
عندنا .
وقال إبراهيم النخعي رحمه
الله: يثبت النسب من المشتري لأن للمشتري حقيقة الملك فيها وفي ولدها
وللبائع حق والحق لا يعارض الحقيقة كما لو
جاءت جارية رجل بولد فادعاه هو وأبوه معا ثبت
النسب من المولى لأن له حقيقة الملك فيها
وللأب حق فيسقط اعتبار الحق في مقابلة الحقيقة
ولنا أن دعوة البائع دعوة استيلاء لأن أصل
العلوق في ملكه
ج / 17 ص -92-
ودعوة
المشتري دعوة تجويز فإن أصل العلوق لم يكن في
ملكه ولا يعارض دعوة التجويز دعوة الاستيلاد
كما لا يعارض نفس الإعتاق دعوة الاستيلاد
بمعنى أن دعوة الاستيلاد لا تقتصر على الحال
بل تستند إلى وقت العلوق ودعوة التحرير تقتصر
على الحال فدعوة البائع سابقة معنى فكأنها
سبقت صورة بخلاف دعوة المولى مع أبيه فإن شرط
صحة دعوة الأب بملك الجارية من وقت العلوق إذ
ليس له في مال ولده ملك ولا حق الملك فاقتران
دعوة المولى بدعوة الأب يمنع تحصيل هذا الشرط
فلهذا أثبتنا النسب من المولى دون أبيه ولو أن
المشتري أعتق الأم أو استولدها أو دبرها ثم
ادعى البائع الولد ثبت نسبه منه لأن الولد
يحتاج إلى النسب بعد عتق الأم وهو مقصود
بالدعوة.
وحق الاستيلاد في الأم يثبت تبعا فلا يمتنع
ثبوت الأصل بامتناع ثبوت البيع إذ ليس من
ضرورة ثبوت نسب الولد ثبوت أمية الولد للأم
كما في ولد المغرور يثبت نسب الولد ولا تصير
الأم أم ولد للمغرور ثم يرد البائع حصة الولد
من الثمن دون الأم لأنه تعذر فسخ البيع في
الأم لما جرى فيها من عتق المشتري فإنه لا
يجوز أن يرد أمه توطأ بالملك بعد ما نفذ العتق
فيها ولم يتعذر الفسخ في الولد وقد صار الولد
مقصودا بهذا الاسترداد فتصير له حصة من الثمن
فلهذا يسترد المشتري حصة الولد من الثمن.
ولو ماتت الأم ثم ادعى البائع نسب الولد صحت
دعوته لما بينا ويرد البائع جميع الثمن في قول
أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله يمسك حصة الأم من الثمن لأنه تعذر
فسخ البيع فيها بالموت كما في الفصل الأول
وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على المسألة
الخلافية المعروفة بين أبي حنيفة وصاحبيه
رحمهم الله في مالية أم الولد فعند أبي حنيفة
رحمه الله لا قيمة لرقها حتى لا يضمن بالغصب
فكذلك لا يكون لها حصة من الثمن وقدزعم البائع
أنها أم ولد وزعمه حجة عليه وعلى قولهما لرقها
قيمة حتى يضمن بالغصب فيمسك حصتها من الثمن ثم
الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين هذا والأول أن
هناك القاضي كذب البائع فيما زعم حين جعلها
معتقة من جهة المشتري أو مدبرة أو أم ولد فلم
يبق لزعمه غيره فأما هنا بموتها لم يجز الحكم
بخلاف ما زعم البائع فبقي زعمه معتبرا في حقه
فلهذا رد جميع الثمن.
ولو كان المشتري باع الأم أو وهبها أو رهنها
أو أجرها أو كاتبها أبطلت جميع ذلك ورددتها
على البائع لأن هذا التصرفات محتملة للنقض
كالبيع الأول فكما يجوز نقض البيع الأول بدعوة
الاستيلاء من البائع فكذلك يجوز نقض هذه
التصرفات ولو كان المشتري أعتق الولد أو دبره
ثم ادعى البائع نسبه لم يصدق في ذلك إذا أكذبه
المشتري لأن الولد مقصود بالدعوة وقد ثبت
المشتري فيه ما لا يحتمل النقض وهو الولاء
فيبطل به حق الاستلحاق الذي كان للبائع لأن
الولاء كالنسب وقد بينا أنه لو ثبت النسب من
المشتري لم يكن للبائع حق الدعوة بعد ذلك
فكذلك إذا ثبت الولاء له وكذلك لو قبل الولد
عنده وأخذ قيمته ثم
ج / 17 ص -93-
ادعاه
البائع لم تصح دعوته كما لو مات الولد وهذا
لأنه بالموت أو القتل قد استغنى عن النسب وصحة
دعوة البائع لحاجة الولد إلى النسب ثم لا يرد
الأم على البائع لأن حقها تبع لحق الولد في
النسب ولم يثبت ما هو الأصل فلا يثبت ما هو
بيع لأنه لو ثبت كان مقصودا لا تبعا ولو قطعت
يد الولد فأخذ المشتري نصف قيمته ثم ادعاه
البائع صحت دعوته لأن الولد إلا قطع محتاج إلى
النسب محل لانتقاص البيع فيه ولكن الأرش يبقى
سالما للمشتري لأن إبانة اليد كانت على حكم
ملكه ودعوة البائع إنما تعمل في القائم دون
اليد المبانة.
وليس من ضرورة ثبوت نسب الولد بطلان حق
المشتري عن الأرش لأنه ينفصل عنه في الجملة
لأن الأرش مال ليس من النسب في شيء فيرد
الجارية مع ولدها على البائع بجميع الثمن إلا
حصة اليد فقد احتبس بدلها عند المشتري فلا
يسلم له مجانا ولكن حصته من الثمنتسلم للبائع
كما ذكرنا فيما إذا احتبست الأم عنده وكذلك لو
كان القطع في الأم لأن المعنى الذي أشرنا إليه
يجمع الكل ولو فقأ رجل عيني الولد فدفعه
المشتري إلى الجاني وأخذ قيمته ثم ادعى البائع
نسبه صحت دعوته لأن المفقوءة عيناه يحتاج إلى
النسب ودفعه بالجناية محتمل للنقض فلا يمنع
صحة دعوة البائع فيرد الأم والولد على البائع
ويرد جميع الثمن على المشتري عند أبي حنيفة
رحمه الله لأن من أصله أن الجاني يرجع على
المشتري بجميع القيمة فإن الجثة العمياء إذا
لم تسلم للجاني لا يلزمه شيء عند أبي حنيفة
رحمه الله حتى لو أعاد المولى إمساك الجثة
والرجوع بنقصان القيمة لم يكن له ذلك عنده
فإذا لم يسلم للمشتري شيء من بدل العينين رد
البائع جميع الثمن وعلى قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله المشتري يرجع على الجاني بنقصان
العينين لأن في الابتداء لو أراد إمساك الجثة
والرجوع بنقصان العينين كان له ذلك فكذلك في
الانتهاء وإذا كان للمشتري نقصان العينين رد
البائع عليه جميع الثمن إلا حصة النقصان وكذلك
لو فقئت عينا الأم فهو على ما بينا .
قال
:ولو ادعى البائع نسب الولد وقد جاءت به لأقل
من ستة أشهر وكذبه المشتري ثم قتل الولد بعد
ذلك أو قطعت يده فعلى الجاني من ذلك ما عليه
بالجناية على الأحرار لأن بمجرد الدعوى ثبت
النسب وصار الولد حرا فإنه لا عبرة لتكذيب
المشتري فإنما حصلت الجناية بعد ذلك على حر
وإن كانت الجناية على الأم كان عليه ما في
جناية أم الولد لأن حق أمية الولد قد ثبت له
بثبوت نسب الولد وحاصل هذا أنه لا حاجة إلى
قضاء القاضي في إبطال هذا البيع وعودهما إلى
البائع لأنه قد ثبت فيها وفي ولدها بنفس
الدعوة ما هو مناف للبيع وإن جني الولد كانت
جنايته كجناية الحر وجناية أمه كجناية أم
الولد لثبوت ذلك فيها بنفس الدعوة وإن كانت
الجناية منهما قبل الدعوة فهو على البائع دون
المشتري لأن البائع بالدعوة قد صار مبطلا ملك
المشتري فيهما بغير صنع من المشتري فليس على
ج / 17 ص -94-
المشتري من موجب جنايتهما شيء ولكن البائع
مختار إن كان عالما بالجناية لأنه بالدعوة
أثبت الحرية للولد وحق الحرية للأم فيكون
كالمنشى ء لذلك بعد الجناية فلهذا صار مختارا.
ولو كانت الجارية لم تلد بعد فادعى البائع أن
حبلها منه وقال المشتري ليس بها حبل وأراها
النساء فقلنا هي حبلى أو قال المشتري بها حبل
ولكنه ليس منك فالبائع لا يصدق في الدعوة حتى
تضع لأنه لا طريق لمعرفة الحبل حقيقة فإنه مما
استأثر الله تعالى بعلمه لقوله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}
[لقمان:34] ولأن شرط صحة دعوة البائع أن تلد لأقل من ستة أشهر من
وقت البيع حتى يعلم يقينا أن العلوق كان في
ملكه ولا يدري أنها هل تضع لأقل من ستة أشهر
أم لا فلعلها تسقط سقطا غير مستبين الخلق أو
يضع الولد أكثر من ستة أشهر فلهذا لا تصح دعوة
البائع فإن جاء به لأقل من ستة أشهر الآن تصح
تلك الدعوة كما لو أنشأها بعد الوضع لأن تيقنا
أن العلوق حصل في ملكه فلو جاءت بالولد لأقل
من ستة أشهر فأدعاه البائع وقال أصل الحبل كان
عندي وقال المشتري لم يكن عندك إنما كان
العلوق قبل شرائك فالقول قول البائع لأنهما
تصادقا على اتصال العلوق بملك البائع فكان
الظاهر شاهدا للبائع ولأن المشتري يدعي تاريخا
سابقا في العلوق على ملك البائع فلا يصدق على
ذلك فإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة
البائع لأنه يثبت تاريخا سابقا في ملكه على
العلوق وملكه حقه فبينته على سبق التاريخ فيه
مقبولة ولا شك في هذا عند أبي يوسف رحمه الله.
واختلف المشايخ على قول محمد
رحمه الله :منهم من يقول قوله هكذا ومنهم من يقول البينة بينة المشتري عنده
لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة وأصل هذا
فيما إذا قال المشتري اشتريتها منك منذ سنة
وقال البائع إنما بعتها منك منذ شهر فالقول
قول البائع لأن المشتري يدعي زيادة تاريخ في
شرائه فلا يصدق على ذلك إلا بحجة فإن أقاما
جميعا البينة فالبينة بينة البائع عند أبي
يوسف رحمه الله لأنه يثبت بينته حصول العلوق
في ملكه وثبوت حق استلحاق النسب له وعند محمد
رحمه الله البينة بينة المشتري لأنه هو
المحتاج إلى إثبات التاريخ في شرائه بالبينة
فيثبت بينته أن شراءه كان منذ سنة وذلك مانع
من صحة دعوة البائع فلهذا قبلت بينته.
قال:
وإن كانت ولدت الجارية المبيعة بنتا لأقل من
ستة أشهر ثم ولدت ابنتها ابنا فأعتق المشتري
الابن ثم ادعى البائع الابنة فهي ابنته لأن
العلوق بها كان في ملكه ودعوته فيها دعوة
استيلاد ويثبت حرية الأصل فيها ومن ضرورته
إبطال عتق المشتري على ابنها لأن العتق يطرأ
على الرق ومن ضرورة كونها حرة الأصل أن ينفصل
الولد منها حرا وكذلك إن كانت الابنة ولدت
بينته
قال:
ألا ترى أن رجلا لو ولدت جاريته عنده غلاما ثم
ولد للغلام بن فباع المولى بن
ج / 17 ص -95-
الولد
الذي ولد عنده فأعتقه المشتري ثم ادعى الولد
الذي كان العلوق به في ملكه صحت دعوته ويبطل
بيع الابن وعتق المشتري إياه لأنه تبين بصحة
دعوته حرية الأصل للأب وذلك يوجب حرية الابن
لأن الابن مولود من أمة كانت لمدعي الأب فتبين
أنه كان ملك بن ابنه وعتق عليه قبل أن يبيعه
وبطل به بيع المشتري وعتقه قال وهذا بمنزلة
التوأم وفي بعض النسخ التوأمين وكلاهما صحيح
عند أهل اللغة منهم من قال التوأم أفصح كما
يقال هما زوج ومنهم من قال التوأمان أفصح كما
يقال هما كفوان وأخوان وبيانه جارية ولدت
ولدين في بطن واحد من علوق كان في ملك مولاها
فباع المولى أحدهما وأعتقه المشتري ثم أن
البائع ادعى نسب الذي عنده يثبت نسبهما منه
لأنهما خلقا من ماء واحد فلا ينفصل أحدهما عن
الآخر نسبا وقد كان العلوق بهما في ملكه فيثبت
حرية الأصل للذي عند البائع ومن ضرورته ثبوت
حرية الأصل للآخر وكان ذلك بمنزله إقامة
البينة في إبطال عتق المشتري وشرائه في الآخر
فكذلك فيما سبق .
وهذا بخلاف ما تقدم إذا أعتق المشتري الأم ثم
ادعى البائع نسب الولد لم يبطل عتق المشتري في
الأم لأنه ليس من ضرورية حرية الأصل للولد
ثبوت أمية الولد للأم في ولد المغرور ولأن
هناك لو أبطلنا عتق المشتري فيها رددناها من
حالة الحرية إلى حالة الرق وذلك لا يجوز لأن
العتق أسقط الرق والمسقط متلاشي لا يتصور عوده
وهنا لو أبطلنا عتق المشتري رددناه إلى حال
حرية الأصل وذلك مستقيم ولأن فيه إبطال الولاء
الثابت للمشتري والولاء أثر من آثار الملك فلم
يجز إسقاطه إلا عند قيام الحجة فلهذا أبطلنا
عتق المشتري في هذه الفصول.
ولو لم يبع بن الابن ولكنه باع الابن فأعتقه
المشتري ثم ادعاه لم تجز دعوته لأن المقصود
بالدعوة الابن وقد اتصل به من جهة المشتري ما
لا يحتمل النقض وهو الولاء فيبطل به حق
الاستلحاق الذي كان ثابتا للبائع فيه وعتق بن
الابن الذي في يده لأنه أقر له بالحرية حين
زعم أنه بن ابنه والإقرار بالنسب وإن لم يعمل
في إثبات النسب لمانع كان عاملا في الحرية كما
لو قال لعبده وهو معروف النسب من الغير هو
إبني يعتق عليه وكذلك لو مات عند المشتري لأنه
بالموت استغنى عن النسب وخرج البيع من أن يكون
محتملا للنقض فيه فلم يعمل دعوة البائع في حقه
وعتق بن الابن بإقراره كما بينا.
ولو كان مكان الابن ابنة فماتت عند المشتري ثم
ادعى البائع نسبها لم تصح دعوته في حقها ولا
في حق ابنتها وهذا والملاعنة سواء في قول أبي
حنيفة رحمه الله إذا كان ولد الملاعنة ابنتا
فولدت ابنا ثم ماتت الأم ثم أكذب الملاعن نفسه
لم يعمل إكذابه في إثبات نسبها مع بقاء بن
يخلفها فكذلك هنا والمعنى فيهما سواء وهو أن
ينسب الولد القائم إلى أبيه دون أمه فيجعل أمه
كالميتة لا عن ولد وأبو يوسف ومحمد رحمهما
الله يفرقان بين هذه وولد الملاعنة فإن عندهما
هناك ولدا لابنه كولد الابن في قيامه مقام ولد
الملاعنة حتى
ج / 17 ص -96-
يصح
إكذاب الملاعن نفسه ويثبت نسب ولد الملاعنة
وإن كان ميتا لأن هناك أصل النسب كان ثابتا
بالفراش فاستتر باللعان وبقي موقوفا على حقه
حتى لو ادعاه غيره لم يصح فيجعل بقاء ولده
كبقائه في صحة الإظهار بالدعوة وأما نسب ولد
المبيعة ما كان ثابتا من البائع ولا موقوفا
على حقه حتى لو ادعاه المشتري ثبت نسبه منه
فلا تعمل دعوته في الإثبات ابتداء إلا في حال
بقائه أو بقاء من ينسب إليه وولد الابن ينتسب
إليه بالبنوة دون ولد الابنة فلهذا لا يثبت
النسب بعد موت إلا بنت بالدعوة .
قال
:وإذا حبلت الأمة فولدت في يد مولاها ثم باعها
فزوجها المشتري من عبده فولدت له ولدا ثم مات
العبد عنها فاستولدها المشتري ثم ادعى البائع
الولد الذي عنده ثبت نسبه منه لأن العلوق به
كان في ملكه فدعوته فيه دعوة استيلاد ويرد
إليه بن العبد بحصته من الثمن لأنه ولد أم ولد
في حقه وهو ثابت النسب من غيره وولد أم الولد
بمنزلة أمه ولو لم يستولد المشتري الأم كانا
جميعا مردودين عليه فاستيلاده الأم يثبت فيها
ما لا يحتمل النقض وهو حق العتق للمشتري فنزل
ذلك منزلة حقيقة العتق وذلك لا يمنع رد الولد
إليه لأن أحدهما ينفصل عن صاحبه.
فإن قيل: هذا الولد في حكم أمية الولد تبع للأم ولا يثبت البائع حق أمية
الولد في الأم فكيف يثبت في ولدها قلنا لا
كذلك بل هما جميعا بائعان للولد الذي عنده لأن
الأم بيع ولا بيع للتبع فتعذر رد أحدهما عليه
لا يمنع رد الآخر بحصته من الثمن ويعتبر في
الانقسام قيمتها وقت البيع وقيمة الولد الثاني
وقت الانفصال لأنه كما حدث فحق أمية الولد فيه
ثابت للبائع إلا أنه لما صار متقوما عند
الانفصال فيعتبر في الانقسام قيمته في ذلك
الوقت ويعتق بموت البائع من جميع ماله لأنه بن
أم ولده فإن ادعى البائع بن العبد أنه ابنه
عتق عليه ولم يثبت نسبه منه لأنه يملكه ولكنه
معروف النسب من الغير فدعوته إياه كإعتاقه.
قال
:ولو باعها وهي حبلى فولدت عند المشتري بعد
البيع بيوم ثم ولدت ولدا آخر بعد سنة من غير
زوج فادعى البائع والمشتري الولدين معا فهما
ابنا البائع أما الأكبر منهما فلأن العلوق به
كان في ملك البائع يثبت نسبه منه ويبطل البيع
فيه وفي أمه لأنه تبين أنها أم ولده من حين
علقت والولد الثاني مردود عليه أيضا لأنه بن
أم ولده فهو إنما يدعي ملك نفسه والمشتري يدعي
ملك الغير فلهذا كان دعوة البائع أولى فيهما
ولو بدأ المشتري فادعى الولد الآخر أنه ابنه
ثبت نسبه منه لأن العلوق به حصل في ملكه وهو
محتاج إلى النسب وصارت الجارية أم ولد له فإن
ادعى البائع بعده الولد الأول ثبت نسبه منه
بحصول العلوق به في ملكه ويرد إليه الولد خاصة
بحصته من الثمن لأنه تعذر فسخ البيع في الأم
لما ثبت للمشتري فيها من حق أمية الولد ولو لم
يدع واحد منهما شيئا حتى لو ادعى البائع الولد
الآخر لم يصدق لأن العلوق بالولد الآخر لم يكن
في ملكه وهو للحال مملوك للمشتري
ج / 17 ص -97-
فلا
دعوة له فيه مقصودة وكذلك لو مات الأول ثم
ادعاهما البائع لأن دعوته في الذي مات لم تصح
لاستغنائه عن النسب فلو صح كان الآخر مقصودا
والعلوق به لم يحصل في ملكه .
قال
:وإن ولدت الأمة المبيعة ولدين في بطن واحد
كلاهما أو أحدهما لأقل من ستة أشهر فجنى على
أحد الولدين جناية وأخذ المشتري الأرش ثم
ادعاهما البائع فدعوته جائزة فيهما لأنا تيقنا
بحصول العلوق بهما في ملكه فإنهما خلق من ماء
واحد والتي ولدت لأقل من ستة أشهر يتيقن أن
العلوق كا ن في ملكه فيتبين أيضا أن العلوق
الثاني كا ن في ملكه وإن ولدت لأكثر من ستة
أشهر فلهذا ثبت نسبهما وبطل البيع فيهما وفي
الأم ولكن الأرش يبقى سالما للمشتري لما بينا
في الولد الواحد أن الدعوة في اليد المبانة لا
تعمل فيبقى الأرش للمشتري كما كان قبل الدعوة
وكذلك إن اكتسب أحدهما كسبا فقد كان قبل
الدعوة الكسب ملكا للمشتري وليس من ضرورة صحة
الدعوة بطلان ملكه في الكسب فيبقى سالما له
ولو كان قتل أحدهما ثم ادعاه البائع كان قيمة
الموصول لورثة المقتول لأن بثبوت حرية الأصل
لأحدهما يثبت مثله للآخر فيكون بدله لورثته
ضرورة.
وهذا بخلاف الأرش والكسب لأن التوأم لا ينفصل
أحدهما عن الآخر في النسب والحرية وأعمال ذلك
في الأقطع ممكن فلا حاجة بنا إلى إعماله في
إبطال ملك المشتري في الأرش والكسب فأما
الواجب على القاتل بدل النفس ومن ضرورة إبطال
البيع فيه عند بقاء ما يخلفه أنه لا يبقى
للمشتري حقا في بدل نفسه فكان ذلك لورثة
المقتول قال في بعض النسخ ويصدق البائع في بدل
النفس وفي بعض النسخ قال لا يصدق في بدل النفس
وليس هذا باختلاف الرواية ولكن حيث قال يصدق
يعني في حق المشتري حتى يبطل حقه عن القيمة
لأن من ضرورة ثبوت الحرية للمقتول في الأصل أن
لا يملك بدل نفسه بملك الأصل وحيث قال لا يصدق
يعني في حق الجاني حتى لا يجب عليه الدية بل
يكون الواجب عليه القيمة كما كان لأنه ليس من
ضرورة ثبوت الحرية فيه وجوب الدية على قاتله
فكم من قتل غير موجب للدية وما كان ثبوته
بطريق الضرورة تعتبر فيه الجملة دون الأحوال .
قال
:ولو كان المشتري أعتق أحدهما ثم قتل وترك
ميراثا وأخذ المشتري ديته وميراثه بالولاء ثم
ادعى البائع الولدين ثبت نسبهما منه وأخذ
الدية والميراث من المشتري لأن حرية الأصل قد
ثبت للمقتول ضرورة ثبوتها في الآخر وذلك مناف
لولاء المشتري فإنما أخذ ميراثه بالولاء فإذا
ظهر المنافي للولاء وجب رده ولو أعادهما
المشتري أولا فإنهما إبناه لأنهما مملوكان له
محتاجان إلى النسب فإن ادعاهما البائع بعد ذلك
لم يصدق لوقوع الاستغناء لهما عن النسب بثبوت
نسبهما من المشتري
قال
:أمة حبلت في ملك رجل فولدت غلاما وكبر فزوجه
المولى أمة له فولدت غلاما ثم باع الأسفل
وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الابن الأول
فهو ابنه لأن العلوق به كان في ملكه وينتقض
بيع المشتري وعتقة في بن الابن لأنه تبين أنه
كان حرا قبل بيعه
ج / 17 ص -98-
فإنه
إنما ولد من أمة المولى ومن ملك بن ابنه فعتق
عليه وكان ذلك سابقا على بيعه فيبطل به البيع
وعتق المشتري إياه ضرورة وهو بمنزلة التوأم
كما قررنا ولو لم يدع البائع الذي عنده ولكن
ادعى الذي باع أنه ابنه كانت دعوته باطلة لأنه
وإن حصل العلوق في ملكه فقد نفذ فيه من جهة
المشتري ما لا يحتمل الإبطال وهو العتق فلهذا
لا تصح دعوته فيها.
قال :أمة ولدت ولدين في بطن واحد ولم يكن أصل الحبل عند هذا المولى
فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعاهما البائع
فهما ابناه لأنه لما بقي أحد الولدين عنده
فدعوته فيه صادفت ملكه فيثبت نسبه منه ومن
ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ولكن لا
ينتقض عتق المشتري ولا البيع لأن أصل العلوق
بهما لم يكن في ملك البائع فدعوته دعوة
التحرير فينزل منزلة الإعتاق والتوأمان ينفصل
أحدهما عن الآخر في الإعتاق فليس من ضرورة عتق
أحدهما بدعوة البائع إبطال البيع وعتق المشتري
في الآخر بخلاف ما إذا كان العلوق بهما في ملك
البائع فإن دعوته هناك دعوة استيلاد يستند إلى
وقت العلوق فيثبت به حرية الأصل للذي بقي عنده
ومن ضرورته حرية الأصل للآخر فلهذا بطل البيع
والعتق.
ألا ترى أن الجارية المشتركة بين اثنين إذا
ولدت فادعاه أحدهما فإن كان أصل العلوق في
ملكهما لم يضمن من قيمة الولد لشريكه شيئا وإن
لم يكن أصل العلوق في ملكهما ضمن نصف قيمة
الولد لشريكه إن كان موسرا لأن دعوته دعوة
تحرير فيجعل بمنزلة إعتاقه الولد مقصودا .
قال
:أمة في يد رجل وفي يده ولد لها وفي يد رجل
آخر ولد لها فادعى الذي في يده الولد أن
الولدين جميعا إبناه ولد من هذه الأمة في بطن
واحد أو في بطنين وأن الأمة أمته وأقام البينة
على ذلك وادعى الذي في يديه مثل ذلك وأقام
البينة على ذلك فإنه يقضي بالأمة والولدين
جميعا للذي الأمة في يديه لأن كل واحد منهما
يدعي حق العتق فيها بسبب أمية الولد فكان
دعواه حقيقة العتق فيها والبينة بينة ذي اليد
لأن كل واحدة من البينتين قامت لإثبات الولاء
والولاء بمنزلة النسب فيترجح بينة ذي اليد
فإذا قضينا بالأمة له أثبتنا نسب الولدين منه
لأنهما ولد أم ولده قد ادعاهما وأجنبي ادعى
نسب ولد أم ولد الغير وهذا لأن استحقاق الأصل
بالبينة توجب استحقاق الزوائد المنفصلة.
قال
:ولو كانت أمة في يد رجل وفي يديه ولد لها
فجاء آخر يدعيها ولا يدعي ولدها وفي يده ولد
لها آخر يدعيه وأقام البينة على دعواه وأقام
الذي هو في يديه البينة أن الأمة أمته ولدت
الابن الذي في يديه منه ولا يعرف أي الولدين
أكبر وقد ولدتهما في بطنين قضيت بالأمة للذي
في يديه لدعواه أمته الولد فيها وقضيت لكل
واحد منهما بالابن الذي ادعاه وهو في يديه لأن
كل واحد منهما يدعي نسب أحد الولدين وخصمه لا
ينازعه في ذلك وكل واحد من الولدين محتاج إلى
النسب وذلك كاف للقضاء بنسبه منه بمجرد
ج / 17 ص -99-
الدعوة
فكيف إذا أثبته بالبينة بخلاف ما سبق فإن
المنازعة بينهما هناك في نسب الولدين فرجحنا
المقضي له بالجارية لأن استحقاقه الأصل شاهد
له فيما يدعي من نسب الولد ولأنا قضينا له
بالفراش حين قضينا بأمية الولد من جهته في
الأم وثبوت النسب باعتبار الفراش فإذا ادعاه
كان أولى به وإذا نفاه ثبت من الذي ادعاه
لإقامة البينة عليه واحتمال أن يكون لما ادعاه
سببا صحيحا .
قال
:أمة في يد رجل له منها ولد فادعى آخر أن الذي
الأمة في يديه زوجها منه وولدت على فراشه هذا
الولد وأقام الذي في يديه البينة الأمة أن
الأمة لهذا المدعي وأنه زوجها منه وولدت على
فراشه هذا الولد فالأمة بمنزلة أم موقوفة في
يدعي الذي هي في يديه لا يطأها واحد منهما لأن
كل واحد منهما أقر بولادتها منه والملك فيها
لأحدهما فيثبت أمية الولد فيها ثم كل واحد
منهما ينفيها عن نفسه ويقول أنها في ملك صاحبي
وقد ادعى نسب ولدها فصارت بمنزلة أم الولد له
فبقيت موقوفة لا يطأها واحد منهما كمن اشترى
عبدا ثم أن البائع أعتقه وجحد البائع ذلك كان
موقوفا الولاء فأيها مات عتقت هي لأن الحي
منهما قد أقر بعتقها بموت صاحبه وصاحبه كان
مقرى بأن إقرار الحي فيهما كان نافذا فلهذا
تعتق بموت أحدهما والولد للذي هو في يديه لأن
دعواهما فيه دعوى النسب وبينة ذي اليد في دعوى
النسب تترجح على جانب الخارج .
قال
:أمة في يدي رجل وفي يده ولد لها فادعى آخر
أنه تزوجها بعد إذن مولاه فولدت له على فراشه
هذا الولد الذي في يد مولاها وأقام البينة على
ذلك وأقام المولى البينة أنه ابنه ولد على
فراشه من أمته هذه فإني أقضي بالولد للزوج
وأثبت نسبه منه لأن ثبوت النسب باعتبار الفراش
وفراش النكاح أقوى في إثبات النسب من فراش
الملك.
ألا ترى أن النسب الذي يثبت بالنكاح لا ينتفي
بمجرد النفي والذي يثبت بملك اليمين ينتفى
بمجرد النفي والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي
فلهذا أثبتنا النسب من الزوج ولكنه يعتق
بإقرار المولى لأنه قد أقر بحريته حين ادعى
نسبه وكذلك الأمة بمنزلة أم الولد للمولى لأنه
كما أقر للولد بالحرية فقد أقر لها بحق الحرية
بسبب هو محتمل في نفسه فيثبت لها حق أمية
الولد حتى إذ مات المولى عتقت وهذا لأنه إنما
يمتنع العمل بإقراره في إبطال ما صار مستحقا
لغيره وهو النسب فأما فيما وراء ذلك يجعل هو
كالمقر بالحق لأنه ليس فيه إبطال حق لأحد.
قال حرة ولدت ولدين في بطن واحد فكبرا واكتسبا
مالا ثم مات أحدهما عن ابنين ثم ادعى رجل أنه
تزوج المرأة وأنهما ابناه منها وأقرت المرأة
وحدها بذلك فإنها لاتصدق على غيرها لأن الولد
الثاني كبير يعبر عن نفسه فلا يثبت نسبه من
الغير بدعواه إلا عند تصديقه وكذلك الميت
منهما ابناه قائمان مقامه فلا يثبت نسبه
بدعواه إلا بتصديقهما ولم يوجد وإقرار المرأة
ليس بحجة على أحد منهم ولكنه حجة عليها
فيشركها في نصيبها من
ج / 17 ص -100-
ميراث ابنها لأنها زعمت أن الميت منهما خلف
ابنين وأبوين فللابوين السدسان والباقي
للابنين فقد أقرت بأن حق الأب وحقها في تركته
سواء فيقسم ما في يدها بينهما نصفان وليس من
ضرورة الشركة في الميراث في نصيب المقر ثبوت
النسب فإن المال يستحق بأسباب وأصله في أحد
الأخوين إذا أقر بأخ ثالث فإن أقر الابن
الثاني بذلك ثبت نسبهما جميعا منه لأن نسب
المقر قد ثبت بتصديقه ومن ضرورة ثبوت نسب
الآخر فإنهما توأم وإن أقر بن الميت بذلك وهو
محتمل ثبت نسبهما منه لأن بن الميت قائم مقام
الميت وهو في حياته لو صدق ثبت نسبهما منه
فكذلك إذا صدقه من يخلفه .
قال
:أمة ولدت غلاما فأقر المولى أن هذا الولد من
زوج حر أو عبد معروف فإن صدقه المقر له أو كان
ميتا أو غائبا ثم ادعى المولى أنه ابنه عتق
بدعواه لإقراره بحريته ولا يثبت نسبه منه لأنه
ثابت من المقر له بحكم إقراره وعند التصديق
غير مشكل وعند غيبته وهو موقوف على حقه فلا
يملك أن يدعيه على نفسه وإن كان المقر له
حاضرا فكذبه ثم ادعاه المقر بعد ذلك لنفسه قال
أبو حنيفة رحمه الله لا يثبت نسبه منه وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت نسبه منه لأن
إقرار المقر قد بطل بتكذيب المقر له وبقي
الولد محتاجا إلى النسب فإذا ادعاه المولى في
حال حاجته وليس فيه إبطال حق غيره يثبت منه .
ألا ترى أن المشتري للعبد إذا أقر بالولاء
للبائع وكذبه البائع ثم ادعاه لنفسه ثبت
الولاء منه والولاء بمنزلة النسب في أنه لا
يحتمل الإبطال بعد ثبوته ثم هناك بالتكذيب
يبطل إقراره لغيره ويصير كأن لم يكن فكذلك هنا
وأبو حنيفة رحمه الله يقول في كلامه الأول
إقرار بشيئين أحدهما ثبوت النسب من الغير
والآخر خروجه من دعوى هذا النسب أصلا وبتكذيب
المقر له إنما يبطل ما هو من حقه فأما ما لا
حق له فيه لا يبطل الإقرار فيه بتكذيب وخروج
المقر من دعوى هذا النسب ليس بحق للمقر له
فيبقى الحال فيه بعد التكذيب على ما كان قبله
والدليل عليه أن بتكذيبه لا يبطل الإقرار لأن
النسب مما لا يحتمل الإبطال أصلا بل بقي
موقوفا على حقه حتى لو ادعاه ثبت منه فلا يملك
المولى دعواه لنفسه في حال توفقه على حق الغير
كولد الملاعنة إذا ادعى غير الملاعن نسبه لا
يثبت منه لأنه يبقى موقوفا على حق الملاعن
فيمنع ذلك صحة دعوة غيره وهذا بخلاف الولاء
فإنه أثر من أثر الملك وأصل الملك محتمل النقل
من شخص إلى شخص فكذلك أثره إلا أنه إنما لا
يحتمل الإبطال بعد تقرر سببه وهو العتق من
واحد لعدم تصور ذلك السبب من غيره حتى لو تصور
بأن كانت أمة فارتدت ولحقت بدار الحرب وسبيت
فملكها رجل وأعتقها كان ولاؤها له دون الأول
وهنا السبب كان موقوفا لم يتقرر للبائع ويحتمل
تقرره من قبل المشتري بدعواه لنفسه فلهذا يثبت
الولاء له بخلاف النسب ولو لم يقر المولى بشيء
منه من ذلك ولكن أجنبي قال هذا الولد بن
المولى فأنكره المولى ثم اشتراه الأجنبي أو
ورثه فادعى أنه ابنه عتق ولم يثبت نسبه منه في
قول أبي حنيفة رحمه الله وهذا والأول سواء لأن
ج / 17 ص -101-
الإقرار بالنسب في حق المقر يعتبر فيما لا
يتناول حق المقر مالكا كان أو أجنبيا وكذلك لو
شهد شاهدين بنسب لغيره ثم ادعى لنفسه ثم لم
يثبت نسبه في قول أبي حنيفة رحمه الله لما
بينا أن بشهادته لغيره قد أخرج نسبه من ذلك
النسب فلا يمكنه أن يدعيه لنفسه بعد ذلك .
قال:
ولو شهدت امرأة على صبي أنه بن هذه المرأة ولم
تقبل شهادتهما بالنسب ثم ادعت الشاهدة أن
الصبي ابنها وأقامت على ذلك شاهدين لم يقبل
ذلك منها لأنها بشهادتها قد أخرجت نفسها من
دعوى نسب هذا الولد فإن الولد لا يثبت نسبه من
المرأة إلا بانفصاله عنها وبعد ما زعمت أنه
انفصل من المشهود لها لا يمكنها أن تدعي
انفصاله منها والبينة على النسب بدون الدعوى
لا تكون مقبولة ولوكبر الصبي فادعى أنه ابنها
وأقام على ذلك شاهدين قضي القاضي بنسبه منها
لأن الابن يدعي ما هو من حقه فإن نسبه وإن كان
ثابتا إلى أبيه فإذا كان ثابت النسب من أمه
يكون كريم الطرفين ولم يسبق منه ما يناقض
ويمنعه من هذه الدعوى فوجب قبول بينته .
ألا ترى أن الأم لو كانت جاحدة أصلا قبلت بينة
الابن عليها فكذلك إذا كانت مناقضة في قولها
وكذلك لو ادعى رجل صبيا في يد امرأة أنه ابنه
وهي تنكر فشهد له شاهد فلم يقبل القاضي شهادته
ثم أن الشاهد ادعى الصبي أنه ابنه وأن المرأة
امرأته وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته
لأن بشهادته صار مخرجا نفسه من هذه الدعوى ولو
ادعته المرأة عليه وأقامت البينة قبلت بينتها
لأنها تدعي ما هو من حقها فإن في ثبوت نسب
ولدها من رجل دفع تهمة الزنى عنها حتى تكون
محصنة ولم يسبق منها ما يمنعها من هذه الدعوى
فوجب قبول بينتها عليه.
قال:
ولو ادعى رجلان صبيا في يد امرأة كل واحد
منهما يقول هو ابني منها بنكاح وهي تنكر ثم
ادعت المرأة على آخر أنه تزوجها وهذا الصبي
لها منه وشهد لها بذلك الرجلان المدعيان للصبي
لم أقبل شهادتهما لأنهما بالدعوى الأولى صارا
مناقضين في هذه الشهادة وتأثير التناقض في
الشهادة أكثر منه في الدعوى فإذا كان هذا
النوع من التناقض يمنعه الدعوى فلان يمنعه من
الشهادة كان أولى وكذلك صبي في يد امرأة شهد
رجل أنه بن فلان ورد القاضي شهادته ثم شهد هو
وآخر أنه بن رجل آخر لم تقبل هذه الشهادة
لكونه أحد الشاهدين متناقضا فيها.
قال:
وإذا أقر الرجل أن أمته حبلى من رجل قد مات ثم
ادعى أنه منه فولدت لأقل من ستة أشهر عتق
لإقراره بحريته ولم يثبت نسبه منه لأنا تيقنا
بوجوده في بطن الأم حين أقر بنسبه لغيره وثبوت
النسب من وقت العلوق والإقرار به حال كونه
موجودا في البطن والإقرار به بعد الانفصال
سواء فلا تسمع منه الدعوى لنفسه بعد الإقرار
الأول وهذه هي الحيلة أن يشتري جارية حاملا
إذا أراد أن يتحرز عن دعوى البائع بأمره بأن
يقر أن الحبل بها من فلان الميت ثم يشتريها
المشتري فإذا ادعاه البائع بعد ذلك لنفسه لا
يسمع دعواه ولا يبطل ملك
ج / 17 ص -102-
المشتري فيها ولا في ولدها ولو أقر أن الحبل
بها من زوج ثم مكث سنة ثم قال هي حامل مني
فولدت لأقل من ستة أشهر من الإقرار الآخر فهو
بن المولى ثابت النسب منه لأنه لم يسبق منه ما
يخرجه من دعوى نسبه الآخر فإنه لم يكن موجودا
في البطن عند كلامه الأول إنما هو من علوق
حادث.
فإن قيل: هو مالك لأم الولد وقد أقر أنها منكوحةالغير وفراش النكاح للغير
عليها يمنع المولى من دعوى نسبها قلنا ذلك
الإقرار ليس بموجب لنكاح الغير عند العلوق
بالثاني لأن بقاء ما عرف ثبوته لعدم الدليل
المزيل لا لوجود الدليل المنفي ودعواه نسب
الولد الثاني تنصيص منه على كونها فراشا له
حين علقت بالثاني فهذا دليل موجب لفراشه فلا
يعارضه ما كان ثابتا لعدم الدليل المزيل حتى
يكون دافعا له.
قال:
رجل قال لأمته الحامل إن كان حملها غلاما فهو
مني وإن كان جارية فهو من زوج زوجتها إياه أو
قال إن كانت جارية فليست مني فولدت غلاما
وجارية لأقل من ستة أشهر فهما ولداه لأن كلامه
يشتمل على شيئين أحدهما معتبر والآخر لغو
فالمعتبر دعواه نسب ما في بطنها واللغو
التقسيم فيما بين الغلام والجارية نفيا
وإثباتا فإن هذا رجم بالغيب ولا طريق له إلى
معرفته فاعتبر من كلامه ما أمكن اعتباره وقد
تيقنا بوجودهما في البطن حين ادعى نسب أحدهما
وهما توأم فدعواه نسب أحدهما كدعواه نسبهما
فلهذا قضى بأنهما ولداه ولو أقر أنه زوج أمته
رجلا غائبا وهو حي لم يمت ثم جاءت بولد بعد
قوله لستة أشهر فادعاه المولى لم يصدق لأن
إقراره بالنكاح بزوج معروف إقرار صحيح فيثبت
به نكاح الغائب في حقه فدعواه بعد ذلك في
إبطال حق ذلك الغائب غير مسموع بخلاف ما تقدم
من إقراره أنه من زوج لأن ذلك إقرار بالنكاح
للمجهول والإقرار للمجهول باطل وليس في دعواه
نسب ولد علق بعد ذلك في إبطال حق ثابت لغيره
فلهذا أثبتنا النسب منه.
قال:
ولو أقر أنه ولد مكاتبه من زوج ثم ادعى هو
نسبته لم يصدق عليه لأن بالكلام الأول أخرج
نفسه من دعوى نسب هذا الولد ولكن يعتق عليه
لأن ولد المكاتبة مكاتب مع أمه فكان مملوكا
للمولى كالأمة حتى يملك إعتاقه فكذلك يملك
إقراره فيه بما يوجب الحرية ولا يضمن للمكاتبة
شيئا لأنه حصل بعض مقصودها فإنها إنما تسعى
لتحصيل الحرية لنفسها ولأولادها وكذلك ولد
المدبرة وأم الولد فيما ذكرنا وكذلك أمة بين
رجلين ولدت فأقر كل واحد منهما أنه بن الآخر
ثم ادعاه أحدهما بعد ذلك لم يصدق على النسب
لأنه أقر بأنه بن لشريكه وذلك يخرجه من دعوى
نسبه فلا تصح دعواه لنفسه بعد ذلك وقد عتق
الولد بقول الأول منهما لاتفاقهما على حريته
سواء كان ابنها لهذا أو لذاك وصارت الأم
بمنزله أم الولد موقوفة لتصادقهما على ثبوت حق
أمية الولد لها ونفي كل واحد منهما ذلك عن
نفسه فأيهما مات عتقت لأن الحي منهما يزعم
أنها أم ولد للميت وقد عتقت بموته والميت كان
مقرى بنفوذ إقرار الحي فيها لأنها أم ولده
فلهذا عتقت بموت أحدهما.
ج / 17 ص -103-
قال رجل علقت جاريته في ملكه فولدت فادعى
الولد أبوه ثبت نسب الولد منه وصارت الجارية
أم ولد له وعليه للمولى قيمة الولد للجارية
لأن الشرع أضاف مال الولد إلى الأب بقوله صلى
الله عليه وسلم
"أنت ومالك لأبيك"
وأثبت له حق
تملك المال على ولده عند الحاجة ولهذا كان له
أن ينفق من ماله بالمعروف وحاجته إلى النفقة
لإبقاء نفسه إلى الاستيلاد لإبقاء نسله فإن
بقاءه معني ببقاء نسله إلا أن الحاجة إلى
إبقاء النفس أصلي فيثبت له ولاية صرف مال
الولد إلى حاجته من غير عوض وحاجته إلى إبقاء
نسله ليس من أصول الحوائج فلا يبطل حق الولد
عن مالية الجارية فكان له أن يتملكها بضمان
القيمة نظرا من الجانبين وروي عن بشر رحمه
الله أنه قال آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف
رحمه الله أن الجارية لا تصير أم ولد للأب
ولكن الولد حر بالقيمة بمنزلة ولد المغرور
فيغرم الأب عقرها وقيمة ولدها لأن حق ملك الأب
في مال ولده لا يكون أقوى من حق ملك المولى في
كسب مكاتبه فإنه يملك رقبة المكاتب ولا يملك
رقبة ولده ثم لو ادعى ولد جارية مكاتبة لا
تصير الجارية أم ولد له ولكن إن صدقه المكاتب
فالولد حر بالقيمة فكذلك هنا إلا أن هناك
يحتاج إلى تصديق المكاتب لأن المولى حجر على
نفسه عن التصرف في كسب مكاتبه ودعوة النسب
تصرف منه فلا ينفذ إلا بتصديقه.
ووجه ظاهر الرواية أن للمولى في كسب المكاتب
حق الملك وذلك كاف لثبات النسب فلا حاجة به
إلى تملك الجارية وإذا لم يتملكها لا تصير أم
ولد له وليس للوالد في مال ولده حق الملك
بدليل أنه يباح للابن أن يطأ جارية نفسه فلا
يمكن إثبات النسب فيه إلا بتقديم بملك الجارية
فيه على الاستيلاد صيانة لمائه من الضياع وإذا
صار متملكا لها فإنما استولد ملك نفسه فتصير
أم ولد له فلهذا لا يلزمه قيمة الولد لأنه علق
حر الأصل ولا عقر عليه عندنا.
وقال زفر والشافعي رحمهما الله عليه العقر لأن
وطأه حصل في ملك الغير فلا يخلو عن إيجاب حد
وعقر وقد سقط الحد لشبهة فيجب العقر كما لو
وطئها فلم تحبل وهذا لأن ملكه إياها أن يقدم
على العلوق ولكن لا يضيع ماؤه فيبقى أصل الوطء
حاصلا في ملك الغير .
ألا ترى أنه يسقط به إحصان الأب ولنا أن ملكه
إياها مقدم على فعل الاستيلاد وأصل الوطء إذا
اتصل به العلوق يكون استيلادا كالجرح إذا اتصل
به زهوق الروح يكون قتلا من الأصل فإذا تقدم
ملكه إياها على فعل الاستيلاد كان واطئا ملك
نفسه فلا يلزمه العقر غير أن تقديم هذا الملك
ضرورة تصحيح الاستيلاد فلا يعد وموضع الضرورة
ففي حكم الإحصان لا يظهر هذا الملك لانعدام
الضرورة فيه ولأن المستوفي في حكم جزء من
عينها وقد غرم بفعله جميع بدل نفسها ويسقط
اعتبار بدل الجزء كمن قطع يد إنسان خطأ ثم
قتله خطأ قبل البرء أما إذا اشتراها الابن
حاملا فولدت بعد الشراء بيوم فادعاه أبوه لم
يثبت النسب منه إذا أكذبه الابن لأن ثبوت
النسب من الأب بشرط تملكها على الابن من وقت
ج / 17 ص -104-
العلوق وقد تعذر إيجاد هذا الشرط هنا لأنها
عند العلوق ما كانت في ملك الابن ولا كان للأب
فيها ولاية النقل إلى نفسه لحاجة ولأن دعوته
هنا دعوة التحرير فيقتصر على الحال ولا كان
للأب فيها ولاية ويكون بمنزلة الإعتاق وليس
للأب ولاية الإعتاق في مال ولده بخلاف الأولى
فإن دعوته دعوة الاستيلاد.
وإلى هذا أشار فقال: لو جعلته ابنه لم أضمنه
قيمة الأم لتعذر تملكه عليه إياها من وقت
العلوق وكل ولد لا يضمن الأب فيه قيمة الأم
فهو غير مصدق عليه إلا أن يصدقه الابن فحينئذ
يثبت النسب منه بمنزلة أجنبي آخر إذا ادعاه
فصدقه المولى وهذا لأن الحق لهما فما تصادقا
عليه محتمل فيجعل كأنه حق وكذلك إن باعها
الابن قبل أن تلد ثم ولدت فادعاه أب البائع لم
تصح دعوته لتعذر إيجاد شرطه وهو يملك الأم
عليه حين لم يكن في ملك الولد وقت الدعوة
وكذلك إن باعها بعد العلوق ثم اشتراها فولدت
لأن شرط صحة دعوته تملكها عليه مستند إلى وقت
العلوق وقد تعذر ذلك لما تخلل من زوال ملك
الابن وكذلك المدبرة بحبل في ملك مولاها وتلد
فادعا الولد الأول أبوه لم يثبت نسبه منه لأن
ما هو الشرط وهو النقل إلى ملك الأب بضمان
القيمة متعذر في المدبرة وكذلك أم الولد إذا
ولدت ولدا فنفاه المولى فادعاه أبوه.
وروى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في
المدبرة أن دعوة الأب صحيحة يثبت نسب الولد
منه يضمن عقرها وقيمة الولد مدبرا وهذا على
الأصل الذي ذكرنا لأبي يوسف رحمه الله أنه لا
يتملك الجارية ولكنه بمنزلة المغرور في دعوى
النسب وفي هذا القنة والمدبرة سواء إلا أنه
يضمن قيمته مدبرا لأنه كما انفصل عن أمه انفصل
مدبرا فإنما يضمن قيمته على الوجه الذي أتلفه
بدعوته وفرق على هذه الرواية بين ولد المدبرة
وولد أم الولد فقال ولد أم الولد ثابت النسب
من مولاها لماله عليها من الفراش فيمنع ذلك
صحة دعوة الأب وإن نفاه المولى كما في ولد
الملاعنة فأما ولد المدبرة غير ثابت النسب من
مولاها فتصح دعوة أبيه فيه وكذلك ولد المكاتبة
يدعيه أب مولاها فإنه غير مصدق على ذلك لتعذر
شرط صحة الدعوة وهو يملكها عليه بضمان القيمة
فإن ولدته وهي مكاتبة أو كاتبها بعد ما ولدت
أو كاتب الولد لم تصح دعوة الأب في الفصول
كلها لأن الولد هو المقصود وقد تقرر فيه من
جهة الابن ما يمنع نقله إلى الأب فلهذا لم تصح
دعوته وإن كاتب الأم بعد الولادة ثم ادعى الأب
نسب الولد قال في هذا الموضع لا تصح دعوته
وقال بعد هذا تصح دعوته ويثبت نسب الولد منه
ولا يصدق في حق الأم وما ذكر هنا قول محمد
رحمه الله وما ذكر بعد هذا قول أبي يوسف رحمه
الله نص على الخلاف في الجامع في البيع إذا
باع الأم بعد الولادة ثم ادعى أبوه نسب الولد
يثبت نسبه في قول أبي يوسف ولم يثبت في قول
محمد فكذلك إذا كاتبها.
وجه قول محمد رحمه الله أن شرط صحة الدعوة
يملكها عليه بضمان القيمة وقد تعذر
ج / 17 ص -105-
ذلك حين كاتبها أو باعها فلم تصح دعوته كولد
المدبرة وأم الولد وجه قول أبي يوسف رحمه الله
أن الولد هو المقصود بالدعوة وقد ثبت الأب حق
استلحاق نسبه بالدعوة قبل كتابة الأم فلا
يتعين بذلك كتابة الأم بخلاف ولد المدبرة وأم
الولد فإن المانع هناك في الولد موازاته ما
نحن فيه أن لو كاتبها جميعا قال وإن ادعى ولد
جارية ابنه والابن حر مسلم والأب عبد أو مكاتب
أو كافر لم تصح دعوته لأن شرط ثبوت النسب
ولاية النقل فيها إلى نفسه بضمان القيمة
والرقيق والكافر لا ولاية له على ولده فلم تصح
دعوته لتعذر اتحاد شرطه فلو كان الأب مسلما
والابن كافرا صحت دعوته.
وطعن عيسى رحمه الله في هذا الحرف فقال كما
ليس للكافر ولاية على ولده المسلم فليس للمسلم
ولاية على ولده الكافر حتى لا يرث أحدهما
صاحبه ولا يثبت له ولاية التزويج والتصرف في
ماله في صغره فلا يتملكه بالاستيلاد والصحيح
ما ذكر في بعض ظاهر الرواية والفرق من وجهين
أحدهما أن التملك بالاستيلاد إبقاء أثر
الولاية التي كانت ثابتة في حال الصغر فإذا
كان الأب مسلما فلا يكون الابن مقرى على كفره
إلا بعد أن يكون إسلام الأب طارئا وقد كانت
ولايته قبل إسلامه فيبقى أثره حق الملك
بالاستيلاد فأما الابن إذا كان مسلما فهو مسلم
أصلي بإسلام أمه ولم يكن للكافر عليه ولاية قط
فلا يبقى أثر ولابنه في الاستيلاد ولأن التملك
بالاستيلاد لكرامة الأب فيثبت للمسلم على
الكافر الولاية التي يرجع إلى كرامة المسلم
كولاية الشهادة ولا يثبت للكافر على المسلم
مثل هذه الولاية فلهذا افترقا ولو كانا جميعا
من أهل الذمة ومللهما مختلفة جازت دعوة الأب
فيه لأن لبعضهم على البعض ولاية مع اختلاف
الملل .
قال ولا تجوز دعوة الجد إذا كان الأب حيا لأنه
ليس له ولاية على النافلة ولا في ماله في حياة
الأب فكان هو كسائر الأجانب فإن كان الأب
ميتا، فالجد في الولاية قائم مقام الأب بعد
وفاته، لصحة دعوة النسب منه. وإن كان الجد من
قبل الأم لم تجز دعوته في الوجهين جميعا،لأنه
لا ولاية له على ولد ابنته ولا في ماله، فلا
يمكن إيجاد شرط الدعوة، وهو تملك الجارية عليه
بالاستيلاد.وإن كان قد وطئ جاريته ثم ولدت فلم
تدعه وادعاه أبوه، جازت دعوته لأن موطوءة
الابن محتملة للنقل إلى الأب بالعوض،وإن كانت
لا تحل له فيتحقق فيها ما هو شرط الدعوة.
قال: وإذا ادعى الأب نسب ولد جارية الابن،فضمن
قيمتها للابن،ثم استحقها رجل بالبينة،فإنه
يأخذها وعقرها وقيمة ولدها،لأن الأب هنا
بمنزلة المغرور، لأنها مملوكة الابن ظاهرا،
وللأب حق الاستيلاد في ملك الابن.فإذا ظهر
الاستحقاق تبين أنه كان مغرورا فيغرم عقرها
وقيمة ولدها،ويرجع على الابن بما أدى إليه من
قيمتها.لأنه تبين أنه لم يتملكها على أبيه،
وأنه استوفى القيمة منه بغير حق، وكذلك لو وطء
أمة مكاتبة فولدت وادعاه المولى، وصدقه
المكاتب،ثم استحقها رجل قضي للمستحق عليه
بالعقر وقيمة الولد. لأنه بمنزلة
ج / 17 ص -106-
المغرور فإن له في كسب المكاتب حق ملك يكفي
لصحة استيلاده، وبالاستحقاق تبين أنه كان
مغرورا، فيغرم للمستحق عقرها وقيمة ولدها،
ويرجع على المكاتب بما غرم له من العقر وقيمة
الولد، لأنه ما أتلف على المكاتب شيئا، فلا
يسلم للمكاتب شيء من قيمته، والله أعلم.
باب الحميل والمملوك والكافر
قال رضي الله عنه: الأصل أن إقرار الرجل يصح
بأربعة نفر بالأب والإبن والمرأة ومولى
العتاقة وإقرار المرأة يصح من ثلاثة نفر بالأب
والزوج ومولى العتاقة ولا يصح إقرارها بالولد
لأن إقرار المرء على نفسه مقبول. قال الله
تعالى:{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}
[القيامة:14]وعلى الغير مردود للتهمة، فالرجل بالإقرار مقر بالولد
على نفسه،لأن الولد ينسب إليه والمرأة تقر على
الغير، وهو صاحب الفراش لأن الولد ينسب إليه
لا إليها، فلم يصح إقرارها بالولد لهذا, وفي
الثلاثة هي مقرة على نفسها كالرجل، فيصح
الإقرار والإقرار بما سوى هذه الأربعة من
القرابات كالأحوال والأعمام لا يصح، لأنه يحمل
نسبه على غيره، فإن ثبوت النسب بينهما لا يكون
إلا بواسطة، وفي تلك الواسطة إقرار على الغير،
فلم يكن صحيحا. والأصل فيه حديث عمر رضي الله
عنه: لا يورث الحميل إلا ببينة.
وأصل هذا ما روي عن الشعبي رحمه الله أن امرأة
سبيت ومعها صبي فاعتقا وكبر الصبي واكتسب مالا
ثم مات فقالوا للمرأة خذي ميراث ابنك فقالت
ليس هو ابني ولكنه بن دهقان القرية وكنت ظئرا
له فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب أن لا
يورث الحميل إلا ببينة قال محمد رحمه الله
الحميل عندنا كل نسب كان في أهل الحرب وليس
هذا بشيء يختص بأهل الحرب فإن الحميل من يحمل
النسب على الغير فعيل بمعنى فاعل أو من يحمل
نسبه على الغير فعيل بمعنى مفعول كالقتيل
بمعنى مقتول إلا أنه إنما وضعه في أهل الحرب
بناء على العادة لأنه لا يمكن إثبات أنسابهم
بالبينة في دار الإسلام وقل ما يتعذر ذلك فيما
بين المسلمين فلهذا وضعه في أهل الحرب فقال
إذا سبي صبيان فاعتقا وكبرا فأقر كل واحد
منهما أن الآخر أخوه لأبيه وأمه لم يصدقا في
ذلك لأنهما يحملان النسب على الأب فالأخوة
بينهما لا تثبت إلا بواسطة الأب والأم لأن
الأخوة عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم.
وكذلك لو كان مع المسبي امرأة فأعتقت وادعت
أنه ابنها وصدقها في ذلك لم يصدقا بخلاف ما
إذا كان مع المسبي رجل فاعتق ثم ادعا أن الصبي
ابنه يثبت نسبه منه لأنه يقر بالنسب على نفسه
ولأن سبب ثبوت النسب من الرجل خفي لا يقف عليه
غيره فمجرد قوله فيه مقبول وسبب ثبوت النسب من
المرأة ولادة يطلع عليها غيرها فلا يقبل بمجرد
قولها فإن كان الصبي ممن يعبر عن نفسه أو كان
بالغا لم يثبت النسب إلا بتصديقه لأن الإقرار
يتوقف على تصديق المقر له إذا كان التصديق
متأتيا ولأنه من وجه يدعي عليه وجوب
ج / 17 ص -107-
الانتساب إليه قال صلى الله عليه وسلم:
"من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير
مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا"
فلا يثبت المدعى عليه إلا بتصديقه وإنما يثبت
عند التصديق إذا كان محتملا في نفسه وإن لم
يكن الولد معروف النسب من غيره ثم إذا أقرت
المرأة بولد وصدقها لم يثبت النسب ولكنهما
يتوارثان إن لم يكن لهما وارث معروف لأن المقر
يعامل في حق نفسه كان ما أقر به حق وإنما لا
يصدق في حق الغير لتمكن التهمة فإذا كان هناك
وارث معروف تتمكن بينهما تهمة المواضعة على
إبطال حق الوارث المعروف وإذا لم يكن هناك
وارث معروف لا تتمكن تهمة المواضعة بينهما لأن
كل واحد منهما متمكن من إنشاء سبب يجعل ماله
لصاحبه كالوصية في عقد الموالاة فلا تتمكن فيه
التهمة وقد ينفصل حكم الميراث عن النسب.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لم يستحلف في
النسب ويستحلف في المال المدعا به وهو الميراث
فإن شهدت لها امرأة على ذلك وقد صدقها الولد
ثبت نسبه منها لأن شهادة القابلة تظهر النسب
وهو الولادة فإنه مما لا يطلع عليه الرجال
ولكن يشترط تصديق الولد لأنه إذا كان مكذبا
لهما لم يثبت النسب إلا بحجة تامة وشهادة
المرأة الواحدة ليست بحجة تامة وإن لم يشهد
لها امرأة وصدقها زوجها أنه منه ثبت النسب
منهما أما من الزوج بإقراره فإنه يقر على نفسه
وإذا ثبت منه ثبت منهما تبعا لأن الفراش له
عليها وهو سبب لثبوت النسب منهما وإنما يحال
النسب على هذا النسب الظاهر.
قال وإذا اشترى العبد المأذون أمه فوطئها
فولدت فادعى ولدها ثبت نسبه منه لأن كسب العبد
مضاف إليه شرعا قال صلى الله عليه وسلم "من
باع عبدا وله مال" وهذه الإضافة تؤثر في تصحيح
الدعوة كما في دعوة الأب ولد جارية ابنه ولأن
من العلماء من يقول كسب العبد مملوكا له لأنه
يملك التصرف فيه وملك التصرف باعتبار ملك محله
ولأن حق صاحبه فيه مقدم على حق المولى حتى
يصرف إلى ديته ولا يسلم للمولى ما لم يفرغ من
دينه فيصير هذا شبهة وأدنى الشبهة تكفي لتصحيح
دعوة النسب وكذلك مولاه لو سبق بالدعوة ثبت
النسب منه لأنه مالك لكسب العبد حقيقة إن لم
يكن عليه دين فإن كان عليه دين فهو يملك
استخلاصها لنفسه بقضاء القاضي فيصير بدعوة
النسب كأنه استخلصها لنفسه .
قال ولو زوج المولى هذه الأمة من عبده صح
النكاح كما لو زوجه أمة أخرى له وثبت النسب
منه إذا ولدت وكذلك لو تزوجها بغير إذن المولى
ثبت نسب الولد منه إذا أقر به لأنه بدون شبهة
النكاح يثبت النسب عند إقراره فعند شبهة
النكاح أولى وكذلك لو تزوجها المولى فولدت لأن
النكاح لغو منه فيها فيثبت النسب عند إقراره
بالولد كما لو لم يسبق النكاح وكذلك لو ادعى
العبد ولد امرأة حرة بنكاح فاسد أو جائز لأن
العبد من أهل أن يثبت النسب منه وإقراره
بالنسب لا يمس حق المولى وفيما لا يتناول حق
المولى إقرار العبد به كإقرار الحر كما في
الإقرار بالقود والطلاق وفي كل شيء لا يصدق
فيه الحر ما لم
ج / 17 ص -108-
يملك الولد فكذلك العبد لا يصدق فيه ما لم
يملك بعد عتقه فإذا ملكه بعد العتق عتق وثبت
نسبه منه لأن الإقرار بمال لايحتمل الإبطال
يبقى موقوفا على ظهور حكمه بملك المحل وعند
ذلك يصير كالمجدد للإقرار فيثبت حكمه في حقه.
وكذلك العبد المديون إذا ادعى ولد أمة اشتراها
يثبت النسب منه لأنه كسبه وليس في إقراره
إبطال حق الغرماء فإنه متمكن من بيعها وبيع
ولدها بعد ثبوت النسب وكذلك لو ادعى أن مولاها
أحلها له وكذبه المولى لأن لا معتبر بإحلال
المولى فيما هو كسب العبد فعند تكذيب المولى
تصير دعوى الإحلال كالمعدوم وبدونه يثبت النسب
من العبد .
قال
:وإن ادعى ولدا من أمة لمولاه لم يكن من
تجارته فادعى أن مولاه أحلها له أو زوجها إياه
فإن كذبه المولى في ذلك لم يثبت النسب منه
لأنه لا حق له في جارية المولى فهو في هذه
الدعوة كأجنبي آخر إلا أنه إذا أعتق فملكه
يثبت النسب منه بمنزلة حر يدعيه ثم يملكه يثبت
النسب منه في دعوى النكاح قياسا واستحسانا وفي
دعوى الاستحلال استحسانا وفي القياس دعوى
الاستحلال ليس بشيء لأن هذا المحل غير قابل
للإحلال والإحلال ليس بعقد بل هو بمنزلة الرضا
فكأنه ادعى أنه زنا بها برضاء مولاها وبهذا لا
يثبت النسب ولكنه استحسن فقال الإحلال من وجه
كالنكاح فإن ملك النكاح يسمى ملك الحل ولا
يثبت له بالنكاح ملك عينها ومنافعها إنما يحل
له أن يطأها فكان الإحلال مورثا شبهة من هذا
الوجه والنسب يثبت في موضع الشبهة فإن صدق
المولى عبده في ذلك ثبت النسب منه إلا أن في
دعوى النكاح يحتاج إلى التصديق في النكاح خاصة
وفي دعوى الإحلال يحتاج إلى التصديق في شيئين
في أنه أحلها له وأنها ولدت منه لأن الإحلال
أضعف من المتعة والمتعة عقد والإحلال ليس بعقد
فلضعفه قلنا لا يثبت النسب منه إلا بإقرار
بهما وهذا لأن العقد ثبت في المحل فبعد ثبوته
لا يحتاج إلى إقرار المولى بالولادة فأما
الإجلال لا يثبت في المحل فلا يثبت النسب ما
لم ينضم إليه الإقرار بأن الولد منه.
قال:
ودعوة المكاتب ولد أمته جائزة لأن حقه في كسبه
أقوى من حق العبد المأذون فإن للمكاتب حق
الملك في كسبه وينقلب ذلك حقيقة الملك بعتقه
وليس للعبد المأذون مثله فإذا صحت الدعوة من
المأذون فدعوة المكاتب أولى ولا يحتاج المكاتب
إلى تصديق المولى إياه بخلاف المولى إذا ادعاه
فإنه لا يثبت النسب منه إلا بتصديق المكاتب.
وإن كان لكل واحد منهما حق الملك لوجهين
أحدهما أن المكاتب مستند بملك التصرف في كسبه
والدعوى من باب التصرف وهو مما يحتاج إليه
لصيانة مائه مستند به والثاني أن المولى حجر
على نفسه عن التصرف في كسب المكاتب فلا تنفذ
دعوته بسبب الحجر الذي ألزمه نفسه ما لم يصدقه
المكاتب ولم يوجد مثل ذلك الحجر في جانب
المكاتب فيثبت النسب منه بالدعوة وإن لم يصدقه
المولى وكذلك لو ادعى ولدا من امرأة حرة بنكاح
فاسد أو جائز وصدقته المرأة لأنه في دعوى
النسب كالحر.
ج / 17 ص -109-
قال: ولو ادعى ولد أمة رجل بنكاح أو ملك وكذبه الرجل لم يصدق المكاتب
كالحر إذا ادعاه فإن عتق فملكه يوما ثبت نسبه
منه وكان كالمجدد لإقراره حين ملكه قال وإذا
باع المكاتب أمة فولدت لأقل من ستة أشهر فادعى
الولد صحت دعوته لأنه في حق استلحاق النسب
كالحر وإذاحصل العلوق في ملكه كان له حق
الدعوة ويرد إليه الولد مع أهله لأن استيلاده
في كسبه يمنعه من بيع الأم والولد فإن الولد
يدخل في كتابته تبعا له وثبوت حق الأم بثبوت
حق الولد فيمنع بيعها فكان هو كالحر في هذا
بخلاف العبد المأذون فإن هناك بثبوت النسب
الولد منه لا يمتنع بيع الأم والولد عليه
فكذلك لا يرد إليه الولد ولا أمه إذا ادعى
نسبه.
قال:
وإن وطى ء المكاتب أمة ابنه وهو حر أو مكاتب
بعقد على حدة لم يثبت النسب منه إذا كذبه
الابن لأن ثبوت دعوة الأب شرطه ولأنه نقل
الجارية إلى نفسه بضمان القيمة وليس للمكاتب
هذه الولاية فإن ملكه يوما ثبت نسبة لأن
امتناع ثبوت النسب منه بدعوته لعدم ملك المحل
وقد زال ذلك حين ملكه وإن كانت الجارية لابن
له ولد في مكاتبته أو اشتراه فولدت فادعاه
المكاتب جازت دعوته وصارت الأم أم ولد له ولم
يضمن مهرا ولا قيمة لأن كسب المولود في كتابته
ومن يكاتب عليه بشرائه بمنزلة كسبه ألا ترى
أنه يتمكن من أخذ ذلك كله ليستعين به على أداء
المكاتبة وكانت هذه الأمة في حقه بمنزلة أمته
فلهذا ثبت النسب منه ولم يضمن عقرا ولا قيمة.
قال:
رجل إذا ادعا ولد جارية مكاتب له لم يصدق إلا
بتصديق المكاتب لأنه بعقد الكتابة جعل نفسه في
التصرف في كسبه بمنزلة الأجنبي والدعوة من باب
التصرف فإن صدقه المكاتب ثبت النسب وكان حرا
بالقيمة استحسانا وفي القياس هو عبد للمكاتب
لأن المولى في هذه الدعوة كالأجنبي لأنه لو
اشترى بن مولاه وهو معروف لم يمتنع عليه بيعه
فكذلك إذا ادعى نسب ولد جاريته ولكنه استحسن
فقال المولى بمنزلة المغرور لأن له في كسب
مكاتبه حق الملك وحق الملك من وجه بمنزلة
حقيقة الملك فكانت بمنزلة الثابت للمغرور في
الجارية المستحقة ولا ولد هناك يكون حرا
بالقيمة نظرا من الجانبين فهذا مثله.
قال:
ولو ادعى الحر ولد مكاتبته وكذبته فهو ابنه
لأن رقبة المكاتب مملوكة لمولاها فكذلك ولدها
يكون مملوكا له ودعوته في ملك نفسه دعوة صحيحة
بخلاف ولد أمه المكاتب فإن المولى غير مالك
للأمة ولا لولدها ألا ترى أن عتقه هناك لا
ينفذ فيها ولا في ولدها وهنا ينفذ عتقه فيها
وفي ولدها ولأن الأمة مع ولدها موقوفة على أن
يتم الملك فيهما للمكاتب بالعتق فلا ينفرد
المولى بإبطال ذلك على المكاتب بالدعوة فأما
ولد المكاتبة ليس بموقوف على أن يتم الملك فيه
للمكاتبة وليس في تصحيح دعوته إبطال حق
المكاتب بل فيه تحصيل بعض مقصود ها فلهذا ثبت
النسب وعتق الولد ولا ضمان على المولى في ذلك.
قال:
ولو ادعى ولد ومكاتبه لم تصح دعوته إلا بتصديق
المكاتبة لأنها أبعد من المولى
ج / 17 ص -110-
من أمة المكاتب فإن سبب بعدها عن المولى عقد
الكتابة وفي أمة المكاتب للعبد سبب واحد في
مكاتبة المكاتب بعدها من المولى بسببين فإذالم
تصح دعوته في أمة المكاتب إلا بالتصديق ففي
مكاتبة المكاتب أولى غير أن التصديق يكون إلى
المكاتبة دون المكاتب الأعلى لأن المكاتبة
صارت أحق بنفسها وولدها والمكاتب حجر على نفسه
عن التصرف فيها وفي ولدها فلهذا كان التصديق
إليها دون المكاتب .
قال:
وإن ادعى ولد أمة مكاتب مكاتبة وكذبه مولاها
وصدقه المكاتب الأعلى لم يصدق لأن الحق في هذه
الأمة وولدها للمكاتب الأسفل والمكاتب الأعلى
منها كالأجنبي ألا ترى أنه لو كان هو المدعي
للولد لم تصح دعوته إلا بتصديق الأسفل فكذلك
إذا كان المدعي هو المولى لم تصح إلا بتصديق
الأسفل فإن عجز الأسفل صارت الأمة للمكاتب
الأعلى فيعمل تصديقه الآن لأن المولى مدع لولد
أمته وقد صدقته في ذلك فيثبت النسب منه ويكون
حرا بالقيمة وإن صدقه المكاتب الأسفل ثبت
النسب ولا يأخذه المولى بالقيمة لأن معنى
الغرور لا يتمكن هنا فإنه غير مالك لرقبة
الأمة ولا لرقبة مولاها بخلاف أمة مكاتبه فإن
هناك يملك رقبة مولاها والكسب يملك الأصل
فيتمكن الغرور بملكه رقبة مولاها وهنا لا
يتمكن الغرور ولأن أسباب بعدها عن المولى هنا
قد كبرت وكان هو منها بمنزلة الأجنبي وفي أمة
المكاتب سبب البعد واجب فبقيت الشبهة المثبتة
لحكم الغرور
وهو نظير ما قيل في بن الأخ مع بن العم فإن
قرابة بن الأخ قرابة قريبة لأن البعد سبب
الشغب في بن الأخ من جانب واحد وفي بن العم
التشغب من الجانبين فنزل كل واحد منهما من
صاحبه بمنزلة الأجنبي ولو ادعى ولد مكاتبته
ولها زوج لم يصدق على النسب صدقها زوجها أو
كذبه لأن النسب قد ثبت من الزوج بالفراش
الثابت له عليها وملك الرقبة غير معتبر في
إثبات النسب مع فراش النكاح ولكن الولد يعتق
بإقراره لأن ولد المكاتبة مثل أمه فإنه داخل
في كتابتها لو أعتقه المولى نفذ عتقه فيه
فكذلك إذا ادعى نسبه كان إقرارا منه بالحرية
وإن لم يثبت النسب لثبوته من الزوج ويستوي إن
كان الزوج حرا أو مكاتبا للمولى أو عبدا له
لأن فراش النكاح مثبت للنسب من هؤلاء بصفة
واحدة .
قال:
أمة بين رجلين علقت فباع أحدهما نصيبه من
صاحبه ثم وضعت لأقل من ستة أشهر فادعاه
المشتري ثبت نسبه وبطل البيع لأن دعوته دعوة
استيلاد فيستند إلى وقت العلوق ويثبت لها حق
أمية الولد من ذلك الوقت فتبين أنه اشترى أم
ولده من غيره وكذلك يثبت للولد حقيقة الحرية
من ذلك الوقت فيتبين أنه اشتراها من صاحبها
وفي بطنها ولد حر فكان الشراء باطلا والثمن
منه ثم يغرم له نصف قيمتها ونصف عقرها لأن
الشراء صار كأن لم يكن وأحد الشريكين إذا
استولد الجارية المشتركة يتملك على صاحبه
نصيبه لأن أمية الولد لا يحتمل بالتجزي فإن
سببه نسب الولد وهو غير متجزي فصار متملكا
نصيب شريكه من حين علقت بنصف القيمة لأن تملك
مال الغير عليه لا يكون مجانا وضمان التملك لا
ج / 17 ص -111-
يختلف باليسار والإعسار ويغرم نصف عقرها أيضا
لأنه حين وطئها كان النصف مملوكا للشريك
فيلزمه ضمان نصف العقر له وهو بخلاف ما تقدم
في الأب يدعي نسب جارية إبنه لأنه ليس للأب في
جارية إبنه مما يمكن تصحيح الاستيلاد باعتباره
فلا بد من تقديم الملك على الاستيلاد وإذا
قدمناه صار وطؤه في ملك نفسه فلا يجب العقر
وهنا المستولد ملك نصفها عند الاستيلاد وذلك
كاف لتصحيح الاستيلاد فلا يقدم الملك في نصيب
شريكه له على الاستيلاد فيبقى وطؤه حاصلا في
ملك الشريك.
وحقيقة المعنى أن يملك الأب رقبة الجارية
هناك شرط الاستيلاد وشرط الشيء يسبقه وهنا
يملك نصيب شريكه بحكم الاستيلاد لأن أمية
الولد لا يحتمل التجزي وحكم الشيء يعقبه ولا
يقترن به وكذلك لو كان البائع هو الذي ادعاه
لأن قيام الملك له في نصفها عند العلوق كقيام
الملك في جميعها في حق استلحاق النسب به فلا
يبطل ذلك بالبيع ولكن البيع يبطل بدعوته فصار
كأن لم يكن فهو يدعي نسب ولد جارية مشتركة
بينهما وقد بينا الحكم فيها فيه.
قال:
أمة بين مسلمين أو بين مسلم وذمي كاتب أحدهما
نصيبه ثم جاءت بولدها فادعاه الآخر ثبت نسبه
منه لأنه مالك لنصيبه منها بعد كتابة الشريك
وقد عرف الجواب في الكتابة من أحد الشريكين
أنها تتجزى عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كان
بإذن الشريك وبغير إذنه ولا تتجزى عندهما سواء
كان بإذن الشريك أو بغير إذنه إلا أنه إذا كان
بغير إذنه فله حق النقض لأنه يتضرر به في
الثاني وهو عند الأداء وعقد الكتابة محتمل
للفسخ فإذا تصرف أحد الشريكين تصرفا يحتمل
النقض وفيه ضرر على شريكه كان له أن ينقضه
لدفع الضرر عن نفسه وإن لم ينقضه حتى اتصل بها
الأداء عتقت لوجود شرط العتق ولا يتمكن الشريك
من الفسخ بعد ذلك لأن العتق لا يحتمل الفسخ
بعد الوقوع إذا عرفنا هذا فنقول نصيب المدعي
منها يصير أم ولد له فأما نصيب المكاتب لا
يصير أم ولد له في قول أبي حنيفة رحمه الله ما
بقيت الكتابة وعندهما الكل صار أم ولد
المستولد وأصل في مكاتبته بين شريكين استولدها
أحدهما عند أبي حنيفة رحمه الله يقتصر
الاستيلاد على نصيبه لأن المكاتبة لا تحتمل
النقل من ملك إلى ملك وإثبات أمية الولد في
نصيب الشريك غير ممكن إلا بالنقل إليه فإذا
تعذر ذلك لا تثبت أمية الولد في نصيب الشريك
كالمدبرة بين اثنين استولدها أحدهما يقتصر
الاستيلاد على نصيبه وعند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله يصير الكل أم ولد للمستولد لأن
التملك بالاستيلاد حكمي والمكاتب محلا له.
ألا ترى أن مكاتب المكاتب ينقل إلى المولى
عند الأداء حتى يكون ولاؤه للمولى إذا أدى قبل
أداء المكاتب الأعلى وكذلك المرتد إذا عاد من
دار الحرب مسلما وقد كاتب الوارث عبدا له يعاد
ذلك العبد إليه مكاتبا ولأن الكتابة محتملة
للفسخ فيفسخ في نصيب الشريك لضرورة الحاجة إلى
تحليل الاستيلاد لأن إبقاءها لحقها وفي هذا
توفير الحق عليها
ج / 17 ص -112-
بخلاف التدبير فإنه غير محتمل للفسخ فلهذا صار
الكل أم ولد للمستولد عندهما إذا عرفنا هذا
فنقول فيما نحن فيه إذا كاتب الكتابة بإذن
المستولد فإن شأت عجزت نفسها فكانت أم ولد
لمدعي الولد لأن بالعجز انفسخت الكتابة فزال
المانع من تملك المستولد نصيب شريكه وإن شاءت
مضت على الكتابة فإذا أدت عتق نصيب الذي كاتب
منها ومن ولدها لأنه يلقيها جهة حرية أحدهما
عاجل بعوض والآخر آجل بغير عوض فكان لها أن
تختار أي الجهتين شاءت فإذا عتقت عتق نصيب
المستولد أيضا من الجارية والولد ولا يسعى له
في شيء لأن نصيبه منها أم ولد له ومن أصل أبي
حنيفة رحمه الله أن رق أم الولد لا يتقوم
وأنها لا تسعى لمولاها عند العتق في شيء كما
قال: في أم ولد بين شريكين أعتقها أحدهما فإن
كانت الكتابة بغير إذنه ينقضها القاضي لما
بينا أنها غير لازم في حق الشريك فإذا نقضها
صارت أم ولد للمستولد لأنه يملك نصيب شريكه
منها بسبب الاستيلاد عند زوال المانع وإن لم
ينقضها حتى أدت عتق نصيب المكاتب منها ومن
ولدها لوجود الشرط وهو الأداء ويعتق نصيب
المستولد منها أيضا ولا يسعى له في شيء لما
بينا في الفصل الأول وإقدام الشريك الآخر على
الاستيلاد لا يكون نقضا منه لكتابة شريكه وإن
كان له حق النقض لأنه لا منافاة بينهما فكل
واحد منهما تصرف من المتصرف في نصيب نفسه فلا
يكون تعرضا منه لنصيب شريكه.
قال:
أمة بين مسلم وذمي علقت ثم أسلم الذمي ثم
ادعيا الولد معا فهو ابنهما كما لو كانا
مسلمين في الأصل لأن ترجيح دعوة المسلم لما
فيه من إسلام الولد فيكون ذلك عند الدعوة
والشريك عند ذلك مسلم فدعوته توجب إسلام الولد
وإن لم يكن مسلما وقت العلوق كدعوة شريكه فلما
استويا من كل وجه ثبت نسب الولد منهما وصارت
الجارية أو ولد لهما وإن كانت بين مسلمين علقت
ثم ارتد أحدهما ثم ادعيا الولد فهو بن المسلم
لأن المرتد كافر ودعوة الكافر لا تعارض دعوة
المسلم ولأن الدعوة تصرف وتصرف المسلم في ملكه
أنفذ من تصرف المرتد ألا ترى أن إعتاق المرتد
نصيبه يتوقف عند أبي حنيفة رحمه الله فلهذا
دعوة المسلم ترجح
قال: ولو كانت بين مسلم وذمي فارتد المسلم ثم ادعيا الولد فهو بن
المرتد لأنه أقرب إلى أحكام الإسلام من الذمي
ألا ترى أنه يجبر على الأسلام غير مقر على ما
يعتقده وأن تصرفه في الخمر والخنزير لا ينفذ
بخلاف الذمي فلقربه من الإسلام جعل في حكم
الدعوة كالمسلم فتترجح دعوته على دعوة الذمي
ولأن ترجيح دعوة المسلم لما فيه من ثبوت حكم
الإسلام للولد وهذا موجود في دعوة المرتد
فالدعوة من التصرفات التي لا توقف من المرتد
فإنها لا تستدعي حقيقة الملك وتوقف تصرفه
لتوقف ملكه فإذا كان هو في الدعوة كالمسلم
ترجح على الذمي فصارت الجارية أم ولد له لأن
الاستيلاد ينبني على ثبوت نسب الولد وقد ثبت
ذلك بدعوته ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها
لشريكه
ج / 17 ص -113-
ويضمن الذمي أيضا له نصف العقر لإقراره بوطئها فصار نصف العقر بنصف
العقر قصاصا .
قال:
أمة بين رجلين ولدت فادعياه جميعا وقد ملك
أحدهما نصيبه منذ شهر والآخر منذ ستة أشهر أو
أكثر فالدعوة دعوة المالك الأول لأن دعوته
دعوة استيلاد فيستند إلى حالة العلوق ودعوة
الآخر دعوة الإعتاق لأن أصل العلوق لم يكن في
ملكه فتكون دعوة الاستيلاد سابقة معنى ويضمن
نصف عقرها ونصف قيمتها لأنه قد يملك نصيب
صاحبه بدعوة الاستيلاد ولم يتبين أنه لمن يغرم
قالوا وأنها يغرم ذلك للبائع لا لشريكه
المشتري لأن دعوته استندت إلى حالة العلوق
والملك فيها في ذلك الوقت كان للبائع فإنما
يصير متملكا عليه فيضمن له نصف قيمتها ونصف
عقرها ويرجع المشتري على البائع بالثمن لبطلان
البيع فيما اشترى وإن لم يعلم صاحب الملك
الأول فهو ابنهما والجارية أم ولدهما لأنهما
استويا في الدعوة فكان العلوق حاصلا في ملكهما
ولا عقر على واحد منهما أما لصاحبه فغير مشكل
لأنا نتيقن بأن الوطء من كل واحد منهما حصل في
ملك شريكه وأما لغيره فلأن وجوب العقر على من
كان ملكه فيها ثابتا وقت العلوق لبائع شريكه
ومن وجب عليه العقر منهما مجهول والمال لا يجب
على المجهول.
قال:
أمة لذمي باع نصفها من مسلم ثم ولدت لأقل من
ستة أشهر فادعياه فهو بن الذمي ويبطل البيع
لأن بيعه نصفها لا يكون أعلى من بيعه جميعها
وهو أولى بالدعوة بعد بيع الجميع لتيقننا
بحصول العلوق في ملكه فبعد بيع النصف أولى.
قال:
أمة بين رجل وامرأة صغيرة أو كبيرة فولدت
فادعاه الرجل وأب المرأة فإن النسب يثبت من
صاحب الرقبة لأنه يملك نصفها حقيقة وأب المرأة
ليس له فيها حقيقة ملك ولا حق ملك إنما له
مجرد التأويل والتأويل لا يعارض حقيقة الملك
ولأن صحة دعوة أبي المرأة باعتبار تملك نصيب
ولده عليها من وقت العلوق وذلك متعذر لثبوت
أمية الولد من الشريك فيها من وقت العلوق
ودعوة الشريك دعوة صحيحة من غير شرط تقديم
الملك فكان هو أولى.
قال:
أمة بين رجلين ولدت ولدا ميتا فادعاه أحدهما
فهو ابنه وهي أم ولد له لأن ثبوت النسب من وقت
العلوق وفي هذا المنفصل ميتا والمنفصل حيا
سواء والولد الميت كالحي في أن الجارية تصير
أم ولد كما لو كانت لرجل واحد فكذلك لو أسقطت
سقطا قد استبان خلقه أو بعض خلقه ولمثله حكم
الولد ألا ترى أن العدة تنقضي به والمرأة تصير
به نفساء فكذلك الجارية تصير به أم ولد.
قال:
ولو كانت جارية بين رجل وابنه فولدت فادعياه
فهو بن الأب استحسانا وفي القياس يثبت النسب
منهما لأن كل واحد منهما يملك نصفها حقيقة
وصحة الدعوة هنا باعتبار ملك الرقبة وقد
استويا في ذلك والحق غير معتبر في معارضة
الحقيقة كما لو كانت الجارية كلها للابن
فادعيا الولد كان دعوة الابن أولى من دعوة
الأب وجه الاستحسان في
ج / 17 ص -114-
ذلك أن جانب الأب يترجح لأن له في نصفها حقيقة
الملك وفي النصف الآخر حق التملك على ولده
بالاستيلاد وليس للابن في نصيب الأب ملك ولا
حق ملك ولا تأويل ملك فكان جانب الأب أرجح
والترجيح عند المعارضة يحصل بما لا يكون عليه
الإثبات ابتداء كالأخوين أحدهما لأب وأم
والآخر لأب ترجح الأخ لأب وأم في العصوبة
بقرابة الأم وهي ليست بعلة الاستحقاق للعصوبة
فإذا صحت دعوة الأب وصارت أم ولد له ضمن نصف
قيمتها ونصف عقرها بخلاف ما إذا كان الكل
للابن لما بينا أن تملك الأب نصيب الابن هنا
حكم الاستيلاد لا شرطه فإن قيام الملك له في
النصف كاف لصحة الاستيلاد فلهذا غرم نصف عقرها
وضمن الابن نصف العقر لابنه أيضا لإقراره
بوطئها فكان نصف العقر بنصف العقر قصاصا والجد
أب الأب بعد موت الأب في هذا بمنزلة الأب فأما
الأخ والعم والأجنبي فهم كلهم سواء لأنه ليس
للبعض هنا تأويل الملك في مال البعض ولا حق
التملك بالاستيلاد.
قال:
وإذا كان أحد الأبوين مسلما فالولد الصغير
مسلم هكذا روي عن عمر رضي الله عنه وشريح
وإبراهيم رحمهما الله وكان المعنى فيه أن
اعتبار جانبه يوجب إسلام الولد واعتبار جانب
الذمي يوجب كفره فيترجح موجب الإسلام توفيرا
لمنفعة الولد وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام
يعلو ولا يعلا عليه" .
قال:
وإن كانت الأمة بين رجلين ولدت فادعياه فهو
ابنهما فإن ولدت بعد ذلك آخر لم يثبت نسبه
منهما ولا من أحدهما إلا بالدعوة لأن قيام
الشركة بينهما في رقبتها تمنع الفراش المثبت
للنسب لهما أو لأحدهما عليها فإن ثبوت نسب ولد
أم الولد من مولاها لتحسين الظن بها حتى لا
تكون مقدمة على التمكن من فعل حرام وهذا غير
موجود هنا فإن وطئها غير مملوك لواحد من
الشريكين فلهذا لا يثبت النسب منهما ولا من
أحدهما إلا أن يدعيه أحدهما فحينئذ يثبت النسب
منه بالدعوة لقيام الملك في نصفها ونصف ولدها
ويغرم لشريكه نصف عقرها ولا يغرم من قيمة
الولد شيئا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي
قولهما يغرم لشريكه نصف قيمته إن كان موسرا
وإن كان معسرا سعى الولد للشريك في نصف قيمته
وهذا لأن ولد أم الولد بمنزلة أمه فدعوة
أحدهما للولد كإعتاقه ولو أعتق الأم أحد
الشريكين لم يضمن لشريكه شيئا عند أبي حنيفة
رحمه الله وعندهما يضمن إن كان موسرا ويسعى له
إن كان معسرا فكذلك في الولد لما صار المدعي
نسبه كالمعتق له جارية بين مسلم وذمي ولدت
فادعياه فهو بن المسلم عندنا وقال: زفر رحمه
الله هو ابنهما ولكن يكون مسلما لأن صحة
دعواهما باعتبار الملك وهما في الملك يستويان
فكذلك فيما ينبني عليه إلا أن الولد يكون
مسلما لأن تبعية أحد الوالدين يوجب إسلامه
فيحكم بإسلامه وإن كان النسب ثابتا منهما
كالمولود بين كافر ومسلم وحجتنا في ذلك أن
دعوة المسلم أنفع للولد لأنه يثبت له النسب
والإسلام وعند تعارض الدعوة يترجح أحد
الجانبين لمنفعة الولد كما لو كان في أحد
الجانبين حرية الولد يترجح به فكذلك هنا.
ج / 17 ص -115-
قال: وإذا التقط الرجل لقيطا فادعاه عبد أنه ابنه من زوجته هذه الأمة
وصدقه المولى وقال: هو عبدي ثبت النسب منهما
وكان عبدا للمولى عند أبي يوسف رحمه الله وعند
محمد رحمه الله يثبت النسب منهما وكان حرا أما
ثبوت النسب بدعواهما استحسانا وفي القياس لا
يثبت لأن اليد ثابت للملتقط فهما بمجرد الدعوى
يريدان إبطال اليد الثابت له فلا يصدقان على
ذلك وفي الاستحسان قال: اعتبار يد الملتقط
لمنفعة الولد حتى يكون محفوظا عنده لا لحق
الملتقط وفي إثبات النسب ممن ادعا توفير
المنفعة على الولد وقد بينا أن العبد في دعوة
النسب كالحر فلهذا ثبت النسب من العبد والأمة
بالدعوة فأما حجة محمد رحمه الله أن اللقيط حر
باعتبار الدار وفي إثبات نسبه من المملوكين
توفير المنفعة على الولد وفي إثبات الرق إضرار
بالولد وليس من ضرورة ثبوت النسب ثبوت الرق
فبقي على ما كان من الحرية فسقط اعتبار قولهما
فيما يضر بالولد كما لو ادعاه ذمي وقد وجد في
مصر من أمصار المسلمين يثبت النسب منه بالدعوة
ويكون مسلما دفعا للضرر عن الولد وتوفيرا
للمنفعة عليه في ثبوت نسبه وحجة أبي يوسف رحمه
الله أنه لما حكمنا بثبوت النسب منهما فقد
حكمنا بأنه مخلوق من ماء رقيقين والمخلوق من
ماء رقيقين لا يكون حرا لأن الولد من الأصلين
فإذا كانا رقيقين وليس هنا سبب يمكن الحكم
بحرية الولد بذلك السبب ولا وجه لإثبات الحكم
بدون السبب يكون الولد رقيقا يقرره أن ولد
الأمة مملوك لمولاها لأنه جزء من أجزائها إلا
إذا تمكن هناك غرور في جانب الفحل وهو حر
فحينئذ يبقى صفة الحرية لمائه ولا غرور هنا
فكان الولد رقيقا وفي الحقيقة هذه المسألة
نظير ما ذكرنا في كتاب النكاح العبد إذا صار
مغرورا بأمة فولدت يكون الولد رقيقا عند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خلافا لمحمد رحمه
الله ونظير ما في كتاب الإقرار مجهولة الحال
إذا أقرت بالرق ثم ولدت لأكثر من ستة أشهر بعد
إقرارهما كان الولد رقيقا عند أبي يوسف خلافا
لمحمد رحمه الله .
قال:
فإن ادعى اللقيط رجلان كل واحد منهما يدعي أنه
ابنه ووصف أحدهما علامات في جسده ولم يصف
الآخر شيئا جعلته بن صاحب الصفة لأن الترجيح
عند تعارض الدعوة تقع بالعلامة كما إذا وقع
الاختلاف بين الزوجتين في متاع البيت ولأن
إصابة العلامة دليل سبق يده إليه ودليل كونه
ابنا له لأن الإنسان أعرف بعلامات ولده من
غيره وهو نظير مدعي اللقطة إذا أصاب في
العلامات يوم الملتقط فيما بينه وبين ربه
بالدفع إليه ولو أصاب في بعض العلامات وأخطأ
في البعض فهذا وما لم يذكر شيئا من العلامة
سواء لأن اعتبار ما أصاب يدل على صدقه واعتبار
ما أخطأ يدل على كذبه فإذا وقع التعارض بينهما
صار كأنه لم يذكر من العلامات شيئا وإذا لم
يصف واحد منهما من العلامات فهو ابنهما
لاستوائهما في الدعوى ولو قال أحدهما هو غلام
من صفة جسده كذا وقال الآخر هي جارية من صفة
جسدها كذا فأيهما أصاب ذلك فهو أحق به لظهور
علامة الصدق في كلامه وظهور دليل
ج / 17 ص -116-
الكذب في كلام خصمه ولو ادعاه واحد وقال هو
غلام فإذا هي جارية لم يصدق على ذلك لظهور
دليل الكذب في دعواه ولو كان سبب قضاء الشهادة
لم يقض بها مع ظهور دليل الكذب فكذلك إذا كان
سبب القضاء الدعوى لا يقضي بها مع ظهور دليل
الكذب ولأنه يدعي نسب الغلام وليس هنا غلام
حاضر ودعوة المعدوم باطل.
قال:
فإن كان اللقيط في يد مسلم وادعاه ذمي فالقياس
لا يثبت النسب منه وهذا غير القياس الأول في
دعوة اللقيط لأنا قد حكمنا بإسلام الولد هنا
باعتبار الدار ولا قول للذمي في دعوة نسب
الولد المسلم ولكنه استحسن فقال في دعواه
شيئان أحدهما ثبوت نسب الولد وفيه منفعة
والآخر كفر الولد وفيه ضرر عليه فتصح دعوته
فيما ينفع الولد دون ما يضره إذ ليس من ضرورة
النسب تبعة الأبوين في الدين كالصغير إذا سبي
وليس معه واحد من أبويه يكون ثابت النسب من
الحربي بيقين محكوم بإسلامه ثم المسألة على
أربعة أوجه إما أن يكون الملتقط مسلما وقد وجد
في مصر من أمصار المسلمين فيكون محكوما له
بالإسلام أو وجده ذمي في بيعة أو كنيسة أو
قرية من قرى أهل الذمة فيكون كافرا فأما إذا
وجده مسلم في بيعة أو كنيسة أو وجده ذمي في
مسجد من مساجد المسلمين قال في كتاب اللقيط
العبرة للمكان وقال في كتاب الدعوى العبرة
للواحد وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه
يحكم لذي اللقيط وسماه وجه رواية كتاب اللقيط
أن المكان إليه أسبق من يد الواحد والحكم
للسابق لأن الظاهر أن أهل الذمة يضعون أولادهم
في مساجد المسلمين وأن المسلمين لا يضعون
أولادهم في البيع والكنائس والحكم بالظاهر
واجب عند تعذر الوقوف على الحقيقة .
ووجه رواية هذا الكتاب أن اللقيط في حكم
المباح فمن سبقت يده إليه صار محرزا له وكان
الحكم ليده إذ ليس للمكان يد معتبرة ألا ترى
أن المباح يملك بالإحراز باليد دون المكان
ووجه رواية بن سماعة رحمه الله أن الحكم بالزي
والسيما واجب كالبالغ الذي يوجد في دار إذا
قال أنا مسلم فإن كان عليه سيما المسلمين قبل
قوله والأصل فيه قوله تعالى:{يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}
[الرحمن:41]وتفسير هذه الرواية ذكره بن سماعة
رحمه الله أنه إذا كان في عنقه صليب وعليه ثوب
ديباج ووسط رأسه محرز فالظاهر أنه من أولاد
النصارى فلا يحكم له بإسلامه يقول في الكتاب
فإن كان في يد مسلم فدعاه ذمي وأقام شاهدين
ذميين فإني استحسن أن أجعله ابنه وأجعله مسلما
وإذا وجد في بيعة أو كنيسة وهذه الرواية وهو
قوله واجعله مسلما ذكره في رواية أبي سليمان
رحمه الله ولم يذكر في رواية أبي حفص رحمه
الله والحاكم رحمه الله في المختص صحح رواية
أبي حفص رحمه الله وقال الحاكم بإسلامه عند
مجرد الدعوى فأما مع إقامة البينة فلا يحكم
بإسلامه ولكن ما ذكره في نسخ أبي سليمان رحمه
الله وقال هو الأصح لأنا إذا حكمنا بإسلامه
على هذه الرواية باعتبار التبعية للواحد
وشهادة أهل الذمة ليست بحجة على الواحد ولا
على من حكم
ج / 17 ص -117-
بإسلامه تبعا للواحد فكان وجوده كعدمه فلهذا
جعلناه مسلما وإن أثبتنا نسبه من الذمي.
قال:
وإذا وجدته في مصر من أمصار المسلمين جعلته
حرا مسلما ولا أقبل شهادة أهل الذمة عليه يريد
به في حق الدين فأما في حق النسب فهو ثابت من
الذمي كما بينا وإن أقام رجل البينة أنه ابنه
وأقام آخر البينة أنه عبده قضيت به للذي يدعي
أنه ابنه لأن في بينته إثبات نسبه وحريته وفي
بينة الآخر إثبات رقه فتترجح بينة الحرية
لمنفعة الصبي فإن أقام أحدهما البينة أنه ابنه
من امرأته هذه الحرة وأقام آخر البينة أنه
ابنه من هذه الأمة قضيت به أنه بن الحر والحرة
لأن المولود من الأمة بالنكاح يكون رقيقا
فتترجح بينة المثبت للحرية ولو أقام كل واحد
منهما البينة أنه ابنه من امرأته الحرة ووقت
كل واحد منهما وقتا فإن عرف أن الصبي على
أحدهما فهو لصاحب ذلك الوقت لظهور علامة الصدق
في شهوده باعتبار سن الصبي وإن لم يعرف أنه
على أي الوقتين فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله
يقضي به لأسبق الوقتين لأنه لما تعذر الوقوف
على سن الصغير ليعرف به الصادق من الكاذب بقيت
العبرة للتاريخ فصاحب أسبق التاريخين يثبت
النسب منه في وقت لا ينازعه الآخر فيه وبعد ما
ثبت النسب منه لا يمكن إثباته من غيره وعلى
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقضي به
بينهما لأن كل واحد منهما يثبت النسب منه من
وقت العلوق والنسب لا يسبق وقت العلوق فلا
فائدة في اعتبار سبق التاريخ بعد ذلك وصار كأن
الشهود لم يوقتوا شيئا فيقضي به للرجلين هكذا
ذكر هذا الخلاف في رواية أبي سليمان رحمه الله
وفي رواية أبي حفص رحمه الله قال جعلته ابنهما
في قولهم جميعا وإنما أشار إلى الخلاف في كونه
بن المرأتين وقد بيناه فيما سبق .
قال:
وإن أقام أحدهما البينة أنه ابنه وادعى الآخر
أنها ابنته وأقام البينة على ذلك فإذن اللقيط
خنثى فإن كان يبول من مبال الرجال حكم بأنه بن
فيثبت نسبه من أثبت بنوته وإن كان يبول من
مبال النساء يثبتالنسب من الآخر وإن كان يبول
منهما فالعبرة لأسبقهما خروجا وإن كان يخرج
منهما جميعا معا فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله العبرة لأكثرهما وعند أبي حنيفة رحمه
الله لا عبرة لكثرة البول وقلته فيكون ثبوت
النسب منهما لأنه لا يترجح جانب أحدهما على
صاحبه بإصابة العلامة فاستويا .
قال:
فإن ادعى اللقيط مسلم وذمي وأقام البينة قضيت
به للمسلم لأن في بينته إثبات إسلام الولد وهو
منفعة في حقه وكذلك إن كان شهود المسلم من أهل
الذمة وشهود الذمي مسلمين لأن بينة كل واحد
منهما حجة على صاحبه فيترجح ما كان موجبا
إسلام الولد.
قال:
وإذا ارتد أحد الزوجين والعياذ بالله فإن
الولد يلزم الزوج إلى سنتين لأن الفرقة وقعت
بردة أحدهما بعد الدخول وهو موجب للعدة عليها
فإذا جاءت بولد في مدة يتوهم أن العلوق حصل في
حال النكاح يثبت النسب منه كما لو وقعت الفرقة
بالطلاق وكذلك لو لحق بدار الحرب مرتدا لأن
المرأة لما بقيت في دارنا فهي مؤاخذة بأحكام
الإسلام فعليها
ج / 17 ص -118-
العدة إلا أن نسب ولدها لا يثبت من الزوج عند
أبي حنيفة رحمه الله بشهادة القابلة ما لم
يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان لأن المقصود هو
الميراث ولا يثبت الميراث بشهادة المرأة
الواحدة وعندهما شهادة القابلة كافية وأصله في
مسألة كتاب الطلاق إذا لم يكن هناك حبل ظاهر
ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل لا
يثبت النسب عند أبي حنيفة رحمه الله إلا
بشهادة شاهدين وعندهما يثبت بشهادة امرأة
واحدة وكذلك إن حلف المرتد اللاحق بدار الحرب
بأنها أم ولد هنا فإن لحوقه بدار الحرب موت
حكمي تعتق به أم الولد عند قضاء القاضي ويجب
عليها العدة والجواب فيه وفي ولد المنكوحة
سواء ولو كانت هي المرتدة اللاحقة بدار الحرب
لم يلزم الزوج إلا أن يأتي به لأقل من ستة
أشهر منذ يوم ارتدت لأن العدة لم تجب عليها
فلا يثبت النسب إلا عند التيقن بحصول العلوق
في حالة النكاح كالمطلقة قبل الدخول وهذا
لأنها صارت حربية فلا تؤاخذ بأحكام المسلمين
وكما لا يكون للمسلم على الحربية عصمة النكاح
فكذلك لا يكون له عليها عصمة العدة.
قال:
ولو أسلمت امرأة الحربي فدخلت دار الإسلام لم
يلزم الحربي ولدها إلا بأن يأتي به لأقل من
ستة أشهر في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما
يلزمه إلى سنتين وهي فرع مسألة النكاح أن
المهاجرة لا عدة عليها عنده وعندهما يلزمه
العدة وإن سبيت المرتدة وهي حامل فولدت لأقل
من ستة أشهر منذ سبيت يثبت نسبه من الزوج
المسلم لتيقننا بحصول العلوق قبل السبي
والتقدير لستة أشهر لأن السبي كما يبطل عصمة
النكاح يبطل العدة والولد رقيق مع المرأة وإن
كان مسلما تبعا لأبيه لأنه ما دام في البطن
فهو جزء منها وهي صارت رقيقة بجميع أجزائها
بالسبي فكذلك الولد الذي في بطنها عندنا.
قال
:وإذا تزوج المرتد مسلمة أو تزوجت المرتدة
مسلما فولدت منه يثبت نسبه منهما لأن النكاح
الفاسد إذا اتصل به الدخول فهو بمنزلة الصحيح
في إثبات النسب أو أقوى ويرثهما هذا الولد
بمنزلة المولود قبل الردة لأنه مسلم تبعا
للمسلم منهما والمرتد يرثه وارثه المسلم وهذا
لأن ابتداء سبب التوريث وإن كان هو الردة
فتمامه يكون بالموت فيجعل الحادث بعد انعقاد
السبب لإتمامه كالموجود عند ابتداء السبب
اعتبارا بولد المبيعة قبل القبض يجعل كالمولود
عند ابتداء العقد في انقسام الثمن عليه.
قال:
وإذا تزوج المرتد كتابية فولدت لا يرث الولد
واحدا منهما لأن هذا الولد غير محكوم بإسلامه
فإن واحدا من أبويه ليس بمسلم وكونه في يد
الأبوين يمنع ثبوت تبعية الدار في حقه كالصغير
إذا سبي مع أحد الأبوين والمرتد إنما يرثه
وارثه المسلم والكتابية لا يرثها المرتد وهذا
الولد بمنزلة المرتد لأنه أقرب إلى حكم
الإسلام فيجعل الولد تبعا له وكذلك إن ولدت
أمة المرتد منه وهي مرتدة أو كتابية لأن النسب
وإن ثبت منه بالدعوة لم يثبت حكم الإسلام لهذا
الولد وإن كانت الأمة مسلمة ورث الولد أباه
لأنه مسلم تبع لها قال رجل مات وترك امرأة وأم
ولد له فأقرت الورثة أن كل واحدة منهما قد
ولدت
ج / 17 ص -119-
هذا الغلام من الميت أثبت نسبه بعد أن تكون
الورثة ابنته أو إخوته أو ابنا وابنتين لأنهم
لو شهدوا بهذا النسب في حالة الحياة عليه كانت
شهادتهم حجة تامة فإذا أقروا به بعد الموت
يكون قولهم أيضا حجة تامة في إثبات النسب إلا
أن في حالة الحياة هناك خصم جاحد فلا بد من
لفظة الشهادة وليس بعد الموت خصم جاحد فلا
حاجة إلى لفظة الشهادة ولأن في حالة الحياة
كلامه إلزام للغير والملزوم للغير شرعا
الشهادة فلا بد من لفظ الشهادة فيه فأما بعد
الموت كلامه إلزام للغير من وجه والتزام من
وجه لأنه يشاركهم في الميراث المستحق لهم وما
أخذ شبها من أصلين توفر حظه عليهما فلشبهه
بالإلزام شرطنا العدد فيه حتى لا يثبت النسب
بإقرار الوارث الواحد ولشبهه بالالتزام أسقطنا
اعتبار لفظة الشهادة .
قال:
وإذا تزوج المجوسي أمه أو ابنته أو أخته فولدت
له ولدا فهو ابنه ادعاه أو نفاه لأن هذه
الأنكحة فيما بينهم حكم الصحة عند أبي حنيفة
رحمه الله ولهذا لا يسقط به الإحصان عنده
وعندهما هو فاسد والنكاح الفاسد والصحيح يثبت
النسب بهما ثم لا ينتفي إلا باللعان ولا لعان
بينهما لأن الكافرة غير محصنة وكذلك العبد
يتزوج الأمة أو المسلم يتزوج المجوسية فإن
النسب يثبت لهذا النكاح مع فساده لأن مجرد
الشبهة يكفي لإثبات النسب ثم لا ينتفي إلا
باللعان ولا لعان بينهما هنا .
قال:
وإذا أسلم الزوجان الكافران وأعتق المملوكة ثم
جاءت بولد فنفاه الزوج يلاعنها لأنه قذفها وهي
محصنة وهما من أهل الشهادة في الحال فيجري
اللعان بينهما فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر
منذ عتقا أو أسلما لزم الولد أباه لأنا تيقنا
بحصول العلوق في حال لم يكونا من أهل اللعان
فيلزمه النسب على وجه لا ينتفي بالنفي ثم لا
يتغير ذلك بصيرورتهما من أهل اللعان وإن جاءت
به لأكثر من ستة أشهر لزم الولد أمه لتوهم أن
العلوق حصل بعد صيرورتها من أهل اللعان فإن
قيل فكذلك يتوهم حصول العلوق قبل العتق
والإسلام لأن الولد قد يبقى في البطن إلى
سنتين قلنا نعم ولكن قطع النسب باللعان في
موضع الاشتباه والاشتباه يمنع قطع النسب وهذا
لأن سبب قطع النسب هو اللعان وقد تحقق فما لم
يظهر المانع وجب العمل به ولأن الحل قائم
بينهما ومتى كان الحل قائما يستند العلوق إلى
أقرب الأوقات وإن كان للمسلم امرأة كتابية
فولدت فنفاه فهو ابنه ولا حد عليه ولا لعان
لأنها غير محصنة ونسب الولد قد يثبت بالنكاح
فلا ينقطع بدون اللعان.
قال:
وإن أسلمت المرأة والزوج كافر ثم بقي ولده
فعليه الحد لأنها محصنة وقد قذفها بالزنى ولا
لعان بينهما لأنه ليس من أهل الشهادة فمتى
تعذر جريان اللعان بينهما من جهة الزوج يلزم
الحد ولا يقطع النسب عنه لتقرر سببه وهو
العلوق وإن أسلما جميعا ثم طلقها ثم تزوجها ثم
جاءت بولد فنفاه فنقول هذه المسألة تشتمل على
فصلين أحدهما حكم إثبات النسب والآخر حكم
النفي أما حكم إثبات النسب فهو على ثلاثة أوجه
إن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها
أخيرا ثبت النسب منه بحصول العلوق في النكاح
الثاني وإن
ج / 17 ص -120-
نفاه لاعنها ولزم الولد أمه لكونهما من أهل
اللعان عند العلوق وإن جاءت به لأقل من ستة
أشهر منذ تزوجها أخيرا أو لأقل من سنتين منذ
فارقها ثبت النسب منه لتوهم أن العلوق كا ن
قبل الطلاق فإن نفاه لاعنها ولزم الولد أباه
لأن حصول البينونة بعد العلوق يمنع قطع النسب
باللعان وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ
تزوجها أخيرا ولسنتين فصاعدا منذ طلقها لم
يثبت النسب منه لأن حصول العلوق كان بعد
الطلاق قبل النكاح الثاني ويصح النكاح الثاني
عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي
يوسف رحمه الله وهي فرع مسألة الجامع الصغير
أن الحبل من الزنى لا يمنع من النكاح عندهما
ويمنع عند أبي يوسف رحمه الله وكذلك أم الولد
إذا أعتقها مولاها ثم تزوجها قبل الإقرار
بانقضاء العدة فهو على الأوجه الثلاثة كما
بيناه.
قال: ولو ولدت امرأة الرجل غلاما وأمته غلاما
ثم ماتتا فقال أحدهما ابني لم يثبت نسب واحد
منهما لأن النسب في المجهول لا يمكن إثباته
والمقصود هو الشرف بالانتساب وذلك لا يحصل في
المجهول ولأنه صادق في مقالته فإن أحدهما ابنه
وهو ولد المنكوحة فإذا لم يكن معينا لم يثبت
نسب واحد منهما بعينه ويعتقان ويسعى كل واحد
منهما في نصف قيمته لأن أحدهما حر وعند
الاشتباه ليس أحدهما بأولى من الآخر فيعتق كل
واحد منهما نصفه ومعنى قوله أن أحدهما حر أن
ولد المنكوحة حر فأما ولد الأمة لا يعتق إلا
إذا ادعاه بعينه ولم يوجد وكذلك رجل له عبدان
فقال أحدهما ابني أو قال هذا ابني أو هذا لم
يثبت نسب واحد منهما للجهالة ولكن لا يعتق
أحدهما بغير عينه لأن دعوة النسب إقرار
بالحرية والإقرار بالعتق للمجهول صحيح فيسع
العتق فيهما عند فوت البيان بالموت والله
أعلم.
باب نفي الولد من زوجة مملوكة وغيرها
قال رحمه الله: رجل تحته أمة فأعتقت ثم جاءت بولد لستة أشهر بعد العتق فنفاه فلم
يلاعنها حتى اختارت نفسها فالولد لازم له ولا
حد عليه ولا لعان لأن نسب الولد قد ثبت منه
بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وباختيارها
نفسها بالعتق ثابت منه فلا يجري اللعان بينهما
بعد البينونة كما لو أبان امرأته بعد ما قذفها
لأن المقصود باللعان قطع النكاح الذي هو سبب
المنازعة بينهما وقد انقطع ولا حد عليه لأن
قذفه إياه كان موجبا للعان بكونهما من أهل
اللعان حين قذفها فلا يكون موجبا للحد لأنهما
لا يجتمعان بقذف واحد.
قال:
رجل اشترى امرأته وهي أمة فجاءت بولد لأقل من
ستة أشهر فنفاه فهو لازم له لأنا تيقنا أن
العلوق بهذا الولد حصل من فراش النكاح فلزمه
نسبه على وجه لا ينتفي بنفيه وصار ارتفاع
النكاح بينهما بالشراء كارتفاعه بالطلاق قبل
الدخول وهناك إذا جاءت بالولد لأقل من ستة
أشهر لزمه نسبه فكذلك هنا وإن جاءت به لستة
أشهر فصاعدا فله أن ينفيه وهذا بمنزلة أم
الولد له أن ينفيه ما لم يقر به ثم قال بعد
هذا بأسطر لا يثبت نسبه منه إلا أن
ج / 17 ص -121-
يقر به فوجهه ما قال بعد هذا أالنكاح بالشراء
ارتفع لا إلى عدة لأن العدة حق من حقوق النكاح
فكما ينافي ملك اليمين أصل النكاح فكذلك ينافي
حقوقه فكان هذا نظير الفرقة بالطلاق قبل
الدخول وقد جاءت بالولد من مدة يتوهم أن الولد
من علوق حادث فلا يثبت نسبه منه وفي الكتاب
علل فقال لأنها أمة يحل فرجها بالملك وحل
فرجها بملك اليمين مع حق النكاح لا يجتمعان
فيتبين أنه لا عدة عليها وصار كأنه لم يدخل
بها في فراش النكاح ونسب ولد الأمة لا يثبت من
المولى إلا بالدعوة .
ووجه هذه الرواية أنها كانت فراشا له وملك
اليمين لا ينافي الفراش فيبقى بعد الشراء من
الفراش بقدر ما يجامع ملك اليمين لأن الارتفاع
بالمنافي فبقدر المنافي يرتفع وملك اليمين
إنما ينافي الفراش الملزم المثبت للنسب فإن أم
الولد مملوكة وللمولى عليها فراش مثبت للنسب
إلا أن ينفيه فيبقى ذلك القدر هنا له .
قال:
فإن أعتقها بعد ما اشتراها وقد كان دخل بها
فجاءت بولد لزمه ما بينه وبين سنتين من يوم
اشتراها وإن نفاه فعليه الحد وهذا قول أبي
يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله وفي قول
أبي يوسف الآخر رحمه الله إن جاءت به لأقل من
ستة أشهر منذ اشتراها فكذلك الجواب وإن جاءت
به لأكثر من ستة أشهر لم يلزم إلا أن يدعيه
فإن ادعاه لزمه وإن كذبته المرأة أما وجوب
الحد عليه فلأنه قذفها وهي في الحال محصنة ثم
وجه قول محمد رحمه الله أن يقول بأن النكاح
ارتفع بالشراء بعد الدخول فيكون موجبا العدة
إلا أن هذه العدة لا تظهر في حقه لأنها تحل له
بالملك وهي ظاهرة في حق الغير حتى لو أراد أن
يزوجها من غيره لم يجز فإذا أعتقها زال المانع
من ظهور العدة في حقه وظهرت العدة في حقه أيضا
والمعتدة إذا لم تقر بانقضاء العدة حتى جاءت
بالولد لأقل من سنتين يثبت النسب ولأنا قد
بينا أن قدر الفراش الذي يثبت للمولى على أم
ولده باق بعد الشراء وبالعتق زال هذا الفراش
وزوال الفراش بالعتق يوجب العدة كما في حق أم
الولد فكان ينبغي على هذا الطريق أنها إذا
جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ أعتقها أنه
يثبت النسب كما في أم الولد ولكن هذا الفراش
أثر الدخول الحاصل في النكاح لا في الملك
فاعتبرنا مدة السنتين من وقت انقطاع النكاح
بالفراش .
ووجه قول أبي يوسف الآخر
رحمه الله: أن النكاح ارتفع بالشراء لا إلى عدة لما بينا أن ملك اليمين ينافي
حقوق النكاح ألا ترى أن قبل العتق لو جاءت
بالولد لأكثر من ستة أشهر لا يلزمه نسبه فبعد
العتق كذلك لا يلزمه لأنها بالعتق ازدادت بعد
أمته ولهذا لو ادعاه ثبت نسبه منه وإن كذبته
المرأة لأن هذا القدر كان ثابتا قبل العتق
فيبقى بعده ودعواه بقاء الفراش بعد الشراء ليس
بقوي لأنه لا بد للفراش من سبب وملك اليمين
بدون الدخول فيه لا يوجب الفراش وكذلك بعد
الدخول ما لم يدع نسب الولد وفراش النكاح من
حقوقه فلا يبقى بعد الشراء وإن كان لم يدخل
بها فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد
الشراء فهو
ج / 17 ص -122-
ابنه لتيقننا بحصول العلوق في النكاح وإن نفاه
فعليه الحد لأنها محصنة بعد العتق وإن جاءت به
لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه نسبه لجواز أن
يكون من علوق حادث بعد ارتفاع النكاح وهذا
والطلاق قبل الدخول سواء وإن نفاه فلا حد عليه
لأنه صادق في ذلك ولأن في حجرها ولدا لا يعرف
له والد فلا تكون محصنة ولو لم يعتقها حين
اشتراها ولكنه باعها وقد كان دخل بها في
النكاح فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ
اشتراها لزمه الولد وبطل البيع لأنا تيقنا
بحصول العلوق في النكاح وأنها صارت أم ولد له
حين اشتراها لأن في بطنها ولدا ثابت النسب منه
فإنما باع أم ولد وبيع أم الولد باطل وإن جاءت
به لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها ولأقل من
ستة أشهر منذ باعها فإن ادعاه ثبت نسبه منه
وبطل البيع أيضا لأنه لو لم يسبق النكاح كان
هذا الحكم ثابتا بدعوته فعند سبق النكاح أولى
وإن جاءت به لأقل من سنتين منذ اشتراها ولأكثر
من ستة أشهر منذ باعها فكذلك الجواب عند محمد
رحمه الله.
وفي قول أبي
يوسف الآخر: لا يثبت النسب منه ولا يبطل البيع وهذا بناء على الفصل الأول فإن
زوال ملكه بالبيع عنها كزواله بالعتق وقد بينا
هناك أن عند أبي يوسف لا يثبت النسب إذا جاءت
به لأكثر من ستة أشهر فهنا كذلك إلا أن هناك
لم يثبت فيها حق لغيره فإذا ادعى ثبت النسب
منه وهنا قد ثبت فيها حق لغيره وهو المشتري
الثاني فلا يثبت النسب منه وإن ادعاه لأن في
ثبوته إبطالا للبيع وقوله غير مقبول في إبطال
البيع وعلى قول محمد رحمه الله هناك حكم ثبوت
النسب منه يبقى إلى سنتين وإن زال الملك
بالعتق لظهور العدة في حقه على ما بينا فكذلك
هنا يبقى حكم ثبوت النسب منه وإن زال الملك
بالبيع وإذا ثبت النسب منه انتقض البيع ضرورة
لأنه تبين أنه باع أم ولده إلا أن محمدا رحمه
الله هنا يشترط الدعوة منه لأن إقدامه على
البيع دليل النفي والقدر الباقي من الفراش بعد
الشراء مثبت للنسب على وجه ينتفي بالنفي فلا
بد من الدعوى بعد ذلك ليبطل به دليل حكم النفي
بخلاف العتق فإنه ليس لدليل النفي وإن كان
المشتري الآخر قد أعتق الولد ثم ادعاه المشتري
الأول فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ
اشتراها الأول بطل بيع المشتري وعتقه لتيقننا
بأنه باع أم ولده وأن الولد كان حرا قبل بيعه
وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا بعد الشراء الأول
لم تصح دعوة الشراء الأول لما بعد عتق المشتري
الآخر فيه فقد بينا أن عتق المشتري الولد يمنع
صحة دعوة البائع وإن لم يكن أعتق الولد ولكنه
أعتق أمة فقد بينا أن إعتاق الأم لا يمنع صحة
دعوة البائع في الولد فكان هذا وما لم يعتقها
سواء في حق الولد على ما بينا من الخلاف
قال:
وإذا أعتق أم ولده ثم تزوجها فجاءت بولد لستة
أشهر فصاعدا فإن نفاه لاعن ولزم الولد أمه
لأنها إنما جاءت به من علوق بعد النكاح فإن
الحل قائم بينهما فيستند العلوق إلى أقرب
الأوقات وهما من أهل اللعان في الحال فيقطع
النسب عنه باللعان وإن جاءت به
ج / 17 ص -123-
لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها لاعن ولزم الولد
أباه أما اللعان فإنهما من أهل اللعان في
الحال وأما النسب فلأنا تيقنا أن العلوق حصل
قبل النكاح فلا يمكن قطع النسب باللعان وتأويل
هذه المسألة إذا كان لأقل من سنتين منذ عتقها
حتى يثبت النسب من المولى باعتبار زوال الفراش
إلى عدة .
قال:
رجل أعتق أمة ولها زوج حر فجاءت بولد بعد
العتق لستة أشهر فنفاه الزوج لاعن ولزم الولد
أمه وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لاعن ولزم
الولد أباه لأنهما لم يكونا من أهل اللعان حين
علق وولاء الولد لمولى الأم في الوجهين جميعا
أما إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر فلأنه لا
نسب له فهو لمولى الأم وإن جاءت به لأقل من
ستة أشهر فلأنه كان مقصودا بالعتق لأنا حكمنا
بوجوده في البطن حين أعتقت.
قال:
رجل طلق امرأته تطليقة بائنة وهي أمة ثم أعتقت
بالولد فإن جاءت بالولد إلى سنتين من وقت
الطلاق فالنسب ثابت من الزوج لا ينتفي بنفيه
ويضرب الحد لأنه قذفها وهي محصنة ونسب الولد
ثابت لتوهم حصول العلوق بالنكا ح فإنها لم تقر
بانقضاء العدة وولاء الولد لموالي الأم لأنا
حكمنا بوجوده في البطن في حين أعتقت فصار
الولد مقصودا بالعتق ولو مات الأب فجاءت
بالولد ما بينها وبين سنتين وقد أعتقت بعده
بيوم فالولد ثابت النسب وولاؤه لموالي الأم إذ
لا فرق بين ارتفاع النكاح بالموت وبين ارتفاعه
بالطلاق البائن فإنه يعقب العدة في الوجهين
جميعا.
قال:
وإذا اشترى امرأته وقد ولدت فأعتقها وتزوجها
ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها فنفاه لاعن
ولزم الولد أمه وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر
منذ تزوجها أخيرا أو لأكثر من ستة أشهر منذ
اشتراها فنفاه لاعن ولزم الولد أباه لأنها
بالشراء صارت أم ولد له وبالعتق صارت محصنة
فإذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من النكاح
الآخر عرفنا أن العلوق كان سابقا على هذا
النكاح فلا ينقطع السبب باللعان ولكن يجري
اللعان بينهما لكونها محصنة في الحال ولو لم
يتزوجها لزمه الولد ما بينها وبين سنتين من
وقت العتق لأنها معتدة فإن نفاه ضرب الحد لأنه
قذفها وهي محصنة.
قال:
وإن كانت هذه الأمة كتابية فحكم النسب على ما
بينا ولكن لا حد عليه بالنفي لأنها غير محصنة
وإن صدقته أن الولد ليس منه لم يصدقا على
الولد لأن النسب من حق الولد فإنه يتصرف به
فلا يصدقان على إبطال حقه قال رجل مات عن أم
ولده فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين فنفاه
الورثة لم يثبت النسب في قول أبي حنيفة رحمه
الله من الميت ولم يرث بشهادة القابلة ما لم
يشهد به شاهدان لأنه ليس هنا حبل ظاهر ولا
فراش قائم إلا أن يكون المولى قد أقر بأنها
حبلى منه فحينئذ يثبت النسب بشهادة القابلة
وإن أقر به الورثة وإقرارهم كإقرار الميت
لأنهم خلفاؤه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
يثبت النسب في جميع ذلك بشهادة القابلة وقد
بينا هذا الخلاف في المنكوحة بعد موت الزوج
فكذلك في أم
ج / 17 ص -124-
الولد فإن كان المولى كافرا فشهادة الكتابية
في ذلك مقبولة وإن كان مسلما لم تقبل إلا
شهادة مسلمة لأن هذه الشهادة تقوم على حق
المسلم فإن النسب يلزمه فيراعى فيه شهادة
شرائطه.
باب من دعوة البائع أيضا وغيره
قال رحمه الله: رجل اشترى أمة وولدها أو اشتراها وهي حامل ثم باعها ثم اشتراها من
ذلك الرجل أو من غيره فادعى ولدها فالدعوة
جائزة إذا كان الولد يوم يدعي في ملكه لأنه
ادعى نسب مملوكه في حال حياته إلى النسب فيثبت
النسب منه ولا ينفسخ شيء من البيوع والعقد
الذي جرى فيه وفي أمه لأن أصل العلوق لم يكن
في ملكه فكانت دعوته دعوة التحرير بمنزلة
الإعتاق فلو أعتقه لم يبطل به شيء من العقود
المتقدمة فكذلك هنا وإن كان أصل الحبل عنده
بطلت العقود كلها لأن دعوته دعوة استيلاد
فيستند إلى وقت العلوق فيتبين به أن البيوع
والأشرية كانت في أم ولده فكانت باطلة.
قال:
رجل اشترى عبدين توأمين ولدا في ملك غيره فباع
أحدهما ثم ادعى نسبهما ثبت نسبهما منه ولأن
أحدهما في ملكه فيصح دعوة النسب فيه ومن ضرورة
ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر لأنهما توأم
ولكن لا ينقض البيع في الآخر لأن دعوة التحرير
بمنزلة الإعتاق وأحدهما ينفصل عن الآخر في
العتق وكذلك لو ادعاهما المشتري ثبت نسبهما
منه لقيام ملكه في المشتري وقت الدعوة والذي
عند البائع يبقى مملوكا له كما كان.
قال:
ولو اشترى رجل عبدا واشترى أبوه أخ ذلك العبد
وهما توأم فادعى أحدهما الذي في يديه ثبت
نسبهما منه لأن أحدهما في ملكه فصحت دعوته فيه
وبثبوت نسب أحدهما ثبت نسب الآخر ضرورة ويعتق
الذي في يد الآخر إن كان الأب هو المدعي فلأن
الابن ملك أخاه وإن كان الابن هو المدعي فلأن
الأب ملك بن ابنه فيعتق عليه بالقرابة ولا
ضمان لواحد منهما على صاحبه لأن عتقه كان بسبب
مقصود عليه غير معتد إلى صاحبه
قال:ولو
اشترى جارية على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام
فولدت عنده في الثلاثة ولدا فادعاه المشتري
صحت دعوته لأنه صار أحق بها حق ينفذ عتقه فيها
وفي ولدها فكذلك يثبت نسب الولد منه بالدعوة
ويسقط خياره لأن الولد قد عتق وصارت أم ولد له
فتعذر ردها بحكم الخيار فلهذا سقط خياره كما
لو أعتقها ولو كان الخيار للبائع فادعى
المشترى الولد فالبائع على خياره لأنها باقية
على ملكه في مدة خياره فإن أجاز البيع أثبت
النسب من المشتري كما لو جدد الدعوة بعد
الإجازة فانقض البائع البيع بطلت دعوة المشتري
لأنه لم يملكها ولا ولدها ودعوة التحرير
بمنزلة الإعتاق.
فإن قيل أليس أنه لو أعتقها المشتري ثم أجاز
البيع لم ينفذ عتقه فلماذا لا يجعل دعوة
التحرير مثله قلنا ذاك إن شاء العتق فإذا بطل
لعدم تمام السبب في المحل لا ينفذ باعتبار ملك
يحدث وهذا إقرار بالعتق فيتوقف على وجود الملك
في المحل كمن أقر بحرية عبد
ج / 17 ص -125-
إنسان ثم أخذ الرجل من الرجل أمتين على أنه
بالخيار يأخذ أيتهما شاء بألف درهم فولدتا
عنده وأقر بأنهما منه فإقراره صحيح في أحدهما
وهو الذي تناوله البيع منهما لأن خيار المشتري
لا يمنع صحة دعوته ولكن بالبيع تناول أحدهما
بغير عينها ويتبين باختيار المشتري فيؤمر
بالبيان بعد هذا إلا أنه قبل الاستيلاد كان
متمكنا من ردها والآن لا يملك رد المشتراة
لثبوت أمية الولد فيها فإن لم يتبين أيتهما
أولى حتى مات فالبيان إلى الورثة لأنهم قائمون
مقامه وعليهم بمن مات أصاب أم ولد للمشتري من
تركته فكان بيانها إليهم فإن قالوا لا ندري
أيتهما كان عتق نصف كل واحدة منهما ونصف
ولدهما وتسعى كل واحدة منهما ومن ولدهما في
نصف القيمة للبائع لأنه ليس لأحدهما ثبوت
الحرية فيه ولا إحدى الأمتين لثبوت أمية الولد
فيها بأولى من الأخرى فيسع فيهما ويجب على
الورثة نصف ثمن كل واحد منهما من التركة وإن
اختلفت الورثة في الأول منهما فالقول قول
الأول منهم لأن كل واحد وارث قائم مقام مورثه
لتمام علة الخلافة له فالذي قال منهم أولا هذه
التي كانت استولدها المشتري أولا تعينت
للاستيلاد ووجب قيمتها في التركة وتعينت
الأخرى للرد وترد هي وولدها إلى البائع .
واستدل فيه بحديث قروة بن عمير قال زوج أبي
عبدا له يقال له كيسان أمة له فولدت فادعاه ثم
مات أبي فكتب إلى عثمان رضي الله عنه أن يوافي
بأبي الموسم فكتب إليه أن أبي قد مات فكتب أن
ابعثوا بابنه إلي فذهب به إليه فقال ما يقول
بن كيسان فقالت قد ادعاه أبي فإن كان صدق فقد
صدق وإن كان كذب فقد كذب فقال لو قلت غيرها
لأوجعتك وأعتقه بالدعوة وجعله بن العبد
بالفراش فيما يعلم أبو يوسف رحمه الله وإنما
أورد هذا الحديث ليبين أن إقرار أحد الورثة
بدعوة الأب كإقرار الأب به فكذلك تعيين أحد
الورثة كتعيين الموروث بنفسه.
قال:
مكاتب اشترى عبدا فادعاه المولى لم تجز دعوته
فيه لأن دعوة التحرير كالإعتاق والمولى لا
يملك إعتاق كسبه فلا تصح دعوته وكذلك لو اشترى
الابن عبدا لم تجز دعوة الأب فيه لهذا قال زوج
أمته عبده بشهود فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا
فهو بن الزوج لأنها أتت به على فراشه وإن نفاه
لم ينتف عنه لأن النسب متى يثبت بفراش النكاح
لا ينقطع إلا باللعان ولا لعان بين المماليك
ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت نسبه من
الزوج لأنا تيقنا أن العلوق سبق فراش النكاح
لأن دعوة المولى استندت إلى حال العلوق فتبين
أنه تزوجها وفي بطنها ولد ثابت النسب من
المولى وكان النكاح باطلا ولو كان زوجها من
عبد غيره بإذن مولاه أو من حر فجاءت بولد لستة
أشهر فصاعدا فادعاه المولى صدقه الزوج أو كذبه
فهو بن الزوج لأنها علقت في فراشه ولكنه يعتق
على المولى بإقراره أنه ابنه وإن لم يثبت
النسب وتكون أمه بمنزلة أم ولد له لأنه أقر
لها بحق الحرية كما أقر الولد بحقيقة الحرية
ولو زوجها ثم باعها ثم جاءت بالولد لستة أشهر
بعد النكاح ولأقل من ستة أشهر بعد
ج / 17 ص -126-
البيع فادعاه البائع أو المشتري لم يصدقا على
ذلك لثبوت النسب من صاحب الفراش ولم يبطل
البيع لأن دعوة النسب إذا لم تعمل في إثبات
النسب كان بمنزلة الإقرار بالعتق وإقرار
البائع بالعتق بعد البيع غير مقبول في إبطال
البيع .
قال ولو تزوجت أمته بغير إذنه ثم ولدت لستة
أشهر فادعاه الزوج والمولى لأن النكاح الفاسد
عند اتصال الدخول في حكم النسب كالنكاح الصحيح
فكما أن هناك يثبت النسب من الزوج دون المولى
فكذلك هنا ألا ترى أن النسب يثبت بفراش النكاح
على وجه لا ينتفى بمجرد النفي فاسدا كان
النكاح أو جائزا بخلاف ملك اليمين ولكنه يعتق
بدعوة المولى لأنه صار مقرى بحريته وكذلك أم
ولد رجل تزوجت بغير إذنه ودخل بها الزوج فجاءت
بولد لستة أشهر فصاعدا فادعياه أو نفياه أو
نفاه أحدهما وادعاه الآخر فهو بن الزوج على كل
حال لأن فراش النكاح وإن كان فاسدا فهو أقوى
من فراش الملك على ما بينا وكذلك لو تزوج أمة
ابنه بغير إذنه فولدت فادعاه الزوج والمولى
فهو بن الزوج لماله عليها من فراش النكاح وهو
أقوى من إثبات النسب من فراش الملك والله
أعلم.
ج / 17 ص -127-
منافاة وكذلك بين حرية الأصل وحرية العتق
منافاة ولا يمكن اعتبار الجهتين جميعا فلهذا
يعتق من كل واحد منهم ثلثه.
وقد روي عن أبي يوسف مثل قول محمد رحمهما
الله إلا في حرف واحد وهو أنه قال يعتق من
الأكبر نصفه لأن حاله تتردد بين شيئين فقط إما
أن يكون ثابت النسب من المولى فيكون حرا كله
أو لا يكون ثابت النسب منه فلا يعتق منه شيء
فلهذا عتق نصفه ويسعى في نصف قيمته ثم استشهد
بقول أبي حنيفة رحمه الله بما لو كان لها ولد
واحد فقال المولى قد ولدت هذه الأمة مني ولدا
ولم يتبين هذا هو أو غيره لا يثبت نسب هذا
معرف والمولى إنما أقر بنسب المنكر والمنكر
غير المعرف وتصير الجارية بمنزلة أم الولد
لإقراره بأمية الولد لها فيكون الولد عبدا لا
يعتق بعتق أمه لأنه ما أقر بنسبه ولا بانفصاله
عن الأم بعد أمية الولد فيها والرق فيها ثابت
بيقين فلا يبطل بالاحتمال ومن قال بقول محمد
رحمه الله يلزمه أن يقول هنا بعتق من الولد
نصفه باعتبار الأحوال وهذا قبيح من طريق
المعنى أرأيت لو قال قد أسقطت هذه الأمة مني
سقطا مستبين الخلق أكان يعتق به شيئا من ابنه
الكبير لا يعتق شيء منه فكذلك ما سبق وكذلك لو
كان كل واحد من هؤلاء الأولاد لأم معروف كان
لها فإنه يعتق من كل ولد ثلثه لأن النسب لما
لم يثبت بدعوته كان هذا إقرارا بالعتق لأحدهم
فيعتق من كل واحد منهم ثلثه وهذا على أصل الكل
لأن اعتبار الأحوال هنا غير ممكن .
قال:
وإذا ولدت أمة ولدا من غير زوج فلم يدعيه
المولى حتى كبر وولد له ولد من أمه للمولى ثم
مات الابن الأول ثم ادعى المولى أحدهما فقال
أحد هذين ابني يعني الميت وابنه فإنه يعتق
الأصل كله على اختلاف الأصلين أما عند أبي
حنيفة رحمه الله لأن دعوته لما لم يعمل في حق
النسب انقلب إقرارا بالعتق فكأنه قال أحدهما
حر ومن جمع بين حي وميت وقال أحدهما حر عتق
الحي منهما عنده وأما عند محمد رحمه الله
فلأنا تيقنا بحرية الأسفل لأنه إن كان هو
المقصود فهو حر وإن كان المقصود الأكبر عتق
الأسفل أيضا لأنه من أمة المولى فيكون مملوكا
له ومن ملك بن ابنه عتق عليه وتسعى أمة في نصف
قيمتها لأنه إن كان المقصود هو الأسفل فأمه أم
ولد يعتق بموت المولى وإن كان هو الأكبر لم
يعتق هذه فلهذا عتق نصفها وسعت في نصف قيمتها
وكذلك الجدة تسعى في نصف قيمتها لهذا.
قال:
أمة لرجل ولدت ابنتا ثم ولدت ابنتها ابنتا
فقال المولى في صحته إحدى هؤلاء الثلاثة ولدى
ثم مات قبل أن يبين فإنه يعتق نصف العليا
وجميع الوسطى وجميع السفلى لأن العليا تعتق في
حالين فإنها إذا كانت مقصودة بالدعوة فهي حرة
وإن كان المقصود ابنتها فهي أم ولد تعتق بموت
المولى وإن كان المقصود أسفلها فهي أمة فلهذا
عتق نصفها فأما الوسطى فهي حرة بيقين إن كانت
هي المقصودة فهي حرة بالنسب وإن كانت
ج / 17 ص -128-
ابنتهما فهي حرة بأمية الولد وإن كان المقصود
أمها فهي حرة فهي ابنة ابنة المولى وكذلك
السفلى حرة بيقين ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه
الله في هذا الفصل وقيل على قوله يعتق ثلث كل
واحدة منهن لأن هذا عنده بمنزلة قوله إحداكن
حرة وقيل بل الجواب قولهم لأن العتق هنا بجهة
النسب كيف ما كان وهو مقصود فيه سواء كان
بأمية الولد فوجب اعتبار الجهات هنا بخلاف
الفصل الأول على ما بيناه .
قال:
ولو ولدت الأمة ابنتا من غير زوج ثم ولدت
ابنتين في بطن آخر ثم ولدت إبنا في بطن آخر ثم
نظر المولى إلى الأكبر وإلى إحدى الابنتين في
صحته فقال أحد هذين ولدي ثم مات قبل أن يبين
لم يثبت نسب واحدة منهما وعتقت الأمة بجهة
أمية الولد لما بينا ويعتق من الكبرى نصفها
ويسعى في نصف قيمتها ويعتق من الأوسطين نصف كل
واحد منهما في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة
رحمه الله وفي غير الأصول قال يعتق عبده من كل
واحدة منهما ربعها وجه هذه الرواية أنه لما لم
يثبت النسب بدعوته انقلب إقرارا بالحرية فكأنه
قال أحدهما حر ويعتق نصف الكبرى في نصف الحرية
وحط الأوسطين فيه على السواء لأنهما توأم لا
ينفصل أحدهما عن الآخر فيصير هذا النصف بينهما
نصفين فيعتق من كل واحد ربعها وجه ظاهر
الرواية أن تعلق الحرية الذي بقي العتق من
وسطين ولكن أحدهما لم ينفصل عن الآخر في حرية
الأصل ولا في النسب والإقرار بالنسب لأحدهما
بمنزلة الإقرار به لهما فما يعتق به من أحدهما
بحكم هذا الإقرار وهو نصف رقبته يعتق من
الثاني مثله وأما الأصغر فهو حر كله لأنا
تيقنا بأنه ولد أم الولد فيعتق بموت المولى من
جميع المال كما تعتق أمته.
قال:
ولو نظر المولى إلى الأصغر فقال أحد هذين ابني
ثم مات قبل أن يبين يعتق من الأكبر نصفه ومن
الأصغر أيضا نصفه في قول أبي حنيفة لأن كلامه
صار إقرارا بالحرية لهما فكأنه قال أحدهما حر
فيعتق من كل واحد منهما نصفه وعلى قول محمد
رحمه الله يعتق الأصغر كله لأنه حر بيقين إما
لأنه ابنه أو لأنه ولد أم ولده فيعتق بموته.
وقال:
يعتق من الأوسطين نصف كل واحد منهما ويسعى في
نصف قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل
هذا قول محمد رحمه الله فإنه إن كان المقصود
الأكبر فهما حران بالاستيلاد وإن كان المقصود
الأصغر لم يعتق واحد منهما فيعتق من كل واحد
منهما نصفه فأما عند أبي حنيفة رحمه الله
ينبغي أن لا يعتق من الأوسطين شيء لأن كلام
المولى لم يتناولهما وقيل بل الجواب صحيح في
قول أبي حنيفة لأن جهة العتق لهما واحدة وهو
التبعية فيعتبر الحالان في حقهما فلهذا يعتق
من كل واحد منهما نصفه
قال
:رجل له أمة لها ثلاثة أولاد ولدتهم في بطون
مختلفة من غير زوج فقال المولى للأكبر منهم هو
ابني ثبت نسبه منه للدعوة وصارت الأم أم ولد
له ولم يثبت نسب الآخرين منه عندنا وقال زفر
رحمه الله يثبت نسب الآخرين منه أيضا لأنه
تبين أنها أم ولد ولدتهما
ج / 17 ص -129-
على فراشه فإنها صارت أم ولد له من حين علقت
بالأكبر ونسب ولد أم الولد ثابت من المولى من
غير دعوة إلا أن ينفيه وتخصيصه الأكبر بالدعوة
لا يكون دليل النفي ولا الإثبات ولنا أن
تخصيصه الأكبر بدعوة النسب دليل النفي في حق
الآخرين هنا لأنه يجب على المولى شرعا إظهار
النسب الذي هو ثابت منه بالدعوة فكان تخصيصه
الأكبر بعد وجوب الإظهار عليه بهذه الصفة دليل
النفي في حق الآخرين ودليل النفي كصريح النفي
ونسب ولد أم الولد ينتفي بالنفي فكذلك بدليل
النفي وهذا نظير ما قيل أن سكوت صاحب الشرع
صلوات الله عليه عن البيان بعد وقوع الحاجة
إليه بالسؤال دليل النفي لأن البيان وجب عند
السؤال فكان تركه بعد الوجوب دليل النفي ولكن
يعتق الآخران بموت المولى لأنهما ولدان لأم
الولد فيعتقان بموت المولى فإن ولدت بعد
إقراره ولدا لستة أشهر فصاعدا فلم ينفه المولى
ولم يدعه حتى مات فهو ابنه لأنها علقت على
فراشه فإنها بالدعوة صارت فراشا للمولى ولهذا
ثبت نسب هذا الولد منه وفي الكتاب أشار إلى أن
الفراش إنما يثبت لها من وقت الدعوة وهذا يكون
طريقا آخر في المسألة الأولى أن انفصال
الولدين الأولين كان قبل ظهور الفراش فيها فلا
يثبت نسبهما إلا بالدعوة .
قال
:ولو أقر أن أمته قد ولدت منه أو أسقطت منه
سقطا مستبين الخلق ثم ولدت بعد ذلك لستة أشهر
وهو غائب أو مريض فإنه يثبت النسب منه ما لم
ينفه لأنها جاءت به على فراشه فإن نفاه انتفى
بمجرد نفيه عندنا وقال الشافعي إذا أقر بوطئها
ثم جاءت بالولد قبل أن يشتريها بحيضة لا ينتفي
النسب منه وإن نفاه وإن جاءت بالولد بعد ما
اشتراها بالحيضة لم يثبت النسب منه إلا
بالدعوة لأن عنده بالوطء تصير فراشا له ولا
ينقطع حكم ذلك الفراش إلا بالاستبراء فإذا
ولدت قبل أن يشتريها ثبت النسب منه باعتبار
الفراش فلا ينتفي بنفيه كما لو ثبت بفراش
النكاح ولكنا نقول للمولى على أم الولد فراش
مجوز لا ملزم ألا ترى أنه يملك نقل فراشه إلى
غيره بالتزويج فكما أنه يثبت الفراش على وجه
ينفرد بنقلها إلى غيره فكذلك النسب بحكمه يثبت
على وجه ينفرد بنفيه بخلاف فرش المنكوحة والله
أعلم بالصواب
باب دعوة القرابة
قال رحمه الله: قال جارية لرجل ادعى ابنه أن أباه زوجها منه فولدت له هذا الولد
وأنكره الأب لم يصدق على ذلك ولم يثبت نسبه
منه إلا أن بينته تقوم على النكاح. لأنه ليس
للابن في جارية أبيه تأويل ملك ولا له حق
بملكها على أبيه فكان هو في هذه الدعوة كسائر
الأجانب لا يثبت نسبه منه ما لم يثبت سببه
بالحجة وهو النكاح لأن ثبوت الحكم ينبني على
ثبوت النسب .
قال وإذا ادعى الأب ولد جارية ابنه والابن عبد
أو مكاتب فدعوته باطلة لأنه ليس له ولاية
نقلها إلى نفسه لانعدام ولايته على العبد
والمكاتب ولما كان للمولى فيها من ملك أو
ج / 17 ص -130-
حق ملك وشرط صحة دعوة الأب نقلها إلى ملكه كما
ذكرنا وكذلك لو كان الابن مسلما والأب ذميا أو
مستأمنا لأنه لا ولاية للكافر على مسلم .
قال:وإذا
لو ولدت أمة الرجل فادعاه آخر أنه ابنه من
نكاح أو شبهة وأنكره المولى لم يصدق على ذلك
العم والخال وسائر القرابات لأنه لا حق لبعضهم
في مال البعض فهم كسائر الأجانب فإن ملكه يوما
وقد ادعاه من جهة نكاح صحيح أو فاسد أو من جهة
ملك يثبت نسبه منه لأنه عند الملك كالمجدد
لذلك الإقرار فإن النسب لا يحتمل الإبطال بعد
ثبوته والإقرار به قبل الملك يتوقف على وجود
الملك وكذلك لو ادعى أنه ابنه ولم يذكر أنه
تزوجها لأن مطلق إقراره محمول على سبب صحيح
شرعا والأسباب المثبتة للفراش الذي يبنى عليها
النسب كثيرة ولو مالك أمه معه أو دونه صارت أم
ولد له لأنه أقر لها بأمية الولد حين أقر
بالولد والنسب فإن إقراره بالنسب مثبت لها
الفراش والفراش ثابت بالملك أو بالنكاح فاسدا
كان أو صحيحا وذلك موجب أمية الولد لها إذا
ملكها.
وإن ملك الولد أب المدعي وهو يجحد مقالة ابنه
لم يثبت نسبه من الابن ولا يعتق لأنه لو كان
في ملك الأب حين ادعاه الابن لم يثبت نسبه مع
جحود الأب فإذا اعترض ملك الأب أولى أن لا
يثبت نسبه بتلك الدعوة وإذا لم يثبت النسب لم
يعتق على الأب لأن عتقه عليه باعتبار أنه بن
ابنه وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت نسبه من الابن
.
قال:رجل
تزوج امرأة على خادم فولدت في يد الزوج فادعى
الزوج الولد وكذبته المرأة فإن كانت ولدت لأقل
من ستة أشهر منذ تزوجها وكان أصل الحبل عند
الزوج فهو مصدق لأنا تيقنا أن العلوق حصل في
ملكه فتكون دعوته دعوة استيلاد فبطل به
تمليكها من المرأة صداقا ويضمن قيمتها للمرأة
لأن التسمية بطلت بعد صحتها فوجب على الزوج
القيمة كما لو استحقت وهذا لأنه تعذر تسليمها
مع بقاء السبب الموجب للتسليم وهو النكاح وإن
لم يكن أصل الحبل عنده لم يصدق لأن دعوة
التحرير بمنزلة الإعتاق وهو لو أعتقها في هذه
الحالة لم تصح منه وكذلك إن وضعته لأكثر من
ستة أشهر لأنا لا نتيقن بحصول العلوق في ملكه
فلا يصدقه على إبطال ملكها عن عين الخادم حين
كذبته فإن طلقها قبل أن يدخل بها وقبل التسليم
إليها ثبت نسب الولد منه لأن بالطلاق قبل
الدخول ينتصف الأصل مع الزيادة وهو الخادم
المقبوض فكان نصفها ونصف ولدها للزوج وذلك
يكفي لصحة الدعوة فلهذا ثبت نسب الولد منه
وصارت الجارية أم ولد له ويضمن نصف قيمتها
للمرأة لأنه صار متملكا نصيبها عليها بما سبق
منه من الدعوة وضمان التملك لا يعتمد وجود
الصنع ولو لم يصنع في عينها شيئا بالطلاق قبل
الدخول صار ضامنا لها نصف قيمة الجارية ويسعى
الولد في نصف قيمته لها لأن نصف الولد مملوك
لها وقد احتبس عنده فيجب عليه السعاية في نصف
القيمة ولا ضمان على الزوج فيه وإن كان موسرا
لأن صفة الدعوة حين ادعى لم يكن مفسرا عليها
شيئا من الولد وإنما فسد نصيبها من الولد بعد
الطلاق وكان ذلك
ج / 17 ص -131-
سببا حكميا وهو ينصف الصداق بينهما وذلك أمر
حكمي ولا يقال بأن سببه الطلاق لأن الطلاق
يصرف منه في المنكوحة لقطع النكاح لا في
الصداق فلا يكون موجبا للضمان عليه ثم إن كان
الزوج أقر أنه وطئها قبل النكاح لم يضمن من
العقر شيئا وإن أقر أن وطأه إياها كان بعد
النكاح ضمن نصف العقر لها وإن لم يبين ذلك
فالقول قوله فيه إلا إذا جاءت به لأكثر من
سنتين منذ تزوجها فحينئذ يعلم أن وطأه إياها
كان بعد النكاح فيلزمه نصف العقر لها لأن
بالوطء قد لزم جميع العقر فإنه وطىء ملك الغير
وقد سقط الحد عنه لشبهة فيجب العقر والعقر
زيادة كالولد فينصف بالطلاق.
قال:
وتأويل هذه المسألة إذا كان ادعى نسب الولد
بنكاح أو شبهة أو لم يبين السبب فأما إذا بين
أنه وطئها من غير شبهة النكاح لا يثبت النسب
منه لأن الجارية في يده مملوكة له مضمونة عليه
بالقيمة كالمغصوبة فيكون وطؤه إياها زنا غير
مثبت النسب وإن كانت ولدت في يدي المرأة ثم
طلقها قبل أن يدخل بها لم يرجع إليه من الخادم
والولد سبي لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض
تمنع بنصف الأصل إلا أن تكون جاءت به لأقل من
ستة أشهر منذ تزوجها فيكون ابنه بدعوته
والجارية أم ولد له ويضمن المرأة نصف قيمتها
لتيقننا بحصول العلوق في حال ملكه وذلك بمنزلة
البينة تقوم وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر
بعد القبض ولم يطلقها ولكن المرأة ماتت فورثها
ضمن نصيب شركائه فيها لأنه صار متملكا لنصيب
شركائه من الجارية حين صارت أم ولد له وضمان
التملك لا يستدعي صنعا من جهته ويسعى الولد في
حصتهم لأن نصيب الأب منه قد عتق بالدعوة
السابقة فيحتبس نصيب الشركاء عند الولد فعليه
السعاية.
قال
:وكذلك كل ميراث يقع في مثل هذا وحاصل هذه
المسألة إن ملك جزءا من ولد بطريق الميراث من
غيره فهو على وجهين إما أن يكون شريكه ذا رحم
محرم من الولد أو أجنبيا منه وكل وجه على
وجهين إما أن تكون دعوة الأب فيه قبل الملك أو
بعده وكل وجه من ذلك على وجهين إما أن يصدقه
الشريك أو يكذبه ثم الحاصل عند أبي حنيفة رحمه
الله أنه إن كان الشريك ذا رحم محرم من الولد
والدعوة قبل الملك أو بعده صدقه الشريك في ذلك
أو كذبه فالولد حر كله ولا ضمان على الأب ولا
سعاية على الولد لأنه إنما عتق نصيب الشريك
عليه بقرابته فلا يكون ذلك موجبا للسعاية على
الولد ويكون موجبا للضمان على الأب أما إذا
انعدمت الدعوة على الملك فلأن تمام علة العتق
بالملك الحاصل بالميراث لا صنع له فيه فإن
تأخرت الدعوة عن الملك فإنما كان عتق نصيب
الشريك محالا به على القرابة الثانية بينهما
حكما فلا يكون موجبا للضمان على الأب.
وإن كان الشريك أجنبيا فإن كانت الدعوة قبل
الملك وصدقه الشريك فيه أو كذبه أو كانت
الدعوة بعد الملك وصدقه الشريك فيه فلا ضمان
على الأب لانعدام صنع موجب للضمان إما بتقدم
الدعوة على الملك الذي هو متمم لعلة العتق
وإما التصديق من شريكه إياه
ج / 17 ص -132-
في الدعوة فإنه حينئذ يلتحق بالابن المعروف
ومن ملك ابنه المعروف بالميراث مع غيره لم
يضمن لشريكه شيئا ولكن على الولد أن يسعى في
نصيب الشريك لأنه احتبس نصيب الشريك عنده فتجب
السعاية له ولو كانت الدعوة بعد الملك وكذبه
شريكه فالحكم فيه كالحكم في عبد بين اثنين
يعتقه أحدهما لأن نصيب الأب إنما يعتق عليه
بعلة ذات وصفين الملك ولقرابة فيحال به على
آخر الوصفين وجودا وهو الدعوة هنا وذلك منه
بمنزلة الإعتاق في حق الشريك حين كذبه فلهذا
كان الحكم فيه كالحكم بين اثنين يعتقه أحدهما.
وأما في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فإن
كانت الدعوة قبل الملك وكان الشريك ذا رحم
محرم من الولد وصدقه في ذلك فلا ضمان عليه ولا
سعاية على الولد لأن نصيب الشريك إنما يعتق
عليه بقرابته حين صدقه في الدعوة وإن كانت
الدعوة قبل الملك وكذبه شريكه أو كان الشريك
أجنبيا والدعوة قبل الملك فصدقه أو كذبه أو
كانت الدعوة بعد الملك وصدقه ففي هذه الوجوه
الأربعة لا ضمان على الأب لأن تتميم علة العتق
بالملك إذا كانت الدعوة قبله ولا صنع له في
ذلك وإن كانت الدعوة بعده وصدقه فهو كالابن
المعروف في حقه فلا يكون الأب ضامنا لشريكه في
ظاهر الرواية عنهما وقد روي عن أبي يوسف رحمه
الله يصير ضامنا لشريكه في الابن المعروف وإن
ملكه بالإرث لأن ضمان العتق على هذه الرواية
ضمان التملك بناء على أصلهما أن المعتق إذا
كان موسرا يكون الولاء كله له فيكون بمنزلة
ضمان الاستيلاد الواجب بسبب تملك الأم ولكن
هذه الرواية غير صحيحة فإنه لا خلاف أنه لا
يجب هذا الضمان عند العسر وضمان التملك لا
يختلف باليسار والإعسار ولكن العبد يسعى في
قيمة نصيب شريكه لإحصاء منه عنده فإن القرابة
بينه وبين الولد لم تثبت عند تكذيبه في حقه
وإن كانت الدعوة بعد الملك وكذبه الشريك وهو
ذو رحم محرم من الأب أو أجنبي فالجواب في
الفصلين واحد عندهما والحكم فيه كالحكم في عبد
بين اثنين يعتقه أحدهما لما بينا أن القرابة
لا تثبت في حق الشريك مع تكذيبه إياه فذا
الرحم المحرم والأجنبي فيه سواء.
قال:
أمة في يدي رجل فولدت فادعى رجل أنه تزوجها
وأن الولد منه وقال المولى بل بعتها بألف درهم
والولد منه فالولد من الزوج بتصادقهما على
الفراش المثبت للنسب له عليها مع الاختلاف في
سببه ويعتق بإقرار المولى لأن الأب مقر أن
الولد ملكه لأنه ولد أمته والمولى مقر أنه حر
لأنها علقت به في ملك الأب فكان حرا بإقرار
المولى وأمه بمنزلة أم الولد لأن المولى مقر
لها بأمية الولد والمستولد مقر بأن إقرار
المولى فيها نافذ فلهذا كانت بمنزلة أم الولد
موقوفة لا تحل لواحد منهما لأن كل واحد منهما
ينفيها عن نفسه ولا يسع الزوج أن يقربها لأن
إباحة الفساد باعتبار ملك المتعة وملك المتعة
لا يثبت له عليها إلا بثبوت سببه ولم يثبت هنا
سبب لملك المتعة فإن المولى منكر للزوجية
والزوج منكر للشراء وباب الحل مبني على
الاحتياط فلهذا لا يسعه أن يقربها فإذا مات أب
الولد
ج / 17 ص -133-
عتقت لأن المولى مقر أنها أم ولد له يعتق
بموته والزوج مقر بصحة إقرار المولى فيها وعلى
الزوج العقر قصاص من الثمن لأن مقدار العقر
تصادقا على وجوبه على الزوج وإن اختلفا في
سببه ولا عبرة لاختلاف السبب في ضمان المال
كمن يقول لغيره لك على ألف درهم قرض وقال
المقر له بل هو غصب كان له أن يأخذ المال فهنا
كذلك الزوج يعطي بحساب العقر والمولى يأخذ
بحساب ما ادعاه من الثمن.
قال:
وهذا الجواب بخلاف ما ذكرنا في كتاب العتاق
وإنما أراد به ما ذكره في نسخ أبي سليمان رحمه
الله من كتاب العتاق أن على الزوج قيمتها
للمولى وهذا غلط بل الصحيح ما ذكره في نسخ أبي
حفص ونوادر هشام رحمهما الله أن على الزوج
العقر يأخذه المولى قصاصا من الثمن كما فسره
هنا.
قال ولو ادعى الزوج أنه اشتراها فولدت منه هذا
الولد وقال المولى بل زوجتك ثبت النسب
لتصادقهما عليه ولم يعتق الولد لأن الشراء لم
يثبت بقول الزوج فكان الولد مملوكا للمولى
بملكه الأم كما عرف بثبوته فلهذا لا يعتق .
قال:
أمة في يدي رجل فولدت فادعى ولدها وقال لرجل
هي أمتك زوجتنيها وصدقه الآخر ولا يعرف أن
أصلها كان للآخر فالولد حر ثابت النسب من ذي
اليد وأمه أم ولد له لأنها كانت في يده
والظاهر أنها مملوكة فصحت دعوته وثبت للولد
حقيقة الحرية وللأم حق الحرية بهذه الدعوة فهو
بإقراره بعد ذلك أنها لغيره يريد إبطال الحق
الثابت لها قبله فلا يقبل قوله في ذلك ولكن
يضمن قيمتها للمقر لأن إقراره حجة في حقه وقد
زعم أنها مملوكته احتبست عنده بالدعوة السابقة
فيضمن قيمتها له ولو عرف أن أصلها كان للمقر
له ثبت النسب منه وكان مملوكين له لأن بدعوة
النسب هنا لم تثبت الحرية فيها ولا في ولدها
لكون الملك فيها ظاهرا لغير المستولد وإن كان
الأصل لا يعرف لهذا فقال هذا بعتكها وقال أب
الولد زوجتني ضمن أب الولد قيمتها لأن
احتباسها عنده لم يكن بإقرار المقر له بالبيع
.
ألا ترى أنه وإن أنكر ذلك لم يكن له عليه
أولا على ولدها سبيل بثبوت أمية الولد بالدعوة
السابقة فلهذا ضمن أب الولد قيمتها ولم يضمن
العقر لأنه وطى ء ملك نفسه ولأنه ضمن جميع بدل
النفس وكذلك لو قال أب الولد بعتني هذه
الجارية وقال الآخر بل زوجتك فهذا والأول سواء
لما بينا وإن كان يعرف أن الأصل لهذا فإنه
يأخذ الأم وولدها مملوكين ما خلا خصلة واحدة
وهي أن تقر بأنه باعها منه فحينئذ لا سبيل له
عليها لإقراره بخروجها عن ملكه بالبيع ولا
يغرم أب الولد القيمة في هذا الفصل لأن
احتباسها بإقرار المقر له ببيعها ألا ترى أنه
لو أنكر ذلك لم يمكن من أخذها وأخذ ولدها
فلهذا لا يضمن أب الولد القيمة ولكن عليه
العقر لما بينا فيما سبق وكانت هي بمنزلة أم
الولد موقوفة لإقرار مولاها بذلك
ج / 17 ص -134-
قال:رجل تزوج امرأة فولدت ولدا فادعى أحدهما النكاح منذ شهر وقال الآخر
منذ سنة فالنسب ثابت منهما لأنها فراش له في
الحال فيثبت النسب باعتبار ظاهر الفراش في
الحال ومن ادعى أن النكاح منذ شهر فقد ادعى
خلاف ما يشهد به الظاهر فلا يقبل قوله فإن قيل
بل صاحبه يدعي سبق التاريخ بالنكاح وهو منكر
له فينبغي أن يكون القول قول المنكر قلنا
التاريخ غير مقصود لعينه فلا ينظر إليه وإنما
ينظر إلى الحكم المقصود وهو نسب الولد فيجعل
القول قول من يشهد الظاهر له في حق النسب مع
أن هذا المنكر مناقض لأنه قد تقدم منه الإقرار
لصحة النكاح والآن يدعي فساده بإنكار التاريخ
فلا يقبل قوله وكذلك لو طلقها ثلاثا فولدت
بعده بيوم فأحبلها فهو وما سبق سواء لما بينا
ولو اجتمعا على أن النكاح منذ شهر والولد صغير
صدقا ولم يثبت النسب من الزوج لأن الصغير لا
قول له في نفسه فبقي الحق لهما وما تصادقا
عليه يجعل كالمعاين في حقهما فلهذا لا يثبت
النسب من الزوج فإن قامت البينة أنه تزوجها
منذ ستة أشهر ثبت النسب لقيام حجة البينة عليه
فإن قيل كيف تقبل هذه البينة وليس هنا من
يدعيها قلنا من أصحابنا رحمهم الله من قال
ينصب القاضي عن الصغير قيما ليقيم هذه البينة
لأن النسب حقه وهو عاجز عن إثباته بنفسه فينصب
القاضي عنه قيما لإثباته وقيل بل في هذا حق
الشرع وهو ثبوت النكاح بينهما والحكم بصحته
حتى لا تتزوج بغيره فيكون ابنه وإن لا ينسب
الولد إلى غير أبيه فإن ذلك حرام لحق الشرع
وإذا تعلق به حق الشرع قبلت الشهادة عليه حسبة
من غير دعوى كما في عتق الأمة والله أعلم.
باب إقرار المريض بالولد
قال رحمه الله: رجل له عبد في صحته وأقر في مرض موته أنه ابنه وليس له نسب معروف
ومثله بولد لمثله فإنه ابنه يرثه ولا يسعى في
شيء سواء كان أصل العلوق به في ملكه أو لم يكن
في ملكه لأن النسب من حاجته وهو مقدم على حق
ورثته في ماله فيثبت نسبه منه بالدعوة لكونه
غير محجور عنه ويكون بمنزلة بن معروف له ملكه
في صحته فيكون عتقه من جميع المال لا بطريق
الوصية فلهذا لا يسعى في شيء.
قال:وكذلك
إن كان عليه دين يحيط بماله لأن حاجته مقدمة
على حق غرمائه بدليل الجهاز والكفن ولأنه ليس
في إثبات النسب إبطال حق الغرماء والورثة لأنه
يلاقي محلا لا حق لهم فيه وإنما ذلك فيما
ينبني عليه من الحكم والذي ينبني على هذا
السبب عتق في صحته ولا حق للغرماء والورثة في
ماله في صحته وكذلك لو كانت له جارية ولدت في
صحته فأقر في مرضه أنه ابنه سواء كان أصل
العلوق في ملكه أو لم يكن لأن الذي ينبني على
دعوة النسب هنا حقيقة الحرية للولد في صحته
وحق الحرية للأم ولا حق للغرماء والورثة فيهما
في حالة الصحة فأما إذا كان ملكه في مرضه
فادعاه قبل الملك أو بعده ثم مات فإن كان عليه
دين محيط فعليه السعاية في جميع القيمة لأن
الذي ينبني على دعوته هنا
ج / 17 ص -135-
عتق في المرض وذلك يلاقي محلا مشغولا بحق
الغرماء فلا يكون مصدقا في حقهم إلا أن الرق
قد فسد بإقراره فعليه السعاية في جميع القيمة
وإن لم يكن له مال سواهما ولا دين عليه كان
عتقه من ثلثه وعليهما السعاية فيما زاد على
الثلث من قيمته ولا يرثه الولد في قول أبي
حنيفة لأن المستسعى في بعض قيمه عنده بمنزلة
المكاتب والمكاتب لا يرث.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المستسعى حر
مديون فيكون من جملة الورثة ولا وصية للوارث
ولكن عليه السعاية في قيمته ويرثه وإن كان
للمولى ابنان بحيث تخرج رقبته من الثلث فعلى
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الجواب كذلك
يسعى الولد في قيمته لأنه صار وارثا ولا وصية
للوارث وأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا سعاية
على الولد في شيء ويرثه فقد جمع له بين الوصية
والميراث لضرورة الدور فإنه لو لم يجز الوصية
له وألزمه السعاية في قيمته كان مكاتبا
والمكاتب غير وارث فتصح الوصية له سقطت
السعاية فصار وارثا فلا يزال يدور هكذا
والسبيل في الدور أن يقطع فلهذا جمع بين
الوصية والميراث وهو نظير ما قالوا في تنفيذ
الوصية في خمسي المال في بعض مسائل الهبة
لضرورة الدور وإن كانت الوصية لا تنفذ في أكثر
من الثلث وهذا لأن مواضع الضرورة مستثنى في
الأحكام الشرعية فأما أم الولد فلا سعاية
عليها عندهم جميعا لأنه إذا كان معها ولد يثبت
نسبه فهو شاهد لها بمنزلة إقامة البينة فلهذا
لا يلزمه السعاية في شيء وكذلك لو وهب للمريض
ابنه المعروف ولا مال له غيره فإن كان عليه
دين سعى في قيمته للغرماء وإن كان الدين أقل
من قيمته سعى في الدين وفي ثلثي ما بقي للورثة
وله الثلث وصية في قول أبي حنيفة وفي قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله سعى فيما بقي من قيمته
بينه وبين الورثة ولا وصية له لأنه من جملة
الورثة.
قال:ولو
كان وهب للمريض أم ولد له معروفة عتقت ولم يسع
في شيء لأن ثبوت نسب الولد شاهد لها وعتق أم
الولد من حوائج الميت فيكون مقدما على حق
الغرماء والورثة قال:ولو أن مريضا له ألف درهم
اشترى به ابنه ثم مات ولا مال له غيره فعند
أبي حنيفة رحمه الله يسعى في قيمته للورثة
والثلث وصية له ويسعى في جميع قيمته لأنه وارث
فلا وصية له وإن كان عليه دين سعى في الدين
وثلثي ما بقي في قول أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما في جميع القيمة لما بينا قال ولو كان
اشترى أم ولد له معروفة لم يسع في شيء للغرماء
ولا للورثة لأن نسب الولد شاهد لها وإن كان قد
حابى البائع في شيء فإن كانت أقل من ألف
فالمحاباة في المرض وصية فإن كان عليه دين
فعلى البائع رد بيع الفضل وإن لم يكن عليه دين
فعليه رد ثلثي الفضل على الورثة والثلث يسلم
له بطريق الوصية.
قال:ولو أن صبيا وأمة مملوكان لرجل لا يعرف له
نسب فاشتراهما رجلان أو ملكاهما بهبة أو صدقة
أو ميراث أو وصية ثم ادعى أحدهما أن الولد
ابنه وكذبه الآخر فهو ابنه لأن قيام الملك له
في النصف كقيام الملك له في الكل في صحة
الدعوة والولد محتاج إلى النسب
ج / 17 ص -136-
ويضمنه حصة شريكه من قيمة الأم غنيا كان أو
فقيرا لأنه صار متملكا لنصيبه عليه حين صارت
أم ولد له قال ويضمن حصة شريكه من قيمة الولد
إن كان موسرا ويسعى الولد إن كان معسرا لأن
دعوة التحرير بعد الملك بمنزلة الإعتاق إذا
كذبه الشريك وكان أجنبيا وإن كان الشريك ذا
رحم محرم من الولد فعند أبي حنيفة رحمه الله
لا سعاية عليه وعندهما يلزمه السعاية وقد بينا
هذه الفصول في الباب المتقدم .
قال:ولو اشترى المكاتب ابنه مع رجل آخر صارت
حصته مكاتبا معه لأنه لو ملك كله صار الكل
مكاتبا معه فكذلك إذا ملك النصف اعتبارا للبعض
بالكل فإذا ادعى المكاتب عتقا وسعى الولد
لشريكه في نصف قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله
ولا ضمان على المكاتب لأن من أصله أن الحر لو
اشترى ابنه مع غيره لم يضمن لشريكه شيئا ولكن
تجب السعاية على الولد فكذلك المكاتب وأما على
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله صار الولد كله
مكاتبا مع ابنه لأن عندهما الكتابة لا تجزئ
ويضمن المكاتب نصف قيمة ابنه لشريكه لأنه صار
متملكا عليه نصيبه فيضمن له قيمة نصيبه موسرا
كان أو معسرا ولو كان مجهولا فادعاه المكاتب
بعد ما ملكاه كان للشريك أن يضمنه نصف قيمته
إن كان غنيا وإن شاء استسعى الابن وإن كان
فقيرا استسعى الابن لأن المكاتب في الدعوة
كالحر وكذلك في ضمان الإعتاق وهو بمنزلة الحر.
وقد بينا أن هذه الدعوة عند تكذيب الشريك
بمنزلة الإعتاق ولو كانت أمه معه ضمن المكاتب
نصف قيمتها غنيا كان أو فقيرا لأنه تعذر بيعها
بما ثبت للمكاتب من الملك فيها وصارت بمنزلة
أم الولد فيضمن لشريكه نصف قيمتها لأنه صار
متملكا على كل حال وإن كان الذي ملك مع
المكاتب ذا رحم محرم من الصبي ونسب الصبي من
المكاتب معروف عتق نصيب ذا الرحم المحرم
بالقرابة عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه أثبت
له حقيقة الملك وكان نصيب المكاتب موقوفا فإن
عتق عتق معه وإن عجز سعى لمولاه فيه وعند أبي
يوسف ومحمد يعتق الكل لأن عندهما العتق لا
يتجزى ء ولا ضمان لواحد منهما على صاحبه ولا
سعاية على الولد لأن فيه تحصيل مقصود المكاتب
فإنه إنما يسعى لتحصيل الحرية لنفسه ولولده
فلهذا لا يجب الضمان له ولا السعاية والله
أعلم .
باب دعوة الولد من الزنى والنكاح الصحيح
قال رحمه الله :رجل أقر أنه زنا بامرأة حرة وأن هذا الولد ابنه من الزنى وصدقته
المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما لقوله
صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ولا فراش للزاني وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حظ الزاني
الحجر فقط وقيل هو إشارة إلى الرجم وقيل هو
إشارة إلى الغيبة كما يقال للغيبة الحجر أي هو
غائب لا حظ له والمراد هنا أنه لا حظ للعاهر
من النسب وبقي النسب من الزاني حق الشرع إما
بطريق العقوبة ليكون له زجرا عن الزنى إذا علم
أن ماءه يضيع به أو لأن الزانية نائبها غير
واحد فربما يحصل فيه نسب
ج / 17 ص -137-
الولد إلى غير أبيه وذلك حرام شرعا ولا يرتفع
هذا المعنى بتصديق المرأة أو كان نفي النسب عن
الزاني لحق الولد فإنه يلحقه العار بالنسبة
إلى الزاني وفيه إشاعة الفاحشة وهذا المعنى
قائم بعد تصديق المرأة وإذا لم يثبت منه النسب
لم يثبت منهما أيضا لأن مجرد قولها ليس بحجة
في إثبات نسب الولد منهما فإن شهدت القابلة
ثبت بذلك نسب الولد من المرأة دون الرجل لأن
ثبوت النسب منها الولادة وذلك يظهر بشهادة
القابلة ولا صنع لها في الولادة ليستوجب
العقوبة بقطع النسب عنها ولأن المعنى في جانب
الرجل الاشتباه وذلك لا يتحقق في جانبها فإن
انفصال الولد عنها معاين فلهذا ثبت النسب
منها.
قال:
وإن أقر الرجل أنه زنا بامرأة حرة أو أمة
فولدت هذا الولد وادعت المرأة نكاحا فاسدا أو
جائزا لم يثبت النسب منه وإن ملكه لأن ما ادعت
من الفراش لم يثبت بقولها عند جحوده فبقي في
حقه ما أقر به من الزنى وهو غير مثبت للنسب
سواء ملكه أو لم يملكه إلا أنه إذا ملكه يعتق
عليه لأنه جزء منه وإن كان غير منسوب إليه
فكما لا يثبت الرق للمرء على نفسه لا يثبت على
جزئه وإنما أورد هذا الفصل لإزالة الإشكال فإن
بدعوها النكاح خرج الفعل من أن يكون زنا محضا
لا يجب الحد على واحد منهما ويجب العقر لها
عليه ولكنه غير مثبت النسب لأن سببه الفراش
وذلك غير ثابت في حق الرجل فكذلك إن أقامت
شاهدا واحدا بما ادعت لأن الفراش لم يثبت
بالشاهد الواحد فإنه ليس بحجة تامة وعليها
العدة لإقرارها على نفسها بالتزام العدة
ولأنها أخذت المهر من الرجل حين سقط الحد عنه
وإن ادعى الرجل النكاح وأقرت المرأة بالزنى
فعليه العقر لسقوط الحد عنه بما ادعى من
الشبهة ولم يثبت فراشه عليها عند جحودها فلا
يثبت نسب ولدها منه في الحال وإن ملك يوما ثبت
نسبه منه وإن ملك أمه كانت أم ولد له ولا ينظر
إلى جحودها وجحود سيدها لأن إقراره حجة في حقه
وإنما امتنع العمل به لكون المحل مملوكا لغيره
وإذا صار مملوكا له كان كالمجدد لذلك فيثبت
نسب الولد ويثبت أمية الولد للأم وكذلك لو
أقام شاهدا واحدا أو شاهدين ولم يعدلا لأن ما
أقام ليس بحجة تامة وعلى المرأة العدة لأنها
قد استوجبت المهر ولأن العدة مثبتة للاحتياط .
قال:وإذا
ولدت امرأة الرجل على فراشه فقال الزوج زنا بك
فلان وهذا الولد منه وصدقته المرأة وأقر فلان
بذلك فإن نسب الولد ثابت من الزوج لأنه صاحب
الفراش وثبوت النسب باعتبار الفراش وبعد ما
ثبت بفراش النكاح لا ينقطع إلا باللعان ولا
لعان بينهما لإقرارها على نفسها بالزنى وكذلك
لو كان النكاح فاسدا لأن الفاسد ملحق بالصحيح
في حكم النسب.
قال:ولو
تزوج امرأة لا تحل له فأغلق عليها بابا أو
أرخى حجابا ثم فرق بينهما لم يكن عليه مهر لأن
الخلوة في العقد الصحيح إنما كان مقرى للمهر
باعتبار ما فيه من التمكن من الاستيفاء وذلك
لا يوجد في النكاح الفاسد فإنه غير متمكن من
الاستيفاء شرعا فلهذا
ج / 17 ص -138-
سقط اعتبار الخلوة فإن جاءت بولد لستة أشهر
منذ تزوجها ثبت النسب منه وفي بعض النسخ قال
منذ أغلق عليها الباب وهذا لأن الفاسد من
النكاح معتبر بالجائز في حكم النسب لأن الشرع
لا يرد بالفاسد ليتعرف حكمه من نفسه فلا بد من
اعتباره بالجائز وفي النكاح الجائز إذا جاءت
بالولد لستة أشهر منذ تزوجها ثبت النسب منه
فكذلك في الفاسد وإذا ثبت النسب منه فقد حكمنا
بأنه دخل بها وكان عليه المهر واعتباره بستة
أشهر منذ أغلق الباب لإشكال فيه لأن التمكن من
الوطء حقيقة يحصل به وإن انعدم التمكن حكما
واعتباره بستة أشهر منذ تزوجها صحيح أيضا
لاعتبار الفاسد بالجائز ومن أصلنا في النكاح
الجائز أن النسب ثبت بمجرد الفراش الثابت
النكاح ولا يشترط معه التمكن من الوطء .
وعلى قول الشافعي بمجرد النكاح بدون التمكن من
الوطء لا يثبت النسب فكذلك في الفاسد حتى
قالوا فيمن تزوج امرأة وبينهما مسيرة سنة
فجاءت بولد لستة أشهر عندنا يثبت النسب وعنده
لا يثبت ما لم يكن لأكثر من ستة أشهر حتى
يتحقق التمكن من الوطء بعد العقد وحجته في ذلك
أنا نتيقن بأنه غير مخلوق من مائه فلا يثبت
النسب منه كما لو كان الزوج صبيا وهذا لأن سبب
ثبوت النسب حقيقة كونه مخلوقا من مائه وذلك
خفي لا طريق إلى معرفته وكذلك حقيقة الوطء
تكون شراء على غير الواطئين وفي تعليق الحكم
به خرج ولكن التمكن منه سبب ظاهر توقف عليه
فوجب اعتباره لأن ما سقط إنما كان لأجل
الضرورة فتقدر بقدر الضرورة ولأنها جاءت به
على فراشه في حال يصلح أن يكون منسوبا إليه
فيثبت النسب منه كما لو تمكن من وطئها وتصادقا
أنه لم يطأها وهذا لأن النكاح ما شرع إلا
للاستفراش ومقصود النسل فيثبت الفراش بنفسه
ولكن في حق من يصلح أن يكون والدا والصغير لا
يصلح أن يكون والدا فلم يعمل في النسب لانعدام
المحل له فأما الغائب يصلح أن يكون والدا
كالحاضر فيثبت له الفراش المثبت للنسب بنفس
النكاح وكما أن حقيقة العلوق من مائه لا يتوقف
عليها فكذلك التمكن من الوطء حقيقة لا يمكن
الوقوف عليه لاختلاف طبائع الناس فيه وفي
الأوقات فيجب تعليق الحكم بالنسب الظاهر وهو
النكاح الذي لا يعقد شرعا إلا لهذا المقصود
ومتى قام النسب الظاهر مقام المعنى الخفي سقط
اعتبار المعنى الخفي ودار الحكم مع النسب
الظاهر وجودا وعدما وهو أصل كبير في المسائل
كما أقيم السفر المريد مقام حقيقة المشقة في
إثبات الرخصة بسبب السفر وأقيم تجدد الملك في
الأمة مقام اشتغال رحمها بماء الغير في تجدد
وجوب الاستبراء ولأن الوطء والتمكن إنما كان
معتبرا لمعنى الماء وقد سقط اعتبار حقيقة
الماء لإثبات النسب فيسقط ما كان معبرا لأجله
أيضا
قال:
وإذا قال الرجل لصبي في يدي امرأة هو ابني من
زنا وقالت المرأة من نكاح ثم قال الرجل بعد
ذلك هو من نكاح ثبت نسبه منه لأن كلامه الأول
نفي للنسب عن نفسه وكلامه الثاني دعوة للنسب
بعد النفي صحيح لأنه غير محتمل للانتفاء بعد
ثبوته
ج / 17 ص -139-
فيبقى بعد النفي على ما كان عليه من قبل ولأن
المرأة قد أقرت له بالنكاح وصدقها في ذلك
فيثبت النكاح بينهما وبثبوته يثبت نسب ولدهما
منه وكذلك لو قال الرجل هو ابني منك من نكاح
وقالت هو ابنك من الزنى لم يثبت نسبه لإنكارها
ما ادعاه من الفراش فإن قالت بعد ذلك هو ابني
من نكاح ثبت نسبه لأنها أقرت له بالنكاح بعد
ما أنكرت والإقرار بعد الإنكار صحيح فإذا ثبت
النكاح بينهما ثبت نسب الولد منهما.
قال:
امرأة رجل ولدت وهما حران مسلمان فادعى الزوج
أنه ابنه وكذبته المرأة أو ادعت وكذبها الزوج
وقد جاءت به لستة أشهر منذ تزوجها فهو ابنه
منها لظهور النسب فيما بينهما وهو الفراش
وكذلك لو قال الزوج هذا الولد من زوج كان لك
قبلي وقالت المرأة بل هو منك فهو منه لأن
السبب بينهما ظاهر وما ادعاه الرجل غير معلوم
وإنما يحال بالحكم إلى السبب الظاهر دون ما لا
يعرف ولو قال الزوج من زنا فإن صدقته المرأة
بذلك فهو ابنه لأن السبب ثبت منه بفراش النكاح
فلا يقطع إلا باللعان ولا لعان بينهما إذا
صدقته فيما ادعى من الزنى وإن أنكرت ذلك وجب
اللعان فيما بينهما ويقطع النسب عنه باللعان .
قال:
وإذا نفى الرجل ولد امرأته بعد ما مات أو كان
حيا قبل اللعان فهو ابنه لا يستطيع أن ينفيه
لأن النسب ثبت منه بالفراش وتقرر ذلك بموت
الولد فلا يتصور بعد تقرره وهذا لأن الميت لا
يكون محلا لإثبات نسبه بالدعوة ابتداء فكذلك
لا يكون محلا لقطع نسبه الذي كان ثابتا
باللعان فإن كل واحد من الحكمين يستدعي المحل
فكذلك لو قبل الولد لأنا حكمنا للأب بالميراث
عنه أما بدل نفسه أو مال إن كان له والنسب بعد
ما صار محكوما به لا يحتمل القطع وإذا كان
للمرأة ولد وليس في يدي زوجها فقالت تزوجتك
بعد ما ولدت هذا من زوج قبلك وقال الزوج بل
ولدتيه مني في ملكي فهو بن الزوج لما بينا أن
النسب بينهما ظاهر وهو الفراش وما ادعت غير
معروف فيحال بالولد على السبب الظاهر فلو كان
الصبي في يدي الرجل دون المرأة فقال ابني من
غيرك وقالت هو ابنك مني فالقول قول الزوج ولا
تصدق المرأة بخلاف ما سبق.
والفرق من وجهين أحدهما أن قيام الفراش بينه
وبينها لا يمنع فراشا آخر له على غيرها إما
بنكاح أو بملك يمين فإذا كان الولد في يده كان
نسبه إليه من أي فراش حصل له وأما ثبوت الفراش
له عليها ينافي فراش آخر عليها لغيره وكان هذا
الفراش في حقها متعينا وباعتباره يثبت النسب
منه من هذا الزوج ولأن المرأة في يد الرجل
والولد الذي في يدها من وجه كأنه في يده فأما
الزوج ليس في يد امرأته فما في يده لا يكون في
يدها فلهذا لا يقبل قولها وإذا نفي الرجل ولد
امرأته وفرغا من اللعان عند القاضي فقيل أن
يفرق بينهما ويقطع النسب من الأب فإذا مات
أحدهما فالولد ثابت النسب من الزوج لأن نفس
اللعان لا يقطع النسب ما لم يقطعه القاضي إذ
ليس من ضرورة اللعان قطع النسب فإذا مات
أحدهما إذن
ج / 17 ص -140-
اعترض قبل قطع النسب ما لو كان موجودا في
الابتداء منع اللعان بينهما فكذلك يمنع قطع
النسب به.
وكما يتقرر حكم النسب بموت الولد فكذلك بموت
الأب لاستحقاق الولد الميراث منه ولو كانت
ولدت ولدين توأم فعلم أحدهما فنفاه ولاعن
وألزمه القاضي أمه يفرق بينهما ثم علم بالآخر
فهما ابناه لأن نسبهما ثبت منه باعتبار الفراش
وإنما جرى اللعان بينهما في الولد الذي نفاه
فبقي نسب الآخر ثابتا كما كان وقد فرق القاضي
بينهما فلا يمكنه أن ينفي نسب الآخر باللعان
بعد الفرقة ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت
نسب الآخر لأنهما توأم يقرره وأنه لا بد من
جعل أحدهما أصلا وإلحاق الآخر به والذي انقطع
نسبه منه باللعان محتمل للثبوت منه بالإكذاب
والذي نفي ثابت النسب منه بعد الفرقة تسمية لا
تحتمل النفي عنه فجعل هذا أصلا أولى ولأن
النسب يثبت في موضع الشبهة فلا ينتفي بمجرد
الشبهة فترجح الجانب الذي فيه شبهة أولى.
فإن علم بالثاني قبل أن يفرق بينهما فنفاه
أعاد اللعان وألزم الولدين الأم لأن النكاح
بينهما قائم عند نفي الولد الثاني فيجري
اللعان بينهما لقطع نسبه كالولد الأول وإن
أكذب الملاعن نفسه بالدعوة بعد ما فرق القاضي
بينهما ثبت النسب منه لأنه نفي موقوفا على حقه
حتى لو ادعاه غيره لم يثبت منه فإذا أقر به
بعد الإنكار صح إقراره وعليه الحد لأنه أقر
بأنه قذفها وهي محصنة فعليه حد القذف عند
خصومتها وهذا إذا كان الابن حيا سواء كانت
الأم حية أو ميتة فإن كان الولد قد مات وترك
ميراثا ثم أعاده الأب لم يصدق لأن الأب مدع
للمال لا مقر بالنسب فإن الولد بالموت قد
استغنى عن الشرف بالنسب وبمجرد الدعوى لا
يستحق المال إذا لم يكن مناقضا في الدعوى فإذا
كان مناقضا أولى إلا أن يكون ترك بن الملاعنة
ولدا أو أنثى فحينئذ صدق الأب لأنه الآن مقر
بالنسب فإن ولد الابن ينسب إليه كولد الملاعنة
نفسه فإذا صح الإقرار ضر بالجد وأخذ الميراث.
والحاصل أن النسب أصل عند إكذابه نفسه فإذا
أمكن القضاء به إن كان المنفي نسبه حيا أو
ميتا عن خلف يقضي بالنسب ثم يترتب عليه حكم
الميراث وإذا كان ميت إلا عن خلف لا يمكن
القضاء بالنسب فلو قضي بالمال كان قضاء بمجرد
الدعوى والمال لا يستحق بمجرد الدعوى ولو كانت
المنفية بنتا فماتت عن بن وأكذب الملاعن نفسه
ولم يصدق به لم يرث في قول أبي حنيفة رحمه
الله وفي قولهما يصدق ويضرب الحد ويرث.
وجه قولهما أنها ماتت عمن يخلفها فإن الولد
كما ينسب إلى أبيه ينسب إلى أمه وكما يتشرف
بشرف الأب يتشرف بشرف الأم ويصير كريم الطرفين
وأب الأم يسمى أبا مجازا كأب الأب فكما في
الفصل الأول جعل بقاء الولد كبقائه فكذلك هنا
وأبو حنيفة رحمه الله يقول كلامه الآن في دعوى
المال لا إقرار بالنسب لأن نسب الولد إلى قوم
أبيه دون قوم أمه ألا
ج / 17 ص -141-
ترى أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان قرشيا لا قبطيا وأن أولاد الخلفاء من
الإماء يصلحون للخلافة وفيه يقول القائل:
فإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللأنساب آباء
فإذا لم يكن هذا الولد منتسبا إلى الملاعن
صار وجوده كعدمه فلا يعمل إكذابه نفسه بخلاف
بن الابن على ما بينا فلو أراد بن الملاعن أن
يتزوج المنفية نسبها لم يكن له ذلك ولو فصل
فرق بينهما لأنها قبل اللعان كانت أختا له ولم
ينتف ذلك بمجرد اللعان من كل وجه حتى لو أكذب
الملاعن نفسه ثبت النسب منه وكانت أختا له
وشبهة الأختية كحقيقتها في المنع من النكاح
وكذلك الملاعن نفسه لو قال لم أدخل بالأم
وتزوج البنت فرق بينهما لأنها كانت ابنة له
وبعد اللعان قطع النسب عنه فبقي موقوفا على
حقه لو أعادها صحت دعوته وشبهة البينة
كحقيقتها في المنع من النكاح وللشافعي رحمه
الله في هذا الفصل قولان أحدهما أن له أن
يتزوجها بمنزله ابنته من الزنى على مذهبه وهي
معروفة في النكاح والآخر كمذهبنا لأن النسب
هنا موقوف على حقه لو ادعاه يثبت منه بخلاف
المخلوق من مائه بالزنى.
قال:
وإذا طلق الرجل امرأته فجاءت بولدين فهذه
المسألة على أوجه إما أن يكون الطلاق رجعا أو
بائنا وكل وجه على ثلاثة أوجه إما أن يأتي
بالولدين لأقل من سنتين أو يأتي بهما لأكثر من
سنتين أو يأتي بأحدهما لأقل من سنتين بيوم ولم
يقر بانقضاء العدة فبقي أحدهما حين ولدته ثم
ولدت الثاني وهما ابناه ولا حد عليه ولا لعان
لأنه حين نفي المولود منهما كان النكاح بينهما
قائما فوجب اللعان بينهما فحين وضعت الولد
الآخر فقد انقضت عدتها بوضع جميع ما في بطنها
ولا يتأتى جريان اللعان فيما بينهما بعد ما
صارت أجنبية والقذف الموجب للعان لا يكون
موجبا للحد فلهذا ثبت نسب الولدين منه وإن
جاءت بينهما لأكثر من سنتين فنفاهما يجري
اللعان بينهما ويقطع نسب الولدين عنده لأنا
تيقنا أن علوق الولدين من علوق حادث بعد
الطلاق فصار مراجعا لها ولا تنقضي العدة بوضع
الولدين فإذا نفي وهي منكوحته جرى اللعان
بينهما .
فإن قيل: لما حكمنا بالرجعة فقد حكمنا بثبوت نسب الولدين منه فكيف يمكن قطع
النسب باللعان بعد ذلك قلنا ليس من ضرورة
الحكم بالرجعة الحكم بكون الولد منه فالرجعة
تثبت بمجرد العين عن شهوة بدون الوطء والإعلاق
وإن كان نفي الولد منهما ثم أقر بالثاني فهما
ابناه وعليه الحد لأنهما توأم فأقراره بأحدهما
كإقراره بهما وهذا منه إكذاب لنفسه بعد التفرق
فعليه الحد وإن جاءت بأحد الولدين لأقل من
سنتين وبالآخر لأكثر من سنتين فعلى قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هذا والفصل الأول
سواء وعلى قول محمد رحمه الله هذا والفصل
الثاني سواء.
وجه قوله أنا تيقنا بأن الولد الثاني من علوق
حادث بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في
ج / 17 ص -142-
البطن أكثر من سنتين وشككنا في الولد الأول
فيحتمل أن يكون العلوق به بعد الطلاق أيضا
ويحتمل أن يكون العلوق به قبل الطلاق فاتبع
الشك لا التيقن فإن المتيقن به يجعل أصلا ويرد
المشكوك إليه وهما قالا لما ولدت الأول لأقل
من سنتين فقد حكمنا بأنه من علوق قبل الطلاق
ألا ترى أنها لو لم تلد غيره كان محكوما بأن
العلوق به كان قبل الطلاق فلا يتغير ذلك الحكم
بتأخير الولادة الثانية ولكن يجعل السابق
منهما أصلا ويجعل كأنها وضعتهما قبل السنتين
لأن الولد إنما لا يبقى في البطن أكثر من
سنتين إذا لم يكن هناك من يزاحمه في الخروج
فأما عند وجود المزاحم قد يتأخر خروجه عن
أوانه فلا يكون ذلك دليلا على أن العلوق به
كان بعد الطلاق فلهذا جعلنا السابق أصلا وإذا
كان الطلاق بائنا أو ثلاثا فإن جاءت بهما لأقل
من سنتين فعليه الحد بالنفي فهما ابناه لأنه
حين قذفها فلا نكاح بينهما فيلزمه الحد وقد
جاءت بالولدين لمدة يتوهم أن يكون العلوق بهما
سابقا على الطلاق فيثبت نسبهما منه وإن جاءت
بهما لأكثر من سنتين لم يثبت نسبهما منه
لأنهما من علوق حادث بعد الفرقة وإن نفاهما
فلا حد عليه ولا لعان لأنه صادق في مقالته وإن
جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم وبالآخر
لأكثر من سنتين بيوم فعند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله هذا والفصل الأول سواء وعند محمد
رحمه الله هذا والفصل الثاني سواء على ما بينا
.
قال: وإذا طلقها واحدة بائنة بعد ما دخل بها
ثم تزوجها فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فنفاه
لاعنها لقيام النكاح بينهما في الحال ويلزم
الولد أباه لأنا تيقنا أن العلوق به سبق
النكاح الثاني فكان حاصلا في النكاح الأول
وبالفرقة بعده تقرر النسب على وجه لا ينتفي
بحال وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ
تزوجها النكاح الثاني لاعن ولزم الولد أمه لأن
الحل قائم فيستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهو
ما بعد النكاح الثاني فإذا نفاه يقطع النسب
عنه باللعان والله أعلم
باب الولادة والشهادة عليها
قال رحمه الله: أمة ولدت فادعت أن مولاها قد أقر به فجحد المولى فشهد عليه شاهد
أنه أقر بذلك وشهد آخر أنه ولد على فراشه لم
تقبل شهادتهما لاختلافهما في المشهود به فإن
أحدهما يشهد بالقول وهو الإقرار وشهد الآخر
بالفعل وهو الولادة على الفراش وليس على واحد
من الأمرين شهادة شاهدين فإن اتفق رجلان على
الشهادة على الإقرار وعلى الولادة على فراشه
فهو جائز لأنهما إن شهدا على الإقرار فثبوت
الإقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة وإن شهدا
على الولادة فقد شهدا بالسبب المثبت للنسب
منه.
قال:
ولو كان المولى ذميا والأمة مسلمة فشهد ذميان
عليه بذلك جاز لأن هذه الشهادة تقوم على
المولى وشهادة أهل الذمة على أهل الذمة حجة
فإن كان المولى هو المدعي والأمة جاحدة لم تجز
شهادة الذميين عليها لكونها مسلمة وتأويل هذه
المسألة أنها تجحد المملوكية للمولى فإنها إذا
كانت تقر بذلك ينفرد المولى بدعوة نسب ولدها
ولا عبرة
ج / 17 ص -143-
بتكذيبها ولو كانا مسلمين فشهد على الدعوة أب
المولى وجده لم تجز الشهادة لأنهما يشهدان
بالسبب للولد وهو بن ابنيهما وشهادة المرء
لابن ابنه لا تقبل وإن شهد بذلك بن المولى
جازت الشهادة إذا كان المولى جاحدا لذلك
لأنهما يشهدان لأخيهما على أبيهما وشهادة
المرء لأخيه على أبيه مقبولة إنما لا تقبل
شهادته لأبيه.
وإذا طلقت امرأة من زوجها فاعتدت ثم تزوجت
وولدت من الزوج الآخر ثم جاء الولد حيا فعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله الولد للزوج الأول
سواء جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها أو
لأكثر من ذلك لأنه صاحب الفراش الصحيح فإن
نفيه لا يفسد فراشه والزوج الثاني صاحب الفراش
الفاسد ولا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجه بل
الفاسد مدفوع بالصحيح والمرأة مردودة على
الزوج الأول والولد ثابت النسب منه كمن زوج
أمته فجاءت بولد ثبت النسب من الزوج دون
المولى وإن ادعاه المولى لأن ملك اليمين لا
يعارض النكاح في الفراش بل الفراش الصحيح
لصاحب النكاح بل أولى فإن هناك ملك اليمين عند
الانفراد غير مثبت للحل والنكاح الفاسد عند
الانفراد غير مثبت للحل فإن نفي الأول والآخر
الولد أو نفاه أحدهما أو ادعيا أو ادعاه
أحدهما فهو للأول على كل حال ولا حد عليه ولا
لعان لأنها غير محصنة حين دخل الزوج الثاني
بنكاح فاسد فلا يجري اللعان بينها وبين الأول
والنسب إذا ثبت بالنكاح لا ينتفى إلا باللعان
.
وكان بن أبي ليلى يقول الولد للثاني لأن
الفراش الفاسد يثبت النسب كالفراش الصحيح أو
أقوى حتى يثبت النسب به على وجه لا ينتفي
بالنفي ثم الثاني إليها أقرب يدا والولد مخلوق
من مائه حقيقة فيترجح جانبه بالقرب واعتبار
للحقيقة وذكر أبو عصمة عن إسماعيل بن حماد عن
عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة رحمهم الله
أن النسب يثبت من الزوج الثاني كما هو قول بن
أبي ليلى وفيه حديث الشعبي ذكره في الكتاب أن
رجلا من جعفي زوج ابنته من عبيد الله بن الحر
ثم مات ولحق عبيد الله بمعاوية رضي الله عنه
فزوج الجارية أخوتها فجاء بن الحر فخاصم زوجها
إلى علي رضي الله عنه فقال علي رضي الله عنه
أما أنك الممالي علينا عدوانا فقال أيمنعني
ذلك من عدلك فقال لا فقضى بالمرأة له وقضي
بالولد للزوج الآخر إلا أن أبا حنيفة رحمه
الله قال الحديث غير مشهور فلا يترك به القياس
الظاهر ولو ثبت وجب القول به.
وكان أبو يوسف رحمه الله
يقول: إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني فهو من الزوج
الأول وإن جاءت به لستة أشهر منذ تزوجها
الثاني فهو من الزوج الأول وإن جاءت به لستة
أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني سواء ادعياه أو
نفياه لأن النكاح الفاسد يلحق بالصحيح في حكم
النسب فباعتراض الثاني على الأول ينقطع الأول
في حكم النسب ويكون الحكم للثاني والتقدير فيه
بأدنى مدة الحبل اعتبارا للفاسد بالصحيح وإنما
قلنا أن الأول ينقطع بالثاني لأن بدخول الثاني
بها يحرم على الأول ويلزمها العدة من الثاني
ج / 17 ص -144-
ووجوب العدة ليس إلا لصيانة الماء في الرحم
فلو لم يكن النسب بحيث يثبت من الثاني لم يكن
لوجوب العدة عليها من الثاني معنى وعلى قول
محمد رحمه الله إن جاءت به لأكثر من سنتين منذ
دخل بها للثاني فهو الثاني وإن جاءت به لأقل
من سنتين منذ دخل بها الثاني فهو للأول لأن
وجوب العدة عليها من الثاني بالدخول لا
بالنكاح والحرمة إنما ثبت على الأول بوجوب
العدة من الثاني فكانت حرمتها عليه بهذا السبب
كحرمتها بالطلاق والتقدير بأدنى مدة الحبل عند
قيام الحل ولا حل بينهما فالعبرة للمكان فإذا
جاءت به لأقل من سنتين منذ دخل بها الثاني
يتوهم أن يكون هذا من علوق كان قبل دخول
الثاني بها في حال حلها للأول فكان النسب
ثابتا منه وإن جاءت به لأكثر من سنتين فقد
انقطع هذا التوهم فكان النسب من الثاني وكذلك
لو سبيت المرأة فتزوجت رجلا من أهل الحرب
فولدت فهو على هذا الخلاف وكذلك لو ادعت
الطلاق واعتدت وتزوجت والزوج الأول جاحد لذلك
فهذا كله في المعنى سواء.
قال:
أمة ولدت لرجل فلم ينفه حتى لو مات فهو لازم
له لا يستطيع أن ينفيه وتأويل هذه المسألة في
أم الولد لأن نسب ولدها ثابت بالفراش فيتقرر
ذلك بالموت قبل النفي فأما الأمة القنة لا
يثبت نسب ولدها إلا بالدعوة فإذا مات قبل
الدعوة لا يثبت النسب إلا أن يكون هنى ء
بالولادة فقبل التهنئة يكون ذلك بمنزلة الدعوة
منه وكذلك إن جنى جناية فقضى به القاضي على
عاقلته لم يستطع نفيه بعد ذلك وكذلك لو جني
عليه فحكم فيه بقصاص أو أرش فهذا كله يتضمن
الحكم بثبوت نسبه من المولى وبعد ما صار النسب
محكوما به لا يستطيع أن ينفيه لأن قوله ليس
بحجة في إبطال الحكم .
قال:
وإذا زوج أم ولده فمات عنها زوجها أو طلقها
وانقضت عدتها ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ
انقضت عدتها فهو بن المولى لأن بانقضاء عدتها
حل للسيد غشيانها فعادت فراشا له كما كانت قبل
النكاح فإن بانقضاء العدة قد ارتفع النكاح
بحقوقه وهو المانع من ظهور حكم فراشه فإذا
عادت فراشا للمولى ثم جاءت بالولد في مدة
يتوهم أن يكون من علوق بعد الفراش ثبت نسبه
وله أن ينفيه لما قلنا إلا أن يتطاول ذلك أو
يجري فيه حكم وتفسير هذا التطاول مذكور في
كتاب الطلاق أو ما فيه من الخلاف بين أبي
حنيفة وصاحبيه رحمهم الله من التقدير بسبعة
أيام عنده وبمدة النفاس عندهما .
قال:ولو
حرم أم ولده على نفسه بأن حلف أن لا يقربها
فجاءت بولد لزمه ما لم ينفه لأن فراشها لم
يبطل بتحريمها على نفسه كما لا يبطل به فراش
النكاح وهو مندوب شرعا إلى أن يحنث نفسه
ويغشاها وفيه نزل قوله تعالى:
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فلهذا كان النسب ثابتا منه ما لم ينفه قال ولو كانت أم
ولد المسلم مجوسية أو مرتدة لم يلزمه ولدها
إلا أن يدعيه أو جاءت به لأقل من ستة أشهر بعد
الردة وقال زفر رحمه الله يثبت نسب الولد منه
ما لم ينفه لأن سبب الفراش قيام الملك وهو باق
بعد الردة وإن حرم
ج / 17 ص -145-
عليه غشيانها بالردة وثبوت النسب لا يعتمد حل
الغشيان كما في المنكوحة نكاحا فاسدا وهذا
بخلاف ما زوجها لأن فراشها قد انقطع باعتراض
فراش الزوج.
ألا ترى أنه لو ادعاه لم يثبت النسب منه
بخلاف ما نحن فيه ولنا أن تحسين الظن بالمولى
واجب وفي إثبات النسب منه حكم بإقدامه على وطء
حرام وذلك لا يجوز بدون الحجة فإن ادعاه فقد
صار مقرى بذلك فيثبت النسب منه حينئذ وإلا فلا
وكذلك إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ ارتدت
لأنا تيقنا أن العلوق سابق على ردتها فلا يكون
فيه حمل أمر المولى على الفساد.
قال:وإذا
أقر بصبي في يده أنه ابنه من أمته هذه ولد على
فراشه ثم مات الرجل فادعى أولاده أن أباهم قد
كان زوج هذه الأمة عنده قبل أن تلد بثلاث سنين
وأنها ولدت هذا الغلام على فراش العبد والعبد
والغلام والأمة ينكرون ذلك لم تقبل بينتهم على
ذلك والغلام بن الميت لأن نسبه ثبت من المولى
بإقرار المولى به وهذه البينة من الورثة تقوم
على النفي فلا تكون مقبولة وبيان ذلك أنهم لا
يثبتون بهذه الشهادة لأنفسهم حقا إنما يثبتون
النسب للعبد وهو جاحد مكذب للشهود وقصد الورثة
من هذا نفي النسب عن الميت حتى لا يزاحمهم في
ميراثهم والشهادة على النفي لا تقبل ثم الورثة
خلفاء الميت وهو لو أقام هذه البينة بنفسه لم
يقبل منه فكذلك ممن يخلفه .
قال:
ولو ادعى العبد ذلك وأقام البينة ثبت نسبه منه
لأنه يثبت حق نفسه بهذه البينة من الفراش
عليها ونسب ولدها فوجب قبول بينته للإثبات ثم
من ضرورته انتفاء النسب عن المولى لأن الثابت
بالبينة كالثابت بالمعاينة ويعتق بإقرار
المولى لإقراره بحريته حين ادعى نسبه فإن كان
الإقرار منه في المرض فالمعتق من الثلث في حق
الغلام والأمة جميعا لأن نسب الولد لما لم
يثبت لم يكن لها شاهد على ما أقر به المولى من
حق الحرية لها فكان معتبرا من الثلث كما يعتبر
عتق الغلام من الثلث وجعل ذلك كإنشاء العتق
منه فيهما ولو كان العبد غائبا توقف حكم هذه
البينة حتى يحضر العبد فيدعي وينكر لأن حكم
البينة يختلف بدعوى العبد وإنكاره فلا بد من
أن يجعل وقوفا على حضوره ولو ادعت الأم النكاح
أو ادعاه الغلام قبلت بينة التزويج لأنها تقوم
للإثبات فإن النسب من حق الغلام فإذا البينة
بالبينة من العبد كان مثبتا حق نفسه والأم
تثبت النكاح بينهما وبين العبد وذلك حقها.
قال:
رجل طلق امرأته تطليقة بائنة فأقرت بانقضاء
العدة ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا لم يثبت
نسبه منه لأن انقضاء العدة قد ظهر بخبرها
فإنها أمه شرعا فإذا جاءت بعدذلك لمدة يتوهم
أن يكون من علوق حادث لم يثبت نسبه منه إلا أن
يدعيه فإن ادعاه ثبت نسبه منه معناه إذا صدقته
المرأة فإن الحق لهما فيثبت بتصادقهما عليه
فأما إذا كذبته لم يثبت النسب منه وإن ادعاه
لأنه صار أجنبيا عنها وعن أولادها وإن جاءت به
لأقل من ستة أشهر منذ انقضاء العدة ثبت نسبه
منه لأنا تيقنا أن العلوق به كان قبل إقرارها
وأنها كانت
ج / 17 ص -146-
حبلى حين أقرت بانقضاء العدة فكان خبرها
مستنكرا مردودا وإن كانت تزوجت ثم جاءت بولد
لستة أشهر منذ تزوجها الآخر فهو للآخر لأن
تزويجها نفسها إقرار منها بانقضاء العدة وإن
جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني
لم يثبت نسبه من الثاني لأن العلوق سبق نكاحه
وإن كانت جاءت به لسنتين أو أكثر منذ طلقها
الأول لم يثبت النسب من الأول أيضا لأنه من
علوق حادث بعد الفرقة فلا يثبت النسب منه إلا
أن يدعيه وتصدقه المرأة في ذلك وإن جاءت به
لأقل من سنتين منذ طلقها الأول فهو ثابت النسب
من الأول ولا يبطل النكاح بينها وبين الثاني
وتأويل هذا فيما إذا لم يقر بانقضاء العدة أو
أقرت به ثم جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ
أقرت.
قال:
رجل طلق امرأته الصغيرة ومات عنها فجاءت بولد
فهذا على ثلاثة أوجه إما أن تدعي الحبل أو تقر
بانقضاء العدة أو كانت ساكتة فإن ادعت حبلا ثم
جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ مات الزوج أو
فارقها ثبت النسب من الزوج لأن دعواها الحبل
إقرار منها بالبلوغ فهي والكبيرة سواء وإن
أقرت بانقضاء العدة عند مضي ثلاثة أشهر من
الفرقة أو أربع أشهر وعشر منذ مات الزوج ثم
جاءت بالولد لستة أشهر فصاعدا منذ أقرت لم
يثبت النسب منه لأنها عند الإقرار إن كانت
بالغة فقد ظهر انقضاء العدة بإقرارها وإن كانت
صغيرة فقد تيقنا بانقضاء عدتها بثلاثة أشهر في
الفرقة وبأربعة أشهر وعشر في الموت فإنما ولدت
لمدة حبل تام بعد ذلك فلا يثبت النسب منه وإن
كانت ساكتة فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله إن جاءت به لستة أشهر فصاعدا منذ فارقها
ولعشرة أشهر وعشرة أيام فصاعدا منذ مات لم
يثبت النسب منه وعلى قول أبي يوسف رحمه الله
إذا جاءت به لأقل من سنتين كان النسب ثابتا
منه لأنها جاءت به لمدة يتوهم أن يكون من علوق
في حال قيام النكاح وهذا لأن المراهقة بلوغها
موهوم ولا يعرف ذلك إلا من جهتها فإذا لم يقر
بانقضاء العدة فهي والكبيرة سواء لأن انقضاء
عدتها بالشهور أن لا تكون حاملا وهذا الشرط لا
يعلم إلا من قبلها.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما
الله قالا: عرفناها صغيرة وما عرف ثبوته وجب التمسك به حتى يقوم الدليل على
زواله وعدة الصغيرة تنقضي في الفرقة بثلاثة
أشهر بالنص وفي الموت بأربعة أشهر وعشر فإذا
جاءت بالولد لمدة حبل تام بعد ظهور انقضاء
عدتها لم يثبت النسب منه كما لو أقرت بانقضاء
العدة فأما المرأة الكبيرة إذا مات عنها زوجها
فإن ادعت حبلا ثبت نسب الولد منه إذا جاءت به
لأقل من سنتين وإن أقرت بانقضاء العدة بعد
أربعة أشهر وعشر لم يثبت نسب ولدها منه بعد
ذلك إذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا منذ أقرت
وإن كانت ساكتة ثبت نسب ولدها منه إذا جاءت به
لأقل من سنتين عندنا وقال زفر رحمه الله لا
يثبت النسب منه إذا جاءت به لعشرة أشهر وعشرة
أيام فصاعدا منذ مات الزوج لأن يمضي أربعة
أشهر وعشر حكمنا بانقضاء عدتها بالنص إذا لم
يكن بها حبل ظاهر فإذا جاءت بالولد لمدة حبل
تام بعد ذلك لم يثبت النسب منه في الصغيرة
ولكنا نقول انقضاء عدتها بالشهور
ج / 17 ص -147-
متعلق بشرط وهو أن لا تكون حاملا فإن قوله عز
وجل {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق:4] ناسخة لقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ}
[البقرة:228] على ما قال بن مسعود رضي الله
عنه من شاء بأهلته أن سورة النساء القصرى نزلت
بعد سورة النساء الطولى وهذا الشرط لا يعرف
إلا من قبلها فما لم يقر بانقضاء عدتها لا
تجعل منقضية العدة بمضي أربعة أشهر وعشر بخلاف
الصغيرة فإن الصغر ينافي الحبل فانقضاء عدتها
بمضي المدة مطلقا يجب الحكم به ما لم يدع حبلا
فلهذا فرقنا بين الفصلين ثم عند أبي حنيفة
رحمه الله إنما يثبت النسب ولد الكبيرة من
الزوج الميت إذا شهد بالولادة رجلان أو رجل
وامرأتان فأما بمجرد شهادة القابلة لا يثبت
لأنه ليس هنا حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا
إقرار من الزوج بالحبل وعندهما يثبت النسب
بشهادة القابلة وهي معروفة.
وإن أقرت بانقضاء العدة بعد موت الرجل بيوم
بسقط قد استبان خلقه فالقول قولها لأنها أمنية
أخبرت بما هو محتمل فإن جاءت بولد بعد ذلك
لستة أشهر لم يثبت النسب منه لإقرارها بانقضاء
العدة ولو جاءت بولد مثبت فقلت الورثة ولدته
مساء وقالت هي كان فمات فشهدت على استهلاك
الولد القابلة يقبل في قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله في حكم الأرث الصلاة عليه وعند
أبي حنيفة رحمه الله في حكم الصلاة عليه كذلك
فأما في الميراث فلا تقبل إلا شهادة رجلين أو
رجل وامرأتين واستدل بقول علي رضي الله عنه
إذا استهل الصبي ورث فصلى وعليه فقد جمع بين
الحكمين ثم أحد الحكمين هنا يثبت بشهادة
القابلة لأن الرجال لا يطلعون على تلك الحالة
فكذلك الحكم الآخر وأبو حنيفة يقول لأن
الاستهلال صوت تسمعه الرجال فلا يكون شهادة
النساء فيه حجة تامة وإن اتفق وقوعه في موضع
لا يحضره الرجال كجراحات النساء في الحجامات
إلا أن الصلاة عليه من أمور الدين وخبر الواحد
حجة في أمور الدين فأما الميراث من باب
الأحكام فتستدعي حجة كاملة وذلك شهادة رجلين
أو رجل وامرأتين.
قال:
رجل طلق امرأته تطليقة رجعية فجاءت بولد لستة
أشهر فصاعدا فأنكر الزوج أن تكون ولدت وقال
انقضت عدتك وشهدت امرأة على الولادة لم يلزمه
في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه ليس بينهما
فراش قائم فلا تكون شهادة القابلة حجة لإثبات
النسب عنده وعندهما يلزمه النسب بشهادة
القابلة ولو قال الزوج للمطلقة الرجعية أخبرك
أن عدتك قد انقضت وكذبته فله أن يتزوج أربعة
سواها وهي معروفة فإن جاءت بولد لأقل من سنتين
من وقت الطلاق ثبت النسب من الزوج وبطل نكاح
الأربع لأنه غير مقبول القول في حق الولد ولا
في حق المرأة والنسب من حقها فصار في حق النسب
كأن الإخبار منه لم يوجد.
وإذا ثبت النسب تبين أنها كانت حاملا حين أخبر
الزوج بانقضاء عدتها فصار ذلك الخبر مستنكرا
وتبين أنها كانت فراشا له فإنما تزوج الأربع
وفراشه على الأول قائم فلا يجوز الجمع بين خمس
نسوة في الفراش بحكم النكاح فلهذا بطل نكاح
الأربع
ج / 17 ص -148-
وإن جاءت به لأكثر من سنتين من يوم طلقها فإن
كانت لأقل من ستة أشهر منذ أقرت بانقضاء العدة
يلزمه النسب أيضا لأن إقراره لا يكون أقوى من
إقرارها ولو أقرت هي بانقضاء العدة ثم جاءت
بولد لأقل من ستة أشهر ثبت النسب وصار مراجعا
لها فكذلك هنا ومن ضرورة ضرورته مراجعته لها
بطلان نكاح الأربع فكذلك لو طلقها واحدة رجعية
ثم أبانها أو بغيرها فهو مثل ذلك إلا أن هذا
لا تكون رجعة بحال فإن قوله أخبرتني أن عدتها
قد انقضت إقرار بأن ذلك الواقع صار ثابتا ولكن
ليس بإنشاء للإبانة فإذا بطل ذلك الإقرار يجوز
أن يجعل مراجعا لها بخلاف ما إذا أنشأ الإبانة
فهذه مسألة خلاف أنه إذا جعل الواقع نصفه
الرجعة ثانيا أو ثلاثا عند أبي حنيفة رحمه
الله يصح ذلك كله منه وعند أبي يوسف رحمه الله
يملك أن يجعلها ثانيا ولا يملك أن يجعلها
ثلاثا وعند محمد رحمه الله لا يملك أن يجعلها
ثانيا ولا يملك أن يجعلها ثلاثا فمحمد رحمه
الله يقول الواقع من الطلاق قد خرج من ملكه
وملك الصفة تملك الأصل فإذا لم يبق أصلها في
ملكه لم يبق صفتها في ملكه أيضا وتصرفه فيما
هو ليس بمملوك باطل وأبو يوسف رحمه الله يقول
ذلك الواقع بغرض أن يصير ثانيا بانقضاء العدة
فكذلك ثانيا يجعله إياه ثابتا ولكن الواحد قط
لا يصير ثلاثا فكان جعله الواحدة ثلاثا تصرفا
في غير محله فلهذا كان لغوا وأبو حنيفة رحمه
الله يقول لا يملك جعل الواحدة ثلاثا حقيقة
ولكن يملك ضم البينتين إلى الواحدة بالإيقاع
لتصير ثلاثا كناية عن قوله أوقعت اثنتين على
سبيل المجاز لتصحيح مقصوده كما جعلنا لفظة
الخلع مجازا عن إيقاع الطلاق في الحال لتحصيل
مقصوده بحسب الإمكان.
قال:
غلام محتلم ادعى على رجل وامرأة أنهما أبواه
وأقام البينة على ذلك وادعى رجل آخر وامرأته
أن هذا الغلام ابنهما وأقام البينة فبينة
الغلام أولى بالقبول لأن النسب حقه فهو يثبت
ببينته ما هو حق له على من هو جاحد والأخوان
يثبتان بالبينة ما هو حق الغلام وبينة المرء
على حق نفسه أولى بالقبول من بينة الغير على
حقه ولأن الغلام في يد نفسه وبينة ذي اليد في
مثل هذا تترجح على بينة الخارج وكذلك لو كان
الغلام نصرانيا واللذان ادعي الغلام أنهما
أبواه نصرانيان إذا كان شهوده مسلمين لأن ما
أقام من الشهود حجة على الخصمين الآخرين وإن
كانا مسلمين فإن قيل: كان ينبغي أن تترجح بينة
الآخرين لما فيه من إثبات الإسلام على الغلام
قلنا اليد أقوى من الدين في حكم الاستحقاق.
ألا ترى أن اليد تثبت الاستحقاق ظاهرا ولا
يثبت ذلك بإسلام أحد المدعيين فلهذا رجحنا
جانب اليد ولو ادعى الغلام أنه بن فلان ولد
على فراشه من أمته فلانة وأقام البينة وقال
فلان هو عبدي ولد من أمتي هذه زوجتها من عبدي
فلان وأقام البينة على ذلك فهو بن العبد لأن
العبد والمولى يثبتان نسبه بفراش النكاح وهو
إنما أثبت النسب بفراش الملك وفراش النكاح
أقوى في إثبات النسب من فراش الملك
ج / 17 ص -149-
ألا ترى أن النسب متى ثبت به لم يثبت بمجرد
النفي وإذا ثبت بفراش الملك انتفى بمجرد النفي
والضعيف لا يظهر بمقابلة القوى والترجيح بما
ذكرنا يكون عند المساواة فعند عدم المساواة
جعلنا النسب من أقوى الفراشين وكذلك لو أقام
العبد البينة أنه ابنه من هذه الأمة وهي زوجته
وأقام المولى البينة أنه ابنه منها فالبينة
بينة العبد لما فيه من زيادة إثبات النكاح
ولكون فراش النكاح أقوى من فراش الملك في حكم
النسب إلا أنه يعتق بإقرار المولى بحريته
وتصير الجارية بمنزلة أم الولد.
قال: ولو كان العبد والمولى ميتين فأقام الغلام البينة أنه بن المولى
من أمته وهي ميتة وأقام ورثة المولى البينة
على أنه بن العبد من أمة المولى زوجها المولى
منه فإنه يثبت النسب من المولى لأنه ليس في
بينة الورثة هنا إثبات النكاح فقد انقطع ذلك
بموتهما وكذلك لا يثبتون النسب لأنفسهم إنما
يثبتون للعبد ومقصودهم بذلك نفي النسب عن
المولى والبينة على النفي لا تقبل وفي بينة
العبد إثبات النسب والحرية والميراث فكان هو
أولى.
قال:
ولو أن رجلا مات وترك مالا فأقام الغلام
المحتلم بينة أنه بن الميت من أمته فلانة
ولدته في ملكه وأقر بذلك وأقام رجل آخر البينة
أن الغلام عبده وأمه أمته زوجها من عبده فلان
فولدت هذا الغلام على فراشه والعبد حي يدعي
قضيت للعبد بالنسب وقضيت بالأمة إن كانت حية
للمدعي لأن في الأمة البينتين قامتا على مطلق
الملك فبينة الخارج أولى وفي حق النسب الخارج
والعبد بينتان يشبه بفراش النكاح وهو أنه إنما
يثبت نسب نفسه بفراش الملك وفراش النكاح أقوى
فلهذا كان العبد به أولى ولأن العبد يثبت
النكاح على الأمة لنفسه بالبينة فوجب قبول
بينته على ذلك وإذا ثبت النكاح كان الولد ثابت
النسب منه وإن كان العبد ميتا أثبت نسب الغلام
من الحر وهو الميت الذي أقام الغلام البينة
على أنه ابنه من أمته هذه لأن الخارج ليس يثبت
النسب لنفسه إنما يثبت للعبد والابن يثبت حق
نفسه ولأنه ليس في بينة الخارج هنا النكاح لأن
الزوج ميت والنكاح بموته مرتفع فبقي الترجيح
من حيث أن في أمية الغلام إثبات الحرية
والميراث فهو أولى بالقبول وكذلك حق الأمة
تترجح هذه البينة للمدعي إثبات الملك فقط وفي
هذه البينة إثبات الحرية لها بجهة أمية الولد
فكان أولى.
قال:
غلام وأمة في يدي رجل فأقام الحر البينة أن
هذه الأمة أمته ولدت هذا الولد منه على فراشه
وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا
الغلام على فراشه فبينة ذي اليد أولى بالقبول
لأن البينتين استويا في إثبات حقيقة الحرية
للولد وحق الحرية للأم وفي مثله تترجح بينة ذي
اليد لأن إثبات الولاء عليها دون الملك وقد
استوى البينتان في الإثبات عليها فيترجح جانب
ذي اليد وهذا إذا كان الغلام صغيرا أو كبيرا
مصدقا لذي اليد فإن كان كبيرا يدعي أنه بن
الآخر فإني أقضي بالغلام والأمة للمدعي لأنه
في يد نفسه فإذا صدق المدعي
ج / 17 ص -150-
كان هو كالمقيم لتلك البينة فيترجح جانبه
لحقيقة اليد ولكونه مثبتا حق نفسه بالبينة فإن
النسب من حقه
قال حرة لها ولد وهما في يد رجل فأقام آخر
البينة أنه تزوجها فولدت منه هذا الغلام وأقام
ذو اليد البينة على مثل ذلك والغلام يدعي أن
ذا اليد أبوه فإني أقضي ببينة ذي اليد أنه
يترجح باعتبار يده في دعوى النكاح عليها وفي
دعوى النسب يدعي الغلام لأنه ابنه لأنه في يد
نفسه فإنما أثبت حق نفسه بتلك البينة وكذلك لو
كان ذو اليد ذ ميا وشهوده مسلمون لما بينا أن
ما أقام من البينة حجة على الخصم المسلم ولو
أقام البينة أنه تزوجها في وقت وأقام ذو اليد
البينة على وقت دونه فإني أقضي بها للمدعي لأن
تاريخه أسبق وقد أثبت نكاحه في وقت لا ينازعه
الآخر فإنما أثبت الآخر بعد ذلك نكاح المنكوحة
وهو باطل ولو أقام ذو اليد البينة أنها امرأته
تزوجها فولدت هذا الولد على فراشه وأقام
الخارج البينة أنها أمته ولدت هذا الغلام على
فراشه منه فإني أقضي به للزوج وأثبت نسبه منه
لما بينا أن فراش النكاح يترجح على فراش الملك
في حكم النسب.
ألا ترى أن الحر أثبت ببينته ملك نفسه في
المرأة وليس بمقابلته ما يوجب حريتها من الحجة
فيقضي بالأمة ملكا للمدعي فيكون الولد حرا
بالقيمة إن شهد شهود الزوج أنها عرية من نفسها
وإن لم يشهدوا بذلك جعلت الأمة وابنها مملوكين
للمدعي لأن الولد يتبع الأم في الملك والموجب
لحرية الولد الغرور فإذا لم يثبت الغرور كان
مملوكا للمدعي ثابت النسب من الزوج لأن المدعي
أقر أنه ابنه فيعتق عليه بإقراره فتكون أمة
بمنزلة أم الولد ولا يقال عند إثبات الغرور
ينبغي أن لا يغرم الزوج قيمة الولد عند أبي
حنيفة رحمه الله لأنه بمنزلة ولد أم الولد
وإنما عتق بإقرار المدعي بحريته فإن هذا يكون
بعد ثبوت الرق فيه ولم يثبت فإن ولد المغرور
يكون حرا من الأصل فلهذا كان على الزوج قيمة
الولد لمولاها.
قال: أمة مع ولدها في يد رجل فأقام آخر البينة
أنها أمة أبيه ولدت هذا الغلام على فراش أبيه
في ملكه وأبوه ميت وأقام ذو اليد البينة أنها
أمته ولدت هذا الولد منه على فراشه في ملكه
قضيت بالولد للميت الذي ليس في يديه لأن في
هذه البينة إثبات حقيقة الحرية لها وفي بينة
ذي اليد إثبات رقها لأن أم الولد لا تعتق إلا
بموت المولى والترجيح بالحرية أقوى من الترجيح
باليد فكيف يستقيم أن تكون أمة لذي اليد يطؤها
بالملك وقد قامت البينة على حريتها فلهذا
قضينا بولائها للميت ويكون الولد ثابت النسب
منه لأن وارثه يقوم مقامه في إثبات ما هو من
حقه والله أعلم بالصواب.
باب دعوى العتاق
قال رحمه الله: أمة ادعت أنها ولدت من مولاها
وأقامت البينة وأقام آخر البينة أنه اشتراها
من مولاها أخذ بينة الولادة لأن فيه إثبات حق
الحرية لها وحق الحرية كحقيقة الحرية فإذا
اقترن بالشراء منع صحة الشراء وإن كان المشتري
قد قبضها فالجواب كذلك
ج / 17 ص -151-
لأن بينة الولادة سابقة معنى فإن ثبوت أمية
الولد لها من وقت العلوق وذلك كان سابقا على
الشراء والقبض ولأن في هذه البينة زيادة إثبات
نسب الولد وحريته وإن وقتت بينة المشتري وقتا
للشراء قبل الحبل بثلاث سنين أجزت الشراء
وأبطلت النسب لأنه ثبت الملك فيها للمشتري من
وقت الذي أرخ شهوده فتبين أنه استولد مالا
يملكه فلهذا لا يثبت النسب وكذلك الوقت في
البيع والعتق والتدبير يؤخذ بالوقت الأول لأنه
لا مزاحمة للآخر معه في ذلك الوقت.
قال:
وإذا أقام عبد البينة أن فلانا أعتقه وفلان
ينكر أو يقر وأقام آخر البينة أنه عبده قضيت
به للذي أقام البينة أنه عبده لأن شهود العبد
ما شهدوا بالملك للمعتق إنما شهدوا بالعتق فقط
والعتق يتحقق من المالك وغير المالك ولكن لا
عتق فيما لا يملكه بن آدم ألا ترى أن هذه
البينة لا تعارض يد ذي اليد فإن من ادعى عبدا
في يد إنسان أنه أعتقه وأقام البينة على ذلك
لا يقضي له بشيء فلئلا يكون معارضة لبينة
الملك كان أولى وكذلك لو شهدوا أنه أعتقه وهو
في يديه إذ ليس في هذه الشهادة ما يوجب نفوذ
العتق لأن نفوذه بملك المحل لا باليد وكذلك لو
شهدوا أنه كان في يده أمس لم تقبل هذه الشهادة
لما ذكرنا ولو شهدوا أنه أعتقه وهو يملكه
يومئذ أخذت ببينة العتق لأن البينتين استوتا
في إثبات الملك وفي أحدهما زيادة العتق فكان
أولى
قال:
ولو كان العبد في يد رجل فادعى آخر أنه له
وأقام العبد البينة أن فلانا كاتبه وهو يملكه
وفلان جاحد لذلك أو مقر به فإنه يقضي به للذي
أقام البينة أنه عبده لأن بينته تثبت الملك
لنفسه والعبد إنما يثبت الملك لغيره ومن يثبت
الملك لنفسه فبينته أولى بالقبول.
فإن قيل العبد يثبت حق العتق لنفسه بإثبات
الكتابة قلنا لا كذلك فعقد الكتابة عندنا لا
يوجب حق العتق للمكاتب ولهذا جاز عتق المكاتب
عن الكفارة ولهذا احتمل عقد الكتابة الفسخ
وإنما الثابت للمكاتب بعقد الكتابة ملك اليد
والبينة التي تثبت ملك اليد لا تعارض البينة
التي تثبت ملك الرقبة.
قال:
وإن أقام الخارج البينة أنه عبده غصبه منه ذو
اليد وأقام ذو اليد البينة أنه عبده دبره أو
أعتقه وهو يملكه فإنه يقضي به عبدا للمدعي لأن
في بينة المدعي ما يدفع بينة ذي اليد وهو
إثبات كونه غاصبا لا مالكا والإعتاق والتدبير
من الغاصب لا يكون صحيحا وبينة ذي اليد على
أصل الملك لا تكون معارضة لبينة المدعي وكذلك
لو كان المدعي أقام البينة أنه عارية له في يد
ذي اليد أو وديعة أو إجارة أو رهن قضي بالملك
له لما بينا.
قال:
عبد في يدي رجل أقام آخر البينة أنه عبده
أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في
ملكه فبينة المدعي أولى لأنها تثبت الحرية
وبينة ذي اليد ثبت الرق فالمثبت للحرية من
البينتين أولى ألا ترى أنه لو ادعى الخارج أنه
ابنه ترجحت بينته لما فيها من إثبات النسب
والحرية فكذلك هنا تترجح بينة لما فيها من
إثبات الولاء الذي هو مشبه بالنسب مع الحرية
ج / 17 ص -152-
وكذلك لو أقام الخارج البينة أنه له ودبره فهو
أولى لما في بينته من إثبات حق الحرية وقد ذكر
قبل هذا بخلاف هذا وقد بينا وجه الروايتين ثمة
ولو كان شهود ذي اليد شهدوا أنه أعتقه وهو
يملكه فهو أولى من بينة الخارج على العتق لأن
المقصود هنا إثبات الولاء على العبد والولاء
كالنسب وإنما يثبت كل واحد منهما على العبد
فلما استوت البينات في الإثبات ترجح جانب ذي
اليد بيده وإن شهد شهود ذي اليد بالتدبير
وشهود المدعي بالعتق الثابت قضيت بالعتق
الثابت لأن فيها إبطال الرق والملك في الحال
ويترجح أرأيت لو كان أمة لكانت توطأ مع قيام
البينة على حريتها وكذلك لو أقام أحد الخارجين
البينة على العتق الثاني والآخر على التدبير
فبينة العتق أولى بالقبول لما بينا ولو أقام
الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة أن
الأمة له كاتبها قضيت بها بينهما نصفان لأن
المكاتبة ليست في يد واحد منهما بل هي في يد
نفسها فتحققت المساواة بين البينتين فقضي بها
بينهما .
فإن قيل: كان ينبغي أن يرجع إلى قولها قلنا المكاتبة أمة ولا قول للأمة في
تعيين مالكها بعد ما أقرت بالرق وإن شهد شهود
أحدهما أنه دبرها وهو يملكها وشهود الآخر أنه
كاتبها ويملكها فالتدبير أولى لأنه يثبت حق
الحرية وهو لازم لا يحتمل الفسخ بخلاف
الكتابة.
قال:
ولو ادعت أمة أن ولدها من مولاها وأنه أقر
بذلك وأرادت يمينه فلا يمين على المولى في ذلك
في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما عليه
اليمين وهذه من المسائل المعدودة فإن أبا
حنيفة رحمه الله لا يرى الاستحلاف في النكاح
والنسب والرجعة والفيء في الإيلاء والرق
والولاء لأن النكول عنده بمنزلة البدل فما لا
يعمل فيه البدل لا يجري فيه الاستحلاف وعندهما
النكول بمنزلة الإقرار ولكن فيه ضرب شبهة فكل
ما يثبت بالشبهات يجري فيه الاستحلاف والقضاء
بالنكول وهي مسألة كتاب النكاح وهنا دعواه على
المولى دعوى النسب فلهذا قال أبو حنيفة لا
يستحلف وكذلك لو ادعت أنها أسقطت من المولى
سقطا مستبين الخلق لأن حق أمية الولد لها تبع
لنسب الولد فكما لا يستحلف المولى عند دعوى
النسب فكذلك في دعوى أمية الولد عنده وعندهما
يستحلف في ذلك كله لأنه مما يثبت مع الشبهات
ولو أقر المولى بذلك لزمه فيستحلف فيه إذا
أنكر.
وكذلك لو جاءت الزوجة بصبي فادعت أنها ولدته
وأنكر الزوج ففي استحلافه خلاف كما بينا وكذلك
لو أن المولى أو الزوج جاء بصبي والدعى أنها
ولدته منه وأراد استحلافها فلا يمين عليها
عنده وكذلك لو كان الابن هو الذي ادعى النسب
على الأب أو الأب على الابن وطلب يمين المنكر
فلا يمين في الوجهين إلا أن يدعي بذلك ميراثا
قبل صاحبه فحينئذ يستحلف على الميراث دون
النسب لأن المال مما يعمل فيه البدل فيجوز
القضاء فيه بالنكول بخلاف النسب وإذا استحلفه
فنكل قضي بالمال دون النسب لأن أحد الحكمين
ينفصل عن الآخر وعند النكول إنما يقضي بما جرى
فيه الاستحلاف ألا ترى أنه
ج / 17 ص -153-
لو ادعى سرقة مال على رجل فاستحلف فنكل يقتضي
بالمال دون القطع فهذا مثله وكذلك لو ادعى
ميراثا بالولاء فهو ودعواه الميراث بالنسب
سواء فيما ذكرناه.
قال:
ولو أن رجلا ورث دارا من أبيه فادعى آخر أنه
أخوه لأبيه قد ورث أباه معه هذه الدار وجحد ذو
اليد ذلك لم يستحلف على النسب هنا بالاتفاق
أما عند أبي حنيفة لا يشكل وأما عندهما كل نسب
لو أقر به لم يصح لا يستحلف على ذلك إذا أنكره
لما بينا أن النكول عندهما قائم مقام الإقرار
والأخوة لا تثبت بإقراره لو أقر بها فكذلك لا
يستحلف عليه بخلاف الأبوة والبنوة ولكنه
يستحلف بالله العظيم ما يعلم له في هذه الدار
نصيبا كما يدعي المال والاستحلاف يجري في
المال إلا أنه استحلاف على فعل الغير لأنه
يدعي الإرث من الميت بسبب بينهما والاستحلاف
على فعل الغير يكون على العلم لا على الثبات.
قال:
جارية بين رجلين ولدت ولدين في بطنين فادعى
أحدهما الأكبر ثم ادعى الآخر الأصغر لم تجز
دعوة صاحب الأصغر لأن العلوق بهما حصل في
ملكهما فحين ادعى أحدهما الأكبر صارت الجارية
أم ولد له من حين علقت بالأكبر ثم الأصغر ولد
أم ولده والشريك أجنبي عنه ومن ادعى ولد أم
ولد الغير لم تصح دعوته ولو كان صاحب الأصغر
ادعى الأصغر أولا يثبت نسبه منه لأنها مشتركة
بينهما مع الولدين حين ادعى مدعي الأصغر وما
ادعاه يحتاج إلى النسب فيثبت نسب الأصغر منه
وصارت الجارية أم ولد له وضمن نصف قيمتها ونصف
عقرها لشريكه وتصح دعوة مدعي الأكبر للأكبر
لأنه نفي مشترك بينهما فإن أمية الولد لها
إنما يثبت من حين علقت بالأصغر والأكبر منفصل
عنها قبل ذلك فلهذا بقي مشتركا بينهما فإن
ادعاه مدعي الأكبر وهو محتاج إلى النسب ثبت
نسبه منه وضمن نصف قيمته لشريكه إن كان موسرا
لأنه مقصود بالدعوة والإتلاف فتكون دعوته إياه
بمنزلة إعتاقه ولم يذكر أن مدعي الأكبر هل
يغرم شيئا من العقر وينبغي أن يغرم نصف العقر
لأنه أقر بوطء الأمة حال ما كانت مشتركة
بينهما فيغرم نصف العقر لشريكه وإن لم يثبت
أمية الولد لها من جهته .
قال:
ولو كانت الدعوى منهما معا وهي أم ولد المدعي
الأكبر لأنه سابق بالدعوة معنى فإن العلوق
بالأكبر كان سابقا فصارت أم ولد له من حين
علقت بالأكبر وفي القياس لا تصح دعوة مدعي
الأصغر لأنه ادعى ولد أم ولد الغير كما في
الفصل الأول ولكنه استحسن فقال بينة الأصغر من
مدعي الأصغر لأن وقت الدعوة كان الأصغر مشتركا
بينهما في الظاهر محتاجا إلى النسب وكذلك
الجارية حين علقت بالأصغر كانت مشتركة بينهما
في الظاهر فبعد ذلك أنها كانت أم ولد لمدعي
الأكبر صار مدعي الأصغر بمنزلة المغرور وولد
المغرور حر بالقيمة فكان جميع قيمة الأصغر
لمدعي الأكبر وذكر في بعض النسخ أن عليه جميع
قيمة الأصغر لمدعي الأكبر وذكر في بعض النسخ
أن عليه نصف العقر وليس بينهما
ج / 17 ص -154-
اختلاف ولكن حيث قال عليه نصف العقر إنما أجاب
بالحاصل فإن نصف العقر بنصف العقر قصاص وإنما
يبقى في الحاصل نصف العقر على مدعي الأصغر
لمدعي الأكبر .
قال: رجل مات وترك ابنين وجارية فظهر بها حبل
فادعى أحدهما أن الحبل من أبيه وادعى الآخر أن
الحبل منه وكانت الدعوة منهما معا فالحبل من
الذي ادعاه لنفسه لأنه يحمل نسب الولد على
نفسه وأخوه إنما يحمل نسب الولد على أبيه
ومجرد قوله ليس بحجة في إثبات النسب من أبيه
فلهذا كان الذي ادعاه لنفسه أولى فإن قيل الذي
ادعى الحبل من أبيه كلامه أسبق معنى فينبغي أن
يترجح بالسبق قلنا هذا إن لو كان قوله حجة في
إثبات العلوق من أبيه في حياته وقوله ليس بحجة
في ذلك ويغرم الذي ادعاه لنفسه نصف قيمتها
ونصف عقرها لشريكه لأنه يملكها بالاستيلاد على
شريكه فإن قيل كيف يضمن لشريكه وقد أقر الشريك
أنها حرة من قبل الميت قلنا لأن القاضي كذبه
في هذا الإقرار حين جعلها أم ولد للآخر
والمكذب في إقراره حكما لا يبقى إقراره حجة
عليه كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ثم استحق
من يده رجع عليه بالثمن وكذلك إن كان الذي
ادعاه لنفسه سبق بالدعوة وإن كان الذي ادعى
الحبل للأب بدا بالإقرار لم يثبت من الأب
بقوله ولكن يعتق عليه نصيبه من الأم ومما في
بطنها لإقراره بحريتها ويجوز دعوة الآخر ويثبت
نسب الولد منه لأنه محتاج إلى النسب والنصف
منه باق على ملكه فإن إقرار الأول ليس بحجة في
إبطال ملكه وأكثر ما فيه أنه صار كالمستسعى
عند أبي حنيفة رحمه الله فتصح دعوته فيه ولا
يضمن من قيمة الأم شيئا لأنه لا يتملك على
شريكه نصيبه من الأم فقد عتق نصيبه من الأم
بالإقرار السابق ويضمن نصف عقر ها إن طلب ذلك
أخوه لأنه أقر بوطئها سابقا على إقرار أخيه
وهي مشتركة بينهما في ذلك الوقت فيكون مقرى
بنصف العقر لأخيه بسبب لم يبطل ذلك السبب
بإقرار أخيه فكان له أن يصدقه فيستوفي ذلك منه
إن شاء.
قال عبد صغير بين رجلين أعتقه أحدهما ثم ادعاه
الآخر فهو ابنه في قول أبي حنيفة رحمه الله
لأن عنده العتق يتجزى ء قضيت للآخر بادعاء
ملكه فلهذا صحت دعوته ونصف ولائه للمعتق
بإعتاقه فإن ثبوت نسبه من الآخر لا ينتفي ما
صار مستحقا من الولاء للأول ويستوي إن كان ولد
عندهما أو لم يولد وإن كان الغلام كبير فأقر
بذلك فهو ثابت النسب من المدعي فإذا ادعاه
الذي أعتقه الآخر فإن جحد ذلك لم يجز دعوة
الذي لم يعتقه لأن نصيبه باق على ملكه وهو
بمنزلة المكاتب له فإما عند أبي يوسف ومحمد
رحمهم الله العتق لا يتجزى ء فلا يجوز دعوة
واحد منهما إلا بتصديق الغلام له في ذلك.
قال وإذا تصادق الرجل والمرأة الحرة في يد
أحدهما أنه ابنهما والمرأة امرأة الرجل لأن
مطلق إقرارهما بنسب الولد محمول على ولد صحيح
بينهما شرعا وهو النكاح فكان تصادقهما على نسب
الولد تصادقا منهما على النكاح بينهما ومطلقة
ينصرف إلى النكاح الصحيح فإن كانت المرأة لا
تعرف أنها حرة فقالت أنا أم ولد لك وهذا ابني
منك وقال
ج / 17 ص -155-
الرجل هو ابني منك وأنت امرأتي فهو ابنهما
لتصادقهما على نسب الولد ولكنها أقرت له بالرق
وهو كذبها في ذلك فلم يثبت الرق عليها وهو قد
ادعى عليها النكاح وهي قد كذبته فلا يكون
بينهما نكاح ولكن بتكاذبهما في السبب المثبت
للفراش لا يمنع العمل بما تصادقا عليه مما هو
حكم الفراش وهو ثبوت نسب الولد منهما وكذلك لو
ادعت أنها زوجته وقال الرجل هي أم ولدي فهذا
والأول سواء لما بينا ولو قال الرجل هذا ابني
منك من نكاح وقالت صدقت هو من نكاح فاسد لا
يقبل قولها في ذلك لأن حقيقة الاختلاف بينهما
في دعوى صحة النكاح وفساده وتصادقهما على أصل
النكاح يكون إقرارا منهما بصحته فلا يقبل قول
من يدعي الفساد بعد ذلك لكونه مناقضا ولو قال
الزوج هو من نكاح فاسد وقالت المرأة هو من
نكاح صحيح فنسب الولد ثابت وسئل الزوج عن
الفساد ما هو فإذا أخبر بوجه من وجوه الفساد
فرق بينهما بإقراره بأنها محرمة عليه في الحال
وجعل ذلك بمنزلة إيقاعه الطلاق البائن حتى
يكون لها نفقة العدة لأن قوله في فساد أصل
العقد غير مقبول لما بينا ولكنه متمكن من أن
يفارقها فيجعل إقراره بذلك كإنشاء التفريق
والله أعلم بالصواب.
باب الغرور
قال رحمه الله: ذكر عن يزيد بن عبد الله بن قصيط قال: بعت أمة فأبت بعض القبائل
فانتمت إلى بعض قبائل العرب فتزوجها رجل من
بني عذرة فنثرت له ذا بطنها ثم جاء مولاها
فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى
بها لمولاها وقضى على أن الوالد أن يفدي
الأولاد الغلام بالغلام والجارية بالجارية وفي
هذا دليل أن ولد المغرور يكون حرا بعوض يأخذه
المستحق من المغرور فأخذ بعض العلماء رحمهم
الله بظاهره فقالوا مضمون بالمثل الغلام
بالغلام والجارية بالجارية وعندنا هو مضمون
بالقيمة وتأويل الحديث الغلام بقيمة الغلام
والجارية بقيمة الجارية والمراد المماثلة في
المالية لا في الصورة فإنه ثبت بالنص أن
الحيوان لا يكون مضمونا بالمثل كما قال صلى
الله عليه وسلم "في العبد بين اثنين يعتقه
أحدهما إن كان موسرا ضمن نصف قيمته نصيب
شريكه" وهكذا روي عن عمر رضي الله عنه وهو
تأويل حديث علي رضي الله عنه الذي ذكره بعد
هذا عن الشعبي رحمه الله أن رجلا اشترى جارية
فولدت منه فاستحقها رجل ورفع ذلك إلى علي رضي
الله عنه فقضى بالجارية لمولاها وقضى للمشتري
على البائع أن يفيك ولده بما عز وهان.
ولم يرد بقوله: قضي بأولادها لمولاها أن يسلم الأولاد إليه وإنما المراد جعل
الأولاد في حقهم كأنهم مملوكين له حيث أوجب له
القيمة على المغرور وأضاف ذلك إلى البائع
بطريق أن قود الضمان عليه فإن المشتري يرجع
على البائع بما غرم من قيمة الأولاد ومعنى
قوله بما عز وهان بالقيمة بالغة ما بلغت وهو
الأصل عندنا وفي ولد المغرور فإنه في حق
المغرور هو حر الأصل وفي حق المستحق كأنه رقيق
مملوك له بملك الأصل وهو الجارية لأنه لا وجه
لإيجاب الضمان له إلا هذا فإن الماء غير متقوم
ليضمن بالإتلاف وإنما يضمن
ج / 17 ص -156-
المملوك بالمنع فيصير المغرور مانعا للولد بما
ثبت فيه من الحرية حقا له وهذا لأن النظر من
الجانبين واجب والنظر في جانب المغرور في حرية
الولد لأنه لم يرض برق مائه والنظر في جانب
المستحق في رق الولد لكنه لا يبطلملكه عما هو
جزء من ملكه فيجب ضمان المالية على المغرور
يمنعه بعد الطلب ولهذا اعتبر قيمته وقت
الخصومة حتى أن من مات من الأولاد قبل الخصومة
لم يضمن من قيمته شيئا لأن المنع إنما يتحقق
بعد الطلب.
إذا عرفنا هذا فنقول: أمة غرت رجلا فأخبرته أنها حرة فتزوجها على ذلك فولدت ولدا ثم
أقام مولاها البينة أنها أمته وقضي بها له
فإنه يقضي بالولد أيضا لمولى الجارية لأن
استحقاق الأصل سبب لاستحقاق المتولد منه فإنه
في حكم الجزء له وقد ظهر هذا السبب عند القاضي
ولم يظهر ما يوجب حرية الولد وهو الغرور إلا
أن يقيم الزوج بينة أنه تزوجها على أنها حرة
فإن أقام البينة على هذا فقد أثبت حرية
الأولاد فكان الولد حرا لا سبيل عليه وعلى
أبيه قيمته وادعى ماله حالا وقت القضاء به دون
مال الولد لأن السبب هو المنع وجد من الأب دون
الولد.
ولا ولاء للمستحق على الولد لأنه علق جزء
الأصل وإنما قدرنا الرق فيه لضرورة القضاء
بالقيمة والثابت بالضرورة لا يعد وموضع
الضرورة وإن مات الولد قبل الخصومة فليس على
الأب شيء من قيمته لأن الولد لو كان مملوكا
على الحقيقة لم يكن مضمونا فإن ولد الغصب
أمانة عندنا فإن لم يكن مملوكا أولى أن لا
يكون مضمونا وإن قبل الابن فأخذ الجارية فعليه
قيمته للمستحق الدية بدل نفسه ومنع البدل كمنع
الأصل فيتحقق به السبب الموجب للضمان وإن قضي
له بالدية فلم يقبضها لم يوجد بالقيمة لأن
المنع لا يتحقق فيما لم يصل إلى يده من البدل
فإن قبض من الدية قدر قيمة المقبول قضي عليه
بالقيمة للمستحق لأن المنع تحقق بوصول يده إلى
البدل ويكون منعه قدر قيمة الولد كمنع الولد
في القضاء للمستحق عليه بالقيمة فلو كان للولد
ولد يحرز ميراثه وديته فخرج من الدية أو دونها
قضيت على الأب بمثل ذلك لتحقق المنع في البدل
ولا يقضي به في الدية ولا في تركة الابن لأن
هذا الضمان مستحق على الأب يمنعه الولد
بالحرية وإنما يقضي من تركة الابن ما يقرر
دينا على الابن فإن كان الأب ميتا قضي به في
تركته لأنه دين على الأب فيستوفي من تركته وإن
كان على الأب دين خاص مستحق للغرماء بقيمة
الولد لأن دينه مثل دينهم وإن لم يكن للأب
بينة أنه تزوجها على حرة فطلب يمين المستحق
على علمه حلفته على ذلك لأنه يدعي ما لو أقر
به لزمه فإذا أنكر يستحلف عليه ولكنه استحلاف
على فعل الغير وكان على العلم لا على الثبات.
قال ولو استولدها على شراء أو هبة أو صدقة أو
وصية أخذ المستحق الجارية وقيمة الولد لأن
الموجب للغرور ملك مطلق للاستيلاد لهفي الظاهر
وهو موجود وما هو الظاهر ولو كان حقيقة كان
الولد حرا فباعتبار الظاهر يثبت حرية الولد
أيضا ويرجع الأب على البائع
ج / 17 ص -157-
بالثمن وقيمة الولد لأن المبيع لم يسلم له
وبعقد المعاوضة استحق سلامتها له سليمة عن
العيب ولا عيب فوق الاستحقاق فيكون له أن يرجع
بما يغرم بهذا السبب على البائع ولا يرجع عليه
بالعقد عندنا وعند الشافعي يرجع بالعقر كما
يرجع عليه بقيمة الولد لأنه ضمان لزمه بسبب
فوت السلامة المستحقة له بالعقد ولكنا نقول
إنما لزمه العقر عوضا عما استوفى من منافع
البضع فلو رجع به سلم المستوفي له مجانا.
والوطء في ملك الغير لا يجوز أن يسلم للواطى
ء مجانا ولا يرجع على الواهب والمتصدق والوصي
بشيء من قيمة الأولاد عندنا وعند الشافعي له
ذلك لأنه الغرور قد تحقق منه بإيجابه الملك له
في المحل واختار أنها مملوكته سواء كان بعوض
أو بغير عوض ولكنا نقول مجرد الغرور لا يكفي
لإثبات حق الرجوع فإن من أخبر إنسانا أن هذا
الطريق آمن وسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه لم
يرجع على المخبر وإنما ثبوت حق الرجوع باعتبار
عقد المعاوضة لأن صفة السلامة تصير مستحقة به
فأما بعقد التبرع لا تصير صفة السلامة مستحقة
به ولهذا لا يثبت فيه حق الرد بالعيب فلم يكن
له أن يرجع على المتبرع بقيمة الأولاد وهذا
لأن عقد التبرع لا يكون سببا لوجوب الضمان على
المتبرع للمتبرع عليه ألا ترى أن الملك لا
يحصل به قبل التسليم.
قال:
وإن كان المشتري باعها من غيره فولدت منه ثم
استحقها رجل يرجع المشتري الثاني على بائعه
بقيمة الولد وللمشتري الأول أن يرجع على بائعه
بالثمن وليس له أن يرجع بقيمة الولد عند أبي
حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد أن يرجع بقيمة
الولد على بائعه حجتهما في ذلك أن المشتري
الأول أوجب الملك فيها للغير فيجعل الاستيلاد
على من أوجب له الملك فيها بمنزلة استيلاده
بنفسه وهذا لأن الرجوع يفوت صفة السلامة الذي
صار مستحقا بالعقد وهذا كما تقرر بين المشتري
الأول والثاني فقد تقرر بين المشتري الأول
والبائع ألا ترى أن المشتري الأول والثاني لو
ردها بالعيب كان للمشتري الأول أن يردها على
بائعه فكذلك إذا رجع عليه بقيمته وأبو حنيفة
رحمه الله يقول أن المشتري الأول إن شاء
بإيجابه الملك فيها لغيره بالبيع فرجوع
المشتري عليه بما أنشأه من الغرور لا بالغرور
الذي سبق من البائع فصار ما أنشأه من الغرور
ناسخا لغرور البائع الأول وهو نظير من حفر
بئرا على قارعة الطريق فألقي إنسان غيره فيه
كان الضمان على الملقي ولا يرجع به على الحافر
فهذا مثله.
يوضحه أنالرجوع بقيمة الولد بمنزلة الخصومة في
العيب والمشتري إنما يخاصم البائع في العيب
إذا كان المستفاد من قبله فإنما له وهنا قد
انفسخ ذلك الملك بملك المشتري الثاني ولم يعد
إليه بالرجوع بقيمة الولد عليه بخلاف ما إذا
رد عليه بالعيب لأن الملك المستفاد له من جهة
البائع قد عاد إليه ونظير هذه المسألة ما ذكر
في آخر الصلح أن المشتري الثاني إذا وجد
بالمبيع عيبا وقد تعذر رده بعيب حديث عنده
ورجع على بائعه بنقصان العيب لم يكن لبائعه أن
يرجع بالنقصان على البائع في قول أبي حنيفة
لأن المستفاد
ج / 17 ص -158-
له من قبله لم يعد إليه وعندهما يرجع على
البائع الأول بما غرم للمشتري الثاني من نقصان
العيب لأن الرجوع بالنقصان عند تعذر رد العين
بمنزلة الرد بالعيب عند الإمكان.
قال:
رجلان اشتريا جارية فوهب أحدهما نصيبه من
شريكه فولدت ثم استحقها رجل فإنه يأخذها
وعقرها وقيمة ولدها ولم يرجع الأب بنصف الثمن
ونصف قيمة الولد على البائع لأنه يملك نصفها
من جهته بحكم المعاوضة والجزء معتبر بالكل ولا
يرجع على الواهب بشيء من قيمة الولد لأنه يملك
النصف من جهته بعقد التبرع ولكن الواهب يرجع
بنصف الثمن على البائع لأن استحقاقها على من
استفاد الملك فيها من جهة الواهب يكون
استحقاقا على الواهب فيرجع بثمن ما استحق عليه
على البائع ولم يغرم الواهب من قيمة الولد
شيئا ليرجع به على البائع .
قال:
ولو كانت أمة بين رجلين فولدت فادعاه أحدهما
وغرم نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه ثم استحقها
رجل قضي له بها وبقيمة الولد والعقر للمستحق
لأن الغرور يتحقق بقيام الملك له في نصفها
ظاهرا فإن الاستيلاد باعتبار هذا القدر صحيح
في إثبات حرية الأصل للولد ثم يرجع على البائع
بنصف الثمن ونصف قيمة الولد لما بينا ويرجع
على شريكه بما أعطاه من نصف قيمتها ونصف عقرها
لأنه تبين أنه لم يتملك على شريكه نصيبه ولم
يحصل وطؤه في ملكه ولا يرجع على شريكه بشيء من
قيمة الولد لأنه ما كان مغرورا من جهة شريكه
فإن تملكه على شريكه ما كان باختيار منه ويرجع
الشريك على بائعه بنصف الثمن لاستحقاق المبيع
عليه .
قال
:وإذا تزوج المكاتب أو العبد امرأة حرة بإذن
مولاه فولدت له ثم استحقت وقضي بها للمستحق
فالولد رقيق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر
وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما
الله حر بالقيمة وهي مسألة كتاب النكاح أن
العتق بسبب الغرور عند محمد وذلك متحقق في حق
العبد كما هو في حق الحر وعند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله المخلوق من ماء رقيقين لا
يكون حرا وقد بينا بعض هذا فيما سبق قال وكذلك
إذا صار المكاتب مغرورا بالشراء فهو على هذا
الخلاف إلا أن عند محمد هناك الولد يكون حرا
وهنا يكون بمنزلة أبيه مكاتبا.
قال:
رجل اشترى أم ولد لرجل أو مكاتبة أو مدبرة من
أجنبي فوطئها فولدت ثم استحقها مولاها قضي له
بها وعلى أب الولد قيمة الولد لمولى المدبرة
وأم الولد بسبب الغرور ولا يقال ولد أم الولد
لا مالية فيه عند أبي حنيفة رحمه الله كأمه
فكيف يضمن بالغرور لأن هذا بعد ثبوت أمية
الولد ولم يثبت في الولد لأنه علق حر الأصل
فلهذا كان مضمونا بالقيمة وعلى الأب قيمة
الولد للمكاتبة قال لأن الذي غره منها وإنما
أراد به أنه إذا كان الغرور منها لا يستوجب
قيمة الولد وفيه قولان لأبي يوسف معروف في
كتاب العتاق فأما إذا كان الغرور من غيرها وجب
على الأب قيمة الولد ويكون ذلك للمكاتبة لأنها
كانت أحق بولدها لكونه جزءا منها فكذلك ببدل
ولدها.
ج / 17 ص -159-
قال: مكاتب أو عبد مأذون باع أمة فاستولدها المشتري ثم استحقت رجع أب
الولد بقيمة الولد على بائعه لأن الرجوع بقيمة
الولد لاستحقاق صفة السلامة له بعقد المعاوضة
على البائع والمكاتب والمأذون في هذا كالحر
لأن ضمان التجارة بمنزلة الرد بالعيب والرجوع
بنقصان العيب عند تعذر الرد عليه قال رجل ورث
أمة من أبيه فاستولدها ثم استحقت كان الولد
حرا بالقيمة لتحقق الغرور في حق الوارث فإنما
استولدها على أنها مملوكة إذا لم يكن عالما
بكونها مستحقة ثم يرجع بالثمن وبقيمة الولد
على الذي كان باعها من المورث لأنه يخلف
المورث في ملكه فإنما يصل إليه الملك الذي كان
لمورثه لا أن يكون ذلك ملكا جديدا له ألا ترى
أنه يرده بالعيب ويكون فيه كالمورث فكذلك
الرجوع بسبب الغرور وهذا بخلاف الموصي له ثم
استولدها ثم استحقت لا يرجع على بائع الموصي
له بعقد متجدد وذلك الملك غير الملك المستفاد
من البائع ببيعه ولهذا لا يرده عليه بالعيب
فكذلك لا يرجع عليه بضمان الغرور.
قال
:رجل أقر في مرضه أن هذه الجارية وديعة عنده
لفلان وعليه دين يحيط بماله أو ليس عليه دين
فاستولدها الوارث بعد موته وقد علم بإقرار
الأب ثم استحقت ببينة فإنه يقضي للمستحق بها
وبولدها مملوكين له لأن الوارث غير مغرور هنا
فإنه أقدم على استيلادها مع علمه أنها غير
مملوكة له لأنها لم تكن مملوكة لمورثه فصار
راضيا برق مائه وكان الولد ملكا للمستحق وإن
لم يقر المريض بها لغيره وكان عليه دين يحيط
بماله فاستولدها الوارث قيمة الولد والعقر
لأنه بمنزلة المغرور فيها فإن الاختلاف بين
العلماء رحمهم الله ظاهر في وقوع الملك للوارث
في التركة المستغرقة بالدين فمن يقول لا يملك
يقول سبب الملك له فيها تام حتى يملك
استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر ولو
أعتقها ثم سقط الدين نفذ عتقه ولو كانت أمه
فتزوجها لم يصح النكاح فعرفنا أن الغرور قد
تحقق فكان ولده حرا بالقيمة وتباع الأمة في
الدين أن استغرقت التركة بالدين يمنع عتق
الوارث فيها فكذلك يمنع ثبوت حق الحرية من جهة
الوارث فيها ووجوب العقر عليه لأن هذا وطء حصل
في غير ملكه وقد سقط الحد لشبهة فيغرم العقر
فإن أقام رجل البينة أنها له قضيت بها له
وبقيمة الولد والعقر لما بينا ولو كانت الأمة
للميت وعليه دين لا يحيط بقيمتها فوطئها
الوارث فولدت منه وضمن قيمتها وعقرها لأن
الدين إذا لم يكن محيطا بالتركة لا يمنع ملك
الوارث فيصح استيلاده فيها ولكن حق الغريم
مقدم على حقه ويغرم قيمتها لحق الغريم لأنه
صار مستهلكا لماليتها على الغريم بالاستيلاد
قال ويغرم عقرها .
قال عيسى رحمه الله: هذا غلط فإن الاستيلاد حصل في ملكه فلا يكون موجبا للعقر عليه إذا
كان في قيمتها وفاء بالدين وزيادة فلم يغرم
العقر ولماذا يغرم ولكنا نقول تأويل المسألة
أن الورثة كانوا عددا فكان هذا استيلاد
الشركاء للجارية المشتركة وهو موجب للعقر
والقيمة باعتبار ملك الشركاء وفي بعض الروايات
وهو قول بشر يقدر الدين ولا يصير ملكا للوارث
أيضا فلهذا لزمه قيمتها وعقرها يقضي من ذلك
الدين أولا وما بقي فهو ميراث
ج / 17 ص -160-
بين الورثة يسقط عنه من ذلك بقدر حصته ولا
يضمن قيمة الولد هنا لأنها بمنزلة الجارية
المشتركة وقد بينا أن أحد الشركاء إذا استولد
الجارية المشتركة لم يغرم من قيمة الولد شيئا
.
قال:رجل
اشترى جارية مغصوبة وهو يعلم أن البائع غاصب
أو تزوج امرأة أخبرته أنها حرة وهو يعلم أنها
كاذبة فاستولدها كان الولد رقيقا لانعدام
الغرور حين كان عالما بحقيقة الحال ولأنه رضي
برق مائه حين استولدها مع علمه أنها مملوكة
لغيره ولو اشتراها من رجل وهو يعلم أنها لغيره
فقال البائع أن صاحبها وكلني ببيعها أو مات
وقد أوصى إلي فاستولدها ثم جاء صاحبها وأنكر
الوكالة والوصايا فإنه يأخذها جاريته لأن ملكه
فيها معلوم وإذنه في بيعها لم يصح حين أنكره
ويأخذ عقرها وقيمة ولدها لأن الغرور قد تحقق
بما أخبره البائع به فإن ما أخبر به لو كان
حقا كانت هي مملوكة للمشتري فهذا وقوله أنها
ملكي سواء في أنه يلتزم سلامتها له فإذا غرم
قيمة الولد رجع به على البائع مع الثمن لأنه
لم يسلم له ما التزم ولو اشترى الوكيل لموكله
جارية فاستولدها الموكل ثم استحقت أخذها
الموكل المستحق وعقرها وقيمة ولدها من
المستولد ويرجع بالثمن وقيمة الولد على البائع
والوكيل هو الذي يلي خصومته في ذلك لأن البائع
التزم بالعقد صفة السلامة والوكيل له اليد .
ألا ترى أن الخصومة في العيب للبائع دون
الموكل فكذلك الخصومة في الرجوع بالثمن وقيمة
الولد على الوكيل فإن قال البائع لم أبع من أب
الولد شيئا أو قال لم أشتر هذا مني له فأقام
الوكيل البينة أنه اشتراها لفلان بأمره
فالثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وإن لم
يشهدوا بأمره ولكن شهدوا على إقرار المشتري
أنه اشتراها لفلان بماله فإن كان إقراره بهذا
قبل الشراء وشهد الشهود بذلك فهو وما سبق سواء
لأنا لو سمعنا إقراره في ذلك الوقت كان الشراء
موجبا الملك للموكل فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة
وإن شهدوا أنه أقر بذلك بعد الشراء قبل أن تلد
وبعده لم يصدق على البائع لأن شراءه موجب
الملك له فكل أحد عامل لنفسه بتصرفه حتى يقوم
الدليل على أنه يعمل لغيره بإقراره بعد ذلك في
حق البائع بمنزلة الإيجاب المبتدأ لأنه غير
مصدق في هذا الإقرار في حقه ولو ملكه ابتداء
من هذا المستولد لم يكن له خصومة مع البائع في
الرجوع بقيمة الولد عليه بعد ذلك فكذلك هنا.
ولو استولد جاريته فاستحقها رجل فقال
المستولد اشتريتها من فلان بكذا وصدقه فلان
وكذبهما المستحق فالقول قول المستحق لأن سبب
ملك الولد ظاهر وهو استحقاق الجارية والآخران
يريدان إبطال ملكه في الولد بقولهما فلا
يصدقان على ذلك ولكن يحلف المستحق بالله ما
يعلم أنه اشتراها منه لأنه لو أقر بذلك كان
الولد حرا فإذا أنكر يستحلف عليه ولو أنكر
البائع وصدقه المستحق فالولد حر لإقرار
المستحق بحريته وعلى الأب قيمته لإقراره على
نفسه بالقيمة للمستحق ولا رجوع لهما على
البائع لأن قولهما ليس بحجة عليه ولو أنكر
البائع والمشتري وأقر به المستحق عتق الولد
بإقراره لأنه ملكه في الظاهر ولا قيمة له على
الأب لأنه مدع لنفسه عليه بالقيمة فلا يستحقه
إلا بحجة
ج / 17 ص -161-
قال: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي
ألفي درهم فاستولدها المضارب ثم استحقت فالولد
حر بالقيمة لأن المضارب كان مالكا نصفها في
الظاهر قدر حصته من الربح فيتحقق الغرور بسبب
ثم يرجع المضارب على البائع بالثمن فيكون على
المضاربة كما كان ويرجع عليه أيضا بربع قيمة
الولد لأن رجوعه باعتبار ملكه الظاهر وذلك كان
بقدر الربع فيرجع به على البائع ويكون ذلك له
خاصة ولا يكون على المضاربة لأنه عوض عما أدى
والمؤدي لم يكن من مال المضاربة ولو لم يكن في
الأم فصل أحد المستحق الولد مع الأم ولم يثبت
نسبه من المضارب لأنه استولدها ويعلم له أنه
لا يملك شيئا منها فكان لا يثبت به النسب
والولد رقيق لانعدام التوارث حين كان عالما
بحالها وإن كان هو الذي استولدها فإن لم يكن
فيها فصل كان الولد حرا وعليه قيمته للمستحق
لأنها مملوكة لرب المال في الظاهر والمضارب
اشتراها له بأمره فهذا وفصل الوكيل سواء فيكون
الولد حرا بالقيمة ويرجع على البائع بالثمن
وقيمة الولد والذي يلي خصومة البائع في ذلك
المضارب فيكون الثمن على المضاربة وقيمة الولد
على رب المال وإن كانت الجارية تساوي ألفين
فالرجوع على البائع بثلاثة أرباع قيمة الولد
لأن المملوك للمستولد من جهته كان هذا المقدر
وهو قدر رأس المال وحصته من الربح فإنما يرجع
بهذا القدر من قيمة الولد فيكون لرب المال
خاصة ويرجع بالثمن فيكون على المضاربة.
قال:
رجلان اشتريا من وصي يتيم أمة فاستولدها
أحدهما ثم استحقت قضي له بها وبقيمة الولد على
الأب ويرجع الأب بنصف تلك القيمة على الوصي
لأنه يملك نصفها من جهة الوصي ببيعه فبقدره
يرجع عليه من قيمة ولدها ثم يرجع به الوصي في
مال اليتيم لأنه كان عاملا لليتيم في ذلك فإذا
لحقه عهدة يرجع به عليه وكذلك لو كان البائع
أب الصبي فهو والوصي في حكم الرجوع سواء وكذلك
لو كان البائع وكيلا أو مضاربا إذا كان في
المضاربة فصل لم يرجع على رب المال من قيمة
الولد إلا بقدر رأس المال وحصته من الربح لأنه
في ذلك القدر عامل له وفي حصة نفسه من الربح
عامل لنفسه فلا رجوع به له على رب المال.
قال:
ولو كفل رجل للمشتري بما أدركه من درك لم يرجع
المشتري على الكفيل بقيمة الولد لأن هذا ليس
بدرك في الجارية إنما يفوت بهذا ما التزم بصفة
السلامة فكان بمنزلة عيب يجده بها فيردها
وهناك لا يرجع على الكفيل بشيء كذلك هنا لا
يرجع على الكفيل بشيء من قيمة الولد قال وإذا
غرت الأمة من نفسها رجلا أخبرته أنها أمة لهذا
الرجل فاشتراها منه واستولدها ثم استحقت رجع
أب الولد بالثمن وقيمة الولد على البائع دون
الأمة لأن الرجوع باعتبار التزام صفة السلامة
بعقد المعاوضة والبائع هو الذي التزم ذلك
للمشتري دون الأمة إنما الأمة أخبرته بخبر كذب
ومجرد هذا الخبر لا يلزمه ضمان قيمة الولد كما
بيناه.
قال: حرة ولدت ولدين في بطن واحد وكبرا
واكتسبا مالا ثم مات أحدهما وترك ابنا ثم جاء
رجل وادعى أنه زوج المرأة وأنهما إبناه فأقرت
المرأة بذلك جحد الابن الباقي
ج / 17 ص -162-
وبن الابن فإن الرجل والمرأة يصدقان على
أنفسهما دون غيرهما فيثبت النكاح بينهما
بتصادقهما ويدخل في نصيب المرأة من الميراث
لإقرارهما أنهما يستويان في ذلك فإن من ترك
أبوين وابنا فللابوين السدسان فلهذا قسم ما في
يدها بينهما نصفان فإن أقر بن المرأة بدعوة
الرجل ثبت نسبه بإقراره ومن ضرورة ثبوت نسبه
ثبوت نسب الآخر لأنهما توأم فيثبت نسبهما
ولكنه لا يرث بهذا مع بن الميت شيئا لأن الابن
الباقي غير مستحق لشيء من ميراث الميت فتصديقه
في حكم الميراث وتكذيبه سواء لأن الميراث مال
ينفصل عن النسب في الاستحقاق ثبوتا وسقوطا.
ألا ترى أن عبد الرق واختلاف الدين والنسب
ثابت ولا ميراث وإذا أقر أحد الأخوين بأخ آخر
فالشركة في الميراث ثابتة ولا نسب وما كان
طريق ثبوته الضرورة فالمعتبر فيه الجملة فإذا
كان أحد الحكمين ينفصل عن الآخر في الجملة لم
يستحق الميراث بإقراره وإن ثبت نسبه وإن أقر
بن الميت بدعوة الرجل وقد احتلم ثبت نسبهما
جميعا منه لأنه في هذا التصديق قائم مقام أبيه
وثبوت نسب أخيه يقتضي ثبوت نسب الآخر ضرورة
ويرث معه الرجل لأن الحق في الميراث له وقد
أقر بأن سدسا من الميراث وهو خمس ما في يده
للأب فيؤمر بتسليمه إليه.
قال ولو أن أمة ولدت ولدين في بطن واحد فاشترى
رجل أحدهما وأعتقه ثم مات المعتق فورثه مولاه
ثم اشترى رجل آخر الابن الباقي مع أمه فادعى
أنه ابنه ثبت نسبه منه وإن كان كبيرا لا يقر
بذلك إلا عبد له فلا حاجة إلى تصديقه في إثبات
النسب منه ويثبت نسب ولد الميت أيضا منه ولا
يكون له الميراث الذي أخذه المولى لما بينا
أنه ليس من ضرورة ثبوت النسب استحقاق المال
وإنما أورد هذا الفصل إيضاحا لما سبق فإنا لو
قلنا يستحق المال على المولى بهذا الطريق كان
يقدر كواحد على إبطال حق المولى عن الميراث
المستحق له بأن يشتري الابن الآخر فيدعي نسبه
وهذا بعيد وفيه من الضرورة ما لا يخفى فقلنا
لا يستحق المال وإن ثبت نسب الآخر منه ضرورة
والله أعلم بالصواب.
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة
وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
رحمه الله إملاء اعلم بأن الإقرار خير متمثل
متردد بين الصدق والكذب فكان محتملا باعتبار
ظاهره والمحتمل لا يكون حجة ولكنه جعل حجة
بدليل معقول وهو أنه ظهر رجحان جانب الصدق على
جانب الكذب فيه لأنه غير متهم فيما يقر به على
نفسه ففي حق الغير ربما تحمله النفس الامارة
بالسوء على الإقرار به كاذبا وربما يمنعه عن
الاقرار بالصدق وفي حق نفسه النفس الامارة
بالسوء على الإقرار به كاذبا وربما ينفعه عن
الإقرار بالصدق وفي حق نفسه النفس الإمارة
بالسوء لا تحمله على الإقرار بالكذب وربما
يمنعه على الإقرار بالصدق فلظهور دليل الصدق
فيما يقر به على نفسه جعل إقراره حجة وإليه
أشار الله تعالى في قوله:
{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14]
ج / 17 ص -163-
قال بن عباس رضي الله عنهما أي شاهد بالحق
وادليل على أنه حجة شرعا قوله تعالى:
{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}[البقرة:282] البقرة 282 فأمر من عليه الحق بالإقرار بما عليه دليل
واضح على أنه حجة والنهي عن الكتمان في قوله
تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة:282] دليل على أن إراره حجة كما أن الله تعالى لما نهى عن
كتمان الشهادة كان ذلك دليلا على أن الشهادة
حجة في الأحكام ورجم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ماعزا رضي الله عنه حين أقر على نفسه
بالزنى وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العسف "واغد يا
أنيس إلى امرأة هذه فإن اعترفت فارجمها"
فيكون الإقرار حجة في الحدود التي تندرى ء
بالشبهات دليل على أنه حجة فيميا لا يندرى ء
بالشبهات بالطريق الأولى ثم الإقرار صحيح
بالمعلوم والمجهول بعد أن يكون المعلوم لأنه
إظهار لما عليه من الحق وقد يكون ما عليه
مجهولا فيصح إظهار بالمجهول كالمعدوم بخلاف
الشهادة فإن أداء الشهادة لا تكون إلا بعد
العلم بالمشهود به.
قال الله تعالى:
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] وقال صلى الله عليه وسلم للشاهد :"إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع" فمع الجهل لا حجة إلى الشهادة بل هو ممنوع عن أدائها فأما من عليه
الحق محتاج إلى إظهار ما عليه بإقراره معلوما
كان عنده أو مجهولا فقد يعلم أصلب الوجوب
ويجله قدر الواجب وصفته ولهذا صح إقراره
بالمجهول ولأن الشهادة لا توجب حقا إلا
بانضمام القضاء إليها والقاضي لا يتمكن من
القضاء إلا بالمعلوم فأما الإقرار موجب بنفسه
قبل اتصال القضاء به وإذا احتمل بالمجهول أمكن
إزالة الجهالة بالإجبار على البيان فلهذا صح
الإقرار ولهذا لا يعمل بالرجوع عن الإقرار
ويعمل بالرجوع عن الشهادة قبل اتصال القضاء
بها .
إذا عرفنا هذا فنقول رجل قال غصبت من فلان
شيئا فالإقرار صحيح ويلزمه ما بينة ولا بد من
تبيين أي شيء هو لأن الشيء حقيقة اسم لما هو
موجود مالا كان أو غيره إلا أن لفظ الغصب دليل
على المالية فيه فالغصب لا يرد إلا على ما هو
مال وما ثبت بدلالة اللفظ فهو كالملفوظ كقوله
اشتريت من فلان شيئا يكون إقرارا بشراء ما هو
مال لأن الشراء لا يتحقق إلا فيه ولا بد من أن
يبين ما لا يجري فيه التمانع بين الناس حتى لو
فسره بحبة حنطة لم يقبل ذلك منه لأن إقراره
بالغصب دليل على أنه كان ممنوعا منه من صاحبه
حتى غلب عليه فغصبه وهذا مما يجري فيه التمانه
فإذا تبين شيئا بهذه الصفة قبل بيانه لأن هذا
بيان مقرر لأصل كلامه وبيان التقرير صحيح
موصولا أو مفصولا فإن ساعده المقر على ما بينه
أخذ وإن ادعى غيره فالقول قول المقر مع يمينه
لأنه حرج عن موجب إقراره بما بين فإذا كذبه
المقر له فيه صار رادا إقراره بنفي دعواه شيئا
آخر عليه وهو لذلك منكر فالقول قوله مع يمينه
ويستوي إن بين شيئا يضمن بالغصب أو يضمن بعد
أن يكون بحيث يجري فيه التمانع حتى المغصوب
فالقول قوله مع يمينه وكذلك إن بين أن المغصوب
دار فالقول قوله وإن كانت الدار لا يضمن
بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله.
واختلف المشايخ رحمهم الله فيما إذا بين
المغصوب زوجته أو ولده الصغير فمنهم من
ج / 17 ص -164-
يقول بيانه مقبول لأنه موافق لمبهم كلامه فإن
لفظ الغصب يطلق على الزوج والولد عادة
والتمانع فيه يجري بين الناس أكثر مما يجري في
الأموال وأكثرهم على أنه لا يقبل بيانه بهذا
لأن حكم الغصب لا يتحقق إلا فيما هو مال
فبيانه ما ليس بمال يكون إنكار الحكم الغصب
بعد إقراره بسببه وذلك غير صحيح منه وفرق بين
هذا وبين الخلع فإن من خالع امرأته على ما في
بيتها من شيء فإنه ليس في البيت شيء كالخلع
مجازا وله أن يجعل تسمية الشيء فيه دليلا على
المالية بخلاف تسيمة المتاع لأن الخلع من
أسباب الفرقة والفرقة قد تكون بغير بدل في
العادة فلا يكون فيما صرح دليلا على المالية
في الشيء المذكور فأما الغصب لا يطلق في
العادة إلا فيما هو مال ولا يثبت حكمه شرعا
إلا فيما هو مال فالتنصيص عليه دليل على
المالية في الشيء المذكور والعصر قبل الخمر
كان مالا فسد تقومه بالتخمر شرعا وصار المسلم
ممنوعا من تموله من غير انعدام أصل المالية
فيه.
ألا ترى أنه بالتخلل يصير مالا متقوما وهو
ذلك الغير فلهذا صح بيانه ثم الخمر محل لحكم
الغصب ولهذا كان غاصب الخمر من الذمي ضامنا
لهذا قبل بيانه وكذلك لو أقر أنه غصب عبدا
فهذه الجهالة دون الأول لأن جنس المقر به صار
معلوما هنا ثم التوسع في الإقرار أكثر منه في
الخلع والصلح عن دم العمد والنكاح وتسمية
العبد مطلقا صحيح في هذه العقود ففي الإقرار
الأول أن في هذه العقود ينصرف إلى الوسط لأنه
عقد معاوضة فيجب النظر فيه من الجانبين وذلك
بتعين الوسط الذي هو فوق الوكس ودون الشطط
والإقرار لا يقابله شيء فلا يتعين فيه الوسط
بل يكون المقر فيه مقبولا إذا لم يخالف ما
يلفظ به سواء بين الرديء أو المعيب فاسم العبد
أولى.
توضيح الفرق أن الغصب فعل يستدعي محلا هو
مفعول به ولأن يستدعي صفة السلامة فيه ومن حيث
العادة أيضا ليس للغاصبين اختيار الوسط
والتسليم وإنما يغصب الغاصب ما يقدر عليه فأما
في عقود المعاوضات لها موجب شرعا في اقتضاء
صفة السلامة وكذلك للناس عادة في إيراد عقد
المعاوضة على التسليم دون المعيب فلهذا يصرف
مطلف العقد فيه إلى التسليم فإن كان العبد
الذي بعينه منصوبا في يده قائما رده وإن كان
هالكا فعليه قيمته لأن ضمان الأصل في الغصب رد
العين قال صلى الله عليه وسلم على اليد ما
أخذت حتى ترد وإنما يصار إلى القيمة عند عدم
رد العين ليكون خلفا عن الضمان الأصلي وسميت
قيمة لقيامها مقام العين فإن وقعت المنازعة
بينهما في مقدار القيمة فالقول قول المقر
لإنكاره الزيادة مع يمينه وكذلك لو أقر بغصب
شاة أو بقرة أو ثوب أو عرض وكذلك لو أقر أنه
غصبه دار فالقول قوله في تعيينها سواء عينها
في هذه البلدة أو في بلدة أخرى لأن الدار اسم
لما أدير عليه الحائط وذاك لا يختلف باختلاف
البلدان فكان بيانه مطابقا للفظه
ولو قال هي هذه الدار التي في يدي هذا الرجل
وذو اليد منكر يقول الدار داري فالقول في تلك
الدار قول ذي اليد لأن دعوى المقر أنها لغيره
كدعواه أنها له فلا يصدق في ذلك بغير
ج / 17 ص -165-
حجة لكنه خارج عن عهدة إقراره بما بين فإن
بيانه مطابق للفظه لأن ما في يد الغير مال محل
للغصب ثم لا يضمن المقر شيئا في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف الآخر وفي قول أبي يوسف الأول وهو
قول محمد رحمه الله يصير ضامنا لقيمتها لأنه
أقر ببعضها ومن أصل أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر
أن العقار لا يضمن بالغصب وهي مسألة معروفة في
كتاب الغصب ولو قال غصبته هذه الأمة أو هذا
العبد فادعاهما جميعا المقر له فإنه يقال
للغاصب قر بأيهما شئت وتخلفت عن الآخر لأنه
أدخل حرف أو في موضع الإثبات فيتناول بعض
المذكورين فإذا أقر بأحدهما خرج به عن عهدة
ذلك الإقرار وقد صدقه المقر له في ذلك حين
ادعاهما جميعا فيأخذ المقر له ذلك الشيء عينه
وتبقي دعواه الآخر في يده فيكون القول الآخر
قول المنكر مع يمينه.
وإن ادعى المقر له أحدهما بعينه لم يستحق ذلك
إذا زعم المقر أن المغصوب هو الآخر لأنه أقر
بغصب في منكر ولأن ادعاء المقر له معين
والمعين عند المنكر فلم يتناول إقراره هذا
المحل بعينه فلا يستحق به ثم هو بالتعيين قصد
إبطال حق البيان الثابت للمقر فإنه هو المبهم
ومن أبهم شيئا فإليه بيانه وهو لا يملك إبطال
الحق الثابت له فإن بين المقر الآخر صح بيانه
لأنه موافق لمبهم كلامه ولكن المقر له كذبه في
ذلك والإقرار يرتد بالرد فيبطل إقراره به بنفي
دعوى المقر له الآخر عليه وهو جاحد فالقول
قوله مع يمينه ولو أقر أنه غصب هذا العبد من
هذا أو من هذا وكل واحد منهما يدعيه فإن
اصطلحا على أخذه أخذه وإن لم يصطلحا استحلف كل
واحد منهما أو لا نقول فرق بين هذا والأول
فقال هناك يقال له قر بأيهما شئت واحلف على
الآخر وهنا لا يقال له قر لأيهما شئت وأحلف
للآخر لأن هناك الإقرار صحيح ملزم فإن المستحق
معلوم إنما الجهالة في المستحق فيمكن إجباره
على البيان لما صح إقراره وهنا إقرار غير صحيح
لأن المقر له مجهول وجهالة المقر له تمنع صحة
الإقرار لأن الحق لا يثبت للمجهول ولأن
المغصوب عند الغصب قد بينه حاله على الغاصب
أنه عبد أو أمة ولكن المغصوب منه لا يشتبه
عليه عادة فلم يكن إقراره للمجهول حجة تامة في
الاستحقاق حتى يجبر على البيان ولكنهما إن
اصطلحا على أن يأخذه أمر بالتسليم إليهما لأن
المغصوب جهالة من يجب عليه تسليمه إليه وقد
يزال ذلك باصطلاحهما فإن أحدهما مالك والآخر
نائب عنه وكما يؤمر الغاصب بالرد على نائبه
ولأنه كان مقرى أنه لا حق له في العبد منهما
فإن الحق فيه لا يعدوهما وإنما لم يصح إقراره
في التزام التسليم إلى أحدهما بعينه فلا يجبر
على البيان لأن ذلك غير ثابت بإقراره فإذا
اصطلحا فقد ثبت بإقراره أن المستحق منهما
يأمره بالتسليم إليه فإن لم يصطلحا استحلف لكل
واحد منهما بعينه لأن كل واحد منهما يدعي الحق
لنفسه عينا وهو لم يقر بذلك وإنما أقر لمنكر
منهما والمنكر في حق المعين كالمعدوم وللقاضي
الخيار في البداية بالاستحلاف لأيهما شاء وقيل
هذا بالاستحلاف لمن سبق بالدعوى وقيل يقرع
بينهما تطمينا لقلوبهما فإن نكل عن اليمين
أحدهما يأمره بالتسليم إليه ما لم يحلفه الآخر
بخلاف ما إذا أقر لأحدهما
ج / 17 ص -166-
بعينه فإنه يأمره بالتسليم إليه لأن الإقرار
موجب الحق لنفسه فأما النكول لا يوجب الحق إلا
بقضاء القاضي والقاضي لا يقضي إلا بعد النظر
لكل قسم ومن حجة الآخر أن يقول القاضي إنما
نكل له لأنك بدأت بالاستحلاف له ولو بدأت
بالاستحلاف لي لكان ينكل لي وفي الإقرار لا
يمكن الآخر أن يحتج بمثل هذا.
وقد زعم أن المقر له أحق بالعين منه فيأمره
بالتسليم إليه فإن حلف لأحدهما ونكل للآخر قضى
القاضي به للذي يحل له لأنه حق من حلف له وقد
انتفى يمينه ما لم يأت بحجة ولا حجة له ونكوله
في حق الآخر قائم مقام إقراره فيأمره بالتسليم
إليه وإن نكل لهما قضي القاضي بالعبد بينهما
وبقيمته أيضا بينهما لأن بنكوله صار عقرا له
وغصب من كل واحد منهما جميعه وما لو قدر إلا
على النصف يرده على كل واحد منهما وليس أحدهما
أولى به من الآخر فيلزمه رد نصف القيمة على كل
واحد منهما اعتبارا للجزء بالكل إذا تعذر رده
ولو حلف لهما لم يكن لهما عليه شيء لأن حق كل
واحد منهما قد انتفى بيمينه إلى أن يجد الحجة
فإن أراد أن يصطلحا بعد ذلك لم يكن لهما ذلك
في قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وكان يقول
أولا لهما ذلك وهو قول محمد رحمه الله .
وجه قوله الأول أن حق الأخذ عند الاصطلاح ثبت
لهما بهذا الإقرار بدليل أنهما لو اصطلحا قبل
الاستحلاف فإن لهما أن يأخذاه والحق الثابت
بالإقرار لا يبطل باليمين والمعنى الذي فات
لهما أن يأخذاه قبل الاستحلاف إذا اصطلحا على
أن أحدهما مالك والآخر نائب عنه وهذا موجود
بالاستحلاف ولأن الاستحلاف هو غير محل للإقرار
لأن الإقرار كان لأحدهما بغير عينه والاستحلاف
كان استحقاق كل واحد منهما بعينه فلا يتغير به
حكم ذلك الإقرار فالقاضي يتيقن أنه صادق في
يمينه أو كاذب ولا تأخير لليمين الكاذبة في
إبطال الاستحقاق وجه قول أبي يوسف الآخر رحمه
الله أن يمين المقر يبطل حق من حلف له كما لو
حلف لأحدهما يبطل حقه ومزاحمته ثم التفقه فيه
من وجهين أحدهما أن أصل الإقرار وقع فاسدا
لجهالة المقر له لما بينا أن الغصب يوجب رد
العين والمستحق للرد عليه بهذا الإقرار غير
معلوم أو كان الإقرار فاسدا ولكن أراد منعه
العباد برفع المفسد بالاصطلاح ممكن فإن أزال
ذلك قبل تقرر الفساد صح الإقرار وأمر بالتسليم
إليهما وإن تقرر الفساد بقضاء القاضي لا يمكن
إزالته بعد ذلك برفع كالبيع الفاسد بخيار
مجهول أو بعمل مجهول إذا تقررت صفة الفساد
بالقضاء وهنا لما استحلفه القاضي لكل واحد
منهما فقد حكم بفساد ذلك الإقرار فلا ينقلب
صحيحا بعد ذلك باصطلاحهما .
الثاني: أن لكل واحد منهما لما طلب يمينه فقد عاملة المنكرين فصار راد
الإقرار يرتد برد المقر له فلم يبق لهما حق
الاصطلاح بعد ذلك بخلاف ما قبل الاستحلاف
والثابت بالإقرار أحد الأمرين إما الاصطلاح أو
الاستحلاف فكما لو أقر على الاصطلاح كانا
قابلين لإقراره فلا يبقى لهما حق الاستحلاف
بعد ذلك فكذلك لو أقر على الاستحلاف كانا
رادين
ج / 17 ص -167-
لإقراره فلا يبقى لهما حق الاصطلاح بعد ذلك
وقوله الاستحلاف في غير محل لإقراره قلنا محل
الإقرار لا يعدوهما فإذا وجد الاستحلاف منهما
فقد تيقن بوجوده ممن وقع الإقرار له فكان ذلك
مبطلا لحق الإقرار ولو قال غصبت العبد من هذا
لا بل من هذا فهو للأول وللآخر قيمته لأن كلمة
لا بل للاستدراك بالرجوع عن الأول وإقامة
الثاني مقامه إثبات والرجوع عما أقر به للأول
باطل وإثبات ما أقر به للأول في حق الثاني
صحيح فيبقى العبد مستحقا للأول بصدر كلامه وقد
صار مقرى ببعضه من الثاني وهو عاجز عن رد عينه
حين سلمه إلى الأول بحكم الحاكم فكان عليه
للثاني قيمته والدليل على أن كلمة لا بل
موضوعة لما قلنا مثل قول الرجل جاءني زيد لا
بل عمر ويفهم منه الأخبار بمجيء زيد وهو بخلاف
ما لو قال هذا العبد لفلان بل لفلان حيث يؤمر
بتسليمه إلى الأول ولا شيء للثاني عليه لأنه
ما أقر على نفسه بفعل موجب للضمان في حق
الثاني إنما شهد له بالملك فيما صار مملوكا
لغيره بصدر كلامه والشاهد بالملك إذا أردت
شهادته لم يضمن شيئا وهنا أقر بغصبه من الثاني
وهو فعل موجب للضمان عليه وإذا أقر بغصب شيء
من الأشياء كائنا ما كان من قريب أو بعيد صغير
أو كبير مسلم أو كافر أو مرتد أو مستأمن أو حر
أو عبد محجور عليه أو تاجر فهو ضامن له في
جميع ذلك إن كان فائتا وإن كان قائما رده إلى
الذي أخذه منه صغيرا كان المغتصب منه أو كبيرا
لأن رد المغصوب يفسخ من الغاصب لفعله فيه
وحقيقة انفساخ فعله برده على من أخذه منه
فكانت جنايته بإزالة يد محترمة للغير في هذه
العين وإثبات اليد في نفسه فإذا أعاده إلى من
أخذه منه فقد صار به معيدا لما أخذ.
ألا ترى أن من أخذ منه خصم له في الاسترداد
فيبرأ بالرد عليه على أي صفة كانت وهو نظير من
انتزع خاتما من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه
قبل أن ينتبه بريء منه لأنه أعاده كما كان
بخلاف ما إذا انتبه ثم نام ثانيا لأنه لما
انتبه وجب عليه رده على المنتبه فلا يبرأ بعد
ذلك بإعادته إلى أصبع النائم كما لو غصبه وهو
منتبه ثم جعله في أصبعه في حال نومه قال خلا
الولد الصغير مع أبيه الغني فلأن الأب فيما
يأخذ من مال ولده الصغير لا يكون غاصبا ولكنه
إن كان محتاجا إليه فله أن يأخذه ليصرفه إلى
حاجته وإن لم يكن محتاجا فله أن يأخذه لحفظه
له فلا يلزمه رده على الصبي حتى يبلغ ولا يكون
جانيا في حقه إلا أن يستهلكه من غير حاجة
فحينئذ يكون ضامنا له وكذلك وصي الصغير فيما
يأخذ من ماله لا يكون غاصبا لأن ولاية الأخذ
لحفظه ثابتة وإن غصب المولى من مكاتبه أو عبده
المأذون المديون فهو يرده أو الضمان عند هلاكه
لأنه ممنوع من أخذه أما كسب المكاتب صار أحق
به وصار المكاتب كالحر يدا في مكاسبه.
فإذا أبق به عليه صار ضامنا وأما العبد
المديون لأن كسبه حق غرمائه والمولى ممنوع من
أخذه ما لم يسقط الدين فكان ضامنا وإن لم يكن
على العبد دين فكسبه خالص حق المولى فلا يكون
هو في أخذه منه غاصبا وكذلك يغصب من مولاه
لأنه لا حق له في مال المولى وله ذمة معتبرة
في إيجاب الدين لمولاه فيكون ضامنا غصبه منه
والعبد فيما يغصب
ج / 17 ص -168-
من مولاه مأمور بالرد عليه ولكنه غير ضامن لأن
للعبد ذمة معتبرة في إيجاب الدين فيها للمولى
فإن الدين لا يجب على العبد إلا شاغلا مالية
رقبته ومالية حق مولاه ولو قال غصبتك هذا
العبد أمس إن شاء الله تعالى لم يلزمه شيء
استحسانا وفي القياس استثناؤه باطل لأن ذكر
الاستثناء بمنزلة الشرط وذلك إنما يصح في
الإنشآت دون الإخبارات ولكنه استحسن فقال
الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة إلا
أن يكون في معنى الشرط فإن الله تعالى أخبر عن
موسى عليه السلام حيث قال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:69] ولم يصبر على ذلك والوعد من الأنبياء عليهم السلام
كالعهد من غيرهم فدل أن الاستثناء مخرج للكلام
من أن يكون عزيمة.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"من استثنى فله ثنياه"
والإقرار لا يكون ملزما إلا كلام هو عزيمة لكن
إنما يعمل هذا الاستثناء إذا كان موصولا
بالكلام لا إذا كان مفصولا إلا على قول بن
عباس رضي الله عنه فإنه قال يعمل بالاستثناء
وإن كان مفصولا استدلالا بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"والله لأغزون قريشا"
ثم قال
بعد سنة:
"إن شاء الله تعالى" ولنا نقول الاستثناء مخرج لكلامه من أن يكون عزيمة فكان مغيرا
لموجب مطلق الكلام والتعبير إنما يصح موصولا
بالكلام لا مفصولا فإنه بمنزلة الفسخ والتبديل
والمقر لا يملك ذلك في إقراره فكذلك لا يملك
الاستثناء المفصول وهذا بخلاف الرجوع من
الإقرار فإنه لا يصح وإن كان موصولا لأن رجوعه
نفي لما أثبته فكان تناقضا منه والتناقض لا
يصح مفصولا كان أو موصولا أما هذا بيان فيه
تعبير فإن الكلام نوعان لغو وعزيمة
فبالاستثناء تبين أن كلامه ليس بعزيمة وبيان
التعبير يصح موصولا لا مفصولا بمنزلة التعليق
بالشرط فإنه متبين إن صدر كلامه لم يكن إيقاعا
بعد أن كان ظاهرا مقتضيا للإيقاع فصح ذلك
موصولا لا مفصولا وأما الحديث قلنا قوله صلى
الله عليه وسلم :"بعد سنة
إن شاء الله تعالى"
لم يكن على
وجه الاستثناء إنما كان على وجه الامتثال لما
أمر به قال الله تعالى:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
[الكهف:24] ولو قال غصبتك هذا العبد أمس إلا نصفه صدق فيه لأن
الكلام إذا قيد بالاستثناء يصير عبارة عما
وراء المستثنى لا أن يكون رجوعا عن القدر
المستثنى قال الله تعالى:
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] معناه تسعمائة وخمسين فأما لو جعلناه في معنى الرجوع
كان ذلك قولا بالغلط فما أخبر الله تعالى به
حتى تداركه بالاستثناء وذلك لا يجوز ثم هذا
بيان فيه تعبير لأن صدر كلامه إقرار بغصب ما
سمي عبدا وبالاستثناء تبين أن المغصوب لم يكن
عبدا فلما كان تعبيرا صح موصولا لا مفصولا
وكذلك لو قال إلا ملبسه إلا على قول القرار
رحمه الله فإنه لا يجوز استثناء الأكثر مما
تكلم به لأن العرب لم تتكلم بذلك ولكنا نجوزه
استدلالا بقوله تعالى:
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً}[المزمل:2-3]
ولأن طريق صحة الاستثناء أن يجعل عبارة عما
وراء المستثنى ولا فرق بين الاستثناء في الأقل
والأكثر وإن لم تتكلم به العرب لم يمتنع صحته
إن كان موافقا لطريقهم كاستثناء الكسور لم
تتكلم به العرب وكان صحيحا.
ولو قال: إلا العبد كله كان الاستثناء باطلا لأنه لا يمكن تصحيحه بأن جعل
عبارة عما
ج / 17 ص -169-
وراء المستثني، فإنه لا يبقى وراء المستثني
شيء فكان هذا رجوعا لا استثناء والرجوع عن
الإقرار باطل موصولا كان أو مفصولا ولو قال
غصبتك كذا وكذا فهو إقرار بغصبهما فإن حرف
الواو للعطف والعطف للاشتراك بين المعطوف
والمعطوف عليه في الخبر فيقول الرجل جاءني زيد
وعمر فيكون إخبارا بمجيئهما فإذا قال غصبته
عبدا أو جارية كان إقرارا بغصبهما لأنه خبر
المذكور أو لأنه مغصوب ولم يذكر للثاني خبر
يستقل به فكان الخبر الأول خبر له وكذا خبر أن
يقول دابة مع سرجها لأن كلمة مع للقران فقد
قرن بينهما في الإقرار بفعل الغصب فيهما إذ لا
تتحقق المقارنة منه إلا في هذا.
وكذلك لو قال: كذا بكذا نحو أن يقول غصبته فرسا بلجامه أو عبدا بمنديله فهو
إقرار بغصبهما لأن الباء للإلصاق فيصير هو
ملصقا الثاني بالأول فيما أخبر به من فعل
الغصب ويكون مبنيا أن عند غصبه كان اللجام
ملصقا بالدابة ولن يتحقق الإلصاق إلا بعد أن
يكون غاصبا لهما وكذلك لو قال كذا فكذا نحو أن
يقول غصبت عبدا فجارية فإن الفاء للوصل وفيه
معنى العطف على سبيل التعقيب ولن تتحقق هذه
المعاني إلا بعد أن كان غاصبا لهما وكذلك لو
قال كذا وعليه كذا نحو أن يقول غصبته دابة
عليها سرجها لأنه جعل المغصوب محلا لما ذكره
آخرا فيقتضي أن يكون غاصبا لهما وإن قال كذا
من كذا بأن قال غصبت منديلا من غلامه أو سرجا
من دابته كان إقرارا بالغصب في الأول خاصة لأن
كلمة من للتبعيض فإنه يفهم منه الانتزاع فعلى
أنه انتزع ما أقر بغصبه أولا من ملكه .
ألا ترى أنه يقول منديلا من رأسه أو ثوبا من
بدنه فلا يفهم الإقرار بغصب الثوب والمنديل
وكذلك لو قال كذا علي يجوز أن يقول غصبته
إكافا على حماره فيكون إقرارا بغصب الإكاف
خاصة والحمار مذكور لبيان محل المغصوب حين
أخذه وغصب الشيء من محللا يكون مقتضيا غصب
المحل ولو قال كذا في كذا وإن كان الثاني مما
يكون وعاء للأول كالماء نحو ثوب في منديل أو
طعام في سفينة وما أشبه ذلك لأن في حقيقة
للظرف فهو مخبر بأن الثاني كان ظرفا للأول مع
غصبه ولن يكون ذلك إلا إذا كان غصبه لهما
وكذلك قوله تمرا في قوصرة أو حنطة في جوالق
وإن كان الثاني هما لا يكون وعاء للأول نحو
قوله غصبتك درهمين في درهم لم يلزمه الثاني
لأنه غير صالح أن يكون ظرفا لما أقر بغصبه
أولا فلغى آخر كلامه.
فإن قيل كان ينبغي أن يجعل حرف في بمعنى حرف
مع لأن الكلام معمول بمجازه عند تعذر العمل
بحقيقته قال الله تعالى:
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}
[الفجر:29] قلنا إذا آل الأمر إلى المجاز فكما
يحتمل معنى مع يحتمل معنى علي قال الله تعالى:
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}
[طـه:71] أي على جذوع النخل فإن حمل عليه لم
يلزم الثاني وإن حمل على معنى مع لزمه والذمة
في الأصل بريئة فلا يجوز شغلها بالشك وإن كان
الثاني مما يكون الأول وسطه نحو
ج / 17 ص -170-
أن يقول غصبتك ثوبا في عشرة أثواب لم يلزمه
إلا ثوب واحد في قول أبي يوسف وهو قول أبي
حنيفة رحمهما الله ويلزمه في قول محمد رحمه
الله أحد عشر ثوبا.
وجه قول محمد رحمه الله: أن العشرة قد تكون وعاء للثوب الواحد فإن الثوب النفيس قد يلف
عادة في الثياب فكان هذا بمنزلة قوله حنطة في
جوالق أو يحمل كلامه على التقديم والتأخير
فيصير كأنه قال عشرة أثواب في ثوب والثوب
الواحد يكون وعاء للعشرة فوجب العمل بما صرح
به بحسب الإمكان وعلل لأبي يوسف رحمه الله في
الجواب وقال إن العشرة لا تكون وعاء معناه أن
الوعاء غير الموعا والثوب إذا لف في ثياب فكل
ثوب يكون موعا في حق ما وراءه فلا يكون وعاء
إلا الثوب الذي هو ثوب ظاهر فإذا كان لا يتحقق
كون العشرة وعاء للثوب الواحد كان آخر كلامه
لغوا وحمله على التقديم والتأخير لا معنى له
فإنه اشتغال بإيجاب المال في ذمته بالمحتمل
وبتأويل هو مخالف للظاهر وذلك لا يجوز ولو قال
غصبته كرباسا في عشرة أثواب حرير عند محمد
رحمه الله يلزمه الكرباس وعشرة أثواب حرير لأن
الحرير لا يجعل وعاء للكرابيس عادة ولو قال
غصبتك طعاما في بيت كان هذا بمنزلة قوله طعاما
في سفينة لأن البيت قد يكون وعاء للطعام فيكون
إقرارا بغصب البيت والطعام إلا أن الطعام يدخل
في ضمانة بالغصب والبيت لا يدخل في ضمانه في
قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لأنه مما لا
ينقل ولا يحول والغصب الموجب للضمان لا يكون
إلا بالنقل والتحويل وإن قال لم أحول الطعام
من موضعه لم يصدق في ذلك لأنه أقر بغصب تام
وفي الطعام يتحقق ذلك بالنقل والتحويل فكان هو
في قوله لم أنقله راجعا عما أقر به فلم يصدق
وكان ضامنا للطعام .
وفي قول محمد رحمه الله هو ضامن للبيت أيضا
ومسئلة غصب العقار معروفة ولو قال غصبته يوما
ورددته عليه لم يصدق على الرد وإن كان كلام
موصول لأنه ليس إلى بيان صدر الكلام بل هو
دعوى مبتدأ أي أوفيته ما لزمني من ضمان الغصب
وإقراره صحيح فأما دعواه بغير حجة لا تكون
صحيحة ولكن القول قول المنكر للرد كالمقر
بالدين إذا ادعى الإيفاء والإبراء كلام موصول
ولو قال غصبته ثوبا من عينه أو تمرا من قوصرة
أو طعاما من بيت أو ظهر دابة ضمن التمر والثوب
والطعام خاصة لما بينا أن آخر كلامه كان لبيان
أن انتزاع المغصوب كان بين هذا فهو بمنزلة
قوله غصبته ثوبا من يده يكون إقراره بالغصب في
الثوب دون يده فكذلك ما سبق والله أعلم
باب إقرار المفاوضة بالدين
قال رحمه الله: وإذا أقر أحد المتفاوضين بدين في مرض موته من تجارتهما يوحد شريكه
به في الحال. وفيه طريقان لنا أحدهما أن
المتفاوضين في حقوق التجارة صارا بمنزلة شخص
واحد ومباشرة أحدهما سبب وجوب الدين
كمباشرتهما والإقرار من باب التجارة فوجوده من
أحدهما كوجوده منهما والأصح أن يقول وجوب
الدين بمباشرة السبب على من
ج / 17 ص -171-
باشره ولكن الشريك مطالب به بسبب التحمل
الثابت بمقتضي صدر المفاوضة بينهما لأن عقد
المفاوضة يقتضي الوكالة العامة والكفالة
العامة لكل واحد منهما عن صاحبه في ديون
التجارة فإنها تقتضي المساواة بهذا فالمفاوض
المقر وإن كان مريضا فقد وجب عليه الدين
بإقراره حتى إذا لم يكن عليه دين في الصحة كان
مطالبا به في الحال وإن كان عليه دين في الصحة
فحق غريم الصحة مقدم ولكن حق المقر له في
المرض ثابت أيضا حتى إذا فرغت التركة من حق
غريم الصحة صرف المقر له في المرض وإذا ثبت
الوجوب في حق المقر صار الشريك مطالبا به بحكم
الكفالة وتأخره في حق المقر لمكان دين الصحة
لا يوجب التأخير في الشريك كالعبد المحجور يقر
على نفسه بدين ويكفل البيان عنه يؤاخذ الكفيل
في الحال به وإن كان مؤخرا في حق الأصل إلى ما
بعد العتق وهذا لا تأجيل في أصل المال إنما
التأخير لضرورة انعدام محل القضاء ولا ضرورة
في حق الكفيل فيكون مطالبا في الحال بإيفائه
ولو كان المفاوض المريض أقر لوارثه بدين لم
يلزم شريكه.
وبهذا تبين أن الصحيح هو الطريق الثاني دون
الأول فإنه لو جعل إقرار أحدهما لصار الشريك
الآخر مطالبا بالمال هنا ولكن إقرار المريض
لوارثه باطل فلم يجب به المال في ذمة المقر
والوجوب على الشريك بحكم الكفالة فإذا لم يكن
المال واجبا على الأصيل لا يجب على الكفيل
خلاف الأول فإن إقراره للأجنبي صحيح وإن كان
مؤخرا عن حق غرماء الصحة فوجب به المال على
الأصيل وصار الكفيل مطالبا به بحكم الكفالة
وكذلك لو كفل لوارثه بشيء لأن كفالة المريض
لوارثه باطلة غير موجبة المال عليه فأما إذا
كفل للأجنبي فعند أبي حنيفة رحمه الله يؤاخذ
به شريكه سواء كفل بأمر الأصيل أو بغير أمره
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يؤاخذ
الشريك به وكذلك إن أقر أحد المتفاوضين بكفالة
في صحته أو مرضه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله
يؤاخذ به شريكه وعندهما لا يؤاخذ بشيء من ذلك.
حجتهما أن دين الكفالة ليس من دين التجارة لأن
سببه لا ينزع ما هو تبرع ألا ترى أنه لو حصل
من المريض كان معتبرا من الثلث ولو حصل من
العبد المأذون والمكاتب لم يكن صحيحا وما وجب
على أحد المتفاوضين لا بجهة التجارة لا يكون
شريكه مطالبا به كما يجب من مهر امرأته وأرش
الجناية بجنايته وكلامهما يتضح في الكفالة
بغير الأصل فإنه تبرع محض حتى لا يستوجب
الكفيل الرجوع على الأصيل عند الأداء ولأبي
حنيفة رحمه الله طريقان الأول أن هذا الدين
وجب بما هو من متضمنات عقد المفاوضة فيكون
الشريك مطالبا به كالواجب بطريق الوكالة إذا
توكل أحدهما عن الغير بالشراء وبيانه فيما
قلنا أن عقد المفاوضة يقتضي الوكالة العامة
والكفالة العامة وبهذا تبين أنه من جنس
التجارة لأن عقد المفاوضة يتضمن ما هو من جنس
التجارة الثاني أن في الكفالة معنى البيوع في
الابتداء ولكنه مفاوضة أيهما خصوصا في الكفالة
بالأمر فإنه يرجع بما يؤدي إلى الأصيل ففي حق
العبد المأذون والمكاتب والمريض اعتبرنا معنى
التبرع فيه في الابتداء فلم يكن صحيحا وفي
ج / 17 ص -172-
حق المفاوض اعتبرنا معنى المفاوضة في الانتهاء
لأنه صحيح في حق من باشر سببه فإذا صح انقلبت
مفاوضة فعند صيرورة الشريك الآخر مطالبا له في
الحال وتأخر في حق المريض عن حق غرماء الصحة
لأن إقرار الشريك عليه لا يكون العبد من
إقراره بنفسه وهو لو أقر بنفسه تأخر عن حق
غرماء الصحة فكذلك ما لزم بإقرار شريكه أو
يجعل هذا كإقرارهما جميعا.
فإن قيل: كان ينبغي أن يكون هذا في حق المريض
من ثلث ماله لأن الوجوب عليه كان لسبب الكفالة
عن شريكه وكفالة المريض معتبرة من ثلثه قلنا
هذا إذا لو كانت مباشرة الكفالة في المرض وهنا
الكفالة بمقتضى عقد المفاوضة فإنما كان في حال
الصحة فالوجود وإن حصل في حالة المرض لما كان
سببه موجودا في حال الصحة فالواجب كان معتبرا
من جميع ماله فإن قيل إذا كان سببه في حال
الصحة ينبغي أن لا يتأخر عن حق غرماء الصحة
قلنا وجوب الدين عليه بذلك السبب إنما حصل في
المرض فكان ذلك مزيد المرض لهذا المريض ولأن
إقرار الغير عليه لا يكون أبعد من إقراره على
نفسه ولو أقر الصحيح لوارث المريض بدين لزم
الصحيح كله دون المريض لأن إقرار الصحيح في حق
المريض كإقراره بنفسه وإقراره لوارثه باطل
فكذلك إقرار الصحيح في حقه وليس من ضرورة
امتناع وجوب المال على الكفيل أن لا يجب على
الأصيل فلهذا وجب المال على الصحيح .
فإن قيل: إقرار المريض لوارثه إنما لا يصح لتهمة الإيثار وهو غير موجود في
حق إقرار شريكه قلنا ليس كذلك بل يتمكن تهمة
المواضعة هنا من حيث إنه لما علم أن إقراره
لوارثه بنفسه لا يصح لشريكه لتقربه له ثم
يستوفي من مال المريض فليمكن هذه التهمة قلنا
لا يصح الإقرار في حق المريض ولا تهمة في ما
يقر له الشريك على نفسه في حقه فكان هو مطالبا
بالمال ولو كان المفاوض قال لرجل ما ذاب لك
على فلان فهو على أو ما وجب لك عليه أو ما قضي
لك عليه ثم مرض ثم أقر فلان بألف درهم لذلك
الرجل وقضي بها له عليه لزم المريض ذلك من
جميع المال لأن وجوب هذا المال عليه وإن كان
بطريق الكفالة ولكن صح سببه في حال الصحة ولزم
حتى لو أراد الرجوع عنه لم يملك ذلك فكان
بمنزلة سائر الديون في كونه معتبرا من جميع
المال ألا ترى أن الصحيح لو ضمن الدرك عن رجل
في دار باعها ثم مرض فلزم الدرك كان مطالبا من
جميع المال لأن سببه لزم في حال الصحة على وجه
لا يمكنه الرجوع عنه فكان معتبرا من جميع
المال لأن سببه لزم في حال الصحة هنا لأن
الوجوب مستند إلى سببه ولما تم السبب هنا
ولزمه في حال الصحة استند حكم الوجوب إليه
فلهذا كان مزاحما لغرماء الصحة والله أعلم
بالصواب.
باب الإقرار لما في البطن
قال رضي الله عنه: الإقرار لما في البطن على ثلاثة أوجه أحدها أن يبين سببا صالحا
مستقيما بأن يقول لما في بطن فلانة علي ألف
درهم من جهة ميراث ورثه عن أبيه فاستهلكته أو
وصية أوصى بما له فاستهلكته فهذا صحيح لأنه
بين سببا مستقيما لو عاينه حكمنا بوجوب
ج / 17 ص -173-
المال عليه فكذلك إذا ثبت بإقراره هذا لأن هذا
الإقرار في الحقيقة للمورث والموصي فإن المال
منفي على حقه ما لم يصرفه إلى وارثه أو إلى من
أوصى له به وكذلك المورث والموصي من أهل
الإقرار له فهو نظير ما لو قال لدابة فلان علي
ألف درهم أوصى له بالعلف فاستهلكته ثم إن ولدت
ولدا حيا فالمقر به له وإن ولدته ميتا فالمال
مردود على ورثة الميت والموصي وإن جاءت بولدين
أحدهما ذكر والآخر أنثى ففي الوصية يقسم
بينهما نصفين وفي الميراث يكون بينهما
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[النساء:11] لأن قول المقر في بيان السبب مقبولا وهذا إذا وضعته
لأقل من ستة أشهر من حين مات الموصي والمورث
حتى علم أنه كان موجودا في ذلك الوقت وإن
وضعته لأكثر من ستة أشهر لم يستحق شيئا إلا أن
تكون المرأة معتدة فحينئذ إذا جاءت بالولد
لأقل من سنتين حتى حكم بثبوت السبب في ذلك
حكما بوجوده في البطن حين مات الموصي والمورث.
الوجه الثاني أن يبين سببا بمستحيل بأن يقول
لما في بطن فلانة علي ألف درهم ثمن بيع بايعته
أو قرض أقرضته فهذا باطل لأن المبايعة
والإقراض لا يتصور من الجنين حقيقة ولا حكما
أما الحقيقة فلا يشكل وأما الحكم فلأنه لا
ولاية لأحد على الجنين حتى يكون تصرفه بمنزلة
تصرف الجنين فيصير مضافا إليه من هذا الوجه
وإذا كان ما سببه من السبب محالا صار كلامه
لغوا فلا يلزمه شيء فإن قيل هذا يكون رجوعا عن
إقراره بإذن والرجوع عن الإقرار لا يصح وإن
كان موصولا قلنا لا كذلك بل هو بيان السبب
محتمل فقد نسبه على الجاهل فيظن أن الجنين
يثبت عليه الولاية كالمنفصل فيعامله ثم يقر
بذلك المال للجنين بناء على ظنه وتبين سببه ثم
يعلم أن ذلك السبب كان باطلا فكان كلامه بيانا
لا رجوعا فلهذا كان مقبولا منه والثالث أن يقر
للجنين بمال مطلق من دين أو عين فيقول لما في
بطن فلانة علي ألف درهم أو هذا العين ملك لما
في بطن فلانة فولدت لمدة يعلم أنه كان في
البطن وقت الإقرار فالإقرار باطل في قول أبي
يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله الإقرار
صحيح.
وجه قول محمد أن مطلق كلام العاقل محمول على
الصحة ما أمكن لأن عقله ودينه يدعو به إلى
التكلم بما هو صحيح لا بما هو لغو فيجعل مطلق
إقراره صحيحا بمنزلة ما لو بين سببا صحيحا
لإقرارهما وهذا لأن الإقرار حجة مهما أمكن
إعماله لا يجوز إبطاله والجنين جعل في حكم
المنفصل حتى يصح الإقرار سببه ويصح إعتاقه
والإقرار يعتقه ويرث ويوصي له فكما أن الإقرار
للمنفصل بالمال مطلقا يكون إقرارا صحيحا فكذلك
الإقرار به للحنين ولأبي يوسف رحمه الله أن
مطلق الإقرار بالمال محمول على الالتزام
بالعقد فكأنه أقر به وهذا لأن دينه وعقله
يمنعانه من الاستهلاك ويدعو به إلى الالتزام
بالعقد فيجب حمل مطلق إقراره عليه.
ألا ترى أن أحد المتفاوضين إذا أقر بمال مطلق
يلزم شريكه والعبد المأذون إذا أقر بالمال
مطلقا يصح إقراره ويؤخذ به في الحال وكان ذلك
باعتبار حمل مطلق الإقرار على جهة التجارة
فكذلك هنا يحمل مطلق إقراره على جهة التجارة
فكأنه بين جهة التجارة ولأن الإقرار ابتداء
هنا
ج / 17 ص -174-
يقع للجنين وهو ليس من أهل أن يثبت له حق
ابتداء ما لم ينفصل ولهذا لا يلي عليه أحد
لأنه ما دام مختبئا في البطن فهو في حكم
الإجراء والأبعاض فأما العتق والوصية مما
يحتمل التعليق بالشرط فيجعل كالمضاف إلى ما
بعد الانفصال والإقرار بالسبب ليس بإيجاب حق
له ابتداء بل إخبار بأنه علق من مائه والإقرار
باستهلاك ميراث أو وصية له لا يكون إيجابا
للجنين ابتداء بل يكون إقرار للمورث والموصي
ثم ينتقل إليه بسبب الإرث والوصية إن انفصل
حيا أما هذا إيجاب الحق للجنين ابتداء وهو ليس
بأهل لذلك فلهذا بطل إقراره والله أعلم .
باب الخيار
قال رحمه الله: رجل أقر لرجل بدين من قرض أو غصب أو وديعة أو عارية قائمة أو
مستهلكة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فالإقرار
جائز والخيار باطل أما جواز الإقرار فلوجود
الصيغة الملزمة بقوله علي أو عندي لفلان وأما
الخيار فباطل لأن الإقرار باطل إن اختار ولا
يليق به الخيار لأن الخبر إن كان صادقا فصدق
اختاره أو لم يختره وإن كان كذبا لم يتعين
باختياره وعدم اختياره وإنما ما يبر يشترط
الخيار في العقود بالشرط ليتغير به صفة العقد
ويتخير من له بين فسخه وإمضائه ولأن الخيار في
معنى التعليق بالشرط فما دخل عليه وهو حكم
العقد والإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط فكذلك
لا يحتمل اشتراط الخيار إلا أن التعليق يدخل
على أصل السبب فمنع كون الكلام إقرارا والخيار
يدخل على حكم السبب فإذا لغى بقي حكم الإقرار
وهو اللزوم ثانيا وهذا كما أن التعليق بالشرط
يمنع وقوع الطلاق واشتراط الخيار لا يمنعه
ويستوي إن صدقه صاحبه في الخيار أو كذبه وهذا
بخلاف ما إذا أقر بدين من ثمن بيع على أنه فيه
بالخيار ثلاثة أيام فإن هناك يثبت الخيار إذا
صدقه صاحبه لأن سبب الوجوب عقد يقبل الخيار
فإذا تصادقا عليه صار ذلك كالمعاين في حقهما
وإن كذبه صاحبه لم يثبت الخيار لأن مقتضى مطلق
البيع اللزوم فمن ادعى عدوة معتبرة باشتراط
الخيار فيه لا يقبل قوله إلا بحجة فأما ما سبب
وجوب المال فعلا من فرض أو غصب أو استهلاك
وذلك لا يليق به الخيار ولو عاين اشتراط
الخيار فيه كان لغوا فلهذا لم يثبت وإن تصادقا
عليه وإن أقر بالدين من كفالة على شرط مدة
معلومة طويلة أو قصيرة فإن صدقه المقر له فهو
كما قال والخيار ثابت له إلى آخر المدة لأن
الكفالة عقد يصح اشتراط الخيار فيه فيجعل ما
تصادقا عليه كالمعاين في حقهما وفرق أبو حنيفة
رحمه الله بين البيع وبين الكفالة فقال في
البيع لا يجوز اشتراط الخيار أكثر من ثلاثة
أيام وفي الكفالة يجوز ذلك وإن طالت المدة لأن
الكفالة عقد مبين على التوسع.
ألا ترى أنه يحتمل التعليق ببعض الأخطار نحو
قوله ما ذاب لك عن فلان فهو علي ونحو الكفالة
بالدرك فإنه تعليق بخطر الاستحقاق فإذا كان هو
محتملا للتعليق كان الخيار ملائما له بأصله
فيجوز اشتراطه مدة معلومة قصرت أو طالت فأما
البيع مبني على العتق حتى لا يحتمل التعليق
بالشرط أصلا فلم يكن الخيار ملائما له باعتبار
أصله فقلنا لا يجوز
ج / 17 ص -175-
اشتراطه إلا بقدر ما ورد به الشرع بخلاف
القياس وذلك ثلاثة أيام وإن كذبه صاحبه
بالخيار لزمه المال ولم تصدق على شرط الخيار
لأن مقتضى عقد الكفالة اللزوم كما هو مقتضى
مطلق البيع وهذا بخلاف الأجل فإنه إذا ادعى
الكفالة بالمال إلى أجل فالقول قوله وإن لم
يصدقه صاحبه لأن الأجل من مقتضيات الكفالة.
ألا ترى أن من كفل بمال موجد مطلقا يثبت
الأجل في حق الكفيل وكذلك الكفالة توجب المال
للكفيل على الأصيل إذا كان يأمره كما يوجب
للطالب على الكفيل وما يكون للكفيل على الأصيل
مؤجل أن يؤديه عنه فلما كان الأصل من مقتضيات
الكفالة جعل القول فيه قول من يدعيه بخلاف
الخيار فإنه ليس من مقتضيات الكفالة فلا يقبل
قول من يدعيه إلا بحجة وإقرار الصبي التاجر
جائز في جميع تجاراته لأن الإقرار من صيغ
التجار وهو مما لا يستغنى التاجر عنه فإنه
يتعذر على من يعامله إشهاد الشاهدين عليه كل
معاملة فإذا علم أن إقراره له لا يكون صحيحا
يتحذر عن المعاملة معه فلهذا جوزنا إقراره
وبخلاف إقرار الأب والوصي عليه فإنه لا يكون
صحيحا لعدم التصور فإن الإقرار ما يقر المرء
به على نفسه فأما ما يقر به على غيره يكون
شهادة فمن الأب لا يتحقق الإقرار على الصبي
ويتحقق من الصبي المأذون الإقرار على نفسه
ويستوي إن أقر دين أو عين مما اكتسبه بتجارته
أو كان موروثا له عن أبيه لأن إقراره فيه
باعتبار ملكه والكل في حكم الملك سواء.
ألا ترى أن سائر تصرفاته يجوز فيهما فكذلك
إقراره وذكر في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله
أن إقراره فيما يرثه من أبيه لا يكون صحيحا
لأن صحة إقراره فيما اكتسبه بتجارته لوقوع
الحاجة إليه وذلك غير موجود فيما ورثه عن أبيه
والأصح ما ذكره في الكتاب لأن انفكاك الحجر
عنه فيما هو من جملة التجارة بالإذن بمنزلة
انفكاك الحجر عنه فيما هو من جملة التجارة
بالإذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالبلوغ وقد
بينا أن الإقرار من التجارة وكذلك لو أقر
الصبي المأذون على أبيه بدين جاز إقراره لأنه
في حكم جواز الإقرار فصار انفكاك الحجر عنه
بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالبلوغ ولو أقر
بدين أبيه بعد البلوغ صح إقراره واستوفى جميع
الدين من نصيبه إن أنكر شركاؤه فكذلك إذا أقر
به بعد الإذن ولو أقر على نفسه بالمهر وأرش
الجناية ودين الكفالة لم يصح إقراره بشيء من
ذلك لأن هذه الأسباب ليست بتجارة وقد نفى
الحجر عليه بقيام الصغر فيما ليس بتجارة ألا
ترى أن أحد المتفاوضين لو أقر بالمهر وأرش
الجناية يؤاخذ به شريكه بخلاف ما إذا أقر
بالدين مطلقا فهذا مثله فالكفالة في حق الصبي
بمنزلة المهر وأرش الجناية لأنه ينزع ابتداء
بخلاف المفاوض على ما بينا والله أعلم
بالصواب. |