المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 18 ص -3-         باب الإقرار بالعارية
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أن هذا الثوب أو هذه الدار عنده عارية بملك فلان أو بميراثه أو بحق فلان هذا كله إقرار لأن الباء في الأصل للإلصاق فقد جعل المقر به ملصقا بملك فلان وميراثه وحقه ولم يتحقق هذا الإلصاق إلا بعد أن يكون مما له وكالة وقد تكون الباء صلة كما في قوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20] وإن حملناه على معنى الصلة هنا كان إقرارا أيضا لأنه يصير تقدير كلامه أنه ملك فلان أو ميراث فلان أو حق فلان وقد تكون الباء للتبعيض أيضا عند بعضهم كما في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] اقتضى المسح ببعض الرأس وإذا حمل على هذا كان إقرارا أيضا لأنه جعل المقر به بعض ملكه وميراثه وحقه
وكذلك لو قال: عارية عندي من ملك فلان أو من ميراثه أو من حقه لأن من في الأصل للتبعيض فذلك إقرار يكون المقر به بعض ملكه وقد تكون من صلة كما في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } [الأحقاف:31] وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30] وإذا كانت بمعنى الصلة فهو إقرارا أيضا وقد تكون بمعنى الباء قال الله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}[الرعد:11] يعني بأمر الله فعلى هذا المعنى هذا والأول سواء وقد تكون من للتمييز كما يقال سيف من حديد وخاتم من فضة وعلى هذا يكون إقرارا أيضا لأنه ميز المقر به عن سائر ما في يده بإقراره أنه للمقر ولو قال عارية عندي لملك فلان أو لميراثه كان إقرارا أيضا ولو قال والثوب والدابة عارية عندي لحق فلان لا يكون إقرار لأن اللام قد تكون للتأكيد وقد تكون للوقت كما في قوله تعالى:{مِنْ رَبِّك}[الاسراء: 87] وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقد تكون للتمليك وقد تكون للتعليل فعلى هذه الوجوه حمل قوله لملك فلان أو لميراث فلان إقرارا مؤكدا.
وأما إذا قال لحق فلان فنقول اللام قد تكون بمعنى المجازاة كقول الرجل لغيره أكرمتك لتكرمني وزرتك لتزورني وقد تكون لبيان الحرمة كالرجل يريدان يضرب عبده فنهاه الغير فيقول تركته لك أي لحرمتك وشفاعتك فهنا قوله لحق فلان يحتمل معنى الشفاعة والحرمة يعنى لأجل شفاعته وحرمته إعادة صاحبه فهنا قوله مني فلما احتمل هذا المعنى لم يجعل إقرارا له بالشك بخلاف قوله لملك فلان أو لميراثه فإن ذلك لا يحتمل

 

ج / 18 ص -4-         معنى الحرمة والشفاعة وكذلك لو قال هذا الألف مضاربة عندي لحق فلان لم يكن إقرارا لأنه محتمل لمعنى الحرمة والشفاعة أي إنما رفعها صاحبها إلى مضاربه لأجل شفاعة فلان وحرمته بخلاف مالو أقر بالقرض لحق فلان فإنه يكون إقرارا لأن القرض لا تجزئ فيه الشفاعة عادة إنما تجزئ فيه الكفالات فإذن انتفى معنى الشفاعة في القرض فبقى إقرار لملكه بخلاف العواري والمضاربة فإنه تجزئ فيهما الشفاعات عادة ولو قال هذه الدراهم عندي عارية لحق فلان فهذا إقرار له بها لان العارية في الدراهم قرض فكان هذا والإقرار بالقرض سواء بخلاف الدابة والثوب.
 ولو قال: أخذت هذا الثوب منك عارية وقال المقر له بل أخذته مني بيعا فالقول قول الآخذ مع يمينه لأنهما تصادقا على أن الأخذ حصل بإذن المالك وذلك لا يكون سببا لوجوب الضمان على الآخذ باعتبار عقد الضمان وهو منكر له فكان القول قوله وهذا إذا لم يلبسه فإن لبسه فهلك كان ضامنا له لأن لبس ثوب الغير سبب لوجوب الضمان على اللابس إلا أن يكون بإذن من صاحبه واللابس وصاحبه منكران .
 
فإن قيل: لا كذلك فإن بيع الثوب من الغير تسليط منه على لبسه فلما أقر صاحبه بالبيع فقد ثبت الإذن في اللبس فينبغي أن لا يضمن اللابس كما قلنا في الآخذ قلنا التسليط بإيجاب البيع من حيث التمليك ليلبس ملك نفسه فإذا لم يثبت الملك له لإنكاره لم يثبت تسليط صاحبه إياه على لبسه وهو في اللبس عامل لنفسه وذلك سبب موجب الضمان عليه في ملك الغير بخلاف الآخذ فقد يكون في الآخذ عاملا للمأخوذ منه كالمودع في أخذ الوديعة ليحفظها فلا يتقرر الضمان عليه بالإقرار بالأخذ إذا لم ينكر صاحبه أصل الأذن.
ولو قال :أقرضني ألف درهم فقال المقر له لا بل غصبني فالمقر ضامن لها لأنهما تصادقا على كون المال مضمونا عليه للمقر له وإن اختلفا في سببه والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فعند التصادق على الحكم لا ينظر إلى اختلاف السبب وهذا لأن قول المقر له لا بل غصبني لا يكون ردا لأصل الواجب إنما يكون ردا للسبب فيبقي إقراره معتبرا في وجوب المال لتصديق المقر له إياه في أنه واجب وإن كانت الدراهم بعينها فللمقر له أن يأخذها لأنهما تصادقا على ملك العين للمقر له فبعد ذلك المقر بدعوى القرض يدعي ملكها عليه فلا يصدق إلا بحجة ولو قال هذه الدراهم في يدي عارية لفلان أو من فلان أي أو من قبل فلان فهذا إقرار له بها لما بينا أن العارية في الدراهم قرض فإن الانتفاع بها لا يتأتى فيما هو المقصود إلا باستهلاك عينها فكانت الإعارة فيها تسليطا بشرط ضمان الرد وذلك حكم القرض وإن قال هذه الدراهم عارية بيدي على يدي فلان فليس هذا بإقرار وذكر بعد هذا أنه إقرار وجه هذه الرواية أن قوله على يدي فلان معناه أرسلها صاحبها إلى عارية على يدي فلان فإنما إقراره فلانا كان رسولا فيها فلا يصير مقرا بالملك له.
ووجه الرواية الأخرى أنه أقر بأن وصولها إلى يده كان من يد فلان والمتعين إنما يلزمه

 

ج / 18 ص -5-         الرد على من أخذ منه كما يلزم الرد المكاري الذي أخذ منه فوجب عليه بحكم هذا الإقرار ردها على فلان فلهذا كان منه إقرار لفلان.

باب الإقرار بالدراهم عددا
قال رحمه الله: رجل قال لفلان: على مائة درهم عددا ثم قال بعد ذلك هي وزن خمسة أو ستة وكان الإقرار منه بالكوفة فعليه مائة درهم وزن سبعة ولا يصدق على النقصان إلا أن بين الوزن موصولا بكلامه لأن ذكر الدراهم عبارة عن ذكر الوزن فإنه لا طريق لمعرفة الوزن فيه إلا بذكر العدد من الدراهم ومطلق ذكر الوزن ينصرف إلى المتعارف منه فإذا كان إقراره بالكوفة فالمتعارف بها في الدراهم سبعة وكما ينصرف مطلق البيع والشراء بالدراهم إليه فكذلك مطلق الإقرار ينصرف إليه فقوله وزن خمسة بيان معتبر لما اقتضاه مطلق إقراره فقد بينا بيانه والتعبير يصح موصولا بالكلام ولا يصح مفصولا ومعنى قولنا وزن سبعة أن كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل وكل درهم أربعة عشر قيراطا وإذا كان الدرهم أربعة عشر قيراطا تبنى عليه أحكام الزكاة ونصاب السرقة وغيرها.
 وأصل المسألة أن الأوزان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبى بكر رضي الله عنه كانت مختلفة فمنها ما كان الدرهم عشرين قيراطا ومنها ما كان عشرة قراريط وهو الذي يسمى وزن خمسة ومنها ما كانت اثني عشر قيراطا وهو الذي يسمى وزن ستة فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه طلبوا منه أن يجمع الناس على نقد واحد فأخذ من كل نوع من الأنواع الثلاثة درهما وكان الكل اثنين وأربعين قيراطا وأمر أن يضرب من ذلك ثلاثة دراهم متساوية فكل درهم أربعة عشر قيراطا وهو وزن سبعة التي جمع عمر رضي الله عنه عليها الناس وبقي كذلك إلى يومنا هذا وإن كان في بلد يتبايعون على دراهم معروفة الوزن بينهم ينقص من وزن سبعة صدق في ذلك لأن تعيين وزن سبعة لم يكن نص من لفظه إنما كان بالعرف الظاهر في معاملة الناس به وذلك يختلف باختلاف البلدان والأوقات فيعتبر في كل موضع عرف ذلك الموضع كما في سائر التصرفات سوى الإقرار وإن ادعى وزن دون المتعارف كما في تلك البلدة لم يصدق إلا إذا ذكره موصولا بكلامه وإن كان في البلد نقود مختلفة فإن كان الغالب منها نقدا بعينه ينصرف مطلق الإقرار إليه .
وإن لم يكن البعض غالبا على البعض ينصرف إقراره إلى الأقل لأن الأقل متيقن به وعند التعارض لا يقضى إلا بقدر المتيقن وهذا لأن المقر بين الأول لأن الأقل متيقن به وعند التعارض لا يقضى إلا بقدر المتيقن وهذا لأن المقر بين الأول لا محالة وهذا بيان التفسير حين استوت النقود في الرواج وبيان التفسير صحيح مفصولا كان أو موصولا كبيان الزوج في كنايات الطلاق ولو قال بالكوفة علي مائة درهم بيض عددا .
ثم قال: هي تنقص دانقا لم يصدق لأن مطلق لفظه انصرف إلى الإقرار بوزن سبعة فدعواه النقصان بمنزلة الاستثناء لبعض ما أقر به والاستثناء لا يصح إلا موصولا ولو قال:

 

ج / 18 ص -6-         علي مائة درهم اسبهبديه عددا ثم قال عنيت هذه الصغار فعليه مائة درهم وزن سبعة من الأسبهبدية لأن قوله اسبهبديه يرجع إلى بيان النوع كقوله سود يرجع إلى بيان الصفة فلا يتغير به الوزن والأسبهبديه فارسية معربة معناه إسبه سالادية والصغار هو الذي تسميه الناس مهرا تكون ستة منه بوزن درهم ولكنه غير مصدق فيما يدعى من نقصان الوزن مفصولا على ما بينا .
ولو قال له: على مائة درهم من السود الخيار ثم قال هي وزن سبعة وقال الطالب هي مثاقيل فالقول قول المقر مع يمينه لما بينا أن تسمية الدراهم بيان للوزن وقوله من السود بيان للصفة وقوله الخيار بيان العرض وبه لا يزداد الوزن فإن ادعى المقر له زيادة عليه فالقول قول المنكر مع يمينه وكذلك لو قال له على درهم صغير فهو على وزن سبعة ووصفه بالصغر إما للأثقال أو لصغر الحجم وبه لا ينتقص الوزن وكذلك لو قال علي درهم كبير ولو قال على دراهم فعليه ثلاثة دراهم لأنه أقر بلفظ الجمع وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة ولا غاية لأقصاه فينصرف إلى الأدنى لأنه متيقن به وقد بينا أن الإقرار إيجاب لا يقابله الاستيجاب فيكون بمنزلة الوصية في أنه يؤخذ بالأقل مما يلفظ به وكذلك لو قال له علي دريهمات فهو تصغير بجمع الدراهم وهذا التصغير لا ينقض الوزن فعليه ثلاثة دراهم وكذلك لو قال له على فليس أو قفيز أو رطيل فهو وقوله فلس وقفيز ورطل سواء ينصرف ذلك إلى التمام من ذلك وزنا وكيلا.
 ولو قال له: علي مائة درهم مثاقيل كما قال: وكان عليه مائة مثقال عن الدراهم لأنه نص على وزن هو أكثر مما اقتضاه مطلق كلامه ولو نص على وزن هو دونه قبل منه إذا كان موصولا فكذلك إذا نص على وزن هو أكثر إلا أن في هذا لا يلحقه التهمة فيصح سواء ذكره موصولا أو مفصولا ولو قال له على ربع حنطة فعليه ربع حنطة بربع البلد الأكبر وإن قال عنيت الربع الصغير لم يصدق والربع اسم لمكيال كالقفيز والصاع والمتعارف في المعاملات به الأكبر فينصرف مطلق الإقرار إليه على قياس ما بينا في الوزن.
 ثوب في يدي رجل فقال: وهبه لي فلان فقال: نعم أو أجل أو بلى أو صدقت أو قال ذلك بالفارسية فهو إقرار لأن ما ذكره في موضع الجواب غير مستقل بنفسه فانه ليس بمفهوم المعنى وهو مما يصلح أن يكون جوابا وما تقدم من الخطاب يصير كالمعاد للجواب قال الله تعالى
:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ }[الأعراف:44} أى نعم قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وقال الله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:172] أي بلى أنت ربنا فهنا أيضا يصير ما تقدم من عقد الهبة معادا في الجواب فيثبت العقد بإقراره والقبض موجود فيجعل صادرا عن ذلك العقد وإن لم يكن الثوب في يد الموهوب له ولكنه في يد الواهب فادعى الموهوب له الهبة والتسليم وجحد ذلك الواهب فإن شهد الشهود بمعاينة القبض قبل بالاتفاق وكان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن شهدوا على إقرار الواهب بالتسليم كان

 

ج / 18 ص -7-         أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولا لا يقبل لأن تمام الهبة يقبض بحكم والقبض فعل لا يصير موجودا بالإقرار به كاذبا فإن المخبر عنه إذا كان باطلا فبالإخبار عنه لا يصير حقا كقرية المقرين وجحود المبطلين فإذا لم يشهدوا بهبة تامة لا تقبل الشهادة ثم رجع وقال الشهادة مقبولة وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله: لأن ثبوت إقراره بالبينة كثبوته بالمعاينة والقبض وإن كان فعلا هو يثبت في حق المقر بإقراره كالقتل والغصب في حق المقر بإقراره فهذا مثله فإن أقر الواهب بالهبة والقبض ثم أنكر التسليم بعد ذلك وأراد استحلاف الموهوب له لم يحلفه القاضي في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ويحلفه في قول أبى يوسف رحمه الله استحسانا.
وأصل المسألة البائع إذا أقر بقبض الثمن ثم جحدوا أراد استحلاف المشتري لم يكن له ذلك عندهما وهو لأنه مناقض في كلامه راجع عما أقر به من القبض والمناقض لا قول له والاستحلاف ينبني على دعوى صحيحة واستحسن أبو يوسف رحمه الله بما عرف من العادة الظاهرة أن البائع يقر بالثمن للأشهاد وإن لم يكن قبضه حقيقة فاللاحتياط لحقه يستحلف الخصم إذا طلب هو ذلك والله أعلم بالصواب.

باب من الإقرار بألفاظ مختلفة
قال رحمه الله: رجل قال لفلان على عشرة دراهم فعليه عشرة دراهم عندنا وقال زفر رحمه الله عشرون وقال الحسن بن درج عليه مائة درهم وجه قول الحسن رحمه الله أن العشرة في العشرة عند أهل الحساب تكون مائة فإقراره بهذا اللفظ محمول على ما هو معلوم عند أهل الحساب ولنا أن نقول أن حساب الضرب في الممسوحات لا في الموزونات مع أن عمل الضرب في تكثير الآخر لا في زيادة المال وعشرة دراهم وزنا وإن تكثرت أجزاؤها لا تصير أكثر من عشرة وزفر رحمه الله يقول حرف في بمعنى حرف نون وقال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}[الفجر:29] أي مع عبادي فيحمل على هذا تصحيحا لكلامه وكنا نقول حرف في للظرف والدراهم لا تكون ظرفا للدراهم وجعله بمعنى مع مجاز والمجاز قد يكون بمعني حرف مع وقد يكون بمعنى حرف على قال الله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طـه:71] أي على جذوع النخل فليس أحدهما بأولى من الآخر بقي المعتبر حقيقة كلامه فيلزم عشرة بأول كلامه وما ذكره في آخره لغو وكذلك لو قال وعشرة دنانير إلا أن يقول عنيت هذه وهذه فحينئذ يعمل بيانه بين أنه استعمل في بمعنى مع أو بمعنى واو العطف وفيه تسديد عليه فيصح بيانه.
ولو قال له: على درهم في قفيز حنطة لزمه الدرهم والقفيز باطل لأنه لا يجعل وعاء للدرهم عادة فلا يمكن إعبار حقيقة حرف الظرف فيه فيلغو آخر كلامه ولأن الوجوب عليه بقوله على وقد أقر به وبالدرهم ولم يعطف عليه القفيز ليعتبر كالمقترن به حكما فلهذا لم يلزمه إلا الدرهم وكذلك لو قال على قفيز حنطة في درهم لزمه القفيز وبطل الدرهم لأن

 

ج / 18 ص -8-         الدرهم لا يكون ظرفا للقفيز وكذلك لو قال له علي فرق زيت في عشرة مخاتيم حنطة لزمه الزيت والحنطة باطلة لأن الحنطة لا تكون ظرفا للزيت ولو أقر أن عليه خمسة دراهم في ثوب يهودي ثم قال بعد ذلك الثوب اليهودي هو الدين والخمسة دراهم أسلمها إلى فيه فهذا بيان ولكن فيه يعتبر لأن موجب أول كلامه كون الخمسة دينا عليه وبما ذكره الآن تبين أن الثوب دين عليه دون الخمسة لأن رأس المال لا يكون دينا على المسلم إليه حال قيام العقد وبيان التعبير لا يصح مفصولا إلا أن يصدقه الطالب في ذلك فإن صدقه قلنا الحق لا يدينهما فيثبت ما تصادقا عليه.
 وإن جحد كان للمقر أن يحلفه وليه لأنه يدعي عليه عقد السلم ولو أقر به لزمه فإن أنكر استحلف عليه فإن حلف كان له أن يأخذ المقر بخمسة دراهم كما أقر به ولو قال له علي درهم مع درهم فالأصل في جنس هذه المسائل أنه متى ذكر الوصف بين الاثنين فإن ألحق به حرف الهاء يكون الوصف منصرفا إلى المذكور آخرا وإن لم يقرن به حرف الهاء يكون نعتا للمذكور أولا كالرجل يقول جاءني زيد قبل عمرو يكون نعتا لمجيء زيد
 ولو قال: جاءني زيد قبله عمر ويكون قبل نعتا لمجيء عمرو إذا عرفنا هذا فنقول إذا قال له على ألف درهم مع أو معه درهم فكلمة مع الضم والقران سواء جعل نعتا للمذكور أولا أو آخرا وصار مقرا بهما لضمه أحدهما إلى الآخر في الإقرار ولو قال له على درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبل نعت للمذكور أولا فكأنه قال قبل درهم آخر يجب علي ولو قال قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي ولو قال درهم بعد درهم أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن بعد درهم قد وجب علي أو بعده درهم قد وجب لا يفهم من الكلام إلا هذا وكذلك لو سمى أحدهما دينارا أو قفيز حنطة وفي قوله بعده درهم الإقرار مخالف للطلاق قبل الدخول لأن الطلاق بعد الطلاق هناك لا يقع والدرهم بعد الدرهم يجب دينا وكذلك لو قال درهم لأن الواو للعطف وموجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر فصار مقرا بهما ولو قال درهم فدرهم يلزمه درهمان عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يلزمه إلا درهم واحد لأن الفاء ليست للعطف فلا يثبت به الاشتراك بل معنى قوله فدرهم أي فعلي ذلك الدرهم وكنا نقول ألفا للوصل والتعقيب فقد جعل الثاني موصولا بالأول ولا يتحقق هذا الوصل إلا بوجوبهما وكان هذا الوصل في معنى العطف وكذلك التعقيب يتحقق في الوجوب بينهما إن كان لا يتحقق في الواجب فكان معنى كلامه أن وجوب الثاني بعد الأول في هذا عمل بحقيقة كلامه فهو أولى من الإضمار الذي ذكره الخصم لأن الإضمار في الكلام للحاجة ولا حاجة هنا ولو قال درهم درهم لزمه درهم واحد لأنه كرر لفظه الأول والتكرار لا يوجب المغايرة إذا لم يتخللها حرف العطف بخلاف ما إذا تخللها حرف الواو فإن المعطوف غير المعطوف عليه

 

ج / 18 ص -9-        
وكذلك لو قال درهم بدرهم فعليه درهم واحد لأن حرف الباء يصحب الأعواض فكان معنى كلامه بدرهم استقرضته أو بدرهم اشتريته منه فلا يلزمه إلا درهم واحد
ولو قال له: علي درهم على درهم لزمه درهم واحد منهم من يذكر هذه المسألة على درهم على درهم والأصح ما قلنا أن المسألة علي درهم علي درهم وقد أعاد في بعض النسخ قوله له في الكلام الثاني فقال له علي درهم وبهذا ترتفع الشبهة ولا يلزمه إلا درهم واحد لأنه كرر كلامه الأول وبالتكرار لا يزداد الواجب لأن الإقرار خبر والخبر يكرر ويكون الثاني هو الأول قال الله تعالى:
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:35] ولو قال له :علي درهم ثم درهمان لزمه ثلاثة دراهم لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي.
 وقد بينا أن التعقيب في الوجوب بين المذكورين يتحقق وإن كان لا يتحقق في الواجب فصار مقرا بهما على أن وجوب الدرهمين عليه كان بعد وجوب الدرهم فيلزمه ثلاثة ولو قال مائة درهم لا بل مائتان في القياس يلزمه ثلاثمائة وبه قال زفر رحمه الله وفي الاستحسان يلزمه مائة درهم وجه القياس أن كلمة لا بل لاستدراك الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقام الأول فرجوعه عن الإقرار بالمائة باطل وإقراره بالمائتين على وجه الإقامة مقام الأول صحيح فيلزمه المالان كما لو قال له علي مائة درهم لا بل مائة دينار أو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل اثنين يقع ثلاث تطليقات وجه الاستحسان أن الإقرار إخبار والغلط يتمكن في الخبر والظاهر أن مراده بذكر المال الثاني استدراك الغلط بالزيادة على المال الأول لا ضم الثاني إلى الأول.
ألا ترى أن الرجل يقول سني خمسون لا بل ستون كان إخبار الستين فقط ويقول حججت حجة لا بل حجتين كان إخبارا بحجتين فقط بخلاف ما إذا اختلف جنس المالين لأن الغلط في مثل هذا يقع في القدر عادة لا في الجنس وعند اختلاف الجنس لا يمكن أن يجعل كأنه أعاد القدر الأول فزاد عليه لأن ما أقر به أولا غير موجود في كلامه الثاني بخلاف ما إذا اتفق الجنس.
ألا ترى أنه لا يقول حججت حجة لا بل عمرتين ويقول حججت حجة لا بل حجتين وهذا بخلاف الطلاق فإنه وإن كان بصيغة الإخبار فهو إيقاع وإنشآت وفي الإنشاءات لا يقع الغلط فلا يمكن حمل الثاني على الاستدراك حتى لو خرج الكلام هنا مخرج الإخبار وقال كنت طلقتها أمس واحدة لا بل اثنتين كان إقرارا باثنتين استحسانا كما في هذه المسألة وعلى هذا لو قال له علي مائتان لا بل مائة فعليه أزيد المالين وهو المائتان لأنه قصد استدراك الغلط بالرجوع عن بعض ما أقر به أولا فلم يعمل.
وفي القياس يلزمه المالان وعلى هذا لو قال له علي مائة جياد لا بل زيوف أو قال له علي مائة زيوف لا بل جياد في جواب الاستحسان يلزمه أفضل المالين فقط وفي القياس يلزمه المالان لأن الجنس واحد والتفاوت في الجنس بمنزلة التفاوت في العدد وإذا أقر الرجل على نفسه بمائة درهم في موطن وأشهد شاهدين ثم أقر له بمائة درهم في موطن آخر

 

ج / 18 ص -10-       وأشهد شاهدين آخرين فعند أبى حنيفة رحمه الله يلزمه المالان جميعا وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يلزمه إلا مال واحد وذكر في بعض نسخ أبى سليمان أن أبا يوسف رحمه الله كان يقول أولا بقول أبى حنيفة ثم يرجع على قول محمد رحمهما الله .
وجه قولهما أن الإقرار خبر وهو مما يتكرر ويكون الثاني هو الأول فلا يلزمه بالتكرار مال آخر بل قصده من هذا التكرار أن يؤكد حقه بالزيادة في الشهود ألا ترى أن الإقرارين لو كانا في مجلس واحد وكذلك لو كان أشهد على كل إقرار شاهدا واحدا أو لم يشهد على واحد من الإقرارين لم يلزمه إلا مال واحد وكذلك لو أراد صكا على الشهود وأقر به عند كل فريق منهم أو أقر بالمائة وأشهد شاهدين ثم قدمه إلى القاضي فأقر به لا يلزمه إلا مال واحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول ذكر المائة في كلامه منكر والمنكر إذا أعيد منكرا كان الثاني غير الأول قال الله تعالى:
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6]
وبخلاف ما إذا أراد الصك على الشهود لأن الإقرار هنا كان معرفا بالمال الثابت في الصك وقد ذكرنا أن المنكر إذا أعيد معرفا كان الثاني عين الأول فأما إذا كان الإقرار في مجلس واحد في القياس على قول أبى حنيفة رحمه الله يلزمه مالان ولكنه استحسن فقال للمجلس أن يتبصر في جميع الكلمات المتفرقة وجعلها في حكم كلام واحد.
 ألا ترى الأقارير في الزنى في مجلس واحد بخلاف ما إذا اختلف المجلس فكذلك هنا وعلى هذا الخلاف لو أقر بمائة في مجلس وأشهد شاهدين ثم ثمانين وأشهد شاهدين في مجلس آخر أو بمائتين ثم بمائة عند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه المالان وعندهما يدخل الأقل في الأكثر فعليه أكثر المالين فقط ولو قال لفلان عندي مائة درهم بضاعة قرضا فهذا دين عليه لأن عنده عبارة عن القرب وهو يحتمل القرب من يده فيكون إقرارا بالأمانة ومن ذمته فيكون إقرارا بالدين بقي لفظان أحدهما للأمانة وهو قوله بضاعة والآخر للدين خاصة وهو القرض ومتى جمع بين لفظين أحدهما يوجب الأمانة والآخر الدين يترجح الدين لأن صيرورته دينا يعترض على كونه أمانة فإن المودع إذا استهلك أو خالف واستقرض صار دينا عليه والأمانة لا تطرى على الدين فإن ما كان دينا في ذمته لا يصير أمانة عنده بحال فإذا اجتمعا يرد على صاحبه وإن قال له علي مائة درهم فهذا إقرار بالدين لأن كلمة علي خاصة للإخبار واستحقاقه من وإنما يعلوه إذا كان دينا في ذمته لا يجد بدا من قضائه ليخرج عنه وكذلك لو قال قبل فهو إقرار بالدين لأن هذه عبارة عن اللزوم .
 ألا ترى أن الصك الذي هو حجة الدين يسمى مالا وأن الكفيل يسمى به قبيلا لأنه ضامن للمال وإن قال عندي فهذا إقرار بالوديعة لأنه لما كان محتملا كما بينا لم يثبت به الأقل وهو الوديعة وكذلك لو قال معي أو في يدي بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهذا كله إقرار بالوديعة لأن هذه المواضع إنما تكون محتملا للعين لا للدين فإن الدين محله الذمة ولو قال له في مالي مائة درهم فهذا إقرار له ولم يبين في الكتاب أنه إقرار بمادي

 

ج / 18 ص -11-       وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول إن كان ماله محصورا فهو إقرار له بالشركة بذلك القدر وإن لم يكن ماله محصورا فهو إقرار بالدين لأنه جعل ماله ظرفا لما أقر به فقد خلطه بمال كان مستهلكا له فكان دينا عليه وإن لم يخلطه فقوله في مالي بيان أن محل قضاء ما أقر به ماله وإنما يكون ماله محلا لقضاء ما هو دين في ذمته والأصح أنه إقرار بالدين على كل حال سواء كان ماله محصورا أو غير محصور لأن المال المشترك لا يضاف إلى أحد الشريكين خاصة فلا يحمل قوله في مالي إلا على بيان محل القضاء.
 ولو قال له :من مالي ألف درهم أو من دراهمي هذه درهم فهذه هبة لا تتم إلا بالقبض والدفع إليه لأن كلمة من للتبعيض فإنما جعل له بعض ماله كلامه وذلك لا يكون إلا بإنشاء الهبة ولا يتم إلا بالقبض والقسمة وإن قال من مالي ألف درهم لا حق لي فيها فهذا إقرار بالدين لأنه بين تأخير كلامه أن مراده من أوله ليس الهبة فأخبر بانتهاء حقه عنه ولا ينتفى حقه عن الموهوب مالم يسلم فعرفنا بآخر كلامه أن مراده من أوله الإقرار وإن من للتميز لا للتبعيض فجعل ذلك القدر مميزا من ماله بإقراره لفلان لا حق لي فيه وإن قال له عندي مائة درهم وديعة قرض أو مضاربة قرض فهو قرض لما بينا أن الوديعة والمضاربة قد تنقلب قرضا فأما القرض لا تنقلب وديعة ولا مضاربة.
ولو قال لفلان: علي أو قبلي ألف درهم وديعة فهي وديعة لأن آخر كلامه تفسير للأول وهو محتمل لما فسره فإن قوله علي أي حفظها لا عينها لأن المودع ملتزم حفظ الوديعة ومتى فسر كلامه بما يحتمل كان مقبولا منه وإن قال له عندي ألف درهم دين لأن قوله عندي محتمل وقد فسره بأحد المحتملين فكان وإن قال قبلي له مائة درهم دين وديعة أو وديعة دين فهو دين لما بينا أن أحد اللفظين إذا كان للأمانة والآخر للدين فإذا جمع بينهما في الإقرار يترحج الدين والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بالزيوف
قال رحمه الله: رجل قال لفلان علي درهم من ثمن متاع إلا أنها زيوف أو نبهرجة لم يصدق في دعوي الزيافة وصل أو فصل في قول أبى حنيفة رحمه الله وعلى قولهما يصدق إن وصل ولا يصدق إن فصل وجه قولهما أن الزيوف من جنس الدراهم حتى يحصل بها الاستيفاء في الصرف والسلم فكان آخر كلامه بيانا ولكن فيه تعبير لما اقتضاه أول الكلام من حيث العادة. لأن بياعات الناس تكون بالجياد دون الزيوف ومثل هذا البيان يكون صحيحا إذا كان موصولا كقوله لفلان علي ألف درهم وفلان خمسة.
توضيحه أن قوله: إلا أنها زيوف استثناء للوصف وكان بمنزلة استثناء بعض المقدار بأن قال الأمانة وذلك صحيح إذا كان موصولا فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول الزيافة في الدراهم عيب ومطلق العقد لا يقتضي سلامة الثمن عن العيب فلا يصدق هو في دعوى كون الثمن المستحق بالعقد معينا كما لو ادعى البائع أن المبيع معيب وقد كان المشتري

 

ج / 18 ص -12-       عالما به فلم يقبل قوله في ذلك إذا أنكره المشترى وهذا لأن دعواه العيب رجوع عما أقر به لأن بإقراره بالعقد مطلقا يصير ملتزما ما هو مقتضى لمطلق العقد وهو السلامة عن العيب.
وفي قوله: كان معيبا يصير راجعا والرجوع عن الإقرار غير صحيح موصولا كان أو مفصولا وليس هذا من باب الاستثناء لأن الصفة مما يتناوله اسم الدار مطلقا حتى يستثنى من الكلام ولكن ثبوت صفة الجودة بمقتضى مطلق العقد بخلاف استثناء بعض المقدار لأن أول كلامه يتناول القدر واستثناء الملفوظ صح ليصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى ولأن الصفة بيع للأصل فثبوته بثبوت الأصل فأما بعض المقدار لا يتبع النقض فيصح استثناء بعض القدر وهذا بخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة فإن ذلك ليس ببيان للعيب بل هو في معنى استثناء بعض المقدار على ما قدمناه ولو قال له على ألف درهم من قرض إلا أنها زيوف فهو على الخلاف أيضا في ظاهر الرواية لأن المستقرض مضمون بالمثل فكان هو وثمن البيع سواء والاستقراض متعامل به بين الناس كالبيع وذلك في الجياد عادة وذكر في غير رواية الأصول عن أبى حنيفة رحمه الله إن هنا يصدق إذا وصل لأن المستقرض إنما يصير مضمونا على المستقرض بالقبض فهو بمنزلة الغصب ولو أقر بألف ردهم غصب فادعى أنها زيوف كان القول قوله فكذلك هنا إلا أن هنا لا يصدق إذا فصل لما فيه من شبه البيع من حيث المعاملة بين الناس بخلاف الغصب .
ولو قال له: علي ألف درهم زيوف فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله هو على الخلاف أيضا لأن مطلق الإقرار بالدين ينصرف إلى الالتزام بطريق التجارة فهو ما لو بين سبب التجارة سواء ومنهم من قال هنا يصدق إذا وصل بالاتفاق لأن صفة الجودة إنما تصير مستحقة بمقتضى عقد التجارة فإذا لم يصرح في كلامه بجهة التجارة لا تصير صفة الجودة مستحقة عليه وهذا لأنا لو حملنا مطلق إقراره على جهة التجارة لم يصح قوله إلا أنها زيوف ولو حملناه على جهة أخرى يصح ذلك منه فحمل كلامه على الوجه الذي يصح أولى وإذا أقر بالمال غصبا أو وديعة وقال هو نبهرجة أو زيوف صدق وصل أم فصل لأنه ليس للغصب والوديعة موجب في الجياد دون الزيوف ولكن الغاصب يغصب ما يجد والمودع إنما يودع غيره مما يحتاج إلى الحفظ.
 فلم يكن في قوله إنها زيوف معتبر في أول كلامه فلهذا صح موصولا كان أو مفصولا ولو قال في الغصب والوديعة إلا أنها ستوقة أو رصاص فإن قال موصولا صدق وإن قال مفصولا لم يصدق لأن الستوقة ليست من جنس الدارهم حقيقة ولهذا لا يجوز التحور بها في باب الصرف والسلم فكان في هذا البيان تعبيرا لما اقتضاه أول كلامه من تسمية الدراهم لأن ذلك اللفظ يتناول الدراهم صورة وحقيقة وتأخير كلامه يتبين أن مراده الدراهم صورة لا حقيقة وبيان التعبير صحيح موصولا لا مفصولا بخلاف ما سبق فإن الزيوف دراهم صورة وحقيقة فليس في بيانه تعبير لأول كلامه.

 

ج / 18 ص -13-       ولو قال له: كر حنطة من ثمن بيع أو قرض ثم قال هو رديء فالقول قوله في ذلك وصل أم فصل لأن الرداءة في الحنطة ليست بعيب فإن العيب ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة والحنطة قد تكون رديئة في أصل الخلقة فهو في معنى بيان النوع وليس لمطلق العقد مقتضي في نوع دون نوع ولهذا صح الشراء بالحنطة ما لم يبين إنها جيدة أو وسط أو رديئة فليس في بيانه هذا تعبير موجب أول كلامه فيصح موصولا كان أو مفصولا وكذلك سائر الموزونات والمكيلات على هذا فالرداءة ليست بعيب في شيء من هذا وإن كان الجيد أفضل في المالية لزيادة الرغبة فيه ولكن تلك الزيادة لا تصير مستحقة بمطلق التسمية وكذلك لو أقر بكر حنطة غصب أو وديعة ثم قال هو رديء فالقول قوله لأنه لما صدق في ثمن البيع ففي الغصب والوديعة أولى وكذلك لو أتى بطعام فقد أصابه الماء وعفن فقال هذا الذي غصبته أو أودعته فالقول قوله في ذلك لما بينا أنه ليس للغصب والوديعة موجب في التسليم منه دون العيب ولكنه بحسب ما يتفق فكان بيانه مطلقا للفظه.
 ألا ترى أنه لو قال غصبته يوما يهوديا ثم جاء بثوب منخرق خلق فقال هو هذا كان مصدقا في ذلك وكذلك لو قال استودعني عبدا ثم جاء بعبد معيب فقال هو هذا فالقول قوله في ذلك لأن الاختلاف متى وقع في صفة المقبوض فالقول قول القابض أمينا كان أو ضمينا وكذلك إذا وقع الاختلاف في عينه لأن القابض ينكر قبضه في شيء منه سوى ما عينه والقبض على وجه العيب والوديعة يتحقق فيما عينه فيخرج به عن عهدة إقراره وإذا خرج به عن عهدة إقراره كان القول في إنكار قبض ما عينه في قوله.
ولو قال لفلان: علي عشرة أفلس قرض أو ثمن بيع ثم قال هي من الفلوس الكاسدة لم يصدق في قول أبي حنيفة وصل أم فصل لأن المعاملات فيما بين الناس في الفلوس الرائجة فدعواه الجياد في الفلوس كدعوى الزيافة في الدراهم وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في القرض هو مصدق إذا وصل كما لو ادعى الزيافة في الدراهم فإن الكاسدة من جنس الفلوس وبالجياد نقل رغائب الناس فيها كما نقل بالزيافة في الدراهم فأما في البيع كان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا لا يصدق وإن وصل لأن هذا بيان يفسد البيع فإن من اشترى بفلوس فكسدت قبل القبض فسد البيع وإقراره بمطلق البيع يكون إقرار الصحة فلا يصدق في دعوى الفساد موصولا كان أو مفصولا كما لو ادعى الفساد لجياد أو أجل مجهول بخلاف الزيافة في الدراهم فليس في هذا دعوى فساد البيع لأنه إذا كان يدعي فساد البيع فكأنه قال ليس له علي فلوس وبأول كلامه صار مقرا بوجوبها عليه وكان رجوعا وبه فارق القرض لأن بدعوى الكساد هناك لا يصير مدعيا أنه لا فلوس عليه فإن بالكساد لا يبطل القرض ثم رجع أبو يوسف رحمه الله فقال يصدق في البيع إذا وصل وعليه قيمة المبيع وهو قول محمد رحمه الله لأن الكاسدة من الفلوس من جنس الرائجة منها وإنما ينعدم صفة الثمينة ليثبت الكساد فهو ودعواه الزيافة في الدراهم سواء ثم فساد البيع وسقوط

 

ج / 18 ص -14-       الفلوس هنا كان لمعنى حكمي لا بسبب من جهة المقر فلا يصير كلامه به رجوعا بخلاف ما إذا ادعى شرطا مفسدا لأن فساد العقد هناك بالشرط الذي ذكره وإذا صدق هنا صار الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة ولو عايناه استوى بفلوس ثم كسدت قبل القبض كان عليه رد المبيع إن كان قائما وإن هلك في يده فعليه قيمته كذلك هنا.
 وكذلك الاختلاف في قوله له علي عشرة دراهم ستوقه من قرض أو ثمن بيع لأن الستوقة كالفلوس فإنه مموه من الجانبين وقوله ستوقة فارسية معربة سرطاقة الطلق الأعلى والأسفل فضة والأوسط صفر والزيوف اسم لمازيفه بيت المال والنبهرجة التجارة ولو قال غصبته عشرة أفلس أو قال أودعتها ثم قال من الفلوس الكاسدة كان مصدقا في ذلك وصل أم فصل لأن الكاسدة من الفلوس من جنس الفلوس حقيقة وصورة وليس للغصب والوديعة موجب في الرائجة فلم يكن في بيانه تعبير لأول كلامه فصح منه موصولا كان أو مفصولا والله أعلم بالصواب.

باب ما يكون الإقرار
قال رحمه الله: رجل قال لآخر: اقضي الألف التي عليك فقال نعم فقد أديتها. لأن قوله نعم لا يستقل بنفسه وقد أخرجه مخرج الجواب وهو صالح للجواب فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه فكأنه قال نعم أعطيك الألف التي لك علي وعلى هذا الأصل ينبني بعض مسائل الباب وبعض المسائل مبينة على أنه متى ذكر في موضع الجواب كلاما يستقل بنفسه ويكون مفهوم المعنى يجعل مبتدئا فيه لا محالة إلا أن يذكر فيه ما هو كناية عن المال المذكور فحينئذ لا بد من أن يحمل على الجواب وبيان ذلك إذا قال ساعطيكها أو غدا أعطيكها أو سوف أعطيكها فإن الهاء والألف كناية عن الألف المذكورة فصارت إعادته بلفظ الكناية كإعادته بلفظ الصريح بأن يقول سأعطيك الألف التي لك علي وكذلك إذا قال فأقعدها فأثر بها فانتقدها فأقبضها أو لم يقل أقعد ولكن قال أبرها أو انتقدها أو خذها لأن الهاء والألف في هذا كله كناية عن المال المذكور فلا بد من حمل كلامه على الجواب بخلاف ما إذا قال أثرن أو انتقد أو خذ فلهذا لا يكون إقرارا لأن هذا الكلام يستقل بنفسه وليس فيه ما هو كناية عن المال المذكور فيحمل على الابتداء وهذا لأنه مبتدئ بالكلام حقيقة فترك هذه الحقيقة إلى أن يجعل كلامه للجواب لضرورة ولا ضرورة هنا فجعلنا ابتداء ومعنى قوله أثرن أي اقعد وأرث للناس واكتسب به ولا تؤذيني بدعوى الباطل.
 وكذلك قوله ابتعر وقوله خذ أي خذ حذرك مني فلا أعطيك شيئا بدعوى الباطل فلهذا جعلناه ابتداء ولو قال لم تحل بعد فهذا إقرار فإن التاء في قوله لم تحل كناية عن الألف فكان كلامه جوابا وهذا اللفظ منه دعوى التأجيل ولن يكون الأجل إلا بعد وجوب أصل المال فلهذا كان مقرا بأصل المال وكذلك لو قال غدا لأن هذا غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب وهذا استمهال للقضاء إلى الغد وهذا لا يكون

 

ج / 18 ص -15-       إلا بعد وجوب المال وكذلك لو قال أرسل غدا من يزنها أو من يقبضها لأن الهاء والألف كناية عن الألف فلا بد من حمل كلامه على الجواب ومطالبته بإرسال من يستوفى منه لا يكون إلا بعد وجوب المال عليه وكذلك لو قال ليست اليوم عندي لأن التاء كناية عن المال المذكور والتعلل بالعشرة لا يكون إلا بعد وجوب المال فكان مقرا بها وكذلك لو قال ليست بمهيأة اليوم بمسرة اليوم وفي بعض النسخ ليست بمسرة اليوم فهو جواب لأن التاء كناية عن الألف.
وكذلك لو قال: أجلني فيها فطلب التأجيل لا يكون إلا بعد وجوب المال والهاء والألف كناية عن المال المذكور فكان كلامه جوابا وكذلك لو قال ما أكثر ما يتقاضا بها وكذلك لو قال أعممتني بها أو أبرمتني بها أو أديتني فيها لأن التبرم من كثرة المطالبة لا يكون إلا بعد وجوب المال فإنه لا يتحمل هذا الأذى ولا انتقاد لهذه المطالبة إلا إذا كان المال واجبا وكذلك لو قال والله لا يكون لا أفضكها ولا أزنها لك اليوم أولا يأخذها مني اليوم الكناية المذكورة في حرف الجواب لأنه بقي القضاء والوزن والأخذ في وقت بعينه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب أصل المال فإذا لم يكن أصل المال واجبا فالقضاء يكون منتفيا أبدا فلا يحتاج إلى تأكد نفي القضاء باليمين لأنه في نفسه منتفي.
ولو قال: حتى يدخل علي مالي أو حتى يقدم على غلامي فهذا إقرار لأن كلامه غير مستقل بنفسه فإن حتى للغاية فلا بد من شيء آخر ليكون ما ذكر غاية له وليس ذلك إلا بالمال المدعى فكأنه قال لأفضكها حتى يدخل علي مالي ولو قال اقضي المائة التي لي عليك فإن غرمائي لا يدعوني فقال أحل علي بها بعضهم أو من تسبب منهم أو ائتني منهم أضمنها له أو احتال علي بها فهذا كله إقرار بذكر حرف الكناية في موضع الجواب ولأنه أمر بالحوالة المقيدة وذلك لا يتحقق إلا بعد وجوب الدين في ذمة المحتال عليه للمحيل أو يكون ملك له في يده له بتقيد الحوالة بها ولو قال قد قضيتها فهذا إقرار بذكر حرف الكناية ولأنه ادعى القضاء وقضاء الدين لا يسبق وجوبه فصار به مقرا بالوجوب وكذلك لو قال أبرأتني منها لأن الإبراء إسقاط وهو يعقب الوجوب ولا يسبقه فدعواه الإسقاط يتضمن الإقرار بوجوب سابق.
وكذلك لو قال: قد حسبتها لك لأن هذا في الحقيقة دعوى القضاء وكذلك لو قال قد حللتني منها فهذا بمعنى دعوى الإبراء وكذلك لو قال قد وهبتها إلي أو تصدقت بها علي فهذا دعوى التمليك منه ولا يكون ذلك إلا بعد وجوب المال في ذمته وكذلك لو قال قد أحلتك بها لأن الحوالة تحويل الدين من ذمة المحتال عليه فدعواه الحوالة يتضمن الإقرار بوجوبها لا محالة وكذلك لو قال غصبتني هذا العبد فادفعه إلي أو قال هذا العبد وديعة في يدك أو عارية فادفعه إلي أو قال هذا العبد وديعة في يدك أو عارية فادفعه إلي فقال غدا فقد أقر له به لأن ما ذكره في موضع الجواب غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب

 

ج / 18 ص -16-       وكذلك لو قال: سأعطيكها لأن الهاء كنايه عن العبد فمع ذكر حرف الكناية لا بد من حمل كلامه على الجواب ولو قال بيع مني عبدي هذا أو استأجره مني أو قال أكريتك داري هذه أو أعرتك داري هذه فقال نعم فهذا كله إقرار له بالملك لأن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فيكون محمولا على الجواب ما تقدم يصير معادا فيه وكذلك لو قال ادفع إلي حلة عبدي هذا أو أعطني ثوب عبدي هذا فقال نعم فقد أقر له بالثوب والعبد لأن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فكان محمولا على الجواب فكأنه قال أعطيك ثوب عبدك وذلك إقرار له بالملك في العبد نصا وفي الثوب دلالة لأنه أضاف الثوب إلى العبد الذي أضافه إليه بالملكية فترك إضافته إلى مملوكه يصير بمنزلة إضافته إليه فصار بهما.
وكذلك لو قال :افتح باب داري هذه أو خصص داري هذه أو أسرج دابتي هذه أو الجم بغلي هذا أو أعطني سرج بغلي هذا أو لجام بغلي هذا فقال نعم فهذا إقرار لما بينا أن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب لأنه لو لم يحمله عليه صار لغوا وكلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن ولا يحمل على اللغو إلا إذ تعذر حمله على الصحة ولو قال لا في جميع ذلك لم يكن إقرارا وفي بعض نسخ كتاب الإقرار قال يكون إقرارا أما إذا قال لا أعطيكها اليوم أو قال لا أعطيكها أبدا فهذا إقرار منصوص عليه في بعض روايات كتاب الإقرار لأنه صرح بنفي الإعطاء إما مؤبدا أو مؤقتا والكناية المذكورة في كلامه تنصرف إلى ما سبق فكأنه قال لا أعطيك سرج بغلك أو لجام بغلك ولو صرح بهذا كان إقرارا بملك العين له وأما إذا أطلق حرف لا ففي بعض النسخ قال هذا نفي لما طلبه منه وإنما طلب منه الإعطاء فكان هذا نفيا للإعطاء فيجعل إقرارا بملك العين له كما في الفصل الأول.
ووجه ما ذكر في عامة النسخ أن لا جواب هو نفي فيكون موجبه ضد موجب جواب هو إثبات وهو قوله نعم فإذا جعل ذلك إقرارا عرفنا أن هذا لا يكون إقرارا وهذا لأنه نفي جميع ما سبق ذكره فكأنه قال لا أعطيك وليس البغل والسرج واللجام لك لأن هذا اللفظ صالح لنفي جميع ذلك بخلاف قوله لا أعطيكها ولو قال الآخر إنما لك علي مائة درهم فهذا إقرار بالمائة لأن كلمة إنما لتقرير الحكم في المذكور ونفيه عما عداه قال الله عز وجل:
{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] ولو لم يذكر حرف التقرير في المائة ولكن قال لك علي مائة درهم كان إقرارا فعند ذكر حرف التقرير أولي ولو قال ليس لك علي مائة ولكن درهم فلم يقر له بشيء لأن كلمة ليس للنفي فلا يكون موجبا للإثبات ولا يقال لما خص المائة بالنفي لأنه كان دليلا على أن ما دونه ثابت لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل علي نفي ما عداه عندنا والمفهوم ليس بحجة فلا يجعل هذا اللفظ إقرارا بشيء باعتبار المنظوم ولا باعتبار المفهوم.
 ولو قال: فعلت كذا إذا كان لك على مائة درهم كان إقرارا بالمائة لأن كلمة إذا

 

ج / 18 ص -17-       للماضي وكلمة أذا للمستقبل ومعناه في الوقت الذي كان لك علي مائة فقد عرف وقت فعليه بالمال الذي له عليه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب المال فصار مقرا بوجوبها وكذلك لو قال فعلت كذا يوم أقرضتني مائة درهم فقد عرف الوقت الذي أخبر عن الفعل فيه بالزمان الذي أقرضه فيه مائة درهم وذلك إقرار بالإقراض لا محالة وهو سبب لوجوب المال عليه ولو قال أقرضتك مائة درهم فقال لا أعود لها ولا أعود بعد ذلك فهذا إقرار لوجود حرف الكناية في كلامه وهو الهاء ولا يكون العود إلا بعد البدء فيضمن هذا الإقرار بابتداء إقراضه مائة درهم ثم في هذا إظهار سوء معاملته وقلة مسامحته مع غرمائه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب المال.
 وكذلك لو قال: أخذت منى مائة درهم فقال لا أعود لها فهذا بيان للأخذ عند نفي العود علي من أخذ ضمان المأخوذ إلى أن يرده قال صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد" ولو قال لم أغصبك إلا هذه المائة كان إقرارا بالمائة لأن الاستثناء من النفي إثبات قال الله تعالى:{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] 66 والاستثناء من النفي آكد ما يكون من الإثبات دليله كلمة لا إله إلا الله فيكون مقرا بغصب المائة بما هو آكد الألفاظ وغير وسوى من حروف الاستثناء بمنزلة قوله إلا وكذلك لو قال لا أغصبك بعد هذه المائة شيئا فهذا إقرار بالمائة لأن معنى كلامه بعد غصبي منك هذه المائة لا أغصبك شيئا فهذا إظهار للتوبة من غصب باشره ووعد من نفسه أن لا يعود إلى مثله وكذلك لو قال لم أغصبك مع هذه المائة شيئا لأن مع للضم والقرآن فقد نفى انضمام شيء إلى المائة في حال غصبه إياها وذلك لا يتحقق إلا بعد غصب المائة وكذلك لو قال لم أغصب أحدا بعدك أو قبلك أو معك فهذا كله إقرار بأنه غصبه إياه لما بينا.
 
ولو قال: أقرضتك مائة درهم فقال ما استقرضت من أحد سواك أو من أحد غيرك أو من أحد قبلك أو لا استقرض من أحد بعدك أو لم أستقرض من أحد مع فهذا كله إقرار بأنه غصبه إياه لما بينا.
 ولو قال: أقرضتك مائة درهم فقال ما استقرضت من أحد سواك أو من أحد غيرك أو من أحد قبلك أو لا استقرض من أحد بعدك أو لم أستقرض من أحد بعدك فليس شيء من هذا كله إقرار لأن معنى كلامه لا استقرضت منك ولو صرح بهذا اللفظ لم يلزمه شيء فكذلك إذا أتى بما يدل عليه هذا لأن الاستقراض طلب القرض فإن أهل النحو يسمون هذه السين سين السؤال وليس كل من طلب شيئا وجده ولا من سئل شيئا أعطى فلم يكن في كلامه ما يكون إقرارا بالسبب الموجب وهذه من أعجب المسائل فإن إقراره بفعل الغير بهذا اللفظ موجب للمال عليه بأن يقول أقرضني مائة درهم وإقراره بفعل نفسه لا يكون موجبا بأن يقول استقرضت منك.
ولو قال: مالك على مائة درهم أو سوى مائة درهم فهذا إقرار بالمائة لأنه استثناء من النفي وذلك دليل الإثبات وكذلك لو قال مالك على أكثر من مائة درهم لأن نفيه الزيادة

 

ج / 18 ص -18-       علي المائة دليل على وجوب المائة وما ثبت بالدلالة فهو كالثابت بالنص ولو قال مالك علي أكثر من مائة درهم ولا أقل لم يكن هذا إقرار وكان ينبغي أن يجعل هذا إقرارا بالمائة لأنه نفى أن يكون الواجب عليه أكثر من مائة أو أقل من مائة وذلك إقرار بالمائة ولكنه اعتبر الفرق الظاهر وقال في العادة نفي القليل والكثير يكون مبالغة في النفي كمن يقول أليس لك علي قليل أو كثير ولا قليل ولا كثير فهذا لا يكون مساسا ثم في كلامه تصريح بنفي أن يكون ما دون المائة واجبا وذلك بنفي أن يكون المائة واجبه ضرورة لأن المائة إذا وجبت كان ما دونها واجبا .
وإنما قلنا أنه تصريح بنفي وجوب ما دون المائة لأن قوله ولا أقل عطف وحكم العطف حكم المعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه نفيا للوجوب فكذلك المعطوف ولو قال لي عليك ألف درهم فقال بل تسعمائة كان إقرارا بتسعمائة لأن كلامه لا يستقل بنفسه فلا بد من حمله على الجواب معناه بل الواجب تسعمائة وكلمة بل لاستدراك الغلط فقد استدرك غلطه في الزيادة على هذا القدر في دعواه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب هذا المقدار فلهذا كان مقرا بتسعمائة رجل قال لآخر أخبر فلانا أن لفلان على ألف درهم كان هذا إقرار لأن قوله لفلان على ألف درهم إقرار تام من غير أن ينضم إليه الآمر بالأخبار فكذلك إذا انضم إليه الآمر بالأخبار وفائدته طمأنينة قلب صاحب الحق أنه غير جاحد لحقه بل هو يظهر لذلك عند الناس حين أمرهم بأن يخبروه بذلك الإقرار وكذلك لو قال أعلم فلانا أن لفلان علي ألف درهم أو بشره أو قل له أو أشهد فلانا أن لفلان على ألف درهم هذا فهذا مثل الأول بل أظهر فإن الخبر قد يكون صدقا وقد يكون كذبا والإعلام والبشارة والإشهاد لا يكون إلا بما هو صدق.
 وكلمة الإقرار في هذا كله قوله لفلان على ألف درهم ولو قال أخبر فلانا أن لفلان عليك ألف درهم أو أعلمه أو أبشره أو أقول له أو اشهد فقال نعم فهذا كله إقرار لأن قوله نعم ليس بمفهوم المعنى بنفسه وهو مذكور في موضع الجواب فصار ما سبق من الخطاب معادا فيه فلهذا كان إقرارا ولو قال وجدت كتابي أن لفلان علي ألف درهم أو وجدت في ذكري أو حسابي أو بخطي أو قال كتبت بيدي أن لفلان علي ألف درهم فهذا كله باطل لأنه حكى ما وجده في كتابه وما وجده مكتوبا في كتابه قد يكون غيره كاتبا له وقد يكون هو الكاتب لتجزئة الخيط والعلم والبياض فلا يتعين جهة الإقرار في شيء من هذه الألفاظ بخلاف ما سبق لأن قوله هناك لفلان علي ألف درهم كلام إنشاء والتكلم به من غير أنه حكى عن غيره أو عن موضع وجده فيه وكان إقرارا .
وجماع أئمة بلخ رحمهم الله قالوا في بذكار الباعة: إن ما يوجد فيه مكتوبا بخط البياع فهو لازم عليه لأنه لا يكتب في يذكاره إلا ما له على الناس وما للناس عليه ليكون صيانة له عن النسيان كذلك بقلمه والنباء في العادة الظاهرة واجب فعلى هذا إذا كان قال البياع:

 

ج / 18 ص -19-       وجدت في يذكارى بخطي أو كتبت في يذكاري بيدي أن لفلان علي ألف درهم كان هذا إقرارا ملزما إياه وإن قال بيدي لفلان على صك بألف درهم فهذا إقرار لأن الصك اسم خاص لما هو وثيقة بالحق الواجب وقد عابوا على محمد رحمه الله في قوله كتبت بيدي فقالوا الكتابة لا تكون إلا باليد فأي فائدة في هذا اللفظ وكنا نقول مثل هذا يذكر للتأكيد قال الله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}[الأنعام:38] وقال الله تعالى: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت:48] وهذا لأن الكتابة قد تضاف إلى الآمر بها عادة وإن لم يكتب بنفسه فكان قوله بيدي بيانا يزول به هذا الاحتمال ولو كتب لفلان على نفسه صكا بألف درهم والقوم ينظرون إليه فقال لهم اشهدوا علي بهذا كان إقرارا جائزا لأنه أشهدهم على ما أظهره ببيانه فكأنه أشهدهم ببيانه ولا يكون الإشهاد إلا ما هو الوثيقة بالحق الواجب .
 رجل قال لآخر: لا تشهد علي لفلان بألف درهم لم يكن هذا إقرارا لأنه لو قال اشهد علي بألف درهم كان إقرارا وقوله لا تشهد ضد لقوله اشهد فكان موجبه ضد موجب قوله اشهد وكان المعنى فيه أنه نهاه عن الشهادة بالزور ومعناه أنه ليس له علي شيء فلا يشهد له بالزور علي بألف درهم فيكون هذا نفيا للمال على نفسه لا إقرارا به وكذلك لو قال ما لفلان علي شيء فلا يخبره أن له علي ألف درهم أو لا يقل له أن له على ألف درهم لم يكن هذا إقرارا لأنه صرح به في الابتداء بالنفي وبين انه له على انه لا شيء له عليه فكان مراده بعد ذلك لا يخبره بما هو باطل ولا يقل له ما هو زور لا أصل له وآخر الكلام مبني على أوله خصوصا إذا وصله بحرف الفاء فإذا كان أوله نفيا عرفنا أن آخره ليس بإقرار ولو ابتداء فقال لا يخبر فلانا أن له علي ألف درهم أولا يقل لفلان أن له علي ألف درهم كان هذا إقرارا لأنه لما لم يذكر النفي في الابتداء كان قوله لا يخبر ولا يقل اسكتاما منه له فيكون إقرارا ومعناه أن وجوب المال له على سر بيني وبينك فلا تظهره باختيارك أو قولك لفلان.
 ثم ذكر بعد هذا في آخر الباب قوله لا يخبر بخلاف قوله أخبروا وعلل فقال لا تخبر نفي وقوله أخبر إقرار فحصل في قوله آخبر روايتان وفي قوله لا تشهد أي لفلان علي ألف درهم الرواية واحدة أنه لا يكون إقرارا بخلاف قوله أشهد فمن أصحابنا رحمهم الله من قال الصحيح في الإخبار هكذا أن قوله لا تخبر لا يكون إقرارا كما فسره في آخر الباب والذي وقع هنا غلط ومنهم من صحح هذه الرواية وفرق بين قوله لا تخبر ابتداء وبين قوله لا تشهد فقال الشهادة سبب لوجوب الحق قوله لا تشهد معناه ليس له على شيء فإياك أن يكتسب سبب الوجوب بالشهادة له علي بالزور فأما الخبر ليس بسبب لوجوب المال فلا يكون قوله لا يخبر نهيا عن اكتساب سبب الوجوب ولكنه استكتما ذلك ودليل على وجوب المال عليه ولو قال لفلان علي ألف درهم لحقه أو بحقه أو من حقه أو لميراثه أو بميراثه أو من ميراثه أو لملكه أو بملكه أو من ملكه أو لأجله أو من أجله

 

ج / 18 ص -20-       أو لشركته أو بشركته أو من شركته أو لبضاعته أو ببضاعته أو من بضاعته فهذا كله إقرار لأن قوله لفلان على ألف درهم إقرار تام بالدين وهذا كله يرجع إلى تأكيد ما عليه وقد بينا فيما تقدم أن هذا التأكيد لا ينفي أصل الإقرار وأن الشفاعات لا تجيء في الديون ليحمل معنى اللام على الشفاعة فلهذا جعلناه إقرارا بالمال وإذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن متاع اشتريته منه ولم اقبضه فقال ذلك موصولا بإقراره لم يصدق في قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهم الله يصدق إذا كان موصولا ولا يصدق إذا كان مفصولا ثم رجع عن حرف منه وقال إذا كان مفصولا يسأل المقر له عن المال أهو ثمن بيع أم لا فإن قال من ثمن البيع فالقول قول المقر أني لم أقبضه وإن قال من جهة أخرى سوى البيع فالقول قول المقر له.
 وهذا في الحقيقة ليس برجوع ولكنه تفصيل فيما أجمله من الابتداء وهو قول محمد رحمه الله وجه قولهما أن قوله لفلان على ألف درهم إقرار بوجوب المال عليه وقوله من ثمن بيع اشتريته منه بيان لسبب الوجوب فإذا صدقه المقر له في هذا السبب ثبت السبب بتصادقهما ثم المال بهذا السبب يكون واجبا قبل القبض وإنما يتأكد بالقبض فصار البائع مدعيا عليه تسليم المعقود عليه وهو منكر لذلك فجعلنا القول قول المنكر في إنكاره القبض وإن كذبه في السبب فهذا بيان معبر لمقتضى مطلق الكلام لأن مقتضى أول الكلام أن يكون مطالبا بالمال في الحال ولكن على احتمال أن لا يكون مطالبا به حتى يحضر المتاع فكان بيانه معبر إلى هذا النوع من الاحتمال.
 وبيان التغيير صحيح إذا كان موصولا ولا يكون صحيحا إذا كان مفصولا توضيحه إن هذا بيان يتضمن إبطال ما يجب بالكلام الأول لو لا هذا البيان لأن ثمن المتاع الذي هو غير معين لا يكون واجبا قبل القبض والبيان الذي فيه معنى الإبطال صحيح إذا كان موصولا ولا يصح إذا كان مفصولا كالاستثناء وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا رجوع عما أقر به والرجوع باطل موصولا كان أو مفصولا وبيان ذلك انه أقر بوجوب ثمن متاع بغير عينه عليه وثمن متاع يكون بغير عينه لا يكون واجبا على المشتري إلا بعد القبض لأن مالا يكون بعينه فهو في حكم المستهلك إذ لا طريق للتوصل إليه فإنه ما من متاع يحضره إلا وللمشترى أن يقول المبيع غير هذا وتسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه وفرقنا أنه في حكم المستهلك وثمن المبيع المستهلك لا يكون واجبا إلا بعد القبض فكأنه أقر بالقبض ثم رجع عنه توضيحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا إلى غاية وهو إحضار المتاع ولا طريق للبائع إلى ذلك ولو ادعى أجل ذلك شهرا ونحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل.
 فإذا ادعى أجلا مؤبدا أولى أن لا يكون مصدقا في ذلك وعلى هذا لو قال لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير لم يصدق في قول أبى حنيفة رحمه الله وصل أم فصل لأنه رجوع فثمن الخمر والخنزير لا يكون واجبا على المسلم وعلى قول أبى يوسف ومحمد

 

ج / 18 ص -21-       رحمهما الله يصح إذا وصل لأنه بيان السبب وفيه معنى الإبطال فيصح موصولا كالاستثناء ولأن الخمر متمول يجري فيه الشح والضنة وقد اعتاد الفسقة شراءها وأداء ثمنها فيحتمل أنه بنى إقراره على هذه العادة فكان آخر كلامه بيانا هو من محتملات كلامه ولكن فيه تعبير فيصح موصولا كما في الفصل الأول على قولهما ولو قال ابتعت منه شيئا بألف درهم ثم قال لم أقبضه فالقول قوله لأنه أقر بمجرد العقد وإقراره بالعقد لا يكون إقرارا بالقبض فهو في قوله لم أقبضه منكر لما ادعاه صاحبه لا راجعا عما أقر به.
ولو قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن هذا العبد الذي هو في يد المقر له فإن أقر الطالب وسلمه له أخذه بالمال لأن ما ثبت بتصادقها كالثابت بالمعاينة وإن قال العبد عبدك لم ابعكه إنما بعتك غيره فالمال لازم له لأن المقر اخبر بوجوب المال عليه عند تسليم العبد له وقد سلم العبد له حين اقر ذو اليد أنه ملكه فيلزمه المال ثم الأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فلا يعتبر التكاذب في السبب بعد اتفاقهما على وجوب أصل المال فلهذا لزمه المال ولو قال العبد عبدي ما بعته منك إنما بعتك غيره لم يكن عليه شيء لأنه إنما أقر له بالمال بشرط أن يسلم له العبد ولم يسلم له العبد والمتعلق بالشرط معدوم قبله.
 وقد ذكر في آخر هذا الباب أن أبا حنيفة رحمه الله قال: يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وهو قولهما وإذا حلفا لم يلزمه المال وهو صحيح لأن المقر ادعي عليه البيع في هذا العبد وهو منكر فيحلف عليه والمقر له يدعى وجوب المال لنفسه بسبب بيع متاع قد سلمه إليه والمقر لذلك منكر فيحلف على دعواه ولأن هذا الاختلاف بينهما في المبيع والاختلاف في المبيع يوجب التحالف كالاختلاف في الثمن فإذا تحالفا انتفت دعوى كل واحد منهما عن صاحبه فلهذا لا يقضى عليه بشيء من المال والعبد أسلم لمن هو في يده .
ولو قالوا: لفلان عندي وديعة ألف درهم ثم قال اقبضها فهو لها ضامن لأن أول كلامه صريح بإقراره بالقبض لأنه لا يصير مودعا ولا يحصل المال عنده ما لم يقبضه فكان قوله لم أقبضها رجوعا وكذلك لو قال له علي ألف درهم قرض ثم قال لم أقبضها لم يصدق وهذا رجوع كما بينا ولو قال أقرضتني ألف درهم أو أودعتني ألف درهم أو أسلفتني ألف درهم أو أعطيتني ألف درهم ولكنى لم أقبضها فإن قال موصولا كلامه فالقول قوله لأن أول كلامه إقرار بالعقد وهو القرض والسلم والسلف والعطية فكان قوله لم أقبضها بيانا لا رجوعا وإن قال ذلك مفصولا في القياس القول في ذلك قوله أيضا لما بينا أنه إقرار بالعقد فكان هذا وقوله ابتعت من فلان بيعا سواء
توضيحه أنه أقر بفعل الغير فإنه أضاف الفعل بهذه الألفاظ إلى المقر له فيكون القول في إنكاره القبض الموجب للضمان عليه قوله لأن فعل الغير ليس بسبب موجب للضمان عليه ولكنه استحسن فقال لا يقبل قوله لأن القرض لا يكون إلا بالقبض وكذلك السلم والسلف أخذ عاجل بآجل وكذلك الإعطاء فعل لا يتم إلا بالقبض فكان كلامه إقرارا بالقبض على

 

ج / 18 ص -22-       احتمال أن تكون هذه الألفاظ عبارة عن العقد مجازا فقوله بيان تعبير فيصح موصولا لا مفصولا.
ولو قال: نقدتنى ألف درهم أو دفعت إلي ألف درهم ولكن لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد رحمة الله لأن الدفع والإعطاء سواء كما ثبت في قوله أعطيتني فكذلك في قوله دفعت إلي وبعدتني لأنه إخبار بفعل الغير وهذا لا يكون سببا لوجوب الضمان عليه وإذا قال موصولا لم أقبضه كان منكرا إلا راجعا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق وإن وصل لأن النقد لا يتصور إلا بالقبض وكذلك الدفع يستدعي مدفوعا فقوله لم أقبض رجوع فلهذا لا يكون إلا صحيحا بخلاف قوله أعطيتني فإن هذا اللفظ يستعار للعقد ألا ترى أن الهبة تسمى عطية فجعلنا كلامه عبارة عن العقد إذا قال موصولا لم أقبضه ولا يوجد مثل ذلك في النقد والدفع والله أعلم بالصواب

باب الإقرار في المرض
قال رحمه الله: روي عن بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إذا أقر الرجل في مرضه بدين لرجل غير وارث فإنه جائز وإن أحاط ذلك بما له وإن أقر لوارث فهو باطل إلا أن تصدقه الورثة وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى في الفصلين وقالوا إقرار المريض للأجنبي من جميع المال صحيح وإقراره للوارث باطل وهذا الباب لبيان إقراره للأجنبي فيقول أن الإقرار من جنس التجارة ولهذا يصح إقرار المأذون له في التجارة بسبب المرض ولا يلحقه الحجر عن التجارة مع الأجانب فكان إقراره للأجنبي بدين أو بعين في المرض بمنزلته في الصحة فيكون من جميع ماله وهذا لأنه من حوائج الميت فإنه يحتاج إلى إظهار ما عليه بإقراره ليفك رقبته وحاجته مقدمة على حق ورثته ولهذا اعتبر استيلاده من جميع ماله واعتبر الجهاز والكفن من جميع ما له لأنه من أصول حوائجه أو يقول صحة إقراره للأجنبي على قياس صحة وصيته له فإن الأصل أن كل تصرف يتمكن المرء من تحصيل المقصود به آنسا لا تتمكن التهمة في إقراره فيكون صحيحا ومتى لم يقدر على تحصيل مقصوده بطريق الإنساء كان متهما في الإقرار به فلا يصح إقراره في حق الغير .
 ألا ترى أن الوكيل بالبيع قبل العزل إذا قال كنت بعت كان إقراره صحيحا بخلاف ما بعد العزل والمطلق قبل انقضاء العدة إذا أقر أنه راجعا صح إقراره بخلاف ما بعد انقضاء العدة والمولى قبل انقضاء المدة إذا قال فئت إليها كان إقراره صحيحا بخلاف ما بعد انقضاء المدة إذا عرفنا هذا فنقول هو مالك لإيجاب مقدار الثلث للأجنبي بطريق الهبة والوصية فتنتفي التهمة عن الإقرار له في ذلك القدر وإذا صح إقراره بين ان ذلك القدر ليس من جملة ماله فيصح إقراره في ثلث ما بقي باعتبار أنه يملك الحق فيه بطريق الاستثناء ثم لا يزال يدور هكذا حتى يأتي على جميع المال أنى مالا يمكن ضبطه فلهذا صححنا إقراره للأجنبي بجميع المال

 

ج / 18 ص -23-       وإذا أقر المريض بدين ثم مات في مرضه ذلك تحاص الغرماء في ماله سواء كان الإقرار منه في كلام متصل أو منفصل لأن الإقرارين تجمعهما حالة واحدة وهي حال المرض فكأنهما وجدا معا لأن حق الغرماء إنما يتعلق بماله بموته ويستند إلى أول المرض لأنه سبب الموت والحكم إذا انفرد استند إلى سببه فهنا تعلق الدينان جميعا بماله في وقت واحد وهو عند الموت واستند إلى سبب واحد وهو المرض فاستويا فيه والدليل عليه إنه كما يصير بسبب الدين الأول محجورا عليه عن التبرع عند الإقرار الثاني يصير بسبب الإقرار الثاني محجورا عليه عن التبرع عند الإقرار الأول لأنه لو أقر بدين أولا ثم وهب شيئا لم تصح هبته حتى يقضي الدين.
وكذلك لو وهب أولا في مرضه ثم أقر بدين لم يصح هبته حتى يقضي الدين فيتبين بهذا أن الدينين استويا في القوة وإن سبب كل واحد منهما يثبت الحجر عن التبرع عند الإقرار الآخر فيتحاصان وكذلك لو أقر بدين ثم بوديعة لأنه لما سبق الإقرار بالدين فقد ثبت في ذمته على أن يتعلق بتركته عند موته وما في يده تركته من حيث الظاهر فإقراره بعد ذلك بوديعة بعينها لا يكون صحيحا في إبطال ما كان بفرض الثبوت فهو كالثابت لتقرر سببه وتعلق الدين بالمال عند الموت لخراب الذمة وسبب الموت هو المرض فيستند حكم الخراب إلى أول المرض ويصير كأن الدين كان متعلقا بهذه العين حين أقر بأنه وديعة فلا يقبل إقراره في إبطال حق الغريم عنه وإذا لم يقبل إقراره بذلك صار هو مستهلكا للوديعة بتقديم الإقرار بالدين عليها والإقرار بالوديعة المستهلكة إقرار بالدين فكأنه أقر بدينين فيتحاصان .
ولو أقر بالوديعة أولا ثم بالدين فالوديعة أولى لأنه حين أقر بها لم يكن لأحد فيها حق ثابت ولا كان يعرض الثبوت فصح إقراره بالعين مطلقا وتبين أنها ليست بتركته ثم إقراره بالدين بعد ذلك إنما يكون شاغلا لتركته لا لما لم يكن من جملة ملكه وهذا بخلاف ما إذا وهب عينا وسلم ثم أقر بالدين لأن الهبة وإن نفذها في مرضه صار كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى تعتبر من ثلثه ولا يتبين بالهبة أن الموهوب لم يكن مملوكا له فيتعلق به حق الغريم المقر به بعد ذلك فكان هو أولى من الموهوب له فأما إقراره بالوديعة لم يصر كالمضاف إلى ما بعد الموت بل ثبت بنفسه كما أقر به ويتبين أن هذه العين لم تكن ملكا له فلهذا لا يثبت حق المقر له بالعين بعد ذلك فيه ولو كان عليه دين في الصحة وأقر في مرضه بدين أو وديعة كان دين الصحة مقدما على ما أقر به في المرض عندنا وقال بن أبى ليلي رحمه الله ما أقر به في الصحة والمرض من الدين فهو سواء وهو قول الشافعي رحمه الله.
وحجتهما في ذلك أن الإقرار من جنس التجارة وبسبب المرض إنما يلحقه الحجر عن التبرع لا عن التجارة ألا ترى أن سائر تصرفاته من البيع والشراء صحيح في مرضه على الوجه الذي يصح في صحته وكذلك إقراره وهذا لأن الإقرار إظهار للحق الواجب عليه

 

ج / 18 ص -24-       وذلك من أصول حوائجه وقد بينا أن حاجته مقدمة في ماله بخلاف التبرع فإنه ليس من حوائجه ولهذا كان معتبرا من ثلث ماله والإقرار يكون معتبرا في جميع ماله والدليل عليه أن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإنما جعل حجة ليترجح جانب الصدق باعتبار أن عقله ودينه يدعو أنه إلى الصدق ويمنعانه من الكذب وكذلك شفقته على نفسه وماله تحمله على الصدق وتمنعه من الكذب وهذا المعنى لا تختلف بين الصحة والكذب بل يزداد معنى رجحان جانب الصدق والكذب ولأن في حال الصحة كان الأمر موسعا عليه فربما يؤثر هواه على ما هو المستحق عليه فيقر بالكذب وبالمرض يضيق الأمر عليه في الخروج عن المستحق عليه فلا يؤثر هواه على صرف المال على ما هو المستحق عليه وهو معنى ما قيل أن المرض حال النوبة والإنابة يصدق فيه الكاذب ويبر فيه الفاجر فتنتفي تهمة الكذب عن إقراره ويكون الثابت بالإقرار في هذه الحال كالثابت بالبينة فكان مزاحما لغرماء الصحة.
وحجتنا في ذلك أن أحد الإقرارين وجد في حال الإطلاق والأخر في حال الحجر فيقدم ما وجد في حال الإطلاق على ما وجد في حال الحجر وإنما قلنا ذلك لأن بسبب المرض يلحقه الحجر ليتعلق حق الغرماء والورثة بماله حتى لا يجوز تبرعه بشيء إذا كان عليه دين محيطا وبما زاد على الثلث إذا لم يكن عليه دين لتعلق حق الورثة بماله ولأنا نقول بأن الحجر يلحقه عن التبرع لأنه تبرع بل لأنه مبطل حق الغرماء عن بعض ماله وكما يبطل حقهم عن بعض ما له بالتبرع فكذلك يبطل حقهم بإثبات المزاحمة للمقر له في المرض معهم فكان مجحورا عن الإقرار لحقهم بخلاف سائر التجارات فإنه ليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء مما يتعلق حقهم به فإنه تعلق حقهم بالمالية والتجارة لا سيما المال فليس فيه إبطال شيء من حقهم حتى لو كان البيع بمحاباة لم تصح المحاباة في حقهم لما فيه من إبطال حقهم عن بعض المالية ولأنا قد بينا أن حق الغرماء وإن كان يتعلق بالموت بماله يستند حكم التعليق إلى أول المرض لأنه سبب الموت كالبيع بشرط الخيار إذا أخبر استند حكم الملك إلى أول البيع حتى يستحق المشترى الزوائد فيتبين بهذا أن حق الغرماء الصحة تعلق بماله بأول المرض وصار ماله كالمرهون في حقهم فبعد ذلك إقراره في المرض غير صحيح فيما يرجع إلى إبطال حقهم لأن إقرار المقر محمول على الصدق في حقه حتى يكون حجة عليه فأما في حق الغير هو محمول على الكذب لكونه متهما في حق الغير وهذا بخلاف السبب المعاين من غصب أو استهلاك لأنه لا تمكن فيه التهمة فيظهر السبب في حق غرماء الصحة كما يظهر في حق المريض فيكون ذلك بمنزلة الدين الثابت بالبينة في مرضه.
وقوله بأن المرض دليل على صدقه في إقراره قلنا هذا في حق من ترجح أمر دينه على هواه على أمر دينه فهذه الحال حال المبادرة إلى ما كان يريده ويهواه ما كان قدم بعينه فيها فلما آيس من نفسه أثر من يهواه على ما هو المستحق بماله وليس معتاد كندر تمييز إحدى الحالين عن الأخرى فجعلنا الدليل معنى شرعيا وهو إذا كان ممكنا من تحصيل

 

ج / 18 ص -25-       مقصوده بطريق الإنساء لا تتمكن التهمة في إقراره ففي حال الصحة كان متمكنا من تحصيل مقصوده لطريق الإنساء فلا تتمكن التهمة في إقراره فأما إذا مرض وعليه دين فهو غير متمكن من تحصيل مقصوده ما لإنساء لأن الدين مقدم على تبرعه فيحمله ذلك على الإقرار كاذبا لتحصيل مقصوده بهذا الطريق فلهذا لا يصدقه في حق غرماء الصحة ولو استقرض في مرضه مالا أو اشترى شيئا وعاين الشهود قبضه ذلك فهذا يحاص غرماء الصحة لأنه لا يتمكن التهمة فيما يثبت بمعاينة الشهود وليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء بل فيه تحويل حقهم من محل إلى محل بعدله فظهر هذا السبب في حقهم وكان صاحبه مزاحما لهم في الشركة ولو لم تكن التركة إلا عين المال الذي أخذه قرضا أو بيعا فهو كذلك لأن بالقبض تم ملكه فكان من جملة تركته عند موته يتعلق به حق جميع غرمائه والبائع إنما يكون أحق بالمبيع مالم يسلم فأما إذا سلم فقد أبطل حقه في الاختصاص كالمرتهن إذا رد الرهن كان مساويا لسائر الغرماء فيه ولما التحق ما وجب بالسبب المعاين في المرض بالواجب في حال الصحة حتى استوى به كان مقدما على ما أقر به في المرض بمنزلة دين الصحة وهذا لأن السبب المعاين أو الثابت بالبينة يكون أقوى من الثابت بالإقرار والحكم يثبت بحسب السبب والحقوق تترتب بحسب القوة والضعف.
 ألا ترى أن الكفن مقدم على الدين في التركة لقوة سببه ثم الدين مقدم على الوصية والميراث فكذلك هنا ولو قضى دين هذا الذي أخذ منه في المرض كان جائزا وهو له دون غرماء الصحة لأنه حول حق الغرماء من محل إلى محل بعدله فليس في هذا القضاء لفظا إبطال حقهم عن شيء فكانت مباشرته في المرض والصحة سواء أرأيت لو ردما استقرض بعينه أو فسخ البيع ورد المبيع بعيب أكان يمتنع سلامته للمردود عليه لحق غرماء الصحة لا يمتنع ذلك فكذلك إذا رد بدله لأن حكم البدل حكم المبدل ولو قضى بعض غرماء الصحة دينه ثم مات لم يسلم المقبوض القابض بل يكون ذلك بين الغرماء بالحصص عندنا .
وعند الشافعي رحمه الله: يسلم له وهو بناء على أصله أن بسبب المرض لا يلحقه الحجر عن السعي في فكاك رقبته وقضاء الدين سعي منه في فكاك رقبته فكان فعله في المرض والصحة سواء وهذا لأنه ناظر لنفسه فيما يصنع فإنه قضى دين من كان حاجته أظهر ومن يخاف أن لا يسامحه بالإبراء بعد موته بل يخاصمه في الآخر وتصرفه على وجه النظر منه لنفسه يكون صحيحا لا يرد ولنا أن حق سائر الغرماء تعلق بماله بالمرض فهو بقضاء دين بعضهم مبطل حق سائر الغرماء عما دفعه إلى هذا وهو لا يملك إبطال حق الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به كما لو وهب شيئا بخلاف ما تقدم من قضاء الثمن وبدل القرض لأنه ليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء من المالية كما قدرنا .
توضيحه أن هذا إيثار منه لبعض الغرماء بعد ما تعلق حقهم جميعا بماله فهو نظير إيثاره بعض الورثة بالهبة والوصية له بعد ما تعلق حق الورثة بماله وذلك مردود عليه مراعاة لحق

 

ج / 18 ص -26-       سائر الورثة فكذلك هذا ولو قرض وفي يده ألف درهم وليس في يده ألف درهم وليس عليه دين الصحة فأقر بدين ألف درهم ثم أقر بأن الألف التي في يده وديعة لفلان ثم أقر بدين ألف درهم ثم مات قسمت الألف بينهم أثلاثا لأنه لما قدم الإقرار بالدين فإقراره بالوديعة بعده بمنزلة الإقرار بالدين فكأنه أقر بثلاثة ديون في مرضه فيقسم ما في يده بينهم بالسوية ولو قال صاحب الدين الأول لا حق لي قبل الميت أو قد أبرأته من ديني كانت الألف بين صاحب الوديعة وبين الغريم الآخر نصفين لأن مزاحمة الثالث قد زالت فيتحاصان فيه ولا يبطل حق الغريم الآخر بما قال الغريم الأول أما إذا أبرأه فظاهر لأن بالإبراء لم يتبين أن دينه لم يكن واجبا.
 وكذلك إن قال لا حق لي على الميت لأن إقراره كان صحيحا ملزما ما لم يرده المقر له وذلك كان مانعا من سلامة العين للمقر بالوديعة وقد تثبت المزاحمة للغريم الآخر معه فإذا رد المقر له الأول ورده عامل في حقه لا في إبطال حق الغريم الأول فكان في حقه وجود هذا الرد وعدمه بمنزلة واحدة فلهذا كانت الألف بين صاحب الوديعة والغريم الآخر نصفين .
رجل قال لفلان: على أبي ألف درهم وجحد ذلك وجحد المقر عليه ثم مرض المقر ومات الجاحد والمقر وارثه وعلى المقر دين في الصحة ثم مات وترك ألفا ورثها عن الجاحد قال غرماء المقر في صحته أحق بهذا الألف من غرماء الجاحد لأن أصل الإقرار من المقر لم يكن صحيحا لكونه حاصلا على غيره ولا ولاية له على الغير فإذا مات الجاحد والمقر وارثه الآن صح إقراره باعتبار أن تركته صارت مملوكة للمقر إرثا ويجعل هو كالمحدود لإقراره في هذه الحال وهو في هذه الحال مريض لو أقر على نفسه لم يكن المقر له مزاحما لغرماء الصحة فإذا أقر على مورثه أولا أن يكون المقر له مزاحما لغرماء الصحة ولأن صحة إقراره على مورثه لما كان باعتبار ما في يده من التركة صار هذا بمنزلة الإقرار منه بالعين وإقرار المريض يصح في حق غرماء الصحة فكذلك إقراره على مورثه والدليل على أنه جعل كالمحدد للإقرار في الحال أنه لو كان أقر على مورثه بعتق عبده ثم مات المورث حتى نفذ إقراره كان معتبرا من ثلث مال المريض وجعل كأنه آنسا للإقرار بالعتق في الحال فكذلك هنا يجعل كأنه الإقرار فلا يزاحم المقر له الغرماء في حال الصحة وإذا أقر المريض بألف درهم بعينها أنها لقطة عنده ليس له مال غيرها فأنه يصدق بثلثها فيتصدق بالثلث في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله إن لم تصدقه الورثة فهي ميراث كلها لا يتصدق بشيء منها.
وجه قوله أنه أقر بالملك فيها لمجهول والإقرار للمجهول باطل كما لو أقر لواحد من الناس بعين أو دين وإذا بطل الإقرار صار كأن لم يوجد ثم إقراره بأنها لقطة لا يتضمن الأمر بالتصدق بها لأن التصدق باللقطة ليس بلازم وللملتقط أن يمسكها ولا يتصدق بها وإن

 

ج / 18 ص -27-       طالت المدة وإنما يرخص له في التصدق بها إن بينا حفظا على المالك لأنه لما تعذر عليه اتصال عينها إليه يوصل ثوابها إليه بالتصدق بها وليس ذلك بمستحق عليه شرعا.
 ألا ترى أنه لو حضر المالك بعد ما تصدق بها كان له أن يضمنه فيثبت أن إقراره باللقطة لا يتضمن الأمر بالتصدق بها لا محالة فلهذا لا يجب على الورثة التصدق بشيء منها ولأبي يوسف رحمه الله أنه أقر أن ملكه عن هذا المال مستحق والإرث عنه منتف لقربه تعلقت به حقا للشرع فوجب تقييد تلك القربة عند إقراره من ثلث ماله كما لو أقر بمال في يده أنه صدقه للمساكين بزكاة واجبة عليه أو عشر أو نذر وجب تقيده من الثلث وإنما قلنا ذلك لأن السبيل في اللقطة التصدق بها عند تعذر اتصالها إلى مالكها هكذا نقل عن بن مسعود رضي الله عنه أنه تصدق بمال في يده لغائب ثم قال هكذا يصنع باللقطة ولاية في التصدق بها في الملتقط لأنه يخرج به عما لزمه عن عهدة الحفظ وإقرار المريض معمول به فيما يرجع إلى حاجة خروجه عما لزمه من العهدة ولا طريق له إلى ذلك إلا بالتصدق بها فصار إقراره كالأمر للورثة أن يتصدقوا به دلالة وما يثبت بدلالة النص فهو كالمنصوص عليه فعليهم أو يتصدقوا به من ثلثه .
يقرره أنهم لو صدقوه في ذلك كان عليهم أن يتصدقوا بها وفي مقدار الثلث المريض مستغن عن تصديق الورثة فيما هو موجب تصرفه فإذا كان عند تصديقهم يجب التصدق به بحكم ذلك الإقرار فكذلك عند عدم تصديقهم يجب التصديق من ثلث ماله.
وإذا تزوج المريض امرأة على ألف درهم وهي مهر مثلها كانت المرأة استوت لغرماء الصحة في مهرها لأن وجوب دينها بسبب لا تهمة فيه وهو النكاح ثم هذا السبب من حوائج المريض لأن النكاح في الأصل عقد مصلحة مشروع للحاجة وبمرضه تزداد حاجته إلى ما يتعاهده وهو غير محجور عن التزام الدين بمباشرة ما هو من حوائجه كاستئجار الأطباء وشراء الأدوية ثم مهر المثل لا يجب بالتسمية بل إنما يجب شرعا بصحة النكاح ألا ترى إنه بدون التسمية يجب فلا يكون المريض بالتسمية قاصدا إلى إبطال حق الغرماء عن شيء مما يتعلق حقهم به فلهذا صح منه وكانت مزاحمة غرماء الصحة مقدمة على ما أقر ما به في مرضه من دين أو وديعة لقوة سبب حقها ولو أوفاها المهر وعليه دين في الصحة لم يسلم لها ما قبضت لأنه خصها بقضاء دينها وقد بينا أن المريض لا يملك تخصيص بعض غرماء الصحة بقضاء الدين وهذا لأن المهر بمقابلة البضع والبضع ليس بمال متقوم يتعلق به حق الغرماء فكان في حق الغرماء إبطالا لحقهم بإيثارها بقضاء دينها بخلاف بدل المستقر أو المستقرض لأن ما وصل إليه بمقابلة مال يتعلق به حق الغرماء فلم يكن في تصرفه إبطال حقه عن شيء معين فلهذا كان صحيحا والله أعلم.

باب الإقرار للوارث وغيره من المريض
قال رحمه الله: ولا يجوز إقرار المريض لوارثه بدين أو عين عندنا وقال الشافعي: رحمه

 

ج / 18 ص -28-       الله: يجوز بناء على أصله بأكثر من الثلث فكان قدر الثلث في حق الوارث بمنزلة ما زاد عليه في حق الأجنبي والدليل عليه أن إقراره بالوارث صحيح فكذلك إقراره للوارث لأن في كل واحد من الإقرارين إصرار بالوارث المعروف وحجتنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا لا وصية للوارث ولا الإقرار بالدين" إلا أن هذه الزيادة سائرة غير مشهورة وإنما المشهور قول بن عمر رضي الله عنه لما روينا وقول الواحد من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم عندنا مقدم على القياس والمعنى فيه أنه أثر بعض ورثته بشيء من ماله بمجرد قوله فلا يصح منه كما لو أوصي له بشيء وهذا لأن محل الوصية هو الثلث فإنه خالص حق الميت قال صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم" ثم لم يجز وصيته به للوارث مع أنه خالص حقه فيكون ذلك دليلا على أنه محجور عن اتصال المنفعة إلى الوارث وإقرار المحجور لا يصح كإقرار الصبي والمجنون إلا أن هذا الحجر لحق الورثة فإذا صدقوه نفذ كما إذا أجازوا وصيته .
توضيحه أن جميع المال محل الإقرار بالدين كما أن الثلث محل الوصية ثم لم يجز تصرفه مع الوارث بالوصية في محلها وكذلك لا يجوز مع الوارث بالإقرار في ماله وهذا لأن حق الورثة قد تعلق بما له بمرضه فيكون إقراره لبعضهم إيثارا منه للمقر له بعد ما تعلق حقهم جميعا به فلا يصح ويجعل إقراره محمولا على الكذب في حقهم ولأن الإقرار وإن كان إخبارا في الحقيقة فقد جعل كالإيجاب من وجه حتى أن من أقر لإنسان بجارية لا يستحقق أولادها فإذا كان كالإيجاب من وجه فهو إيجاب مال لا يقابله مال والمريض ممنوع عن ميله مع الوارث أصلا فرجحنا هذا الجانب في حق الوارث ورجحنا جانب الإقرار في حق الأجنبي وصححناه في جميع المال وقد بينا في الباب المتقدم أن صحة إقراره للأجنبي باعتبار وصيته له وهذا لا يوجد في حق الوارث فأما الإقرار بالوارث فلم يلاق محلا يتعلق به حق الورثة لأن حق الورثة إنما يتعلق بالمال قال صلى الله عليه وسلم
"إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ولأن الإقرار بالسبب من حوائج الميت كيلا يضيع ماؤه فكان مقدما على حق ورثته .
 ألا ترى أن الحجر بسبب المرض وكما لا يصح إقرار المريض بالدين لوارثه فكذلك إقراره باستيفاء دينه من وارثه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه فرق بينهما فقال الوارث لما عامله في الصحة فقد استحق براءة ذمته عند إقراره باستيفاء الدين منه فلا يتغير ذلك الاستحقاق بمرضه ألا ترى أنه لو كان دينه على أجنبي فأقر باستيفائه في مرضه كان صحيحا في حق غرماء الصحة وإن كان إقراره بالدين لا يصح في حق غرماء الصحة.
وحجتنا في ذلك أن إقراره بالاستيفاء في الحاصل إقرار بالدين لأن الديون يقضى بأمثالها فيجب للمديون على صاحب الدين عند القبض مثل ما كان له عليه ثم يصير قصاصا بدينه فكان هذا بمنزلة الإقرار بالدين للوارث ليس بصحيح فكذلك إقراره بالاستيفاء منه

 

ج / 18 ص -29-       وهذا بخلاف إقراره بالاستيفاء من الأجنبي لأن المنع هناك لحق غرماء الصحة وحق الغرماء عند المرض لا يتعلق بالدين إنما يتعلق بما يمكن استيفاء ديونه منه والدين ليس بمال على الحقيقة ولا يمكن استيفاء ديونه منه فإقراره بالاستيفاء لم يصادف محلا يتعلق حقهم به فأما حق الورثة يتعلق بالعين والدين جميعا لأن الورثة خلافة والمنع من الإقرار للوارث إنما كان لحق الورثة وإقراره بالاستيفاء في هذا كالإقرار بالدين لأنه يصادف محلا هو مشغول بحق الورثة وإذا أقر المريض لوارثه بدين فلم يمت المريض حتى صار الوارث غيره بأن كان أقر لأخيه فولد له بن أو كان ابنه كافرا أو رقيقا فأسلم أو عتق وصار هو الوارث دون الأخ جاز إقراره له لأن المانع من صحة الإقرار كونه وارثه والوراثة إنما تثبت عند المورث فإذا لم يكن من ورثته عند الموت كان هو والأجانب سواء.
 ألا ترى أنه لو تبرع عليه بهبة أو وصية جاز من ثلثه ولأن الإقرار من المقر صحيح في حقه حتى إذا لم يكن له وارث سوى المقر له جاز الإقرار وكان هو مؤاخذا بما أقر به ما لم يمت لأن بطلان إقراره بمرض الموت ولا يدرى أيموت في هذا المرض أو يبرأ فعرفنا أن إقراره للحال صحيح إنما يبطل عند موته باعتبار صفة الوراثة في المقر له فإذا لم يوجد نفي صحيحا وجعل خروج المقر له من أن يكون وارثا بمنزلة من لم يقر في مرضه وإن كان أقر له وهو غير وارث ثم صار وارثا يوم موته بأن أقر لأخيه وله بن ثم مات الابن قبله حتى صار الأخ وارثا بطل إقراره له عندنا وقال زفر رحمه الله إقراره له صحيح لأن الإقرار موجب الحق بنفسه فإنما ينظر إلى حال الإقرار وقد حصل لمن ليس بوارث فلا يبطل بصيرورته وارثا بعد ذلك كما لو أقر له في صحته ثم مرض وكما لو أقر لأجنبية ثم تزوجها وبهذا فارق الهبة والوصية لأنها مضافة إلى ما بعد الموت حقيقة أو حكما .
 ألا ترى أنه لو وهب لأجنبية ثم تزوجها ثم مات لم تصح الهبة ونظر فيه إلى وقت الموت لا إلى وقت الهبة بخلاف الإقرار فكذلك هنا ولنا أنه ورث بسبب كان يثبت قائما وقت الإقرار فيتبين أن إقراره حصل لوارثه وذلك باطل وهذا لأن الحكم مضاف إلى سببه فإذا كان السبب قائما وقت الإقرار تثبت صفة الوارثة للمقر له من ذلك الوقت بخلاف الأجنبية إذا تزوجها لأنها صارت وارثة بسبب حادث بعد الإقرار والحكم لا يسبق سببه فلا يتبين أن الإقرار حين حصل كان للوارث وبخلاف ما لو أقر في الصحة ثم حصل له مرض حادث بعد الإقرار فالحجر بسببه لا يستند إلى وقت الإقرار ثم الفرق بين الإقرار والوصية أو الهبة في حق من صار وارثا بسبب حادث من موالاته أو زوجته أن الإقرار ملزم بنفسه ويتبين أن المقر به ليس من تركته فالوراثة الثابتة بسبب حادث بعده لا يكون مؤثرا فيه فأما الهبة والوصية كالمضاف إلى ما بعد الموت فإذا صار من ورثته بسبب حادث كان المانع قائما وقت لزومه فلهذا لا يصح وهو نظير إقرار المريض بالوديعة مع الهبة على ما بينا في الباب المتقدم وإن كان يوم أقر له وارثه بموالاة أو زوجته ويوم مات وارثه وقد خرج فيما بين ذلك من أن يكون

 

ج / 18 ص -30-       وارثه يثبتونه أو فسخ الموالاة فالإقرار باطل في قول أبي يوسف رحمه الله وهو دائر في قول محمد رحمه الله
 
وجه قوله: أنه إنما ورث بسبب حادث بعد الإقرار فلا يؤثر ذلك في إبطال الإقرار كما في الفصل المتقدم وهذا لأن عقد الأول قد ارتفع ولم يرث به فكان وجوده عند الإقرار كعدمه والعقد الثاني متجدد وهو غير الأول ولا أثر له في إبطال الإقرار وهو قياس ما لو أقر به في مرضه ثم صح ثم مرض ومات وأبو يوسف رحمه الله يقول الإقرار حصل للوارث وتثبت له هذه الصفة عند الموت وكان الإقرار باطلا كما لو ورث بأخوة كانت قائمة وقت الإقرار وهذا لأن الإقرار إنما لا يصح ليمكن تهمة الإيثار فإذا كان سبب الوراثة موجدا وقت الإقرار كانت هذه التهمة متمكنة والعقد المتجدد قام مقام العقد الأول في تقرر صفة الوراثة عند الموت فيجعل كأن الأول قائم له بخلاف ما إذا انعدمت صفة الوارثة عند الإقرار لأن تهمة الوارثة غير متقررة ثمة فصح الإقرار مطلقا ولو أقر لوارثه أو لأجنبي ثم مات المقر له ثم مات المريض ووارث المقر له من ورثة المريض لم يجز ذلك الإقرار في قول أبي يوسف الأول رحمه الله وهو جائز في قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله .
وجه قوله الأول أن الإقرار حصل وسبب الوراثة بينه وبين المقر له قائم وحكمه عند الموت فإنما يتم لمن هو وارثه فلم يجز الإقرار ليمكن نهمة لإيثار ووارث المقر له حلف عنه قائم مقامه فيما هو حكم الإقرار فإذا كان هو وارثا للمقر جعل بقاؤه عند موت المقر كبقاء المقر له بنفسه وجه قوله الآخر أن حياة الوارث عند موت المورث شرط ليتحقق له صفة الوراثة وهنا المقر له لما مات قبله فقد تبين له أن الإقرار حصل لغير الوارث فيكون صحيحا ووارث لنقر له ليس بملكه من جهة المقر إنما يملكه بسبب الوراثة بينه وبين المقر وذلك غير مبطل للإقرار
 ألا ترى أنه لو أقر بعين لأجنبي فباعه الأجنبي من وارث المقر أو وهبه له أو تصدق به عليه كان الإقرار صحيحا فكذلك هنا وكذلك إقرار المريض بعبد في يديه أنه لأجنبي فقال الأجنبي بل هو لفلان وارث المريض لم يكن لي فيه حق على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إقرار المريض باطل لأن المقر له لما حوله إلى وارث المريض صار كأن المريض أقر لوارثه ابتداء وهذا بخلاف ما إذا ملكه بسبب أنساه لأن ذلك ملك آخر يحدث للوارث بسبب متجدد غير الملك الحاصل بإقرار المريض فأما هنا إنما يحصل له ذلك الملك الثابت بإقرار المريض لأنه حوله بعينه إلى وارث المريض ونفاه عن نفسه.
 
وفي قوله الآخر يقول: الإقرار صحيح لأن وارث المريض لم يملكه بإقرار المريض وإنما يملكه بإقرار الأجنبي له بالملك وإقراره له بالملك صحيح وقوله الآخر أقرب إلى القياس من قوله الأول آخذا بالاحتياط لتمكن تهمة المواضعة بين المريض والأجنبي على أن يقر المريض له ليقر هو لوارثه فيحصل مقصوده في الإيثار بهذا الطريق ولو أقر الأجنبي أن

 

ج / 18 ص -31-       العبد حر الأصل وأن المريض كان أعتقه في صحته عتق ولا شيء عليه في القولين جميعا أما على قوله الآخر فغير مشكل وعلى القول الأول كذلك لأن إعتاقه من جهة المريض هنا غير ممكن فإنه يعقب الولاء وليس للمقر له فلا بد من أن يجعل كالقاتل لإقراره ثم العتق بخلاف الإقرار فهناك يمكن تحويل الملك الثابت له بالإقرار إلى الوارث على أن يتقدم عليه فيحصل الملك له بإقرار المريض من غير أن يحصل للمقر له الأول وإقراره بالتدبير والكتابة بمنزلة إقراره بالعتق من حيث أن يجعل كالقابل لإقرار المريض ثم المستثنى للكتابة والتدبير من جهته ولا يجوز إقرار المريض لقاتله بدين إذا مات في ذلك من جنايته لأن الإقرار للقاتل بمنزلة الإقرار للوارث فإنه عاجز عن اتصال النفع إليه بانساء التبرع لأن الهبة والوصية للقابل لا تصح كما لا يصح للوارث فيكون متهما في إخراج الكلام مخرج الإقرار.
 فإن قيل: العاقل لا يؤثر قاتله على ورثته بالإقرار له كاذبا فتنتفي تهمة الكذب عن إقراره هنا قلنا: قد بينا أن الصدق والكذب في إقراره لا يعرف حقيقة فإنما يعتبر فيه الدليل الشرعي وهو تمكنه من تحصيل مقصوده بانساء التبرع وعدم تمكنه من ذلك وهذا لأن أحوال الناس مختلفة في هذا فقد يؤثر الشخص قابله لمثل في قلبه إليه أو قصده إلى مجازات إساءته بالإحسان فتتمكن التهمة باعتبار هذا المعنى ولكن الشرط أن يموت من جنايته لأنه إذا مات من غير جنايته لم يكن قابلا له بل يكون خارجا له .
وعلى قول الشافعي رحمه الله: الإقرار للقاتل صحيح على قياس مذهبه في الإقرار للوارث وإن لم يكن يوم أقر صاحب فراش جاز إقراره لأن المريض إنما يفارق الصحيح بكونه صاحب فراش فإن الإنسان قل ما يخلو عن نوع مرض عادة ولا يعطى له حكم المريض ما لم يكن صاحب فراش فإذا صار بجنايته صاحب فراش فهو مريض وإذا لم يصر صاحب فراش فهو صحيح والإقرار الصحيح جائز لقائله ولوارثه كما يجوز تبرعه عليه وبهذا تبين فساد قول من يقول من مشايخنا رحمهم الله إذا كان خطا بنفسه ثلاث خطوات أو أكثر فهو ليس بمريض في حكم التصرفات لأنه اعتبر أن يكون صاحب فراش وصاحب الفراش قد يمشي بنفسه لجنايته وقد يتكلف بخطوات يخطوها فلا يخرج به من أن يكون مريضا ولا يجوز إقرار المريض لعبد وارثه ولا لعبد قائله ولا لمكاتب لأن كسب العبد لمولاه فإنه يخلفه في الملك بذلك السبب بخروج العبد من أن يكون أهلا للملك فكان الإقرار للعبد بمنزلة الإقرار لمولاه وكذلك للمولى في كسب المكاتب حق الملك وينقلب ذلك حقيقة ملك بعجزة فمن هذا الوجه إقراره للمكاتب بمنزلة إقراره لمولاه.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين الهبة فقال إذا وهب لعبد أخيه لم يجعل بمنزلة الهبة لأخيه في المنع من الرجوع وهنا جعله كالإقرار للمولى في أنه باطل والفرق أن المبطل للإقرار هنا انتفاع الوارث بإقرار المريض ومنفعة المالية ويمكن تهمة الإيثار له على سائر الورثة وهنا متحقق في الإقرار للعبد والمكاتب وهناك المثبت لحق الرجوع قصده عند

 

ج / 18 ص -32-       الهبة إلى العوض والمكافآت وعدم سلامة هذا المقصود له وذلك قائم إذا كان القائل للهبة أجنبيا وإن كان الملك يحصل لذي لرحم المحرم فلهذا يثبت له حق الرجوع فيه ولو اقر المريض بدين لوارثه ولأجنبي بإقراره باطل لما فيه من منفعة الوارث فإن ما يحصل للأجنبي بهذا الإقرار يشاركه الوارث فيه بخلاف ما إذا أوصي لوارثه ولأجنبي فإن الوصية تصح في نصب الأجنبي لأن ذلك أنسا عقدا فإذا صححناه في حق الأجنبي لم ينتفع به الوارث والإقرار إخبار بدين مشترك بينهما فإذا صححناه في نصب الأجنبي انتفع الوارث بالمشاركة معه في ذلك فإن كان كاذبا بالشركة بينهما أو أنكر الأجنبي الشركة وقال لي عليه خمسمائة ولم يكن بيني وبين وارثه هذا شركة لم يصح إقراره أيضا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وصح في قول محمد رحمه الله تعالى في نصب الأجنبي وجه قوله أنه لمهما بالمال وادعي عليهما الشركة في المقر به وقد صدقاه فيما أقر وكذباه فيما ادعي عليهما أو أنكر الأجنبي الشركة التي ادعاها إليه فلم تثبت الشركة بقوله وإذا لم تثبت الشركة بقي إقراره للأجنبي صحيحا لأن المانع من صحة الإقرار كان منفعة الوارث وعند انتفاع الشركة لا منفعة للوارث في صحة إقراره للأجنبي.
وجه قولهما أن الإقرار وقع فاسدا بمعنى من جهة المقر وهو قصده إلى اتصال المنع وإلى وارثه فلا ينقلب صحيحا لمعنى من جهة المقر له لأن فساده مانع من صيرورته دينا في ذمة المقر وليس للمقر له ولاية على ذمته في إلزام شيء فلا نقدر على تصحيح إقراره لما فيه من إلزام الدين في ذمته بخلاف ما إذا أقر بعبد في يده لهذا أو هذا فاصطلحا كان لهما أن يأخذاه لأن فساد الإقرار هناك ليس بمعنى من جهة المقر وهو عجز المجهول عن المطالبة به وقد زال ذلك باصطلاحهم وإذا كان المفسد معنى من جهتهما ولهما ولاية على أنفسهما صح منهما إزالة المفسد بالاصطلاح وكلام محمد رحمه الله تعالى ليس بقوي لأنه ما أقر لهما بالمال إلا بصفة الشركة بينهما ولا يمكن إثباته مشتركا لما فيه من منفعة الوارث ولا يمكن إثباته غير مشترك لأن ذلك غير ما أقر به وهذا بخلاف مالو أقر بالمال مؤجلا لأن الأجل ليس بصفة للمال وكيف يكون صفة للمال وهو حق من عليه المال.
 ألا ترى أن بعد حلول الأجل يبقي المال كما كان فأما هنا كونه مشتركا بينهما صفة لهذا الدين فلا يمكن إثباته بدون هذه الصفة لأن الدين إنما وجب بسبب وإذا وجب مشتركا بذلك السبب لا يصير غير مشترك مع بقاء ذلك السبب ما دام دينا لأن إيقاع الشركة يكون بالقسمة وقسمه الدين لا تجوز فإذا ثبت أنه لا يمكن إثباته غير مشترك كان تجاحدهما وتصادقهما على الشركة سواء ولو استقرض المريض من وارثه مالا بمعاينة الشهود كان هو بمنزلة الأجنبي في ذلك لأنه لا تهمة للسبب المعاين ولو أقر بمهر لامرأته يصدق فيما بينه وبين مثلها ويحاص غرماء الصحة لأنه لا تهمة في إقراره فوجب مقدار مهر المثل بحكم صحة النكاح لا بإقراره

 

ج / 18 ص -33-       ألا ترى أن عند المنازعة في المرض يجعل القول قولهما لها بزيادة على مهر مثلها فالزيادة باطلة لأن وجوبها باعتبار إقراره وهو متهم في حقها لأنها من ورثته ولو أقرت المرأة في مرضها بقبض مهرها من زوجها لم يصدق لأنه أقر باستيفاء الدين من وارثها فقد بينا بطلان إقرار المريض باستيفاء الدين من وارثه ولو باع المريض من أجنبي شيئا ثم باعه المشتري من وارث المريض أو وهبه له أو مات فورثه فهو جائز كله لأن خروج العين من ملك المريض كان إلى من اشتراه منه لا إلى وارثه ثم وارثه إنما يملكه من جهة المشتري إما بسبب متجدد أو بطريق الخلافة لوارثه فلم يمكن مانع من صحة تصرف المريض وإذا كان دين الصحة يحيط بمال المريض وأقر أنه أقرض رجلا ألف درهم ثم قال استوفيتها لم يصدق على ذلك لأن إقراره بالاستيفاء بمنزلة إقراره بالدين في المرض وهذا بخلاف ما إذا كان البيع في الصحة لأن حق الغرماء هناك ما لم يكن متعلقا بالمنع فلا يتعلق ببدله ما دام دينا وقد استحق المشتري براءة ذمته عند إقراره بالاستيفاء منه إذا كانت المبائعة في الصحة فلا يبطل استحقاقه بمرض المستحق عليه.
وإذا كان المبيع في المرض فحق الغرماء كان متعلقا بالمبيع فتحول إلى بدله وما استحقاق المشتري هنا براءة ذمته إلا بتسليم مال يقوم مقام المبيع في حق تعلق حق الغرماء به فلهذا لا يصدق في إقراره وكذلك لو كان عليه دين في مرضه ولم يكن الدين في صحته فإن كان مراده دينا وجب في مرضه بسبب معاين فهو ودين الصحة سواء وإن كان مراده دينا وجب بإقراره فمعناه أن إقراره بالاستيفاء لا يكون صحيحا في براءة المشتري ولكنه صحيح في إثبات المحاصة بين المشتري وبين الغرماء الأخر إلا أنه صار مقرا له بمثل ما عليه بالمقاصة فيصير كأنه حصة بقضاء دينه وتخصيص المريض بعض غرماء بقضاء دينه لا يصح والله أعلم بالصواب.

باب المقتول عمدا وعليه دين
قال رضي الله عنه الأصل في مسائل هذا الباب أن نفس المقتول من جملة تركته في قضاء ديونه وتنفيذ وصاياه منه سواء كان واجبا بنفس القتل أو عند عفو بعض الشركاء عن القصاص لأن البدل يملك بملك الأصل والحق في نفسه له فكذلك فيما يجب بدلا عن نفسه وأصل آخر وهو أن الدين يقضى عن أيسر المالين قضاء لأن حق الغريم مقدم على حق الوارث فلا يسلم الوارث شيء من التركة إلا بعد الفراغ من الدين وأصل آخر أن التركة يقسم بعد قضاء الدين وتنفذ الوصية على الورثة على ما كان يقسم عليه إن لم يكن هناك دين أو وصية لأن ضرر قضاء الدين وتنفيذ الوصية يكون على الورثة بقدر أنصابهم ويجعل المستحق بالدين والوصية كالمتأدي من التركة والأصل في المال المشترك أن ما ينوى منه ينوى على الشركة وما يبقي على الشركة إذا عرفنا هذا.
 فنقول رجل قتل عمدا وترك ألف درهم وترك ابنين فعفي أحدهما وعلى المقتول دين

 

ج / 18 ص -34-       ألف درهم فقد سقط القود عن القاتل بعفو أحد الابنين لأنه لا حق للغريم في القصاص فإن حقه في المال والقصاص ليس بمال فصار عفو أحد الابنين كما لو لم يكن على المقتول دين وانقلب نصيب الآخر مالا وذلك خمسة آلاف درهم لأنه تعذر على الآخر استيفاء القصاص لمعني من جهته مع بقاء المحل فإذا قبض الخمسة آلاف ضم ذلك إلى الألف المتروكة فيكون تركته ستة آلاف يقضي منها دين المقتول وهو ألف درهم ويقسم ما بقي بين الاثنين على اثني عشر سهما سهم للمعافي واحد عشر سهما للذي لم يعف لأنه لو لم يكن هنا دين كان قسمة التركة سهما هكذا فإن الخمسة آلاف كلها حق الذي لم يعف والألف المتروكة بينهما نصفان للمعافى من ذلك خمسمائة درهم فإذا جعلت كل خمسمائة سهما صار حق الذي لم يعف أحد عشر سهما وللمعافي سهم واحد فذلك بعد قضاء الدين فقسم ما بقي بينهما على هذا.
 وكذلك لو كان الدين أكثر من ذلك بأن كان الدين ثلاثة آلاف وقد أوصى لرجل بألف أيضا فإنه بعد قضاء الدين فيأخذ الغريم كمال حقه من التركة بعد قضاء الدين ثلاثة آلاف ومقدار وصيته خارج من ثلثه فينفذ له ثم ما بقي بين الابنين على اثني عشر سهما لما بينا وهذا لأن حق الغريم والموصى له لا يتعلق بالقصاص لأنه ليس بمال فإذا انقلب مالا تعلق به حقهما لكونه محلا لإيفاء حقهما منه ولو كان ترك عبدا يساوي ألف درهم لا مال له غيره وعليه ألف درهم فخاصم الغريم القاضي فيباع العبد في دينه لأنه هو المحل الصالح لقضاء الدين منه في الحال فإن عفا أحد الابنين عن الدم بعد ذلك وأخذ الآخر نصف الدية فإن العافي يتبعه ويأخذ منه نصف سدسها لأنه ظهر أن التركة ستة آلاف وأن ضرر قضاء الدين يكون عليهما بحسب حقهما وقد صرف نصيب جميع العافي من العبد إلى الدين وأن ما كان عليه نصف سدس الدين الدين بقدر نصيبه من التركة فيما زاد على ذلك استوى من نصيبه وكان قضاؤه واجبا على شريكه لأنه لم يكن متبرعا في ذلك القضاء إنما ألزمه القاضي بغير اختياره فلهذا رجع على شريكه فله أن يرجع به على شريكه بنصف سدس خمسة الألف وهو أربعمائة وستة عشر وثلثان.
وإن لم يبع العبد وقضي الدين حتى قبض الذي لم يعف خمسة آلاف للغريم أن يأخذ منه جميع دينه لأن أيسر المالين لقضاء الدين منه هذا فإنه من جنس الدين فإن الدية من الخمسة الآلاف كان العبد سهما وكان العبد بينهما نصفين ميراثا عن الميت والأربعة آلاف الباقية للذي لم يعف ويرجع الذي لم يعف على العافي بثلاثة وثمانين درهما وثلث وذلك نصف سدس الدين استوفي جميع الدين مما هو خالص حق الذي لم يعف فيرجع على صاحبه بحصة نصيبه من التركة ونصيبه من التركة نصف سدسها فلهذا رجع عليه بنصف سدس الدين فأما أن يؤديها إليه ليسلم له نصف العبد وأما أن يباع نصيبه من العبد فيها لأن الدين متعلق بالتركة وهو غير مستحق في ذمة الوارث فكان هو بمنزلة دين واجب في نصيبه

 

ج / 18 ص -35-       من العبد فيه وإنما قسمنا العبد هنا نصفين لأنه ليس من جنس الدية والأجناس المختلفة لا تقسم قسمة واحدة بل يقسم كل جنس على حدة بخلاف الأول فإن نصف الدية مع المتروك من المال جنس واحد فلهذا ضمنا البعض إلى البعض في القسمة.
رجل قتل عمدا وله بن وامرأة وترك عبدا يساوي ألفا وعليه دين ألف درهم فعفت المرأة عن الدم سقط نصيبها وانقلب نصيب الابن مالا فيقضى له بسبعة أثمان الدية مقدار ذلك ثمانية آلاف وسبعمائة وخمسون فإذا جاء الغريم قبض دينه مما في يد الابن لأنه من جنس حقه والعبد بين المرأة والابن بالميراث على ثمانية أسهم للمرأة الثمن وللابن سبعة أثمانه ثم ضرر قضاء الدين لا يكون على الابن خاصة فيكون له أن يرجع على المرأة بمقدار حصتها من التركة وذلك جزء من ثمانية وسبعين جزءا من الألف لأن التركة في الحاصل تسعة آلاف وسبعمائة وخمسون وحق المرأة ثمن العبد فاجعل كل ألف على ثمانية فما قبض الذي لم يعف من الدين وهو ثمانية آلاف وسبعمائة وخمسون فإذا جعلت على كل ألف مائة يكون سبعين سهما والعبد ثمانية وسبعون سهما سهم واحد من ذلك نصيب المرأة والباقي كله للابن فضرر قضاء الدين عليهما يكون بهذه الصفة أيضا جزء من ثمانية وسبعون جزءا من الدين في نصيبها وقد استوفى مما هو خالص حق الابن فيرجع عليها بذلك فأما أن يدفعه ليسلم لها ثمن العبد أو يباع ثمن العبد.
 ولو قتل وله ألف درهم وعليه ألف درهم دين وترك ابنا وبنتا وامرأة فعفى الابن عن الدم فللابنة والمرأة حصتهما من الدية وذلك عشرة أسهم من أربعة وعشرين سهما فالسبيل أن نصحح الفريضة أولا فنقول للمرأة الثمن سهم من ثمانية والباقي وهو سبعة بين الابن والابنة أثلاثا فاضرب ثلاثة في ثمانية فيكون أربعة وعشرين للمرأة ثلاثة وللابنة سبعة وللابن أربعة عشر فظهر أن نصيب المرأة والابنة من الدم عشرة من أربعة وعشرين فينقلب ذلك مالا فيعفو الابن ومقداره بالدراهم أربعة الألف ومائة وستة وستون درهما وثلثا درهم لأن جميع الدية عشرة آلاف فإذا قسمته على أربعة وعشرين كان كل سهم من ذلك أربعة وستة عشر وثلثين وعشر مرات أربعمائة وستة عشر وثلثان يكون أربعة الألف ومائة وستة وستين وثلثين لأن عشر مرات أربعمائة فيكون أربعة آلاف وعشر مرات ستة عشر وثلثان يكون مائة وستة وستين وثلثين فيضم ذلك إلى الألف المتروكة فتكون جملة التركة خمسة آلاف ومائة وستة وستين وثلثين يقضي جميع الدين من ذلك أولا وما بقى يقسم بينهم بالحصص يضرب فيه الابنة بنصيبها من التركة والدية وهي ثلاثة آلاف درهم ومائتا درهم وثمانية دراهم وثلث وتضرب المرأة بألف وثلاثمائة وخمسة وسبعين درهما ويضرب الابن بنصيبه وهو خمسمائة وثلاثة وثمانين وثلث فإنما يضرب بهذا القدر فقط.
 وإذا أردت تصحيح الحساب بالسهام والسبيل أن تجعل كل مائة على اثني عشر سهما فنصيب الابن يكون أربعة وستين ونصيب المرأة مائة وخمسة وستين سهما ونصيب الابنة

 

ج / 18 ص -36-       ثلاثمائة وخمسة وثمانين سهما فإذا ضمت إليه نصيب المرأة مائة وخمسة وستين يكون خمسمائة وخمسين ثم إذا ضممت إليه نصيب الابن وهو أربعة وستون يكون ستمائة وأربعة عشر سهما فينقسم ما بقي من التركة بعد قضاء الدين بينهم على هذه السهام ليكون ضرر قضاء الدين على كل واحد منهم بقدر نصيبه.
 مريض في يديه ألف درهم أقر أنها وديعة بعينها لرجل ثم قتل عمدا قله وليان فعفى أحدهما فإنه يقضي للأخر بنصف الدية ويأخذ صاحب الوديعة وديعته ولا شيء للمعافى لأن إقراره بالوديعة في المرض للأجنبي صحيح ويتبين به أن الوديعة ليست من تركته بل هي للمودع يأخذها وإنما ترك الدم فقط وقد عفى أحد الابنين فانقلب نصيب الآخر مالا والعافي مسقط لنصيب نفسه فلا شيء له وكذلك لو لم يقر بوديعة ولكنه أقر لرجل بدين ألف درهم في مرضه وقضاها إياه قبل أن يقتل لأن إقراره بالدين في المرض للأجنبي وقضاؤه إياه صحيح إذا لم يكن عليه دين في صحته فخرج المدفوع من أن يكون من تركته وإنما تركته عند الموت الدم فقط هذا والأول سواء فإن لحق الميت دين بعد ذلك فإن اتبع صاحب الدين الابن الذي لم يعف فله ذلك لأن ما في يده من نصف الدية تركة الميت فيكون له أن يستوفي دينه فإذا استوفاه بقي المقبوض سالما للغريم الأول ولا شيء للذي عفى .
وإن اتبع الغريم الثاني الغريم الأول استرد منه المقبوض لأن دينه كان واجبا في صحته فله ذلك لأن ما ظهر من دينه الآن لو كان ظاهرا كان حقه مقدما على حق المقر له في المرض ولاثم للمقر له في المرض شيء مما قبض فكذلك هنا له أن ينقض قبضه وإذا نقض قبضه أخذ الألف كلها بدينه واتبع المقر له في المرض الابن الذي لم يعف وأخذ منه ألفا لأن ما في يده من نصف الدية تركة الميت ثم يتبع الابن ألفا في الابن الذي لم يعف ويأخذ منه نصف سدس أربعة آلاف درهم لأن قبض الأول لما انتقض صار كأن الميت لم يعطه شيئا ولكنه مات وترك ألف درهم وعليه دين ألفا درهم وجملة تركته ستة آلاف الألف المتروكة مع نصف الدية فيقضى الدين أولا من جميع التركة ويبقى أربعة آلاف فتقسم بين الاثنين على ما كان يقسم عليه جميع التركة إن لو لم يكن هناك دين وذلك على اثني عشر سهما سهم منه للعافي وأحد عشر للذي لم يعف بخلاف ما إذا لم يتبع الغريم الثاني الغريم الأول لأن هناك المقبوض يبقى سالما له فلا يكون محسوبا من تركة الميت ولا شيء للعافي فصار رجوع الغريم الثاني على الغريم الأول نافعا للابن العافي مضرا للغريم الأول في نقض قبضه كما قيل مصائب قوم عند قوم فوائد.
 مريض وهب عبدا له لرجل وقبضه وقيمته ألف درهم ولا مال له غيره ثم قتل العبد المريض عمدا وله ابنان فعفى أحدهما للموهوب له فله الخيار بين الدفع والفداء لأن الموهوب بالقبض صار مملوكا له قائما حتى ملكه على الواهب وفي جناية المملوك إذا وجب المال كان المالك بالخيار بين الدفع والفداء وقد وجب المال هنا يعفو أحد الابنين إن اختار

 

ج / 18 ص -37-       إن يفديه بنصف الدية وهو خمسة آلاف يسلم العبد كله له لأن نصف الدية مع رقبته من تركه الميت فكانت الرقبة دون الثلث فتنفذ الهبة في جميعه ويكون نصف الدية بين الاثنين للعافي منها نصف سدسها لأن العبد إنما يسلم للموهوب له بطريق الوصية وضرر تنفيذ الوصية يكون على جميع الورثة لحصتهم فيقسم ما بقي من التركة بين الابنين على ما كان يقسم عليه إن لو لم يكن هناك وصية بخلاف ما تقدم من مسألة الوديعة والدين لأن الوديعة وما قضي به الدين ليس من جملة تركته عند الموت فلا يثبت فيه حق العافي وهنا ما ينفذ فيه الهبة لا يخرج من أن يكون من جملة التركة لأن الهبة في المرض وصية والوصية إنما تنفذ من التركة فيثبت باعتبار حق العافي.
 فلهذا يقسم ما بقي بعد تنفيذ الوصية بينهما على اثني عشر سهما وإن اختار الدفع رد ثلاثة أخماس العبد بحكم بعض الهبة فيها ويدفع خمس العبد بالجناية إلى الذي لم يعف ويبقي في يده خمس هو سالم له ثم ما اجتمع في يد الابنين وهو أربعة أخماس بينهما على اثني عشر سهما للعافي منها خمسة أسهم وللذي لم يعف سبعة فكان ينبغي أن تنفذ الهبة في ثلث العبد لأن الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث ولكن نفذها في خمسي العبد هنا لضرورة الدور وبيان ذلك أن العبد في الأصل يجعل على ستة لحاجتنا إلى ثلث ينقسم نصفين حتى يدفع النصف بالجناية إلى الذي لم يعف فتنفذ الهبة في سهمين وهو الثلث ثم يدفع بالجناية أحدهما إلى الذي يعف فيصير في يد الورثة خمسة وإنما حقهم في أربعة فيظهر زيادة سهم في حق الورثة وهذا غائر لأنك كلما زدت في تنفيذ الهبة يزداد المدفوع بالجناية فلا يزال يدور كذلك والسبيل في الدور أن يقطع وطريق القطع طرح السهم الزائد من جانب من خرج من قبله لأن هذا السهم يباع بالفساد فالسبيل نفيه فيطرح من أصل حق الورثة سهما فترجع سهام العبد فتنفذ الهبة في سهمين ثم يدفع أحدهما بالجناية فحصل عند الورثة أربعة وقد نفذنا الهبة في سهمين فيستقيم الثلث والثلثان.
 وإنما قسمنا أربعة أخماس العبد بين الابنين على اثني عشر سهما لأن سهام العبد لما صارت على خمسة فحق كل واحد منهما في سهمين ونصف إن لو لم يكن هناك وصية ثم الذي لم يعف أخذ سهما آخر أيضا فيصير حقه في ثلاثة ونصف وحق الآخر في سهمين ونصف فما بقي بعد تنفيذ الهبة يقسم على أصل حقهما وقد انكسر بالأنصاف فأضعفه ليزول الكسر فالذي كان له ثلاثة ونصف صار حقه سبعة والذي كان له سهمين ونصف صار حقه خمسة فلهذا كانت القسمة بينهما على اثني عشر سهما وطريق الدينار والدرهم في تخريج هذه المسألة أن يجعل العبد دينارا أو درهمين ثم تنفذ الهبة في درهمين ويدفع أحدهما إلى الذي لم يعف فيصير في يد الورثة دينارا ودرهما وحاجتهم إلى أربعة دراهم فاجعل الدرهم قصاصا بمثله يبقى في يدهم دينار يعدل ثلاثة دراهم فاقلب الفضة واجعل آخر الدراهم آخر الدنانير فتصير الدينار بمعنى ثلاثة والدرهم بمعنى واحد ثم عد إلى الأصل فتقول كما جعلنا

 

ج / 18 ص -38-       العبد دينارا وذلك بمعنى ثلاثة ودرهمين كل واحد فذلك خمسة ثم نفذنا بالهبة في درهمين وذلك خمسا العبد والذي حصل للورثة دينار وبمعنى ثلاثة ودرهم بمعنى واحد وذلك أربعة فيستقيم الثلث والثلثان.
وطريق الجبر والمقابلة فيه أن تنفذ الهبة في شيء من العبد ثم يدفع نصفه بالجناية إلى الذي لم يعف فيحصل في يد الورثة عبد إلا نصف شيء وهو حاجتهم إلى ستين لأنا نفذنا الهبة في شيء فاجبر العبد بنصف شيء ورد فيما يعدله نصف شيء يتبين أن العبد الكامل بمعنى ستين ونصف وقد نفذنا الهبة في شيء وشى ء من ستين ونصف خمساه فتبين أن الهبة جازت في خمسي العبد وطريق الخطأين فيه أن يجعل العبد على ستة تنفذ الهبة في سهمين ويدفع بالجناية فيحصل في يد الورثة خمسة وحاجتهم إلى أربعة ظهر الخطأ بزيادة سهم فعد إلى الأصل ونفذ الهبة في ثلاثة ثم تدفع بالجناية سهم ونصف فيصير في يد الورثة أو بعفو نصف وحاجتهم إلى ستة ضعف ما نفذنا فيه الهبة فظهر الخطأ الثاني نقصان سهم ونصف
 وكان الخطأ الأول بزيادة سهم فلما زدنا في الهبة سهما ذهب ذلك الخطأ وجلب خطأ سهم ونصف فعرفنا أن كل سهم يؤثر في سهمين ونصف فالسبيل أن يزيد في الهبة ما يذهب الخطأ ولا يجلب إلينا خطأ آخر وذلك خمسا سهم فتنفذ الهبة في سهمين وخمسين فتبقى في يد الورثة ثلاثة وثلاثة أخماس ثم يدفع بالجناية نصف ما نفذنا فيه الهبة وهو سهم وخمس فيصير في يد الورثة أربعة وأربعة أخماس وهو ضعف ما نفذنا فيه الهبة فيستقيم الثلث والثلثان وسهمان وخمسان من ستة يكون خمساها فيتبين أن الهبة إنما جازت في خمسي العبد وطريق الجامع الأصغر أن يأخذ المال الأول وهو ستة ويضربه في الخطأ الثاني وهو سهم ونصف فيصير تسعة ويأخذ المال الثاني وهو ستة ويضربه في الخطأ الأول وهو سهم فيكون ستة ثم يجمع بينهما لا أن أحد الخطأين إلى الزيادة والآخر إلى النقصان.
 والطريق في مثله الجمع لا الطرح فصار خمسة عشر فهو جملة المال وبيان معرفة ما جاز فيه الهبة أن يأخذ ما نفذها فيه الهبة أولا وذلك سهمان فيضرب ذلك في الخطأ الثاني وهو سهم ونصف فيكون ثلاثة ثم يضرب ما جاز فيه الهبة ثانيا وهو ثلاثة في الخطأ الأول وهو واحد فيكون ثلاثة ثم يجمع بينهما فتكون ستة فظهر أن ما نفذنا فيه الهبة ستة من خمسة عشر وذلك خمساها لأن كل خمس ثلاثة وطريق الجامع الأكبر أنه لما ظهر الخطأ الأول كان يسهم فأضعف المال سوى النصيب والمال سوى النصيب أربعة فإذا ضعفته كان ثمانية وجملة سهام العبد عشر تنفذ الهبة في سهمين يدفع بالجناية أحدهما فيحصل في يد الوارث تسعة وحاجته إلى أربعة ظهر الخطأ بزيادة خمسة فضرب المال الأول وهو ستة في الخطأ الثاني وهو خمسة فيكون ثلثين واضرب المال الثاني وهو عشرة في الخطأ الأول وهو واحد فيكون عشرة واطرح الأقل من الأكثر يبقى عشرون فهو المال ومعرفة ما نفذنا فيه الهبة أن

 

ج / 18 ص -39-       تأخذ سهمين وتضربهما في الخطأ الثاني وهو خمسة فيكون عشرة ثم تأخذ سهمين وهو ما نفذنا فيه الهبة ثانيا وتضربه في الخطأ الأول وهو واحد فيكون اثنين اطرح الأقل من الأكثر يبقى ثمانية فهو القدر الذي جاز فيه الهبة وثمانية من عشرين يكون خمسها كل خمس أربعة فتبين أن الهبة إنما جازت في خمسي العبد على الطرق كلها والله أعلم بالصواب .

باب إقرار الوارث بالدين
قال رحمه الله: رجل مات وترك ألف درهم وابنا فقال الابن في كلام واحد موصول لهذا على أبي ألف درهم ولهذا ألف درهم فالألف بينهما نصفان لأنه عطف الثاني على الأول وموجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر ثم في آخر كلامه مما تغير موجب أوله لأن أول كلامه تصير الألف كلها للأول لو سكت عليه وبآخر كلامه به تبين أن الألف بينهما نصفان ومتى كان في آخر الكلام ما يغير موجب أوله يوقف أوله على آخره كما لو ألحق به شرطا أو استثناء ثم إقرار الوارث على مورثه إنما يصح باعتبار ما في يده من التركة فيصير كقوله هذه العين لفلان ولفلان ولو أقر للأول وسكت ثم أقر للثاني فالأول أحق بالألف لأنه صار مستحقا بجميع الألف حين أقر له وسكت فإقراره للثاني صادف محلا مستحقا لغيره لأن صحة إقراره بالدين علي المورث باعتبار العين التي في يده وهو بمنزلة مالو أقر بعين في يده لزيد وسكت ثم أقر بها لعمرو وهذا بخلاف المريض يقر على نفسه بدين ثم بدين لأنه يلاقى ذمته فبوجوب الدين الأول عليه لا تتغير صفة الذمة وهنا صحة إقراره باعتبار ما في يده من التركة فإقراره للأول صادف محلا فارغا فصح ثم إقراره للثاني صادف محلا مشغولا فلم يصح في حق الأول.
فإن دفع الألف إلى الأول بقضاء لم يضمن للثاني شيئا وان دفعها بغير قضاء ضمن للثاني خمسمائة لأنه بالكلام الثاني صار مقر بأن نصف الألف حق الثاني وقد دفعه إلى الأول باختياره وإقراره حجة عليه فلهذا ضمن للثاني نصفه ولو قال في كلام موصول هذه الألف وديعة لهذا ولهذا الآخر على أبي ألف درهم دين كان صاحب الوديعة أحق بالألف لأنه لما قدم الإقرار بالوديعة صارت هي بعينها مستحقة للمقر له فإقراره بالدين بعد ذلك إنما يصح في تركة الميت والوديعة من التركة في شيء فقد جعل في هذا الفصل الكلام الموصول والمقطوع سواء لأنه ليس في آخر كلامه ما يغير موجبه أو له بأن موجب أول الكلام أن الوديعة ليست من تركة الميت ولم تكن مملوكة له فظاهر وهذا لا يتغير بإقراره بالدين فلا يتوقف أول الكلام علي آخره كمن يقول لامرأته قبل الدخول بها أنت طالق وطالق بخلاف الأول فإن موجب أول الكلام هناك استحقاق الأول جميع التركة ويتغير ذلك بآخر كلامه فيتوقف أوله على آخره.
توضيح الفرق أن الإقرار بالوديعة نفسها ليس من جنس إقراره بالدين لأن موجب أحدهما استحقاق ملك الغير وموجب الآخر استحقاق الدين في الذمة على أن يكون مستوفيا

 

ج / 18 ص -40-       من العين فلعدم المحاسبة لم يتحقق العطف فكان الموصول والمقطوع سواء بخلاف الأول فالمجانسة بين الكلامين هناك ثابتة
ولو قال لفلان: على أبي ألف درهم وهذه الألف وديعة لفلان تحاصا فيه لأنه لما قدم الإقرار صارت الألف كلها مستحقة للغريم بالدين فإقراره بالوديعة صادف محلا مشغولا فمنع ذلك الاختصاص المودع بالعين لما فيه من إبطال حق الأول وانقلب هذا إقرار بالدين لأنه أقر بوديعة مستهلكة أو بوديعة جهلها المودع عند موته فهو والإقرار بالدين سواء وقد بينا أنه لو أقر بدينين في كلام موصول تخاصا فيه ولو قال لهذا على أبي ألف درهم لا بل لهذا فالألف للأول لأنه استدرك غلطه بالرجوع عن الإقرار للأول والإقرار به للثاني والرجوع عن الإقرار للأول باطل فيبقى الألف كلها له ولا شركة للثاني معه لأن الاشتراك من حكم العطف والوصل فكلمة لا بل للرجوع لا للعطف فلا يثبت به الاشتراك بينهما فإن دفعها إلى الأول بعضا لم يضمن للثاني شيئا لأن صحة إقراره بالدين على ابنه باعتبار ما في يده من التركة ولم يبق في يده شيء حقيقة ولا حكما فإن المدفوع بقضاء القاضي لا يكون مضمونا عليه وإن دفع إلى الأول بغير قضاء القاضي ضمن للثاني مثلها لأن إقراره على نفسه صحيح وقد أقر بأن الألف كلها للثاني وإنه غلط في الإقرار للأول إذا لم يكن له دين على الأب ودفعها إليه باختياره فيكون ضامنا المدفوع بناء على زعمه .
 
ولو قال له رجل: هذه الألف التي تركها أبوك وديعة لي وقال آخر لي على أبيك ألف درهم فقال صدقتما فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى الألف بينهما نصفان وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله صاحب الوديعة أولى بها وجه قولهما أن الإقرار بالوديعة أقوى حتى يصح في كلام موصول تقدم أو تأخر والإقرار بالدين لا يصح إذا تقدم ذكر الوديعة فعند الاقتران يجعل الأقوى مقدما كدعوى الاستيلاد مع دعوة التحرير وتقديره من وجهين أحدهما أن شرط صحة الإقرار بالدين السبق ولم يوجد ذلك عند الاقتران والسبق ليس بشرط في صحة الإقرار بالوديعة فكان هو الصحيح في حال الاقتران والثاني أن استحقاق العين بالإقرار بالوديعة يسبق لأنه يثبت استحقاق العين بنفسه فأما الإقرار بالدين يثبت الدين في الذمة ولم يستحق به العين فكان سبق الوديعة في الموجب كسبق الإقرار بها نصا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما ظهر الإقرار بالوديعة إلا والدين ظاهر معه فيمنع ظهور الدين اختصاص المودع بالوديعة لأن ما يرفع الشيء إذا سبقه فإذا اقترن به لمنعه أيضا كنكاح الحرة مع الأمة وهنا إن سبق الإقرار بالدين رفع حق اختصاص المدفوع الوديعة فإذا اقترن به مع ثبوت حق الاختصاص له وصار الوارث كالمستهلك الوديعة فصح الإقرار بالدين وبالإقرار بالدين يصير مستهلكا للوديعة فيصير إقرارا بدينين فيتحاصان فيه
 رجل مات وترك ثلاثة بنين وثلاثة آلاف درهم فأخذ كل واحد نصيبه وادعى رجل على أيهم ثلاثة آلاف درهم فصدقه الأكبر فيها وصدقه الأوسط في ألفين منها وصدقه

 

ج / 18 ص -41-       الأصغر في ألف منها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يأخذ المقر له من الأكثر جميع ما في يده ومن الأوسط خمسة أسداس ما في يده ومن الأصغر ثلث ما في يده وعند محمد رحمه الله تعالى يأخذ من الأوسط جميع ما في يده وباقي الجواب كقول أبي يوسف رحمه الله .
 
وجه قول محمد رحمه الله: تعالى أن المقر له يبدأ بالأكثر لإقراره أنه لا حق له في التركة وأن جميع ما في يده للمقر له فهو موافق له من كل وجه فيأخذ ما في يده وهو الألف ثم يثني بالأوسط لأنه أقرب إلى موافقته من الأصغر فيقول للأوسط قد أقررت لي بدين العين وما وصل إلى الألف فقد بقي من دينى ألف بزعمك والدين مقدم على الميراث فيقضى من أيسر المالين قضاء فهات جميع ما في يدك فلا يجد بدا من قوله نعم فيأخذ منه جميع ما في يده ثم يأتي الأصغر بقول أنا أقررت أن دينك ألف درهم ثلثه في يدي وثلثاه في يد شريكي وقد وصل إليك ذلك من جهته وزيادة فلا أعطيك إلا ما أقررت لك به وهو ثلث ما في يدي فلهذا يأخذ منه ثلث الألف .
ووجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المعتبر المال المقر به لأن المأخوذ هو المال فيقول ألف من الجملة وهو ما أقر به الأصغر اتفقت الثلاثة على كونها دينا فيبدأ المقر له باستيفاء تلك الألف من ثلاثتهم من كل أحد منهم ثلثها ثم لم يبق له سبيل على الأصغر ويأتي الأوسط فيقول الأوسط أنا قد أقررت لك بألف أخرى وقد ساعدني فيه الأكبر وهو بيننا نصفان نصفه في يدي ونصفه في يد الأكبر وهو يسلم لك من جهته فيعطيه نصف الألف فإذا استوفى منه ثلث الألف مرة ونصف الألف مرة أخرى وذلك خمسة أسداس الألف ثم يأتي إلى الأكبر ويقول إنك قد أقررت أن الدين يحيط بالتركة ولا ميراث لك وأخذ منه جميع ما في يده بحكم إقراره .
 قال تفرقوا عليه فلقي الأصغر أولا وقدمه إلى القاضي أخذ منه جميع ما في يده لأن الدين مقدم على الميراث فيقضي من أيسر الأموال وأيسر الأموال في حقه هو ما في يد الأصغر وهو مقر له بدين ألف فيأخذ منه جميع ما في يده فإن لقي الأوسط بعد ذلك أخذ منه جميع ما في يده أيضا لأنه مقر له بدين ألفين وقد وصل إليه ألف واحد جميع ما في يده بحساب ما بقي من دينه بزعمه فإن لقي الأكبر بعد ذلك أخذ منه جميع ما في يده أيضا لإقراره أنه قد لقي من دينه ألف درهم وأن دينه محيط بالتركة فيتوصل إلى جميع حقه بهذا الطريق فإن لقي الأكبر أول مرة أخذ منه جميع ما في يده لما قلنا فإن لقي الأوسط بعده أخذ منه جميع ما في يده أيضا لأنه مقر بأنه قد بقي من دينه إلف.
 وإن لقي الأصغر بعدهما فهو على وجهين إن أقر الأصغر بأن أخويه قد أقرا له بما ذكرنا قضى عليه بثلث الألف الذي في يده لأنه يقول حقك في ألف ثلثها في يدي كل واحد منا فما أخذت من الأول والثاني زيادة على حقك إنما أخذته بإقرارهما لك بالباطل فلا تأخذ مني إلا قدر ما أقررت لك به وهو ثلث الألف وإن جحد فقال لم يقر لك أخواي إلا

 

ج / 18 ص -42-       بالألف لم يقض له عليه بشيء لأنه يقول له ما أقررنا لك إلا بألف درهم دين وقد وصل إليك ذلك القدر من التركة وزيادة فليس لك أن ترجع علي بشيء ولا يتمكن المقر له من دفع حجته هذا إلا أن يثبت بالبينة إقرارهما له بما ذكرنا فحينئذ يكون الثابت بالبينة في حق الأصغر كالثابت بإقرار الأصغر به وإن لقي الأوسط أول مرة قضى عليه بالألف كلها لما بينا فإن لقي الأصغر بعده فالجواب ما ذكرنا من إقرار الأصغر وإنكاره في الأول.
 ومراده من هذا العطف حال إنكاره خاصة فإنه إذا أقر لك الأوسط بإلف كما أقررت به لم يقض له عليه بشيء لأنه يحتج عليه فيقول أقررنا لك بألف وقد وصل إليك من التركة ألف فأما عند إقراره بأن الأوسط أقر له بألفين فهذا نظير الأول ولكن في هذا الوجه يأخذ منه الخمسمائة لأنه يقول قد استوفيت منه الألف باعتبار إقرار كان هو صادق في نصفه كاذبا في نصفه ففي النصف وهو الخمسمائة أنت مستوف حقك منه وفي النصف الآخر أنت ظالم عليه فإنما يبقى من دينه بزعمه خمسمائة فيدفع إليه مما في يده خمسمائة ثم إذا لقي الأكبر بعد ذلك قضي له عليه بالألف كلها لإقراره أن الدين محيط بالتركة وأنه لا ميراث له منها .
 رجل مات وترك ابنين وألفين فأخذ كل واحد منهما ألفا ثم ادعى رجل على أبيهما ألف درهم وادعى آخر ألف درهم فأقرا جميعا لأحدهما وأقر أحدهما للآخر وحده فكان الإقرار معا فالذي اتفقا عليه يأخذ من كل واحد منهما خمسمائة لأنهما متصادقان على دينه فيبدأ به لقوة حقه فيأخذ من كل واحد منهما نصف دينه حتى يصل إليه كمال حقه كأنه ليس معه غيره ثم يأخذ الآخر من الذي أقر له ما بقي في يده وهو خمسمائة لأنه مقر بدينه وإقرار أحد الورثة بالدين يلزمه قضاء الدين من نصيبه ولم يبق في يده من نصيبه إلا خمسمائة فيدفعها إليه ولأنه مقر أنه لا ميراث له لأنه مثل التركة فيؤمر بتسليم جميع ما في يده إليه بإقراره فإن غاب الذي أقرا له وحصل الذي أقر له أحدهما فقدم المقر بحقه إلى الحاكم فقال لي على أب هذا ألف درهم وقد أقر لي بها وصدقه الابن وأوهم أن يجبره بما أقر به لغيره أي سمي بذلك فإن القاضي يقضي له عليه بالألف التي في يده لأنه مقر له بدين ألف والدين يقضى من أيسر الأموال قضاء وهو ما في يده فيلزمه أن يدفع كله إلى المقر له بدينه وإن جاء الذي أقر له جميعا وقدم أخاه قضي له عليه بجميع الألف التي في يديه لأنه مقر له بدين ألف درهم ولم يصل إليه شيء من دينه فيستوفي منه جميع ما في يده ولا يرجع واحد من الأخوين على أخيه بشيء لأن كل واحد منهما لم يتلف على أخيه شيئا وما أخذ من يده إنما أخذه بحكم إقراره وكذلك لو كان الذي أقر له حضر أولا فقدم الذي أقر له وحده إلى القاضي قضي له عليه بما في يده مقر له بدين ألف درهم فإن جاء الآخر وقدم أخاه قضي عليه بالألف ولا يرجع واحد من الأخوين على أخيه بشيء لأن ما أخذ من كل واحد منهما إنما أخذه بحكم إقراره وكذلك لو كان الميراث مائتي دينار أو كان الميراث شيئا مما يكال أو يوزن والدين مثله فهذا والدراهم سواء على ما بينا.

 

ج / 18 ص -43-        رجل مات وترك عبدين قيمة كل واحد منهما ألف درهم وترك ابنين واقتسما ذلك فأخذ كل واحد منهما عبدا ثم أقرا جميعا أن أباهما أعتق أحد العبدين بعينه وهو الذي في يد الأصغر منهما في صحته وأقر الأكبر أن أباه أعتق العبد الذي في يده في صحته والإقرار بجميع ذلك منهما معا فهما حران أما الذي اتفقا عليه فظاهر وأما الآخر فلأن من هو في يده مالك له وقد أقر بعتقه وإقرار المالك في ملكه صحيح فإذا أعتق ضمن الأكبر للأصغر نصف قيمة العبد في يده لأنه أقر أنه ما أعطاه شيئا فإن الذي أعطاه كان حرا باتفاقهما والذي أخذ الأكبر في الظاهر مملوك لهما والأكبر بالإقرار بعتقه صار متلفا نصيب الأصغر منه لأن إقراره ليس بحجة عليه فلهذا ضمن له نصف قيمته وهذا الضمان ليس بضمان العتق حتى يختلف باليسار والإعسار ولكنه ضمان إتلاف لأنه كان ماله بالقسمة وقد ظهر فساد القسمة ولكن إن تعذر عليه رد عليه نصيبه بعينه بإقراره بخلاف مسألة الدين فإن كل واحد من الابنين هناك أخذ ألفا كما أخذ صاحبه ثم استحق ما في يد كل واحد منهما بإقراره فلهذا لا يتبع واحد منهما صاحبه بشيء وكذلك الإقرار بالوديعة في العبدين بأن أقر بأحدهما بعينه أنه وديعة فلان وأقر الآخر بما في يده أنه وديعة لفلان فهذا والإقرار بالعتق سواء كما بينا والمعنى هنا أظهر لأن من أقر بما في يده خاصة فهو مقر أنه أعطى صاحبه بدلا مستحقا وقد تعذر عليه رد نصيبه مما في يده لإقراره به لغيره فيضمن له قيمته.
ولو كانت التركة ألفي درهم فاقتسماها وأخذ كل واحد منهما ألفا ثم أقر أحدهما لرجل بدين خمسمائة على أبيه وقضى القاضي به عليه ثم أقرا جميعا أن على أبيهما ألفا دينا فإنه يقضى عليهما أثلاثا لان المقر له الأول استحق مقدار خمسمائة مما في يد المقر بدينه ويخرج ذلك القدر من أن تكون تركة الميت تبقى ألفا وخمسمائة إلف في يد الجاحد وخمسمائة في يد المقر فالدين الذي ثبت باتفاقهما يجب عليهما قضاؤه بقدر ما في يديهما من التركة بمنزلة ما لو ترك ابنا وامرأة وأقرا بدين الميت فعليهما قضاؤه من نصيبهما أثمانا بقدر نصيبهما فهنا أيضا يلزمهما قضاء الدين بحساب ما في يديهما من التركة فتكون أثلاثا ولو كان الأول أقر بألف ودفعها بقضاء قاض ثم أقرا جميعا بالألف الثانية قضى بالألف كلها مما في يد الجاحد لأن الدين مقضي من التركة وباقي التركة في يد الجاحد والمقر الأول لا يصير ضامنا شيئا لأنه دفع بقضاء القاضي فلا يكون للجاحد أن يتبع أخاه بشيء منه لأن الاستحقاق عليه كان بقضاء القاضي.
 وهذه المسألة تبين ما سبق من فصول الدين ولو كانا أقرا أولا لرجل بدين مائة درهم ثم أقر أحدهما للآخر بدين مائة درهم فالمائة الأولى عليهما نصفين لأنهما حين أقرا به كان في يد كل واحد منهما من التركة مثل ما في يد صاحبه فعليهما قضاء تلك المائة نصفين ثم إن أقر أحدهما بدين بعد ذلك لآخر فإنما يصح فيما بقي في يده من التركة فإن أخذ المتفق عليه المائة من أحدهما رجع على أخيه بنصفها لأن هذا الدين ثبت في حقهما فالمؤدي

 

ج / 18 ص -44-       منهما لا يكون متبرعا بل هو قاضي دين أبيه فيرجع على شريكه بحصته منه ولو بدأ أحدهما فأقر لرجل بمائة درهم ثم أقر بعد ذلك لآخر بمائة درهم فالأول يأخذ من المقر مائة درهم مما في يده لإقراره له به والمائة التي هي حق المتفق عليه في مالهما على تسعة عشر سهما لأن الباقي من التركة في يد المقر تسعمائة وفي يد الجاحد ألف وقضاء الدين عليهما بقدر ما في يديهما من التركة فإذا جعل كل مائة سهما كان علي تسعة عشر سهما فإن أخذ المائة من أحدهما رجع على صاحبه بحصته منها.
وكذلك لو كان الإقرار منهما جميعا فالمائة التي أقر بها أحدهما عليه في نصيبه خاصة والمائة الأخرى عليهما على تسعة عشر سهما وقضية هذه المسائل أن الوارث إذا أقر بدين وقضاه من نصيبه لا يصير ضامنا شيئا مما قضاه لأنه بإقراره قصد تفريغ ذمة مورثه وما أتلف عليه بعد شيئا ثم دفعه بعد ذلك بقضاء القاضي لا يصيره ضامنا وإذا لم يضمن صار ذلك القدر كأنه لم يكن أصلا فما يثبت من الدين بعد ذلك كان عليهما بقدر ما في أيديهما من التركة والله أعلم.

باب الإقرار بترك اليمين
قال رحمه الله: رجل ادعى عبدا في يد رجل ولم يكن له بينة وطلب يمينه فنكل المدعى عليه عن اليمين فإنه يقضى بالعبد للمدعى وقد بينا هذا في كتاب الدعوى.  قال: وهذا بمنزلة الإقرار وهو بناء على قولهما فإن النكول عندهما يدل على الإقرار لأن أصل حق المدعى عليه في الجواب وحقه في الجواب هو الإقرار ليتوصل إلى حقه ألا ترى أن القاضي يقول له ماذا تقول ولا يقول ماذا تفعل فإذا منعه ذلك الجواب فإنكاره حق إلى الشرع وحقه اليمين فإذا نكل يعاد إليه أصل حقه وهو والإقرار سواء وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة البدل لأن به يتوصل المدعى إلى حقه مع بقاء المدعى عليه محقا في إنكاره فلا يجوز أن يجعله مبطلا في إنكاره من غير حجة وضرورة .
وقد بينا هذا الخلاف في مسألة الاستحلاف في النكاح ونظائره فإن أقر بعد ذلك أن العبد كان لآخر لم يصح إقراره لأنه صادف ملك الغير ولا ضمان عليه في ذلك لأنه ما أتلف شيئا ولكنه تحرز عن اليمين ودفع إلى الأول بأمر القاضي وقضاؤه لا يضمن للثاني شيئا وإن أقر قبل أن يستحلف أن العبد لفلان الغائب لم تندفع عنه الخصومة بهذه المقالة ما لم يقم البينة وهي المسألة المخمسة التي ذكرناها في كتاب الدعوى فإن استحلف المدعى عليه فأبى أن يحلف دفعه إلى المدعي فإن جاء المقر له الأول كان له أن يأخذه من المقضي له لأنه أقر له بالملك قبل نكوله للمدعى دون اتصال تصديقه بذلك الإقرار فكان له أن يأخذه كمن أقر بعين لغائب ثم أقر بها لحاضر وسلمه إياه ثم رجع الغائب فصدقه كان هو أولى بها ثم المدعى على حجته مع المقر له فإن أقام البينة وإلا استحلفه على دعواه.
 ولو ادعى غصب العبد على ذي اليد فاستحلف فنكل فقضي له به ثم جاء مدع آخر به

 

ج / 18 ص -45-       على الغاصب الذي كان العبد في يده وطلب منه فإنه يستحلف له أيضا لأنه بدعوى الغصب عليه يدعي ضمان القيمة في ذمته ولو اقر به لزمه فإذا أنكر استحلف له بخلاف ما إذا ادعي عليه ملكا مطلقا لأن دعوى الملك المطلق دعوى العين فلا تصح إلا على من في يده والعين ليست في يد المقضي عليه فأما دعوى الغصب فدعوى الفعل الموجب للضمان وهو صحيح سواء كان العبد في يده أو لم يكن وكذلك هذا في الوديعة والعارية لأنه يدعي عليه فعلا موجبا للضمان فإن المودع والمستعير بالتسلم يصير ضامنا إلى رد الملك وجميع أصناف الملك في هذا سواء ما خلا العقار فإنه لا يضمن شيئا للثاني في قول أبى حنيفة رحمه الله وفي قول أبى يوسف رحمه الله الآخر ولا يمين له عليه وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله يتوجه عليه اليمين ويصير ضامنا إذا لم يحلف وهذا بناء على مسألة غصب العقار وهي معروفة.
 رجل مات وترك ابنا وفي يده عبد فادعى رجل أنه استودع العبد أباه فإن الابن يستحلف له على علمه لأنه قام مقام المورث فجحوده الوديعة كجحود المورث ولو أقر به أمر بالتسلم إليه فإذا أنكر يستحلف عليه غير أن هذا استحلاف على فعل الغير فيكون على العلم فإن أبى أن يحلف دفع العبد إليه لأنه بالنكول صار باذلا أو مقرا فإن ادعى آخر مثل ذلك لم يستحلف له الابن لأنه لو أقر للثاني لم يلزمه شيء فكيف يستحلف عند جحوده وإنما لا يصير ضامنا شيئا لان الوديعة لم يباشرها هو حتى يكون ملتزما حفظها بعقده ثم بالنكول لا يكون تاركا للحفظ بل هو رجل امتنع من اليمين وأمره القاضي بتسليم ما في يده عند ذلك فلا يصير ضامنا شيئا بخلاف ما إذا كان يدعي عليه إنه أودعه إياه فان هناك لو أقر به لزمه الضمان بسبب ترك الحفظ الذي التزمه بالعقد حين أقر وعند أبي حنيفة أنه يحلف للأول وهذا يكون على قول محمد رحمه الله أيضا فإنه يصير ضامنا للثاني فأما عند أبى يوسف رحمه الله فلا يصير ضامنا للثاني وإن كان يدعي عليه الإيداع إذا كان الدفع حصل بقضاء القاضي ولا يمين عليه وكذلك ما ادعى على الأب من غصب أو عارية فلا ضمان للثاني على الابن لما بينا وتأويل هذا إذا لم يكن في يد الابن شيء من التركة سوى ما قضي به للأول فإن كان في يده شيء استحلف للثاني وإذا أبى اليمين صار مقرا بالدين على أبيه للثاني في الغصب بلا شبهة وفي الوديعة والعارية بموته مجهلا وصار متملكا غاصبا فيؤمر بقضاء الدين من التركة.
قال: والرجل والمرأة والعبد والتاجر والمكاتب والصبي المأذون في ذلك سواء وفي هذا بيان أن الصبي المأذون يستحلف في الدعوى لأن هذه اليمين حق المدعي وفي حقوق العباد الصبي المأذون كالبالغ وهذا الا يستحلف لرجاء النكول الذي هو قائم مقام الإقرار فكل من كان إقراره صحيحا يستحلف إذا جاء نكوله وعند أبي حنيفة النكول بمنزلة البذل والبذل المقيد صحيح من المملوك والصبي فإن أبى أن يحلف ثم قال قبل قضاء القاضي أنا

 

ج / 18 ص -46-       أحلف يقبل ذلك منه لأن النكول في نفسه محتمل فقد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة فلا يوجب به ما لم يقض شيئا القاضي ويصح الرجوع عنه قبل القضاء كالشهادة فأما بعد القضاء عليه إذا قال أحلف لا يقبل ذلك منه لأن الحق قد لزمه بالقضاء وتعين حقه بالإقرار في نكوله بالقضاء فلا رجوع بعد ذلك منه وإذا استمهل القاضي ثلاثة أيام أو أقل فلا بأس أن يمهله وأن طلب النظرة وهو محتاج إلى التأمل في حسابه ومعاملته مع المدعي فينبغي أن يمهله وإن فعل وأمضى عليه الحكم جاز لأن سبب القضاء وهو امتناعه عن اليمين قد تقرر وقضاء القاضي بعد تقرر السبب الموجب نافذ والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار في العروض بين الرجلين
قال رحمه الله تعالى: رجلان أقر أحدهما ببيت بعينه منها لرجل وأنكر صاحبه لم يجز إقراره في الحال إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال: يجوز إقراره ويكون نصف البيت للمقر له لأن كل جزء من الدار مشترك بينهما فإقراره في نصف البيت لا في ملك نفسه فيكون صحيحا وشريكه وإن كان يتصور عند القسمة بتفرق ملكه ولكن هذا الضرر لا يلحقه بالإقرار إنما يلحقه بالقسمة مع إقرار المقر في ملكه وهو صحيح وإن أدى إلى الإضرار بالغير في الباقي كالراهن يقر بالمرهون لإنسان فيعتقه المقر له والإقرار منه كسائر التصرفات وإعتاق أحد الشريكين العبد صحيح وإن كان يتضرر به شريكه فكذلك هنا .
وجه ظاهر الرواية أنا لو صححنا الإقرار في الحال تضرر به الشريك لأنه يحتاج إلى قسمتين قسمة البيت مع المقر له وقسمة بقية الدار مع المقر فيتفرق عليه ملكه وهذا الضرر يلحقه من جهة المقر لان المطالبة بالقسمة بسبب الملك الثابت بالإقرار فما يبتنى عليه من الضرر ويضاف إلى أول السبب وإقرار المقر ليس بحجة في الأمر بالغير ولكن المقر له لأن إقراره في النصف الذي هو مملوك له إنما لم يكن صحيحا لدفع الضرر عن شريكه وقد زال ذلك وفي النصف الآخر لم يكن صحيحا لعدم ملكه وقد زال ذلك ومن أقر بما لا يملك ثم ملكه يؤمر بتسليمه ويصير كالمجدد للإقرار بعد الملك.
وإن وقع البيت في نصيب الشريك فنصيب المقر يقسم بينه وبين المقر له ويضرب المقر له فيه بذرعان جميع البيت والمقر بذرعان نصف الدار سوى البيت وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يضرب له بذرعان نصف البيت والمقر بذرعان نصف الدار سوى نصف البيت حتى إذا كانت الدار مائة ذراع والبيت عشرة أذرع فعند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله المقر له يضرب بعشرة أذرع والمقر بخمسة وأربعين ذراعا فيكون بينهما على أحد عشر سهما سهمان للمقر له وتسعة للمقر وعند محمد رحمه الله يضرب المقر له بخمسة أذرع والمقر بخمسة وأربعين ذراعا فيكون المقر له عشر نصيب المقر.

 

ج / 18 ص -47-       وجه قول محمد رحمه الله: أن إقراره في نصف البيت صادف نصيب الشريك ولم يملك ذلك حين وقع البيت بالقسمة في نصيب الشريك فلم يصح إقراره إلا بقدر ملكه وذلك نصف البيت ثم القسمة إذا وقع هذا النصف في نصيب الشريك فعوضه وقع في نصيب المقر والمقر به إذا أخلف عوضا يثبت حق المقر له في ذلك العوض فلهذا ضرب بنصيبه بذرعان نصف البيت والمقر بجميع حقه وهو ذرعان نصف الدار سوى البيت بخلاف ما إذا وقع البيت في نصيب المقر لأن إقراره في الكل قد صح باعتبار تعين ملكه في جميع البيت فيأخذه المقر له.
ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أن القسمة في العقار فيها معنى المعاوضة ولهذا لا ينفرد به أحد الشريكين ولو اشتريا دارا واقتسماها لم يكن لأحدهما أن يبيع نصيبه مرابحة فالبيت وان وقع في نصيب الآخر فعوضه وقع في نصيب المقر وحكم العوض حكم الأصل فيما أنه لو وقع البيت في نصيبه أمر بتسليم كله إلي المقر له فكذلك إن وقع عوضه في نصيبه يثبت الحق المقر له في جميعه فلهذا ضرب بذرعان جميع البيت وهذا لان الإقرار الحاصل في غير الملك كما يصح بملكه يصح في عوضه الذي هو قائم مقامه ولأن في زعم المقر أن الشريك ظالم بجحوده حق المقر له في البيت فيجعل الشريك مع ما أخذ في حقهما فإن لم يكن لأن ضرر ظلمه لا يكون على أحد الشريكين دون الآخر فيبقى حق المقر له بزعم المقر في ذرعان البيت وحق المقر في ذرعان نصف الدار سوى البيت فيضرب كل واحد منهما بجميع ذلك وكذلك لو أقر أحد الشريكين في الدار بطريق لرجل أو بحائط معلوم أو أقر بذلك في البنيان والأرض فهو على ما ذكرنا في البيت وعلى هذا لو أوصى أحد الشريكين في الدار ببيت منها لإنسان ثم مات فهو على ماذكرنا وإنما نص على قول محمد رحمه الله في مسألة الوصية بعد هذا وجوابه في الوصية والإقرار واحد إلا في حرف واحد وهو ما إذا اقتسما فوقع البيت في نصيب الورثة للموصى له هنا نصف البيت بخلاف مسألة الإقرار فإن المقر له هناك أخذ جميع البيت لأن وصية الموصي في نصف البيت صادفت ملكه وفي نصفه صادفت نصيب شريكه.
ومن أوصى بعين لا يملكها ثم ملكها لا تصح وصيته فيها فلهذا أمر الورثة بتسليم نصف البيت إلى الموصى له وفي الإقرار أقر بما لا يملك ثم ملكه يؤمر بتسليمه إلى المقر له فلهذا أخذ المقر له جميع البيت وفيما سوى هذا مسألة الوصية والإقرار سواء فيما اتفقوا عليه وإذا كان حمام بين رجلين فأقر أحدهما أن البيت الأوسط منه لرجل لم يجز ذلك لما فيه من الإضرار بشريكه بأن كان لا يقسم في الحال فإذا انهدم الحمام يحتمل الفرصة فلو صححنا إقرار المقر تضرر به الشريك لأنه يحتاج إلى قسمين وإذا لم يجز الإقرار هنا فللمقر له أن يضمن نصف قيمة البيت لأن تصحيح الإقرار بالقسمة هنا غير ممكن فإن الحمام لا يقسم لأن الجبر على القسمة لتحصيل المنفعة لكل واحد منهما وفي قسمة الحمام تعطيل

 

ج / 18 ص -48-       المنفعة فإذا لم يكن محتملا للقسمة بقي نصف الحمام في يد كل واحد منهما في زعم المقر أن البيت الأوسط للمقر احتبس نصفه في يده ونصفه في يد شريكه فيكون ضامنا لما احتبس منه في يده لان ملك الغير إذا احتبس منه في يده وتعذر عليه رده لا يكون مجانا بل يكون مضمونا عليه بقيمته ولو أقر له بنصف الحمام أو بثلثه كان إقراره جائزا لأنه لا ضرر على شريكه في إقرار المقر بجزء شائع للمقر له لا في الحال ولا في المآل. 
ولو كان عدل زطى بين رجلين فأقر أحدهما بثوب منه بعينه لرجل كان نصيبه من ذلك للمقر له لأن كل ثوب مشترك بينهما فإقراره في نصيب الثوب الذي عينه صادف ملكه ولا ضرر فيه على شريكه فصح بخلاف الدار الواحدة لأن المرافق هناك متصلة بعضها ببعض ففي تصحيح الإقرار إضرار بالشريك وهنا بعض الثياب غير متصلة بالبعض وليس في تصحيح الإقرار إضرار بالشريك إذ لا فرق في حقه بين أن يكون شريكه في هذا الثوب المقر أو المقر له والرقيق والحيوان قياس على الثياب في ذلك .
ولو كانت دار بين رجلين فأقر أحدهما ببيت بعينه لرجل وأنكر شريكه وأقر بيت لآخر وأنكر صاحبه ذلك فالدار تقسم بينهما نصفين وإن وقع البيت الذي أقر به في نصيبه يسلمه إلى المقر له وإن لم يقع في نصيبه قسم ما أصابه بينه وبين المقر له على البيت وعلى نصف ما بقي من الدار بعد البيت لما ذكرنا في الفصل الأول من قسمة نصيبه بينه وبين المقر له على الاختلاف الذي ذكرنا في إقرار أحدهما به ولو أن طريقا لقوم عليها باب منصوب أقر واحد منهم بطريق فيه لرجل لم يجر إقراره على شركائه ولم يكن للمقر له أن يمر فيه حتى يقتسموها لأن مروره في نصيب المقر لا يتحقق قبل القسمة فإن وقع موضع الطريق بالقسمة في نصيب المقر جاز ذلك عليه لأن الضرر قد اندفع عن شركائه وإن وقع في نصيب غيره كان للمقر له أن يقاسم المقر به نصيبه بحصة ذلك الطريق على ما بينا في البيت وقد تقدم بيان مسألة الطريق في كتاب الدعوى وأعادها هنا للفرق بينها وبين النهر إذا كان بين قوم وأقر أحدهم بشرب فيه لرجل لم يجر على شركائه لما قلنا فإن كانوا ثلاثة فأقر أحدهم أن عشر النهر لهذا الرجل دخل عليه في حصته فكانت بينه وبين المقر له على مقدار نصيبه وعلى عشرة ولو قال: له عشر الطريق لم يكن للمقر له أن يمر فيه لأن الطريق لا تقسم بينهم وعند المرور في النهر يتحاصون فيه بقدر شربهم فيكون ذلك قسمة بينهم في الماء قال الله تعالى:
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر:28] وقال الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] 155 فيمكن إدخال المقر مع المقر له في نصيبه من غير أن يكون فيه ضرر على شركائه.
وكذلك لو كانت عين أو ركى بين ثلاثة نفر أحدهم أقر أن عشرها لرجل دخل المقر في حصته فإن قال: المقر له العشر ولي الثلث فحصته تكون مقسومة على ذلك يضرب المقر له فيه بسهم والمقر بثلاثة وثلث فإذا أردت تصحيح السهام فالقسمة بينهما على ثلاثة عشر

 

ج / 18 ص -49-        سهما للمقر له ثلاثة وللمقر عشرة وإن قال: له العشر ولم يزد على هذا فقسمة نصيبه بينهما على أربعة للمقر له سهم وللمقر ثلاثة.
 ولو أن سيفا بين رجلين حليته فضة أقر أحدهما أن حليته لرجل لم يجز ذلك على شريكه وضمن المقر للمقر له نصف قيمة الحلية مصوغة من الذهب أو ما كانت لأن تصحيح الإقرار بالقسمة غير ممكن وفي زعم المقر أن الحلية للمقر له احتبس نصفها في يد كل واحد منهما فيكون هو ضامنا لما احتبس عنده من ملك المقر له وإنما ضمن قيمته من الذهب للتحرز عن الربا وكذلك أحد الشريكين في الدار إذا أقر بجذع في سقف منها لرجل ضمن نصف قيمة الجذع للمقر له لاحتباس هذا النصف في يده من ملك المقر له بزعمه .
وكذلك لو أقر بالآجر في حائط منها أو بعود من قبة أو بلوح من باب بينه وبين آخر لأن تصحيح الإقرار في هذه المواضع بالقسمة غير ممكن فإن المقر به وإن وقع في نصيب المقر لا يلزمه تسليمه لما في نزعه من الضرر ولو كانت دار لرجلين باع أحدهما نصف بيت منها بعينه لم يجز بيعه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله يقول إن بيعه صادف ملكه وتسليمه بالتخلية ممكن فكان بيعه صحيحا .
وجه ظاهر الرواية إنه لو جاز بيعه لنصف البيت لتضرر به شريكه لأنه يحتاج إلى قسمتين قسمة مع المشترى في البيت وقسمة مع الشريك في بقية الدار فيتضرر بتفرق ملكه والبيع إذا وقع على وجه يتضرر به البائع لم يجز فإذا وقع على وجه يتضرر به شريكه أولى.
رجل قال لآخر: لك علي أو على مكاتبي فلان ألف درهم لم يلزمه شيء في الحال لأن المكاتب في حقه كالحر لا يملك الإقرار عليه بالدين فكأنه قال: لك علي أو على فلان الحر ألف درهم وفي هذا لا يلزمه شيء لأن حرف أو في موضع الإثبات عمله في إثبات أحد المذكورين فلا يكون ملتزما للمال بهذا الإقرار حين جعله مترددا بينه وبين غيره فإن عتق المكاتب فقد ازداد بعدا من مولاه فيكون الإقرار باطلا وإن عجز ورد في الرق ولا دين عليه فالإقرار جائز كما لو جدده في الحال لأن الحق في رقبته خلص له ولو استأنف الإقرار فقال لك علي أو على عبدي هذا ألف درهم ولا دين على العبد يصح إقراره وتخير بين أن يلزمه لنفسه أو عبده لأن كلامه الآن صار التزاما بيقين فإن الدين لا يجب على العبد بل يكون شاغلا مالية رقبته وذلك خالص حق المولى بمنزلة ذمة نفسه ولأنه لو أقر على عبده صح الإقرار ولو أقر علي نفسه صح أيضا فإذا جعل إقراره مترددا بينهما كان صحيحا وبه فارق حال قيام الكتابة فإنه لو أقر على مكاتبه خاصة لم يكن الإقرار صحيحا إلا أن يعجز ولا دين عليه فحينئذ يصح الإقرار فكذلك إذا جعله مترددا بينه وبين نفسه ولو أقر على عبده التاجر بدين والعبد يجحده وعليه دين يحيط بقيمته فإقراره باطل لأن ماليته وكسبه حق غرمائه فلا يملك المولى إبطال حقهم ولا إثبات مزاحم لهم بقوله كالمرهون لما

 

ج / 18 ص -50-       صار حقا للمرتهن لا يملك الراهن إبطال حقه وإثبات مزاحم له بإقراره وصحة إقرار المولى على عبده باعتبار ماليته دون ذمته فإنه في حق الذمة مبقي على أصل الحرية فإن بيع العبد لغرمائه في دينهم لم يلزمه الدين الذي أقر به المولى وكذلك إن عتق لأنه ازداد بعدا عن مولاه لهذه الأسباب.
 ولو أقر أن لفلان ألف درهم عليه أو على فلان ألف درهم ثم مات فلان والمقر وارثه وترك مالا فالإقرار يلزمه إرثا كان عليه وإرثا كان في مال الميت لأنه لو جدد الإقرار في هذه الحال كان ملتزما إياه وهذا لأن موجب الإقرار بالدين يوجه المطالبة بقضائه من ماله وقد صار هو المطالب بقضاء هذا الدين من ماله عينا لأنه إن كان مراده الإقرار على نفسه فعليه قضاؤه وإن كان مراده الإقرار على مورثه فعليه قضاؤه من تركته وتركة المورث حق الوارث فلهذا حكم بصحة إقراره وجعل البينة على المقر في ذلك.
وإذا أقر أن لفلان علي ألف درهم ثم مات فلان والمقر وارثه فالدين في تركة الميت بمنزلة مالو وجد الإقرار بعد موته لان الإقرار في حق المقر خبر ملزم غير محتمل للفسخ وأن جهة الصدق منفية فيه في حق المقر وفسخه في تعين جهة الكذب فيه وبعد ما تعينت جهة الصدق فيه لا يتصور تعيين جهة الكذب فيه فلهذا جعلناه كمجدد الإقرار في هذه الفصول بعد ما خلص الحق له فإن كان على الميت دين في صحته أو في مرضه فدينه واجب في تركته من هذا لأن صحة إقرار الوارث باعتبار التركة وذلك حين يخلص حقا له وما دام على الميت دين أقر به في صحته أو في مرضه فلا حق للوارث في تركته فتجعل هذه الحال كحال حياة المورث لو قال: له علي ألف درهم لا بل على فلان لزم المقر المال لأنه التزمها بإقراره ثم أراد الرجوع عنه وإلزام غيره بقوله لا بل على فلان لأن كلمة لا بل للاستدراك بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقام الأول وليس له ولاية الرجوع ولا ولاية إلزام المقر به غيره فيلغى آخر كلامه ويبقي المال عليه باعتبار أول كلامه لأنه يخالف ما سبق فإن حرف أو للتشكيك فلا يكون مع ذكره ملتزما للمال بإقراره دار بين رجلين أقر أحدهما أنها بينهما وبين فلان وأقر الآخر أنها بينه وبين هذا المقر له وبين آخر أرباعا فإنا نسمي الذي أقر له متفقا عليه والذي أقر له أحدهما محجورا والذي أقر لهما مقرا وشريكه مكذبا.
 
فنقول على قول أبي يوسف رحمه الله: يأتي المتفق عليه إلى المقر فيأخذ منه ربع ما في يده ويضمه إلى ما في يد المكذب فيقسمانه بينهما نصفين وما بقي في يد المقر يكون بينه وبين المجحود نصفين فيحتاج إلى حساب ينقسم نصفين ثم ربع نصفه ينقسم نصفين وأقل ذلك ستة عشر فيجعل سهام الدار ستة عشر في يد كل واحد منهما ثمانية ثم يأخذ المتفق عليه من المقر ربع ما في يده سهمين فيضمه إلى ما في يد المكذب وهو ثمانية فيصير عشرة أسهم نصفين لكل واحد منهما خمسة وما بقي في يد المقر وهو ستة بينه وبين المجحود نصفين

 

ج / 18 ص -51-       قال: وهذا قول أبى يوسف رحمه الله الذي قاسه على قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قول محمد رحمه الله على قياس قول أبي حنيفة المتفق عليه يأخذ من المقر خمس ما في يده والباقي كما قال أبو يوسف رحمه الله.
وأصل المسألة ما قال في كتاب الفرائض رجل مات وترك ابنين فأقر أحدهما بابنين آخرين للميت وصدقه أخوه في أحدهما وكذبه في الآخر فعلى قول أبي يوسف رحمه الله الذي قاسه على قول أبي حنيفة رحمه الله يأخذ المتفق عليه من المقر ربع ما في يده وعلى قول محمد رحمه الله خمس ما في يده ووجه قول أبي يوسف رحمه الله ظاهر لأن المتفق عليه بقول للمقر قد أقررت بأن الدار بيننا أرباعا فلي ربع كل نصف من الدار وفي يدك النصف فأعطني ربع ما في يدك لإقرارك لي به فإنه لا يجد بدا من قوله نعم فإذا أخذ منه ربع ما في يده ضمه إلى ما في يد المكذب لأنه يقول له قد أقررت بأن حقنا في الدار على السواء وإقراره ملزم في حقه.
وجه قول محمد رحمه الله: أن المقر يقول للمتفق عليه أنا قد أقررت بأن حقي في سهم وحق المجحود في سهم وحقك في سهم ولكن السهم الذي هو حقك نصفه في يدي ونصفه في يد شريكي وهو مقر لك بذلك وزيادة فلا يضرب بما في يدي إلا بما أقررت لك به وذلك نصف سهم فأنت تضرب بما في يدي بنصف سهم وأنا بسهم والمجحود بسهم فلهذا أخذ منه خمس ما في يده وضمه إلى ما في يد المكذب فاقتسما نصفين لاتفاقهما على أن حقهما في الدار.
سواء وإذا تنازع الرجلان في حائط ووجه البناء إلى أحدهما فهو بينهما نصفين على قول أبي حنيفة رحمه الله وتحكيم وجه البناء لبس وعندهما الحائط لمن إليه وجه البناء وإنصاف اللبن وقد بينا هذا في كتاب الدعوى في الحائط والحصن جميعا فإعادته هنا لفروع ذكرناها على سبيل الاحتجاج لأبي حنيفة رحمه الله وقال: قد يجعل الرجل وجه الحائط إلى الطريق فلا يكون ذلك دليلا على أن الحائط غير مملوك له وقد يكون أحد جانبي الحائط مجصصا فلا يكون دليلا على القضاء بالحائط لمن يكون جانبه مجصصا وكذلك قد يكون في أحد الوجهين من الحائط روازن أو طاقات فلا يكون ذلك دليلا على ترجيح أحدهما فكذلك وجه البناء.
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقولان في الحصن والروازن كذلك فأما إذا كان الحائط مبنيا بطاقات فالحائط للذي إليه الطاقات عندهما لأن الطاقات بمنزلة وجه البناء والظاهر أن الذي يبني الحائط يجعل الطاقات إلى جانب نفسه لأن الجانب الذي يكون فيه الطاقات يبنى مستويا وإنما يعتبر الحائط من جانب نفسه لا من جانب جاره ولهذا جعل وجه البناء حكما فكذلك الطاقات وقال: وإن كانت الروازن في البناء من الآجر فهي مثل الطاقات فهذا اللفظ دليل على أنهما إنما لم يعتبرا الروازن الموجودة في الحائط فقد يحفر ذلك

 

ج / 18 ص -52-       صاحب الحائط وقد يحفر جاره ليدخل فيه الضوء فأما ما كان يعلم أنه مبنى مع الحائط من الروازن فإنه يجعل حكما عندهما بمنزلة الطاقات ويقضي بالحائط لمن إليه استواء تلك الروازن لان الباني للحائط يراعى الاستواء من جانب نفسه لا من جانب جاره.
وإن كان الباب في حائط فادعاه كل واحد منهما وغلق الباب إلى أحدهما فالباب والحائط بينهما نصفين في قول أبى حنيفة رحمه الله وفي قولهما الحائط بينهما نصفين والباب الذي إليه الغلق اعتبرا فيه العادة فإن الذي يركب الباب على الحائط يجعل الغلق في جانبه وأبو حنيفة اعتبر القياس أن الغلق متنازع فيه كالباب والعادة مشتركة قد يجعل الغلق إلى جانبه وقد يجعل إلى جانب جاره فكان بينهما نصفين فإن كان له غلقان من كل جانب واحد فهو بينهما نصفين عندهم جميعا لاستوائهما في الدعوى والشاهد بالعلامة ولما تعارض الغلقان جعل كأنه لا غلق على الباب فيقضى به بينهما نصفين كالحائط والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بشيء بغير عينه
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل لرجل بشاة من غنمه صح إقراره لأن المقر له معلوم ولا تأثير لجهالة المقر به بالمنع من صحة الإقرار لأنها جهالة مستدركة بإجبار المقر على البيان فإذا ادعى المقر له شاة بعينها فإن ساعده المقر على ذلك أخذها وإن أبى ذلك لم يأخذها إلا بإقامة البينة لأن المقر بها منكر والمدعي معين والمنكر غير المعين فلا يأخذها إلا بإقامة البينة عليه أو سكوت المدعى عليه بعد استحلافه ولكنه بدعوى هذه الشاة صار كالراد لإقراره فيما سواه فإذا حلف المدعى عليه في هذه الشاة لم يبق للمدعي خصومة بسبب ذلك الإقرار فإن ادعى المقر له شاة بغير عينها أعطاه المقر أي شاة شاء من غنمه بذلك لأنه أبهم الإقرار فكان الخيار إليه وبيانه مطابق للفظه فكان مقبولا منه وإن حلف المقر علي كلهن لم يقبل ذلك ويجبر على أن يعطيه شاة منها لأن الاستحقاق بالإقرار ثم بتصديق المقر له فيما أقر به فلا يبطل ذلك باليمين الكاذبة بخلاف الأول فإن المقر له هناك صار رادا لإقراره فيما سوى التي عينها وإقراره غير موجب استحقاق تلك الشاة بعينها وإن لم يعين واحد منهما شيئا منها وقال: لا أدري أو رجع المقر عن إقراره وجحد فهو شريكه فيها فقد جمع في السؤال بين الفصلين وأجاب عن أحدهما وهو ما إذا قال: لا أدري فهناك تكون الشركة بينهما ثابتة لاختلاط ملك أحدهما بالآخر على وجه يتعذر تمييزه حتى إذا كانت الغنم عشرا فله عشر كل شاة .
وإن ماتت شاة منها ذهبت من مالهما وإن ولدت شاة منها كان لهما جميعا على ذلك الحساب هذا هو الحكم في المال المشترك أن الزيادة لهما والهلاك عليهما فأما إذا جحد المقر أصلا ومنع الغنم فهو ضامن لنصيب المقر له حتى إذا هلكت شاة منها ضمن مقدار نصيب شريكه منها وهو العشر وإن مات المقر فورثته في ذلك بمنزلته لأنهم خلفاؤه في

 

ج / 18 ص -53-       ملكه وإنما كان الشأن للمقر لاختلاط ملكه بملك غيره وورثته في ذلك بمنزلته إلا أنهم يستحلفون على العلم لأن يمينهم على فعل الغير وأنواع الحيوان والرقيق والعروض في هذا مثل الغنم.
ولو قال: له في دراهمي عشرة دراهم وهي مائة فللمقر له منها عشرة دراهم وزن سبعة لما بينا أن الدراهم عبارة عن الوزن والمعيار فيه وزن سبعة فينصرف مطلق الإقرار إليه والإقرار به في ما له وفي ذمته سواء وإن كان في الدراهم صغار نقص وكبار ومال المقر هي عشرة نقص لم يصدق لأن هذا بيان فيه تغيير موجب كلامه فلا يقبل منه مفصولا وإن كان فيها زيوف فقال: هي منها صدق لأنه ليس في هذا بيان تغيير موجب كلامه بل فيه تقريره وهذا بمنزلة الإقرار بالغصب أو الوديعة لما عين له محلا سوى ذمته وقد بينا في الغصب والوديعة أنه إذا قال: هي زيوف صدق وإن كان مفصولا ولو قال: له في طعامي هذا كر حنطة ولم يبلغ الطعام كرا فهو كله له لأنه أقر بحقه في محل عين ولكنه غلط في العبارة عند مقداره والزيادة على ذلك القدر لو لزمته إنما تلزمه في ذمته وهو ما أقر له بشيء في ذمته ولكنه يحلف أنه ما استهلك من هذا الطعام شيئا وهذا إذا ادعاه المدعي لأنه يدعي عليه السبب الموجب للضمان في الزيادة على الموجود إلى تمام الكر وهو لذلك منكر فيتوجه عليه اليمين.
ولو قال: له هذه الشاة أو هذه الناقة ثم جحد ذلك وحلف ماله منهما شيء وادعاهما الطالب فإنه يقضى له بالشاة لأنه حين ادعاهما صار مصدقا له فيما أقر به وهو أحدهما بغير عينه مدعيا في الزيادة على ذلك فتم استحقاقه في المقر به ولا يبطل ذلك باليمين الكاذبة فالأوكس متيقن به وهو الشاة فلهذا لزمه ذلك ولا يكون المقر له شريكا في الناقة لأنه بجحوده نفى حقه عنهما ولو نفى حقه عن الناقة وحدها بأن عين الشاة كان مقبولا منه فكذلك هنا يقبل منه نفي حق المقر له عن الناقة فلا يكون شريكا فيها ولو شهد الشهود على إقراره بذلك وقالوا سمى لنا إحداهما فنسيناها لم تجز شهادتهما لإقرارهما على أنفسهما بالغفلة ولأنهما ضيعا ما تحملا من الشهادة فإنهما تحملاها على الإقرار بالعين وقد ضيعا ذلك بالنسيان.
 وإذا أقر لرجل بحق دار في يده فإنه يجبر على أن يسمي ذلك ما شاء لأنه أبهم الإقرار بجزء له من الدار فعليه بيان ما أبهم فإن أقر بالعشر وادعى المقر له أكثر من ذلك حلفه على الزيادة لأنه خرج عن عهدة إقراره بما بين فالقول قوله في إنكار الزيادة مع يمينه وإن أبى أن يسمي سمى له الحاكم ثم وقفه على شيء من ذلك حتى إذا انتهى إلى أقل ما يقر به له عادة استحلفه ماله فيه إلا ذلك لأن قدر الأقل متيقن به وذلك معلوم بالعادة وعليه ينبني مطلق الإقرار فيستحلفه على الزيادة إذا ادعاها الطالب ثم يقضى له بذلك القدر والأعيان المملوكة كلها على هذا

 

ج / 18 ص -54-       ولو أقر أن لفلان حقا في هذه الغنم قال: هو عشر هذه الشاة فالقول قوله مع يمينه لأن بيانه مطابق لإقراره فقد يضاف المقر به إلى محله الخاص تارة وإلى العام من جنسه تارة فيقبل بيانه وعليه اليمين إن ادعى المقر له الزيادة .
 ولو أقر أن لفلان حقا في هذه الدار ثم قال: هو هذا الجذع أو هذا الباب المركب أو هذا البناء بغير أرض لم يصدق في ذلك لأن بيانه مغير لموجب كلامه فإن موجب إقراره ثبوت حق المقر له في رقبة الدار وهذا البيان ينفي حقه عن رقبتها فلا يصدق في ذلك إلا موصولا وحقيقة المعنى في الفرق بين هذا وبين الغنم أن في الدار بيعا للأصل ولهذا يدخل في البيع من غير ذكر ويستحق بالشفعة وقوام البناء بأصل الدار وقد أضاف إقراره إلى أصل الدار فلا يقبل بيانه في الصفة والبيع بعد فأما في الغنم بعض ليس بيعا للبعض فبيانه في أصل الغنم كإقراره فلهذا قبل منه قال: أرأيت لو عنيت به الثوب أو الطعام الذي في الدار أكنت أصدقه وهذا إشارة إلى ما قلنا أن الموضوع في الدار ليس من رقبة الدار في شيء وإقراره يتناول رقبتها.
 ولو أقر أن له في هذا البستان حقا ثم قال: هو ثمرة هذه النخلة لم يصدق لأن إقراره تناول أصل البستان والثمرة ليست من أصله في شيء وإن أقر بالنخلة بأصلها فالقول قوله لأنه أقر له بجزء من الأرض فكان بيانه مطابقا لإقراره وإن قال: هي له بغير أرض لم يصدق لأن بيانه غير مطابق لإقراره فإن حرف في حقيقة للظرف واسم البستان لأصل البقعة والأشجار فيه وصف وتبع لأن قوامها بالبقعة وإنما يتناول أصل إقراره شيئا من البقعة أو جعل البقعة لما أقر به من الحق فإذا فسره بالنخلة من غير أرض لم يكن التفسير مطابقا للفظه.
فإن قيل الظرف غير المظروف فإنما جعل البستان محل حقه فإذا فسره بالنخلة فالبستان محل حقه قلنا لا كذلك فأنه إذا فسره بالنخلة فمحل حقه موضعها من الأرض وذلك الموضع لا يتناوله اسم البستان فإنما يتحقق كون البستان ظرفا لحقه إذا كان المقر به جزءا منها ولو قال: له في هذه الأرض حق ثم قال: حقه فيها إني أجرتها إياه سنة ليزرعها لم يصدق لأنه أقر له بالحق في رقبتها ثم فسره بالمنفعة فلم يكن تفسيره مطابقا للفظه وكذلك لو أقر أن له في الدار حقا ثم قال: سكني شهر فتفسيره غير مطابق للفظه وكذلك لو أقر أن له في هذه الدار ميراثا أو شراء ثابتا أو بابا أو ملكا ثابتا ثم قال: هو هذا الباب المغلق لم يصدق لأنه جعل رقبة الدار ظرفا لما أقر له به فلا بد من أن يفسره بجزء من رقبتها .
 ولو قال: له في دار والدي هذه وصية من والدي ثم قال: له سكني هذا البيت سنة لم يصدق حتى يقر له بشركة في أصل الدار لأنه جعل الدار ظرفا للموصى به والمنافع أعراض تحدث شيئا فشيئا فلا يكون تفسيره مطابقا لإقراره ما لم يقر بشيء من أصل الدار ولو وصل المنطق في جميع ذلك كان مقبولا لأن ظاهر إقراره منصرف إلى شيء من أصل

 

ج / 18 ص -55-       الدار على احتمال أن يكون المقر به منفعتها لأن المنافع محل الأعيان فإذا بينه موصولا قبل بيانه وإن كان مغيرا لموجب مطلق كلامه.
وكذلك لو قال: له فيها ميراث بسكنى شهر وفي هذا نوع إشكال فإن المنافع لا تورث عندنا فينبغي أن لا يقبل بيانه هذا موصولا وكذا يكون بيانه من محتملات كلامه فإن توريث المنفعة مجتهد فيه ولو قضى به القاضي نفذ قضاؤه فلعله أقر له بذلك بعد ما قضى له به قاض فكان هذا بيانا من هذا الوجه وقيل هو على الخلاف وينبغي أن يكون هذا الجواب عندهما بناء على ما تقدم وإذا قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر لم يصدق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن وصل لأن ثمن الخمر لا يجب للمسلم شرعا وعندهما يصدق وكان ذلك بيانا منه على ظنه وكذلك هذا ولو كان في يده عشرة من الغنم فقال: لفلان فيها شرك شاة ثم ماتت الغنم كلها فقال: المقر له أنت خلطت شاتي بغنمك لم يصدق على ذلك ولم يضمن المقر شيئا إذا حلف لأن إقراره بالشركة في العين لا يتضمن الإقرار بوجود السبب الموجب للضمان عليه فإن نصيب كل واحد من الشريكين في يد صاحبه أمانة والاختلاط يحصل من غير خلط فدعواه الخلط دعوى السبب الموجب للضمان عليه ابتداء فلا يصدق في ذلك إلا بحجة .
 ولو قال: في زيتي هذا لفلان رطل من زئبق وقال: كل واحد منهما أنت خلطته لم يصدق واحد منهما في دعواه إلا بحجة لأنه يدعي السبب الموجب للضمان علي شريكه ابتداء ولكنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وإذا حلفا فهما شريكان في الزيت يباع فيضرب صاحب الزئبق فيه بقيمة رطل من زيت لا بقيمة رطل من زئبق ويضرب الآخر بقيمة ما بقي من الزيت قال: لأنه قد صار زيتا كله ومعنى هذا أن الزيت هو الغالب والزئبق يصير كالمستهلك فيه وقيمة الزئبق تنتقص بالاختلاط وهذا النقصان حصل من غير فعل أحد فيكون على صاحب الزئبق وإنما يضرب كل واحد منهما في الثمن بقيمة ملكه كما يتناوله العقد وعقد الكل زيت فلهذا ضرب بقيمة رطل من زيت.
 ولو كان لرجل خمسون رطلا من زئبق فأقر أن فيه لرجل رطلا من بنفسج بعته وقسمت الثمن بينهما يضرب فيه صاحب البنفسج بقيمة رطل منه وصاحب الزئبق بقيمة زئبقة لأن البنفسج بالاختلاط بالزئبق تزداد قيمته وهذه الزيادة حصلت من ملك صاحب الزئبق فلا يضرب بها مع صاحب الزئبق وإنما يكون ضربه بقيمة ملكه وهو رطل بنفسج وإن شاء صاحب الزئبق أعطي صاحبه رطلا من البنفسج والزئبق كله له والخيار إليه دون صاحب البنفسج لأن البنفسج صار مستهلكا بالزئبق فإن الزئبق هو الغالب وعند الاختلاط الأقل يصير مستهلكا بالأكثر والحكم للغالب فيكون الخيار لمن كان حقه قائما من كل وجه في أن يتملك على صاحبه نصيبه بضمان المثل.
 ألا ترى أن ثوب إنسان لو وقع في صبغ غيره فانصبغ به كان لصاحب الثوب أن يعطي

 

ج / 18 ص -56-       لصاحب الصبغ قيمة الصبغ لأن الثوب قائم من كل وجه والصبغ فيه مستهلك من وجه فكان الخيار لصاحب الثوب فهذا مثله رجل في يده ثوب مصبوغ بعصفر فقال: لرجل في ثوبي هذا لك قفيز من عصفر في صبغه فصاحب الثوب بالخيار إن شاء رد عليه مازاد قفيزا من عصفر في ثوبه لأن ملك المقر له صار وصفا لملكه فكان له أن يتملكه بضمان بدله وأن أبى بيع الثوب ويضرب به صاحب العصفر بقيمة ملكه وهو مازاد قفيز من عصفر في ثوبه وصاحب الثوب بقيمة ثوبه فان كان صبغه أكثر من قفيز ضرب صاحب الثوب بالفضل مع قيمة الثوب الأبيض لأن المقر له ما استحق إلا مقدار قفيز من العصفر الذي في الثوب لأن استحقاقه بإقراره وإنما أقر له بهذا المقدار وإن اختلفا فقال: المقر له ليس في هذا الثوب زيادة على قفيز من عصفر وقال: صاحب الثوب بل فيه زيادة على ذلك سأل القاضي أهل العلم بذلك من الصباغين لأنه يحتاج إلى معرفة المحق منهما فيرجع فيه إلى من له نظر في ذلك الباب كما إذا احتاج إلى معرفة قيمة العين سأل عنه من له نظر فيه فإن اتفقوا على شيء يعرف في ذلك أخذ بقولهم وإلا القول فيه قول صاحب الثوب لأنه صاحب الأصل والمقر له إنما يستحق من جهته فيكون القول في بيان مقدار ما يستحق المقر له قول صاحب الثوب .
 ولو أن رجلا في يديه عبد فقال: لفلان في هذا العبد شرك أو قال: شركة فله النصف في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال: محمد رحمه الله تعالى القول قول المقر في بيان مقدار ما أقر به واتفقا أنه لو قال: فلان شريكي في هذا العبد أو مشترك بيني وبين فلان أو هو لي ولو كان بينهما نصفين لأن لفظه الشركة تقتضي المساواة قال الله تعالى:
{فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] ثم يستوي فيه ذكورهم وإناثهم وكذلك لفظ بين يقتضي المناصفة بين المذكورين ومطلق الإضافة إليهما تقتضي التسوية بينهما فأما في قوله شرك أو شركة في العبد فكذلك يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى لأن لفظ الشركة يقتضي التسوية وقال محمد رحمه الله تعالى إذا ذكر الشرك منكرا فهو عبارة عن النصيب قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}[فاطر:40] وقال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ }[سـبأ:22] أي من نصيب فهذا وقوله لفلان في عبدي نصيب سواء.
وهناك البيان فيه إلى المقر له وإلى نفسه فيقتضي المساواة وهنا جعله صفة للمقر به فلا يتحقق فيه اعتبار معنى المساواة فلهذا كان هو وذكر النصيب سواء وإن فصل الكلام فقال: هو شريكي فيه بالعشر أو هو معي شريك بالعشر فالقول قوله لأن الإقرار بالشركة يقتضي المساواة ولكن على احتمال التفاوت فكان بيانه مغايرا لما اقتضاه مطلق كلامه فيصح موصولا لا مفصولا وكذلك لو قال: هذا العبد لي ولفلان لي الثلثان ولفلان الثلث وإذا أقر أن لفلان وفلان معه شركا في هذا فهو بينهم أثلاثا في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو قال: فلان وفلان فيه شركائي وعند محمد رحمه الله تعالى البيان فيه إلى المقر كما في الفصل الأول

 

ج / 18 ص -57-       وإذا قال: قد أشركت فلانا في نصف هذا العبد ففي القياس له ربعه لأنه لو قال: أشركت فلانا في هذا العبد كان له نصفه فإذا قال: في نصف العبد كان له نصف ذلك النصف وهو الربع لأن الإشراك يقتضي التسوية بين الموجب والقابل فيما أضيف الإيجاب إليه وقد أضيف هنا إلى نصف العبد ولكنه استحسن فقال: له النصف لأن معنى قوله أشركت فلانا في نصف العبد أي بنصف العبد فقد يستعار حرف في لمعني الباء مجازا لأن الباء للإلصاق وفي للظرفية وبين الظرف والمظروف نوع إلصاق فأمكن أن يستعار حرف في لمعنى الباء وإنما حملناه على هذا النوع من المجاز لعدم إمكان اعتبار الحقيقة فأنه وإن جعل له ربع العبد كان شريكا في جميع العبد لا في نصفه فأن صاحب القليل مشارك لصاحب الكثير في جميع العين.
 وإذا قال له: علي حق ثم قال: عنيت حق الإسلام لم يصدق ولا بد من أن يقر له بشيء لأن كلمة على للالتزام في الذمة ومطلق هذا اللفظ إنما يفهم منه في العادة الدين فتفسيره بحق الإسلام معتبر لمطلق لفظه فلا يقبل منه مقصوده ثم خص نفسه بالتزام الحق الذي أقر به وحق الدين على كل واحد منهما لصاحبه ففي تخصيصه نفسه دليل على أنه مراده من ذلك
وإن قال: لفلان على عبدي هذا حق ثم قال: عنيت به الدين فالقول قوله لأن كلمة على للالتزام في الذمة فإنه مشتق من العلو ومعناه علاه ما أقر نفيا للوجوب في ذمته حتى صار مطلقا فإنه وإن ادعى المقر له الشركة في الرقبة لم يصدق إلا بحجة لأنه ليس في لفظ المقر ما يوجب ذلك ولو قال: له في رقبة عبدي هذا العتق أو قال: في عبدي فهذا تنصيص على الإقرار بما يوجب الشركة في الرقبة والقول في مقدارها قول المقر وإن قال: لفلان حق في عبدي هذا أو في أمتي هذه فادعى الطالب حقه في الأمة فإن المقر يحلف عليه لأن المدعي غير ما أقربه فإنه أقر بحقه في غير معين وهو إنما ادعاه في معين فيصير ذلك الإقرار فيما سوى المحل الذي عينه ومدعيا في ذلك المحل فالقول قول المنكر مع يمينه وإذا حلف لم يكن له في واحد منهما شيء لأنه خرج عن موجب إقراره بما تضمن دعواه من رد إقراره الحق في العبد وإن ادعى فيهما يجبر المقر على أن يقر في أيهما شاء بطائفة منه لأنه صدقه فيما أقر به وادعى زيادة عليه والاستحقاق بحكم إقراره يتم بتصديقه فالقول في مقداره قول المقر وإن حلف عليهما جميعا فباليمين الكاذبة لا يبطل استحقاقه في مقدار ما تناوله إقراره فيجبر على بيان ذلك ويحلف على دعوى الطالب إن ادعي زيادة على ذلك .
وإن أقر بحائط لرجل وقال: عنيت البناء دون الأرض لم يصدق ويقضي عليه بالحائط بأرضه لأن الحائط اسم للمبنى ولا يتصور ذلك إلا بالأرض فأما غير المبنى يكون آجرا وخشبا ولبنا وتدا وهو لا يكون حائطا فكان في إقراره ما يدل على استحقاق الأرض والثابت بدلالة النص كالمنصوص عليه فكان بيانه هذا مغايرا لمقتضى مطلق كلامه وكذلك

 

ج / 18 ص -58-       لو أقر باسطوانة في داره وإنما أراد به المبنى من الاسطوانة بالآجر وأنه لا يكون اسطوانة ما لم يكن مبنيا كالحائط فأما إذا كانت الاسطوانة من خشب فللمقر له الخشبة دون الأرض لأنه يسمى اسطوانة قبل البناء عليه كما يعده فليس في لفظ المقر ما يدل على استحقاق موضعه من الأرض فإن كان يستطاع رفعها بغير ضرر أخذها المقر له وإن كان لا يؤخذ إلا بضرر ضمن المقر قيمتها للطالب بمنزلة من غصب من آخر ساجة وبنى عليها فإن حق صاحب الساجة ينقطع عن الساجة ويقرر فيه ضمان القيمة دفعا للضرر عن صاحب البناء عندنا وهي مسألة معروفة.
 ولو أقر له بنخلة أو شجرة في بستانه فهي له بأصلها من الأرض لأن المقر به النخل والشجر وإنما يسمى بهذا الاسم إذا كان ثابتا في الأرض فأما إذا لم تكن ثابتة فتسمى خشبة فكان في لفظه ما يدل على دخول موضعها من الأرض ولا خلاف في هذا في إقراره وإنما الخلاف في البيع إذا باع نخلة أو شجرة فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه باعها بأصلها فله موضعها من الأرض وإن باعها ليقطعها المشتري فليس له موضعها من الأرض وإن باعها مطلقا فليس له موضعها من الأرض.
وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه إذا باعها مطلقا فله موضع أصلها من الأرض وله الموضع الذي ينتهي إليه عروقها من الأرض فمحمد رحمه الله تعالى سوى بين البيع والإقرار وقال: الإيجاب من البائع كان في النخلة والشجرة ولا تكون نخلة وشجرة إلا وهي ثابتة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول البيع تمليك مبتدأ فلا يتناوله إلا ما وقع التنصيص عليه والتنصيص إنما وقع على النابت دون موضعه الذي نبت عليه وموضعه الذي نبت عليه ليس مانعا للنابت فلا يستحقه المشتري باستحقاقه النابتة وبالبيع لا يستحق المشتري استدامته على حاله بخلاف الإقرار فإنه إخبار عن ملك سابق للمقر له وفيه إشارة إلى استدامته ولا يكون ذلك إلا بموضعها من الأرض فاستحق موضعها من الأرض بدلالة كلامه والمدلول عليه في الإقرار كالمنصوص عليه ولو أقر بثمرة في نخل لم تكن النخلة له لأن اسم الثمرة لا يختص بحال الاتصال بالنخل بخلاف اسم الحائط والنخلة ولأن اتصال الثمار بالنخل ليس بأصل بل هو للإدراك حتى تجد بعد الإدراك ويفسد إذا ترك ولهذا لا يدخل في بيع النخل من غير ذلك فكذلك لا يدخل في الإقرار بالثمرة أما اتصال البناء بالأرض والنخل بالأرض فللقرار ولهذا دخلا في بيع الأرض من غير ذكر فكذلك الإقرار بهما يتضمن الإقرار بموضعهما من الأرض.
ولو أقر له بكرم في أرض كان له الكرم بأرضه كلها لأن اسم الكرم يجمع الشجر والأرض عادة ومطلق اللفظ في الإقرار ينصرف إلى المعتاد وما ثبت بدلالة النص عادة فهو كالمنصوص عليه وكذلك لو أقر له بالبستان كان له الشجر والأرض والنخل لأن اسم البستان عند الإطلاق يجمع الكل فأصل الاسم للأرض والأشجار والنخيل فيه بمنزلة الوصف فيكون الاسم جامعا للكل

 

ج / 18 ص -59-       ولو أقر أن هذا النخيل لفلان فأراد المقر له أن يأخذ الأرض كلها لم يكن له ذلك وإنما له النخل بأصوله من الأرض ولا يستحق الطريق ولا ما بين النخيل من الأرض لأن النخيل اسم للشجر ولكن لا يسمى نخلا إلا وهو ثابت فأما بعد القلع فيسمى جذوعا فدخول موضعه من الأرض لضرورة التنصيص على اسم النخل في إقراره وهو لا يعد وموضع أصولها من الأرض فلا يستحق شيئا من ذلك وكذلك ليس في لفظه ما يدل على استحقاق الطريق ولا يدخل الطريق في البيع من غير ذكر فكذلك الإقرار والحاصل أنه بنى هذه المسائل على معنى كلام الناس وما يطلقونه في عباراتهم في كل موضع.
 ولو أقر له بأصول عشرة من هذا الكرم معروفة كان له تلك العشرة بأصولها ولا يكون له ما بين الشجر من الأرض والكرم في هذا الموضع كالنخل لأنه ما أقر له بالكرم وإنما أقر له بأشجار معروفة منها فتدخل أصولها لدلالة لفظه ولا يدخل ما سوى ذلك من الأرض ولو قال: بناء هذه الدار لفلان كان له البناء دون الأرض لأنه نص في لفظه على البناء والأرض ليست من البناء في شيء بخلاف الحائط فإنه اسم للبناء في موضع من الأرض وفرق بين البناء والنخل فقال: النخل يخرج من الأرض والبناء لا يخرج من الأرض ومعنى هذا الكلام أن اسم البناء يثبت بفعل العبد وذلك فيما ارتفع من وجه الأرض لا في الأرض فلا يستحق شيئا من الأرض بذكر البناء فأما اسم النخل فلا يحدث بفعل العباد بل بالنبات من الأرض ولا يسمى نخلا إلا وهو نابت فلهذا استحق بتسمية النخل موضعه من الأرض وكذلك لو قال: له بناء هذا الحائط لم يستحق الأرض لما قلنا وإذا أقر له بجزء من داره يصح وبيان المقدار إلى المقر لأن لفظ إقراره يحتمل الكثير والقليل فالجزء من الجزأين يكون نصفا ومن عشرة أجزاء يكون عشرا فكان بيانه مقررا لما أقر به لا مغيرا فصح موصولا كان أو مفصولا وكذلك النصف والنصيب والحق والطائفة البيان في ذلك كله إلى المقر ويقبل بيانه في القليل والكثير لأنه من محتملات كلامه وليس فيه تغيير للفظ عن ظاهره فكان بمنزلة كنايات الطلاق إذا نوى الزوج بها شيئا انصرف إليه ولو أقر له بسهم في داره فكذلك الجواب عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله: له السدس.
 وأصل المسألة في الوصايا وهو ما إذا أوصى بسهم من ماله عند أبي حنيفة رحمه الله ينصرف السهم إلى السدس أخذا بقول بن مسعود رضي الله عنه واحتج بقول إياس بن معاوية رضي الله عنه وجماعة من أهل اللغة رحمهم الله أن السهم هو السدس وعندهما السهم يتناول القليل والكثير فإن سهما من سهمين يكون النصف ومن عشرة يكون العشر فهو والجزء والنصيب سواء وإذا أقر لرجل بنقض الحائط فله البناء دون الأرض لأن النقض اسم لما يبنى به الحائط من لبن وآجر وخشب فليس في لفظه ما يدل على استحقاق موضعه من الأرض وكذلك لو أقر بجذع هذه النخلة فله الجذع دون الأرض والله أعلم .

 

ج / 18 ص -60-       باب إضافة الإقرار إلى حال الصغر وما أشبهها
قال رحمه الله تعالى: رجل أقر أنه كان أقر وهو صبي لفلان بألف درهم وقال: الطالب بل أقررت بها لي بعد البلوغ فالقول قول المقر مع يمينه لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي الوجوب به فإن قول الصبي هدر في الإقرار والصبا حال معهودة في كل أحد فكان هو في المعنى منكرا للمال لا مقرا به فإن قيل هو قد ادعى تاريخا سابقا في إقراره والمقر له منكر لذلك التاريخ فينبغي أن يكون القول قوله قلنا المصير إلى هذا الترجيح بعد ثبوت السبب ملزما وإذا كان الإقرار في حال الصبا غير ملزم أصلا فلم يكن هو مدعيا للتاريخ بالإضافة إليه بل يكون منكرا لأصل المال عليه كمن يقول لعبده أعتقتك قبل أن أخلق أو قبل أن تخلق فكذلك لو قال: أقررت له بها في حال نومي لأن النوم حال معهودة تنافي وجوب المال بالإقرار فيها فإن أصل القصد ينعدم من النائم والقصد المعتبر ينعدم من الصبي فإذا كان إضافة الإقرار إلى حال الصبا لا يكون إقرارا فإضافته إلى حال النوم يكون إنكارا بطريق الأولى.
 وكذلك لو قال: أقررت بها قبل أن أخلق لأنه مستحيل في نفسه فكان منكرا لا مقرا ومثل هذا اللفظ إنما يذكر للمبالغة في الإنكار عادة ولو قال: أقررت له وأنا ذاهب العقل من برسام أو لمم فإن كان يعرف أن ذلك إصابة لم يلزمه شيء لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي صحة الإقرار فيها وإن كان لا يعرف أن ذلك أصابه كان ضامنا للمال لأنه لم يضف الإقرار إلى حال معهودة فيه فكان هو في الإضافة إلى الحال التي هي غير معهودة مدعيا لما يسقط عنه بعد إقراره بها فلا يقبل قوله في ذلك وهذا لأن الإقرار في الأصل ملزم فيجب العمل بهذا الأصل مالم يظهر المانع منه والمانع إضافته إلى حال معهود تنافي صحته فالإضافة إلى حال غير معهودة لا يصلح مانعا بل تكون دعوى المسقط بعد ظهور السبب الملزم فلا يقبل ذلك إلا بحجة .
 
ولو قال: أخذت منك ألف درهم وأنا صبي أو ذاهب العقل من مرض يعرف أنه كان أصابه فهو ضامن للمال لأن الأخذ فعل موجب للضمان على الآخذ صبيا كان أو بالغا مجنونا أو عاقلا فإن الحجر بسبب الصبا والجنون عن الأقوال لا عن الأفعال لأن تحقق العقل بوجوده فلا يكون الصبا والجنون مؤثرا في حكمه وظهور الفعل بإقراره فإذا كان إقراره ملزما حين أقر به والفعل ملزوما فيه في حال الصغر تقرر السبب الموجب للضمان عليه بخلاف ما تقدم فإن قوله في حال الصغر والجنون ليس بملزم إياه ولو أقر الحر أنه كان لفلان عليه ألف درهم وهو عبد لزمه المال لأن الرق لا ينافي وجوب المال في ذمته فإن للعبد ذمة صحيحة لأن صحة الذمة لكونه آدميا وبالرق لا يخرج من ذلك وكذلك لو أقر أنه كان أقر له وهو عبد بألف درهم لأن إقرار العبد ملزم في حق نفسه لكونه مخاطبا وإنما لا يقبل في حق مولاه فكان مؤاخذا به بعد العتق

 

ج / 18 ص -61-       وكذلك الحربي يسلم ثم يقر أنه كان قد أقر لفلان في دار الإسلام بألف درهم في دخلة دخلها بأمان أو قال: دخل علينا بأمان فأقررت له وأنا في دار الحرب وهو في دار الإسلام أو المسلم يقر أنه كان أقر به لفلان حين كان حربيا فذلك كله ملزم إياه لأنه أضاف الإقرار إلى حال لا تنافي صحة الإقرار ووجوب المال بها فإنا لو عاينا إقراره في ذلك الوقت كان مؤاخذا به بعد الإسلام فكذلك إذا ظهر ذلك بإقراره ولو أنه كان أقر بإلف درهم لفلان قبل أن يعتق وقال: فلان أقررت لي بها بعد ما أعتقت لزمه المال له لأنه أضاف الإقرار إلى حال رق المقر له وذلك لا ينفي كون الإقرار ملزما فكان ملتزما المال بإقراره قاصدا إلى تحويله من المقر له إلى مولاه بإسناده الإقرار إلى حال رقه من المقر له إلى غيره ولو أقر مسلم قد كان حربيا أنه أخذ في حال حرابته من فلان ألف درهم في حال ما كان حربيا أو قطعت يده حال ما كان حربيا وقال: المقر له بل فعلت ذلك بعد إسلامك فإن كان المال قائما بعينه فعليه رده وهو غير مصدق في الإضافة إلى حال الحرب لأنه أقر أن هذه العين في الأصل كانت مملوكة له وادعى تملكها عليه بإضافة الأخذ حال كونه حربيا فلا يصدق فيه إلا بحجة كما لو ادعى التملك عليه بشراء أو هبة ولو كان مستهلكها فهو ضامن له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
 وقال محمد رحمه الله: القول للمقر ولا ضمان عليه في ذلك وكذلك لو قال: لمعتقه أخذت منك ألف درهم حال ما كنت عبدا لي أو قطعت يدك حال ما كنت عبدا لي وقال: المقر له لا بل فعلت ذلك بعد ما أعتقتني فالقول قول المقر له والمقر ضامن في قولهما وعند محمد رحمه الله تعالى القول قول المقر وجه قوله أنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي وجوب الضمان عليه بالأخذ والقطع في تلك الحال فيكون منكرا لا مقرا كما لو قال: لمعتقته وطئتك حال ما كنت أمة لي أو قال: لمعتقه أخذت منك الغلة شهر كذا حين كنت عبدا لي أو قال: القاضي بعد ما عزل قضيت عليك بكذا في حال ما كنت قاضيا وأخذته فدفعته إلى المقضي له فالقول قوله وإن كذبه المقر له في هذه الإضافة وكذلك لو قال: المعتق قطعت يدك وأنت عبد وقال: المقر له بل قطعتها بعد العتق فالقول قول المقر للمعنى الذي بيناه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا أقر على نفسه بالفعل الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط الضمان فلا يصدق في ذلك كما لو قال: فقأت عينك اليمنى وعيني صحيحة ثم ذهبت وقال: الآخر بل فقأتها وعينك ذاهبة كان القول قول المقر له والمقر ضامن للأرش
وبيانه هو أنه أقر بالأخذ وهو سبب موجب للضمان عليه كما قال: صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" وأضاف الإقرار إلى حال رق المقر له وذلك غير مناف للضمان عليه بسبب الأخذ والقطع في الجملة فإن العبد إذا كان مديونا كان أخذ المولى كسبه سببا لوجوب الضمان عليه وكذلك قطع يده موجب للضمان عليه وكذلك أخذه من الحربي قد يكون

 

ج / 18 ص -62-       موجبا للضمان عليه في الجملة إذا كان الحربي مستأمنا في دارنا فلم يكن هو في إقراره منكرا لأصل الالتزام بل كان مدعيا لما يسقط الضمان عنه بخلاف ما استشهد به فإن وطء المولى أمته غير موجب عليه المهر سواء كانت مديونة أو غير مديونة وكذلك قضاء القاضي في حال ولايته غير موجب للضمان عليه بحال فإنما أضاف الإقرار في هذه المواضع إلى حال معهودة تنافي الضمان أصلا فكان منكرا لا مقرا فلهذا لا يلزمه شيء والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بالاستفهام
قال رحمه الله: رجل قال: لآخر أليس قد أقرضتني ألف درهم أمس فقال: الطالب بلى فجحده المقر فالمال يلزمه لأن قوله أليس قد أقرضتني استفهام فيه معنى التقرير كما قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36] ومعنى التقرير أنك قد أقرضتني قول الطالب بلى تصديق له في الإقرار وكذلك لو قال: أما أقرضتني أمس أو قال: ألم تقرضني أمس فهذا استفهام فيه معني التقرير قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}[الأنعام:130] تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172} معناه بلى أنت ربنا وهذا على ما قال أهل اللغة أن كلمة بلى جواب الابتداء بل هو نفي وقد قرن به الاستفهام وكلمة نعم جواب الاستفهام المحض وكان المعنى فيه أن الاستفهام متى كان بحرف الإثبات فقول نعم جواب صالح له ومتى كان بحرف النفي فجواب ماهو إثبات بعد النفي وهو كلمة بلى يقال في تبدل الكلام لا بل كذا فلهذا كانت كلمة بلى جوابا للاستفهام بلفظ النفي وهو قوله ألست .
ثم ذكر مسائل تقدم بيانها في قوله: أقرضتني وأعطيتني إذ قال: بعد ذلك لم أقبض وزاد هنا لو قال: أخذت منك ألف درهم فلم تتركني أذهب بها لم يصدق في ذلك وإن وصل كلامه لأنه أقر على نفسه بفعل موجب للضمان وهو الأخذ فكان هو مدعيا إسقاط الضمان عن نفسه بعد ما تقرر سببه فلا يصدق إلا بحجة كالغاصب يدعي الرد وكذلك لو قال: غصبت منك إلف درهم فانتزعتها مني لم يصدق وإن كان موصولا لأن دعوى الانتزاع منه دعوى إسقاط الضمان بعد تقرر سببه بمنزلة دعوى الرد وهذا لأن الوصل بالكلام إنما يكون معتبرا فيما هو بيان فأما دعوي الفعل المسقط للضمان فليس يرجع إلى بيان أول كلامه والموصول والمفصول فيه سواء ولو أقر قصار أن فلانا سلم إليه ثوبا يقصره ثم قال: لم أقبضه فإن وصله بكلامه صدق وإن قطعه لم يصدق وفي بعض النسخ قال: أسلم إليه وهما سواء فإن الإسلام والتسليم لغة في الفعل الذي يكون تمامه بالقبض ولكن على احتمال أن يكون المراد به العقد دون القبض فإذا قال: لم أقبضه كان هذا بيانا معتبرا لموجب ظاهر كلامه فيصح موصولا لا مفصولا.
 ولو قال: لرجل أعطيتني أمس ألف درهم وهل هي ألف فهذا استفهام لا يلزمه به

 

ج / 18 ص -63-       شيء ولو لم ينقد الألف كان إقرارا لأنه إذا لم ينقد الألف كان إخبارا بالفعل فيكون إقرارا بموجبه وإذا نقد الألف فقد ضم صيغة الإخبار للفعل بألف الاستفهام فيخرج من أن يكون إخبارا قال الله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}[المائدة:116] ولم يكن هذا إخبارا عن قوله ذلك لأنه لو كان هذا إخبارا لكان تبرؤه منه بقوله:{سُبْحَانَكَ} [النور:16] تكذيبا فعرفنا مثل هذا إذا قرن به حرف الاستفهام يخرج من أن يكون إخبارا بخلاف قوله أليس قد أعطيتني وفي الحقيقة لا فرق فإن ألف الاستفهام يدل على نفي ما قرن به فإذا قرن بحرف النفي وهو ليس يدل على نفي ذلك النفي فيكون تقريرا وإذا قرن بالفعل كان دليلا على نفي ذلك الفعل فلم يكن مقرا بالإعطاء.
 وإذا أقر أن لفلان عليه مائة درهم أو لا شيء عليه أو قال: أو لا فالقول قوله لأن أو للتخيير بين أحد المذكورين وقد دخلت بين نفي الإقرار وإثباته فكان القول قوله لأن أو للتخيير في اختيار أيهما شاء ولأن حرف أو إذا دخل بين الشيئين كان مقتضاه إثبات أحد المذكورين بغير عينه وقولنا أنه للتشكيك مجاز فإن التشكيك لا يكون مقصودا ليوضع له لفظ ولكن لما كان مقتضاه أحد المذكورين بغير عينه عبر عنه بالتشكيك مجازا فهنا لما كان عمله في إثبات أحد المذكورين أما الإقرار وإما الإنكار لم يتعين الإقرار فيه .
وكذلك لو قال: غصبتك عشرة دراهم أو لم أغصبك وكذلك لو قال: أودعتني عشرة دراهم أو لم تودعني لم يلزمه شيء لما قلنا وكذلك لوقال: علي عشرة دراهم أو على فلان قال: مقتضى كلامه أن المال على أحدهما بغير عينه فلا يكون به ملتزما للمال عينا وما لم يكن كلامه التزاما لا يكون إقرارا وكذلك لو كان فلان ذلك عبدا أو صبيا أو حربيا أو مكاتبا لان لهؤلاء ذمة صالحة لالتزام الدين فإدخاله حرف أو بين نفسه وبينه فيه يقتضي أحدهما بغير عينه وكذلك لو قال: غصبتك أنا أو فلان وكذلك لو قال: لك علي عشرة دراهم أو قال: علي هذا الحائط أو الحمار لزمه المال في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يلزمه في قولهما وهو نظير اختلافهم في مسألة كتاب العتاق إذا جمع بين عبده وحائط أو بين حي وميت وقال: أحدكما حر على سبيل الابتداء في هذه المسألة هما يقولان عمل حرف أو في شيئين ضم المذكور عليه آخر إليه ونفي الالتزام عن نفسه عينا وهنا إعماله في أحدهما ممكن وهو نفيه الالتزام عن نفسه فكان عاملا في ذلك بمنزلة قوله أو ليس لك علي شيء .
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: قوله لك على التزام تام وإنما ينعدم معني الالتزام بالتردد بينه وبين المذكور آخرا وإنما يحصل هذا التردد إذا كان المذكور آخرا محلا لالتزام المال فإذا لم يكن محلا لذلك كان ذكره في معنى الالتزام لغوا يبقى هو ملتزما المال بأول كلامه عينا وهو نظير مالو قال: أوصى بثلث ما له لفلان وفلان واحدهما ميت كان الثلث كله للحي ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم أو لفلان آخر علي دينار لم يلزمه شيء لأنه ذكر

 

ج / 18 ص -64-       حرف أو بين شيئين أو شخصين أقر لهما فمنع ذلك تعين أحد المالين أو تعين أحد الشريكين مقرا له فلا يكون هو بهذا الكلام ملتزما شيئا.
 وكذلك قوله :لك على عشرة دراهم أو لفلان على دينار ولو قال: لك علي عشرة دراهم أو على عبدي فلان فإن لم يكن على العبد دين فالمال لازم والخيار إليه إن شاء عين ذمته وإن شاء عبده لأنه هو الملتزم لما في ذمته أو كسب عبده وهو ملكه وإن كان على عبده دين يحيط بقيمته لم يلزمه شيء لأن كسب عبده وماليته حق غرمائه فكان بمنزلة ما لو ذكر غريم العبد مع نفسه في الإقرار وأدخل حرف أو بينهما فإن سقط دين العبد بسبب من الأسباب وهو عبد على حاله لم يلزمه حكم إقراره لأنه جعل عند سقوط الدين عن العبد كالمجدد لإقراره والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بقبض شيء من ملك إنسان والاستثناء في الإقرار
قال رحمه الله: وإذا أقر أنه قبض من بيت فلان مائة درهم ثم قال: هي لي أو قال: هي لفلان آخر تلزمه لصاحب البيت لأن ما في بيت فلان في يده فإن أصل البيت في يده ويده الثابتة علي مكان تكون ثابتة على ما فيه .
 ألا تري أنه لو نازعه إنسان في شيء من متاع بيته أو في زوجته وهي في بيته كان القول قوله باعتبار يده ويترجح بالبينة في الزوجة فإقراره بالقبض من بيته بمنزلة الإقرار بالقبض من يده فعليه أن يرده مالم يثبت لنفسه حقا بالبينة ولا قول له فيما أقربه لغيره بعد أن صار مستحقا لصاحب البيت فإن زعم أنه لآخر وأنه قبضه منه ضمن له مثله لأن إقراره صحيح وقبضه مال الغير موجب للضمان عليه مالم يرده بمنزلة قوله غصبته منه أو أخذته.
وقال الشافعي رحمه الله: إقراره بالقبض من الغير لا يكون موجبا للضمان بخلاف إقراره بالأخذ والغصب لأن لفظ الأخذ يطلق على قبض بغير حق ولفظ القبض يطلق على قبض بحق كقبض المبيع ونحوه وهذا ليس بصحيح فإن لفظ الأخذ قد يطلق على ما يكون بحق قال الله تعالى:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145] وقال الله تعالى: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144] ومع ذلك كان الإقرار به موجبا للضمان عليه فكذلك في لفظة القبض وكذلك لو قال: قبضت من صندوق فلان ألف درهم أو من كيس فلان أو من سفط فلان ثوبا أو من قرية فلان كر حنطة أو من نخل فلان كر تمر أو من زرع فلان كر حنطة فهذا كله إقرار بالقبض من يده أو جعل المقبوض جزءا من ملكه فيكون مقرا بالملك .
وكذلك لو قال: قبضت من أرض فلان عدل زطي فإنه يقضي بالزطي لصاحب الأرض لأن ما في أرضه في يده ثم المقر بما بين يدعي لنفسه يدا في أرضه ولم يعرف سبب ذلك فلا يثبت بمجرد دعواه وإذا لم يثبت ما ادعى بقي إقراره بالقبض من يده فعليه رده وعلى هذا لو قال: أخذت من دار فلان مائة درهم ثم قال: كنت فيها ساكنا أو كانت

 

ج / 18 ص -65-       معي بإجارة لم يصدق لأنه مدع فيما ذكره من سبب ثبوت يده في الدار فلا يصدق في ذلك إلا بحجة فإن جاء بالبينة أنها كانت في يده بإجارة وأنه نزل أرض فلان أبرأته من ذلك لأنه أثبت سبب ثبوت يده في المكان بالحجة ولأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فلو علم كون الدار في يده بإجارة أو كونه نازلا في أرض وعايناه أنه أخلاها متاعا كان ذلك القول قوله في أن هذا ملكه.
فكذلك إذا أثبت بالبينة دارا في يد رجل فأقر أنها لفلان إلا بيتا معلوما فإنه لي فهو على ما قال: لأن الكلام إذا قرن به الاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثني فكأنه قال: هذه الدار ما سوى هذا البيت من الدار لفلان وهذا لأن اسم الدار يتناول ما فيها من البيوت والمستثنى إذا كان مما يتناوله لفظه كان استثناؤه صحيحا لأن عمل الاستثناء في إخراج ما يتناوله لولاه لكان الكلام متناولا له وكذلك لو قال: إلا ثلثها لي أو قال: إلا تسعة أعشارها لما بينا أن الاستثناء صحيح إذا كان يبقى بعد المستثنى شيء قل ذلك أو كثر.
 ولو قال: الدار لفلان وهذا البيت لي كانت كلها لفلان لأن قوله وهذا البيت لي دعوى وليس باستثناء فان الواو للعطف ولا يعطف المستثنى علي المستثنى منه فصار جميع الدار مستحقا للمقر له بإقراره وكان المقر مدعيا بيتا في دار غيره فلا يصدق إلا بحجة وكذلك لو قال: الدار لفلان ولكن هذا البيت لي أو قال: الدار لفلان وبناؤها لي أو الأرض لفلان ونخلها لي أو النخل بأصولها لفلان والثمرة لي لا يصدق في شيء من ذلك إلا بحجة لأن البناء تبع للأصل والنخل تبع للأرض والثمر يملك بملك الأصل فكان هو في آخر كلامه مدعيا لنفسه شيئا من ملك الغير فلا يستحقه إلا بحجة .
 ولو قال: هذه الدار لفلان إلا بناؤها فإنه لي لم يصدق أيضا على البناء والبناء تابع وليس هذا باستثناء ومعنى هذا الكلام أن اسم الدار لا يتناول البناء مفصولا فإن اسم الدار لما أدير عليه الحائط من البقعة والبناء يدخل فيه تبعا والاستثناء إنما يكون مما تناوله الكلام نصا لأنه إخراج ما لولاه لكان الكلام متناولا له فإن الاستثناء يصرف في جميع الكلام يجعله عبارة عما وراء المستثنى فما لم يتناوله الكلام نصا لا يتحقق فيه عمل الاستثناء فهذا معني قوله وليس هذا باستثناء وهذا لأن المعني الذي لأجله كان يدخل البناء لولا هذا الاستثناء لا ينعدم بهذا الاستثناء فإن معنى كونه تبعا للأصل أن هذه التبعية قائمة بعد الاستثناء وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى هذا الاستثناء صحيح بناء على أصله في أن عمل الاستثناء في منع ثبوت الحكم في المستثنى فدليل المعارضة بمنزلة التخصيص في العموم وهذا يتحقق فيما يدخل في الحكم تبعا كما يتحقق فيما يتناوله اللفظ قصدا وبيانه يأتي في باب الاستثناء إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا لوقال: هذا البستان لفلان إلا نخلة بغير أصلها فإنها لي أو قال: هذه الحلية لفلان إلا بطانتها فإنها لي أو قال: هذا السيف لفلان إلا حليته فإنها لي أو هذا الخاتم لفلان

 

ج / 18 ص -66-       إلا فصه فإنه لي أو هذه الحلقة لفلان إلا فصها فإنه لي ففي هذا كله ما جعله مستثنى لم يتناوله الكلام نصا وإنما كان دخوله تبعا فلا يعمل استثناؤه وإن كان موصولا بل هو والدعوى المبتدئة سواء فلا يستحقه إلا بحجة ولو قال: هذه الدار لفلان ثم قال: بعد ذلك لا بل لفلان فهي للأول وليس للآخر شيء لأنه رجع عن الإقرار به للأول وأقام الثاني مقامه في الإقرار ورجوعه عن الإقرار باطل.
 
وكذلك لو قال: الدار لفلان ثم قال: بعد ذلك له ولفلان أو لي ولفلان فالدار كلها للأول ورجوعه عن بعض ما أقربه للأول باطل كما في جميعه وإن قال: ابتداء أنها لفلان ولفلان فوصل المنطق فهو بينهما نصفين لأنه عطف الثاني على الأول والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر وفي آخر كلامه ما يغاير موجب أوله فيتوقف أوله على آخره وصار كقوله هي لهما فإن وصل ذلك فقال: لفلان الثلثان ولفلان الثلث فهو كما قال: لأن مقتضي أول كلامه المناصفة بينهما على احتمال التفاوت فكان آخر كلامه بيانا مغايرا وذلك صحيح منه موصولا وإذا ولدت الجارية في يد رجل ثم قال: الجارية لفلان والولد لي فهو كما قال: لأنه لو سكت عن ذكر الولد لم يستحقه المقر له فكذلك إذا نص المقر على أن الولد له بخلاف ما سبق من البناء وهذا لان الولد بعد الانفصال ليس تبعا للأم بخلاف النخل والبناء فإنه تبع للأرض ثم فرق بين الإقرار والبينة بأنه لو أقام رجل البينة أن الجارية له به استحق ولدها معها والفرق أن الاستحقاق بالبينة يوجب الملك للمستحق من الأصل.
 ألا تري أن الباعة يرجع بعضهم على البعض باليمين فيتبين أن الولد انفصل من ملكه فكان مملوكا له فأما الاستحقاق بالإقرار فلا يوجب الملك للمقر له من الأصل حتى لا يرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين ولكن استحقاق الملك له مقصور على الحال ولهذا جعل الإقرار كالإيجاب في بعض الأحكام فلا يتبين به انفصال الولد من ملكه فلهذا لا يستحقه وللشافعي رحمه الله تعالى في الفصلين قولان في قول يستحق الولد فيهما وفي قول لا يستحق الولد فيهما وعلى القولين لا يفصل بين البينة والإقرار وعلى هذا ولد سائر الحيوانات والثمار المجدودة من الأشجار.
ولو كان في يده صندوق فيه متاع فقال: الصندوق لفلان والمتاع الذي فيه لي أو قال: هذه الدار لفلان وما فيها من المتاع لى فالقول قوله لأنه لو لم يذكر فيه كان لا يستحقه المقر له فكذلك إذا ذكره لنفسه نصا وهذا لأن ما في الصندوق ليس بتبع للصندوق فالصندوق وعاء لما فيه والموعى لا يكون تبعا للوعاء وكذلك المتاع يكون في الدار ليس بتبع للدار ولو قال: بناء هذه الدار لي وأرضها لفلان كانت الأرض والبناء لفلان لأن أول كلامه وهو قوله هذه الدار لي غير معتبر فإنه قد كان له ذلك قبل أن يذكره ففي قوله وأرضها لفلان إقرار بالأصل والإقرار بالأصل يوجب ثبوت حق المقر له في البيع كما لو

 

ج / 18 ص -67-       قال: أرض هذه الدار لفلان لاستحق الأرض والبناء جميعا ولو قال: البناء لفلان والأرض للآخر كان البناء للأول والأرض للثاني كما أقر به لأن أول كلامه هنا إقرار معتبر بالبناء للأول فهب أن آخر كلامه إقرار بالأرض والبناء ولكن إقراره فيما صار مستحقا لغيره لا يصح فان للثاني الأرض خاصة فأما في الأول فآخر كلامه بالإقرار بالأرض والبناء وهما جميعا ملكه.
 توضيح الفرق أن البناء لما صار للمقر له الأول خرج من أن يكون تبعا للأرض فإقراره بالأرض للثاني بعد ذلك لا يتعدى إلى البناء وفي الأول البناء باق على ملكه فكان تبعا للأرض فإقراره بالأرض يثبت الحق للمقر له في البناء والأرض معا ولو قال: غصبت هذا العبد من فلان لا بل من فلان فالعبد للأول لأن رجوعه عن الإقرار باطل والثاني قيمته لأنه أقام الإقرار للثاني بالغصب فيه مقام الإقرار للأول وذلك منه صحيح في حق نفسه فإذا صار مقرا بالغصب من الثاني وتعذر رده عليه ضمن له قيمته سواء دفعه إلى الأول بقضاء أو بغير قضاء قال: وكذلك الوديعة والعارية وهو قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الوديعة والعارية إن دفع إلى الأول بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا وإن دفع بغير قضاء فهو ضامن للثاني.
 وبيانه إذا قال: هذه الألف بعينها وديعة عندي لفلان ثم قال: مفصولا أو موصولا لا بل هي وديعة لفلان أودعها فلان فالألف للأول وإن دفعها إليه بغير قضاء قاض ضمن للثاني مثلها لأن إقراره حجة عليه وقد أقر أنه صار متلفا لها على الثاني بالإقرار والدفع إلى الأول فهو والغصب سواء وإن دفعها بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه بمجرد إقراره لم يتلف على الثاني شيئا والدفع حصل بقضاء القاضي فلا يوجب الضمان عليه كما لو قال: هذه الألف لفلان لا بل لفلان ودفع إلى الأول بقضاء قاض لم يضمن للثاني شيئا وعند محمد رحمه الله تعالى يقول المودع ملتزم حفظ الوديعة للمودع وقد صار بالإقرار للأول تاركا ما التزمه من الحفظ للثاني بزعمه فيكون ضامنا له كما لو دل سارقا على السرقة وهذا بخلاف الإقرار بالمال مطلقا لأن هناك لم يلتزم الحفظ للثاني ولكنه شاهد بالملك للثاني على الأول والشاهد إذا ردت شهادته لم يضمن شيئا.
 ولو قال: هذا العبد الذي في يدي وديعة لفلان إلا نصفه فإنه لفلان كان كما قال: لأنه استثناه بعد ما تناوله الكلام نصا فبقي مقرا للأول بماوراء المستثنى وذلك لا يمنع إقراره بالمستثنى للثاني توضيحه أنه قال: إلا نصفه فإنه لي كان صحيحا فكذلك إذا قال: فإنه لفلان وكذلك لو قال: هذان العبدان لفلان إلا هذا فإنه لفلان لأن المستثنى بعض ما تناوله الكلام نصا .
 ولو قال: هذا العبد لفلان المقر له الأول إلا الأول فإنه لي لم يقبل قوله ولا يصدق وكانا جميعا لفلان لأنه متكلم بكلامين أحدهما معطوف على الآخر بحرف الواو ثم استثنى

 

ج / 18 ص -68-       جميع ما تناوله أحد الكلامين واستثناء الكل باطل لما بينا أن عمل الاستثناء في جميع الكلام عبارة عما وراء المستثنى فإن كان لا يبقى وراء المستثنى شيء لم يكن هذا استثناء بل يكون رجوعا بخلاف الأول فإن الإقرار بالعبدين كلام واحد وكان استثناء أحدهما صحيحا.
 ولو قال: هذا العبد لفلان أو أنه لفلان عندي وديعة كان للأول يغرم للثاني قيمته وعلى هذا الخلاف الذي ذكرنا إذا دفعه إلى الأول بقضاء القاضي ولو قال: هذا العبد لفلان وهذا لفلان إلا نصفه فإنه لفلان وإلا نصف الآخر فإنه لفلان جاز على ما قال: لأن الكلام موصول بعضه ببعض وقد استثني من كل كلام بعضه فكان صحيحا على أن يجعل عبارة عما وراء المستثنى وكذلك هذا في الحنطة والشعير والذهب والفضة والدار والأرض والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بالمجهول أو بالشك
قال رحمه الله: أقر أن لفلان عنده وديعة ولم يبين ما هي فما أقر به من شيء فهو مصدق فيه وقد تقدم نظيره في الغصب ففي الوديعة أولى لأن المودع أمين فيكون مقبول القول فيما بين بعد أن يكون ما بين سببا يقصد به الإيداع وإن ادعي المقر له شيئا آخر فعلى المقر اليمين لإنكاره ما ادعاه وكذلك لو أقر بثوب وديعة وجاء به معيبا وأقر أنه حدث به عنده هذا العيب فلا ضمان عليه في ذلك لأنه لو هلك في يده لم يضمن شيئا وإذا أنكر صاحبه أن يكون استودعه فالجواب كذلك لأن ما في يده لم يقر على نفسه بالسبب الموجب للضمان عليه وإنما أقر بأنه وديعة في يده فصاحبه يدعي عليه السبب الموجب للضمان وهو الأخذ بغير رضاه وذو اليد منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه.
 قال: ألا تري أنه لو قال: وضعت خاتمك في يدي فضاع كان القول قوله لأنه لم يضف إلى نفسه في ذلك فعلا يضمن به وإنما أراد بهذه الإشارة إلى الفرق بين هذا وبين مالو قال: أخذته منك وديعة فإن هناك إذا أنكر صاحب الإيداع كان المودع ضامنا لإقراره بالفعل الموجب للضمان عليه وهو الأخذ فأما هنا فقد أضاف الفعل إلى صاحبه بقوله أودعني أو وضعه في يدي ولو كانت الوديعة ثوبا فلبسه المودع أو دابة فركبها ثم قال: هلكت بعد أن نزلت عنها وكذبه صاحبه فهو ضامن لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان وهو اللبس والركوب في ملك الغير ثم ادعى ما يبرئه عن الضمان فلا يقبل قوله إلا أن يقيم البينة على ما ادعى وكذلك لو قال: ركبتها بإذن المودع وأنكر المودع الإذن فهو ضامن إلا أن يقيم البينة على الإذن لإقراره بالفعل الموجب للضمان عليه وكذلك لو دفعها إلى غير صاحبها ثم أقر أنه دفعها بإذنه فهو ضامن إلا أن يقيم البينة على ذلك وعلى صاحبها اليمين في ذلك كله لدعوى الرضا والإذن عليه وهو مسقط للضمان عنه ولو أقر به.
 ولو قال: لفلان علي إلف درهم أو لفلان علي ألف درهم ولفلان مائة دينار أو لفلان فالألف للأول لأنه أقر له بها عينا حين لم يقرن به حرف التخيير وذكر حرف التخيير

 

ج / 18 ص -69-       بين الآخرين في مائة دينار فيكون الجواب في حقهما مثل الجواب في المسألة الأولى من حكم الاصطلاح والاستخلاف.
 
ولو قال: لفلان علي مائة دينار ولفلان علي كر حنطة أو لفلان كر شعير والمائة الدينار للأول ثابتة لأنه أقر له بها عينا ولا شيء للآخرين لأنه ما عين في الإقرار لواحد منها شيئا حين أدخل بينهما حرف أو وقد بينا أن حرف أو يمنع عينا في حق من اقترن به ولكن لكل واحد منهما أن يحلفه على ما يدعيه عليه كأنه لم يقر لهما بشيء ولو قال: له لك علي مائة درهم ولفلان أو لفلان فللأول نصف المائة والنصف الباقي يحلف لكل واحد من الآخرين عليه إلا أن يصطلحا على شيء فيكون بينهما فإنه عطف أحد الآخرين علي الأول فيما هو موجب حرف أو فكأنه قال: لفلان علي مائة درهم ولأحد هذين الآخرين فنصف المائة للأول لأنه لا يزاحمه من الآخرين إلا أحدهما والنصف الآخر متردد بين الآخرين والمستحق منهما غير معين والحكم فيه الاصطلاح أو الاستحلاف
 وإن قال: لفلان قبلي مائة درهم أو لفلان وفلان فالنصف للثالث والنصف الباقي بين الأولين كما بينا في المسألة الأولى بين الآخرين لأنه عين الإقرار للثالث هنا حين لم يقرن به حرف أو وأثبت المزاحمة لأحد هذين ولهذا علي مائة درهم فنصف المائة للثالث وفي النصف الآخر حكم الاصطلاح بين الأولين أو الاستحلاف قال: وقوله علي وقبلي دين وقوله عندي وديعة وقوله من ملكي وديعة وقوله في ملكي أو في ما لي شركة لأن كل لفظ محمول على ماهو المتعارف بين الناس في مخاطباتهم وقد بينا هذا وإن قال: لفلان علي مائة درهم وإلا فلفلان ففي قول أبي يوسف رحمه الله هذا مثل قوله لفلان أو لفلان وفي قول محمد رحمه الله تعالى الألف للأول ولا شيء للثاني.
 
وجه قول محمد رحمه الله: تعالى أنه أقر للأول بالمال عينا وفي حق الثاني علق الإقرار بالشرط فإن قوله وإلا فلفلان يعني أن لم يكن لفلان علي مائة درهم وهذا تعليق بالشرط والإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط فيبقى إقراره للأول ملزما وفي حق الثاني باطلا ألا ترى أنه لو قال: لفلان علي مائة درهم وإلا فعبدي حر أو فامرأتي طالق أو فعلى حجة لزمته المائة دون ما سواها لأن كلامه الثاني تعليق بشرط عدم وجوب المال وفي هذا الفصل دليل من وجهين أحدهما أنه لو لم يكن المال واجبا بإقراره للأول لكان يلزمه العتق والطلاق ويلزمه الحج لوجود شرطه والثاني أنه جعل هناك آخر كلامه تعليقا فلم يؤثر في الإقرار السابق فكذلك هنا.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: مثل هذا اللفظ إنما يذكر عند التردد بين المذكورين على أن يكون أولى الوجهين في ظنه الأول فإن الرجل يقول هذا القادم زيد وإلا فعمرو وكل هذا الطعام وإلا فهذا يكون المراد أحدهما على أن يكون أولى الوجهين للأول فهنا أيضا يكون بهذا اللفظ مقرا لأحدهما بمنزلة قوله لفلان أو لفلان وهذا بخلاف قوله وإلا فعبدي حر

 

ج / 18 ص -70-       أو فعلي حجة فإنه لا مجانسة بين الإقرار وبين إنشاء العتق والتزام الحج حتى يحمل كلامه على معنى التردد فكان آخر كلامه محمولا على معنى اليمين ولأن العتق والطلاق والحج معلق بالشرط فيمكن تصحيح آخر الكلام تعليقا فأما الإقرار فلا يحتمل التعليق بالشرط ففي جعلنا إياه شرطا إلغاؤه من كل وجه فلهذا جعلناه بمعنى أو ليكون مقرا لأحدهما بغير عينه.
وإن قال: لفلان علي مائة درهم بل لفلان أولا بل لفلان فهو سواء ولكل واحد منهما مائة درهم لأن آخر كلامه لاستدراك الغلط بالرجوع عن الإقرار للأول وإقامة الثاني مقامه في الإقرار له بالمائة والرجوع في حق الأول باطل والإقرار للثاني بالمائة صحيح ولو قال: لفلان علي مائة درهم بل علي حجة لزمته المائة والحجة نفسه بمنزلة المتاع وقول ذي اليد فيما في يده حجة للدفع فإن ادعى آخر أنه ابنه فعليه البينة لأنه يدعي نسب ملك الغير فلا يقبل قوله إلا بحجة فإن أقام البينة أنه ابنه قضي أنه بن له لإثباته دعواه بالحجة وجعل حرا لأن في الحكم بثبوت النسب حكما بأنه مخلوق من مائة وماء الحر جزء منه فيكون حراما لم يتصل برحم الأمة وحين لم يسموا أمة في الشهادة لم يظهر اتصال مائة برحم الأمة فبقي على الحرية فهذه موجبة البينة حرية الولد فلا يعارضها قول ذي اليد في إثبات رقه.
وكذلك لو كان الذي في يديه يدعي أنه ابنه فالمدعي الذي أقام البينة أولى بالقضاء بالنسب له لأن البينة لا يعارضها اليد ولا قول ذي اليد وكذلك لو كان المدعي ذميا أو عبدا يثبت النسب منه لإثباته دعواه بالحجة والعبد والذمي من أهل النسب كالحر المسلم فإن أقام ذو اليد البينة أنه ابنه وأقام الخارج البينة أنه ابنه قضيت بنسبه لذي اليد لأن هذا في معنى النتاج وقد بينا أن بينة ذي اليد هناك تترجح على بينة الخارج وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه من امرأته هذه قضى بنسبه من ذي اليد ومن امرأته وإن جحدت هي ذلك لأن السبب هو الفراش بينهما قائم والحكم متى ظهر عقيب سبب ظاهر يحال به على ذلك السبب وذلك الفراش بينهما يثبت النسب منهما فمن ضرورة ثبوته من أحدهما بذلك السبب ثبوته من الآخر فلا ينتفي بجحودها وكذلك لو جحد الأب وادعت الأم.
قال: ولو كان الصبي في يد عبد وامرأته الأمة وأقاما البينة أنه ابنهما وأقام آخر من العرب أو من الموالي أو من أهل الذمة أنه ابنه من امرأته هذه وهي مثله فأنه يقضي ببينة الخارجين لأن في بينتهما زيادة إثبات الحرية للولد والبينات للإثبات فتترجح بزيادة الإثبات قال: ولو كان الصبي في يد رجل فأقام رجل البينة أنه ابنه من امرأته هذه وهما حران وأقام ذو اليد البينة أنه ابنه ولم ينسبوه إلى أمه فإنه يقضي به للمدعى لزيادة الإثبات في بينته وهو ثبوت النسب من أمه فصارت الزيادة في إثبات النسب كزيادة إثبات الحرية وكذلك إن كانت الأم هي المدعية فإن ثبوت النسب بالفراش بينهما فيكون أحدهما خصما عن الآخر في لا أثبات ولو أقام الخارج البينة أنه ابنه وشهد شهود ذي على إقراره أنه ابنه قضى به للمدعى

 

ج / 18 ص -71-       لأن ثبوت إقرار ذي اليد بالبينة لا يكون أقوى من سماع القاضي إقراره وذلك يندفع ببينة الخارج ثم أعاد مسألة الرجلين والمرأتين وقد بيناه.
 فرع عليه ما لم وقت كل واحد منهما وقتا قال: ينظر إلى سن الصبي فإن كان مشكلا فهو وما لم يوقتا سواء يقض به لهما وإن كان مشكلا في أحدهما وهو أكبر سنا من الآخر أو أصغر معروف قضيت به للمشكل لأن علامة الكذب ظهرت في شهادة الآخرين ولم تظهر في شهادة هؤلاء لكونه محتملا للوقت الذي وقتوه قال: ولو كان الصبي في يد رجل فأقامت امرأة شاهدين أنه ابنها قضيت بالنسب منها لإثباتها الدعوى بالحجة وإن كان ذو اليد يدعيه لم يقض له به لأن مجرد الدعوى لا يعارض البينة فإن قيل لا منافاة بين ثبوته منه ومنها قلنا نعم ولكن لا يمكن إثبات النسب منهما إلا بالقضاء بالفراش بينهما ومجرد قوله ليس بحجة عليها في إثبات الفراش في النكاح بينهما ولو لم تقم المرأة إلا امرأة واحدة شهدت أنها ولدت فإن كان ذو اليد يدعي أنه ابنه أو عبده لم يقض للمرأة بشيء لأن الاستحقاق الثابت باليد لا يبطل بشهادة المرأة الواحدة فإنها ليست بحجة في إبطال حق ثابت للغير وإن كان الذي في يديه لا يدعيه فإني أقضي به للمرأة بشهادة امرأة واحدة وهذا استحسان وفي القياس لا يقضى لأن اليد في اللقيط مستحق لذي اليد حتى لو أراد غيره أن ينزعه من يده لم يملك فلا يبطل ذلك بشهادة امرأة واحدة وفي الاستحسان تمحض هذا منفعة للولد في إثبات نسبه وحريته وليس فيه إبطال حق لذي اليد لأنه لا يدعي في الولد شيئا إنما يده فيه مصيانة عن ضياعه فلهذا أثبتنا النسب منها بشهادة القابلة.
قال: عبد في يد رجل أقام رجل البينة أنه عبده ولد في ملكه وأنه أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه فإني أقضى به للذي أعتقه لأن في هذه البينة زيادة الحرية فلو رجحنا بينة ذي اليد جعلناه مملوكا له وكيف يجعل مملوكا وقد قامت البينة على الحرية ولو كان المدعي دبره أو كاتبه لم يستحق بهذا شيئا أما في الكتابة لا إشكال لأنه عقد محتمل للفسخ كالبيع والإجارة فكأنه أقام البينة على تصرفه فيه ببيع أو إجارة فلا يترجح به وأما في التدبير فقد أعاد المسألة في آخر الكتاب وجعله كالعتق ففيه روايتان.
وجه تلك الرواية أن بالتدبير يثبت له حق عتق لا يحتمل الفسخ فكان معتبرا بحقيقة العتق لأنه يثبت الولاء على العبد ببينته في الموضعين جميعا وإذا كان الولاء هو المقصود والملك بيع فتترجح بينة الخارج لهذا وجه هذه الرواية أن التدبير لا يخرجه من أن يكون مملوكا كالكتابة فكان الملك هو المقصود بالإثبات لكونه قائما فتترجح بينة ذي اليد لإثبات الولادة في ملكه بخلاف العتق فإن الملك لا يبقى بعد العتق فيكون المقصود هناك إثبات الولاء ولو أقام الخارج البينة أنه ابنه ولد في ملكه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه قضي به للمدعي لأن في بينته إثبات الحرية فإن المولود من أمته في ملكه حر الأصل.

 

ج / 18 ص -72-       وإذا كان يترجح عنده إثبات حرية العتق براءة الكفيل على كل حال وكذلك براءة الكفيل بالاستيفاء منه توجب براءة الأصيل فكان في هذا الإقرار منفعة الوارث ببراءة ذمته.
وكذلك لو أقر بالقبض من أجنبي تطوع به عن الوارث أو أقر بحوالة أجنبي عن الوارث فهذا باطل لتضمنه الإقرار ببراءة الوارث وإن كان قبض المال من الوارث أو ممن أدى عنه بمعاينة الشهود جاز لانتفاء التهمة عن القبض المعاين وإنما فارق المريض الصحيح لعدم تمكن الصحة في تصرف المريض وفيما لاتهمة فيه المريض كالصحيح
 ولو وكل رجل رجلا ببيع عبده فباعه من بن الآمر ثم مرض الآمر فأقر بقبض الثمن منه أو أقر الوكيل بقبضه ودفعه إلى المريض لم يصدق في ذلك لما في هذا الإقرار من منفعة الوارث ببراءة ذمته عن اليمين فإن قيل أليس أن الوكيل بمنزلة العاقد لنفسه وهو صحيح قلنا في حقوق العقد نعم فأما في الواجب من اليمين فلا حق له بل هو للموكل وفي هذا الإقرار إذا صح سلامة اليمين للوارث وسقوط مزاحمة سائر الورثة عنه فلهذا لا يصدق الوكيل على ذلك فإن كان المريض هو الوكيل صدق وإن جحد الآمر ذلك لأن المشترى أجنبي من الوكيل وإقرار المريض باستيفاء دين واجب له على أجنبي صحيح فلأن يصح إقراره باستيفاء دين واجب لغيره كان أولى وحال مرض الوكيل في هذا الدين كحال صحته لأنه تصرف ليس مع وارثه ولا في محل فيه حق غرمائه أو ورثته وإن كان المشترى وارثا للوكيل والآمر وهما مريضان لم يصدق الوكيل علي ذلك لأن مجرد مرض الآمر يمنع صحة هذا الإقرار فمرضهما أولى وإن كان المشترى وارثا للوكيل دون الآمر فإن أقر الوكيل أنه قبضه ودفعه إلى الآمر أو هلك المقبوض في يده فهو مصدق على ذلك وإن أقر بقبضه فقط لم يصدق على ذلك لأنه إذا أقر في الدين بالقبض لزمه ضمان المقبوض إذا مات مقرا به فكان هذا الإقرار منه إنما يبرئ ذمة وارثه ويلزمه المال فهو بمنزلة قبول الحوالة والكفالة عن وارثه بالمال أو تبرعه بالقضاء عنه وأما إذا قال: دفعته إلى الآمر أو ضاع مني فليس فيه التزام شيء في ذمته لأنه أمين في المقبوض فالقول قوله ولئن كان فيه منفعة للوارث فليس في مال تعلق به حق الورثة والمريض في ذلك والصحيح سواء.
ولو أن مريضا عليه دين يحيط بماله أقر بقبض دين له على أجنبي فإن كان ذلك جائزا إذا كان وجوب الدين في الصحة لأن الغريم استحق براءة ذمته عند إقرار الطالب بالقبض منه فلا يبطل استحقاقه بمرض الطالب ولأن حق الغرماء لا يتعلق في مرضه بالدين وإنما تعلق حقهم بما لا يمكن استيفاء الدين منه واستيفاء الدين من المدين غير ممكن وكان إقراره باستيفاء ما لم يتعلق به حق غرمائه في المرض والصحة سواء بخلاف ما إذا كان الدين على الوارث لأن بطلان إقراره هناك لحق الوارث وحقهم يتعلق بالدين والعين فإن كان الغريم أخا له وله بن فمات الابن قبل الأب حتى صار الأخ من ورثته لم يجز إقراره بقبض الدين منه وقد بينا هذه الفصول في إقراره بالدين لمن لم يكن وارثا ثم صار وارثا بسبب قائم وقت

 

ج / 18 ص -73-       الإقرار فصار غير وارث فكذلك هذه الفصول في الإقرار بالاستيفاء إن أقر بالدين إذ الإقرار بالاستيفاء بالدين على ما بينا .
 ولو خلع امرأته في مرضه على جعل وانقضت عدتها فأقر باستيفائه منها وليس عليه دين في الصحة ولا في المرض كان مصدقا لأنها بانقضاء العدة خرجت من أن تكون وارثة بيقين فإقراره باستيفاء الدين منها ومن أجنبي آخر سواء واشتراطه انقضاء العدة صحيح لأن إقراره قبل العدة تتمكن فيه تهمة المواضعة فإنها لو لم تساعده على الخلع حتى فارقها لا تخرج عن أن تكون وارثة فيحتمل أنها ساعدته على الخلع ليتضح إقراره باستيفاء الدين منها فلزوال هذه التهمة شرط انقضاء العدة وكذلك اشتراطه أن لا دين عليه في الصحة لأن دين الصحة مقدم على ما يقر به في المرض فأما اشتراطه أن لا دين عليه في المرض فسبب معاين صحيح
 وإن كان المراد بسبب الإقرار فالمراد في حكم الاختصاص أنها إنما تختص بما في ذمتها إذا لم يكن على المقر دين في مرضه وكذلك لو صالح عن قصاص في مرضه على مال ثم أقر بقبضه وهو على غير وارثه صدق في ذلك بخلاف ما إذا كان على وارثه لأن بالصلح قد انقلب الواجب مالا ففي إقراره بقبضه من الوارث اتصال منفعة المالية إليه والمريض لا يملك ذلك في حق وارثه بخلاف عفوه عن القصاص فإن ذلك ليس بمال وإنما يمنع المريض من أن يقر لوارثه بما هو مال وإن أقر العبد التاجر بقبض دين كان له على مولاه فإن لم يكن عليه دين جاز لأن كسبه خالص حق مولاه ولأن العبد لا يستوجب على مولاه دينا إذ لم يكن عليه دين فبراءة المولى لا تكون بإقراره وإن كان عليه دين لم يجز إقراره بذلك لأن المولى يخلف عبده في كسبه خلافة الوارث حتى تتعلق سلامته له بشرط الفراغ عن الدين للعبد فيكون إقراره لمولاه في مرضه إذا مات منه بمنزلة إقرار المورث لوارثه وكما تمكن هناك تهمة إيثاره على سائر الورثة تمكن هنا تهمة إيثاره مولاه على غرمائه.
وكذلك المكاتب إذا أقر بقبض دينه من مولاه وهو مريض ثم مات وعليه دين والمولى وارثه فإقراره باطل وإن لم يكن عليه دين أثلاثا ولهذا نظائر وأضداد ومن نظائرها الموصى له بجميع المال وبنصفه عند إجازة الورثة والموصى له بعين مع الموصى له بنصف ذلك العين إذا لم يكن للميت سواه ومن أضدادها العبد المأذون المشترك إذا أدانه أحد الموليين مائة وأجنبي مائة ثم بيع بمائة فالقسمة بين المدين والأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق العول أثلاثا وعندهما بطريق المنازعة أرباعا وكذلك المدبر إذا قتل رجلا خطأ وفقأ عين آخر وغرم المولى قيمته لهما.
وكذلك العبد إذا قتل رجلا عمدا وآخر خطأ وللمقتول عمدا ابنان فعفا أحدهما ثم دفع العبد بالجنايتين ومما اتفقوا على أن القسمة فيه بطريق العول التركة بين الورثة والغرماء

 

ج / 18 ص -74-       وضاقت التركة عن إيفاء حقوقهم والموصى له بالثلث والموصى له بالسدس إذا لم تجز الورثة ومما اتفقوا على أن القسمة فيه بطريق المنازعة فضولي باع عبد رجل بغير أمره وباع فضولي آخر نصفه فأجاز المولى البيعين فالقسمة بين المشتريين بطريق المنازعة أرباعا وأصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن قسمة العين متى وجبت بسبب حق في العين كانت القسمة على طريق العول فالتركة بين الورثة ومتى وجبت بسبب حق كان في العين كالأصل فالقسمة على طريق المنازعة كما في بيع الفضولي فإن حق كل واحد من المشتريين كان في الثمن يتحول بالشراء إلى المبيع.
 وفي مسألة الدعوى حق كل واحد من المدعيين في العين فكانت القسمة على طريق العول لمعنى أن حق كل واحد منهما شائع في العين فما من جزء منه إلا وصاحب القليل مزاحم فيه صاحب الكثير بنصيبه فلهذا كانت القسمة بطريق العول والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن كل واحد منهما إذا كان يدلي بسبب صحيح معلوم فالقسمة على طريق العول كالورثة في التركة وإذا كان يدلي لا بسبب صحيح ثابت فالقسمة على طريق المنازعة وما لا منازعة فيه لصاحب القليل يسلم لصاحب الكثير في بيع الفضوليين فإن بيع كل واحد منهما غير صحيح قبل إجازة المالك وهذا لأن المضاربة إنما يصار إليها عند الضرورة وذلك عند قوة السبب واستواء السببين في صفة الصحة ففي مسألة الدعوى سبب استحقاق كل واحد منهما الشهادة وهي لا توجب شيئا قبل اتصال القضاء فلم يكن كل واحد من السببين معلوم الصحة فلهذا كانت القسمة على طريق المنازعة وما قال: يبطل بحق الغرماء في التركة فإن قسمة العين بسبب حق كان في الذمة ومع ذلك كانت القسمة عوليا.
قال: فإن كان المدعون ثلاثة يدعى أحدهم جميعها والآخر نصفها والآخر ثلثها وأقاموا البينة فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله القسمة بطريق العول فتكون أصل المسألة من ستة يضرب مدعي الكل بسهام الدار ستة ومدعي الثلثين بسهام الثلثين أربعة ومدعى النصف بثلاثة فيقسم الدار بينهم على ثلاثة عشر سهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى القسمة بطريق المنازعة ولا منازعة لصاحب النصف والثلثين فيما زاد على الثلثين وصاحب الجميع يدعي ذلك فيسلم له بلا منازعة وما زاد على النصف إلى تمام الثلثين لا منازعة فيه لصاحب النصف فيكون بين صاحب الجميع والثلثين نصفين يبقي ستة استوت منازعتهم فيه فكان بينهم أثلاثا فيسلم لمدعي النصف سدس الدار ولمدعى الثلثين ربع الدار ولمدعي الجميع ما بقي وذلك سبعة أسهم من اثني عشر.
قال: ولو كانت الدار في يد رجلين فادعى أحدهما نصفها والآخر جميعها فالبينة على مدعي الجميع لأن دعوى كل واحد منهما منصرف إلى ما في يده أولا ليكون يده محقة في حقه وهذا لأن حمل أمور المسلمين على الصحة واجب فصاحب النصف لا يدعي شيئا مما في يد صاحب الجميع وصاحب الجميع يدعي شيئا مما في يد صاحب النصف فعليه إثباته

 

ج / 18 ص -75-       بالبينة فإن أقاما البينة فالدار كلها لصاحب الجميع لأنه إن اجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد فيما في يد صاحب النصف فبينة الخارج أولى بالقبول.
قال: ولو كانت الدار في يد ثلاثة نفر فادعى أحدهم جميعها والآخر ثلثيها والآخر نصفها وأقاموا البينة واستحلف كل واحد منهم ونكل فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى القسمة على طريق المنازعة بينهم فتكون من أربعة وعشرين سهما لأن في يد كل واحد منهم ثلث الدار ودعوى كل واحد منهم ينصرف إلى ما في يده ثم فيما فضل في ذلك إلى ما في يد صاحبه لأنه ليس أحدهما بأولى به من الآخر ولا بينة لكل واحد منهم فيما في يده فأما الثلث الذي في يد صاحب النصف لا بينة له في ذلك وصاحب الجميع يدعى الجميع وصاحب النصف يدعي الثلثين لأنه يدعي الثلثين ثلث في يده وثلث في يد صاحبه فيكون دعواه فيما في يد كل واحد منهما نصف الثلث فيسلم نصف هذا الثلث لصاحب الجميع بلا منازعة والنصف الآخر بينهما نصفان لاستواء منازعتهما فيه فصار هذا الثلث على أربعة والثلث الذي في يد صاحب الثلثين صاحب الجميع يدعي جميعه وصاحب النصف يدعي ربعه لأنه يدعي النصف والثلث في يده فإنما بقي الثلث في يد صاحبه فكان دعواه في يد كل واحد منهما نصف السدس وذلك ربع ما في يديه فثلاثة أرباع ما في يده سالم لصاحب الجميع واستوت منازعتهما في الربع فكان بينهما نصفين وما في يد صاحب الثلثين صاحب الجميع يدعى صاحب الثلثين نصفه وصاحب النصف ربعه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما ثم مات المشتري وأحد الغرماء وارثه واكتسب العبد مالا في مرضه ثم مات فإن ماله يقسم بين غرمائه الثلاثة الباقين كل منهم يضرب بدينه ويضرب الوارث بدينه ولا يضرب الذي أعتقه بدينه لأن الديون كلها واجبة في ذمته لم يقض شيء منها من ثمنه.
 والدين الواجب في ذمة العبد يقضى من كسبه بعد موته إلا أن دين المشتري قد سقط عنه لأنه ملك رقبته والمولى لا يستوجب على عبده دينا وقد كان يحول حقه إلى الثمن الذي قبضه القاضي فلما هلك ذلك فات محل حقه أصلا فسقط دينه فلهذا لا يضرب في الكسب الذي بعد العتق بشيء وأما وارث المشتري فهو أجنبي عن العبد فدينه ثابت في ذمته بعد العتق كدين الآخرين وهو وإن صار وارثا للعبد بموت المشتري فإنما صار وارثا بسبب حادث بعد الإقرار وهو الولاء فلا يبطل ذلك إقراره فلهذا يضرب مع الآخرين بدينه.
 وكذلك إن كان أحد غرماء الدين أقر لهم وارث العبد لأنه حين أقر له لم يكن وارثه فلا يبطل إقراره له وإن صار وارثا بعد ذلك ولو أن مريضا أقر لابنه بدين وابنه عبد ثم عتق ثم مات الأب وهو وارثه فإقراره بالدين جائز لأن كسب العبد لمولاه فهذا الإقرار حصل من المريض في المعنى للمولى والمولى أجنبي منه فبان صار العبد من ورثته لا يبطل ذلك الإقرار وهذا هو المعنى في الفصل الأول أن الدين الواجب على العبد بإقراره يتعلق برقبته وكسبه وذلك لمولاه دونه فبأن صار المقر له وارثا له بعد ذلك لا يبطل به الإقرار المتقدم

 

ج / 18 ص -76-       وإن وجب قضاء من كسب هو خالص حق العبد بعد العتق لأن هذا حكم يثبت بسبب حادث وهو الإعتاق وقد بينا أن من صار وارثا بسبب حادث بعد الإقرار لا يبطل الإقرار به بخلاف من ورث بسبب قائم وقت الإقرار وإن كان العبد تاجرا وعليه دين والمسألة بحالها فالإقرار باطل لأن كسب العبد التاجر لا يكون لمولاه ففي هذا الإقرار منفعة للعبد من حيث أنه يقضى به دينه وقد صار وارثا بسبب كان قائما وقت الإقرار فلهذا بطل إقراره فأما إذا لم يكن عليه دين فكسبه يكون ملكا لمولاه ويجعل هذا كالإقرار للمولى ولو أقر المريض لابنه وهو مكاتب ثم مات الأب والابن مكاتب على حاله فإقراره له جائز لأن المكاتب ليس من جملة الورثة فإنما كان مقرا بهذا الدين لأجنبي وإن عتق المكاتب قبل موت الأب لم يجز إقراره له لأنه صار وارثا بسبب كان قائما وقت الإقرار وكسبه بعد العتق له فكان هذا الإقرار موجبا إيصال النفع إلى وارثه فلهذا لم يصح.
 ولو أقر المكاتب في مرضه لابنه الحر بدين ثم مات مكاتبا ولم يترك وفاء أو ترك وفاء بالدين دون المكاتبة فالإقرار جائز لأنه مات عبدا عاجزا فلا يكون ابنه من ورثته فكان الإقرار له كالإقرار للأجنبي وهذا لأن الدين مقدم على المكاتبة لأنه أقوى ألا ترى أنه لا يملك إسقاطه عن نفسه بخلاف بدل الكتابة فإذا كان الدين مقدما فهو لم يترك وفاء ببدل الكتابة وإن ترك وفاء بذلك كله كان إقراره بالدين باطلا لأنه يؤدي كتابته ويحكم بعتقه مستندا إلى حال حياته فيكون ابنه من ورثته وموجب إقراره قضاء الدين من كسبه وكسبه حقه فإذا حصل إقراره لمن يرثه بسبب قائم وقت الإقرار كان الإقرار باطلا والله أعلم بالصواب.

باب الاستثناء
قال: رحمه الله: وإذا أقر الرجل أن لفلان عليه ألف درهم إلا تسعمائة وخمسين درهما فاستثناؤه جائز وعليه خمسون لأنه عطف الخمسين على التسعمائة وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه مستثنى فكذلك المعطوف وقد بينا أن الاستثناء صحيح إذا كان يبقى ما وراء المستثنى شيء فجعل الكلام عبارة عنه قل ذلك أو كثر والباقي وراء المستثنى فكان مقرا بها بهذه العبارة بخلاف ما لو قال: إلا ألف درهم فإنه لا يبقى وراء المستثنى شيء مما تناوله كلامه ليصير الكلام عبارة عنه فيكون هذا رجوعا عن الإقرار لا استثناء والرجوع باطل وإن كان موصولا لأنه إنما يصلح موصولا ما يكون فيه معنى البيان لأول كلامه والإبطال ليس من البيان في شيء فلم يصح وإن كان موصولا .
ولو قال: له علي ألف درهم إلا دينارا فالاستثناء جائز ويطرح من الألف قيمة الدينار وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف استحسانا وفي القياس لا يصح هذا الاستثناء وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وكذلك لو قال: إلا فلسا أو كر حنطة أو استثنى شيئا مما يكال أو يوزن أو يعد عدا فهو على هذا الخلاف فأما إذا قال: إلا شاة أو ثوبا أو عرضا من

 

ج / 18 ص -77-       العروض فالاستثناء باطل عندنا وقال الشافعي: رحمه الله تعالى صحيح ويطرح عنه بقدر قيمة المستثنى أما الكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى بناء على الاختلاف في موجب الاستثناء فعنده موجب الاستثناء امتناع ثبوت الحكم في المستثنى لقيام الدليل المعارض بمنزلة دليل الخصوص في العموم فإذا قال: لفلان علي عشرة إلا درهم يصير كأنه قال: إلا درهم فإنه ليس علي فلا يلزم الدرهم للدليل المعارض لأول كلامه لأنه يصير كالاستثناء الدعوتين القول قول صاحب اليد كما لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل كان هو أولى بها ولأن الظاهر شاهد له ولأن وضعه الجذوع دليل على أنه بنى الحائط لحاجته إذا وضع حمله عليه ومثل هذه العلامة تثبت الترجيح كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت يجعل ما يصلح للرجل للرجل وما يصلح للنساء للمرأة وإن كان لأحدهما عليه هو أدى أو يواري لا يستحق به شيئا لأن هذا ليس بجهل مقصود بني الحائط لأجله فلا يثبت به الترجيح كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليه مخلاة علقها لا يستحق به الترجيح بخلاف الجذوع فإنه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله فيثبت له اليد باعتباره.
وكذلك إن كان لأحدهما عليه جذوع أو اتصال وللآخر بواري فهو لصاحب الجذوع والاتصال وإن كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر اتصال فصاحب الجذوع أولى ومراده من هذا مداخله إنصاف اللبن بعضها في بعض إذا كان من أحد الجانبين هذا النوع من الاتصال ببناء أحدهما لأن وضع الجذوع استعمال للحائط والاتصال مجاورة واليد تثبت بالاستعمال دون المجاورة فكان صاحب الجذوع أولى كما لو تنازعا في دابة واحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن صاحب الاتصال أولى لأن الكل صار في حكم حائط واحد فهذا النوع من الاتصال في بعضه متفق عليه لأحدهما فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه ولأن الظاهر أنه هو الذي بناه مع حائطه فمداخله أنصاف للبن لا يتصور إلا عند بناء لحائطين معا فكان هو أولى.
قال في الكتاب: إلا أن يكون اتصال تربيع بيت أو دار فيكون لصاحب الاتصال حينئذ وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول صفة هذا الاتصال أن يكون هذا الحائط المتنازع من الجانبين جميعا متصلا بحائطين لأحدهما والحائطان متصلان بحائط له بمقابلة الحائط المتنازع حتى يصير مربعا شبه القبة فحينئذ يكون الكل في حكم شيء واحد فصاحب الاتصال أولى والمروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع بحائطين لأحدهما فأما اتصال الحائطين بحائط أخرى غير معتبر وعليه أكثر مشايخنا رحمهم الله لأن الترجيح إنما يقع له يكون ملكه محيطا بالحائط المتنازع من الجانبين وذلك يتم بالاتصال بجانبي الحائط المتنازع ولصاحب الجذوع موضع جذوع على الآخر وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة وقضى له به يؤمر الآخر بدفع جذوعه لأن استحقاق صاحب الاتصال بالظاهر وهو حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير فلا يستحق به على صاحب الجذوع رفع جذوعه.

 

ج / 18 ص -78-       فإن قيل لما قضى بالحائط لصاحب الاتصال فينبغي أن يأمر الآخر برفع الجذع لأنه حمل موضوع له في ملك الغير بغير سبب ظاهر لاستحقاقه كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليها حمل وللأخر مخلاة يقضى لصاحب الحمل ويؤمر الآخر برفع المخلاة قلنا لأن وضع المخلاة على دابة الغير لا يكون مستحقا له في الأصل بسبب فكان من ضرورة القضاء بالدابة لصاحب الحمل أمر الآخر برفع المخلاة فأما هنا فقد يثبت له حق وضع الجذوع على حائط لغيره بأن كان ذلك مشروطا في أصل القسمة فليس من ضرورة الحكم لصاحب الاتصال استحقاق رفع الجذوع على الآخر وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة وقضي له به يؤمر الآخر برفع جذوعه لأن البينة حجة للاستحقاق فيستحق صاحبها رفع جذوعه عن ملكه وإن لم يكن متصلا ببناء أحدهما ولم يكن عليه جذوع فهو بينهما نصفان لاستوائهما فيه في اليد حكما فإنه بكونه بين داريهما يثبت لكل واحد منهما عليه اليد حكما وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات وللآخر عليه خشبة واحدة فلكل واحد منهما ما تحت خشبته ولا يكون بينهما نصفان استحسن ذلك في الخشبة والخشبتين وهكذا ذكر في كتاب الصلح.
وقال في كتاب الإقرار: الحائط كله لصاحب عشر خشبات إلا موضع الخشبة فإنه لصاحبها وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن الحائط بينهما نصفان وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو القياس ووجهه أن الاستعمال بموضع الخشبة يثبت يد صاحبها عليه فصاحب القليل فيه يستوي بصاحب الكثير كما لو تنازعا في ثوب عامته في يد أحدهما فطرف منه في يد الآخر كان بينهما نصفين ووجه رواية كتاب الإقرار لصاحب العشر خشبات عليه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله وليس لصاحب الخشبة الواحدة مثل ذلك ولأن الحائط لا يبنى لأجل خشبة واحدة عادة وإنما ينصب لأجلها اسطوانة فكان صاحب العشر خشبات أولى به كما في الدابة إذا كان لأحدهما عليها حمل مقصود وللآخر مخلاة يقضى بها لصاحب الحمل إلا أنه لا يرفع خشبة الآخر لأن استحقاق صاحب الخشبات باعتبار الظاهر يستحق به رفع الخشبة على الآخر وأما وجه رواية كتاب الدعوى أن الاستحقاق باعتبار وضع الخشبة فيثبت لكل واحد منهما الملك فيما تحت خشبته لوجود سبب الاستحقاق به في ذلك الموضع فأما ما بين الخشبات لم يذكر في الكتاب أنه يقضى به لأيهما لأن من أصحابنا رحمهم الله من قال: يقضى بالكل بينهما على إحدى عشر سهما عشرة لصاحب الخشبات وسهم لصاحب الخشبة الواحدة اعتبارا لما بين الخشبات بما هو تحت كل خشبة من الحائط وأكبرهم على أنه يقضى به لصاحب العشر رحمهم الله وعليه كر حنطة وقفيز شعير.
وجه قولهما أن الكلام موصول وفي حق الشعير إنما استثنى بعض ما أقر به فيكون صحيحا كما لو بدأ باستثناء الشعير فقال: إلا قفيز شعير وكر حنطة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول استثناؤه كر حنطة باطل فيكون ذلك لغوا من الكلام وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه في الشعير ومتى تخلل بين المستثنى والمستثنى منه كلام لغو كان الاستثناء

 

ج / 18 ص -79-       باطلا لأن شرط صحة الاستثناء الوصل والكلام اللغو فاصل بمنزلة السكوت أو أبلغ منه فإن التكلم باللغو إعراض عن الجد وليس في السكوت إعراض وهذا باطل نظير اختلافهم فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله أو قال لعبده أنت حر وحر إن شاء الله وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الاستثناء باطل ويقع الطلاق والعتاق جميعا لأن كلامه الثاني لغو فصار فاصلا وعندهما الاستثناء صحيح لكون الكلام موصولا ظاهرا ولو قال: لفلان على ألف درهم ولفلان مائتا دينار إلا ألف درهم كان الاستثناء جائزا من الدنانير لأن المقر له إذا كان مختلفا فالاستثناء من المال الذي وصله به وإنما وصل الاستثناء بالدنانير هنا واستثناء ألف درهم من مائتي دينار صحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأنه استثناء بعض ما تكلم به بطريق المستثنى المعين.
 
ولو قال: لفلان ألف درهم استغفر الله إلا مائة درهم كان الاستثناء باطلا لأنه فصل بينه وبين الإقرار بما ليس من جنسه ولا هو راجع إلى تأكيد الإقرار فكان بمنزلة الفصل بالسكتة وكذلك لو ذكر بين المستثنى والمستثنى منه تهليلا أو تكبيرا أو تسبيحا لأن هذه كلمة ليست من الإقرار في شيء فيتحقق الفصل بها كما يتحقق بالسكوت وشرط صحة الاستثناء الوصل ولو قال: لفلان علي مائة يا فلان إلا عشرة دراهم كان الاستثناء جائزا لأن قوله يا فلان نداء للمخاطب لينبهه فيستمع كلامه فكان كلامه راجعا إلى تأكيد الإقرار فلا يوجب الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بخلاف ما سبق.
 ولو قال: لفلان علي مائة درهم فاشهدوا علي بذلك إلا عشرة دراهم كان الاستثناء باطلا لوجهين: أحدهما أنه أمرهم أن يشهدوا على ألف ولا يكون ذلك مع صحة الاستثناء والثاني أن قوله: فاشهدوا على ذلك كلام آخر أعقب الإقرار به بحرف التعقيب وهو الفاء ولو عطف على الإقرار بحرف الواو كان فاصلا بين المستثنى والمستثنى منه فكذلك إذا أعقبه به وهذا لأنه كلام مفيد مفهوم المعنى بنفسه فلا يكون تابعا للكلام الأول بل يصير فاصلا بخلاف قوله يا فلان فإنه ليس بكلام مفهوم المعنى بنفسه فكان من تتمة المراد بالكلام الأول فلا يوجب الفصل بين المستثنى والمستثنى منه
 
ولو قال: لفلان علي ألف درهم إلا عشرة دراهم أقبضتها إياه كانت عليه الألف كلها لأن قوله أقبضتها صفة العشرة وقوله إلا عشرة ظاهره استثناء العشرة على أن لا يكون واجبا أصلا ويحتمل أن يكون المراد الاستثناء على أنها ليست بواجبة في الحال لسقوطها عنه بالقضاء فكان بيانه المذكور بقوله أقبضتها من محتملات كلامه فيصح منه وإذا صح كان منه دعوى القضاء في العشرة ودعوى القضاء منه غير مقبول من غير حجة سواء ادعاه في بعض المال أو في كله لأن صحة الاستثناء بطريق أنه يكون عبارة عما وراء المستثنى وذلك لا يتحقق هنا لأنه لا يبقى أصل الوجوب فيما زعم أنه قضاه من المال وكذلك لو قال: إلا عشرة دراهم قد أقبضتها إياه لأن حرف قد حرف التأكيد فدعواه القضاء في العشرة مع حرف التأكيد وبدون حرف التأكيد سواء.

 

ج / 18 ص -80-        ولو قال: إلا عشرة دراهم وقد أقبضتها إياه كان عليه الألف إلا عشرة لأن قوله وقد أقبضتها كلام معطوف على المستثنى فلا يكون للمستثنى إذ ليس بين الوصوف والموصف حرف العطف فيكون هذا منه دعوى القضاء في أصل المال فيبقى استثناؤه العشرة صحيحا بخلاف الأول فإنه لم يذكر حرف العطف هناك بين العشرة وذكر القضاء ألا ترى أنه إذا قال: زيد عالم كان صفة لزيد وإذا قال: زيد وعالم لا يكون قوله وعالم صفة لزيد لأن الوصف لا يعطف على الموصوف.
ولو قال: له علي ألف درهم إلا درهما أقبضتها إياه كانت عليه ألف درهم لأن قوله أقبضتها لا يمكن أن يجعل صفة للمستثنى فإنه ذكر فيه حرف التأنيث فيكون صفة لما يعبر عنه بعبارة التأنيث والمستثنى يعبر عنه بعبارة التذكير فعرفنا بهذا أن قوله أقبضتها دعوى القضاء منه في أصل المال فبقي استثناؤه الدراهم صحيحا ولو قال: علي درهم غير دانق من ثمن بقل قد أقبضته إياه كان عليه درهم هكذا ذكره في نسخ أبي سليمان رحمه الله لأن قوله قد أقبضته صفة للدانق الذي استثناه فكان هذا منه دعوى القضاء في الدانق لا الاستثناء على الحقيقة فلزمه درهم وقال في نسخ أبي حفص رحمه الله عليه درهم إلا دانقا قال الحاكم رحمه الله هذا أقرب إلى وفاق ما اعتل به في المسألة لا في تعليل المسألة قال: لأنه قطع بين الاستثناء وبين القضاء بكلام فصار القضاء على ألف درهم ومعنى هذا التعليل أن دعوى القضاء إنما يصير صفة للدانق إذا وصله به وقد تخلل بينهما كلام آخر هنا وهو قوله من ثمن بقل فصار دعوى القضاء منه على درهم وبهذا التعليل يتبين أن الجواب الصحيح ما ذكره في نسخ أبى به شيئا وليس لصاحب الدار أن يقطع الجذوع لأنها وجدت كذلك ويحتمل أن تكون حجة لذلك إلا أن تكون نفس الجذوع بحق مستحق لصاحبها فلا يكون لصاحب الدار أن يقطعها إلا بحجة والظاهر لا يصلح حجة كذلك إلا أن تكون جذوعا لا يحمل على مثلها شيئا إنما هو أطراف جذوع خارجة في داره فحينئذ يكون له أن يقطعها لأن عين الجذوع غير مقصودة بعينها إنما المقصود هو البناء عليها فما لا يبنى على مثله لا يجوز أن يكون مستحقا له في ملك الغير فكان لصاحب الدار أن يقطعها وما يبنى عليه يجوز أن يكون مستحقا له بسبب فلا يكون له قطعها ما لم يتبين أنه أحدث نصبها غصبا .
 
قال: وإذا كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم لم يجبر صاحب السفل على بناء السفل لأنه ملكه ولا يجبر صاحب الملك على بناء ملكه فله حق التدبير في ملك نفسه كإنشاء بيع أو بناء بخلاف ما إذا كان صاحب السفل هو الذي هدمه لأنه صار متعديا بالهدم لما لصاحب العلو في بناء السفل من حق قرار العلو عليه فيجبر على بنائه بحقه كالراهن إذا قبل المرهون أو المولى قبل عبده المديون فأما عند الانهدام لم يوجد من صاحب السفل فعل هو عدوان ولكن لصاحب العلو أن يبني السفل ثم يبني عليه العلو لأنه لا يتوصل إلى بناء ملكه إلا ببناء السفل فكان له أن يتطرق ببناء السفل ليتوصل إلى حقه ثم يمنع صاحب

 

ج / 18 ص -81-        السفل من أن يسكن سفله حتى يرد علي صاحب العلو قيمة البناء لأنه مضطر إلى بناء السفل ليتوصل إلى منفعة ملكه فلا يكون متبرعا فيه والبناء ملك الثاني فكان له أن يمنعه من الانتفاع بالبناء حتى يتملكه عليه بأداء القيمة وذكر الخصاف رحمه الله أنه إنما يرجع على صاحب السفل بما أنفق في بناء السفل ووجهه أنه مأذون في هذا الإنفاق شرعا فيكون كالمأمور به من صاحب السفل لأن للشرع عليه ولاية.
ووجه هذه الرواية أن البناء ملكه فيتملكه عليه صاحب السفل بقيمته كثوب الغير إذا انصبغ بصبغ غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذ ثوبه يعطي صاحب الثوب ما زاد الصبغ في الثوب لأن الصبغ ملك صاحب الصبغ في ثوبه وذكر في الأمالى عن أبي يوسف رحمه الله أن السفل كالمرهون في يد صاحب العلو ومراده من ذلك منع صاحب السفل من الانتفاع بسفله بمنزلة الرهن .
 قال: ولو كان بيت بين رجلين أو دار فانهدمت لم يكن لأحدهما أن يجبر صاحبه على البناء لأن تمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر بقسمة الساحة ممكن فإن بناها أحدهما لم يرجع على شريكه بشيء لأنه غير مضطر في هذا البناء فإنه يتمكن من مطالبة صاحبه بالقسمة ليبني في نصيب نفسه بخلاف العلو والسفل وكذلك الحائط إن لم يكن عليه جذوع لأن أس الحائط محتمل للقسمة بينهما إلا أن يكون بحيث لا يحتمل القسمة نحو الحائط المبني بالخشبة فحينئذ يجبر أحدهما على بنائه وإذا بناه أحدهما منع صاحبه من الانتفاع به حتى يرد عليه قيمة نصيبه كالعبد المشترك إذا كان عاجزا عن الكسب وامتنع أحد الشريكين من الإنفاق عليه كان لصاحبه أن يجبره على ذلك وإن كان على الحائط جذوع لهما فلأحدهما أن يجبر صاحبه على المساعدة معه في بنائه وإن لم يساعده على ذلك بناه بنفسه ثم يمنع صاحبه من وضع جذوعه عليه حتى يرد عليه قيمة حصته من البناء لأن لكل واحد منهما حقا في نصيب صاحبه من حيث وضع الجذوع عليه وذلك يبطل بقسمة أس الحائط بينهما فإن كان الجذوع على الحائط لأحدهما دون الآخر فلصاحب الجذوع أن يبين الحائط ولا يشاجر صاحبه على المطالبة بقسمة الحائط لأن له حق وضع الجذوع على نصيب صاحبه فإن كان هو الذي يطالب بالقسمة فليس له أن يمتنع من ذلك لأن ترك القسمة كان لحقه وقد رضي هو بسقوط حقه وصار هو في حق الآخر كأنه ليس لواحد منهما عليه جذوع وكذلك الحمام المشترك إذا انهدم فهو بمنزلة الدار لأن قسمة الساحة ممكن فإذا بناه أحدهما لم يرجع على صاحبه بشيء .
 قال: وإذا كان لرجل باب من داره في دار رجل فأراد أن يمر في داره من ذلك الباب فمنعه صاحب الدار فصاحب الباب هو المدعي للطريق في دار الغير فعليه إثباته بالبينة ورب الدار هو المنكر فالقول قوله مع يمينه وبفتح الباب لا يستحق شيئا لأن فتح الباب رفع جزء من الحائط ولو رفع جميع حائطه لا يستحق به في ملك الغير شيئا فكذلك إذا فتح بابا وقد

 

ج / 18 ص -82-       يكون فتح الباب لدخول الضوء والريح وقد يكون للاستئناس بالجار والتحدث معه فلا يكون ذلك دليلا على طريق له في الدار فإن أقام البينة أنه كان يمر في هذه الدار من هذا الباب لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لأنهم شهدوا بيد كانت له في هذا الطريق فيما مضى وبهذه الشهادة لا يستحق المدعي شيئا .
 ألا ترى إنا لو عايناه مر فيه مرة لم يستحق به شيئا إلا أن يشهدوا أن له فيه طريقا ثابتا فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم والطريق يجوز أن يكون مستحقا له في دار الجار في أصل القسمة أو أوصى له به فتقبل البينة على إثباته وإن لم يجدوا الطريق ولم يسموا ذرع العرض والطول بعد أن يقولوا أن له طريقا في هذه الدار من هذا الباب إلى باب الدار فالشهادة مقبولة ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويله إذا شهدوا على إقرار الخصم بذلك فالجهالة لا تمنع صحة الإقرار فأما إذا وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا الإقرار والشهادة كل واحد منهما خبر عن أمر ماض وما كان ماضيا فليس بمتيقن عنده في الحال لا في حق نفسه ولا في حق غيره لجواز أن يكون عنده أن الدين واجب عليه وليس بواجب لإبراء الطالب إياه واستيفائه منه تبرأ من ماله أو تبرع أجنبي بالقضاء عنه أو لمفسد يمكن في أصل السبب فيمتنع وجوب المال به وكان قوله فيما أعلم استثناء لليقين في الفصلين جميعا وعلى هذا الخلاف.
 لو قال: له علي ألف درهم في علمي وإن قال: قد علمت أن له علي ألف درهم فهذا إقرار بالاتفاق وبه يستدل أبو يوسف رحمه الله والفرق هنا أن حرف قد للتأكيد فقد أكد علمه بما أخبر به فكان ذلك منه تأكيدا لإقراره والشاهد لو قال: قد علمت فأنا أشهد عليه بما قد علمت لم يكن ذلك قدحا في شهادته فكذلك لا يكون قدحا في إقراره.
ولو قال: له علي ألف درهم فيما أظن أو فيما ظننت أو فيما أحسب أو فيما حسبت أو فيما أرى أو فيما رأيت فهو كله باطل لأن هذه الألفاظ إنما تذكر في العادة لبيان شكه فيه واستثناء بقية وفرق بين قوله فيما رأيت أو حسبت وبين قوله فيما قد علمت لأن مطلق العلم يطلق على ما يتيقن به بخلاف الحسبان والظن والرؤية فقد يتراءى شيء للإنسان وإن لم يكن له حقيقة كالظمآن يرى السراب من بعيد فيتراءى أنه ماء ولا حقيقة لذلك.
 
ولو قال: له علي ألف درهم في شهادة فلان أو في علم فلان لم يلزمه شيء لأن هذه اللفظة في العادة إنما تذكر لبيان أن الأمر بخلاف ما يشهد به فلان أو يعلمه ويكون هذه إنكارا لا إقرارا بخلاف ما لو قال: بشهادته أو بعلمه لأن الباء للإلصاق ولا يتحقق إلصاق بشهادة فلان وعلمه بما أقر به إلا بعد وجوبه فكان مقرا بوجوب المال عليه مؤكدا لذلك بعلم فلان وشهادته وإن قال: في قوله أو بقوله أو بحسابه أو في حسابه أو في كتابته أو في كتابه لم يلزمه شيء لأن قوله فلان لا أثر له في وجوب المال ولا حسابه فمقصودة من هذه الألفاظ بيان أن الأمر بخلاف ما يقوله فلان ويحسبه ويكتب به بخلاف الشهادة والعلم فإن الشهادة

 

ج / 18 ص -83-        مما يؤكد بها الواجب والعلم يطلق على ما يتيقن به فلهذا فرق بين هذه الألفاظ ولو قال: بصكة أو في صكة أو في صك ولم يضفه إلى أحد فالمال واجب عليه لأن الصك اسم خالص لما هو وثيقة بالحق الواجب فهذا منه تأكيد لما أقر به من المال.
 ألا ترى أنه لو قال: في سجل أو سجله كان المال لازما له وكذلك لو قال: في كتاب أو من كتاب بيني وبينه أو من حساب أو في حساب بيني وبينه فهذا كله إقرار لأن مثل هذا اللفظ يذكر لبيان سبب وجوب المال وبيان المحل الذي أثبت فيه وجوب المال عليه فلا يكون قدحا في إقراره وكذلك لو قال: علي صك بألف درهم أو كتاب أو حساب بألف لزمه المال لأن الباء للإلصاق ولا يتحقق إلصاق الألف بالصك والكتاب والحساب إلا بعد وجوبه .
 ولو قال: له علي ألف درهم من شركة بيني وبينه أو من شركة ما بيني وبينه أو من تجارة بيني وبينه أو من خلطة لزمه الألف في جميع ذلك لأن حرف من للتبعيض ولا يتحقق كون الألف من الشركة والتجارة والخلطة بينهما إلا بعد وجوبها ولو قال: له علي ألف درهم في قضاء فلان وهو قاض أو في فلان الفقيه أو هنا أو في فقهه لم يلزمه شيء لأن قوله في قضاء فلان كقوله في شهادة فلان أو في علم فلان وقد بينا أن المراد من هذا اللفظ بيان الأمر بخلاف ما في علمه فكذلك هنا وقوله شهادة بمنزلة قوله بقول فلان لأن شهادته قوله فإن قال: بقضاء فلان وفلان قاض يلزمه المال كقوله بشهادة فلان وبعلمه لأنه ألصق القضاء بالمال فالمال المقضي به لا يكون إلا واجبا وإن لم يكن فلان قاضيا فقال الطالب حاكمته إليه فقضى لي عليه لزمه المال لأن قضاء الحكم في حق الخصمين كقضاء القاضي في حق الناس كافة فكان قوله بقضائه بيانا لتأكيد المال عليه بهذا السبب وإن تصادقا على أنه لم يحاكمه إليه لم يلزمه شيء لأنه لم ينتصب قاضيا في حقهما قط فلا يكون قضاؤه ملزما إياه شيئا فهذا وقوله يقين فلان سواء .
وإن قال: لفلان علي ألف درهم في ذكره أو بذكره لم يلزمه شيء بمنزلة قوله في حسابه أو بحسابه أو في كتابه أو بكتابه لأنه ذكر كتابه وذلك غير ملتزم فكيف يلزم غيره وإن قال: لفلان علي كر حنطة من سلم أو بسلم أو بسلف أو من سلف لزمه ذلك لأن السلف والسلم عبارتان عن شيء واحد وهذا أخذ العاجل بالآجل فكان هذا منه بيانا لسبب وجوب الكر عليه وعلى هذا لو قال له علي مائة درهم من ثمن بيع أو ببيع أو لبيع أو من قبل بيع أو من قبل إجارة أو بإجارة أو بكفالة أو لكفالة أو على كفالة لزم المال لأن هذا كله بيان وسبب وجوب المال منه وهو سبب صحيح فيلزمه المال به .
 
ولو قال: لفلان علي ألف درهم إلا شيئا يلزمه خمسمائة وزيادة بقدر ما بينه لأن الجهالة في المستثنى لا تكون أكثر ما يبرأ من الجهالة في المقر به فكما أن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار فكذلك جهالة المستثنى لا تمنع صحة الاستثناء بل أولى لأن المقر به مثبت والمستثنى غير مثبت فإذا صح الاستثناء مع الجهالة كان ينبغي أن يجعل القول قوله في

 

ج / 18 ص -84-       بيان المستثنى سواء بينه بقدر النصف أو أكثر أو أقل ولكنا تركنا هذا القياس فيه للعادة فإن العادة جارية أن المستثنى يكون أقل من النصف وأنه إنما يختار العادة عن الواجب بذكر حمله مع الاستثناء إذا كان المستثنى أقل من الواجب وتتضح هذه العادة في هذا الفصل فإن قوله إلا شيئا إنما يعبر به عن القليل عادة فهو وقوله إلا قليلا سواء فلهذا لزمه خمسمائة وزيادة ولا طريق لنا إلى معرفة تلك الزيادة سوى الرجوع إلى بيانه بخلاف إلا تسعمائة فإن هناك نص على بيان قدر المستثنى ولا معنى للعادة مع النص بخلافه.
 وكذلك لو قال: له على زهاء ألف درهم أو عظم ألف درهم أو جل ألف درهم أو قريب من ألف درهم فهذا وما سبق سواء لأنه وصف الواجب بأنه عظم الألف ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان أكثر من النصف وقدر الزيادة على النصف لا طريق لنا إلى معرفته سوى الرجوع إلى بيانه فإن مات المقر كان القول فيما زاد على خمسمائة إلى ورثته لأنهم قائمون مقامه وقضاء المال من التركة واجب عليهم فلما كان بيانه مقبولا فكذلك بيانهم بعده وكذلك هذا في الغصب الوديعة وغيرهما وكذلك هذا في المكيل والموزون والثياب وكل شيء يجوز فيه السلم.
 
ولو قال: له على ما بين درهم إلى مائتي درهم فتسعه وتسعون درهما في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله مائتا درهم وفي قول زفر رحمه الله عليه مائة وثمانية وتسعون درهما والقياس ما قاله زفر رحمه الله فإنه جعل الدرهم الأول والآخر حدا ولا يدخل الحد في المحدود كمن يقول لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط أو بين هذين الحائطين لا يدخل الحائطان في الإقرار فكذلك هنا لا يدخل الحدان لأن الحد غير المحدود وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا هذا كذلك في حد هو قائم بنفسه كما في المحسوسات فأما فيما ليس بقائم بنفسه فلا لأنه إنما يتحقق كونه حدا إذا كان واجبا فأما ما ليس بواجب لا يتصور حدا لما هو واجب وأبو حنيفة رحمه الله يقول الأصل ما قاله زفر رحمه الله أن الحد غير المحدود وما لا يقوم بنفسه ذكرا وإن لم يكن واجبا إلا أن الغاية الأولى لا بد من إدخالها لأن الدرهم الثاني والثالث واجب ولا يتحقق الثاني بدون الأول لأن الكلام يستدعي ابتداء فإذا أخرجنا الأول من أن يكون واجبا صار الثاني هو الابتداء فيخرج هو من أن يكون واجبا ثم الثالث والرابع هكذا بعده فلأجل هذه الضرورة أدخلنا فيه الغاية الأولى ولا ضرورة في إدخال الغاية الثانية فأخذنا فيها بالقياس.
 
ولو قال: له على ما بين كر شعير إلى كر حنطة فعليه في قول أبي حنيفة رحمه الله كر شعير وكر حنطة إلا قفيز حنطة لأن القفيز الآخر من الحنطة هو الغاية الثانية وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يلزمه الكران.
 
ولو قال: له علي ما بين عشرة دراهم إلى عشرة دنانير فعند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه الدراهم وتسعة دنانير وعندهما يلزمه الدراهم وعشرة دنانير وكذلك لو قال: له على ما بين

 

ج / 18 ص -85-       عشرة دنانير إلى عشرة دراهم فعليه الدراهم وتسعة دنانير في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وقع في بعض نسخ أبي حفص رحمه الله في هذا الفصل أن عليه عشرة دنانير وتسعة دراهم وهو ظاهر عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الغاية الثانية من الدراهم هنا ولكن الأصح هو الأول وإليه أشار بعد هذا فقال: وكذلك الكيل والوزن سواء اختلف النوعان أو اتفقا فهو سواء والواحد من الأكثر هو الغاية فهذا بيان أن ما ينتقص باعتبار الغاية عنده من الأفضل أو آخره لأنه لا يلزمه إلا القدر المتيقن وإحدى الغايتين لما صار خارجا وجب الأخذ بالاحتياط فيه وجعل ذلك من الأفضل حتى لا يلزمه إلا المتيقن به وقوله من كذا إلى كذا بمنزلة قوله ما بين كذا وكذا في جميع ما ذكرنا والله أعلم.

باب الإقرار بشيء غير مسمى المبلغ
 قال رحمه الله تعالى: وإذا أقر أن لفلان عليه دراهم ولم يسميها لزمه ثلاثة دراهم لأن إقراره حصل بصيغة الجمع وأدنى الجمع المتيقن دراهم ثلاثة والشافعي رحمه الله قال: أنه يلزمه درهمان بناء على أصله أن أدنى الجمع المثنى لأن في المثنى معنى الاجتماع ولكنا نقول لكلام العرب مبان ثلاثة الفرد والتثنية والجمع فذلك دليل على أن الجمع غير التثنية ومن حيث المعقول في المثنى يتعارض الإقرار من الجانبين فلا يترجح فيه أحد الجانبين وفي الثلاثة إنما يعارض فرض المثنى فيغلب فيه معنى الجمع على معنى المفرد ولم يرد في الكتاب على هذا وذكر بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله إذا قال: له علي دراهم مضاعفة لزمه ستة لأن أدنى الجمع ثلاثة وأدنى التضعيف مرة .
 ولو قال: له علي دراهم إضعافا مضاعفة يلزمه ثمانية عشر درهما لأن إضعاف لفظه الجمع فيصير تسعة فبالمضاعفة مرة يصير ثمانية عشر وكذلك لو قال: مضاعفة إضعافا لأن بالمضاعفة يصير ستة والإضعاف جمع وكذلك لو أقر فقال: له علي عشرة دراهم وإضعافها مضاعفة يلزمه ثمانون درهما لأن قوله وإضعافها ثلاثون وهي غير العشرة بحرف العطف فصارت أربعين وبالمضاعفة تصير ثمانين
 
وإن قال: له علي دراهم كثيرة لزمه عشرة في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن أكثر ما يتناول هذا اللفظ مقرونا بالعدد عشرة فقال: عشرة دراهم ثم قال: بعده أحد عشر درهما وعندهما يلزمه مائتا درهم لأن الكثير من الدراهم ما يحصل به الغنى لصاحبه وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة وأبو حنيفة رحمه الله يبني الجواب على اللفظ وهما على المعنى المقصود باللفظ وكذلك لو قال: له علي دنانير كثيرة فعليه عشرة دنانير عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما عشرون دينارا باعتبار نصاب الزكاة ولو قال: له علي كذا كذا درهما يلزمه أحد عشر درهما لأنه ذكر عددين مبهمين مركبين غير معطوفين وأدنى العددين المفسرين بهذه الصفة أحد عشر ولو قال: كذا وكذا درهما يلزمه أحد وعشرون درهما لأنه ذكر عددين مبهمين أحدهما معطوف على الآخر وأدنى ذلك في المفسرين أحد وعشرون فكذلك المبهم

 

ج / 18 ص -86-       يعبر به وعلى هذا الدنانير والكيل والوزن حتى إذا قال: كذا وكذا محتوما من حنطة كان عليه أحد عشر محتوما.
ولو قال: له علي كذا كذا درهما وكذا وكذا دينارا لزمه من كل واحد منهما أحد عشر اعتبارا لحالة الجمع بحالة الإقرار بخلاف ما لو قال: كذا كذا دينارا أو درهما يلزمه أحد عشر منهما بمنزلة ما لو فسره في الفصلين جميعا ولو قال: أحد عشر دينارا أو درهما يلزمه من كل واحد منهما النصف بخلاف ما إذا قال: أحد عشر دينارا أو درهما فكذلك عند إبهام العددين.
 
ولو قال: له علي مال عظيم من الدراهم فعليه ما تجب فيه الزكاة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو مائتا درهم على قياس مذهبهما عند الوصف بالكثرة ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله هنا وقيل مذهبه في هذا الفصل كمذهبهما لأنه في الفصل الأول بنى على لفظ الدراهم وذلك غير موجود هنا والأصح أن قوله بني على حال المقر في الفقر والغنى فإن القليل عند الفقير عظيم وإضعاف ذلك عند الغني ليس بعظيم وكما أن المائتين مال عظيم في حكم الزكاة فالعشرة مال عظيم في قطع السرقة وتقدير المهر بها فيتعارض فيرجع إلى حال الرجل وعلى حاله يبنى فيما بينه وعلى قول الشافعي رحمه الله البيان إلى المقر في ذلك فأي مقدار بين يؤخذ به لأن الإبهام حصل من جهته وهذا بعيد فإنه لو قال: علي مال ثم بينه بشيء يقبل ذلك منه ولا يجوز إلغاء قوله عظيم ولو قبلنا بيانه في القليل والكثير كناقد ألغينا تنصيصه على وصف العظيم وذلك لا يجوز .
 
ولو قال: علي مال فالقول في بيان مقداره قوله قال: والدرهم مال وهذا إشارة إلى أن فيما دون الدرهم لا يقبل بيانه لأن ما دون الدرهم من الكسور لا يطلق اسم المال عليه عادة قال الحسن لعن الله الدانق ومن دنق الدانق ولو قال: له علي حنطة فالقول في ذلك ما قال ربع حنطة فما فوقه فإن الربع أدنى المقادير في الحنطة كالدرهم في الفصل الأول ولو قال: له علي عشرة دراهم ونيف فالقول في النيف ما قال درهم أو أقل منه أو أكثر لأن النيف عبارة عن الزيادة يقال: جبل منيف إذا كان مشرفا على الجبال ومنه سمي الأنف لزيادة خلقته في الوجه فكأنه قال: عشرة وزيادة واسم الزيادة يتناول الدانق وما زاد فإذا كان بيانه مطابقا للفظه كان مقبولا منه وإن قال: له علي بضعة وخمسون درهما فالبضعة ثلاثة دراهم فصاعدا ليس له أن ينقصه عن ثلاثة لأن البضع من ثلاثة إلى سبعة على ما روي أنه لما نزل قوله تعالى: {سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم:4] خاطر أبو بكر رضي الله عنه قريشا على أن الروم تغلب فارسا في ثلاث سنين وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوات الله عليه: "كم تعدون البضع فيكم"؟ قال: من ثلاث إلى سبع فقال صلى الله عليه وسلم: "زد في الخطر وأبعد في الأجل" فهذا دليل على أن البضع ثلاثة.
 ولو قال: له علي حق أوله قبلي شيء فالقول في بيان مقداره وجنسه قوله لأن ما

 

ج / 18 ص -87-       صرح به في إقراره ينطلق على ما قل وكثر من المال ولو قال: له علي عشرة دراهم ودانق فالدانق فضة لأنه عبارة عن سدس الدرهم والمعطوف من جنس المعطوف عليه وكذلك لو قال: له علي عشرة دراهم وقيراط فالقيراط من الفضة لأن المعطوف من جنس المعطوف عليه وقد بينا فيما سبق أن الدرهم أربعة عشر قيراطا ولو قال: له علي مائة ودرهم فعليه مائة درهم ودرهم عندنا وقال الشافعي: رحمه الله درهم واحد والقول في بيان المائة قوله .
وكذلك لو قال: مائة ودينار أو مائة وقفيز حنطة فذكر شيئا من الكيل أو الوزن فهو كله على هذا الخلاف وإن قال: مائة وعبد يلزمه العبد والقول في بيان المائة قوله وكذلك إن قال: مائة وثوب في ظاهر الرواية وروى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في قوله مائة وثوب أن الكل من الثياب وكذلك في قوله مائة وشاة أما الشافعي رحمه الله فقال: أنه أبهم الإقرار بالمائة وقوله ودرهم ليس بتفسير له لأنه عطف عليه بحرف الواو والعطف لم يوضع للتفسير لغة فيلزمه ما أقر به مفسرا في الفصول كلها ويكون القول فيما أبهم قوله وكذلك له علي مائة ودرهمان بخلاف ما لو قال: مائة وثلاثة دراهم لأنه عطف أحد العددين المبهمين على الآخر ثم فسره بالدراهم فينصرف التفسير إليهما جميعا لحاجة كل واحد منهما إلى التفسير .
وحجتنا في ذلك قوله ودرهم بيان للمائة عادة ودلالة أما من حيث العادة فلأن الناس يحترزون عن تطويل العبارات فيأتون به للتنصيص على الدراهم عند ذكر كل عدد ويكتفون بذكره مرة وهذا شيء لا يمكن إنكاره ألا ترى إنهم يقولون أحد وعشرون درهما فيكتفون بذكر الدرهم مرة ويجعلون ذلك تفسيرا للكل.
وأما من حيث الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة المضاف مع المضاف إليه إذ كل واحد منهما للتعريف ثم المضاف يجعل تعريفا للمضاف إليه إذا كان صالحا له فكذلك المعطوف يجعل تعريفا للمعطوف عليه إذا كان صالحا له والصلاحية موجودة في المكيلات والموزونات لأنها تثبت في الذمة مع جميع المعاملات حالا ومؤجلا ويجوز الاستقراض فيها ولعموم البلوى جعلنا العطف فيها تفسيرا بخلاف قوله وثوب وشاة لأن الثوب لا يثبت في الذمة دينا إلا مبيعا مسلما فيه والشاة لا تثبت دينا في الذمة أصلا يعني به ثبوتا لازما فلم يصلح قوله وثوب أن يكون تفسيرا للمائة لأن قوله على مائة عبارة عما يثبت في الذمة مطلقا ثبوتا صحيحا فلهذا كان البيان إليه وجه رواية أبي يوسف رحمه الله أن الثياب والغنم تقسم قسمة واحدة بخلاف العبيد فإنها لا تقسم قسمة واحدة يتحقق في أعدادها المجانسة فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرا للمبهم ومالا يقسم قسمة واحدة لا يتحقق في أعداده المجانسة فلا يمكن أن يجعل المفسر تفسيرا للمبهم .
 
ولو قال: له علي مائة ومائة أثواب فالكل من الثياب بالاتفاق لما بينا أنه عطف العدد المبهم على عدد مبهم ثم فسر بما يصلح أن يكون تفسيرا للكل فيكون الكل من الثياب

 

ج / 18 ص -88-       والقول في بيان جنسها قول المقر ولو قال: له علي مائتا مثقال فضة وذهبا فعليه من كل واحد منهما النصف لأنه أضاف العدد المذكور إلى الجنسين والمساواة في الإضافة تقتضي التوزع على سبيل التساوي إلا أن الواجب هنا من كل جنس مثقال بخلاف ما لو قال: له علي مائتا درهم ودينار فهناك يلزمه مائة دينار تاما قيل ومائة درهم وزن سبعة لأنه نص على المثاقيل هنا فقال: مائتا مثقال ثم فسر بالذهب والفضة فيكون من كل واحد منهما مائة مثقال وهناك أطلق اسم الدراهم والدنانير والدراهم عبارة عن وزن سبعة ثم القول قوله في الجودة والرداءة لأنه ليس في لفظه ما يعين أحد الوصفين وعلى هذا جميع ما يقر به من المكيلات والموزونات بأي سبب أقر به.
 
ولو قال: له على كر من حنطة وشعير وسمسم فعليه من كل أحد الثلث لأن الكر عبارة عن أربعين قفيزا وقد فسره بالأجناس الثلاثة فيكون من كل جنس الثلث ولو قال: له على قفيز من حنطة وشعير إلا ربعا فإن الإستثناء جائز لأنه بعض ما يتناول كلامه وعليه ثلاثة أرباع قفيز من كل واحد النصف اعتبارا لإقراره ببعض القفيز بإقراره بالكل وكذلك لو قال: له قبلي مثاقيل من مسك وزعفران وكذلك لو قال: لفلان وفلان علي قفيز من حنطة وشعير فعليه لهما من كل واحد منهما نصف قفيز للتسوية بينهما في الإقرار والتسوية بين الجنسين في التفسير وإن قال: استودعني ثلاثة أثواب زطي ويهودي كان القول قوله فإن شاء قال: يهودي وزطيان فيقبل قوله مع يمينه لأن الثوب الواحد لا يتبعض فتعين أحد الثلاثة يهوديا والآخر زطيا بقي الثالث مترددا بين وصفين فإن بينه باليهودي فقد التزم الزيادة وإن بينه بالزطي فالقول قوله مع يمينه بمنزلة ما لو قال: له علي ثوب زطي أو يهودي .
 ولو أقر أن الدين الذي له على فلان لفلان وكان المقر له على فلان مائة درهم في صك وعشرة دنانير في صك فقال: المقر عنيت أحدهما وادعاهما المقر له فهما جميعا للمقر له وأما صحة الإقرار بالدين فلأنه إخبار من الغائب عن واجب سابق وذلك يتحقق في الديون كما يتحقق في الأعيان بخلاف التمليك إبتداء وتصحيح الإقرار ليس على وجه تصحيح التمليك فإن الإقرار بالخمر صحيح وتمليكها إبتداء لا يصح من المسلم ثم أدخل الألف واللام في قوله الدين الذي على فلان وذلك للجنس عند عدم المعهود فيتناول جنس ماله على فلان نصا فقوله بعد ذلك عنيت أحدهما يكون رجوعا ولو غاب المقر لم يكن للمقر له أن يتقاضى المال من الغريم وإن صدقة الغريم لأنه أقر له بذلك ولا يجبر على الدفع إليه لأنه أقر له بالملك لا بحق القبض وليس من ضرورة كون الدين ملكا للمقر له أن يكون حق القبض إليه فإن للوكيل بالبيع حق قبض الثمن وهو ملك للموكل ولهذا قال: لو دفعه الغريم إليه بريء كما لو دفع المشتري الثمن إلى الموكل.
وفي الأصل علل في المسألة فقال: لأن في هذا قضاء على الغائب وفي هذا التعليل نظر فإن القضاء على الغائب بالإقرار جائز ولكن مراده أن يقال: أن في هذا إبطال حق الغائب

 

ج / 18 ص -89-       في القبض من غير حجة وكذلك لو أقر بنصف الدين الذي له على فلان لغيره جاز والمقر هو الذي يتقاضى فيعطي المقر له نصف الدين الذي له على فلان لغيره جاز والمقر هو الذي يتقاضى فيعطي المقر له نصف ما يستوفي لما بينا في الفصل الأول فإن ادعى المقر له الضمان على المقر وقال: أديته بغير أمري فإن قال المقر له للمقر ذلك فالقول للمقر ولا ضمان عليه لأنه ليس من ضرورة صيرورة المال دينا عليه مباشرة لأدائه فلعله صار دينا عليه باستهلاك منه أو بأدائهما جميعا فالمقر له يدعي عليه بسبب الضمان وهو منكر فإن قال: أديته بأمرك كان ضامنا لنصيبه بعد أن يحلف المقر له ما أذن له في ذلك لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان عليه وادعى المسقط وهو الإذن ولو كان لرجل على رجل كر شعير وكر تمر وكر حنطة فأقر أن نصف طعامه الذي على فلان لفلان فله نصف الحنطة خاصة لأن ذكر الطعام مطلقا يتناول الحنطة ودقيقها ولهذا لو حلف لا يشتري طعاما أو وكل وكيلا بشراء الطعام ينصرف إلى شراء الحنطة ودقيقها خاصة لأن ذكر الطعام مطلقا يتناول الحنطة ودقيقها فإن بائعها يسمى بائع الطعام وسوق الطعام الموضع الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها ولهذا لو حلف لا يشتري طعاما أو وكل وكيلا بشراء الطعام ينصرف إلى شراء الحنطة ودقيقها خاصة والإقرار من جنس التجارة فمطلق لفظ الطعام فيه يتناول الحنطة دون الشعير ولو قال: له عندي ألف درهم قرض ووديعة فهو ضامن لنصفها قرضا والنصف الآخر وديعة لأن قوله قرض ووديعة تفسير للألف فيتنصف بينهما إذ هما لا يجتمعان في محل واحد وكذلك لو قال: مضاربة وقرض فإن وصل الكلام فقال: مائة منها قرض وتسعمائة مضاربة فالقول قوله لأن ظاهر كلامه أنه ينزل على النصف من كل واحد منهما مع احتمال التفاوت وكان هذا بيانا معتبرا لظاهر لفظه بما هو محتمل ومثل هذا البيان يصح موصولا لا مفصولا وكذلك لو قال: له قبلي كر من حنطة وشعير الحنطة محتوم والشعير تسعة وثلاثون محتوما قبل بيانه موصولا لما قلنا .
 
ولو قال: له عندي ألف درهم هبة أو وديعة فإنها وديعة ولا يكون هبة لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض وهو لم يقبضها وكانت وديعة ولو قال: غصبتك شياها كثيرة فهو على أربعين شاة لما قلنا أن التنصيص على ما يستفاد به الغنى من هذا الجنس وأدناه أربعون شاة ولو قال: غصبتك إبلا كثيرة فهو خمسة وعشرون لأن الكثير ما يحتمل الوجوب من جنسه فإما الخمسة وإن كانت نصاب الزكاة ولكنها قليلة من هذا الجنس ولقلتها لا تحتمل الوجوب من جنسها والكثير من هذا الجنس ما يحتمل الوجوب من جنسه وأدنى ذلك خمسة وعشرون وإذا قال: حنطة كثيرة فهي خمسة أوسق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بناء على أصلهما أن النصاب الذي يجب فيه العشر خمسة أوسق والوسق ستون صاعا ولم يبين قول أبي حنيفة رحمه الله فيه وقيل البيان فيه إلى المقر على قوله بعد أن يبين أكثر مما يتناوله اسم الحنطة إن لو أقر بها مطلقا لأنه لو أقر بالحنطة مطلقا وبينه بالربع كان مقبولا منه

 

ج / 18 ص -90-       فإذا نص منه على صفة الكثرة لا بد من أن يبين أكثر من ذلك على وجه يحتمله هذا اللفظ لو أقر أن الوديعة التي عند فلان لفلان فهو جائز وليس للمقر له أن يأخذها من المستودع ولكن المقر يأخذها فيدفعها إليه على قياس ما بيناه في الدين وفي هذا بعض أشكال فإن قبض الوديعة إلى صاحبها ولكنه اعتبر إقراره وليس من ضرورة ملك العين له ثبوت حق القبض له لجواز أن يكون المقر مرتهنا فيه أو بائعا من المقر له وكان محبوسا عنده باليمين في يد المودع فلهذا كان حق القبض إلى المقر وإن دفعها المستودع إلى المقر له بريء على قياس ما بينا في الدين وهذا لأن وجوب الضمان عليه بالمحتمل لا يكون بل بحق ثابت للمقر في العين وذلك ليس بظاهر وإن كانت له عنده ودائع فقال: عنيت بعضها لم يصدق لإدخاله الألف واللام في قوله الوديعة كما بينا في الدين.
فإن قال: فلان ما استودعني المقر شيئا وقال: المقر له استودعتها إياه بغير أمري فالمقر ضامن لها بعد أن يحلف المقر له ما أمره بذلك لأنه أقر بالإيداع هنا وهو فعل موجب للضمان عليه إلا أن يثبت الإذن ولم يثبت الإذن إذا حلف المقر له وإن أقر بالأمر وقال: المستودع قد رددتها إلى المقر أو قال: دفعتها إلى المقر له أو قال: قد ضاعت فالقول في ذلك قوله مع يمينه لأنه أمين أخبر بما هو مسلط عليه ولكن الذي يلي خصومته في ذلك واستحلافه المقر إذا كان أودعه بإذن المقر له لأن حق الاسترداد إليه فتكون الخصومة له مع المودع في الاستحلاف.
 وذكر في الأصل من هذا الجنس مسألة أخرى إذا قال: له على ألف فالقول في بيانه قوله لأنه لم يفسره بشيء فالقول في تفسيره إليه سواء فسره بما يتفاوت من العدديات أو لا يتفاوت وذكر بن رستم عن محمد رحمهما الله أنه إذا قال: له على غير الألف فعليه ألفان ولو قال: له علي غير درهم فعليه درهمان لأن الغير اسم لما يقابل الشيء فيوجب المغايرة فيه وفي الدراهم إنما ثبت ذلك بدرهم آخر وفي الألف بألف آخر وفيما دونه لا يتغير اللفظ الأول لأنه يقال: ألف ومائة وتسعمائة فإنما يثبت المغايرة بألف آخر فيلزمه ألفان والله أعلم .

باب الإقرار بكذا الإبل كذا
 قال رحمه الله: وإذا أقر فقال: علي لفلان ألف درهم لا بل خمسمائة فعليه الألف وكذلك لو قال: خمسمائة لا بل ألف لأن كلمة لا بل لاستدراك الغلط ورجوع عما أقر به لا يصح واختياره بوجوب الزيادة عليه صحيح فإذا قال: خمسمائة لا بل ألف فقد استدرك الغلط بالتزام خمسمائة أخرى زيادة على الخمسمائة الأولى فعليه ألف وإذا قال: ألف لا بل خمسمائة فقد قصد الاستدراك بالرجوع عن الألف إلى الخمسمائة فلا يصح ذلك منه وعلى هذا لو قال: له علي عشرة دراهم بيض لا بل سود أو قال: سود لا بل بيض أو قال: جيد لا بل ردى ء أو ردى ء لا بل جيد فعليه أفضلهما لأن الجنس واحد ومثل هذا الغلط

 

ج / 18 ص -91-       في الجنس الواحد يقع فاستدراكه بالتزام زيادة الوصف صحيح ورجوعه عن وصف التزامه باطل.
 ولو قال: له علي درهم لا بل دينار فعليه درهم ودينار لأن الجنس مختلف والغلط لا يقع في الجنس المختلف عادة فرجوعه عن الأول باطل والتزامه الثاني صحيح وما ذكره ثانيا لم يتناوله الكلام الأول أصلا بخلاف الأول فإن ما ذكره ثانيا قد تناوله الكلام الأول باعتبار أصله إن لم يتناوله بصفته عرفنا أن المراد هناك إلحاق الوصف بالأصل وهنا المراد التزام الأصل المذكور وعلى هذا لو قال: على كر حنطة لا بل شعير فعليه الكران جميعا وإن قال: قفيز حنطة جيدة لا بل ردى ء أو رديء لا بل جيد فهو قفيز جيد وكذلك لو قال: محتوم من دقل لا بل فارسي وكذلك لو قال: محتوم دقيق ردى ء لا بل حواري فهو حواري لأن الجنس واحد وذكر الكلام الثاني لاستدراك الغلط بالتزام زيادة وصف ولو قال: له علي رطل من بنفسج لا بل حبري لزماه جميعا لأن الجنس مختلف.
وكذلك لو قال: له علي رطل من سمن الغنم لا بل من سمن البقر فعليه الرطلان لأن الجنس مختلف ولو قال: لفلان على ألف درهم لا بل لفلان فعليه لكل واحد منهما ألف لأن المقر له مختلف وهو نظير اختلاف الجنس في المقر به والمعنى فيه أنه رجوع عن الإقرار للأول وإقامة الثاني مقامه في الإقرار له وكذلك لو كان الثاني مكاتبا للمقر له الأول أو عبدا تاجرا له عليه دين لأن المولى من كسب مكاتبه وعبده المديون بمنزلة أجنبي آخر فتحقق إقراره بشخصين صورة ومعنى وإن لم يكن على العبد دين ففي القياس كذلك لأن الدين في الذمة مجرد مطالبة في الحال وفيما للعبد هو المطالب دون المولى فكان إقراره بشخصين فيكون رجوعا في حق الأول وفي الاستحسان لا يلزمه إلا ألف واحدة لأن كسب العبدان لم يكن عليه دين مملوك لمولاه ففي قوله لا بل لعبده لا يكون رجوعا عما أقر به للمولى ولكنه يلحقه زيادة كلامه في أن لعبده أن يطالبه بذلك المال فلهذا لا يلزمه إلا مال واحد
 ولو قال: له على ألف درهم من ثمن جارية باعنيها لإبل فلأن باعنيها بألف درهم فعليه لكل واحد منهما ألف لأنه غير مصدق فيما يخبر به أن مبايعة الثاني معه كانت على وجه المكاتبة للنيابة عن الأول فيكون هو راجعا عن الإقرار للأول وذلك باطل فعليه لكل واحد منهما ألف لإقراره بتقرر بينته بينه وبين كل واحد منهما إلا أن يقر الثاني أنها للأول فحينئذ عليه في القياس ألفان وفي الاستحسان عليه ألف واحد لأنه غير راجع عن الإقرار للأول بل هو ملحق به وثبوت حق المطالبة للثاني وهذا وفصل المأذون الذي لا دين عليه سواء وإذا كان لرجل على رجل عشرة دراهم بيض وعشرة دراهم سود فأقر الطالب أنه اقتضى منه درهما أبيض لا بل أسود وادعى المطلوب أنه قد قضاه درهمين وأبى ألزم الطالب الدرهم الأبيض فقط لأن الإقرار بالاستيفاء بمنزلة الإقرار بالدين فإن الديون تقضي بأمثالها وقد بينا مثله في الإقرار بالدين أنه يلزمه أفضلهما فهذا مثله

 

ج / 18 ص -92-       ولو كان عليه مائة درهم في صك ومائة في صك آخر فقال: قبضت منك عشرة من هذا الصك لا بل من هذا وهي عشرة واحدة فعلى قياس الإقرار بالدين يجعلها من أيهما شاء الذي قضاه لأنه هو الذي ملكه فالاختيار في بيان جهته إليه وتتبين فائدته فيما إذا كان لأحدهما كفيل ولو كان له مائة درهم وعشرة دنانير فقال: قبضت منك دينارا لا بل درهما لزماه لاختلاف الجنس كما في الإقرار بالدين ولو كان له على رجلين على كل واحد منهما مائة درهم فقال: قبضت من هذا عشرة لا بل من هذا لزمه لكل واحد منهما عشرة لاختلاف المقر له ويستوي إن كان كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه أو لم يكن وكذلك إن كان كفيلا بذلك عن رجل واحد لأن قبضه من كل كفيل يثبت حق الرجوع لذلك الكفيل على الأصيل لأن المقر له مختلف وإن كان المال واحدا ولو كان له على آخر ألف درهم فقال: دفعت إلي منها مائة بيدك لا بل أرسلت بها لي مع غلامك فهي مائة واحدة ولو أقر أنه قبض منه مائة درهم فقال: المطلوب وعشرة دراهم أرسلت بها إليك مع فلان وثوب بعتكه بعشرة فقال: الطالب قد صدقت فقد دخل هذا في هذه المائة فالقول فيه قوله مع يمينه لأن بيانه هذا تقرير لما أقر به أولا فإنه قابض منه ما أوصله إليه رسوله وقابض بشراء الثوب أيضا حتى لو حلف لا يفارقه حتى يقبض حقه فقبض بهذا الطريق بر في يمينه والبيان المقرر لأول الكلام مقبول من المبين وفي بعض الروايات فقال: المطلوب عشرة دراهم أرسلت بها إليك بغير واو وهذا أوضح لأنه في معنى التفسير للجهة فيما أقر أنه قبضه ولو كان به كفيل فقال: قد قبضت منك مائة لا بل من كفيلك لزمه لكل واحد منهما مائة لأن ما يقبضه من الكفيل يثبت به حق الرجوع للكفيل على الأصيل بخلاف ما يقبضه من الأصيل فكان المقر له مختلفا فلهذا كان مقرا بالمالين .
وإن أراد أن يستحلفكل واحد منهما لم يكن عليه يمين لأنه قد أقر بذلك لكل واحد منهما ولا يتوجه اليمين للمقر على المقر له والله أعلم .

باب الإقرار بمال دفعه إليه آخر
قال رحمه الله: وإذا قال الرجل دفع إلي هذه الألف فلان فهي لفلان فلو ادعى الألف كل واحد منهما فهي للدافع لأنه قد أقر له بالمال أولا حين الإقرار بوصوله إلى يده من جهته تم إقراره للثاني حصل بما هو مستحق لغيره بيده فلا يكون ملزما إياه شيئا والمال للدافع فإذا رده المقر عليه بريء مالكا كان أو غير مالك فإن المودع من الغاصب بالرد عليه يبرأ كالمودع من المالك وإذا قال: هذه الألف لفلان دفعها إلي فلان فهي للمقر له الأول لأن إقراره بالملك للأول فإقراره بعد ذلك باليد للثاني لا يكون صحيحا في حق الأول فإن ادعاها الدافع فعليه أولا أن يحلف أنها ما هي لفلان لأن المقر يقول أنا وإن أقررت بأنك دفعتها إلى ولكن الملك كان لفلان وقد رددتها عليه فليس لك علي شيء فلهذا يتوجه اليمين على الثاني فإن حلف أنها ما هي لفلان ضمن المقر له ألفا أخرى والوديعة والعارية فيه سواء.

 

ج / 18 ص -93-       أما إذا كان دفعها إلى الأول بغير قضاء القاضي فهو قولهم جميعا لأن إقرار المقر حجة في حقه فقد زعم أن المال وصل إليه من جهة الثاني فإذا دفعها إلى غيره باختياره كان ضامنا له بمثلها وإن كان دفعها بقضاء القاضي فعند أبي يوسف رحمه الله لا ضمان عليه للثاني لأنه بتبين الإقرار للأول ما أتلف على الثاني شيئا ولا اختيار له في الدفع بل القاضي ألزمه ذلك فلا يضمن للثاني شيئا وعند محمد رحمه الله هو ضامن للثاني ألفا لأنه بالإقرار به للأول سلط القاضي على هذا القضاء وقد زعم أنه مودع فيها من الثاني والمودع بهذا التسليط يصير ضامنا كما لو دل سارقا على سرقة الوديعة.
 ولو قال: هذه الألف لفلان أقرضنيها فلان آخر فادعياها فهي للذي أقر له بها أولا لتقدم الإقرار له بها وللمقرض عليه ألف درهم لأنه أقر أنه قبض ألفا من الثاني بحجة القرض والقبض بحجة القرض يوجب ضمان المقبوض على القابض وإذا كان في يده عبد فقال: هو لفلان باعنيه فلان آخر بألف درهم فادعي كل واحد منهما ما أقر له به فالعبد للمقر له أولا يدفعه إليه إذا حلف أنه لم يأذن للآخر في بيعه لتقدم الإقرار بالعين له ويقضي باليمين للبائع عليه لأنه أقر بشرائه من الثاني ويثبت هذا السبب بإقراره في حقه وهو تام يقبضه فيقضى له عليه باليمين.
قال:ولا يشبه البيع والقرض الوديعة وفي بعض النسخ قال: ولا يشبه القرض والبيع والوديعة ما سواها وهذا أقرب إلى الصواب على ظاهر ما تقدم لأنه أجاب في هذه الثلاثة بجواب واحد وأشار إلى الفرق بين هذه الثلاثة وبين المسألة الأولى من الباب حيث قال: يدفع المال إلى الدافع ولا شيء عليه للثاني فأما اللفظ الأول فهو مستقيم على أصل أبي يوسف رحمه الله لأنه في الوديعة قال: إذا دفع إلى الأول بقضاء القاضي لم يغرم للثاني وفي القرض والبيع أن دفعه إلى الأول بقضاء القاضي فهو ضامن للثاني ويحتمل أن يكون المراد بيان الفرق بين القرض والوديعة في أن الوديعة لا تكون مضمونة عليه للثاني ما لم يدفع إلى الأول وفي القرض والبيع المال واجب عليه للثاني وإن لم يدفع إلى الأول شيئا وهذا فرق ظاهر فإن الإقراض والمبايعة سببا ضمان بخلاف الإيداع.
 ولو أقر أن هذا العبد الذي في يديه لفلان غصبه فلان المقر له من فلان آخر فإنه يقضى به للمقر له ولا يقضى للمغصوب منه بشيء لأنه مقر بالملك للأول شاهد عليه بالغصب للثاني وشهادته عليه بالغصب لا تكون مقبولة وفي بعض الروايات في لفظ السؤال لفلان غصبه من فلان وليس فيه ذكر المقر له فيكون المفهوم منه إقراره على نفسه بالغصب للثاني وجوابه أن العبد للأول وللمغصوب منه عليه قيمته.
 قال: ألا ترى أنه لو قال: هذا الصبي بن فلان غصبته من فلان آخر وادعى الصبي أنه ابنه وادعى المغصوب منه أنه عبده قضى به للأب وهو ثابت النسب منه لتقدم الإقرار له ألا ترى أنه لو قال: هذا الصبي بن فلان أرسل به إلي مع فلان كان الابن للأول إذا ادعاه دون

 

ج / 18 ص -94-       الرسول لتقدم الإقرار له وفي جميع هذا إن ادعى الرسول ذلك كان له على المقر مثله لإقراره أنه وصل إلى يده من جهته وتعذر الرد عليه بما أقر به للأول ودفع إليه باختياره ما خلا الابن فإن كان يعبر عن نفسه فأقر أنه بن الذي أقر به المقر فلا ضمان على المقر للدافع لأن من يعبر عن نفسه بما هو في يد نفسه وليس عليه للغير يد موجبة للاستحقاق إذا لم يقر بالرق على نفسه وإن كان صغيرا لا يتكلم فعلى المقر قيمته للرسول إذا ادعاه لنفسه وأنه مملوك له لأن الذي لم يتكلم لصغره يثبت عليه يد موجبه للاستحقاق بمنزلة البنات وغيرها ولو قال: هذه الألف لفلان أرسل بها إلي مع فلان وديعة وادعاها كل واحد منهما فهي للأول لتقدم الإقرار له بها.
 فإن قال الأول: ليست لي ولم أرسل بها فهي للرسول لأنه قد أقر بالكلام الثاني أن وصولها إلى يده كان من يد الرسول وإنما أمر بالرد عليه لثبوت الاستحقاق فيها للأول وقد بطل ذلك بتكذيبه وإن كان المقر له غائبا لم يكن للرسول أن يأخذها لأنه إن كان يدعيها لنفسه فقد صار مكذبا فيما إذا أقر له به وهو كونه رسولا بالدفع إليه وحق الغائب فيها ثابت لأن الإقرار ملزم بنفسه ما لم يكذب المقر له وإن كان الرسول مصدقا له فيما أقر أنه كان رسولا فيه من جهة فلان فقد انتهت الرسالة بإيصال المال إليه فلا سبيل له على الاسترداد بعد ذلك.
وإذا أقر الخياط أن الثوب الذي في يديه لفلان أسلمه إليه فلان وكل واحد منهما يدعيه فهو للذي أقر له أول مرة لتقدم الإقرار له ولا ضمان عليه للثاني لأنه لم يقر على نفسه بما هو سبب الضمان في حق الثاني فإن إسلامه إليه لا يكون سببا في استحقاقه كما في مسألة الرسالة وكذلك سائر الصناع ولو كان إقراره بهذا الثوب أسلمه إليه فلان ليقطعه قميصا وهو لفلان وادعياه فهو للذي أسلمه إليه لتقدم الإقرار له به وليس للثاني شيء وهذا نظير مسألة أول الباب وهو ما إذا قال: دفعه إلى فلان وهو لفلان ولو أقر أن هذا الثوب استعارة من فلان فبعث به إليه مع فلان فهو للذي أعاره إياه لأنه صار مقرا بالملك واليد للمعير الذي استعاره منه دون الذي أوصله إليه بطريق الرسالة ولو أقر أن فلانا أتاه بهذا الثوب عارية من قبل فلان فادعاه فهو للرسول لأنه أقر أولا بأنه وصل إلى يده من جهته وذلك يلزمه الرد عليه فلا يبطل ذلك عنه بإقراره لغيره والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بالاقتضاء
 قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه اقتضى ن رجل ألف درهم كانت له عليه وقبضها فقال فلان أخذت مني هذا المال ولم يكن لك علي شيء فرده علي فإنه يجبر على أن يرد المال بعد أن يحلف أنه ما كان له عليه شيء وروى أبو يوسف رحمه الله عن بن أبي ليلى رحمه الله أنه لا شيء على المقر ووجهه أنه ما أقر بشيء على نفسه لغيره وإنما أقر بوصول حقه إليه وذلك غير ملزم إياه شيئا وكنا نقول الاقتضاء عبارة عن قبض مال مضمون من ملك الغير لأن

 

ج / 18 ص -95-       المقتضي يستوفى من مال المديون مثل ماله عليه فيصير قصاصا بدينه والقبض المضمون من ملك الغير سبب لوجوب الضمان عليه وقد أقر به ثم ادعى لنفسه دينا على صاحبه ولا يثبت الدين له على صاحبه بدعواه ولكن يتوجه اليمين فإذا حان لزمه رد المقبوض.
وكذلك لو أقر أنه قبض من فلان ألف درهم كانت وديعة له عنده أو هبة وهبها له فقال: بل هي مالي قبضته مني فعليه أن يرده لإقراره بقبض المال من يد الغير وعلى اليد ما أخذت حتى ترد ولم يثبت ما ادعى من الحق فيه لنفسه فعليه أن يرده.
 ولو قال: أسكنت بيتي فلانا هذا ثم أخرجته منه ودفعه إلى وادعى الساكن أنه له فالقول قول صاحب البيت استحسانا وعلى الساكن البينة في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله القول قول الساكن وهو القياس ووجهه هو أن الإقرار بوصول البيت إلى يده كان من جهة الساكن وادعى لنفسه فيه ملكا قديما ولم يثبت ما ادعاه فعليه رد ما أقر بقبضه كما في الفصل ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أنه ما أقر للساكن بيد أصلية في البيت إنما أخبر بأن يده كانت بناء عن يده لأن يد الساكن تبنى على المسكن والحكم لليد الأصلية لا لما هو بناء فلم يصر مقرا بما يوجب الاستحقاق له بخلاف مسألة الاقتضاء لأنه هنا أقر بيد أصلية كانت له فيما استوفاه منه وبخلاف مسألة الوديعة لأنه هناك أقر بفعل نفسه وهو قبضه المال من فلان وذلك إقرار بيد أصلية كانت لفلان في هذا المال فبعد ذلك هو في قوله كانت لي عنده وديعة أراد أن يجعل يده بناء بعد ما أقر أنها كانت أصلية فلا يقبل قوله في ذلك ولأن الإعارة بين الناس معروفة وفي القول بالقياس هنا قطع هذه المنفعة عن الناس لأن المعير يتحرز عن الإعارة للسكنى إذا عرف أنه لا يعمل بقوله عند الاسترداد فترك القياس فيه لتوفير هذه المنفعة على الناس.
 
وعلى هذا الخلاف لو قال: هذه الدابة أعرتها فلانا ثم قبضتها منه أو هذا الثوب لي أعرته فلانا ثم قبضته منه وإذا أقر الرجل أن فلانا الخياط خاط قميصه هذا بنصف درهم وقبض منه القميص وقال: الخياط هو قميصي أعرتكه فالقول فيه كالقول في الأولى وكذلك الثوب أسلم إلى الصباغ وإن قال رب الثوب خاط لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم ولم يقل قبضته منه ففي قولهم جميعا لا يرجع على الخياط أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر وأما عندهما فلأنه لم يقر بيد الخياط هنا في الثوب لأنه قد يخيط الثوب وهو في يد صاحبه بأن كان أجيرا وجد في بيته يعمل له بخلاف الأول فإن هناك قد أقر بالقبض منه وذلك إقرار بكونه في يده ولو كان الثوب معروفا أنه للمقر أو الدابة أو الدار فقال: أعرته فلانا وقبضته منه كان القول قوله لأن الملك فيه معروف للمقر فلا يكون مجرد اليد فيه لغيره سبب الاستحقاق عليه وقد قال في الباب المتقدم إذا أقر الخياط أن الثوب الذي في يده لفلان أسلمه إليه فلان ليخيطه فهو للذي أقر له أول مرة ولا يضمن للثاني مثله وهذا دليل لأبي حنيفة رحمه الله في الخلافيات لإقراره أن يد الذي أسلمه إليه بناء لا ابتداء.

 

ج / 18 ص -96-       ولكن مشايخنا رحمهم الله قالوا: هو على الخلاف أيضا بناء على مسألة الإسكان أو مسألة أخرى وهو أن الأجير المشترك عند أبي حنيفة رحمه الله مؤتمن فلا يصير ضامنا بمجرد إقراره للأول وعندهما الأجير المشترك ضامن فيضمن الثوب الذي أسلمه إليه إذا لم يرده عليه وهكذا ذكره بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله وذكر أيضا فيما إذا قال: هذا المال لفلان أرسل به إلي مع فلان وديعة أن المال للأول ولا ضمان على المقر للرسول عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه إنما أقر له بيد هي بناء وذلك غير موجب للاستحقاق عنده بخلاف الدين وهو ما إذا قال: لفلان علي ألف درهم أرسل بها إلي مع فلان لأن محل الدين الذمة وفي الذمة سعة فيكون مقرا بوجوب المال عليه للثاني لما أقر أن وصوله إلى يده من جهته وفي كتاب الإقرار أورد المسألة في موضعين قال: في أحدهما لا شيء عليه للدافع وهو الأشبه بقول أبي حنيفة رحمه الله وفي الثاني قال: عليه مثله للدافع وهو الأشبه بقول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا بعضه في الباب المتقدم.
وإذا أقر الرجل أن فلانا سكن هذا البيت فادعى فلان البيت فإنه يقضي به للساكن على المقر لأن السكنى تثبت اليد للساكن على المسكن وإقراره باليد للغير حجة عليه وما يثبت بإقراره كالمعاين في حقه وهذا بخلاف ما لو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم أو البستان وذلك كله في يد المقر فقال: كله لي واستعنت بك ففعلت ذلك أو فعلته بأجر وقال الآخر بل هو ملكي فالقول قول المقر لأن يده للحال ظاهرة ولم يقر أنه كان في يد غيره من قبل لأن فعل الزراعة والبناء والغرس لا يوجب اليد للفاعل في المفعول وقد يفعله المعين والأجير والمعين في يد صاحبه فهذا وقوله خاط لي القميص سواء.
ثم ذكر الخلاف الذي بينا فيما إذا قال لمعتقه أخذت منك مالا قبل العتق أو قطعت يدك قبل العتق وإنما أعادها لفروع فقال: وكذلك لو باعه أو وهبه وسلمه ثم أقر أنه قطع يده قبل البيع والهبة وقال المشتري والموهوب له بل فعلته بعد البيع والهبة لأن البيع والهبة والتسليم يثبت الحق فيه للمتملك كما أن العتق يثبت الحق للمعتق في نفسه وأطرافه فيكون الخلاف في الفصلين واحدا.
 
ولو قال: قطعت يده ثم بعته أو وهبته فالقول قوله لأنه ما أقر بالفعل الموجب للضمان على نفسه فإنه أقر بالقطع قبل ظهور بيعه لأن ظهور البيع بإقراره وقد أقر بالقطع سابقا على الإقرار بالبيع فلهذا كان القول قوله إلا أن يقيم البينة على هبته أو بيعه قبل إقراره بهذا فيكون على الاختلاف المتقدم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أعتق أمة ثم قال: أخذت منك هذا الولد قبل العتق وقالت بل أخذته مني بعد العتق فإنه يرده عليها وهو حر لأن الولد قائم بعينه وقد بينا في المال القائم إذا أقر أنه أخذه قبل العتق يصدق وعليه رده في أنه أخذه قبل العتق فعليه رده عليها والقول في حريته قولها ولو لم يقل

 

ج / 18 ص -97-       أخذته منك ولكنه قال: أعتقتك بعد ما ولدتيه وقالت بل أعتقتني قبل أن ألده فإن كان الولد في يد المولى فالقول قوله لأنه أقر بيد فيه لها من قبل ولادتها ولأنها تدعي سبق تاريخ في العتق حين ادعت أنه كان قبل الولادة والمولى ينكر ذلك والعتق فعل حادث من المولى فالقول قوله في إنكاره سبق التاريخ فيه ولأن عتقها ظهر في الحال والولد منفصل عنها وعتقها غير موجب العتق للولد المنفصل وإن كان الولد في يدها فالقول قولها لأن يدها توجب الاستحقاق لها في الحال وقد أقرت بالحرية للولد فوجب الحكم بحريته.
 ولو أن رجلا أعتق عبدا فأقر رجل أنه أخذ منه ألفا وهو عبد وقال العبد أخذتها مني بعد العتق فالقول قوله لأن القابض يدعي سبق تاريخ في قبضه والتاريخ لا يثبت بمجرد قوله ولأنه أقر بالسبب الموجب للضمان عليه للعبد وهو أخذه منه وشهد عليه أن المال لغيره وهو المولى فلا تقبل شهادته ويبقى المال مستحقا عليه للعبد وكذلك لو كاتبه مولاه لأن الكتابة توجب استحقاق الكسب للمكاتب واعتبار يده فيه لحقه كالعتق وكذلك لو باعه ثم أقر رجل أنه غصب منه مائة درهم وهو عند مولاه الأول وقال المشتري بل غصبته وهو عندي فالمال للآخر لأن المشتري هو المستحق لكسبه بعد الشراء كما أن العبد هو المستحق لكسبه بعد الكتابة فكما لا يصدق المقر هناك وفيما يدعي من سبق التاريخ فكذلك هنا .
 ولو أقر بأنه فقأ عين فلان عمدا ثم ذهبت عين الفاقئ بعد ذلك وقال المفقوء عينه بل فقأت عيني وعينك ذاهبة فالقول قول المفقوء عينه لأنهما تصادقا على وجوب الضمان على الجاني فإن كانت عينه قائمة وقت الفقء فالواجب قصاص وهو فيها واجب باعتبار المماثلة وإن كانت عينه ذاهبة فالواجب الأرش فعرفنا أنهما تصادقا على وجوب الضمان وادعى الفاقئ ما يسقطه بفوات المحل بعد الوجوب فلا يقبل قوله في ذلك ولأنه يدعي تاريخا سابقا في الفقء والتاريخ لا يثبت إلا بحجة ولو أن عبدا أعتق ثم أقر أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ وهو عبد وقال: ذلك الرجل قتلته بعد العتق فليس على العبد في هذا شيء لأنه ما أقر على نفسه بوجوب الضمان فإن جنايته قبل العتق لا توجب عليه الضمان في الحال ولا بعد العتق إنما هو على مولاه في الحال يخاطب بالدفع أو الفداء وإن أعتقه وهو يعلم بالجناية يصير مختارا للفداء وإن كان لا يعلم فعليه القيمة فعرفنا أنه إنما أقر به على الغير فلا يلزمه شيء وإذا أقر أحد المتفاوضين أنه كفل عن صاحبه بمهر أو نفقة زوجته أو جنايته لزمه ولزم صاحبه أيضا في قول أبي حنيفة رحمة الله .
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يلزمه ولا يلزم صاحبه لأنه إنما أقر بوجوب المال على صاحبه بطريق غير التجارة ولا قول له على صاحبه في الإقرار بالمال لا بطريق التجارة لأن فيما يجب لا بطريق التجارة كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه يبقى إقراره على نفسه بوجوب المال بطريق الكفالة وقد بينا فيما سبق أن كفالة أحد المتفاوضين أو إقراره بالكفالة يلزم شريكه عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يلزم عندهما فهذا بناء على ذلك.

 

ج / 18 ص -98-       ولو أقر أحدهما أن على صاحبه دينا قبل الشركة لفلان فأنكره صاحبه والطالب ادعى أن هذا الدين كان في الشركة لزمهما جميعا المال لأن الإقرار بمطلق الدين ينصرف إلى جهة التجارة ولهذا لو أقر أحدهما بدين مطلق يلزم شريكه وفيما هو واجب بطريق التجارة وإقرار أحد المتفاوضين به على نفسه وعلى شريكه سواء ولو أقر به على نفسه وزعم أنه كان قبل الشركة لا يصدق في الإسناد إذا أكذبه الطالب فكذلك إذا أقر به عن صاحبه وإذا لم يصدق في الإسناد لزم المقر المال بإقراره ولزم شريكه بالكفالة عنه لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يلزمه من المال.
 ولو أقر أن ذلك عليه دون شريكه قبل الشركة وادعى الطالب أنه عليه من الشركة فالمال عليهما لما بينا أنه غير مصدق في الإسناد وإن تصادقا أن الدين كان قبل الشركة لم يؤخذ واحد منهما بدين صاحبه لأن حكم الكفالة بينهما إنما يثبت بالمفاوضة فيكون ثابتا فيما يجب بعد المفاوضة لا فيما كان واجبا قبلها وإذا أقر أحدهما أن لفلان عليه ألف درهم وقال الآخر لا بل لفلان لزمهما جميعا المال لأن المقر لو كان هو الذي قال لفلان لزمهما جميعا ولا أثر لاختلاف المقر لهما فكذلك إذا قال: ذلك صاحبه لأن قول كل واحد منهما يلزم صاحبه وهما بعد المفاوضة كشخص واحد في أسباب التزام المال بالتجارة وإذا مات أحدهما أو تفرقا ثم أقر أحدهما بدين عليهما في الشركة لزمه خاصة لأنه في الإسناد غير مصدق في حق صاحبه فيبقى ملتزما المال في الحال وليس بينهما سبب يوجب كفالة صاحبه عنه فيما يلزمه من المال في الحال فلهذا كان المال عليه خاصة وعلى صاحبه اليمين أن ادعاه الطالب وإن ادعى رجل عليهما مالا ولم يكن له بينة فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف لزمهما جميعا المال لأن نكوله عن اليمين كإقراره وبأن حلف أحدهما لا يسقط اليمين عن الآخر بخلاف ما إذا كانت الدعوى لهما على إنسان فاستحلف أحدهما المطلوب فحلف لم يكن للآخر أن يستحلفه لأن النيابة في الاستحلاف تجزئ وفي الحلف لا تجزئ فلا يمكن أن يجعل الحالف منهما نائبا عن صاحبه في اليمين ولأنه بعد ما حلف أحدهما كان استحلاف الآخر مفيدا لأن الناس يتفاوتون في التحرز عن اليمين الكاذبة أما بعد ما استحلف أحدهما المطلوب كان استحلاف الآخر إياه غير مفيد لعلمنا أنه يحلف لا محالة.
 ولو أقر أحد المتفاوضين لأبنه أو لامرأته أو لمكاتبه بدين لم يصدق في قول أبي حنيفة رحمه الله على شريكه لأنه متهم في حق هؤلاء فيما يوجب لهم على الغير وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يصدق على ذلك إلا في المكاتب وهو بناء على الخلاف المعروف في الوكيل بالبيع يبيع من أحد هؤلاء والله أعلم.

باب الإقرار في المضاربة والشركة
قال رحمه الله: وإذا أقر المضارب بدين في مال المضاربة وجحده رب المال فإقراره جائز لأنه من التجارة ولهذا يملكه الصبي المأذون والعبد المأذون والمضارب مستند لما هو

 

ج / 18 ص -99-       من التجارة في مال المضاربة وكذلك لو أقر فيها بأجر أجير أو أجر دابة أو حانوت لأنه مالك لإنشاء سبب وجوب هذه الديون في مال المضاربة فصح إقراره بها وهذا لأنه لا يجد بدا من التزام الدين بهذه الأسباب ويحصل ما هو المقصود من المضاربة فإن كان دفعها إلى رب المال فقال: هذا من رأس مالك فاقبضه ثم أقر بعد ذلك ببعض ما ذكرنا من الدين لم يصدق لأنه مناقض في كلامه فإن المدفوع إنما يكون سالما لرب المال من رأس ماله إذا فرغ عن الدين فكان في أول كلامه مقرا بأنه لا دين فيه ولأن حكم المضاربة قد انتهى فيما وصل إلى رب المال من رأس المال حتى لا يملك المضارب إنشاء التصرف فيه وكذلك لا يصح إقراره في ذلك.
ولو كان المضارب رجلين ومال المضاربة ألف درهم وربحا ألفا فأقر أحدهما أن خمسمائة لفلان وقال الآخر بل الألف كلها ربح فإن المقر يصدق في مائتين وخمسين مما في يده لفلان فإن في يد كل واحد منهما نصف المال وقد أقر بخمسمائة شائعة في الكل ونصفها فيما في يده ونصفها فيما في يد صاحبه فإقراره فيما في يده صحيح وفيما في يد الآخر باطل فيدفع هو مائتين وخمسين إلى المقر له ويقسم مثلها بين رب المال وبين المضارب الآخر لأن المقر يزعم أنه لا حق له فيها بل هي لفلان فلا يكون له فيها نصيب وما بقي من الربح وهو خمسمائة بينهما على الشرط كما بينا وكذلك إن أقر بهذه الخمسمائة لأبيه أو لأبنه فهو وما سبق سواء لأن إقرار المضارب لهؤلاء صحيح ولإنشائه التصرف معهم.
ولو أقر المضارب بربح ألف درهم في المال ثم قال: غلطت إنما هو خمسمائة درهم لم يصدق وهو ضامن لما أقر به من المال لأنه مناقض في كلامه راجع عما أقر به ولأنه جاحد لما أقر به بحصوله في يده ربحا وهو أمين في الربح فيضمن ذلك بالجحود وإن بقي في يده شيء من المال فقال: هذا ربح وقد دفعت رأس المال إلى رب المال وكذبه رب المال فالقول قول رب المال لأن المضارب يريد استحقاق شيء مما في يده وإنما يقبل قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه أما في الاستحقاق فلا يقبل قوله ولكن يحلف رب المال بدعوى المضارب فإن حلف يأخذ ما في يده بحساب رأس ماله لأن حق المضارب في الربح ولا يظهر الربح ما لم يصل رأس المال إلى رب المال وإذا قال لرجل فلان شريكي مفاوضة فقال: نعم أو أجل أو قال: صدق أو قال: هو كما قال: أو قال: هو صادق فهذا كله سواء وهما شريكان في كل مال عين أو دين أو رقيق أو عقار أو غير ذلك مما هو في يد كل واحد منهما لأن ما أتى من الجواب غير مستقل بنفسه فيصير ما تقدم من الخطاب معادا فيه حتى يثبت به تصادقهما على شركة المفاوضة والثابت باتفاقهما كالثابت بالمعاينة ولو عاينا شركة المفاوضة بينهما كان ما في يد كل واحد منهما بينهما نصفين لأن المفاوضة تقتضي المساواة ولفظ الشركة يوجب ذلك الإطعام مثل كل واحد منهما وكسوته وكسوة أهله فلمن في يده استحسانا وفي القياس يكون بينهما كسائر الأموال ولكن يصير مستثنى

 

ج / 18 ص -100-    مما هو موجب شركة المفاوضة لأن الحاجة إليه معلوم وقوعها لكل واحد منهما في مدة المفاوضة ولهذا لو كانت الشركة ظاهرة بينهما كان ما اشتراه كل واحد منهما مشتركا بينهما إلا الطعام والكسوة.
 وكذلك إذا ثبت العقد بإقرارهما وكذلك أم ولد أحدهما أو مدبرته لأن أم الولد ليست بمال والمدبرة ليست بمحل للتجارة ومقتضى المفاوضة الشركة بينهما في كل مال قابل للتجارة والتصرف ألا ترى أنه لا تثبت الشركة بينهما في المنكوحة فكذلك في المدبرة وأم الولد فأما إذا كان أحدهما مكاتبا قد كاتبه قبل إقراره فما عليه من بدل الكتابة يكون بينهما لأنه قابل للتصرف والانتقال من ملك إلى ملك بمنزلة سائر الديون ألا ترى أن رقبة المكاتب لا تصير ميراثا وما عليه من بدل الكتابة يصير ميراثا للورثة فكذلك بإقراره تثبت الشركة للآخر في بدل الكتابة وأن كانت لا تثبت في الرقبة ألا ترى أنه لو عجز المكاتب كان مشتركا بينهما فكذلك ما عليه من البدل قبل عجزه وكذلك لو قال: هو مفاوضني في الشركة لأن هذا العقد يضاف إليهما تارة وإلى أحدهما أخرى وثبوت حكم المفاوضة لا يختص بأحد الجانبين فكانت الإضافة إلى أحدهما بمنزلة الإضافة إليهما .
ولو أقر أحد المفاوضين لشريك ثالث معهما وأنكر الآخر فهو جائز عليهما لأن المفاوضة من جملة التجارة وهو من صنع التجارة فإقرار أحدهما به كإقرارهما في سائر التجارات وإذا أقر الذمي لمسلم بالمفاوضة أو أقر المسلم للذمي بها فهو جائز في قول أبي يوسف رحمه الله وفي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يكونان متفاوضين ولكن ما في أيديهما يكون بينهما نصفين وأصل المسألة في كتاب الشركة أن المفاوضة لا تصح بين المسلم والذمي في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله للتفاوت بينهما في التصرف في أنواع المال وإذا كان عندهما لا يصح إنشاء هذا العقد فكذلك لا يثبت بإقرارهما ما أقرا به فموجب هذا الإقرار كون ما بيدهما بينهما نصفين وما في يدهما محل لذلك فيثبت هذا الحكم إن لم يثبت أصل المفاوضة كما لو أقر أحد الأخوين بأخ آخر فإنه يشاركه في الميراث وإن لم يثبت النسب بإقراره وعند أبي يوسف رحمه الله إبتداء المفاوضة بين المسلم والذمي صحيح فكذلك يظهر بإقرار الحر لعبد مأذون أنه شريكه مفاوضة أو أقر به لمكاتب وصدقه في ذلك لم تثبت المفاوضة بينهما لأن إنشاء المفاوضة بينهما لا يصح ولكن ما في أيديهما يكون بينهما نصفين لاتفاقهما على ذلك واحتمال أن ما في أيديهما للشركة بينهما ولا يجوز إقرار واحد منهما على صاحبه بدين ولا وديعة لأن نفوذ إقرار أحدهما على صاحبه لا يكون إلا بعد صحة المفاوضة ولم تصح.
 وعلى هذا لو أقر لصبي تاجر بالمفاوضة أو أقر الصبي التاجر لصبي تاجر وصدقه الآخر فما في أيديهما بينهما لاتفاقهما على ذلك ولكن لا تثبت المفاوضة بينهما لأن إنشاء هذا العقد بينهما لا يصح فإن موجب المفاوضة الكفالة العامة من كل واحد منهما عن صاحبه

 

 

ج / 18 ص -101-    والصبي ليس بأهل لذلك وإذا أقر لرجل بالشركة مفاوضة وأنكر الآخر ذلك فلا شيء لواحد منهما فيما في يد صاحبه لأن تكذيب المقر له مبطل للإقرار.
 ولو قال الآخر: أنا شريكك فيما في يدك غير مفاوضة ولست شريكي فيما في يدي فالقول قوله بعد أن يحلف لأنه يتصرف فيما في يده وادعى لنفسه ما في يد صاحبه وقد صدقه في إقراره وكذبه في دعواه فيثبت ما أقر به ويكون على صاحب اليمين في إنكار ما ادعاه وهذا لأن تكذيب المقر له في الجهة لا يوجب تكذيبه في أصل المال كما لو قال: لك على ألف درهم قرضا وقال الآخر بل هي غصب يلزمه المال فليس من ضرورة انتفاء المفاوضة بتكذيبه انتفاء الشركة فيما في يده كما في المسائل المتقدمة .
وإذا أقر لصبي لا يتكلم بشركة المفاوضة وصدقه أبوه كان ما في يد الرجل بينهما نصفين لما بينا أنه أقر له بنصف ما في يده وقد اتصل به التصديق من أبيه ولكن لا يكونان متفاوضين لأن ثبوت المفاوضة بينهما يقتضي المساواة بينهما في التصرف والصبي الذي لا يتكلم ليس بأهل للتصرف وإذا أقر لرجل أنه شريك فلان في قليل وكثير فقال فلان نعم فهما شريكان في كل قليل وكثير في يد كل واحد منهما لأنهما بمنزلة المتفاوضين لأن لفظة لشركة تقتضي التسوية كما في قوله تعالى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: من الآية12] وإنما يتحقق ذلك إذا جعلنا ما في يد كل واحد منهما بينهما نصفين إلا أنه لا يجوز إقرار أحدهما على صاحبه بالدين والوديعة لأن ذلك من خصائص عقد المفاوضة ولم يثبت بإقرارهما حين لم يصرحا بلفظ المفاوضة.
 ألا ترى أنهما لو أنشآ عقد الشركة العامة بينهما لا تكون مفاوضة إلا أن يصرحا بلفظ المفاوضة وهذا لأن العوام من الناس قلما يعرفون جميع أحكام المفاوضة ليذكروا ذلك عند العقد فأقام الشرع التنصيص منهما على لفظ المفاوضة مقام ذكر تلك الأحكام وإذا كان عقد الإنشاء لا يثبت المفاوضة إلا بالتصريح بلفظها فكذلك عند الإقرار ولو كان أقر أنه شريكه في التجارات كان ما في يدهما من متاع التجارة بينهما ولا يدخل في ذلك مسكن ولا كسوة ولا طعام لأن التصادق منهما كان مقيدا بمال التجارة بخلاف الأول فقد تصادقا هناك في الشركة في كل قليل وكثير وذلك يعم الدار والخادم وغيرهما ولو كان في يدهما دار أو عبد أو أمة وقال: ليس هذا من تجارتنا فالقول قوله لأن هذه الأعيان ليست للتجارة باعتبار الأصل فمن قال: أنها ليست من التجارة فهو متمسك بما هو الأصل ولأن التصادق منهما لم يحصل منهما بصفة العموم وإنما حصل خاصا في متاع التجارة والسبب متى كان مقيدا بوصف لا يكون موجبا بدون ذلك الوصف فما لم يثبت كونه من التجارة لا يتحقق سبب الشركة بينهما فلهذا كان القول قول ذي اليد وعلى هذا لو قال أحدهما لدراهم أو دنانير هذا مال في يدي من غير الشركة أصبته من ميراث أو جائزة أو بضاعة لإنسان فالقول قوله إلا أن يقوم للآخر بينة أنه من الشركة أو كان في يده يوم أقر به لأن الثابت بالبينة كالثابت

 

ج / 18 ص -102-    بإقراره ولو أقر أنه كان في يده يوم أقر كان في الشركة لأن الدراهم والدنانير من التجارة باعتبار الأصل وأنهما خلقا لذلك ولهذا وجبت الزكاة فيهما باعتبار هذا المعنى من غير نية التجارة فإذا ثبت كونه في يده وقت الإقرار بقدر السبب الموجب للشركة فيه فهو يريد إخراجه من الشركة بعد ما تناوله الإقرار بها فلا يصدق في ذلك
ولو كان في التجارة فقال: ليس هذا من التجارة التي بيننا ولم يزل في يدي قبل الشركة كان المتاع بينهما لأن بثبوت التجارة فيه صار الإقرار بالشركة متناولا له فلا يصدق في إخراجه بعد ما تناوله الإقرار ولو قال: فلان شريكي ولم يسم شيئا ثم قال: عنيت في هذه الدار كان القول قوله لأن في بيانه تقريرا لما أقر به لا تغييرا فيصح موصولا ومفصولا ولأن مطلق الإقرار بالشركة غير مضاف إلى محل لا يثبت من المال إلا قدر ما لا يتحقق هذا الوصف لهما إلا به وهذا الوصف يتحقق لهما بالشركة في شيء واحد فيثبت القدر المتيقن به ويكون القول في إنكار الزيادة على ذلك قوله.
 
ولو قال: فلان شريكي في تجارة الزطي كان القول قوله لأنه قيد إقراره بمحل سماه وتقييد المقر إقراره موصولا بكلامه صحيح ولو قال: فلان شريكي في كل تجارة وقال: فلان أنا شريكك فيما في يدك ولست بشريكي فيما في يدي كان القول قوله لأنه أقر بنصف ما في يده وادعى لنفسه نصف ما في يده وقد صدقه في الإقرار وكذبه في دعواه فالقول قوله مع يمينه ولو كان في يده حانوت فقال: فلان شريكي فيما في هذا الحانوت ثم قال: أدخلت هذا العدل بعد الإقرار من غير الشركة لم يصدق على ذلك وهو على الشركة إلا أن يأتي بالبينة على ما يدعي قال: لأن الحانوت وما في الحانوت معلوم ومعنى هذا الكلام أنه وقع الاستغناء عن بيان المقر في معرفة ما أقر به بتعيينه محله وهو الحانوت فلا يبقى له قول في البيان ولكن جميع ما يوجد في الحانوت يكون بينهما نصفين إلا ما يثبت بالحجة أنه أدخله بعد الإقرار وهو بمنزلة ما لو أبرأ غيره من كل قليل وكثير له عليه ثم ادعى بعد ذلك عليه شيئا وقال: قد حدث وجوبه بعد الإبراء وقال المدعى عليه بل كان قبل الإبراء فالقول قوله إلا أن يثبت المدعى بالبينة أنه وجب بعد الإبراء وهذا بخلاف ما لو قال: جميع ما في يدي مشترك بيني وبين فلان ثم قال: لمتاع بعد ذلك أنه حدث في يدي بعد الإقرار فالقول قوله لأنه ما وقع الاستغناء عن بيانه هناك فإن ما في يده لا يعلم إلا بقوله فلهذا جعلنا بيانه مقبولا فيه وأورد مسألة الحانوت بعد هذا وأجاب فيها أن القول قول المقر بمنزلة قوله جميع ما في يدي بيني وبين فلان ففيه روايتان والأصح هو الأول ووجه الرواية الثانية أن إقراره تقيد بمحل خاص وهو الموجود في الحانوت وقت إقراره فما لم يثبت هذا القيد بالحجة لا يستحقه المقر له لأن وجوده في الحانوت في الحال دليل على أنه كان في الحانوت عند الإقرار باعتبار الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق
ولو قال: فلان شريكي في كل تجارة وأقر بذلك فلان ثم مات أحدهما وفي يده

 

ج / 18 ص -103-    مال فقال ورثته هذا مال استفاده من غير الشركة فالقول قولهم لأنهم قائمون مقامه ولو قال: هو في هذا الفصل لمال في يده أنه حادث في يدي من غير الشركة وجب قبول قوله في ذلك فكذلك يقبل قول ورثته وإن أقروا أنه كان في يده يوم أقروا أنه من التجارة فهو من الشركة لأن إقرارهم بهذا بعد موته كإقراره به في حياته وكذلك إن كان للميت صك باسمه على رجل بمال تاريخه قبل الإقرار بالشركة بينهما لأنه أقر له بالشركة في كل تجارة وذلك يعم العين والدين جميعا وإن كان تاريخ الصك بعد الشركة فالقول قول الورثة أنه ليس من الشركة لأنه إنما يكتب في الصك تاريخ وجوب الدين فإذا كان ذلك بعد الإقرار إن كان هذا دينا حدث وجوبه فلا تثبت الشركة بينهما فيه والظاهر شاهد للورثة في ذلك وحاجتهم إلى دفع استحقاق المقر له والظاهر يكفي لهذا .
ولو قال: فلان شريكي في الطحن وفي يد المقر رحا وإبل ومتاع الطحانين فادعى المقر له الشركة في ذلك كله فالقول قول المقر لأن الطحن اسم للعمل دون الآلات وليس من الضرورة كونه شريكا له في الآلات وكان القول قول المقر في الأول وكذلك كل عامل في يده حانوت وفيه متاع من متاع عمله فأقر أنه شريك لفلان في عمل كذا فهما شريكان في العمل دون المتاع لأن ثبوت الشركة بينهما بإقراره إنما يثبت فيما صرح به أو فيما هو من ضرورة ما صرح به .
ولو قال: هو شريكي في هذا الحانوت في عمل كذا فكل شيء في ذلك الحانوت من عمل أو متاع ذلك العمل فهو بينهما لأنه عين لما أقر به محلا وهو الحانوت وذكر العمل لتقييد الإقرار بمتاع ذلك العمل فما كان في الحانوت من متاع ذلك العمل فقد تناوله إقراره فكان بينهما ولو كان الحانوت وما فيه في أيديهما فقال أحدهما فلان شريكي في عمل كذا فأما المتاع فهو لي وقال الآخر بل المتاع بيننا فهو بينهما لأن ثبوت يدهما على الحانوت سبب لثبوت اليد لهما على ما في الحانوت فكان في قوله المتاع لي مدعيا للنصف الذي في يد صاحبه فلا يقبل قوله إلا بحجة بخلاف الأول فإن الحانوت هناك في يد المقر فما فيه يكون في يده أيضا
ولو قال: فلان شريكي في كل زطي اشتريته وفي يده عدلان فقال: اشتريت أحدهما وورثت الآخر فالقول قوله لأنه قيد المقر به بالزطي المشتري فما لم يثبت هذا الوصف في محل لا يتناول إقراره لذلك المحل وكذلك لو قال: هو شريكي في كل زطي عندي للتجارة ثم قال: اشتريت أحدهما من خاص مالي لغير التجارة فالقول قوله لأن مجرد الشراء في الزطي لا يجعل المشتري للتجارة بدون النية ألا ترى أنه لا يجب فيه الزكاة إذا لم ينو به التجارة ونية التجارة لا يوقف عليها إلا من جهته فإذا قيد الإقرار بما لا يوقف عليه إلا من جهته وجب قبول قوله فيه.
ولو أقر أنهما في يده للتجارة ثم قال: هذا من خاصة مالي لم يصدق لأن سبب الشركة

 

ج / 18 ص -104-    قد تقرر فيه فلا يصدق في إخراجه ولو قال: هو شريكي في كل زطي قدم لي من الأهواز أمس ثم أقر أن الأعدال العشرة قدمت له من الأهواز أمس وقال: أحدهما من خاصة مالي والآخر بضاعة فلان وقال: الشريك هي كلها من الشركة فالكل من الشركة لثبوت الوصف الذي قيد الإقرار به في جميع الأعدال بإقراره إلا أن العدل الذي أقر أنه بضاعة يصدق على حصته منه ولا يصدق على نصيب شريكه لأن إقرار أحد الشريكين لغيره في نصيب نفسه صحيح ويضمن لصاحب البضاعة نصف قيمة هذا العدل لأنه صار متلفا بإقراره السابق للمقر له بالشركة وإقراره للثاني على نفسه صحيح فيصير به ضامنا وقد تقدم نظائر هذه المسألة فيما اتفقوا عليه واختلفوا فيه .
ولو كان العبد بين الشريكين فأقرا به بينهما من شركتهما ثم قال أحدهما استودعناه فلان فهو مصدق على حصته غير مصدق على حصة شريكه ولا يضمن للمقر له شيئا من نصيب شريكه لأن ذلك لم يكن في يده قط والمودع فيما لم تصل إليه يده لا يصير ضامنا وما كان في يده وهو المقر النصف فقد سلمه إلى المقر له وإذا قال: فلان شريكي في هذا الدين الذي على فلان وقال المقر له أنت أديته بغير إذني ولم يكن بيني وبينك شركة فإن كان المقر هو الذي باع المبيع فهو ضامن لنصف قيمة المتاع لأن إقراره بالشركة بينهما في الثمن إقرار منه أن الأصل كان مشتركا بينهما فإن الثمن يملك بملك الأصل وهو الذي باشر البيع فيه وذلك سبب موجب الضمان عليه في نصيب شريكه إلا أن يثبت الإذن وهو ينكر الإذن فالقول قوله مع يمينه وإن لم يكن في ذكر الحق أنه باعه المتاع فقال: لم أبعه أنا ولكن بعناه جميعا وكتب الصك بأسمى فالقول قوله لأن المقر له يدعي عليه سبب وجوب الضمان في نصيبه بيعه بغير إذنه وهو لذلك منكر وليس من ضرورة كتبه الصك باسمه أن يكون هو المباشر للبيع فكان القول قوله لإنكاره مع يمينه .
فإن أراد المقر له أن يضمن الذي عليه الصك نصفه قيمة المتاع وقال: قبضت متاعي بغير إذني وقال: الذي عليه الصك ما اشتريت منك شيئا باعني المتاع الذي الصك باسمه فلا ضمان له عليه لأنه يدعي لنفسه عليه حقا وهو ينكره ولو ضمنه إنما يضمنه بإقرار المقر وإقراره ليس بحجة على المشتري فلا ضمان له عليه ولكن المال الذي في الصك بينهما كما لو أقر به وحق المطالبة لمن باسمه الصك.
وإذا كان عبد في يد رجل وقال: هذا مضاربة لفلان معي بالنصف ثم باعه بألفين وقال: كان رأس المال ألف درهم وقال: رب المال دفعت العبد إليك بعينه للمضاربة فالقول قول رب المال لأنه أقر بملك العبد له حين قال: أنه مضاربة لفلان معي هذا فإن اللام للتمليك فيثبت الملك في العبد لرب المال في إقراره والثمن يملك بملك الأصل فإذا ادعى المضارب لنفسه جزأ من ثمنه لا يقبل قوله إلا بحجة فكان الثمن كله لرب المال وعليه للمضارب أجر مثله لأن رب المال أقر له بذلك على نفسه فإن المضاربة بالعروض فاسدة

 

ج / 18 ص -105-    وإنما يستحق المضارب بسببه أجر مثل عمله وإذا أقر المضارب أن معه ألف درهم لفلان مضاربة بالنصف وأنه قد ربح فيها ألف درهم وقال رب المال بل رأس مالي ألفا درهم .
ففي قول أبي حنيفة رحمه الله: الأول وهو قول زفر رحمه الله القول قول رب المال لأن المضارب يدعي استحقاق بعض ماله لنفسه فإن جميع ما في يده حاصل من ماله فلا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة ثم رجع وقال المضارب مع يمينه وهو قولهما لأن الاختلاف بينهما في مقدار المقبوض وفي مقدار المقبوض القول قول القابض إذا لم يسبق منه إقرار بخلاف ما يقوله الآن فكان عليه رد ما أقر بقبضه من رأس ماله والباقي ربح بينهما نصفين ولو قال: هذا المال معي مضاربة لفلان ثم قال: بعد ذلك فهو لفلان وادعى كل واحد منهما أنه له مضاربة بالنصف ثم عمل به المضارب فربح فيه فإنه يدفع رأس المال إلى الأول ونصف الربح ويدفع الآخر مثل رأس المال غرما من ماله ولا يضمن له من الربح شيئا هذا قول أبي يوسف رحمه الله.
 
وقال محمد رحمه الله: يضمن لكل واحد منهما قدر رأس ماله والربح كله له يتصدق به وأصل المسألة في كتاب المضاربة أن المضارب إذا جحد ثم أقر وتصرف وربح كان الربح بينهما على الشركة عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله الربح كله للمضارب فهنا الأول لما تقدم إقرار المضارب له ثبت حقه وصار كالثابت بالمعاينة ثم بإقراره للثاني صار جاحدا لحق الأول وإنما هو تصرف وربح بعد جحوده فيكون نصف الربح للأول عند أبي يوسف رحمه الله وجميع الربح للمضارب عند محمد رحمه الله ولكنه بسبب جلبه فيتصدق به ويغرم لكل واحد منهما نصف رأس ماله أما للأول فغير مشكل وأما للثاني فلإقراره بأنه كان أمينا من جهته وقد دفع الأمانة إلى غيره وبإقراره صار ضامنا له وإذا أقر أن المال مضاربة في يده لفلان وفلان وصدقاه ثم قال بعد ذلك لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث لم يصدق وهو بينهما نصفان لأن مطلق الإضافة إليهما يقتضي المناصفة بينهما وكان بيانه بعد ذلك مغيرا فيصح موصولا لا مفصولا .
ولو أقر المضاربان بمال في أيديهما أنه مضاربة لفلان وصدقهما في ذلك ثم أقر رب المال لأحدهما بثلث الربح وللآخر بربعه فالقول قوله لأنه ليس من ضرورة تصديقه إياهما الإقرار بشيء معلوم لهما من الربح والمساواة بينهما في الربح بل لكل واحد منهما ما يستوجب الربح عليه بالشرط فيكون القول قوله في بيان شرط كل واحد منهما وإذا أقر بمضاربة لرجل ولم يسمها فالقول قوله فيما يسمى من ذلك لأنه جهل المقر به فالقول في بيانه قوله وإن مات فالقول قول وارثه لأنه خلف عنه قائم مقامه والله أعلم .

باب الإقرار بالبراءة وغيرها
قال رحمه الله: وإذا قال الإنسان لا حق لي على فلان فيما أعلم ثم أقام البينة أن له عليه حقا مسمى قبلت بينته وليست هذه البراءة بشيء لأنها بقوله فيما أعلم وقد بينا أن هذا اللفظ

 

ج / 18 ص -106-    في الإقرار يخرجه عن أن يكون موجبا فكذلك في البراءة والإقرار بها ولم يذكر قول أبي يوسف رحمه الله هنا فقيل هو على الخلاف أيضا وقيل بل أبو يوسف رحمه الله يفرق بينهما ويقول أن بانتقاء حقوقه عن الغير لا طريق له إلى معرفته حقيقة فقوله فيما أعلم في هذا الموضع لنفي اليقين كما في الشهادة وأما وجوب الحق للغير عليه فلا بد أن يعرفه بمعرفة سببه حقيقة فلم يكن قوله فيما أعلم للتشكيك فيه وكذلك لو قال: في علمي أو في نفسي أو في ظني أو في رأيي أو فيما أرى أو فيما أظن أو فيما أحسب أو حسابي أو كتابي لأن هذه الألفاظ إنما تذكر لاستثناء اليقين فيما يقرر به كلامه من أن يكون غريما أو موجبا للبراءة .
 
ولو قال: قد علمت أنه لا حق لي قبل فلان لم تقبل منه بينة ألا بتاريخ بعد الإقرار بالبراءة وكذلك لو قال: قد استيقنت لأن ذكر هذين اللفظين لتأكيد معنى العلم واليقين بما يخبر به فإن قوله قد علمت خبر عن الماضي وقد يقرره به للتأكيد ولو أطلق الإقرار بالإبراء لم يسمع منه دعوى إلا بتاريخ بعده فإذا أكد بما يقرن به أولى.
وإذا قال: لا حق لي عليك فأشهد لي عليك بألف درهم وقال الآخر أجل لا حق لك علي ثم أشهد له بألف درهم والشهود يسمعون ذلك كله فهذا باطل ولا يلزمه منه شيء ولا يسع الشهود أن يشهدوا عليه لأنه بما تقدم من تصادقهما على انتفاء حقه عنه تبين أن المراد به الزور والباطل وما ليس بواجب لا يصير بالإشهاد واجبا وإذا علم الشهود انتفاء وجوب المال حقيقة لا يسعهم أن يلزموه بشهادتهم شيئا ألا ترى أنه لو فعل ذلك بين يدي القاضي لم يكن للقاضي أن يقضي عليه بشيء فكذلك لا يسع الشهود أن يشهدوا به عليه .
 وإذا أقر الرجل أن لفلان عليه ألف درهم تلجئة فقال الطالب بل هو حق فإن كان المقر له لم يقر بأنه تلجئة فالمال لازم للمقر لأن قول المقر تلجئة كالرجوع منه عن الإقرار فإن ظاهر قوله على إقرار حق لازم وما يكون تلجئة فهو باطل ورجوعه عن الإقرار لا يصح وإن كان موصولا إلا أن يصدقه المقر له بذلك فحينئذ هو مثل الأول لأنهما تصادقا على أن الإقرار كان زورا والإقرار بالزور لا يوجب على المقر شيئا وكذلك لو قال: أشهدوا أن لفلان علي ألف درهم زورا وباطلا وكذبا فقال: فلان صدق في جميع ما قاله لم يلزمه شيء فإن قال: صدق في المال وكذب في قوله زورا وباطلا أخذته بالألف لما بينا وعلى هذا لو أقر أنه باع داره من فلان بألف درهم تلجئة لزم المقر البيع إذا كذبه المقر له في قوله تلجئة وإن صدقه في جميع ما قال فهو باطل وإن قال: صدق فهو باطل أيضا لأن مطلق التصديق ينصرف إلى جميع ما أقر به إذا لم يخص فيه شيئا .
 
ولو قال: لفلان علي ألف درهم فقال: فلان مالي عليك شيء فقد بريء المقر مما أقر به لأنه كذبه في الإقرار ولأنه صار ميراثا له لأن قوله مالي عليك شيء يحتمل أنه أراد مالي عليك شيء في الحال لأني أبرأتك ويحتمل أن يكون مراده ما كان لي عليك شيء ومن

 

ج / 18 ص -107-    ضرورة نفي حقه في الماضي نفيه في الحال فإن أعاد الإقرار وقال: بل لك على ألف درهم فقال المقر له أجل هي لي عليك لزمته أما على الطريق الأول فلأن الإقرار بطل بالتكذيب فصار كالمعدوم بقي إقراره الثاني وقد صدقه فيه وعلى الطريق الثاني الإبراء إنما يعمل فيما كان واجبا وقت الإبراء فأما فيما يجب بعده بسبب باشره فلا يعمل فيه ذلك الإبراء والإقرار سبب لوجوب المال في الحكم فلا يبطل بالإبراء السابق .
ولو أقر بهذه الجارية لفلان غصبها إياه فلان وليست هذه لي بطل إقراره بالرد فإن ادعاها المقر له وقعت إليه لما بينا أن الإقرار الأول صار كالمعدوم فكأنه أنشأ الإقرار الآن وصدقه المقر له ولو قال: هذا العبد لك فقال: ليس هو لي ثم قال: بلى هو لي لم يكن له لأن الإقرار قد بطل بالتكذيب ولم يوجد إقرار آخر فكذلك لو أقام البينة عليه لم تقبل بينته لأن شرط قبول البينة دعوى صحيحة وبعد ما قال: ليس هو لي لا يصح دعواه أنه له لكونه مناقضا فيه فلا تقبل بينته عليه.
وكذلك لو أقر أنه بريء من هذا العبد ثم ادعاه وأقام البينة لا تقبل بينته إلا على حق يحدث له بعد البراءة لأن قوله أنا بريء من هذا العبد إقرار منه بأنه لا ملك له فيه وهو صحيح في حقه لأنه لا يتعدى عن محل ولايته إلى غير ولايته وبالدعوى بعد ذلك أنه لي يصير مناقضا وبينة المناقض في الدعوى لا تكون مقبولة وكذلك لو قال: خرجت من العبد أو خرج هذا العبد عن ملكي أو عن يدي لأن إقراره بهذا مقصور على محل ولايته لا يتعدى إلى إثبات الملك فيه لغيره فأقيم به وحده فيكون هو في الدعوى بعد ذلك مناقضا وقيل هذا الجواب في قوله خرج عن يدي غير صحيح لأنه يمكنه أن يوقف فيقول هو ملكي وقد خرج عن يدي بغصب ذي اليد أو إعارتي منه فلا يثبت التناقض .
وإذا قال الرجل للمرأة: إني أريد أن أشهد أني قد تزوجتك بألف درهم تزوجا باطلا وتلجئة وقالت المرأة نعم أنا أفعل هذا على هذا الوجه وقد حضر الشهود هذه المقالة ثم أشهد أنه قد تزوجها بألف درهم وأقرت المرأة بذلك فالنكاح جائز لازم لهما لأن بالإشهاد السابق تبين أن مقصودهما بهذا العقد الهزل دون الجد وفي النكاح الجد والهزل سواء كما ورد به الأثر "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق" ولأن تأثير التلجئة انعدام ضامنها بالعقد النافذ بمنزلة اشتراط الخيار ولا يشترط الخيار في النكاح فكذلك التلجئة ولأنه إنما تؤثر التلجئة فيما هو محتمل للفسخ بعد تمامه والنكاح غير محتمل للفسخ بعد تمامه ولهذا لا يجري فيه الرد بالعيب ولا يؤثر فيه التلجئة وكذلك الطلاق والعتاق على مال وغير مال والخلع والمال واجب فيما سمى فيه المال لأنه تبع للسبب فكما لا تؤثر التلجئة في أصل السبب فكذلك لا تؤثر فيما يتبعه كالهزل وأما الكتابة على هذا الوجه فباطلة بمنزلة البيع لأنه محتمل للفسخ بعد انعقاده كالبيع .
 ولو قال: أريد أن ألجئ إليك داري هذه وأشهد عليك بالبيع وقبض الثمن تلجئة مني

 

ج / 18 ص -108-    إليك لا حقيقة وقال: الآخر نعم فأشهد له بالبيع وقد حضر الشهود تلك المقالة فإن أبا حنيفة رحمه الله قال فيما أعلم يقع البيع والمقالة التي كانت قبله باطلة وقال أبو يوسف رحمه الله البيع باطل على الكلام الأول ومعنى قوله ألجئ أي أجعلك ظهرا لي لأتمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال: التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا والمراد هذا المعنى وقيل معناه أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع معك ولست بقاصد حقيقة البيع ثم صحح أبو يوسف رحمه الله روايته على أبي حنيفة رحمه الله بقوله فيما أعلم لأن الرواية عن الغير كالشهادة وهذا اللفظ شك في الشهادة عند أبي يوسف رحمه الله ولكن روى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله أن البيع جائز مطلقا.
وروى محمد رحمه الله في الإملاء عن أبي حنيفة رحمه الله أن البيع باطل وهو قولهما والحاصل أنهما إذا تصادقا أنهما بنيا على تلك المواضعة فلا بيع بينهما كما ذكراه في البيع نصا وإن تصادقا أنهما أعرضا عن تلك المواضعة فالبيع صحيح بالاتفاق لأن تلك المواضعة ليست بلازمة ولا تكون أقوى من المعاقدة ولو تبايعا بخلاف الأول كان الثاني مبطلا للأول فإذا تواضعا ثم تعاقدا أولى وإذا اختلفا فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر بل أعرضنا عنها فعندهما القول قول من يدعي البناء على المواضعة ولا بيع بينهما لأن الظاهر شاهد له ولأنا نجعل كأن أحدهما أعرض عن تلك المواضعة والآخر بنى عليها وتلك المواضعة بمنزلة إشتراط الخيار منهما ولو شرطا الخيار ثم أسقطه أحدهما لم يتم البيع وأبو حنيفة رحمه الله يقول الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم فمن يقول لم نبن على تلك المواضعة يتمسك بما هو الأصل فالقول قوله وتوضيحه أن تلك المواضعة ليست بلازمة بل ينفرد أحدهما بإبطالها فإعراض أحدهما عن تلك المواضعة كإعراضهما وإن تصادقا على أنه لم يحضرهما نية عند العقد فعندهما وهو رواية محمد عند أبي حنيفة رحمهما الله البيع باطل لأنهما ما قصدا بالمواضعة السابقة إلا بناء العقد عليها فيجعل كأنهما بنيا وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله البيع صحيح لأن مطلقه يقتضي الصحة والمواضعة السابقة لم يذكرها في العقد فلا يكون مؤثرا فيه كما لو تواضعا على شرط خيار أو أجل ولم يذكرا ذلك في العقد لم يثبت الخيار ولا الأجل فهذا مثله.
 
ولو قال: أشهد لي عليك بألف درهم على أنها باطل أو على أنك منها بريء ففعل لم يكن عليه شيء منها لأن نفوذ الإقرار يعتمد تمام الرضا ولهذا كان الإكراه مانعا صحة الإقرار فهو والبيع سواء بخلاف النكاح ولو قال لامرأة أني أمهرك ألف درهم في السر وأظهر في العلانية ألفين وأشهد على ذلك فالمهر لها ألف درهم لأنهما تصادقا أن ما زاد على الألف سمياه سمعة وباطلا فلا يكون ذلك موجبا
ولو تواضعا على أن المهر في السر ألف درهم وأنهما يظهران العقد بمائة دينار سمعة

 

ج / 18 ص -109-    ففعلا ذلك فلها مهر مثلها لأن ما تواضعا عليه لم يذكراه في العقد وثبوت المسمى إنما يكون بالتسمية وما سمياه في العقد يقصدان به السمعة فبقي النكاح خاليا عن تسمية مهر المثل وكذا لو قالا هذا في البيع وأما في الألف درهم والمائة دينار ففي القياس البيع باطل لو لم يسميا ثمنا وفي الاستحسان البيع صحيح بمائة دينار لأنهما قصدا تصحيح أصل العقد وإنما قصدا السمعة في الثمن ولا يمكن تصحيح أصل العقد هنا إلا باعتبار الثمن المسمى فيه وأما في النكاح فتصحيح أصل العقد من غير اعتبار المهر المسمى فيه ممكن ولو كان هذا الألف والألفان في البيع.
 وقال أبو يوسف فيما أعلم عند أبي حنيفة رحمه الله: البيع بألفين وهكذا رواه المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله وروى محمد رحمه الله في إملائه عن أبي حنيفة رحمه الله أن البيع صحيح بألف درهم وهو قولهما لأنهما قصدا السمعة بذكر أحد الألفين ولا حاجة في تصحيح البيع إلى اعتبار تسميتهما الألف الثانية فهذا والنكاح سواء وجه الرواية الأخرى عن أبي حنيفة رحمه الله أن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فإذا وجب اعتبار بعض المسمى وجب اعتبار كله كما في اختلاف الجنس بخلاف النكاح وقيل هذا ينبنى على أصل أبي حنيفة رحمه الله أن الألفين غير الألف ولهذا لو شهد أحد الشاهدين بالألف والآخر بالألفين لم يقبل عنده فهو واختلاف الجنس سواء على مذهبه ولكن هذا ينصف بالنكاح والله أعلم.

باب الإقرار بالجناية
قال رحمه الله: ولو أن رجلا أقر بقتل رجل خطأ وقامت البينة به على آخر وادعى الولي ذلك كله كان له على المقر نصف الدية ولا شيء له على الآخر لأن المقر قد أقر له بدية كاملة حين زعم أنه تفرد بالقتل وقد صدقه في النصف حين زعما أنهما اشتركا في القتل وتصديقه في بعض ما أقر به صحيح فإن الشهود شهدوا له على الآخر بدية كاملة وهو قد ادعى عليه نصف الدية والشهادة بالأكثر مما ادعاه المدعي لا تكون مقبولة لمعنى وهو أنه صار مكذبا لشهوده في بعض ما شهدوا له وتكذيب المدعي شهوده يبطل شهادتهم وصار مكذبا للمقر أيضا في بعض ما أقر به ولكن تكذيب المقر له في البعض لا يمنعه من التصديق في البعض ولو ادعى الولي ذلك كله على المقر كان عليه الدية في ماله لأنه قد صدقه في جميع ما أقر به ولكن ما ثبت بالإقرار لا تعقله العاقلة للحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نعقل صلحا ولا عمدا ولا عبدا ولا اعترافا" وهذا لأن قول المقر حجة على نفسه خاصة دون عاقلته ولو ادعى ذلك كله على الذي قامت عليه البينة كانت الدية على عاقلته لأنه صار مكذبا للمقر فبطل إقراره وبقيت دعواه على الذي شهد له الشهود وقد ثبت عليه قتل الخطأ بالبينة فتكون الدية على عاقلته ولو أقر رجل أنه قتل فلانا عمدا وحده وأقر آخر بمثل ذلك وقال الولي قتلتماه جميعا كان له أن يقتلهما لأن كل واحد منهما صار مقرا له على نفسه

 

ج / 18 ص -110-    بالقصاص وقد صدقه في ذلك ثم قد بينا أن الأسباب مطلوبة لأحكامها فبعد ما وجد التصادق في الحكم لا يعتبر التفاوت بين الإقرار والتصديق في السبب.
ولو قال لأحدهما: أنت قتلته كان له أن يقتله لأنه كذب الآخر في إقراره فبطل ذلك الإقرار ويبقى الإقرار الثاني وقد صدقه فيه ولو قال: صدقتما فيه ولا يتصور تكرار القتل بهذه الصفة من شخصين على واحد فكان في تصديق الأكثر منهما أنه قتله وحده تكذيب الأصغر وكذلك في تصديقه الأصغر أنه قتله وحده تكذيب الأكبر فلهذا لا يقبل واحد منهما ولو أقر أحدهما أنه قتله عمدا وقامت البينة بمثل ذلك على آخر فادعى الولي أحدهما كان له أن يقتل المقر لأنه صدقه فيما أقر له به من القصاص ولا شيء له على الآخر لأنه ادعى عليه قتلا مشتركا والشهود شهدوا عليه بقتل انفرد هو به فكانت الشهادة أزيد من الدعوى ولأن التفاوت بين الدعوى والشهادة في السبب يمنع قبول الشهادة كما لو ادعى ألفا غصبا وشهد له الشهود بألف قرض بخلاف الإقرار والله أعلم بالصواب.

باب من الإقرار
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه اقتضى من فلان ألف درهم فقال فلان ما كان لك علي شيء ولكنك أخذتها مني ظلما أمر القاضي بردها وقد بينا هذا مرة وأعدناها لفروع نذكرها هنا وهو أنه لو قال: قبضتها بوكالة من فلان كانت له عليك أو وهبتها له فأمرني فقبضتها ودفعتها إليه كان ضامنا للمال وإقراره بالقبض لغيره في حق صاحبه كإقراره بالقبض لنفسه لأن الضمان إنما ينتفي عنه في الفصلين بثبوت المال له على صاحب المال ولمن يدعي أنه قبض له ولم يثبت ذلك بدعواه فكان ضامنا للمال.
وإذا أقر أن :لفلان على ألف درهم وجحد ذلك فلان وادعى الطالب أن المال على المقر وحده فإنه يلزم المقر من ذلك النصف لأن إضافة الألف إلى نفسه وإلى غيره موجبة للانقسام فصار مقرا بنصفه على نفسه وبنصفه على الآخر ألا ترى أن الآخر لو صدقه كان على كل واحد منهما نصفها فإذا كذبه بطل ما أقر به عليه وبقي مؤاخذا بما أقر به على نفسه وهو النصف وكذلك إن أقر بمثله من غصب أو وديعة أو مضاربة أو قتل خطأ أو جراحة فهذا والأول سواء لما بينا .
ولو أقر أنه قطع يد فلان هو وفلان عمدا وجحد فلان ذلك وادعى الطالب أن المقر قطعه وحده لم يلزمه شيء في القياس لأنه أقر له على نفسه بنصف الأرش فإن اليدين لا يقطعان بيد واحدة عندنا ولكن على كل واحد من المالين بنصف الأرش والمدعي يدعي عليه القصاص فكان مكذبا له فيما أقر به مدعيا عليه شيئا آخر ولكن استحسن فقال: له عليه نصف أرش اليد وهذا نظير ما قال: في كتاب الديات إذا قال: قتلت ولي هذا عمدا فقال: بل قتلته خطأ تقضي بالدية استحسانا لأنه يمكنه أن يأخذ ما أقر به مع إصراره على الدعوى بأن يقول حقي في القصاص ولكنه طلب مني أن آخذ المال عوضا عن القصاص وهذا جائز وكذلك

 

ج / 18 ص -111-    هنا يمكنه أن يأخذ ما أقر به وهو نصف الأرش مع إصراره على دعوى القصاص بهذا الطريق ولو كان هذا في النفس كان له أن يقتل المقر خاصة لأن المثنى يقتل الواحد وقال: والقياس في النفس هكذا أن لا يستوفي المثنى بالواحد لأن القصاص يعتمد المماثلة والواحد لا يكون مثلا للمثنى وكيف يكون مثلا لهما وهو مثل لكل واحد منهما وكنا تركنا القياس في النفس لحديث عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعة من أهل صنعاء بواحد وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به وهذا القياس والاستحسان لم ينص عليه في المبسوط إلا هنا.
 
ولو قال: أقرضني أنا فلان ألف درهم لزمه النصف لما بينا أنه أقر على نفسه بنصف المال قال: ألا ترى أنه لو قال: لفلان على ألف درهم وفلان ثم قال: عنيت الآخر معي في الدين لم يصدق على ذلك وكان الدين لهما عليه نصفين فكان بمنزلة قوله لفلان وفلان علي ألف درهم ووقعت هذه المسألة في أكثر الروايات أنه قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان ولكن الأصح هو الأول لأنه قال بعده ولو قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان كانت الألف بينهما نصفين وإذا أقر أن لفلان عليه ألف درهم ثم قال بعد ذلك: لأحدهما ستمائة وللآخر أربعمائة لم يصدق إلا أن يصل كلامه لأن مقتضى أول كلامه المناصفة بينهما فكان بيانه مغيرا ولكنه من محتملات كلامه فيصح موصولا ولا يصح مفصولا إلا أنه إذا فصل فعليه للذي أقر له بأربعمائة خمسمائة لأنه راجع عن الإقرار له في قدر المائة وعليه للآخر ستمائة لأنه أقر له في بيانه بمائة زائدة وذلك صحيح منه على نفسه.
 ولو قال: أقرضني فلان ألف درهم مع فلان كانت الألف لهما بمنزلة مالو قال أقرضني فلان مع فلان ألف درهم لأن كلمة مع للقران فيوجب الجمع بينهما كحرف الواو ولو قال أقرضني فلان ألف درهم عند فلان كانت الألف للأول لأنه ما أشرك الثاني مع الأول في الإقراض وإنما أخبر أن الإقراض من الأول كان بالقرب من الثاني
ولو قال: أقرضني وفلانا معي ألف درهم كان عليه من ذلك خمسمائة لأنه ذكر فلانا منصوبا فذلك دليل على أنه في محل المفعول كالمقر وأن المقر له أقر فيهما جميعا بالألف فلهذا كانت عليه خمسمائة ووقع في بعض النسخ وفلان معي والأصح هو الأول وإن قال أقرضني وفلانا معي شاهدا علي ذلك فلان ألف درهم كانت الألف عليه وحده لأنه ذكر للثاني خبرا وهو أنه كان شاهدا فلا يدخل معه فيما أخبر به من الاستقراض فإنما يكون مقرا على نفسه خاصة باستقراض الألف وكذلك قوله وفلان معي حالين والله أعلم .

باب إقرار الوصي والوكيل بالقبض
قال رحمه الله: وإذا أقر الوصي أنه قد استوفى جميع ما للميت على فلان ولم يسم كم هو صح إقراره في براءة الغريم لأنه في الاستيفاء قائم مقام الوصي فإقراره به كإقرار الموصي بالاستيفاء منهما صحيح لأن الحاجة إلى بيان المستوفي فيما يحتاج فيه إلى القبض وما تم استيفاؤه لا يحتاج فيه إلى القبض فترك البيان لا يمنع صحة الإقرار .

 

ج / 18 ص -112-    ولو قال بعد ذلك: إنما قبضت منه مائة درهم وقال الغريم كان للميت علي ألف درهم وقد صح فيمنعه ذلك من أن يطالبه بشيء بعد ذلك ولأن بيان المقدار من الوصي للمستوفي غير مقبول في حق الغريم لأنه لا ولاية له عليه في أن يلزم ذمته شيئا وقد استفاد البراءة بإقراره مطلقا ولكن لا ضمان على الوصي أيضا لأن قول الغريم في بيان مقدار الدين غير مقبول في إلزام الضمان على الوصي فإن إقرار المرء إنما يصح فيما يلزم نفسه لا غيره وهو بهذا الإقرار لا يلزم نفسه وإنما يلزم الوصي فلا معتبر بإقراره ولكن القول في مقدار المقبوض قول الوصي معه فإن قامت البينة أن للميت على الغريم ألف درهم أو قامت البينة على إقرار الغريم بذلك قبل إشهاده بالقبض فالوصي ضامن لها لأنه قد أقر بقبض جميع ما للميت على فلان وقد ثبت بالبينة أنه كان للميت على فلان.
 يومئذ ألف درهم فانصرف إقراره بالقبض إلى جميعها فإن قال بعد ذلك قبضت مائة كان راجعا عن بعض ما أقر به وذلك غير صحيح منه فيصير ضامنا بجحوده ولأنه إن قبض المائة فقد تعذر بإقراره استيفاء ما بقي من الغريم وصار هو متلفا لذلك على اليتيم والوصي بالإتلاف يصير ضامنا والمنع من الاستيفاء كإتلاف المستوفى إيجاب الضمان ألا ترى أن شهود الإبراء إذا رجعوا ضمنوا لأنهم منعوه من الاستيفاء بشهادتهم فصاروا متلفين عليه والوكيل في القبض في هذا بمنزلة الوصي لأن الموكل أقامه مقام نفسه في القبض فإقراره بالقبض مطلقا كإقرار الموكل به فإذا قال الوصي قبضت جميع ما للميت علي فلان وهو مائة درهم فقال فلان كان على ألف درهم وقد قبضها الوصي فقال الوصي إنما قبضت مائة فإنه يؤخذ من الغريم تسعمائة لأن الألف عليه قد ثبت بإقراره والوصي ما أقر ألا بقبض مائة لأنه فسر مطلق إقراره موصولا بكلامه والكلام المطلق إذا اتصل به تفسير كان الحكم لذلك التفسير فكأنه قال قبضت مائة درهم منه بخلاف الأول فإن هناك لم يفسر إقراره المبهم بشيء فكان المعتبر ما نص عليه وهو متناول لجميع ما كان واجبا على الغريم.
 
قال: ولا يصدق الوصي أن جميع ما عليه مائة وكذلك الوكيل في هذا بخلاف الطالب وأنه لو أقر أنه قبض جميع ماله على فلان فالمطلوب بريء من جميع الألف لأن إقرار الطالب بقبض جميع ماله على فلان وتفسيره ذلك بالمائة كلام صحيح معتبر فإنه إن كان الواجب ألفا يكون هو مبرئا عن الزيادة بهذا والإبراء من صاحب الحق صحيح بخلاف الوصي والوكيل فإن إبراءهما لا يكون صحيحا فلا يعتبر قولهما في إسقاط ما زاد على المائة إذا فسر إقرارهما بالمائة موصولا توضيح الفرق أن الطالب صار رادا لإقرار المقر فيما زاد على المائة بقوله أن جميع مالي عليه مائة ورد الإقرار منه صحيح فأما الوصي والوكيل فرد الإقرار منهما باطل وقد ثبت بإقرار الغريم وجوب جميع الألف عليه وهما أقرا بقبض المائة فبقي الغريم مطالبا بتسعمائة ولو أن الوصي باع خادما للورثة وأشهد أنه قد استوفى

 

ج / 18 ص -113-    جميع ثمنها وهي مائة درهم وقال المشتري بل كانت مائة وخمسين فلا شيء على المشتري لأن الوصي في الإقرار بالاستيفاء هنا بمنزلة صاحب الحق لأن وجوب الثمن بعقده وفيما يجب في العقد العاقد كالمالك ولهذا صح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو في الاستيفاء كالمالك بالاتفاق.
ولو كان المالك هو الذي باع وأقر بالاستيفاء بهذه الصفة كان المشتري بريئا عن جميع الثمن وكذلك الوصي ولكن لا يصدق المشتري على الوصي في إلزام الزيادة بل القول قول الوصي في مقدار الثمن لأن المشتري لا ولاية له على الوصي في إلزام ذمته شيئا والوصي في المقبوض أمين فالقول في مقداره قوله مع اليمين وهذا لأن المشتري بين الثمن بالإقرار بعد فراغ ذمته من الثمن وولاية بيان المقدار له حال اشتغال ذمته باليمين لا بعد الفراغ منه كالبائع وإذا أقر بقبض الثمن فقد استقل ببيان مقداره ولا يقبل قوله في حق الشفيع بخلاف ما قبل إقراره بالقبض والوكيل والمضارب في هذا بمنزلة الوصي.
 ولو أقر الوصي أنه استوفى من المشتري مائة درهم وهي جميع الثمن وقال المشتري بل الثمن مائة وخمسون فللوصي أن يطالبه بالخمسين لأنه أقر بقبض المائة فقط وقوله وهي جميع الثمن كلام لغو ولما ثبت بإقرار المشتري أن الثمن مائة وخمسون كان له أن يطالبه بالفضل بخلاف الأول فقد أقر هناك بقبض جميع الثمن أولا وذلك كلام معتبر منه فليس له أن يطالب المشتري بشيء بعد ذلك قال وكذلك لو باع صاحب المال مال نفسه وفي هذا بعض أشكال ففي قوله وهي جميع الثمن معنى الحط لما زاد على المائة فينبغي أن يكون له أن يطالبه بالفضل ولكن يقول الحط والإبراء تصرف في الواجب بالإسقاط وإن كان أصل الوجوب لا يكون تصرفا في الواجب كإنكار الزوج لأصل النكاح لا يكون تصرفا في النكاح بالطلاق وقد ثبت بإقرار المشتري أن الثمن مائة وخمسون وكان له أن يطالبه بالفضل ولو أقر الوصي أنه قد استوفى جميع ما للميت على فلان وهو مائة درهم فقامت البينة أنه كان له مائتا درهم فإن الغريم يؤخذ بالمائة الفاضلة ولا يصدق الوصي على إبطالها لأن وجوب المال هنا لم يكن بعقد الوصي فلا قول له إلا فيما يرجع إلى الاستيفاء .
وقد أقر بأن المستوفي مائة درهم موصولا بكلامه وقد ثبت بالبينة أن المال مائتا درهم وكان الغريم مطالبا بالباقي بخلاف ما سبق فإن وجوب المال هناك بعقد الوصي فكان قول الوصي قولا مطلقا فيما يرجع إلى براءة المشتري فإذا أقر بقبض الجميع أولا صح إقراره في براءة المشتري ولو أقر الوصي أنه قد استوفى جميع ما للميت عند فلان من وديعة أو مضاربة أو شركة أو بضاعة أو عارية ثم قال الوصي بعد ذلك إنما قبضت مائة درهم وقال المطلوب قبض الوصي ألف درهم وقامت البينة على ذلك فالوصي ضامن لذلك كله لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا قبض الوصي الألف ثم جحد قبض ما زاد على المائة كان ضامنا فكذلك إذا ثبت بالبينة وإن لم تقم البينة على هذا فالمطلوب غير مصدق على

 

ج / 18 ص -114-    الوصي بل القول قول الوصي في مقدار المقبوض لأنه أمين فيقبل قوله مع اليمين ولكن لا يرجع الوصي على المطلوب بشيء لأنه كان أمينا فيما في يده فيقبل قوله في دفعه إلى الوصي في براءة نفسه عن الضمان بخلاف ما تقدم من الدين فإنه ضامن لما في ذمته.
ألا ترى أنه لو لم يسبق الإقرار من الوصي بالاستيفاء لكان القول في الأمانات قول الأمين في الدفع وفي الديون في الإيفاء فكذلك بعد إقرار الوصي ولكن قول الأمين مقبول فيما هو عليه وذلك براءة نفسه عن الضمان لإيجاب الضمان على الوصي والوكيل بالقبض في هذا كالوصي وإذا أقر الوصي أنه قبض كل دين للميت على الناس فجاء غريم للميت وقال دفعت إليك كذا وقال الوصي ما قبضت منك شيئا وما علمت أن للميت عليك شيئا فالقول قول الوصي لأن إقراره بالقبض هنا باطل فإن الموصي لو أقر بهذا بنفسه كان باطلا منه لأن المقر له بالقبض مجهول وجهالة المقر له متى كانت فاحشة كانت تابعة صحة الإقرار.
 ولو قامت البينة على أصل هذا الدين لم يلزم الوصي منه شيء لأنه لم يقر بقبض شيء من رجل بعينه ومعناه ما بينا أن الإقرار بالقبض بمنزلة الإقرار بالدين للغريم فإن المقبوض يصير مضمونا على القابض للغريم ثم يصير قصاصا بماله عليه وإقراره بالدين للمجهول باطل فكذلك إقراره بالقبض من المجهول وكذلك لو قال قبضت كل دين لفلان بالكوفة فهو باطل لجهالة المقر له والوكيل في هذا بمنزلة الوصي وإذا أقر الوصي أنه قد استوفى ما على مكاتب فلان المائة وهو مائة درهم والمكاتب معروف يدعي ذلك ويقول قبضت مني ألف درهم وهي جميع مكاتبتي فالقول قول الوصي في المائة ويلزم المكاتب تسعمائة لأن وجوب هذا الدين لم يكن بعقد الوصي وقد فسر إقراره بالمائة بكلام موصول وإنما يصير مقرا بقبض المائة ويبقى المكاتب مطالبا بتسعمائة لأن دعواه الإيفاء غير مقبولة بغير حجة وإن أقر الوصي بقبض المكاتبة منه ولم يسم شيئا عتق المكاتب لأن حق الاستيفاء إلى الوصي فإقراره بالاستيفاء مطلقا يوجب براءة ذمة المكاتب كإقرار الوصي به فإن قامت البينة أن أصل المكاتبة ألف درهم أو إن المكاتب أقر بذلك قبل أن يشهد الوصي بالقبض فالوصي ضامن لجميع الألف لأن الإقرار بالقبض مطلقا ينصرف إلى جميع بدل الكتابة وقد ثبت بالبينة أن جميع بدل الكتابة ألف درهم فكأنه أقر بقبض ذلك مفسرا ولو أقر الوصي أن المكاتبة ألف درهم وقال قبض الميت منها تسعمائة في حياته وقبضت أنا مائة بعد موته وقال المكاتب بل قبض مني الألف كلها فالمكاتب حر لإقرار الوصي بقبض مبرئ في جميع بدل الكتابة فإن قامت البينة للمكاتب على إقرار الوصي أنه قد استوفى جميع ما كان على المكاتب والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فتكون الألف كلها على الوصي في ماله بعد أن يحلف الورثة ما يعلمون أن الميت قبض منها تسعمائة لأن الوصي يدعي عليهم ما لو أقر به لزمهم فيستحلفون عليه عند إنكارهم ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم .

 

ج / 18 ص -115-    فإن قيل :كيف تصح هذه الدعوى من الوصي وقد قامت البينة على إقراره باستيفاء جميع ما على المكاتب قلنا لأن إقراره بهذا محتمل يجوز أن يكون هو المباشر للاستيفاء ويجوز أن يكون الميت مباشرا لاستيفاء بعضه فيضيف الوصي الاستيفاء لنفسه على معنى أن فعله متمم لاستيفاء بدل الكتابة وموجب عتق المكاتب فلا يمنعه ذلك من دعواه أن الميت قد استوفى البعض والوكيل في قبض بدل الكتابة في هذا كالوصي وعلى هذا لو أقر الوصي أنه استوفى ما كان على فلان من دين الميت فقال الغريم كان له علي ألف درهم فدفعتها إليك وقال الوصي كان له عليك ألف درهم ولكنك أعطيته خمسمائة ودفعت إلي خمسمائة بعد موته فعلى الوصي جميع الألف لإقراره بالاستيفاء ولكنه يحلف الردية على ما ادعى من قبض الميت نفسه والإشكال في هذا كالإشكال في الأول.
وقد ظن بعض مشايخنا رحمهم الله أن وضع المسألة في الفصلين فيما إذا انضاف فعل الاستيفاء إلى نفسه ولكنه أقر بفعل ما لم يسم فاعله فقال قد استوفى جميع ما على فلان وهذا غلط لأنه لا يلزم الوصي جميع المال لأنه ليس مقبول القول فيما يخبر به من الوصول إليه إذا لم يسبق منه بخلاف ما لو أقر الوصي أنه قد استوفى ما لفلان الميت على الناس من دين استوفاه من فلان بن فلان وقامت البينة أن للميت على رجل ألف درهم فقال الوصي ليست هذه مما قبضت فإنها تلزم الوصي وكل من قامت عليه بينة أن للميت عليه مالا فإنه يلزم الوصي ذلك لأنه أقر بالقبض من رجل بعينه وإقراره للمعلوم بالمجهول صحيح كما أقر به وقد أقر بقبض جميع ديون الميت من هذا الرجل وصحة القضاء من المتبرع كصحته ممن هو عليه .
ولو أقر بقبض جميع ما للميت عليه كان ضامنا لكل ما يثبت للميت عليه بالبينة فكذلك هذا بخلاف ما سبق فإن إقراره بالقبض هنا من المجهول وذلك باطل وكذلك الوارث يكتب على الوارث البراءة من كل ميراث ويكتب إليه عجلت نصيبك من كل شيء تركه الميت على الناس فهو جائز عليه وإن لم يسمه لأنه أقر بالاستيفاء من معلوم وهو الوارث الذي عجل له ذلك والإقرار بالمجهول للمعلوم صحيح ولو أقر الوصي أنه قبض جميع ما في منزل فلان من متاعه وميراثه ثم قال بعد ذلك هو مائة درهم وخمسة أثواب وأقام الورثة البينة أنه كان في منزل فلان يوم مات ألف درهم ومائة ثوب لم يلزم الوصي أكثر مما أقر به لأنه أمين في المقبوض فالقول في بيانه قوله وليس من ضرورة كون الزيادة في منزله عند الموت قبض الوصي لذلك فما لم يشهد الشهود أن الوصي قبض ذلك لا يصير ضامنا وهذا بخلاف ما تقدم من الدين لأن إقراره بالقبض هنا مطلقا موجب براءة المشتري عن الكل فقول الوصي متلف لما زاد على القدر الذي بينه مفصولا وهنا إقراره بقبض جميع ما في المنزل مطلقا لا يوجب إتلاف شيء من الأعيان وقوله في بيان ما وصل إليه مقبول لما بينا فلا يكون هو ضامنا لما زاد على ذلك لأنه لم يتلفه ولم يشهد الشهود بوصوله إليه.

 

ج / 18 ص -116-    وكذلك لو أقر أنه قبض ما في ضيعة فلان من طعام وما في نخله هذا من ثمر وأنه قبض زرع هذه الأرض ثم قال هو كذا وادعى الوارث أكثر منه وأقام البينة أنه كان في هذه الضيعة كذا وكذا لم يلزم الوصي زيادة على ما أقر بقبضه لما بينا أن مطلق الإقرار لا يوجب إتلاف شيء ولا يلزم إلا ما يثبت قبضه فيه وإنما يثبت قبضه فيما أقر به فلا يلزمه الزيادة على ذلك إلا أن يشهد الشهود أنه قبضه والله أعلم بالصواب.

باب الإقرار بالبيع والعيب فيه
 
قال رحمه الله: وإذا أقر البائع أنه باع هذا العبد من هذا وبه هذا العيب وأن المشتري أبرأه منه فعليه البينة إذا جحد المشتري الإبراء لأن مطلق البيع يقتضي سلامة المعقود عليه ووجود العيب يثبت للمشتري حق الرد فالبائع يدعي عليه إسقاط حقه بعد ما ظهر سببه فلا يقبل قوله إلا بحجة لأن العيب فوات وصف من المعقود عليه والوصف يستحق باستحقاق الأصل فصار ذلك الجزء حقا للمشتري باستحقاقه أصل المبيع والبائع يدعي بطلان استحقاقه بعد ظهور سببه وإن لم يكن له بينة استحلف المشتري بالله ما أبرأه ولا رضي به ولا خرج من ملكه.
ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول: إنما يستحلف بهذه الصفة إذا ادعى البائع كله فأما إذا ادعى البائع الإبراء استحلفه عليه لأن اليمين حق البائع فإنما تتوجه بقدر طلبه والأصح أن القاضي يستحلفه على ذلك كله صيانة لقضاء نفسه ولأن البائع يدعي سقوط حقه في الرد وهذه الأسباب مسقطة لحقه في الرد فصار كأنه ادعى جميع ذلك فلهذا يستحلفه مفسرا بهذه الصفة .
وإن ادعى المشتري أنه اشتراه وبه هذا العيب وهو عيب يحدث مثله وجحد البائع ذلك وأقر أنه باعه وبه عيب لم يسمه لم يلزمه بهذا الإقرار شيء لأن المشتري بدعواه معينا يصير مبرئا له عما سواه والبائع ما أقر بذلك العيب بعينه وإنما أقر بعيب منكر والمنكر غير المعين فإذا لم يكن إقراره ملزما بقي دعوى المشتري الرد بعيب يحدث مثله والبائع منكر لذلك والقول قوله مع يمينه ولو كان البائع اثنين فأقر أحدهما بعيب وجحد الآخر كان للمشتري أن يرده على المقر دون الآخر لأن كل واحد منهما بائع لنصفه وإقرار المقر حجة عليه دون شريكه فإن كان البائع واحدا وله شريك مفاوض فجحد البائع العيب وأقر به شريكه كان للمشتري أن يرده لأن إقرار أحد المتفاوضين فيما يرجع إلى التجارة ملزم شريكه فكان للمشتري أن يرده وفي الحكم كإقرارهما وإن كان الشريك شريك عيان لم يكن للمشتري أن يرده بإقراره لأن الرد بالعيب من حقوق العقد فهو كأجنبي آخر
  ألا ترى أن للمشتري أن يخاصم الشريك في هذا العيب بخلاف المفاوض إذا باع خادما من المضاربة فأقر رب المال فيها بعيب لم يكن للمشتري أن يرده على المضارب بذلك لأن حقوق العقد تتعلق بالمضارب ورب المال في ذلك كسائر الأجانب ألا ترى أنه

 

ج / 18 ص -117-    لو نهاه المضارب عن البيع لم يعمل بنهيه ولو أراد أن يفسخ عليه عقدا لم يملكه فكذلك إقراره بما يثبت حق الفسخ للمشتري وكذلك لو كان رب المال هو الذي باع فأقر المضارب بالعيب لأنه أجنبي من حقوق العقد الذي باشره رب المال وكذلك الوكيل بالبيع إذا باع وسلم ثم أقر الآمر بعيب وجحده الوكيل لم يلزم الوكيل ولا الآمر من ذلك شيء لأن الخصومة في العيب من حقوق العقد والوكيل فيه منزل منزلة العاقد لنفسه فكان الآمر أجنبيا من حقوق العقد فلهذا لا يثبت للمشتري حق الرد بإقراره ولو أقر الوكيل بالعيب وجحده الآمر كان للمشتري أن يرده على الوكيل لأنه في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه فإقراره بثبوت حق الفسخ للمشتري صحيح ولكن في حقه دون الآمر لأن الوكالة قد انتهت بالتسليم فلا يكون قول الوكيل بعد ذلك ملزما للآمر وإن كان العيب يحدث مثله فإن أقام الوكيل البينة على أنه كان عند الآمر رده عليه لثبوت العيب بالحجة في يده وإن لم يكن له بينة استحلف الآمر على دعواه فإن نكل رده عليه وإن حلف فهو لازم للوكيل وفي شريكي العنان لو أقر البائع منهما بالعيب وجحد شريكه رده عليه ولزمهما جميعا لأن الوكالة التي بينهما ما انتهت لتسليم المبيع ولكنها قائمة بقيام عقد الشركة وكان تصرف البائع منهما نافذا في حق شريكه.
ألا ترى أنه لو أقال المشتري أو اشتراه منه إبتداء يلزم شريكه فكذلك إذا رده عليه بإقراره بخلاف الوكيل على ما سبق وكذلك المضارب إذا أقر بالعيب لزمه ولزم رب المال لأن النيابة في التصرف باقية ببقاء المضاربة ولو أقاله العبد أو اشتراه لزم رب المال فكذلك إذا رده وإن كانا شريكين في سلعة خاصة فالبائع منهما بأمر صاحبه وكيل في بيع نصيبه وقد انتهت وكالته بالتسليم فإقراره بعد ذلك يلزمه دون شريكه فلو باعها من آخر فطعن فيها المشتري الآخر بعيب وأقر به البائع الثاني فإن قبلها بغير قضاء القاضي لم يكن له أن يردها على البائع الأول سواء كان عيبا يحدث مثله أو لا يحدث مثله وهو الصحيح المشهور في عامة الروايات لأن القبول بغير قضاء القاضي بمنزلة الإقالة وهو فسخ بين المتعاقدين وبيع جديد في حق غيرهما فصار في حق البائع الأول كان البائع الثاني اشتراه ابتداء .
وفي كتاب البيوع أشار إلى الفرق بين العيب الذي يحدث مثله أو لا يحدث فقال في العيب الذي لا يحدث مثله سواء قبله بقضاء أو بغير قضاء رده على بائعه لتيقنه بوجود العيب عند البائع الأول ولأنه فعل بدون القاضي غير ما يأمر به القاضي لو رفع الأمر إليه ولم يشتغل بالخصومة لأنه لم ير فيها فائدة .
والأصح هو الأول وإن قبلها بقضاء فإن كان العيب لا يحدث مثله فله أن يردها على بائعها سواء رد عليه بإقراره أو بنكوله أو ببينة قامت لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من الأصل وقد تيقنا بوجود العيب عند البائع الأول فيردها عليه وإن كان عيبا يحدث مثله فله أن يخاصم بائعه ويثبت بالحجة وجود العيب عنده ليردها عليه إن كان رد عليه بإقراره وكذلك إن رد عليه بنكوله لأن النكول لا يكون أقوى من

 

ج / 18 ص -118-    الإقرار وهذا إذا لم يكن منه جحود للعيب نصا فإن كان قال بعتها وليس هذا العيب بها فاستحلفه فأبى أن يحلف فردها عليه فأراد خصومة البائع الأول فيها واحتج البائع الأول عليه بقوله لم يكن هذا العيب بها فإنه لا يستطيع ردها على البائع الأول لأن من ضرورة جحوده كون العيب عند الإقرار بأنه لم يكن عند البائع الأول وإقراره حجة عليه للبائع الأول وهذا الجحود مطلق له اليمين فإذا امتنع من ذلك صار كالباذل لفسخ المشتري منه فلا يكون له أن يخاصم بائعه كما لو قبله بغير قضاء قاض.
وإذا باع دارا ثم أقر أنه باعها وفيها هذا العيب لصدع في حائط يخاف منه أو كسر في جذع أو في باب رده عليه بذلك لأن هذا العيب يمكن بقضاء باقي المالية وقد يقلل رغائب الناس فيه وقد ثبت كونه عنده بإقراره وكذلك لو باع أرضا فيها نخيل فأقر بعيب ببعض الثمر في نخلة أو شجرة والحاصل أن المبيع كله في حكم شيء واحد فوجود العيب في جزء منه كوجوده في جميعه وكذلك الثياب والعروض والحيوان يقر البائع فيه بعيب ينقص الثمن لأن ما ينقص الثمن يعده التجار عيبا ويقلل رغائبهم في السلعة فيثبت حق الرد به .
ولو قال: بعتك هذا الثوب وبه حرق فجاء المشتري بحرق آخر فقال بعتنيه وهذا به وقال البائع ليس هذا الذي أقررت لك به وهذا حدث عندك ولم يكن بالثوب حرق غيره لم يصدق البائع على ما قال لأن الظاهر يكذبه لأن الحرق الموجود في الثوب لا ينعدم بحيث لا يبقى له أثر لأنه إما أن يخاط أو يرفأ وأثرهما يكون ظاهرا فإن لم ير في الثوب حرق ظاهر أو لا أثر لحرق سوى ما عينه المشتري عرفنا أن ما أقر به البائع هو الذي عينه المشتري فله أن يرده بذلك ولو قال كان هذا الحرق صغيرا وزاد فيه فالقول قول البائع لأنه أقر بأصل الحرق لا بمقداره فالقدر الذي ادعى المشتري لم يسبق من البائع إقرار به فكان القول فيه قول البائع لإنكاره والحرق في ذلك قياس الخرق ولو كان فيه حرق غير ذلك فقال بعتك هذا الثوب وهذا به ولم يكن الآخر به فالقول قوله مع يمينه لأن بيانه مطابق لمطلق كلامه فإنه أقر بالحرق في الثوب والذي عينه سوى ما أراد المشتري الرد به فخرج به عن عهدة إقراره يبقى دعوى المشتري للحرق الثاني والبائع منكر له فالقول قوله مع يمينه .
ولو قال: بعته هذا العبد وبه قرحة ثم جاء المشتري يريد رده فقال البائع قد بريء العبد من تلك القرحة وهذه غيرها فالقول قوله لأن القرحة تزول بحيث لا يبقى لها أثر بعد البرء فلم يكن من ضرورته إقرار البائع كون هذه القرحة التي عينها المشتري موجودة عنده وكذلك إن سمى البائع نوعا من العيوب صدق أنه قد ذهب وهذا غيره إن كان ذلك مما ببرأ ويذهب ولو أقر أنه باعه أقطع اليد فجاء به المشتري وهو أقطع اليدين لم يكن له أن يرده ولكن يرجع بنقصان العيب في يد واحدة لأن إقرار البائع لم يتناول إلا قطع يد واحدة فقطع اليد الثانية عيب حادث عند المشتري فيمنعه من الرد ويرجع بنقصان العيب بعد ما يحلف البائع بالله ما باعه وهو كذلك وإن كان للعبد أصبع زائدة فللمشتري أن يرده به إن أقر البائع أو

 

ج / 18 ص -119-    أنكر لأن هذا لا يحدث مثله عادة فقد تيقنا بوجودها عند البائع فيرده المشتري إلا أن يثبت البائع سببا مانعا من الرد وقد تستوي هذه المواضع في الخصومة في العيب بين حضرة العبد وغيبته إذا كان البائع مقرا بوجود العيب به في الحال ألا ترى أن الخصومة في موت العبد مسموعة .
وإذا أقر الرجل أنه باع عبده هذا من فلان وقبض الثمن منه ولم يسمه فهو جائز لأن حكم البيع في الثمن ينتهي بقبضه فترك التسمية فيه لا يمنع صحة الإقرار لأن التسمية إنما يحتاج إليها فيما تتوجه المطالبة به ويحتاج إلى قبضه وذلك معدوم في الثمن المقبوض ولو سمى وأقر أنه قبضه كان هذا أجوز من الأول لأنه أقرب إلى قطع المنازعة والخصومة فقد تقع الحاجة إلى معرفة مقدار الثمن عند استحقاق المبيع أورده بالعيب فإذا كان مسمى لا تمكن فيه المنازعة ولو سمى ثمنا وقال لم أقبضه وقال المشتري قد قبضه فالقول قول البائع مع يمينه والبينة على المشتري لأن الثمن دين لازم للبائع في ذمة المشتري فإذا ادعى بقاءه كان عليه إثباته بالبينة فإن لم يجدها فالقول قول البائع مع يمينه لإنكاره فإن إقراره بالبيع لا يتضمن الإقرار بقبض الثمن كما أن إقرار المشتري بالشراء لا يتضمن الإقرار بقبض السلعة وليس له أن يأخذ العبد حتى ينقد الثمن لأن مطلق البيع عن حال يثبت حق الحبس للبائع ما دام المبيع في يده فإن كان المشتري قد قبضه فعليه أن ينقد الثمن وليس للبائع أن يسترد العبد لأن ثبوت حقه في الحبس سقط بتسليمه إلى المشتري وقد سلمه وهذا لأن مطلق فعل المشتري محمول على ما يحل شرعا ما لم يظهر خلافه الذي لا يحل شرعا كالقبض بغير إذن البائع ولأن خروج المبيع من يد البائع مبطل حقه في الحبس إلا أن يثبت أنه كان يعتبر رضاه.
 ولو أقر أنه باعه مني أو قبضه مني ثم استحق العبد أورده المشتري بعيب كان القول قول البائع في الثمن لأنه دين للمشتري في ذمة البائع فالقول في بيان مقداره قول المديون ولا يصدق صاحب الدين على دعوى الزيادة إلا بحجة.
ولو أقر أنه باعه منه بألف درهم فقال المشتري اشتريته بخمسمائة وقد خرج نصف العبد من ملك المشتري فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله القول قول المشتري في الثمن وهذا بخلاف ما قال في البيوع إذا تعيب المبيع في يد المشتري ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا إلا أن يشاء البائع أن يسترد العبد ولا يأخذ للعيب شيئا لأن هناك لم يسلم للمشتري شيء فيصح رضا البائع بسقوط حقه في حصة العيب فيتحالفان عند ذلك وهنا ما أخرجه المشتري من ملكه بعوض أو بغير عوض سالم له فلا يجوز أن يسلم له ذلك مجانا فلهذا كان القول في الثمن قول المشتري سواء رضي البائع باسترداد ما بقي أو لم يرض وعلى قول أبي يوسف رحمه الله القول في الثمن قول المشتري مع يمينه إلا أن يرضى البائع أن يأخذ ما بقي منه ويتبع المشتري بحصة ما خرج من ملكه على قول المشتري فحينئذ يجرى

 

ج / 18 ص -120-    التحالف لأن من أصل أبي يوسف رحمه الله أن تعذر جريان التحالف في بعض المعقود عليه لا يمنع التحالف فيما بقي كما في العبدين إذا هلك أحدهما ثم اختلفا في الثمن يتحالفان في القائم إلا أن هناك هلاك أحدهما لا يوجب عيبا في الآخر فلم يشترط فيه رضا البائع وهنا خروج بعض العين عن ملكه يوجب العيب فيما بقي فلهذا شرط رضا البائع بالفسخ فيما بقي منه لجريان التحالف بينهما وكذلك في العبدين قال أبو حنيفة رحمه الله إذا رضي بأن لا يأخذ من ثمن الهالك شيئا تحالفا في القائم لأن هناك لم يسلم للمشتري شيء فرضاه بذلك مسقط لحقه في تضمين الهالك للمشتري بمنزلة ما لو قبضه بإذنه بغير عقد فأما على قول محمد رحمه الله فيحالفان ويترادان قيمة العبد إلا أن يشاء البائع أن يأخذ ما بقي من العبد وقيمة ما استهلك المشتري لأن خروج جميع العبد من ملكه لا يمنع جريان التحالف عند محمد رحمه الله فكذلك خروج بعضه وما بقي يتعيب لخروج البعض عن ملكه فثبت للبائع الخيار وإن شاء رضي بعيبه فاسترده مع قيمة ما استهلك منه المشتري وإن شاء لم يرض واسترد جميع قيمة العبد منه .
وإذا أقر أنه باع هذا العبد من فلان بألف درهم فقال ما اشتريته منك بشيء ثم قال بلى قد ابتعته منك بألف درهم وقال البائع ما بعتكه فالقول قول المشتري وله أن يأخذه بالثمن لأن البيع لم يبطل بمجرد إنكاره الشراء ألا ترى أن البائع لو أقام البينة فقضى القاضي بالشراء فإنما وجد التصديق من المشتري في حال قيام البيع بينهما ولا معتبر بجحود البائع بعد ذلك والدليل عليه أن بعد جحود المشتري لو استحلفه البائع فأبى أن يحلف ثبت البيع بينهما حتى يقضي به القاضي فإذا أقر به المشتري أولى أن يثبت البيع ولو كان حين جحد المشتري الشراء قال البائع صدقت لم تشتره ثم قال المشتري بعد ذلك قد اشتريته لم يلزمه البيع ولم يقبل منه بينة على ذلك لأن البائع حين صدقه في إنكار الشراء انتقض البيع بينهما بتصادقهما فإنهما يملكان فسخ العقد فتجاحدهما له يكون فسخا .
ألا ترى أن البائع لا يتمكن من إثبات البيع بالبينة بعد ذلك ولا يكون له أن يحلف المشتري فكذلك لم تصح دعوى المشتري البيع بعد ذلك ولم يقبل منه بينة على ذلك للتناقض في كلامه إلا أن يصدقه البائع على ما يدعي من الشراء بعد ذلك فحينئذ تصادقهما على الشراء بمنزلة البيع المستقبل كما كان تجاحدهما بمنزلة الفسخ إذا التجاحد لم يكن فسخا في الحقيقة وإنما جعل ذلك بمنزلة الفسخ في الحقيقة فإذا تصادقا على أن البيع كان منعقدا بينهما حقيقة ظهر البيع بهذا التصادق ولو أنه باع هذا العبد من فلان ولم يسم ثمنا فقال فلان اشتريته منك بخمسمائة وجحد البائع أن يكون باعه بشيء فالقول قول البائع مع يمينه لأن إقرار البائع بالبيع من غير تسمية الثمن ليس بشيء كإيجابه البيع من غير تسمية الثمن وهذا لأن الإقرار ما يمكن العمل به والالتزام بحكمه ولا يمكننا أن نلزمه بيعا بثمن مسمى

 

ج / 18 ص -121-    بهذا الإقرار لأنه لا يقر بذلك ولا يكون البيع إلا بثمن مسمى فلهذا كان إقراره باطلا بقي دعوى المشتري بالبيع بخمسمائة والبائع منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه.
وكذلك لو أقر المشتري بالشراء من غير تسمية الثمن وادعى البائع بيعه منه بثمن مسمى فهذا والأول سواء وإقرار المشتري غير ملزم إياه شيئا لما بينا وهذا بخلاف ما سبق من الإقرار بالبيع والقبض فإنه صحيح بدون تسمية الثمن لأن العمل بموجب ذلك الإقرار ممكن فإن موجبه إلزام تسليم المبيع لانتهاء حكم العقد في الثمن بالقبض فلهذا كان الإقرار صحيحا ولو أقر أنه باعه من فلان ثم قال لا بل من فلان فهذا كله باطل لتعذر إلزام شيء بحكمه ويحلف لكل واحد منهما ادعى شراء بثمن مسمى بمنزلة ما لو لم يسبق ذلك الإقرار من البائع ولو ادعى أنه اشترى هذا من هذا الرجل فجحده البائع فادعى المدعي أن العبد كان له في الأصل وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته لأن دعواه الشراء منه إقرار بأن أصل الملك كان له فإن الإستيام في إحدى الروايتين إقرار بالملك للبائع فالشراء أولى وعلى الروايتين جميعا هو أقر بأنه لا حق له فيه فكان في دعواه الملك ثمن الأصل بعد هذا مناقضا والمناقض لا قول له ولا تقبل بينته .
ولو أقر أنه باع عبده من فلان ولم يسم العبد ثم جحد فهذا الإقرار باطل لتعذر الإلزام بحكمه فإن الإقرار بالبيع في عبد يعبر عنه كإيجاب البيع في عبد يعبر عنه وكذلك إن أقر أنه باع عبده من فلان غير أن الشهود لا يعرفونه بعينه ومراده من هذا أنهم شهدوا على إقراره ببيع عبد وقالوا لا نعرفه بعينه لو أشهدهم على إقراره بذلك وهم لا يعرفون العبد بعينه فهذا كله باطل لتعذر الإلزام بحكمه وهو على هذا لو كان الإقرار في دار أو ثوب أو دابة فإن حدد الأرض والدار وسمى الثمن فهو جائز لأن التحديد فيما يتعذر إحضاره بمنزلة الإشارة إلى العين فيما يتيسر إحضاره بدليل سماع الدعوى والشهادة باعتباره وكان هذا إقرارا ملزما فإن جحد البائع بعد ذلك فشهد الشهود بإقراره ولا يعرف الشهود الحدود قبلت هذه الشهادة بعد أن يقيم البينة على معرفة الحدود لأن عند قيام البينة على ذلك كان إقراره ملزما فكان العمل بها متمكنا فالبينة عليه تكون مسموعة.
 وكذلك لو كان المشتري أقر بالشراء ثم جحد وادعى البائع ذلك فهذا والأول سواء لما بينا ويجوز إقرار شريك العنان على شريكه في بيع شيء بينه وبين شريكه وفي شراء شيء قائم بعينه في يد البائع لأنه أقر بملك أنشأه فإن كل واحد منهما يملك إنشاء البيع والشراء في حق شريكه ما دامت الشركة بينهما قائمة فتنتفي التهمة عن إقراره بذلك فلهذا صح إقراره وله على شريكه ثمن حصته وكما لو أنشأ الشراء أو ما أقر به من شراء شيء مستهلك يكون دينا يلزمه دون شريكه إلا أن يقر به شريكه فإن أقر به فالثابت بتصادقهما كالثابت بالمعاينة وإن جحدا وكل واحد منهما في حق صاحبه وكيل بالشراء والوكيل لا يقبل إقراره بالشراء إذا كان المبيع مستهلكا في إلزام الثمن في ذمة الموكل فكذلك الشريك لا يقبل إقراره

 

ج / 18 ص -122-    في إلزام الدين في ذمة شريكه لأنه بعقد الشركة يتسلط على التصرف في المال المشترك ولا يتسلط على ذمة شريكه في إلزام الدين فيها وهذا الإقرار يوجب الدين في ذمة شريكه من غير ملك يظهر له بمقابلته في العين فلا يقبل قوله فيه بخلاف ما إذا كان المبيع قائما بعينه وأما المضارب فإذا أقر بالمضاربة ببيع أو بشراء فهو مصدق في ذلك فيها أو في الدين اعتبارا للإقرار بالإنشاء .
ولو أنشأ الشراء صح منه وكان الثمن دينا على رب المال حتى إذا هلك مال المضاربة في يده قبل أن ينفذه رجع عليه فكذلك إقراره بالشراء يكون صحيحا مطلقا لانتفاء التهمة ولو وكل رجل رجلا ببيع عبد له وأقر الوكيل أنه قد باعه من فلان بألف درهم وصدقه وجحد الوكيل فالعبد لفلان بألف درهم لأن ملك الأمر باق بعد الوكالة وهو مالك لإنشاء البيع فيه فيصح إقراره بذلك سواء أضافه إلى نفسه أو إلى وكيله غير أن الآمر مع المشتري لا يصدقان في إلزام العهدة على الوكيل ومتى تعذر إيجاب العهدة عليه يتعلق بأقرب الناس إليه وهو الموكل كما لو كان الوكيل بالبيع صبيا محجورا ولو أمر رجل رجلا بشراء عبد بعينه له فأقر الوكيل أنه اشتراه بألف درهم وصدقه البائع وجحده الآمر فالقول قول الوكيل لأنه أقر بما يملك إنشاءه .
ولو أقر بشراء عبد بغير عينه وسمى جنسه وصفته وثمنه فأقر الوكيل أنه قد اشترى هذا العبد للآمر بالثمن الذي سماه له وجحد الآمر فإن كان الثمن مدفوعا إلى الوكيل فالقول قوله لأنه أمين فيما دفع إليه من الثمن وقد أخبر بأداء الأمانة فيه ومباشرة ما كان مسلطا على مباشرته فيكون مصدقا فيه وإن لم يكن الثمن مدفوعا إليه لم يصدق في قول أبي حنيفة رحمه الله.
 وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان العبد قائما بعينه وكان مثله يشتري بذلك الثمن فالقول قول الوكيل وكلامهما ظاهر لأن الوكيل أقر بما به يملك إنشاءه فيقبل إقراره فيه كما لو كان العبد معيبا ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول تتمكن التهمة في إقراره هذا من وجهين أحدهما أنه ربما اشترى هذا العبد لنفسه فظهر أنه مغبون فيه فأراد أن يلزمه الآمر وهذا لا يوجد في العبد المعين لأنه لا يملك شراءه لنفسه بالثمن المسمى له والثاني أنه ربما كان هذا العبد في الأصل مملوكا له وهو يريد أن يلزمه الآمر بهذا الإقرار ولو باشر شراءه من نفسه للآمر لم يصح فتتمكن التهمة في إخراج كلامه مخرج الإقرار فلهذا لم يصح إقراره وإنما تعتبر هذه التهمة إذا قصد إلزام الثمن ذمته لأنه لا ولاية له على ذمته في إلزامه مطلقا بخلاف ما إذا كان الثمن مدفوعا إليه لأنه لا يلزم ذمة الآمر شيئا بل يجبر بأداء الأمانة فيما يجهل إضافته وإذا كان الآمر قد مات ثم أقر الوكيل بشراء هذا العبد فإن كان الثمن في يده بعينه أو في يد البائع أو كان الآمر لم يدفع الثمن إليه لم يصدق الوكيل على الآمر أما إذا لم يكن الثمن مدفوعا إليه فظاهر وكذلك إن كان الثمن مدفوعا إليه لأن

 

ج / 18 ص -123-    الوكالة قد بطلت بموت الآمر وصار ما في يده من الثمن ملكا للورثة فهو بهذا الإقرار يريد إبطال ملكهم في الثمن فلا يقبل قوله في ذلك بخلاف حال حياة الآمر لأن الوكالة قائمة وهو يملك إخراج الثمن من ملكه بإنشاء الشراء فكذلك الإقرار وإذا لم يقبل إقراره هنا يكون مشتريا لنفسه ويلزمه الثمن إلا أن يحلف الورثة على عملهم لأنهم لو أقروا بما ادعاه لزمهم والاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم وإن كان قد استهلك البائع الثمن فالقول قول الوكيل ويلزم البيع الميت لأنه بهذا الإقرار لا يخرج شيئا من ملك الورثة ولكنه ينكر وجوب الضمان عليه فما كان أمينا فيه فالقول قوله في ذلك وهذا مستحسن قد بيناه فيما أمليناه من شرح الجامع.
وإذا دفع رجل إلى رجل عبدا وأمره ببيعه ثم مات الآمر فأقر الوكيل أنه باعه بألف درهم وقبضه فإن كان العبد قائما لم يصدق الوكيل لأن الوكالة بطلت بموت الآمر والعبد صار مملوكا للوارث فإقراره بما يبطل فيه ملك الوارث باطل وإن كان مستهلكا صدق لأنه لا يبطل إقراره ملكا للوارث وإنما ينكر وجوب الضمان عليه فيما كان أمينا فيه ولو كان العبد لرجل أجنبي وقد استهلك المشتري العبد فقال رب العبد للبائع أنا أمرتك بالبيع فلي الثمن وقال الوكيل لم تأمرني فالقول قول رب العبد وله الثمن لأن الثمن يملك بملك الأصل والأصل كان مملوكا لرب العبد فالثمن يكون له والوكيل بجحوده الآمر مناقض من وجه لأن إقدامه على البيع كالإقرار منه بصحته وصحته بإذن صاحب العبد ومن وجه آخر هو لا يدعي لنفسه شيئا بهذا الجحود لأنه إن لم يكن مأذونا فلرب العبد أن يضمن المشتري القيمة ويرجع المشتري بالثمن على البائع فيأخذ رب العبد منه هذا الثمن بحساب القيمة فإن لم يكن الوكيل مدعيا لنفسه شيئا لم يقبل قوله.
 وكذلك إن كان العبد قائما وهذا أظهر لأن رب العبد يملك إجازة البيع فيه فلا تتمكن التهمة في إقراره بالإذن ولو لم يأمره بذلك ولكنه أجاز البيع فإن كان العبد قائما بعينه جاز وإن كان مستهلكا لم يجز لأن الإجازة في نفوذ العقد وثبوت حكمه بمنزلة الإنشاء فإنما تصح الإجازة في محل يصح إنشاء البيع فيه وإن كان لا يعرف أنه حي أو مستهلك فالبيع جائز حتى يعرف أنه ميت لأنه عرف حياته وما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه ويجب التمسك به حتى يعلم خلافه وإن كان قطع يده ثم أجاز البيع فالأرش للمشتري لأنه بمنزلة الزيادة المنفصلة والمشتري عند الإجازة يستحق المبيع بالزيادة المنفصلة وهذا لأن البيع الموقوف سبب ملك تام فإنما يوجد قطع اليد وللمشتري فيه سبب ملك تام فإذا تم له الملك بذلك السبب ملك الأرش وإن لم يجز البيع فالأرش لرب العبد لأن اليد المقطوعة على ملكه المتقرر فبدله يكون له.
وإن أقر رب العبد أنه أجاز البيع بعد ما وقع البيع بيوم وقال المشتري لم يجز والعبد قائم فالقول قول رب العبد لأنه يملك إنشاء الإجازة في الحال ولا يمين عليه لأنه غير

 

ج / 18 ص -124-     متهم في إخراج الكلام مخرج الإقرار ولو كان العبد ميتا فالقول قول المشتري لأن رب العبد لا يملك الإجازة في الحال فلا يقبل قوله في الإقرار به وعلى المشتري اليمين على علمه لأنه لو أقر رب العبد بما ادعاه لزمه فإذا كان العبد قبله رجل فوجب عليه قيمته فهو بمنزلة الميت لأن ابتداء الإجازة فيه لا يصح كما لا يصح إنشاء العقد فهو والميت في حكم الإجازة سواء والله أعلم.

باب الإقرار بالنكاح والطلاق
 قال رحمه الله: رجل أقر أنه تزوج فلانة بألف درهم في صحة أو مرض ثم جحده وصدقته في حياته أو بعد موته فهو جائز لأن النكاح ظهر في حقه بإقراره ثم لا يبطل بجحوده رجوعه فالرجوع عن الإقرار باطل فإذا اتصل به تصديق المقر له استند التصديق إلى وقت الإقرار وكان كالموجود يومئذ فيثبت النكاح ولها الميراث والمهر إلا أن يكون فيه فضل على مهر مثلها فيبطل الفضل إذا كان في المرض لأنها وارثة وهو متهم في الإقرار للوارث وما زاد على مهر المثل لو ثبت إنما يثبت بإقراره فأما مقدار مهر المثل فيثبت حكمه لصحة النكاح فلا تتمكن التهمة في إقراره به.
 ولو أقرت المرأة في صحة أو مرض أنها تزوجت فلانا بكذا ثم جحدته فإن صدقها الزوج في حياتها يثبت النكاح لما بينا أن جحودها بعد الإقرار باطل وإن صدقها بعد موتها لم يثبت النكاح في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا ميراث للزوج منها وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت النكاح اعتبارا لجانبها بجانبه بعلة أن النكاح ينتهي بالموت فإنه يعقد للعمر فمضى المدة ينهيه ولهذا يستحق المهر والميراث وإن لم يوجد الدخول والمنتهى متقرر في نفسه فيصح التصديق في حال تقرر المقرر به كما يصح قبل تقرره وأبو حنيفة رحمه الله فرق بينهما وأشار إلى الفرق في الكتاب فقال لأن الفراش له عليها لا لها وتقرير هذا من أوجه أحدها أن العدة تبقى بعد موته عليها والعدة من حقوق النكاح عليها فبقاؤها كبقاء النكاح في صحة التصديق وبعد موتها لا عدة في جانب الزوج فقد فات المقر به لا إلى أثر فلا يعمل التصديق بعد ذلك.
والثاني: أن الزوج مالك لحكم النكاح والمرأة محل الملك وبعد فوات المحل لا يتصور بقاء الملك حكما فيبقى الملك ببقاء المحل فيعمل بتصديقها ولهذا حل لها أن تغسله بعد موته ولم يكن له أن يغسلها بعد موتها والثالث إن الفراش لما كان له عليها فالزوج في التصديق بعد موتها مدع لنفسه لا أن يكون مقرا لها بشيء لأن حقها كان في ملك الحل وقد انقطع بموتها بالكلية فأما بعد موت الزوج فالتصديق من المرأة إقرار له على نفسها بالفراش فيصح التصديق بهذا الطريق ثم يبتني عليه حكم الميراث والمهر.
 وكذلك لو لم تكن المرأة جحدت بعد إقرارها حتى ماتت فهو على هذا الخلاف كما بينا وإن أقرت المرأة أنها تزوجت هذا الرجل وهي أمة وقد كانت أمة ثم عتقت وقال

 

ج / 18 ص -125-    الزوج قد تزوجتها بعد العتق أو قبله فهو سواء والنكاح جائز لأنهما تصادقا على نفوذ النكاح إن كان بعد العتق فظاهر وإن كان قبل العتق فقد كان يوقف على سقوط حق المولى أو سقط حقه بالعتق ثم الأصل بعد هذا فيما ذكر من المسائل أن أحد الزوجين متى أضاف الإقرار بالنكاح إلى حال ينافي أصل العقد لانعدام الأهلية يكون القول قوله إلا أن يثبت الآخر ما يدعيه بالبينة وذلك مثل أن يقول تزوجتك قبل أن أخلق أو قبل أن أولد أو قال تزوجتك وأنا صبي فإن الصبا يمنع الأهلية للعقد بدون أذن الولي أو يقول تزوجتك وأنا نائم فإن النوم حال معهودة في الإنسان تنافي أصل العقد وإن قال تزوجتك وأنا مجنون فإن علم جنونه قبل ذلك فالقول قوله لأنه أضاف العقد إلى حال معهودة تنافي أهلية العقد فكان منكرا معنى وإن كان لا يعرف جنونه فالنكاح لازم له لأنه أضافه إلى حال غير معهودة فيه ولا تثبت هذه الحال بخبره فأما إذا أحدهما النكاح إلى حال لا تنافي أصل النكاح كانعدام الأهلية ولكن يمنع ثبوت الحل وانعقاد العقد لانعدام شرطه لا يصدق في الإضافة ويجعل القول قول صاحبه لأن شرط الشيء تابع له فإقراره بأصل العقد إقرار بشرائطه فهو بعد ذلك في هذه الإضافة راجع عن الإقرار بباطل وبيانه أنه لو ادعى أحدهما أن النكاح كان بغير شهود أو في حال ادعى تمجس المرأة قبل أن تسلم أو في عدة الغير أو تزوجها وأختها تحته أو تزوجها وتحته أربع نسوة فإنه لا يصدق في هذه الإضافة لأن امتناع ثبوت النكاح في هذه الأحوال لمعنى في المحل والمحل في حكم المشروط وإقراره بالعقد إقرار بشرطه إلا أن المرأة إن كانت هي التي ادعت هذه الموانع فالنكاح جائز لازم لها وإن كان الزوج هو الذي ادعى ذلك يفرق بينهما لأنه أقر بحرمتها عليه وذلك بمنزلة تطليقه إياها وإن كان قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وإن كان بعد الدخول بها فلها جميع المسمى ونفقة العدة.
وكذلك لو أقر أنه كان طلقها ثلاثا ثم تزوجها قبل أن تنكح زوجا غيره وقالت هي ما طلقتني أو تزوجت غيرك ودخل بي فإنه يفرق بينهما لإقراره بذلك وعليه نصف المهر لها قبل الدخول وجميع المهر ونفقة العلة الدخول لما بينا.
ولو أقر أنه تزوجها أمس وقال إن شاء الله موصولا وقالت هي ما استثنى لم يلزمه النكاح وكذلك لو أقرت هي بالنكاح وادعت الإستثناء وادعى هو النكاح لأن الإستثناء إذا اتصل بالكلام فهو بمنزلة الشرط مانع كون الكلام إيجابا فكان هو بهذا اللفظ منكرا لأصل العقد لا مقرا به فيجعل القول في ذلك قوله والذي بينا في النكاح مثله في الطلاق في دعوى الإستثناء وفي الإضافة إلى حال منافية لأصل الطلاق كحال النوم والصبا والجنون إذا كان يعرف ذلك أنه إصابة للمعنى الذي بينا.
ولو قال رجل لامرأة: ألم أتزوجك أمس أو أليس تزوجتك أمس أو أما تزوجتك أمس فقالت بلى وجحد الزوج فهذا إقرار بالنكاح منهما لما بينا فيما سبق أن جواب

 

ج / 18 ص -126-    الاستفهام بنفي يكون حرف بلى وما تقدم من الخطاب يصير معادا في الجواب وعلى هذا الطلاق إذا قال ما طلقتك أمس أو ليس قد طلقتك أمس فقالت نعم أو بلى فهذا إقرار بالطلاق وكذلك إن قالت المرأة ذلك وقال الزوج بلى فهو إقرار لما بينا ولو قال لها قد تزوجتك أمس فقالت لا ثم قالت بلى وقال هو لا لزمه النكاح لأن إقراره لم يبطل بتكذيبها فإن النكاح عقد لازم لا يبطل بجحود أحد الزوجين فصح تصديقها بعد التكذيب ويثبت النكاح بينهما ثم إن أنكر الزوج النكاح بعد ثبوته بتصادقهما فلا معتبر بإنكاره وإذا أقر أنه طلقها منذ ثلاثة أشهر فإن كان تزوجها منذ شهر لم يقع عليها شيء لأنه أضاف الطلاق إلى وقت قبل النكاح ولا طلاق قبل النكاح وإن كان تزوجها منذ أربعة أشهر وقع الطلاق عليها لكونه مالكا للانتفاع في الوقت الذي أسند الطلاق إليه إلا أنها إن صدقته في الإسناد فعدتها من حين وقع الطلاق وإن كذبته في الإسناد فعدتها من وقت إقرار الزوج به لأن في العدة حقها من حيث أنها تستوجب النفقة والسكنى فلا يقبل قوله في الإسناد إذا لم تصدقه في ذلك لما فيه من إبطال حقها.
ولو قال: فلانة طالق وذلك أسم امرأته أو قال عنيت غيرها لم يصدق في الحكم لأن كلامه إيقاع شرعي ولأنه له الإيقاع على زوجته دون غيرها فإذا قال عنيت غيرها كان الظاهر مكذبا له في مقالته فلا يصدق في الحكم وكذلك لو قال ابنة فلان طالق وأسم أبيها ما قال طلقت ولم يصدق في قوله لم أعن امرأتي وكذلك لو نسبها إلى أمها أو إلى ولدها فإذا قال عنيت غيرها يكون الظاهر مكذبا له في مقالته وكذلك كلامه صالح للإيقاع عليها فهو بما يدعي بعد ذلك يريد أن يخرج كلامه من أن يكون إيقاعا فلا يصدق على ذلك في الحكم .
لو أقر بعد الدخول أنه كان طلقها قبل أن يدخل بها وقد سمى لها مهرا فالطلاق واقع عليها لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لا ينافي الوقوع فيه فيجعل موقعا للطلاق ولها عليه مهر ونصف لأنه أقر أن نصف المهر عليه بالطلاق قبل الدخول وأنه وطئها بالشبهة بعد ذلك فيلزمه مهر بالوطء ونصف مهر بالطلاق قبل الدخول والله أعلم بالصواب .

باب إقرار المحجور والمملوك
 قال رحمه الله: وإذا حجر القاضي على حر ثم أقر المحجور عليه بدين أوغصب أو بيع أو عتق أو طلاق أو نسب أو قذف أو زنا فهذا كله جائز عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله الأول لأن الحجر على الحر بسبب السفه باطل عندهما فإقراره بعد الحجر كإقراره قبله قال ألا ترى إنه لو شهد قبلت شهادته إن كان عدلا ومعنى هذا معنى الاستشهاد وأن الإقرار ملزم كالشهادة فإذا كان بسبب السفه لا يؤثر في إفساد عبارته ولا يخرجه من أن يكون ملزما بطريق الشهادة فكذلك بطريق الإقرار على قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وهو قول محمد رحمه الله والحجر عليه صحيح ولا يجوز إقراره بعد ذلك بدين ولا بيع كما لا يجوز مباشرته هذه الأسباب عندهما

 

ج / 18 ص -127-    والحاصل أن تأثير الحجر عندهما كتأثير الهزل لأن فعل السفيه لا يكون على نهج أفعال العقلاء لمكابرته عقله كما أن فعل الهازل لا يكون على نهج أفعال العقلاء لقصده غيره فكل ماأثر فيه الهزل أثر فيه الحجر فلا يصح إقراره به وما لا يؤثر فيه الهزل لا يؤثر فيه الحجر ولكن هذا يبطل بالشهادة حتى إذا علم القاضي أن الشاهد قد قصد الهزل بشهادته لا تقبل شهادته ثم الحجر لا يكون مؤثرا فيه وهذه مسألة كتاب الحجر.
وإذا أقر الرجل لصبي صغير لقيط بدين مائة درهم فهو لازم له لأن الصغير أهل أن يجب له الحق على غيره وتصحيح الإقرار محض منفعة له والصبا لا يوجب الحجر عن ذلك وكذلك لو قال أقرضني الصبي والصبي بحال لا يتكلم ولا يقرض فالمال لازم له لاحتمال أن يكون الولي باشر هذا السبب وإضافة المقر به إلى الصبي بطريق باشره إنما باشره له ولأن أكثر ما في الباب أن هذا السبب لا يثبت لأنه لا يتصور من الصبي ولكن امتناع ثبوت السبب لا يمنع ثبوت المال بإقراره كما لو كذبه المقر له في السبب بأن قال لك علي ألف درهم من قرض أقر ضتنيه وقال المقر له ما أقرضتك بل غصبتها مني فالمال لازم وإن لم يثبت السبب التكذيبه إياه .
على هذا لو قال:أودعني هذا الصبي أو هذا العبد مائة درهم أو أقر بذلك لمجنون فإقراره بأصل المال صحيح والسبب باطل لما قلنا ولو أقر أنه كفيل لهذا الصبي عن فلان بألف درهم والصبي لا يعقل ولا يتكلم فهذا باطل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو جائز في قول أبي يوسف الآخر رحمه الله.
وأصل المسألة أن من كفل لغائب بمال ولا يقبل عن الغائب أحد فهو باطل عندهما صحيح عند أبي يوسف رحمه الله فكذلك إذا كفل لصبي عند أبي حنيفة رحمه الله العقد باطل وإقراره بالعقد الباطل لا يلزمه شيئا وعلى قول أبي يوسف رحمه الله العقد صحيح والمال لازم له لإقراره به على نفسه للصبي قال كأن كان أبو الصبي أو وصيه خاطبه بهذه الكفالة فالكفالة باطلة على معنى أنها غير لازمة بل هو موقوف فإذا أدرك الصبي ورضي بها جازت وإن رجع الرجل قبل أن يدرك الصبي بطلت في قولهما لأن عقد الكفالة لا يثبت الولاية للأب والوصي والكفالة وإن كانت لا توجب براءة الأصيل وهو تمليك للدين من الكفيل من وجه حتى إذا أدى رجع على الأصيل بحكم الأداء.
وبين العلماء رحمهم الله اختلافا في براءة الأصيل بحكم الكفالة فكان بن أبي ليلى رحمه الله يقول الكفالة توجب براءة الأصيل كالحوالة ولو اجتهد قاض قال بهذا القول وقضى به نفذ وفيه إضرار الصبي فلهذا لا يملك الأب والوصي ذلك بل هما فيه كسائر الأجانب إذا بلغه وصح رجوع الكفيل قبل إجازته فكذلك هنا تتوقف على إجازة الصبي إذا أدرك وصح رجوع الكفيل قبل إدراكه لأن العقد لم يلزم بعد.
ولو أقر أنه رهن هذا اللقيط لفلان بمائة درهم واللقيط لا يتكلم جاز على الكفيل ولا

 

ج / 18 ص -128-    يلزم الصبي شيء لأن إقرار المقر على نفسه صحيح وعلى اللقيط باطل وليس من ضرورة امتناع وجوب المال على الأصيل امتناع وجوبه على الكفيل ألا ترى أنه لو أقر بالكفالة عن بالغ وجحد البالغ وجوب المال عليه فإن الكفيل ضامن له وإن لم يجب على الأصيل شيء وهذا لأن الصبي أهل أن يجب المال عليه بحال لأن له ذمة صحيحة فيجعل في حق المقر كان ما أقر به حق وإن امتنع ثبوته في حق الصبي كمن قال لآخر كفلت لك عن فلان الغائب بمائة درهم التي أقرضته أمس ويعلم أن الغائب لم يقدم منذ سنة فالمال واجب على الكفيل للمعنى الذي بينا ولو كفل عن رجل لرجل حاضر بمائة درهم بغير أمره فقال المكفول عنه قد رضيت بكفالتك ثم قال الطالب قد رضيت بضمانك لي فالضمان جائز ويرجع الكفيل إذا ادعى المكفول لأن رضا المكفول عنه بالكفالة حصل قبل تمام العقد فإن تمامه بقبول الطالب فكان هذا بمنزلة أمره إياه بأن يكفل عنه فإذا أدى يرجع عليه فلو قال المكفول له أولا قد رضيت ثم قال المكفول عنه قد رضيت كان رضاه باطلا ولم يرجع الكفيل بالمال إذا أداه لأن الكفالة تمت بقبول الطالب ولزم المال الكفيل إذا أداه لأن الكفالة تمت بقبول الطالب ولزم المال الكفيل على وجه لا يرجع إذا أدى فلا يتعين ذلك برضا المكفول عنه بعد ذلك لأن رضاه وإجازته إنما تؤثر في الموقوف لا في النافذ.
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فأما على قول أبي يوسف رحمه الله الآخر الكفالة تتم بالكفيل قبل قبول الطالب فيستوي الجواب في الفصلين ولا يعتبر رضا المكفول عنه في إثبات الرجوع للكفيل في الفصلين جميعا وقول المكفول عنه قد ثبتت كفالتك أو سلمتها أو أجزتها مثل قوله قد رضيت بها لأن المعنى يجمع الفصول كلها ولو أن الكفيل بعد ما رضي المكفول عنه رجع عن الكفالة قبل رضا المكفول له بها لم يلزمه المال في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لما بينا أن نفوذ العقد برضا المكفول له فرجوع الكفيل قبل نفوذ العقد صحيح وإقرار العبد التاجر للأجنبي بدين أو وديعة أو إجارة جائز وإن كان عليه دين يحيط بقيمته وما في يده لأن هذا كله من أسباب التجارة ومن جملة صنع التجارة والإذن فك الحجر عنه فيما هو من عمل التجارة ولا يخل هذا الفك بوجوب الدين عليه فإقراره بهذه الأسباب بعد وجوب الدين كإقراره قبله وإن أقر لمولاه بدين عليه أو وديعة في يده وعليه دين مستغرق لم يجز إقراره لأن المولى يخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث فكما أن تعلق حق الغرماء بمال المريض يمنعه من الإقرار للوارث فكذلك تعلق حق الغرماء بكسب العبد ورقبته يمنعه من الإقرار لمولاه إلا أن تعلق حق الغرماء هناك في حق المرض وهنا التعلق ثابت في صحة العبد ومرضه ولا يجوز إقرار العبد التاجر للأجنبي بجناية ليس فيها قصاص لأن هذا من التجارة والإذن فك الحجر عنه في التجارات ففيما ليس بتجارة المأذون والمحجور سواء وإقرار العبد على مولاه باطل.
وإذا أقر بقتل عمدا جاز إقراره وعليه القصاص لأنه يقر به على نفسه فإن المستحق

 

ج / 18 ص -129-    بالقصاص دمه وهو في حكم الدم مبقي على أصل الحرية ولأن المولى لا يملك الإقرار عليه بالقصاص وفيما لا يملكه المولى على عبده العبد بمنزلة الحر كطلاق زوجته يصح إقراره به كما يصح إقراره بإيقاعه وكذلك إذا أقر على نفسه بسبب موجب للحد كالقذف والزنا وشرب الخمر وكذلك إذا أقر بسرقة مستهلكة موجبة للقطع وفي إقرار المحجور عليه بسرقة مال قائم بعينه في يده خلاف معروف في كتاب السرقة فأما إقرار المأذون به فصحيح في حق المال والقطع جميعا لأنه يملك الإقرار بكل واحد منهما أما بالمال فلانفكاك الحجر وأما بالقطع فإنه مبقي فيه على أصل الحرية ولا يجوز إقراره في رقبته بمهر امرأة ولا بكفالة بنفس ولا بمال ولا بعتق عبد له ولا بمكاتبته ولا بتدبيره لأن هذا كله ليس من التجارة فالمأذون فيه كالمحجور .
إذا أقر بنكاح امرأة جاز إقراره غير أن المولى له أن يفرق بينهما بمنزلة ما لو أنشأ العقد فللمولى أن يفرق بينهما لأن النكاح تصرف مملوك للمولى عليه وهو ليس من التجارة في شيء بخلاف إقراره بالطلاق فإن ذلك غير مملوك للمولى عليه وينفرد به العبد إنشاء وإقرارا ولو أقر العبد التاجر أنه افتض امرأة بإصبعه أمة كانت أو حرة لم يلزمه شيء في قول أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ويلزمه ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله وجه قوله أن الإقرار بالافتضاض بمنزلة الإقرار بالغصب والاستهلاك .
لا ترى أنه لو ثبت هذا بالبينة عليه يباع فيه ولا يدفع بمنزلة الغصب والاستهلاك بخلاف الجناية وإقرار العبد المأذون بالغصب والاستهلاك صحيح يؤاخذ بضمانه في الحال وهذا لأن الغاصب بالافتضاض وإن لم يكن مالا فإنه يسلك به مسلك الأموال حتى يملك بالعقد مقصودا ويستحق بالبيع شرطا وإقراره بضمان المال صحيح وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن هذا الإقرار بالجناية لأن الفعل بالإصبع جناية محضة والمتلف به جزء من الآدمي والمأذون في الإقرار بالجناية كالمحجور فكما أن المحجور لو أقر بهذا لم يصح إقراره لأنه مقر على مولاه فكذلك إذا أقر به فأما قوله أنه يباع فيه فقد قيل أنه قول أبي يوسف رحمه الله خاصة وبعد التسليم يقول من حيث إن هذا الجزء يستحق بالعقد هو بمنزلة المال ومن حيث إنه جزء من الآدمي هو ملحق بما ليس بمال وما تردد بين أصلين يوفر عليه حظه منهما فلشبهة المال.
قلنا :ذا ثبت بالبينة سببه يباع العبد فيه ولشبهه بما ليس بمال لا يثبت على العبد بإقراره وهذا لأن الدفع إنما يصير مستحقا بفعل هو خطأ إذا كان استحقاق القصاص بعمده ولا يستحق القصاص بعمد هذا الفعل بحال فكذلك لا يستحق دفع العبد به وإذا تعذر ذلك تعين جهة البيع فيه ولكن إذا ثبت السبب ثبت بما هو حجة في حق المولى .
لو أقر العبد بتزويج أمته وأنه قد أقبضها لم يلزم مهر لواحد منهما في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يعتق لأن النكاح ليس المأذون والمحجور فيه في الإقرار سواء

 

ج / 18 ص -130-    وقال أبو يوسف رحمه الله في الحرة كذلك الجواب أطلقه في رواية أبي سليمان رحمه الله وفي رواية أبي حفص رحمه الله قال إذا كانت كبيرة لأن وجوب المهر بالعقد لها وهذا العقد ليس من التجارة فهي قد رضيت بتأخيره حين طاوعت العبد فيه فأما إذا كانت أمة فإن كان المولى زوجها له لم يلزمه شيء حتى يعتق لأن المولى صار راضيا بتأخير حقه وإن لم يكن المولى زوجها فهو مؤاخذ بالمهر في الحال لأن المتعلق بالافتضاض من الأمة في حكم المال حتى يستحق بالبيع شرطا وهو مملوك للمولى وإقرار العبد المأذون بإتلاف مال مملوك للمولى صحيح في إيجاب الضمان عليه فيلزمه المهر هنا باعتبار الإتلاف دون العقد .
إن كانت الأمة ثيبا لم يلزمه شيء حتى يعتق لأن بالوطء هنا لم يتلف شيئا مما هو مال وإنما وجوب المهر باعتبار عقد النكاح وإقرار المأذون به غير صحيح في حق مولاه لأنه ليس من التجارة في شيء ثم ذكر في نسخ أبي سليمان رحمه الله بعد هذا وإن كان ذهب العبد بها إلى منزله وهي بكر يعلم ذلك فمولاها بالخيار إن أراد أن يضمنه العذرة بالغصب فله ذلك وإن أراد أن يضمنه بالوطء فلا شيء عليه حتى يعتق ولم يذكر هذا الفصل في نسخ أبي حفص رحمه الله ولا في كتاب الإقرار لأبي يوسف رحمه الله فقال مشايخنا رحمهم الله الصحيح أن هذا التفريع على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا على قول أبي يوسف رحمه الله لأن العبد حين ذهب بها إلى منزل مولاه فقد صار غاصبا لها بجميع أجزائها وضمان الغصب يؤاخذ به المأذون في الحال فإذا اختار المولى تضمينه ما ذهب من العذرة عنده لا بوطئه بل بالغصب السابق كما لو عايناه أنه غصب أمة عذراء وردها بعد زوال عذرتها وإن اختار تضمينه بالوطء ففي الوطء وجوب المهر باعتبار العقد فلا يؤاخذ به المأذون في الحال حتى يعتق وعلى قول أبي يوسف رحمه الله مع الوطء هنا إتلاف العذرة فيضمن باعتبار الحال لحق مولاه ويصح إقراره بمنزلة إقراره بإتلاف المال.
ولو أقر العبد التاجر أنه وطىء أمة اشتراها فافتضها ثم استحقت فعليه مهرها للحال لأن الافتضاض هنا بالوطء ترتب على سبب هو تجاوزه وهو البيع الذي لولاه لكان الواجب عليه الحد فكان الضمان الواجب بسبب التجارة من جنس ضمان التجارة فصح إقرار العبد به في الحال بخلاف ما سبق فالسبب هنا عقد النكاح والنكاح ليس من التجارة في شيء فلا يصح إقرار العبد به في الحال والدليل على أن السبب معتبر أن الوكيل بالبيع إذا باع بيعا فاسدا وقبضه المشتري ضمن القيمة كما يضمنها بالغصب ولكن الوكيل هو الذي يستوفيه دون الموكل لأن وجوب هذه القيمة بسبب عقد الوكيل فيجعل معتبرا بضمان العقد وإن كان هو في الحقيقة ضمان العين.
قال في الكتاب: أرأيت لو أقر أن عينها ذهبت من عمله أو من غير عمله لم يضمن ولو أقر أن عذرتها ذهبت عنده من غير وطء ضمن كما يضمن العين المستحق وهذا يبين الفرق بين هذا وبين النكاح فإن سبب النكاح لا يضمن العين إذا ذهبت من غير عمله ولو أقر

 

ج / 18 ص -131-    أنه وطىء صبية بشبهة فاذهب عذرتها فأفضاها لم يلزمه شيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هكذا قال في نسخ أبي سليمان رحمه الله وفي نسخ أبي حفص رحمه الله قال في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهما الله والمراد أنه لا يلزمه شيء حتى يعتق لأن إقراره بوجوب المهر بالوطء بالشبهة بمنزلة إقراره بوجوب المهر بسبب النكاح وقد بينا أن هناك في حق الحرة لا يلزمه بإقراره شيء حتى يعتق فهذا مثله وتبين بما ذكر هنا في نسخ أبي حفص رحمه الله أن فعله الكبيرة هناك غير معتبر في قول أبي يوسف رحمه الله فأما ضمان الإفضاء فهو ضمان الجناية وإقرار العبد بالجناية لا يصح مأذونا كان أو محجورا لأنه أقر على مولاه.
وكذلك لو أقر أنه وطىء أمة بشبهة فاذهب عذرتها وأفضاها بغير إذن مولاها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن إقراره بالوطء بالشبهة بمنزلة إقراره بالوطء بالنكاح وفي قول أبي يوسف رحمه الله إن كان البول لا يستمسك لا يلزمه شيء لا في الحال ولا بعد العتق لأن من أصل أبي يوسف رحمه الله أن الإفضاء بهذه الصفة يوجب كمال الدية في الحرة دون المهر على ما ذكره في كتاب الحدود فيكون هذا إقرارا بالجناية وذلك غير صحيح من العبد وإن كان البول يستمسك قال في نسخ أبي سليمان رحمه الله يصدق في المهر ويكون دينا عليه اليوم ولا يصدق في الإفضاء لأن الإفضاء بهذه الصفة في الحرة يوجب ثلث الدية والمهر فإقرار العبد صحيح في حق المهر عند أبي يوسف رحمه الله كما في مسألة النكاح إذا أقر أنه أذهب عذرتها بغير تزويج المولى وفي الإفضاء لا يصدق لأنه ضمان جناية وفي نسخ أبي حفص رحمه الله قال وإن كان البول يستمسك فلا يصدق في المهر فلا يكون دينا عليه ووجه هذه الرواية أن الجناية قد تحققت هنا بالإفضاء فلم يبق إذهاب العذرة بالوطء معتبرا وإنما كان وجوب المهر باعتبار الوطء خاصة فهو نظير قوله في المسألة الأولى إذا كانت ثيبا وإقراره بالجناية لا يكون معتبرا صحيحا أصلا بمنزلة إقرار المحجور عليه وما ذكر في نسخ أبي سليمان رحمه الله أشبه بالصواب وإقرار العبد المأذون بالشركة في شيء خاص أو في تجارة كثيرة جائز لأن الشركة من عقود التجارة وهو من صنع التجارة فإقرار العبد به صحيح .
إن أقر بشركة مفاوضة جاز عليه فيما في يده كله ولم يكن مفاوضا لما بينا أن الرقيق ليس من أهل المفاوضة فبطل إقراره بها ويبقى معتبرا في استحقاق المقر له نصف ما في يده لأنه أهل للإقرار بجميع ما في يده لغيره فكذلك بنصفه وقد بينا أنه ليس من ضرورة امتناع ثبوت المفاوضة امتناع ثبوت الشركة في المال ولو كان مولى العبد المأذون مرتدا أذن له في حال إسلامه أو بعد ارتداده ثم أسلم المولى أو قتل على ردته فالعبد في أقاريره في حال ردة مولاه بمنزلة المحجور عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إقراره جائز لأن تصرفات المرتد عندهما لا تتوقف وكذلك ملكه بنفس الردة لا يتوقف فيبقى العبد مأذونا له على حاله.

 

ج / 18 ص -132-    وعند أبي حنيفة رحمه الله: ملكه يتوقف بنفس الردة كما يتوقف نفسه ولهذا قال يتوقف تصرفه في المال وإذنه للعبد كان بمطلق ملكه فإذا توقف ملكه بالردة لم يبق العبد مأذونا وإذا كان حكم الإذن لا يبقى بعد الردة فلأن لا يثبت ابتداء في الردة بطريق الأولى فلهذا كان إقراره بمنزلة إقراره المحجور عليه وإذا ولدت الأمة التاجرة وعليها دين أو لم يكن عليها دين لم يكن ولدها مأذونا له في التجارة لأن ولدها ملك المولى فلا يصير مأذونا إلا أن يأذن له المولى في حال أهليته لذلك وهذا بخلاف الكتابة فإن ولد المكاتبة كأمة لأن ذلك حق لازم فيها فيسرى إلى ولدها والإذن في التجارة ليس بحق لازم في الأم هنا فلا يسري إلى الولد ولأن المقصود بالكتابة العتق والولد ينفصل عنها وهو ليس بأهل لذلك.
وإذا أقر الأجير أن ما في يده من قليل وكثير من تجارة أو متاع أو مال عين أو دين فهو لفلان وقال أنا أجير له فيه فهو جائز لأنه أقر له بمنافع نفسه وما في يده وما كان في يده يومئذ من شيء فهو لفلان كله لا حق للأجير فيه لإقراره بجميع ذلك له والإقرار عاما يصح كما يصح خاصا غير أني أستحسن في الطعام والكسوة فاجعلهما للأجير وفي القياس هما للمقر له لأن ذلك له من قليل في يده وكثير ولكنه استحسن فقال الأجير محتاج إلى ذلك فحاجته تدل على أنه اتخذ ذلك لنفسه فيصير ذلك مستثنى من عموم إقراره كما يصير الطعام والكسوة مستثنى من عموم شركة المفاوضة وهذا استحسان مثل ما استحسنا في ثياب بدل الأجر إذا كان يعمل في بيت الأستاذ عند اختلافهما فيها فيجعل القول قول الأجير فيه بخلاف سائر الأمتعة وإن لم يعرف ما كان في يده يوم أقر فالقول قول الأجير فيما إذا قال أصبته بعد إقراري لأنه لا يعرف ما في يده إلا من جهته .
قد بينا أن في كل إقرار لا يقع الاستغناء به عن بيان المقر يجعل بيانه مقبولا فيه ولو أقر الأجير أن ما في يده من تجارة كذا فهو لفلان كان ما في يده من تلك التجارة وقت إقراره لفلان لتقييده الإقرار بذلك وما كان في يديه من غير تلك التجارة فليس لفلان منه شيء والقول في بيانه قول المقر وكذلك ما كان في يده من تلك التجارة وادعى أنه أصابه بعد إقراره فالقول قوله مع يمينه لأنه ما وقع الاستغناء عن بيانه بإقراره فوجب قبول بيانه في ذلك.
وإذا أقر الأجير أن ما في يده من تجارة أو مال لفلان وفي يده صكوك ومال عين فهو كله لفلان لأن ذلك كله من التجارة فإن ما في الصكوك وجب بسبب التجارة وهو مال من وجه باعتبار ماله فيتناوله عموم إقراره ولو أقر أن ما في يده من طعام فهو لفلان وفي يده حنطة وشعير وسمسم وتمر لم يكن من ذلك لفلان إلا الحنطة لأن الإقرار من جنس التجارة وأسم الطعام فيما هو تجارة لا يتناول إلا الحنطة وقد بينا ذلك فيما سبق ولو لم يكن في يده من الحنطة شيء فلا شيء للمقر له لانعدام المقر به في المحل الذي عينه بإقراره وهو يده والله أعلم

 

ج / 18 ص -133-    باب اليمين والإقرار في الرق
قال رحمه الله: رجل قال لفلان على ألف درهم إن حلف أو علي أن يحلف أو متى حلف أو حين حلف أو مع يمينه أو في يمينه فحلف فلان على ذلك وجحد المقر بالمال لم يؤخذ بالمال لأن هذا ليس بإقرار ولكنه مخاطرة ومعناه إنه علق الإقرار بشرط فيه خطر وهو يمين الخصم والتعليق بالشرط يخرج كلامه عن أن يكون إقرارا كالاستثناء وأن لم يجعل هذا شرطا كان جاعلا اليمين سببا لوجوب المال ويمين المدعي ليس بسبب لاستحقاق المال فإن الشرع جعل اليمين لدفع الاستحقاق فلا يكون سببا للاستحقاق وليس له ولأنه جعل ما ليس بسبب سببا قال وكذلك الإبراء من المال على مثل هذه المخاطرات باطل فإن قال الطالب إن حلفت عليها فأنت بريء منها فهذا تعليق الشراء بالمخاطرة والبر أن لا يحتمل التعليق بالإخطار.
فإن قيل: أليس أن يمين المنكر توجب براءته شرعا قلنا عن اليمين لا فإنه لو حلف في غير مجلس الحكم لا تثبت به البراءة وكذلك في مجلس الحكم اليمين لا توجب البراءة ألا ترى أن بينة المدعي بعدها مسموعة ولكن إنما لا يكون له أن يخاصمه بعد يمينه لانعدام الحجة من إقرار أو نكول أو بينة فتتأخر خصومته إلى أن يجد حجة لا أن تكون اليمين موجبة للبراءة ولو ادعى الطالب عليه المال فحكما رجلا فحلفه فإن حلف انقطعت الخصومة لأن الحكم في حقها كالقاضي وباليمين في مجلس القاضي تنقطع الخصومة إلا أن يجد البينة فإن أبى أن يحلف فقضي الحكم عليه بالمال كان جائزا بمنزلة ما لو كان عند القاضي وهذا هو الأصل إن كل يمين لو امتنع منها يستحق القضاء بها عليه فإذا حلف تنقطع الخصومة به وفي كل يمين لو امتنع منها لا يصير القضاء مستحقا عليه فالخصومة لا تنقطع بتلك اليمين وقد بينا أن النكول في مجلس القضاء بمنزلة الإقرار وفيه فصول تقدم بيانها في كتاب الدعوى.
وإذا أقر رجل أو امرأة أو صبي يعقل أو لقيط لم يجر فيه حكم العتق بالرق لرجل فهو جائز لصنع المقر له به ما يصنع بمملوكه أما البالغ إذا أقر به فهو غير مشكل لأنه أقر على نفسه بأمر محتمل وليس هنا دليل يكذبه في ذلك شرعا فأما الصبي إذا أقر به فقد كان ينبغي أن لا يصح إقراره لأن قول الصبي معتبر فيما ينفعه دون ما يضره والإقرار بالرق ليس مما ينفعه ولكنه لما صار عاقلا وجب اعتبار قوله في نفسه بمنزلة البائع.
ألا ترى أنه لو ادعى أنه حر ومن هو في يده يزعم أنه عبد جعل القول فيه قول الصبي وإذا وجب اعتبار قوله إذا ادعى حرية نفسه وجب اعتبار قوله في ضده أيضا كما أنه أيضا لما اعتبر قوله واعتقاده إذا أسلم اعتبر ذلك إذا ارتد أيضا ولأن هذا الإقرار ينفعه عاجلا لأنه يستوجب النفقة على مولاه ولأن إقراره بالرق سكوت منه عن دعوى الحرية لا محالة وانقياد للمقر له حتى يثبت عليه يده وإذا ثبتت عليه يده وهو يدعي رقيته وجب قبول قوله كما إذا كان صبيا لا يعقل

 

ج / 18 ص -134-    وإن كان المقر حر الأصل معروفا بذلك لا يجوز إقراره بالرق لأنه مكذب فيه شرعا باعتبار حرية الأصل فيكون إقراره هذا إبطالا لحريته وإيجابا للرق على نفسه وذلك ليس تحت ولاية أحد وكذلك إن كان معتقا لرجل فأقر بالرق لآخر لم يصح إقراره لأن ولاءه ثابت للذي أعتقه والولاء كالنسب ومعروف النسب من إنسان إذا أقر بالنسب لغيره لم يصح فكذلك هنا قال إلا أن يصدقه الذي أعتقه فحينئذ يجوز إقراره لأنه المانع حقه فلا يبقى بعد تصديقه وهذا بخلاف النسب فإن هناك صاحب النسب المعروف وإن صدقه لم يثبت النسب من المقر له لأن النسب لا يحتمل الإبطال بعد الثبوت بحال بخلاف الولاء فإن المعتقة إذا ارتدت ولحقت فسبيت فأعتقت كان الولاء عليها للثاني دون الأول فتصديق المعتق الأول هنا عامل في إبطال حقه فكان مملوكا للمقر له وإذا كان عبد في يد رجل فأقر أنه مملوك لآخر وقال الذي هو في يده أنت عبدي فالقول قول ذي اليد لأن المملوك حين أقر به لم يبق له يد معتبرة في نفسه فهو بمنزلة الثابت فالقول فيه قول ذي اليد لاستحقاقه رقبته بيده وإذا لم يكن العبد في يد أحد فالقول فيه قول العبد لأنه لا استحقاق لأحد فيه فهو بإقراره لأحدهما يصير منقادا له فتثبت اليد عليه للمقر له ويكون في الحكم كأنه في يده فيجعل مملوكا له ولو كان العبد في يد قصار أو في مكتب فقال أنت عبدي وقال العبد بل أنا عبد فلان أسلمني إليك وادعاه فلان فالقول قول القصار وصاحب المكتب لأن العبد حين أقر بالرق فقد سقط اعتبار يده في نفسه فيكون القول في الملك قول من هو في يده وبخلاف ما إذا قال أنا حر لأنه هنا لم يقر بالرق على نفسه فبقيت يده في نفسه معتبرة وهي أقرب الأيدي إليه فلا تظهر مع ذلك يد ذي اليد فيه .
إذا كانت أمة في يد رجل فقالت أنا أم ولد لفلان أو مكاتبته أو مدبرته وصدقها فلان وقال ذو اليد بل أنت أمة لي فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القول قول ذي اليد وعلى قول أبي يوسف رحمه الله القول قول الأمة والمقر له لأن دعواها حق الحرية بمنزلة دعواها حقيقة الحرية ولو قالت أنا حرة كان القول قولها ولا يثبت استحقاق يد ذي اليد عليها إلا بحجة فكذلك هنا توضيحه أن المكاتبة في يد نفسها كالحرة فلا تظهر يد ذي اليد فيها مع دعواها أنها مكاتبة كما لا يظهر مع دعواها أنها حرة وهذا نوع استحسان ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله والقياس قولها لأنها أقرت بالرق المسقط لاعتبار يدها في نفسها فلا تسمع دعواها إلا بحجة.
ألا ترى أنها لو ادعت شيئا من ذلك على ذي اليد لم تسمع إلا بحجة فكذلك إذا ادعت على غيره وتصديق المقر له ليس بحجة في حق ذي اليد فوجوده كعدمه ولو قال المقر له هي أمة لي غير مدبرة كان القول فيها قول ذي اليد بالاتفاق فكذلك إذا صدقها في التدبير وعلى هذا الخلاف لو قالت كنت أمة لفلان فأعتقني وصدقها فلان بذلك فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هي أمة لذي اليد لأنها أقرت بالرق ثم ادعت زواله بسبب

 

ج / 18 ص -135-    حادث وعند أبي يوسف رحمه الله هي حرة لأنها لم تقر بالرق لذي اليد وزعمت أنها حرة في الحال ففي حق ذي اليد هذا ودعواها حرية الأصل سواء ولكن هذا غير صحيح لأن دعواها حرية الأصل تتم بها ودعواها العتق من فلان لا يتم إلا بتصديق من فلان وتصديق فلان ليس بحجة على ذي اليد ولو كان في يد رجل غلام فقال أنا بن فلان وأمي أم ولد له وقال ذو اليد أنت عبدي وأمك أمتي وقال المقر له هو أبني ففي قول أبي حنيفة رحمه الله هذا كالأول وهما جميعا لذي اليد لأنه أقر أنه جزء من مملوكه فكما لم يقبل قول الأمة في ذلك على ذي اليد فكذلك قوله جزء منها.
وأبو يوسف رحمه الله قال: القول قوله في ذلك كما بينا في الفصل الأول لأنه يجعل القول في ذلك قول الأمة استحسانا وأما محمد رحمه الله فإنه يقول هنا أجعل الولد حرا ابنا للذي ادعاه استحسانا وكذلك لو قال للذي هو في يده أنا ابنك من أم ولد لك هذه وكذبه المولى أجعله حرا استحسانا في قول محمد رحمه الله نص على قوله هذا في بعض نسخ الإقرار ووجهه أن الولد هنا يدعي حرية الأصل لنفسه سواء ادعى أنه بن ذي اليد أو بن غيره وفي حرية الأصل القول قوله كما لو قال أنا حر الأصل ولم يرد على هذا ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال حكم إقراره هنا يتوقف على تصديق المقر له فكان هذا ودعواه حرية العتق سواء بخلاف ما لو قال أنا حر الأصل فإن حكم قوله هناك لا يتوقف على تصديق غيره .
لو كان في يديه عبد،وقال:أعتقتني فكذبه المولى كان عبدا له بالاتفاق لأنه أقر على نفسه بالرق له ثم ادعى زواله بسبب حادث فلا يصدق على ذلك إلا بحجة وإذا أعتق الرجل عبدا له ثم أقر الرجل والعبد أنه كان مملوكا لفلان وادعى ذلك ولم يجر في عتقه حكم فهما مصدقان على ذلك لأنه أقر على نفسه بأمر محتمل لم يجر الحكم بخلافه فصح إقراره وصار مملوكا وظهر هذا الملك في حق المعتق بتصديقه أيضا فيتبين أنه أعتقه وهو لا يملكه وإن كان جرى في عتقه حكم من حد أو قصاص أو شيء مما يجري في الحر دون العبد فأمضى القاضي ذلك فإن هذا لا يرد في الرق لأنه صار مكذبا في إقراره شرعا والمقر إذا كذبه الشرع لم يعتبر إقراره.
وإن أقر مولاه أنه اغتصبه من فلان ضمنه القيمة لأن إقراره على نفسه صحيح وقد تعذر عليه رد المغصوب بما نفذ فيه من العتق من جهته فيضمن قيمته وكذلك إذا ادعى هبة منه أو شراء ولم يكن له بينة وحلف فلان ما فعل ذلك ضمن له قيمة الغلام لأنه أقر أنه قبضه على سبيل التملك وقد تعذر عليه رده فيلزمه قيمته ولو استأجر عبدا ثم ادعى بعد الإجارة أنه عبده لم يصدق على ذلك لأن استئجاره من غيره يشهد بالملك لذلك الغير أو إقرار بأنه لا حق له فيه بمنزلة الشراء والاستخدام فيكون في دعوى الملك لنفسه بعد ذلك مناقضا فلا يسمع منه ولكنه عبد لمن أقر له العبد بالملك وهو الآخر

 

ج / 18 ص -136-    ولو أن رجلا قال:أمي كانت أمة لفلان ولم أولد أنا قط ألا حرا كان القول قوله في ذلك لأنه أقر على أمة بالرق وإقراره عليها نافذ وليس من ضرورة رق أمه رقه فإن ولد المعروف حر الأصل والأم رقيقة والدليل عليه أن من أقر بأمة لإنسان ولها ولد في يده فإن الولد يكون للمقر دون المقر له فلما لم يجعل إقراره بالأم إقرارا بالولد فكذلك لا يكون إقرار الولد برق الأم إقرارا برق نفسه توضيحه أن من يكون معروفا بحرية الأصل إذا قال جدتي كانت أمة لا يتضمن ذلك الإقرار بالرق على نفسه ولا على أحد من أبويه فكذلك إذا قال أمي كانت أمة لفلان فإذا ادعى فلان رقه فعليه البينة.
ولو أن مجهولة الأصل تزوجت رجلا ثم أقرت بالملك لرجل فهي أمة له لإقرارها على نفسها بأمر محتمل ولا يصدق على فساد النكاح لأنه ليس من ضرورة كونها أمة له لإقرارها على نفسها بكونها أمة فساد النكاح فإن نكاح الأمة بإذن مولاها صحيح بخلاف ما إذا ادعى أبو الزوج نسبها وصدقته لأن من ضرورة ثبوت نسبها من أب الزوج انتفاء النكاح وما ثبت بوجود المنافي ضرورة لا يكون محالا به على إقرارها وهنا لما لم يكن من ضرورة رقها فساد النكاح فلو ثبت ذلك إنما يثبت بإقرارها وإقرارها ليس بحجة على الزوج أن رقها يظهر في حق الزوج في حق حكم يتمكن فيه من التلافي ودفع الضرر عن نفسه ولا يثبت في كل حكم لا يتمكن فيه من التلافي ودفع الضرر عن نفسه حتى لو كان أعطاها المهر قبل الإقرار فهو بريء منه لأنا لو صدقناها في هذا الحكم لحقه ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه.
ولو أعطاها المهر بعد الإقرار لم تبرأ منه لأنا لو صدقناها في حق الزوج هنا لتمكن من دفع الضرر عن نفسه بدفع الصداق إلى مولاها دونها وعلى هذا لو طلقها واحدة ثم أقرت بالرق صار طلاقها ثنتين بخلاف ما إذا أقرت بعد ما طلقها ثنتين وكذلك لو مضت من عدتها حيضة فأقرت بالرق صارت عدتها حيضتين بخلاف ما إذا أقرت بعد مضي حيضتين وعلى هذا ما ولدت من ولد قبل الإقرار فهم أحرار لا يصدق عليهم في إبطال حريتهم وكذلك ما كان موجودا في بطن أمهم بأن ولدت لأقل من ستة أشهر فأما ما يحدث من الأولاد بعد فعلى قول أبي يوسف رحمه الله هم أرقاء والوقت فيه ستة أشهر لأن الحمل قائم بينهما وعلى قول محمد رحمه الله هم أحرار لأن الزوج بالنكاح استحق حرمة الأولاد وهي لا تصدق في إبطال الحق الثابت ولو قبلنا إقرارها في رق الأولاد تضرر الزوج ضررا لا يمكنه دفعه عن نفسه إلا أن يمتنع من وطئها وفيه إبطال الاستحقاق الثابت له .
أبو يوسف رحمه الله يقول: هذا ولد حر من أم رقيقة فيكون رقيقا كما لو ثبت رقها بالبينة وهذا لأن الولد جزء من الأم يتبعها في الرق والحرية فالزوج لما أعلقها مع علمه برقها فقد رضي برق هذا الولد بخلاف ما إذا كان موجودا قبل إقرارها وفي قبول إقرارها في هذا الحكم لا ضرر على الزوج لأنه يمكن من أن يعزل عنها عند الوطء ولأن الولد ثمرة

 

ج / 18 ص -137-    فلا يستحق بالنكاح ولهذا لو كانت عجوزا أو عقيما لا يثبت للزوج الخيار فكيف تكون صفة حرية الولد مستحقة له بالنكاح فلهذا قبلنا إقرارها في هذا الحكم .
لو أن رجلا مجهول الأصل له أولاد وأمهات أولاد أقر بالرق لرجل جاز ذلك كله بنفسه وماله لكون ما أخبر به محتملا ولا يصدق على أولاده وأمهاتهم ومدبريه ومكاتبيه لأنهم استحقوا الحرية أو حقها وليس من ضرورة رقه بطلان هذا الحق عليهم فلا يصدق في حقهم ولو أن امرأة مجهولة في يدها بن لها صغير من فجور أقرت أنها أمة لفلان وأن ابنها عبد له فهي مصدقة على نفسها وابنها لأن الابن لما كان لا يعبر عن نفسه كان القول فيه قول من هو في يده ألا ترى أنه لو لم يعرف أصله فادعت أنه عبدها كان القول قولها لأنه في يدها فكذلك إذا أقرت بالرق لغيرها وإن كان ابنها يتكلم فقال أنا حر كان القول قوله لأن من يعبر عن نفسه كالبائع لا تقوى يد الغير عليه بل يده على نفسه أقوى فكان القول قوله في حريته وكذلك رجل وامرأته مجهولان لهما بن صغير لا يتكلم أقرا بالرق لرجل على أنفسهما وابنهما جاز لما بينا وإن قالا نحن مملوكان لفلان وابننا هذا مملوك لفلان آخر وكذبهما مولاهما في الابن فالابن عبد له معهما لأن إقرارهما بالرق على أنفسهما يسقط اعتبار يدهما ويجعل يدهما لاغية فكما لا قول لهما بعد الإقرار بالرق في إبطال الاستحقاق الثابت لذي اليد فيهما فكذلك لا يقبل قولهما في إبطال الاستحقاق الثابت للمقر له في ولدهما .
لو أن رجلا ادعى أمة أنها أمته وادعت الأمة أنه عبدها ولا يعرف أصلهما وليس الواحد منهما في يد صاحبه وصدق كل واحد منهما صاحبه في دعواه جعلت ذلك باطلا لأن تصديق كل واحد منهما لصاحبه إقرار بالرق له على نفسه وبين الإقرارين منافاة لاستحالة أن يكون كل واحد منهما مالكا لصاحبه ومملوكا له فإذا تحقق التنافي بينهما تهاترا إذ ليس العمل بأحدهما بأولى من الآخر وإن كان أقر أحدهما قبل الآخر فالذي أقر أخيرا مملوك للأول إذا صدقه ثانية لأن إقراره بالرق له على نفسه يتضمن رد إقرار صاحبه وذلك صحيح منه فيرد ذلك الإقرار له ويبقى إقرار الثاني بالرق على نفسه فإن صدقه المقر له في ذلك كان عبدا له وإن لم يصدقه ولم يكذبه لم يكن واحد منهما مملوكا للآخر لأن إقرار الأول قد بطل بالرد ولم يبطل بإقرار الثاني تصديق المقر.
ولو قال لآخر: أنا عبد لك فقال الآخر لا ثم قال بلى أنت عبدي فهو عبده لأن الرق الثابت لا يبطل بالجحود والإقرار متى حصل بما لم يرتد بالرد يبقى بعد ذلك المقر به موقوفا على تصديقه في الإقرار بالسبب أرأيت لو كان في يديه فقال أنا عبدك فقال لا ثم قال نعم لم يكن عبده فكذلك إذا لم يعرف يده فيه ولو قال ذو اليد لرجل هو عبدك يا فلان فقال لا ثم قال هو عبدي فهو عبد لذي اليد لأنه أقر لفلان بالملك والملك مما يبطل الإقرار فيه بالرد والتصديق بعد ما بطل الإقرار بالرد لا يكون موجبا شيئا بخلاف ما

 

ج / 18 ص -138-    سبق فإنه إقرار بالرق والرق لا يبطل بالرد لأنه إنما يبطل بالرد ما يحتمل النقل من شخص إلى شخص فلهذا عمل التصديق هناك بعد الرد وفي الكتاب قال ولا يشبه هذا الأول لأن الأول لم يكن في يد أحد وهذا ليس بقوي فقد بينا في الفصل الأول أنه لا فرق بين أن يكون في يده أو لا يكون في يده وإنما الفرق الصحيح ما قلنا.
ولو قال الذي هو في يديه هو عبدك يا فلان فقال فلان بل هو عبدك ثم قال بلى هو عبدي وجاء بالبينة لا تقبل بينته لأن قوله بل هو عبدك رد لإقراره وإقرار بملك العبد له فإن ادعاه لنفسه بعد ذلك كان مناقضا وكذلك لو أقر أن هذا العبد لفلان ثم جاء بالبينة أنه له لم تقبل بينته للتناقض ولو ادعى رجل دارا فقال هذه الدار لي إلا هذا البيت وجحده ذو اليد فأقام المدعي البينة أن الدار له فإن قال كان البيت لي فبعته قبلت بينته لأن الشهود وإن شهدوا له بأكثر مما ادعاه إلا أنه وفق بين الدعوى والشهادة بتوقيف محتمل فيخرج من أن يكون مكذبا لشهوده .
إن قال: لم يكن البيت لي قط فهذا إكذاب منه لشهوده إذا شهدوا له بجميع الدار والمدعي إذا أكذب شهوده بطلت شهادتهم له وإن لم يقل شيئا من ذلك سأله القاضي عنه لأن الحكم يختلف ببيانه من سؤاله فإن أتى ببينة لم تقبل بينته لأنه في الظاهر مكذب شهوده فإنهم شهدوا له بأكثر مما ادعاه إلا أنه كان متمكنا من التوقيف فإذا أبى أن يوقف نفي ظاهر إلا كذاب أرأيت لو قضي بهذه البينة ثم قال المدعي ما كان البيت لي قط لم يكن بحق عليه إبطال قضائه فكذلك في الابتداء لا يقضي إذا لم يبين وعلى هذا لو ادعى رجل على رجل بألف درهم وشهد له شاهدان بألفين فإن قال لم يكن لي عليه إلا ألف درهم فهذا إكذاب منه لشهوده وإن قال كان لي عليه ألفان فأبرأته من ألف قبلت بينته وإن أبى أن يبين بطلت الشهادة وهذا استحسان في الفصلين وفي القياس تقبل البينة لأن البينات حجج فيجب العمل بها ما أمكن وما دام التوقيف ممكنا فالمانع من العمل بالبينة غير متعذر ولكن استحسن للإكذاب الظاهر على ما بينا.
وإذا أقرت الأمة بالرق لرجل فباعها المقر له جاز لأن الملك يثبت له فيها بإقرارها والملك مطلق للتصرف فإذا ادعت عتقا بعد البيع وأقامت البينة على عتق من البائع قبل البيع أو على أنها حرة من الأصل قبلت بينتها استحسانا وفي القياس لا تقبل لأنها انقادت للبيع والتسليم وذلك إقرار منها بأنها لم يجر فيها من البائع عتق قبل هذا فتكون مناقضة في دعوى العتق قبل ذلك وإذا ادعت حرية الأصل فالتناقض ظاهر لتقدم الإقرار منها بالرق على نفسها ومع التناقض في الدعوى لا تكون البينة مقبولة ولكنه أستحسن فقال التناقض بعدم الدعوى والبينة على عتق الأمة يقبل من غير الدعوى فكذلك مع التناقض وفي الكتاب علل فقال لأن هذا فرج ومعناه أن يخرج الفرج من حق الله تعالى فتكون البينة عليه مقبولة حسبة ولكن هذا ليس بقوى فأما التناقض من العبد فيمنع قبول البينة على حريته عند أبي

 

ج / 18 ص -139-    حنيفة رحمه الله وهنا لأن التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل الإبطال بعد ثبوته وحرية الأصل بعد تأكدها لا تحتمل الإبطال وكذلك العتق بعد ثبوته لا يكون التناقض فيه مانعا من قبول البينة كالنسب فإن التناقض في دعوى النسب لا يمنع صحته حتى أكذب الملاعن نفسه لثبت النسب منه.
ولو أن رجلا باع عبدا ودفعه إلى المشتري وقبض ثمنه وقبضه المشتري وذهب به إلى منزله والعبد ساكت وهو ممن يعبر عن نفسه فهذا إقرار منه بالرق لأنه انقاد بالبيع والتسليم ولا يثبت ذلك شرعا إلا في الرقيق وإقراره على نفسه بالرق بطريق الدلالة بمنزلة التصريح بالإقرار به فلا يصدق في دعوى الحرية بعد ذلك لأنه يسعى في بعض ما تم به إلا أن تقوم له بينة على ذلك فحينئذ تقبل البينة والتناقض لا يمنع من ذلك وكذلك لو رهنه أو دفعه بجناية لأن هذا تصرف في العين لا يصح إلا برقه فانقياده لذلك إقرار بالرق على نفسه بخلاف ما لو أجره ثم قال أنا حر فالقول قوله لأن الإجارة تصرف في منافعة لا في عينه وليس من ضرورة صحة الإجارة رق المحل فإن منافع الحر تملك بالإجارة عند إيجابه أو إيجاب الغير ببيانه وتكون منفعته حقا له .
لا ترى إنه لو كان يخدمه ثم قال أنا حر كان القول قوله فكذلك إذا خدم المستأجر بإجارته قال والإجارة ليست بإقرار من الخادم بالرق وهي إقرار من المستأجر بأن العبد ليس له حتى لو ادعاه بعد ما استأجره لنفسه لم يصدق لأن المنفعة تملك بملك الرقبة فمباشرته سبب الملك في المنفعة مقصودا يكون إقرارا منه أنه لا يملك الرقبة وأما إيجاب المنفعة للغير فلا يكون إقرارا على نفسه بالملك في العين لأحد وكذلك لو قال أعرني هذا يخدمني كان هذا إقرارا من المستعير أن العبد ليس له كما إنه من المستأجر على يدنا ولو أن رجلا قدم من بلد ومعه رجال ونساء وصبيان يخدمونه فادعى أنهم رقيقه وادعوا أنهم أحرار كانوا أحرارا لأن اليد لا تقوى على من يعبر عن نفسه وكذلك لو كانوا أغلمة عجما أو سودا أو حبشا فهذه الصفات لا تنافي حرية الأصل وكذلك إن علم أنهم كانوا في يده لأن يدهم في أنفسهم أقوى فما لم يقر بالملك كان القول قولهم في الحرية.
ولو عرض جارية على البيع وهي ساكتة لم يكن هذا إقرارا بالرق منها وكذلك الغلام لأن السكوت في هذه الحالة محتمل فقد يكون للتعجيب أنه كيف تعرضني وأنا حرة وقد يكون للاستخفاف فعليه لا التفات إلى كلامه لكونه لاعبا فلهذا يجعل إقرارا بالرق ولو أن امرأة زوجها رجل من آخر فأقرت بذلك ثم ادعى الذي زوجها أنها أمته لم يصدق على ذلك لأن انقيادها بالنكاح لا يكون إقرارا منها بالرق كانقيادها للإجارة فإن الحرة محل للنكاح ولو كاتبها أو أعتقها على مال أو قال كاتبني أو أعتقني أو بعني نفسي أو بعني من فلان أو أرهني من فلان أو تزوج فلانة على رقبتي أو قالت لامرأة اختلعي من زوجك على رقبتي فهذا كله إقرار منها بالرق لأن ما صرحت به لا يصح شيء منه فيها إلا برقبتها

 

ج / 18 ص -140-    فتصريحها بذلك إقرار منها بالرق على نفسها بخلاف ما إذا قالت أجرني من فلان فهذا لا يكون إقرارا بالرق لما قلنا ولو قال لآخر أعتقني كان هذا إقرارا بالرق له لأن العتق لا يصح فيه إلا بعد الرق ممن هو يملكه وكذلك لو قال ألم تعتقني أمس أو ليس قد أعتقتني أمس أو ما أعتقتني أمس كان هذا إقرارا بالرق والله أعلم.

باب الإقرار بالنكاح
 قال رحمه الله: امرأة قالت لرجل طلقني فهذا إقرار منها بالنكاح لأنها طلبت منه ما لا يصح شرعا إلا بعد صحة النكاح فيكون ذلك منها بمنزلة الإقرار بالنكاح وهذا لأن الطلاق للإطلاق عن قيد النكاح فكأنها قالت أطلقني عن قيد النكاح الذي لك علي وكذلك لو قالت أخلعني بألف درهم وهذا أظهر لأنها التزمت البدل ولا يجب عليها البدل إلا بزوال ملك النكاح عنها بالخلع وكذلك لو قالت طلقتني أمس بألف درهم أو أنت مني مظاهر أو مول فإن شيئا مما أخبرت به لا يصح إلا بعد صحة النكاح فإقرارها به تضمن الإقرار بالنكاح.
ولو قال الرجل: اختلعى مني بمال كان هذا إقرارا منه أنه تزوجها لأن الخلع بمال لا يكون إلا بعد صحة النكاح بينهما وكذلك لو قالت له طلقني فقال لها اختاري أو أمرك بيدك في الطلاق فهذا منه إقرار بالنكاح لأن تفويضه الطلاق إليها لا يكون إلا بعد صحة النكاح ولو قال والله لا أقربك لا يكون هذا إقرارا منه بأنها زوجته لأنه كلام محتمل فلعله منع نفسه من قربانها لعدم الملك له عليها ولعله قصد الإضرار بها والمحتمل لا يكون حجة ثم هذا الكلام نفي موجب النكاح بينهما ونفي موجب العقد لا يكون إقرارا بالعقد .
كذلك لو قال أنت على حرام أو بائنة أو بتة لأنه وصفها بالحرمة وموجب النكاح ضده وهو الحل فوصفها به لا يكون إقرارا بالنكاح إلا أن تقول له طلقني فيقول بعد ذلك شيئا من هذه الألفاظ غير أن مذاكرة الطلاق معينة للطلاق ولهذا لا يحتاج فيها إلى البينة وإيقاع الطلاق إقرار منه بالنكاح ولو قال أنا مول منك أو مظاهر كان إقرارا منه بالنكاح لأن الإيلاء والظهار تصرف منه يختص بالنكاح الصحيح ولو قال أنت علي كظهر أمي لم يكن إقرارا بالنكاح لأن هذا إخبار منه بحرمتها عليه وهو ضد موجب النكاح ولو قال ألم أطلقك أمس أو أما طلقتك أمس فهذا إقرار منه بالنكاح والطلاق لأن في هذا الاستفهام معنى التقرير قال الله تعالى:
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الأنعام:130] أي قد أتاكم وتقرير الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح فكان إقرارا بهما.
ولو قال هل طلقتك أمس كان هذا إقرارا بالنكاح دون الطلاق لأن الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح فكان هذا إقرارا بالنكاح ولو قالت هذا ابني منك فقال نعم فهو إقرار منهما بالنكاح إذا كانت معروفة أنها حرة لأن ثبوت النسب باعتبار الفراش والأصل فيه الفراش الصحيح والشرع إنما يريد الصحيح دون الفاسد ولا يثبت الفراش الصحيح على الحرة إلا بالنكاح فكان اتفاقهما على النسب اتفاقا على سببه وهو النكاح والله أعلم

 

ج / 18 ص -141-    باب إقرار المكاتب والحر
قال رحمه الله: وإذا أقر المكاتب بدين عليه لحر أو لعبد من ثمن بيع أو قرض أو غصب فهذا لازم له لأن الإقرار من التجارة وعقد الكتابة يوجب انفكاك الحجر عنه مما هو من التجارة فإن عجز لم يبطل ذلك عنه لأن الثابت بإقراره كالثابت بالبينة عليه ألا ترى أن العبد لو أقر بالدين ثم حجر عليه مولاه لم يبطل إقراره فالمكاتب أولى بذلك ولو أقر المكاتب لمولاه بدين جاز عليه لأنه بعقد الكتابة صار أحق بمكاسبه وصار المولى منه كالأجنبي وإقرار المكاتب بالحدود جائز كإقرار العبد بها وإن أقر بمهر من نكاح لم يلزم لأن النكاح ليس من التجارة ولا هو سبب اكتساب المال في حق الزوج إلا أن على قول أبي يوسف رحمه الله إذا أقر بالدخول فإنه يلزمه وهو بمنزلة إقرار العبد التاجر به وقد بينا مذهب أبي يوسف رحمه الله في ذلك.
وكذلك لو أقر أنه افتض امرأة بإصبعه حرة أو أمة أو صبية فهذا يلزمه في قول أبي يوسف رحمه الله لأن العبد التاجر لو أقر به كان مؤاخذا به في الحال عنده فكذلك المكاتب وفي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هذا بمنزلة الإقرار بالجناية وإقرار المكاتب بالجناية صحيح في حال قيام الكتابة لأن الإرش يجب فيه وكسبه حقه فإن عجز قبل أن يؤدي بطل في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول محمد رحمه الله وإنما أراد بهذا إذا عجز بعد ما قضى القاضي عليه بالجناية قلنا إذا عجز قبل قضاء القاضي يبطل إقراره هكذا قال مشايخنا رحمهم الله وهو الذي اعتمده الحاكم رحمه الله وجعل هذا بمنزلة إقراره بقتل رجل خطأ ولكن الأصح عنه أن هنا الجواب مطلق كما قال في الكتاب لأن جناية الخطأ تتعلق بنفسه وإنما يتحول إلى كسبه بالقضاء حتى لو عجز قبل القضاء لدفع به فأما جنايته بالافتضاض بالإصبع فلا تتعلق بنفسه لأنه لا يدفع به بحال وإنما يتعلق بكسبه إبتداء فإن عجز قبل القضاء أو بعد القضاء كان مطالبا عند محمد رحمه الله.
وعلى قول محمد رحمه الله لما كان سببه إقراره لم يطالب به بعد العجز بمنزلة إقراره بالجناية إذا اتصل به قضاء القاضي وإذا قضى عليه بأرش جناية الخطأ بعد ما أقر به فأدى بعضه ثم عجز بطل فيه ما بقي عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه لو طولب به إنما يطالب بإقراره وإقراره بالجناية ليس بحجة فيما هو حق المولى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو لازم له لأنه صار دينا بقضاء القاضي فالتحق بسائر الديون بخلاف ما إذا عجز قبل أن يقضي به عليه لأنه لم يصر دينا بعد فيجعل كأنه أقر به بعد العجز وهذا كله عندنا خلافا لزفر رحمه الله.
وفي مسألة كتاب الديات :لو أقر أن العبد تاجر أو محجور عليه بدين أو عين وأراد مولاه أخذه من المقر في حال غيبة العبد لم يكن له ذلك لأن للعبد يدا في مكاسبه محجورا

 

ج / 18 ص -142-    كان أو مأذونا حتى لا يتم كسبه لمولاه إلا بشرط الفراغ من دينه فأخذ المولى لذلك يتضمن القضاء على الغائب ببطلان حقه عنه وذلك لا يجوز عند غيبته .
و أقر الحر لعبد بوديعة فأقر العبد أنها لغيره فإن كان مأذونا جاز إقراره وإن كان محجورا عليه فإقراره بها لغيره باطل لأن الوديعة في يد المودع ولو كان في يد العبد مال فأقر به لغيره صح إن كان مأذونا ولم يصح إن كان محجورا عليه فكذلك هنا ولو أقر الحر لعبد بين رجلين بدين وقد أذن له أحدهما في التجارة دون الآخر جاز إقراره لأن حكم صحة الإقرار لا يختلف بكون المقر له مأذونا أو محجورا عليه فجاز وإن كان المقر به من كسب العبد فيكون بين الموليين نصفين لأن الكسب يملك بملك الرقبة ولا يختص الإذن بشيء من كسب العبد وإنما اختصاص الإذن يعلق دين العبد بنصيبه من الرقبة لأن الإذن لا يحتاج إليه لتعلق الدين بمالية الرقبة لا بصحة الاكتساب من العبد غير أنه إذا كان على العبد دين فلا يسلم من كسب العبد شيء للذي لم يأذنه ما لم يقض العبد دينه لما بينا أن سلامة الكسب للمولى متعلقة بفراغه عن حاجة العبد .
لا ترى أن المحجور عليه إذا وجب عليه دين بالاستهلاك فاكتسب كسبا كان ذلك الكسب مصروفا إلى دينه ولو أقر هذا العبد بدين لزمه في حصة الذي أذن له لأن إقرار المحجور عليه غير صحيح في حق مولاه ونصيب الذي لم يأذن له محجور عليه فاجعل نصيب كل واحد منهما في حكم الإقرار بمنزلة عبد على حدة وما في يده من كسب يقضي به دينه ويكون الباقي بين الموليين نصفين إلا أن يعلم أنه من غير التجارة مثل أن يكون من هبة أو صدقة أو نحو ذلك فيكون نصفه للذي لم يأذن له قبل قضاء الدين لأن إقراره لم يكن صحيحا في نصيب الذي لم يأذن له من الرقبة فكذلك في الكسب الذي لا يعتمد في حصوله على الإذن كالموهوب ونحوه بخلاف ما اكتسبه بطريق التجارة فإن سبب حصول ذلك الكسب تجارة والإقرار من التجارة والدين الواجب بسبب هو تجارة يظهر في الكسب الحاصل بطريق التجارة وإذا ظهر فيه لا يسلم شيء منه للذي لم يأذن له إلا بعد الفراغ من دينه كما لو كان الدين عليه بسبب معاين والله أعلم .

باب إقرار الرجل أنه لا حق له قبل فلان
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه لا حق له قبل فلان فهو جائز عليه لأنه أخرج الإقرار مخرج العموم وإجراؤه على العموم ممكن لجواز أن ينفي حقوقه عن فلان من كل وجه وأمكن العمل بموجب هذا الكلام من غير بيان من المقر بخلاف قوله جميع ما في يدي لفلان فإن العمل بموجب ذلك الكلام غير ممكن إلا ببيان المقر ولا يمكن إجراؤه الكلام هناك على العموم لأن زوجته وولده في يده ولا يكون ذلك للمقر له فلهذا وجب الرجوع إلى بيانه هناك ثم يدخل في هذا اللفظ كل عين أو دين وكل كفالة أو جناية أو إجارة أو حد لأن قوله صلى الله عليه وسلم يتناول ذلك كله وقد بيناه فيما سبق فكل هذا حق مالا كان أو غير مال.

 

ج / 18 ص -143-    وإن قال: هو بريء مما لي عليه فهو مثل ذلك أيضا غير أنه لا تدخل الأمانة في هذا اللفظ كالوديعة العارية لأن كلمة علي خاص لما هو واجب في الذمة فلا تدخل فيه الأمانة إذ لا وجوب في ذمة الأمين وإن قال هو بريء مما لي عنده فإنما يدخل في هذا اللفظ الأمانة خاصة فأما الغصوب والودائع التي خالف فيها فقد صار ضمانها مستحقا في ذمته بمنزلة الديون فلا يدخل في هذا اللفظ وإن قال هو بريء مما لي قبله بريء من الأمانة والغصوب جميعا.
وإن ادعى الطالب بعد ذلك حقا لم تقبل بينته عليه حتى يشهد شهوده بعد البراءة أو يوقتوا وقتا بعدها لأنه بهذا اللفظ استفاد البراءة على العموم ولا يسمع منه بعد ذلك الدعوى إلا أن يعلم خروج ما ادعاه العامة فإن العمل بالعام واجب حتى يقوم دليل الخصوص .
لو أقر أن فلانا قد بريء من حقه قبله ثم قال أنا بريء من كل حق له علي فإن لفظ الجنس يعم جميع ذلك الجنس بمنزلة اللفظ العام وكذلك لو قال هو بريء من الدين الذي لي قبله أو مما لي قبله أو من ديني عليه أو من حقي عليه ولكن يدخل في البراءة من الحقوق الكفالة والجناية التي فيها قود أو أرش لأن ذلك من حقوقه ولو أقر أنه لا حق له قبل فلان ثم ادعى قبله حد قذف أو سرقة لم تقبل بينته على ذلك إلا أن يشهد الشهود أنه فعل ذلك بعد البراءة وهو ودعوى الدين عليه سواء.
ولو قال أنه قد بريء من قذفه إياي ثم طلبه به بعد ذلك كان له لأن هذا بمنزلة العفو ومعناه أنه بريء من موجب قذفه إياي فإن البراءة عن عين القذف لا تتحقق وموجب القذف عندنا لا يسقط بالعفو بخلاف الأول فإنه نفي حقه من الأصل فكان منكرا للسبب في حد القذف لا مسقطا للحد ولو قال ما قذفني لم تسمع منه دعوى القذف بعد ذلك مطلقا فكذلك إذا قال لا حق لي قبله ولو قال هو بريء من السرقة التي ادعيتها لم يكن عليه ضمان ولا قطع لأن دعوى السرقة حق المسروق منه وهو مما يسقط بإسقاطه.
ألا ترى:أنه لو وهب المسروق من السارق سقطت خصومته وبدون خصومته لا تظهر السرقة في حق المال ولا في حق القطع ولو قال لست من فلان في شيء ثم أقام البينة على مال له عليه قبل هذا القول قبلت بينته وهذا القول باطل لأنه ما تعرض في كلامه للحق الذي عليه وإنما تعرض لنفسه والحق الذي عليه غير نفسه فلا يصير مذكورا بذكر نفسه وكذلك لو قال برئت من فلان أو قال أنا بريء من فلان لم يكن هذا القول براءة من حق لواحد منهما قبل صاحبه لأنه أضاف البراءة إلى نفسه دون الحق الذي عليه فلا يصير الحق مذكورا به ألا ترى أن البراءة من نفس الغير تكون إظهارا للعداوة معه والبراءة من الحق الذي له عليه إظهار للمحبة.
ولو قال:لست من هذه الدار التي في يد فلان في شيء ثم ادعى بعد ذلك حقا فيها

 

ج / 18 ص -144-    لم تقبل دعواه لأنه أخرج نفسه من الدار على العموم واتصاله بالدار من حيث ملكه أو حق له فيه فإخراجه نفسه منها على العموم يكون إقرارا بأنه لا حق له فيها ولا ملك بخلاف قوله لست من فلان في شيء فإن اتصاله من فلان من حيث المحبة والتناصر فإنما يكون هذا الكلام إقرارا منه بأنه لا محبة بينهما ولا تناصر وعلى هذا لو قال أنا بريء من هذه الدار كان هذا إقرارا منه بأنه لا حق له فيها لأن تبرؤه عن العين يكون إقرارا بانقطاع سبب اتصاله به وذلك بالملك أو الحق.
ولو قال خرجت من هذه الدار لم يكن إقرارا بشيء لأنه أخبر بفعله بالخروج من الدار ولو عاين ذلك لم يكن موجبا انتفاء حقه عنها فكذلك إذا قال خرجت منها.
وإن قال:قد خرجت منها على مائة درهم أو بمائة درهم وقبضتها كان إقرارا بأنه لا حق له فيها لأن الخروج بعوض لا يكون إخبارا بعين الفعل بل يكون إخبارا بإزالة ملكه عنها بعوض بطريق البيع أو بطريق الصلح فيكون إقرارا بأنه لا حق له فيها وعلى هذا الحيوان والعروض والدين فإن أنكر ذو اليد ذلك وقال هو لي وقد أخذت مائة درهم غصبا حلف على ذلك لأنه قد أقر بأخذ المائة منه وادعى لأخذه شيئا وهو الصلح فإذا أنكر صاحبه السبب كان القول قوله مع اليمين ويسترد المائة إذا حلف ويكون المقر على خصومته لأن ما أقر به من الصلح قد بطل بإنكار صاحبه واسترداده بدل الصلح.
وإذا قال الطالب:قد برئت من ديني على فلان أو هو في حل مما لي عليه كانت هذه براءة للمطلوب لأنه أضاف البراءة إلى الحق الواجب على المطلوب فيكون مسقطا له وكذلك لو قال وهبت الذي لي عليه له فهو بريء من ذلك لأن هبة الدين ممن عليه يكون إسقاطا فإنه ليس بعين قابل للتمليك مقصود ولكنه محتمل للإسقاط فتصير الهبة فيه عبارة عن الإسقاط مجازا كهبة المرأة من نفسها يكون طلاقا وهبة العبد من نفسه يكون إعتاقا وهبة القصاص ممن هو عليه يكون عفوا فإن كان فلان حاضرا فلم يقبل الهبة أو كان غائبا فبلغه فقال لا أقبل فالمال عليه كما لو أبرأه فرد الإبراء وهذا لأن إبراء من عليه الدين وإن كان إسقاطا ففيه معنى التملك لأنه يجوز أن يملك ما في ذمته ويسقط عنه كما يكون عند قضاء الدين أو الشراء بالدين فلما كان فيه معنى التمليك احتمل الارتداد برده ولكونه إسقاطا لا يتوقف على قبوله حتى لو مات قبل أن يرده فهو بريء لأن البراءة حصلت له بنفس الإسقاط على احتمال أن يعود برده فإذا مات قبل أن يرده تم الإسقاط بموته .
كذلك لو قال:هو في حل مما لي عليه فهذا اللفظ يستعمل في الإبراء عرفا فهو وقوله هو بريء مما لي عليه سواء ولو قال ليس لي مع فلان شيء لم يكن هذا إبراء من الدين وكان براءة من كل أمانة بمنزلة قوله ليس عند فلان لأن كلمة مع للضم وكلمة عند للقرب وذلك يتحقق في الأعيان دون الديون وإذا أقر الطالب أن فلانا قد بريء إليه مما له عليه فهذا إقرار بالقبض لأنه أقر ببراءته بفعل من المطلوب متصل بالطالب حين وصله

 

ج / 18 ص -145-    بنفسه بحرف إلى وذلك إنما يكون بإيفاء الدين فإن ابتداءه من المطلوب وتمامه من الطالب بقبضه.
وإذا أقر أنه لا قصاص له قبل فلان فله أن يدعي الخطأ والحد لأن القصاص أسم خاص لعقوبة هي عوض حق العباد واجب بطريق المماثلة فلا يدخل فيه الخطأ والحد لأن موجب الخطأ والحد مال ومعظم الحق في الحد لله تعالى وإذا أقر أنه لا جراحة له خطأ قبل فلان فله أن يدعي العمد إن كان فيه قصاص أو لم يكن لأن الخطأ صفة للفعل لا لموجبه والعمد ضده فلا يكون نفيه بصفة نفيا منه فعلا بضد تلك الصفة فإن ما ليس بمعين يختلف باختلاف وصفه ولو أقر أنه لا جراحة له قبل فلان فليس له أن يدعي جراحة عمدا ولا خطأ لأنه نفى الفعل مطلقا فلا يتقيد بأحد الوصفين إذ المقيد غير المطلق ونفي الفعل نفي لموجبه ضرورة وله أن يدعي الدم لأن الجرح أسم خاص لما دون النفس فلا يتناول النفس لأن الفعل في النفس إزهاق الحياة وفيما دونها إماتة لجزء ما هو دونها في الجرح ولا مغايرة أبين من مغايرة محل الفعل.
وإن أقر أنه لا حد له قبل فلان فادعى سرقة يجب فيها القطع فهو على دعواه لأنه إنما نفى حدا هو حقه وحد السرقة خالص حق الله تعالى حتى لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار ولا يعتبر خصومة المسروق منه في القطع وإنما حقه في دعوى المال وهو ما نفى ذلك بإقراره وإن أقر أنه لا دم له قبل فلان فليس له أن يدعي دما خطأ ولا عمدا لأنه نفي بإقراره الدم مطلقا وقد بينا أن نفي السبب نفي لموجبه والدية في الخطأ موجب الدم كالقصاص في العمد وله أن يدعي ما دون الدم والدم في عرف اللسان عبارة عن النفس خاصة وليس من ضرورة نفي النفس نفي ما دونها ولو أقر أنه لا إرش له قبل فلان لم يكن له أن يدعي دية خطأ ولا صلحا عن دم عمد ولا عن كفالة بدية نفس ولا عن قبل شيء من الجراحة لأن أسم الإرش يعم ذلك كله سواء كان ذلك واجبا بنفس الفعل أو بالصلح على الأصل أو على الكفيل بكفالته به فإقراره بنفي الإرش يتناول ذلك كله والله أعلم .

باب الإقرار بالعتق والكتابة
 قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه أعتق عبده هذا أمس وهو كاذب عتق في القضاء ولم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى لأن الإقرار خبر محتمل للصدق والكذب لكن دين المقر وعقله يدعوانه إلى الصدق والقاضي مأمور باتباع الظاهر فإذا ترجح جانب الصدق باعتبار الظاهر قضى القاضي بعتقه ولكن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء فإذا لم يسبق من المقر فيه عتق كان خبره في الحقيقة كذبا والكذب بالإخبار عنه لا يصيره حقا كإقرار المقرين به لا يصيره حقا بإخبارهم به فهذا لا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى.
ولو قال :عتقتك أمس وقلت إن شاء الله لم يعتق لما سبق أن عمل الإستثناء في الكلام كعمل الشرط
ولو أقر أنه علق عتقه بشرط لم يكن هذا إقرارا بالعتق فكذلك إذا أقر أنه استثنى

 

ج / 18 ص -146-    موصولا وكذلك لو قال أعتقتك أمس وإنما اشتراه اليوم فقد أضاف العتق إلى وقت لم يكن مالكا للعتق فيه فهو كقوله أعتقتك قبل أن اشتريتك.
ولو أقر أنه أعتق عبده هذا لا بل هذا عتقا جميعا لأن رجوعه عما أقر به للأول باطل وإقامة الثاني مقامه في الإقرار بعتقه صحيحة فلهذا عتقا ولو قال أعتقتك على مال وقال العبد أعتقتني بغير مال فالقول قول العبد لأن المولى أقر بعتقه وادعى وجوب المال لنفسه في ذمته لأن العتق ينزل بنفس القبول قبل الأداء والمولى مقر بقبوله فلهذا عتق العبد وهو غير مصدق فيما يدعي من المال في ذمة العبد إلا أن يقيم البينة عليه أو يحلف العبد إن لم يكن له بينة ولو قال جعلت أمرك بيدك في العتق أمس فلم تعتق نفسك وقال العبد بل أعتقت نفسي لم يصدق العبد لأن المولى ما أقر بعتقه فإن جعل الأمر في يده لا يوجب العتق ما لم يعتق العبد نفسه والعبد مدع لذلك والمولى منكر ولا قول للعبد في الحال لأنه يخبر بما لا يملك إنشاءه فقد خرج الأمر من يده بالقيام من المجلس .
كذلك لو قال: أعتقتك على مال أمس فلم تقبل وقال العبد بل قبلت أو قال أعتقتني بغير شيء فالقول قول المولى لأنه ما أقر بعتقه فإن إعتاقه بمال تعليق بشرط القبول ولهذا لا يملك الرجوع قبل قبول العبد ولو أقر بتعليق عتقه بشرط آخر لم يقبل قول العبد في إيجاد الشرط ولا في إنكار التعليق بالشرط وكذلك هذا في الطلاق وفي قوله أمرك بيدك واختاري فإن أقام العبد البينة على قبوله أو على إعتاق المولى إياه بغير شيء كان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار المولى.
ولو قال لعبده :اتبتك ولم يسم مالا وقال العبد لا بل على خمسمائة فإنه ينبغي في قول أبي حنيفة رحمه الله أن يصدق العبد ولا يصدق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وأصل المسألة فيما إذا اختلف المولى والمكاتب في مقدار بدل الكتابة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله القول قول المولى ويتحالفان وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة البيع لأنه لا يصح إلا بتسمية البدل ويحتمل الفسخ كالبيع وفي قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر القول قول العبد لأن الكتابة إذا تمت بالعتق لا تحتمل الفسخ فتكون بمنزلة العتق على مال والطلاق بمال إذا وقع الاختلاف في مقدار البدل يكون القول قول المنكر في الزيادة ولا يجرى التحالف فلما كان من أصلهما أن الكتابة على قياس البيع وقد بينا في البيع أن إقراره به من غير تسمية الثمن باطل فكذلك في الكتابة فيبقى العبد مدعيا للكتابة بخمسمائة ولا يصدق في ذلك إلا بحجة وعند أبي حنيفة رحمه الله هو بمنزلة العتق والطلاق فإقراره به صحيح وإن لم يسم مالا ثم نقول على قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر المولى لا يتمكن من إنكار أصل الكتابة بعد ما أقر بها وإن ادعى مالا خلاف ما أقر به العبد فالقول قول العبد فعرفنا أنه قد وجب تصديق العبد عندهما إذا ادعى المولى خلاف ما أقر به العبد لم يصدق العبد وتحالفا فكذلك هنا.

 

ج / 18 ص -147-     ولو قال:كاتبتك أمس على ألف درهم فلم تقبل الكتابة وقال العبد بل قبلتها فالقول قول العبد لأن الكتابة في هذا قياس البيع من حيث إنها لا تحتمل التعليق بالشرط ويلزم الإيجاب فيها قبل القبول فإقراره بالعقد يكون إقرارا بالإيجاب والقبول جميعا ثم قوله فلم تقبل يكون رجوعا عن الإقرار فلا يصح رجوعه كما لو أقر أنه باع عبده من فلان بألف درهم فلم يقبل وقال فلان قبلت بخلاف ما تقدم من العتق والطلاق فإنه يحتمل التعليق بالشرط والإيجاب فيه لازم قبل القبول فإقراره بفعله لا يكون إقرارا منه بقبول العبد والمرأة .
لو أقر أنه كاتب عبده هذا على ألف درهم لا بل هذا وادعى كل واحد منهما الكتابة جاز ذلك لهما لما بينا أن رجوعه عن الإقرار للأول باطل وهذا بخلاف ما لو أقر أنه كاتب هذين العبدين على ألف درهم إلا هذا لأنه هناك أخرج كلامه مخرج الاستثناء والاستثناء صحيح موصولا فإنما يصير مقرا بما وراء المستثنى وفي الأول أخرج الكلام مخرج الرجوع ولا يصح الرجوع عن الإقرار موصولا ومفصولا ولو أقر أنه كاتبه وهو صبي فقال المكاتب بل كاتبتني وأنت رجل فالقول قول المولى لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي الكتابة ولو أقر أنه كاتب هذا قبل أن يملكه أو أنه كاتبه أمس وقال إن شاء الله فالقول قول المولى مع يمينه لأنه وصل كلامه بما ينفي أصل الكتابة بخلاف ما لو قال المولى اشترطت الخيار لانتفى أصل العقد فإن تأثير الخيار في تغيير وصف العقد وجعل حكمه كالمتعلق بالشرط لا أن يصير أصل السبب متعلقا فلم يكن المولى بدعوى الخيار منكرا لأصل العقد بخلاف الإستثناء والبيع في هذا قياس الكتابة والله أعلم.

باب إقرار الكفار
قال رحمه الله: وإذا أقر الحربى المستأمن في دار الإسلام بدين لمسلم فهو لازم لأنه أهل أن يجب عليه الحق للمسلم بالمعاملة فيصح إقراره له وهو سبب حادث فيحال به على أقرب الأوقات وهو ما بعد دخوله دارنا بأمان فإن قال أدانني في دار الحرب وقال المسلم في دار الإسلام فالدين لازم عليه سواء قال ذلك موصولا بإقراره أو مفصولا لأنه يدعي تاريخا سابقا لما أقر به من المال وهو غير مصدق في دعوى التاريخ وإن وصل كلامه ولأن بهذا الإضافة لا ينكر وجوب أصل المال فإن المداينة في دار الحرب سبب لوجوب المال للمسلم عليه ولكن لا تسمع الخصومة فيه في دار الإسلام ما لم يسلم أو يصير ذميا فيصير هذا بمنزلة دعوى الأجل وإن ادعاه موصولا بإقراره
وكذلك لو أقر بذلك لمستأمن مثله أو لذمي وكذلك لو أقر بشيء بعينه في يديه أنه له وإقرار المستأمن بالنكاح والطلاق والعتاق والولد والجراحات وحد القذف والإجارة والكفالة وما أشبه ذلك جائز لأن في هذا كله حق العباد والمستأمن ملتزم لذلك مدة مقامه في دارنا حتى إذا باشر سبب ذلك كان مؤاخذا به فكذلك إذا أقر به .
لو أقر بحد زنا أو سرقة فقد عرف أن قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله

 

ج / 18 ص -148-    الحدود التي هي لله تعالى لا تقام على المستأمن وإن ثبت سببها بالبينة أو بالمعاينة وكذلك إذا أقر به
وعند أبي يوسف رحمه الله في القول الآخر تقام الحدود عليه كما تقام على الذمي فيصح إقراره بها كما يصح إقرار الذمي وهي مسألة كتاب الحدود والفرق بين هذا الحد وحد القذف معروف أن فيه حق العبد ويضمن السرقة إذا أقر بها لأن الضمان من حقوق العباد.
ولو أقر مسلم لذمي بخمر أو خنزير في يده جاز إقراره لأن الخمر مال في حق الذمي فيؤمر بردها عليه بحكم إقراره وكذلك لو أقر الذمي للمسلم بعينها لأن الخمر للمسلم مملوكة وإن لم تكن مالا متقوما فيؤمر الذمي بردها عليه بإقراره ويؤمر المسلم أن يخللها ولو أقر له بخمر أو خنزير مستهلك لم يلزمه شيء كما لو عايناه استهلك الخمر والخنزير على المسلم وهو نظير ما لو أقر له بجلد شاة ميتة يؤمر بدفعه إليه لينتفع به وإن كان مستهلكا لم يلزمه شيء وإن أقر بها لذمي يعني بخمر أو خنزير مستهلك لزمه قيمتها لأنها مال متقوم في حقه يضمن متلفها عليه عندنا .
إذا أسلم الذمي فأقر ذمي أنه استهلك له خنزيرا بعد إسلامه وقال المسلم استهلكته قبل إسلامي فهو ضامن لقيمته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وفي قول محمد رحمه الله لا ضمان عليه وهذا بناء على ما سبق إذا قال لحربى أسلم أتلفت مالك أو قطعت يدك حين كنت حربيا وقد بينا هذا الخلاف فهذا قياسه وعلى هذا لو أن ذميا أقر بخمر وقال استهلكتها وأنا حربي وقد علم كونه حربيا من قبل فهوعلى الخلاف الذي بينا وإقرار المرتد بالحقوق جائز إن أسلم وإن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب لم يجز إقراره في كسب إسلامه ويجوز إقراره فيما اكتسبه بعد الردة في قول أبي حنيفة رحمه الله وإقرار المرتدة بذلك كله جائز وعندهما إقرارهما جائز في ذلك إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله هو بمنزلة إقرار الصحيح وعند محمد رحمه الله هو بمنزلة إقرار المريض وهذا نظير اختلافهم في تصرفات المرتد فإن الإقرار تصرف منه كسائر التصرفات وهو مسألة كتاب السير.
ولو أقر المرتد بمكاتبة عبد له أو بعتقه في حال الإسلام لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله إن قتل أو لحق بدار الحرب ويجوز عندهما إلا أن محمدا رحمه الله يقول هو بمنزلة إقرار المريض وإذا أقرت المرتدة أو المرتد بحد في قذف أو سرقة أو زنا أو جراحة عمد فيها قصاص فذلك جائز عندهم لأن الحجر بسبب الزيادة لا يكون أقوى من الحجر بسبب الرق ولأن توقف تصرفه في المال عند أبي حنيفة رحمه الله لتوقف ملكه وذلك غير موجود في العقوبات فأما ما كان من الجراحات التي توجب المال فإقراره بها يوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ويكون نافذا عندهما على ما بينا وذكر حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أن عبدا أتى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأقر بالسرقة مرتين فأمر به فقطع قال

 

ج / 18 ص -149-    عبد الله وكأني أنظر إلى يده معلقة في عنقه وفيه دليل على صحة إقرار العبد بالأسباب الموجبة للعقوبة وبه يستدل أبو يوسف رحمه الله في اشتراط التكرار في الإقرار بالإقرار إلا أن أبا حنيفة ومحمدا رحمهما الله قالا في الحديث أقر مرتين فقطعه وليس فيه لو لم يكرر إقراره لم يقطعه والسكوت لا يكون حجة.
وذكر عن أبي مالك الأشجعي رحمه الله قال: أتى عبد قد رأيته علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأقر عنده بالزنى فأمر به قنبرا وقال أضربه فإذا قال أتركني فاتركه فلما وفاه خمسين جلدة قال له العبد اتركني فتركه وهو دليل على إقرار صحة العبد بالحد على نفسه ولقوله فإذا قال اتركني فاتركه تأويلان أحدهما إنه إذا رجع عن إقراره فاقبل ذلك منه والثاني أنه علم فقه العبد في أنه لا يقول له أتركني إلا بعد أن يتم عليه حد العبيد وقد ظهر ذلك حين قال له أتركني بعد خمسين جلدة وإذا أقر العبد المحجور بدم عمد وله وليان فعفا أحدهما لم يكن للآخر مال في عتقه لأن صحة إقراره يكون موجبا للعقوبة عليه وكون دمه خالص حقه فإذا آل الأمر إلى أن يكون الواجب مالا بطل إقراره لأن ماليته حق مولاه وكان هو بمنزلة إقراره بالقتل الخطأ.
ولو أقر بسرقة لا يجب في مثلها القطع كان إقراره باطلا لأن كسبه ومالية رقبته حق لمولاه فلا يصدق في إقراره وإقراره بالمال بهذا السبب صحيح كإقراره بالغصب وإقرار الصبي المحجور عليه والمعتوه والمغمى عليه والنائم باطل بمنزلة سائر تصرفاتهم وإقرار السكران جائز كإقرار الصاحي بمنزلة سائر التصرفات ينفذ من السكران كما ينفذ من الصحيح ويستوي في ذلك إقراره بالمال أو بالحد أو بما يصح الرجوع عنه أو بما لا يصح إذا لم يرجع عنه لأن السكر عبارة عن غلبة السرور فلا يؤثر في عقله شيئا فينفذ إقراره كما ينفذ ممن هو صاح وكذلك الأصم والأعمى والمقعد والمفلوج فهذه الآفات لا تؤثر في عقله ولا في لسانه فهو في أقاريره كالصاحي.
وإقرار الأخرس إذا كان يكتب ويعقل جائز في القصاص وحقوق الناس لأن له إشارة مفهومة تنفذ تصرفاته بتلك الإشارة ويحتاج إلى المعاملة مع الناس فيصح إقراره بحقوق العباد ما خلا الحدود فإن الإقرار بها يستدعي التصريح بلفظ الزنى والسرقة وبإشارته لا يحصل هذا ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلعل في نفسه شبهة لا يتمكن من إظهارها بإشارته إذ هو لا يقدر على إظهار كل شيء بإشارته ولهذا لا تقام عليه الحدود بالبينة أيضا لأنا لو أقمناها كان إقامة للحد مع الشبهة ولا يجوز إقرار الأب على ابنه الصغير أو الكبير المعتوه بشيء من مال أو جناية لأنه شهادة منه على غيره وشهادة الواحد على غيره لا تكون ملزمة ولأن ولاية الأب على ولده مقيدة بشرط النظر في المصلحة له عاجلا وذلك لا يحصل بإقراره عليه وكان هو في الإقرار عليه كأجنبي آخر والله أعلم.

 

ج / 18 ص -150-    باب الإقرار بالكتاب
قال رحمه الله: وإذا كتب الرجل ذكر حق على نفسه بشهادة قوم أو كتب وصية ثم قال اشهدوا بهذا لفلان علي ولم يقرأ عليهم الصك ولم يقرأه عليه فهذا جائز إذا كتبه بين أيديهم بيده أو أملاه على إنسان فكتبه لأن المكتوب معلوم لهم وهو بقوله اشهدوا بهذا لفلان علي صار مقرا بجميع ما في الكتاب مشهدا لهم على ذلك ولا إظهار أتم من هذا فالإقرار بيان باللسان وذلك بالإملاء حاصل ولكن لا يؤمن النسيان فالكتاب يؤمن من ذلك ما يكون من البيان وإن لم يحضروا كتابته ولا إملاءه لم تجز شهادتهم لأنه لا علم لهم بما في الكتاب حين لم يقرأه عليهم وقال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] فمن لم يعلم ما شهد عليه لا تجوز شهادته وإن كتب رجل كتابا إلى رجل من فلان إلى فلان أما بعد فإن لك علي من قبل فلان كذا وكذا درهما فذلك جائز عليه إذا كتب ما يكتب الناس في الرسائل.
وفي القياس: لا يجوز هذا لأن الكتاب محتمل قد يكون لتجربة الخط والقرطاس وقد يكون ليعلم كتب الرسالة والمحتمل لا يكون حجة ولكنه استحسن للعادة الظاهرة بين الناس أنهم إنما يكتبون كتاب الرسائل بهذه الصفة لإظهار الحق وإعلام ما عليه من الواجب فإذا ترجح هذا الجانب بدليل العرف حمل الكتاب عليه بمنزلة لفظ محتمل يترجح فيه معنى بدليل العرف وإن جحد وشهدت البينة أنه كتبه أو أملاه جاز عليه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك هذا في الطلاق والعتاق وسائر الحقوق ما خلا القصاص والحد فإني آخذ فيها بالقياس لأنها عقوبات تدرأ بالشبهات فاحتمال جهات أخرى سوى ما ترجح بدليل العرف يصير شبهة في ذلك وهو نظير الاستحسان في صحة إقرار الوكيل على موكله في مجلس القاضي أنه لا يجعل حجة في القصاص والحدود أخذا بالقياس لبقاء شبهة عدم الخصومة حقيقة في الإقرار ولكنه يضمن السرقة بهذا الكتاب لأن الضمان يثبت مع الشبهات .
إن كتب في الأرض أو في صحيفة أو خرقة لفلان علي ألف درهم لم يلزمه شيء لأنه لا عرف في إظهار الحق الواجب بهذا الطريق فيبقى محتملا في نفسه والمحتمل لا يكون حجة بخلاف المكتوب على رسم كتب الرسائل للعرف الظاهر فيه بين الناس وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أجيز كتاب القاضي حتى يشهد الشهود على ما في جوفه وهو قول محمد رحمه الله لأن المشهود به ما في الكتاب فلا بد أن يكون معلوما للشهود وإن يشهدوا عليه فإذا كتبه بين أيديهم وقال أشهدوا عليه جاز لأنه صار معلوما لهم وإن لم يحضروا الكتاب لم تجز شهادتهم حتى يقرأ عليهم فأما عند أبي يوسف رحمه الله إذا أشهدهم على الكتاب والخاتم وشهدوا على ذلك أجيزه وإن لم يعلموا ما فيه استحسانا لأن كتاب القاضي إلى القاضي قد يشتمل على شيء لا يريد أن يقف عليه غيرهم ففي تكليف إعلامهم ما في الكتاب

 

ج / 18 ص -151-    نوع حرج وبالختم يقع الأمن من التغيير والتبديل فلهذا استحسن أبو يوسف رحمه الله قبول ذلك ير أنهما قالا كتاب الخصومة لا يشتمل على التبديل لذلك كتاب آخر فلا بد من إعلام الشهود ما في الكتاب.
ولو قرأ رجل على رجل صكا فقال أشهد عليك بما في هذا الكتاب فقال نعم فسمع ذلك آخر وسعه أن يشهد عليه لأن معنى كلامه أشهد على جميع ما قرئ وذلك معلوم للسامع والقارئ جميعا وهذا من المجيب إقرار تام فلمن سمعه أن يشهد عليه سواء أشهده عليه أو لم يشهده
قال الشعبي رحمه الله: إذا أشهد الرجل قوما على شهادة فسمع ذلك آخرون فشهدوا فهي شهادة جائزة وإذا كتب الرجل ذكر حق لفلان عليه بكذا وعندهم قوم حضور ثم قال اختموا عليه فليست هذه بشهادة لأن قوله اختموا محتمل يجوز أن يكون معناه لا تظهروه فإنه غير واجب على والمحتمل لا يكون حجة فإن الشيء يختم عليه ليكون محفوظا تارة وليكون مكتوما أخرى
وكذلك لو قالوا:أنشهد عليك فقال اختموه ولو قالوا نختم هذا الصك فقال اشهدوا كان جائزا لأن الشهادة لا تكون إلا للاستئمان بالحق والأمن من الجحود فيصير بهذا اللفظ مقرا بوجوب الحق عليه والحاصل أن لفظ الشهادة خاص شرعا لإظهار الحقوق ألا ترى أن الشاهد عند القاضي لو أبدل هذه اللفظة بلفظة أخرى لم يقبل القاضي منه شهادته فكذلك الذي يشهد على الكتاب إذا أبدله بلفظ آخر هو محتمل لا يكون إظهارا للحق الواجب عليه ولو كتب رسالة من فلان إلى فلان أما بعد فإنك كتبت إلي إني ضمنت لك عن فلان إلف درهم ولم أضمن لك ألفا وإنما ضمنت لك عنه خمسمائة وعنده رجلان شهدا كتابته ثم مجيء كتابه فشهدا بذلك عليه لزمه وإن لم يقل لهما أشهدا ولا اختما فللاستحسان الذي بينا من حيث العرف لا تكتب الرسالة بهذه الصفة إلا للإعلام بالحق الواجب ثم محوه الكتابة بمنزلة الرجوع عن الإقرار ففرق بين هذا وبين الصك فإن هناك ما لم يقل أشهدوا علي بهذا ألا يكون ملزما إياه وهذا فرق مبني على العرف أيضا فإن الصكوك توثيق بالإشهاد عليها عادة ولا يتم إلا بها وكتب الرسائل تخلو عن الإشهاد عليها عادة فلهذا كان مجرد الكتابة بين أيديهم ملزما إياه وإن لم يقل أشهدوا وكذلك الطلاق والعتاق وكل حق يثبت مع الشبهات ولو كتب هذه الرسالة قدام رجلين أميين لا يقران ولا يكتبان فامسك الكتاب عندهما وشهدا به عليه فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله
أما لو أقرأ الكتاب عندهما وشهدا به عليه فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله بمنزلة ما لو أقرأ الكتاب عند القاضي أنه كتبه إليه قبل أن يفسر القاضي ما فيه وهذا كله بناء على أصل أبي يوسف رحمه الله أن علم الشهود بما في الكتاب ليس بشرط وأما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلا يجوز حتى يعلما ما في الكتاب أو يقرآنه عند القاضي مفسرا وأصله

 

ج / 18 ص -152-    فيما ذكر كتاب أدب القاضي أن القاضي إذا وجد في خريطته سجلا فيه حكمه وختمه ولم يتذكر الحادثة فليس له أن يقضي به عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له ذلك فمحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين تلك فيقول أصل الحادثة هناك كان معلوما عنده ثم نسيه وقد أمن من التبديل فيه لكونه تحت خاتمه وهنا أصل الحادثة لم يكن معلوما للشاهد وهو أمي لا يعرف الكاتب ولم يسمع الكاتب يخبر فلم يسند علم الشهادة به أصلا ولو كتب على نفسه صكا قدام أميين ثم قال أشهدا عليه وهما لا يعلمان ما فيه لم يجز ذلك بالاتفاق لأن الإشهاد على ما ليس بمعلوم للشاهد باطل فذكره كعدمه وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول فيقول الإشهاد على كتاب الرسالة ليس بشرط فعلم الشاهد بما فيه لا يكون شرطا أيضا والإشهاد على الصك شرط لجواز الشهادة عليه فعلم الشاهد بما فيه يكون شرطا أيضا .
لو كتب رسالة في تراب لم يجز لما بينا من انعدام الفرق المرجح في هذا إلا أن يقول أشهدا علي بهذا فحينئذ هو جائز لأن بالكتابة في التراب صار معلوما لهم فإذا أشهدهم على معلوم صار كأنه ذكر ذلك بلسانه بين أيديهم وكذلك إن كتبه في خرقة أو صحيفة أو لوح بمداد أو بغير مداد إلا أنه يستبين فيه الخط ثم قال أشهدا علي بذلك أو أقر عند القاضي أنه كان كتب لم يلزمه ذلك لأن الكتابة التي لا يستبين فيها الخط كالصوت الذي لا تستبين فيه الحروف وذلك لا يكون إقرارا بشيء فكذلك هنا وهذا لأن الإشهاد إنما يصح على ما يكون معلوما للشهود والكتابة التي يستبين فيها الخط لا توجب إعلام شيء لهم ولأن المقصود بالكتاب الحفظ عن النسيان وشيء من هذا المقصود لا يحصل بالكتابة التي لا يستبين فيها الخط فوجوده كعدمه.
ولو كتب في صحيفة حسابه أن لفلان علي ألف درهم وشهد شاهدان حضرا ذلك أو أقر هو عند الحاكم به لم يلزمه إلا أن يقول أشهدوا علي به لأن ما يكتب في صحيفة الحساب محتمل وقد بينا اختيار أئمة بلخ رحمهم الله فيه فيما سبق ولو كتب أن لي على فلان ألف درهم في صك بخطه قدام شاهدين وبمحضر ممن عليه المال وهو كان يعرف ما يكتب ثم قال للشاهدين أشهدا فقال فلان المكتوب عليه نعم فهو جائز وهما في سعة بأن يشهدوا أنه أقر وأشهدهما على نفسه لأن كتابة صاحب الحق صار معلوما كما يصير معلوما كتابة من عليه الحق وتمام الصك بالإشهاد وقد حصل ذلك بقول من عليه الحق نعم لأن معناه نعم فاشهدوا على ذلك.
ألا ترى أن في الإقرار باللسان لا فرق بين أن يتكلم به صاحب الحق فيقول أليس لي عليك كذا فيقول من عليه بلى وبين أن يتكلم به من عليه الحق فكذلك في الكتاب والله أعلم بالصواب.

 

ج / 18 ص -153-    باب الإقرار بالدين في الحيوان
 قال رحمه الله: فإذا أقر الرجل أو المرأة أن لفلان علي عبدا ثم أنكره فإنه يقضى عليه بقيمة عبد وسط كما يقضى في المهر في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله القول قوله مع يمينه فمحمد رحمه الله يقول إقراره بالعبد دينا عليه كإقراره بغصب عبد هو عين في يده وذلك لا يتعين به وصف بل على أي وصف بينه قبل قوله فيه فكذلك هنا ولأن المقر به مجهول فيكون البيان فيه إلى المقر ولا يتعين لوجوب المقر به سبب هذا لمطلق إقراره لأنه لم يتعرض في إقراره لسبب وبين الأسباب معارضة فلا تتعين وتعيين صفة الوسط بتعين بعض الأسباب.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: إنه أقر على نفسه بالعبد مطلقا فيصرف مطلق الإقرار إلى السبب الذي يثبت به العبد المطلق دينا في الذمة وذلك كالنكاح ويتعين فيه وكأنه صرح بذلك فأقر لامرأة بدين عليه صداقا ولو صرح بذلك تعين فيه الوسط فكذلك هنا وكذلك إن أقر به لرجل فلعل هذا الرجل كان زوجه ثلاثة على عبده ثم ماتت فصار ذلك ميراثا للأب وكذلك إن كان المقر امرأة فلعلها ضمنت الصداق عن الزوج ثم ماتت المنكوحة فصار ذلك ميراثا لأبيها على الضامنة مع أن العبد المطلق كما يثبت صداقا يثبت في الخلع والصلح عن دم العمد ويتعين فيه الوسط على وجه يكون الواجب مترددا بين العبد وبين قيمته فأيهما أتى به جبر الطالب على قبوله فبالإقرار تثبت هذه الصفة أيضا.
وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على الأصل الذي بينا في أول الكتاب أن عند أبي يوسف رحمه الله مطلق الإقرار بالمال ينصرف إلى التزام بسبب عقد مشروع وعند محمد رحمه الله لا تتعين هذه الجهة وقد بيناه في الإقرار للجنين وإذا قال له عبد فرض عليه قيمة عبد والقول فيها قوله مع يمينه أما عند محمد رحمه الله فظاهر وكذلك عند أبي يوسف رحمه الله هنا لأنه صرح بالقرض وكذلك يمنع مع تعين العقود التي يثبت فيها الحيوان دينا في الذمة وتتعين الصفة المتوسطة باعتبار ذلك فإذا سقط اعتباره بقي إقراره بقبض عبده بطريق القرض واستقراض الحيوان وإن كان باطلا فالمقبوض يصير مضمونا بالقيمة كالمغصوب ولو أقر بالغصب كان القول في تعيينه قوله ولو كان مستهلكا فالقول في بيان قيمته قوله فكذلك هنا .
لو قال له:علي دابة كان عليه قيمة أي الدواب لأن أسم الدابة يتناول أجناسا مختلفة ولا يصح التزامها في شيء من العقود بهذا اللفظ فلم يتعين لما أقر به وضعا بل البيان في ذلك إلى المقر فإذا جاء بدابة بعينها وقال هي هذه فالقول قوله إن جاء بفرس أو برذون أو بغل أو حمار ولا أقبل منه غير ذلك لأن أسم الدابة يتناول هذه الأجناس الثلاثة بدليل ما لو حلف لا يركب الدابة لا يتناول إلا هذه الأجناس الثلاثة وذلك معروف في كتاب الأيمان وإنما يصح البيان من المقر إذا كان مطلقا للفظه

 

ج / 18 ص -154-    ولو أقر أن لفلان عليه دارا أو أرضا أو نخلا أو بستانا فحقيقة هذا الكلام محال لأن حقيقته إقرار بالدين وهذه الأشياء لا تكون دينا بحال ولكن إذا تعذر العمل بحقيقة الكلام وله مجاز محتمل يحمل عليه فكأنه قال علي رد هذه الأشياء قال صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت حتى ترد" فيكون بمنزلة إقراره بغصب دار أو بستان فيؤخذ بأدنى ما يكون ذلك حتى يدفعه إليه لأن الأدنى هو المتيقن به .
لو أقر أن لفلان عليه ثوبا هرويا فما جاء به من ثوب هروي بعد أن يحلف قبل هذا على قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله فينبغي أن ينصرف إقراره إلى الوسط على قياس العبد وصح في قولهم جميعا وأبو يوسف رحمه الله يفرق فيقول هناك العبد المطلق لا يثبت إلا دينا إلا في معاوضة مال بما ليس بمال ويتعين فيه الوسط وهنا الثوب الهروي يثبت دينا في مبادلة مال كالسلم فلا يتعين فيه الوسط بل لا بد من بيان الوصف فيه فلا يتعين لإقراره هنا ببعض الأسباب فلهذا قبل قوله في بيانه بعد أن يحلف إذا ادعى المقر له شيئا آخر
 وكذلك لو قال: له على ثوب ولم يسم جنسه فأي ثوب جاء به قبل منه اللبيس والجديد فيه سواء ولا يترك حتى يسمى ثوبا لأن بمطلق أسم الثوب لا يثبت الثوب دينا في شيء من العقود فيصير كلامه عبارة عن الإقرار بالغصب ومع بيان الجنس والصفة والأجل يثبت دينا فلهذا كان القول في بيانه قول المقر ولو أقر أنه لا هبة له قبل فلان ثم ادعى صدقة أو شراء فهو على دعواه لأنه ادعى غير ما نفاه .
ولو قال لا بيع لي قبل فلان ثم ادعى عبدا جعله له من صلح أو قال لا صلح لي قبل فلان ثم ادعى عبدا شراء كان على دعواه لأنه ادعى غير ما نفاه ولو أقر أنه ليس له من هذا العبد شيء ثم ادعى أنه اشتراه لغيره قبل إقراره لم يقبل ذلك منه لأنه مناقض في كلامه ففيما ما اشتراه لغيره مما هو من حقوق العقد من القبض والخصومة في العبد كأنه اشتراه لنفسه ولو ادعاه لنفسه بعد ذلك الإقرار لم يسمع منه فكذلك إذا ادعى أنه اشتراه لغيره وإذا أقر بالرهن في السلم لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول حتى يعاين الشهود التسليم ويجوز في قوله الآخر وهو قولهما وقد بيناه فيما سبق فإن كان في يد الراهن أمر بالدفع إلى المرتهن لأن ثبوت إقراره بالبينة كثبوته بالمعاينة وإن تصادقا في رهن بغير قبض أو على رهن مشاع فهو باطل لأن الرهن لا يتم إلا بالقبض والشيوع يمنع ثبوت اليد بحكم الرهن عندنا فإنما تصادقا على سبب غير ملزم ولو عاينا ما تصادقا عليه لا يجبر على التسليم ولو أقر أنه رهن هذا العبد من فلان بمائة درهم وأنه قد قبضه منه وقال فلان بمائتي درهم فالرهن جائز وهو مائة درهم لأن المرتهن يدعي زيادة في دينه والزيادة لا تثبت بدعواه والدين ليس ببدل عن الرهن فاختلافهما في مقدار الدين لا يتضمن التكذيب في أصل الرهن فلهذا كان رهنا بما اتفقا من المال عليه والله أعلم.

 

ج / 18 ص -155-    باب الإقرار بكذا وإلا فعليه كذا
 قال رحمه الله :قد تقدم بيان الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في قوله لفلان علي ألف درهم وإلا فلفلان أن عند أبي يوسف رحمه الله هذا بمنزلة قوله أو لفلان وعند محمد رحمه الله هو للأول دون الثاني ففرع على ما ذكر ثمة وقال إذا قال لفلان علي ألف درهم أقرضنيها أمس وإلا فعبده حر فهذا منه تأكيد للإقرار باليمين لأن العتق يحتمل التعليق بالشرط فيلزمه المال ولا يعتق العبد كما لو حلف على ذلك بطلاق أو بحج ولو أقر أنه استقرض من فلان ألف درهم وقبضها أو لفلان عليه ألف درهم فالإقرار للأول جائز والثاني مخاطرة لا يلزمه أما على قول محمد رحمه الله فظاهر وأما على قول أبي يوسف رحمه الله فكذلك لأنه لا مجانسة بين الكلامين فإن القبض بحكم الاستقراض فعل وآخر كلامه قول فلا يمكن أن يجعل قوله وإلا بمعنى الترديد كحرف أو فبقي مقرا بالمال للأول ومعلقا إقراره للثاني بشرط عدم الاستقراض والقبض من الأول وتعليق الإقرار بالشرط لا يجوز .
وكذلك لو قال: ابتعت من فلان هذا العبد بألف درهم وإلا فلفلان علي خمسمائة إلا أن هنا إن أقر رب العبد ببيع العبد لزمه الألف وإن أنكر ذلك لا يلزمه شيء لأنه صار رادا لإقراره حين أنكر بيع العبد منه وإقراره بالخمسمائة كان معلقا بشرط وهو باطل من أصله ولو قال قد أعتقت عبدي هذا وإلا فغلامي هذا حر عتق الأول دون الثاني لأنه أكد عتق الأول باليمين بعتق الثاني إذ لا مجانسة بين الكلامين لمحل قوله أو ولو قال هذا حر وإلا فهذا أو أعتقت هذا وإلا فقد أعتقت هذا كان مخيرا بينهما عند أبي يوسف رحمه الله لأنه لما تجانس الكلامان فقوله وإلا بمنزلة قوله أو كما لو قال لفلان علي ألف درهم وإلا فلفلان علي مائة دينار أما عند محمد رحمه الله في هذا كله فالأول إيجاب صحيح والثاني باطل لأنه بمنزلة التعليق بالشرط والله أعلم .

باب إقرار الرجل في نصيبه
 قال رحمه الله: وإذا كانت الدار بين رجلين فأقر أحدهما أن نصيبه منها لفلان لا حق له فيه صح إقراره لثبوت ولاية التصرف له على نصيبه وكذلك إن أقر ببعض نصيبه من نصف أو عشر أو غير ذلك وكذلك لو أقر له بنصف الدار مطلقا ينصرف إقراره إلى نصيبه خاصة لأن قصده تصحيح كلامه ولا يصح إلا بأن يحمل إقراره على نصيبه ولو قال له ربع جميع هذه الدار ولي ربع ونصفه ولصاحبي ربع ونصفه وجحد شريكه ذلك فإن نصف الدار حصة المقر بين المقر والمقر له على خمسة للمقر سهمان وللمقر له ثلاثة لأن المقر يعامل في نصيب صاحبه نفسه كأن ما أقر به حق ولا يصدق على غيره وقد زعم المقر هنا أن حق المقر له في سهمين من ثلثه وحقي في ثلثه وحق شريكي في ثلثه إلا أن شريكه ظلمهما حين أخذ زيادة على مقدار حقه فلا يكون ذلك الظلم على أحدهما خاصة بل يجعل ذلك كالثاوي

 

ج / 18 ص -156-    ويبقى ما في يد المقر تصرف فيه المقر له بسهمين والمقر بثلثه فيكون مقسوما بينهما على خمسة .
وإذا أقر أن لفلان عليه ألفا وأنه قد قضاها إياه فوصل الإقرار بهذا ثم جاء بالبينة أنه قضاها إياه قبل ذلك منه استحسانا وفي القياس لا يقبل وهو قول زفر رحمه الله لأن كلامه محال فإنه أقر بوجوب المال عليه في الحال وما قضاه قبل هذا لا يكون عليه في الحال فكان مناقضا في دعوى القضاء والكلام المحال والتناقض لا يمكن إثباته بالبينة ولكن استحسن للعرف فإن الناس يذكرون هذا اللفظ ويريدون به أنه كان له عليه ذلك .
ألا ترى أن الرجل يقول هذا الثوب للأمير كسانيه أو هذه الدابة للأمير حملني عليها والمراد أنه كان له لا أنه في الحال له كذلك هنا ولو قال له علي ألف درهم ثم قال بعد ماسكت قضيتها إياه قبل أن أقر بها وجاء بالبينة لم يقبل منه لأن قوله قضيتها إياه بيان مغاير لظاهر كلامه فإن ظاهر كلامه الإخبار بوجوب المال عليه في الحال على احتمال أن يكون مراده أنه كان ومثل هذا الكلام إنما يسمع موصولا لا مفصولا فإذا سكت تقرر المال عليه واجبا في الحال فهو في قوله قضيتها إياه قبل أن أقر بها مناقض في كلامه.
ولو قال: كان له علي ألف درهم ثم قال قد قضيتها إياه قبل أن أقر به وجاء بالبينة قبلت بينته لأن قوله كان كذا لا يكون تصريحا منه بقيامه في الحال وإنما يجعل قائما باعتبار استصحاب الحال لأن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه وإنما يصار إلى استصحاب الحال إذا لم يقم الدليل بخلافه وقد قام الدليل هنا حين أتى بالبينة على ما ادعى من القضاء بخلاف ما سبق فإن كلامه الأول هنا تصريح بوجوب المال عليه في الحال فهو بقوله كنت قضيتها من قبل يكون مناقضا فيما صرح به وعلى هذا لو قال هذا العبد لفلان اشتريته منه فوصله بإقراره وأقام البينة على الشراء قبلت بينته استحسانا ولو قال بعد ما سكت اشتريته منه قبل الإقرار أو وهبه لي أو تصدق به علي لم تقبل بينته استحسانا فهذا والأول سواء.
 ولو أقر أن هذا العبد الذي في يده عبد لفلان اشتريته منه بألف درهم ونقدته الثمن ثم قال بعد ذلك اشتريته من فلان الآخر بخمسمائة درهم ونقدته الثمن فإن أقام البينة على ذلك كله فهو جائز وعليه اليمين للأول والثمن للآخر ومراده من هذا الجواب إذا أقام البينة على التعيين فقط دون نقد الثمن فأما إذا أقام البينة على نقد الثمن فلا شيء لواحد منهما وإذا أقام على التعيين فقط فالمبيع مقبوض له وثمن المبيع المقبوض يكون متأكدا على المشتري وفي الذمة سعة بالحقوق فلهذا لزمه الثمن لكل واحد منهما وإذا لم تقم بينة على ذلك فالعبد للأول إذا جحد البيع لأن إقراره بالشراء منه إقرار بملك أصل العبد له ولم يثبت شراؤه منه حين جحده فعليه رد العبد عليه وقد أقر للثاني أنه قبض العبد منه بجهة البيع فإن صدقه في ذلك فله الثمن خمسمائة لأنه غير مصدق عليه فيما يدعي من نقد الثمن إذا لم يصدقه في ذلك.

 

ج / 18 ص -157-    وإن جحد البيع ضمن له المقر قيمة العبد لأن المقبوض على جهة الشراء مضمون بالقيمة على القابض كالمقبوض بحقيقة الشراء إذا لم يجب به الثمن المسمى وكذلك هذا في الدار والأرض والعروض وإذا أقر الرجل أن هذا العبد في يديه بينه وبين فلان ثم قال بعد ذلك هو بيني وبين فلان الآخر ثم تخاصموا إلى القاضي فإنه يقضي للأول بنصيبه لأنه شركه بنفسه في العبد وعند ذلك هو كان مالكا لجميع العبد ظاهرا فيكون كلامه إقرارا بالنصف ثم ساوى الثاني بنفسه في العبد وعند إقراره للثاني ما كان يملك في المقر به إلا نصفه فصار مقرا له بنصف ذلك النصف وساوى الثالث بنفسه في العبد وعند ذلك ما كان يملك من العبد إلا ربعه فصار مقرا له بنصف ذلك الربع وهو الثمن ويبقى في يد المقر الثمن.
وكذلك لو أقر على ميت هو وارثه فإقراره فيما يخلف الميت بمنزلة إقراره على نفسه ابتداء ولو أقر بالعبد كله لفلان ثم قال بعد ذلك هو لفلان فإنه للأول ولا شيء للآخر إلا أن يدفعه إلى الأول بغير قضاء فحينئذ يضمن للآخر قيمته وقد بينا هذه الفصول في إقراره بالغصب والوديعة والعارية فيما اتفقوا عليه واختلفوا فيه .
ولو كانت دابة في يدي رجل فقال استودعني فلان نصف هذه الدابة ثم قال استودعني فلان نصف هذه الدابة ثم قال استودعني فلان آخر نصف هذه الدابة فينصرف مطلق إقراره إلى ذلك ثم يضمن للثالث نصف قيمتها عند أبي يوسف رحمه الله إذا دفع بغير قضاء إلى الأولين وعند محمد رحمه الله سواء دفع بغير قضاء أو بقضاء على ما بينا فيما سبق في دار في يد رجل ثم أقام الآخر البينة عليه أنه أقر إنها له وأقام ذو اليد البينة أن المدعي أقر أنها له فالثابت من الإقرارين بالبينة كالثابت بالمعاينة فيتغايران للتعارض فتبقى الدار في يده على ما كان وإن شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة جازت الشهادة على ألف وإن ادعى المدعي أكثر المالين لا تفاق الشاهدين على ألف لفظا ومعنى.
وكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لو شهد أحدهما بألف والآخر بألفين وعند أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل الشهادة هنا لاختلاف الشاهدين في اللفظ وهي مسألة دوارة في الكتب معروفة بيناها في كتاب الطلاق وإن شهدا على أنه أقر بألف فقال أحدهما كنا جميعا وقال الآخر كنت وحدي فالشهادة جائزة لأن الإقرار قول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فبهذا لا يختلف المشهود به ولو ادعى على رجل ألف درهم فقال قد أخذت منها شيئا فقد أقر بها لأن الهاء والألف في قوله منها كناية عن الألف فكأنه قال قد أخذت من الألف التي لك على شيئا .
وكذلك إذا قال: كم وزنها أو متى حلها أو ما ضربها أو قد برئت إليك منها أو قد أديتها إليك فهذا كله إقرار بألف لما بينا ولو قال قد برئت إليك من كل قليل وكثير كان لك على لم يكن هذا إقرارا بالألف ولكنه إقرار بشيء لأنه لا يؤخذ من قوله الإيفاء

 

ج / 18 ص -158-    فيتضمن الإقرار بشيء مجهول الجنس والقدر فيكون مجبرا على بيانه وإذا بينه يحلف الطالب ما قبضه منه ويحلف المطلوب ما عليه غير هذا لأن الطالب يدعي عليه زيادة وهو لذلك منكر فالقول قوله مع يمينه والله أعلم.

باب الإقرار بما قبضه من غيره
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه أخذ ثوبا من دار بينه وبين آخر فادعى عليه الشريك نصف الثوب وأنكر المقر فالقول قول المقر لأن الثوب في يده وإقراره بالأخذ من دار مشتركة لا يتضمن الإقرار بالثوب غير متولد من الدار بل موضوع فيها وكل واحد من الشريكين ساكن في الدار يضع أمتعته فيها ثم يأخذها منها فلا يكون مقرا باليد للشريك في الثوب ولو أقر أنه قبض من بيت فلان ألف درهم ثم قال هو لي فالمال لصاحب البيت لأنه أقر بالأخذ من بيته فهو كإقراره بالأخذ من يده لأن ما في ملك الإنسان يكون في يده حكما لو نازعه فيه غيره كان القول قوله فيؤمر بالرد عليه حتى يثبت ما يدعيه من الملك لنفسه.
وكذلك إن زعم أنه لآخر إلا أنه يضمن للثاني مثله لأن إقراره حجة في حق نفسه وقد أقر بأنه قبض ملكه وتعذر عليه رده فيضمن له مثله وكذلك لو قال قبضت من صندوق فلان مائة درهم أو من كيسه أو سفطه ثوبا هرويا أو من قريته كرا من حنطة أو من نخله كرا من تمر أو من زرعه كرا من حنطة فهذا كله إقرار بأنه أخذ ما كان في يد فلان فعليه رده ولو قال قبضت من أرض فلان عدل زطي ثم قال مررت فيها مارا فنزلتها لم يصدق إذا لم يعرف نزوله فيها ويقضي بالزطي لصاحب الأرض وقد بينا هذا إلا أن تكون الأرض طريقا معروفا للناس أو يكون له التصرف فيها فالقول قوله حينئذ.
 وكذلك القرية إذا كان الطريق فيها لأنه متمكن من التصرف فيها بالنزول فيكون قياس الدار المشتركة التي يمكن كل شريك من السكنى فيها فلا يتضمن كلامه الإقرار بأنه خذ للعدل من صاحب الأرض ولو قال أخذت من دار فلان مائة درهم ثم قال كنت فيها ساكنا بأجرة فإن علم ذلك أو بينه بالبينة فهو بريء من المال وإلا لم يصدق وأمر برد المال لأنه إذا لم يثبت سبب يده على الدار في وقت ما يكون هذا إقرارا منه بأخذ المائة من صاحب الدار.
ولو شهد شاهدان أن فلانا أتى أرض فلان هذه فاحتفر فيها واستخرج منها ألف درهم وزن سبعة وادعاها رب الأرض وجحد الحافر أو أقر بذلك وادعى أن المال له فأني أقضي بها لرب الأرض لأن شهادتهم على أخذها من ملكه كشهادتهم على أخذها من يده أرأيت لو شهدوا أنه ضرب صاحب الأرض حتى أوقعه أو قاتله حتى غلبه ثم احتفر الأرض وأخرج المال أما كان يؤمر بالرد عليه فهذا مما لا يشكل على أحد أنه يؤمر برده وكذلك لو شهدوا أنه أخذ من منزله كذا أو من حانوته أو أخذ دهنا من قارورته أو سمنا من زقه فهذا وشهادتهم على الأخذ من يده سواء

 

ج / 18 ص -159-    وكذلك لو أقر أنه أخذ سرجا كان على دابة فلان أو لجاما أو حملا من حنطة كانت على دابة فلان أو طعاما كان في جولق فلان قضي به له لإقراره بالأخذ من يده فإن دابة فلان وما عليها من يده وكذلك لو أقر أنه أخذ بطانة جبته أو ستر بابه فالإضافة لملكه بمنزلة الإضافة إليه في أنه إقرار بالملك له.
وكذلك لو أقر أنه ركب دابة فلان أو لبس ثوب فلان أو استخدم خادمه ثم أخذه فلان آخر منه فهذا كله إقرار على نفسه بفعل هو غصب من ملك الأول فيؤمر بالرد عليه وإن عجز عن الرد كان ضامنا ولو قال فلان حملني على دابته أو في سفينته لم يضمن شيئا لأنه ما فعل بنفسه في ملك الغير وإنما أقر بفعل صاحب الدابة وذلك غير موجب للضمان عليه وكذلك لو أقر أنه حمل على دابة فلان هذا فعل ما لم يسم فاعله فلا يصير به مضيفا للحمل على نفسه ولا مقرا على نفسه بسبب موجب للضمان .
ولو أقر أنه أخذ ثيابا من حمام فلان لا يضمن شيئا لأن الناس يدخلون الحمام فيضعون ثيابهم فيها ثم يأخذونها فلا يتضمن هذا اللفظ الإقرار بيد أصلية لصاحب الحمام في الثياب وكذلك المسجد الجامع والكعبة والخان والأرض ينزلها الناس ويضعون فيها الأمتعة ولو أقر أنه وضع ثوبه في بيت فلان لم يضمن عند أبي حنيفة رحمه الله أن ادعاه رب البيت ويضمنه عندهما وهو نظير ما سبق إذا قال أسكنته داري ثم أخذتها منه ولو أقر أنه أخذ ثوبا من طريق فلان أو من فناء فلان لا ضمان عليه لأن الفناء أسم لسعة خارجة عن ملكه معدة لمنافعه من كسر الحطب وإلقاء الكناسة ونحوها فلا تكون تلك المنفعة في يد فلان على الخصوص بل للناس أن ينتفعوا بها وكذلك الطريق
ولو قال: أخذت ثوبا من أجير فلان فهو للأجير دون المستأجر من يده ويد الأجير في أمتعته يد نفسه حتى لو نازعه في شيء من ذلك فإن القول قول الأجير ولو أقر أنه أخذ ثوبا من مسجد فلان لم يكن عليه ضمان إلا أن يكون المسجد له خاصة في داره فيكون من جملة ملكه وما فيه يكون في يده فيضمنه ولو قال من هذه البيعة أو الكنيسة أو بيت النار أو القنطرة أو الجسر أو كل موضع للعامة مما لا يد عليه فيه لأحد لأن له حق وضع الأمتعة في هذه المواضع فلا يتضمن كلامه الإقرار بأخذه من يد إنسان والله أعلم .

باب إقرار الرجل على نفسه وعلى غيره
 قال رحمه الله:وإذا قال الرجل لفلان علي وعلى فلان ألف درهم فجحد الآخر لزم المقر نصفه لأنه عطف الآخر على نفسه والعطف يقتضي الاشتراك في الخبر وإقراره على نفسه حجة وعلى الآخر ليس بحجة.
 وكذلك لو سمى اثنين معه لزمه الثلث وكذلك لو سمى عبدا محجورا أو صبيا أو حربيا أو ذميا أو رجلا لا يعرف فعلى المقر حصته على عددهم لأن جميع من سمى ذمته صالحة لالتزام المال فيتحقق الاشتراك ويكون مقرا على نفسه بحصته خاصة .

 

ج / 18 ص -160-    ولو قال: أن لفلان عينا ألف درهم ولم يسم أحدا ثم قال عنيت فلانا وفلانا لزمه المال كله إن ادعاه الطالب عليه عندنا وعند زفر رحمه الله لا يلزمه إلا حصته لأن إقراره بلفظ الجمع وحقيقة لفظ الجمع لا تتناول المفرد فكان القول قوله في بيان العدد الذي تضمنه الإقرار لأن إبهام العدد في المقر عليه بمنزلته في المقر به فيرجع في بيانه إليه وكنا تركنا هذه الحقيقة لدليل عرف الناس فقد يخبر الواحد عن نفسه بعبارة الجمع تارة وبعبارة المفرد أخرى ألا ترى أن العظماء من الناس يقولون فعلنا بكذا وأمرنا بكذا ونحن نقول كذا وإنما يريدون أنفسهم ويؤيد هذا قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19] وقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}[قّ:43] وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر: من الآية9] فإذا كان عرف ظاهر جعلناه بهذا اللفظ مخبرا عن نفسه فيلزمه المال.
 وكذلك لو قال علينا وأشار بيده إلى نفسه وإلى آخرين معه لأن الإقرار إنما يحصل بلفظه لا بإشارته فوجود هذه الإشارة كعدمها إلا أن يكون معه رهط قعود فقال لفلان علينا جميعا أو علينا كلنا وأشار إلى نفسه وإليهم فحينئذ لا يلزمه إلا حصته على عدد القوم الذين معه لأنه قرن بكلامه لفظا يمنعنا أن نحمل كلامه على الإخبار عن نفسه خاصة وهو قوله كلنا فعرفنا أنه مضيف الإقرار إلى نفسه وإلى القوم الذين هم جلوس معه وقد أظهر ذلك بإشارته إليهم فلم يلزمه إلا حصته بخلاف ما سبق.
ولو قال: لفلان على رجل منا كر أو رجلين منا كر لم يلزمه شيء لأنه أقر على مجهول فإنه جعل المقر عليه منكرا وهو معرفة في حق نفسه فلا يمكن أن يجعل لفظه عبارة عن نفسه ولو قال يا فلان لك علي ألف درهم لزمه المال كله لأنه خاطب المقر له بهذا اللفظ وقد يخاطب المفرد بعبارة الجمع تعظيما وهذا ظاهر عند أهل اللسان وكذلك لو قال أنتم يا فلان لكم علي ألف درهم أو قال نحن يا فلان لك علينا ألف درهم فهو إقرار له بالمال على نفسه لما قلنا ولو قال يا فلان لكما علي ألف درهم كان لفلان منهما النصف لأنه لا يخاطب المفرد بعبارة التثنية إذ ليس في ذلك غرض فإن في عبارة الجمع للمفرد معنى التعظيم وليس ذلك في عبارة التثنية فإنما صار مقرا له ولمجهول آخر بألف درهم فلا يلزمه إلا نصف الألف وبعض أهل اللغة يقولون يلزمه الألف له فخطاب التثنية للمفرد يوجد في القرآن العزيز قال الله تعالى:
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}[قّ:24] وقال تعالى: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [قّ:26] ولكن محمد رحمه الله أبقى الجواب على ما هو المعروف بين العوام من الناس.
ولو قال :أقرضنا فلان ألف درهم أو استودعنا أو أعارنا أو غصبناه منه لزمه جميع المال ولا يصدق أنه أراد به غيره معه لما قلنا ولو قال غصبت ومعي فلان من فلان مائة درهم لزمه النصف بخلاف ما لو قال ومعي فلان جالس لأنه متى ذكر للثاني خبرا لا يكون

 

ج / 18 ص -161-    اشتراكا بينه وبين نفسه في الخبر وإذا لم يذكر خبرا تحقق الاشتراك للعطف كما إذا قال زينب طالق ثلاثا وعمرة تطلق ثلاثا بخلاف ما لو قال وعمرة طالق ولو قال له علي عشرة مثاقيل فضة ثم قال هي سود فالقول قوله لأن بيانه مقرر لأول كلامه فإن أسم الفضة يتناول السود والبيض على السواء فيكون بيانه مقبولا ولو قال له علي ألف درهم قرضا ولم أقبضها لم يصدق وإن وصل لأن المال لا يجب عليه بالقرض إلا بالقبض فكان هذا رجوعا .
وكذلك لو قال: له عندي ألف درهم وديعة أو غصب لم أقبضها لم يصدق لأن المال لا يصير وديعة عنده ولا غصبا قبل القبض ولو قال له علي ألف درهم من ثمن متاع باعنيه ونسأني إلى العطاء لم يصدق في الأجل إذا أنكره الطالب لأنه لو ادعى أجلا صحيحا لم يقبل قوله فإذا ادعى أجلا فاسدا كان ذلك أولى وكذلك لو ادعى فيه شرطا يفسده أو زاد مع ذلك خمرا أو خنزيرا لم يقبل قوله لما بينا وأورد في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله إذا قال له علي ألف درهم زيوف وقال المقر له بل هي جياد فعندنا يلزمه المال كما أقر به وعند زفر رحمه الله إقراره باطل لأنه رد إقراره وادعى عليه شيئا آخر فقياس تلك المسألة على قول زفر رحمه الله هنا يوجب أن يكون إقراره باطلا وأورد أيضا ثم أنه لو قال لفلان علي ألف درهم ثمن هذا العبد لا بل ثمن جارية وادعاهما المقر له أن على قول أبي يوسف رحمه الله يلزمه ألف واحد وعند زفر رحمه الله يلزمه ألفان .
ولو قال: لا بل هي ثمن جارية لم يلزمه إلا ألف واحد بالإنفاق وهذا بناء على ما تقدم من القياس والاستحسان في استدراك الغلط بقوله لا بل ولو قال لفلان علي ألف درهم فقال المقر له بل هي لفلان على فعلى قول زفر رحمه الله يبطل إقراره وعندنا يكون المال للثاني استحسانا ونظائر هذا الفصل قد ذكرناها في الجامع والله أعلم.

باب الإقرار في غير المرض
قال رحمه الله: وإقرار الصحيح بالدين والقرض والغصب والوديعة لوارثه وغير وارثه والمكاتبة وإقرار المكاتب لمولاه جائز كله لأنه لا حق لأحد في مال الصحيح ولا تهمة في إقراره فإنه ممكن من تحصيل مقصوده بطريق الإنشاء وإذا أقر المريض فقال لفلان علي حق فصدقوه فيما قال ثم مات المريض ففي القياس لا يصدق على ما يدعي في يده من غير حجة لأن هذه وصية بخلاف حكم الشرع فإن من حكم الشرع أن لا يصدق في دعواه قال صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي الناس بدعواهم" الحديث ووصيته بخلاف الشرع باطلة ولكنه استحسن فقال يصدق الطالب فيما بينه وبين الثلث لأنه سلطه على مال نفسه وهو مالك لتسليطه على قدر الثلث في ماله إيجابا له فكذلك يصح تسليطه إياه على قدر الثلث إخبارا به وهذا لأن الشرع جعل ثلث المال حقا للمريض ليفك به نفسه ويصرفه في حوائجه ومن حوائجه تفريغ ذمته وربما يعلم بوجوب الحق للغير عليه ويشتبه عليه مقداره فيقر به ويفوض بيان المقدار إلى صاحب الحق لعلمه بأمانته فلهذا صححنا وصيته في التصديق بقدر الثلث.

 

ج / 18 ص -162-    وإن ادعى أكثر من ذلك لم يقبل قوله ولكن يحلف الورثة على علمهم لأنا كنا نصدقه باعتبار وصية الموصي ووصيته لا تكون ملزمة فيما زاد على الثلث وإن أقر المريض بدين مسمى بعد ذلك كان الدين المسمى أولى في جميع تركته لأن حق صاحب الدين المسمى معلوم ثابت بما هو حجة وهو الإقرار وحق الآخر مجهول ويشبه دعوى المدعي ولا يقع التعارض بين الضعيف من السبب وبين القوى فلهذا كان صاحب الدين المسمى أولى وإن لم يقر بدين مسمى ولكنه أوصى بوصية معلومة كانت الوصية بالثلث أولى من ذلك الإقرار أيضا لأن حق الموصى له معلوم مسمى والمجهول لا يزاحم المعلوم فلم يزد على هذا في الكتاب وأورد في الزيادات أن الموصى له بالثلث إذا أخذ الثلث يقال لا بد له من أن يقر بشيء لآخر فنعطيه ثلث ذلك مما في يدك لأن الموصى له شريك الآخر الوارث وقد أقر الميت للآخر بدين مجهول والدين مقدم على الوصية فلا بد للموصى له أن يبين كما لا بد من ذلك للوارث ولكن وضع المسألة هناك فيما إذا قال لفلان علي دين فصدقوه وهنا قال لفلان علي حق فصدقوه فما زاد على هذا من الكلام فيه فقد بيناه فيما أمليناه من شرح الزيادات.
ولو أقر في مرضه بدين ثم بدين آخر تخاصموا جميعا لأنه لما تقدم الإقرار بالدين فقد صار ماله مشغولا بحق الغريم على وجه لا يملك إبطال حقه عنه فإقراره بالوديعة بعد ذلك إقرار بوديعة مستهلكة فهو كالإقرار بالدين ولو قال لفلان علي ألف إلا درهم أو غير درهم أو نقصان درهم كان كما قال لأن المستثنى من جنس المستثنى منه حقيقة فتصريحه في المستثنى بالدراهم يكون بيانا في المستثنى منه أنه من الدراهم .
ولو قال: له علي ألف درهم إلا تسعمائة فعليه مائة لما بينا أن الإستثناء صحيح متى بقي وراء المستثنى شيئا قل ذلك أو كثر وإن قال له علي عشرة ونصف درهم كانت عشرة دراهم لأنه عطف العشرة ثم فسره بالدرهم فيكون ذلك تفسيرا لهما بمنزلة قوله عشرة دراهم وقد بينا نظائره في قوله مائة درهم.
وإذا مات الرجل وعليه دين إلى أجل بطل الأجل هكذا روى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأن حق الغريم صار كالعين في التركة والأعيان لا تقبل الآجال فلا فائدة في إبقاء الأجل بعد موته له ولا لوارثه لأنه يبقى مرتهنا بالدين ولا تنبسط يد وارثه في التركة لمكان الدين ولا يجوز إقرار المريض بالدين لقابله ولا لعبد قابله ولا لمكاتب قابله وقد بينا فيما سبق أن إقراره بالدين للقابل بمنزلة إقراره للوارث على قياس الوصية فكذلك لعبده ومكاتبه وإن أقر المريض لمكاتب نفسه بدين فهو جائز إذا كان كاتبه في الصحة لأنه صار أحق بنفسه ومكاسبه وهو من مولاه بمنزلة أجنبي آخر في أنه يثبت عليه دين فيصح إقراره له أيضا كما يصح لأجنبي آخر وإن كان كاتبه في المرض لم يجز إلا من الثلث لأن هذا بمنزلة إعتاقه إياه فإن إقراره له بالدين بمنزلة إقراره باستيفاء بدل الكتابة لم يصح إلا من الثلث بخلاف ما

 

ج / 18 ص -163-    إذا كاتبه في الصحة وهذا لأن تهمة المواضعة تتمكن بينهما إذا كانت الكتابة في المرض فلهذا جعلنا ذلك بمنزلة إعتاقه .
وإن أقر أنه أثبته أن مثل الكتابة عتق وسعى في ثلثي قيمته لما قلنا وإذا أقر المريض أن على أبيه لفلان ألف درهم دينا وفي دار لأبيه وعلى المريض دين معروف في الصحة فدينه الذي في الصحة أولى بذلك لأن إقراره على أبيه في مرضه كإقراره على نفسه أو دون ذلك فيقدم دين الصحة ولو كان أقر بذلك في صحته بعد موت أبيه كان دين الأب أولى في تركة الأب لأن ذلك بمنزلة الإقرار بالعين فإن حق غرماء الأب يتعلق بتركته وصحة إقرار الابن على الأب باعتبار ما في يده من التركة فإذا حصل إقراره في الصحة صار ذلك مستحقا لغرماء الأب فلا يتعلق به حق غرماء الابن وإذا مرض الرجل ولا دين عليه وفي يده ألف درهم من تركة أبيه فقال لفلان ألف درهم على أبي ولفلان ألف درهم ووصل ذلك فهو بينهما نصفان لأن في آخر كلامه ما يغاير أوله فتوقف أوله على آخره وصار هذا كقوله لهما على أبي ألف درهم وكذلك لو قال لفلان على أبي ألف درهم وهذه وديعة عند أبي لفلان وقد بينا هذا فيما سبق أنه إذا قدم الإقرار بالدين فإن الإقرار بالوديعة بعد الإقرار بالدين بوديعة مستهلكة فيتحاصان بخلاف ما إذا انعدم الإقرار بالوديعة .
ولو كان أبوه ترك عبدا فقال رجل: لي على أبيك ألف درهم وقال العبد قد أعتقني أبوك فقال صدقتما فعند أبي حنيفة رحمه الله الدين أولى وعلى العبد أن يسعى في عتقه لأن نفوذ العتق عند إقرار الوارث كنفوذه لو باشره الأب في مرضه فيكون مؤخرا عن الدين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يعتق العبد ولا سعاية عليه لأن الوارث مقر أنه لم يصر إليه شيء من تركته فلا يصح إقراره بالدين عليه وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على ما تقدم بيانه إذا ادعى رجل وديعة في يد أبيه بعينها وادعى الآخر دينا فصدقهما الوارث وهناك عندهما مدعي العين أولى فكذلك هنا العبد بمنزلة مدعي العين وعند أبي حنيفة رحمه الله وهناك يتحاصان وصارت دعوى العين كدعوى الدين حين أقر الوارث بهما معا فهنا أيضا يصير مقرا بالدين والتبرع فيقدم الدين عنده .
ولو قال لفلان: على أبي ألف درهم دينا ودفعها إليه بقضاء القاضي ثم أقر لآخر بألف درهم عليه لم يضمن له شيئا لأن بمجرد إقراره ما صار متلفا شيئا من تركة أبيه والدفع حصل بقضاء القاضي فلا ضمان عليه ولو كان دفع إلى الأول بغير قضاء ضمن الثاني خمسمائة بإقراره حق كل واحد منهما في خمسمائة من التركة فإنه بالدفع إلى الأول بغير قضاء صار متلفا حق الثاني فيضمن له نصيبه ولو كان قال لفلان على أبي ألف درهم لا بل لفلان فالألف للأول ولا ضمان على المقر للثاني ورجوعه في إبطال استحقاق الأول باطل ولكنه في حق نفسه صحيح فإذا دفعها بغير قضاء صار متلفا جميع الألف على الثاني بزعمه فيضمن له مثلها.

 

ج / 18 ص -164-    ولو أقر أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا لا بل لهذا فالثلث للأول ولا شيء للثاني عليه إلا أن يكون دفع الثلث إلى الأول بغير قضاء فحينئذ يغرم للثاني مثله وعلى قول زفر رحمه الله يدفع ثلثا إلى الأول وثلثا إلى الثاني ولو كان قال أوصى أبي بثلث ماله لفلان لا بل لفلان فعند زفر رحمه الله يدفع إلى كل واحد منهم ثلث المال ويخرج من الوسط وعندنا الثلث للأول ولا شيء عليه للآخرين إذا دفعه بقضاء وهذا قياس ما سبق.
ولو أقر المريض بدين لوارثه فخاصمه الوارث في ذلك أمره القاضي بأن يوفيه حقه لأن السبب الموجب للمال عليه وهو ظاهر والمبطل له وهو موته من مرضه موهوم والموهوم لا يعارض المعلوم فيأمره بالقضاء فإن برأ من مرضه كان ذلك جائزا عليه وإن مات من مرضه بطل إقراره حينئذ فيأمر الوارث برد المقبوض والله أعلم.

باب الإقرار بالقبض
 قال رحمه الله: وإذا أقر الطالب أنه قبض مما له على فلان مائة درهم فقال فلان قد قبضت مني مائة وخمسين درهما من قبل كذا فقال الطالب نعم ولكنها قد دخلت في المائة فالقول قول الطالب مع يمينه لأن ما ادعاه المطلوب بعد ما أقر له الطالب باستيفائه فكان الظاهر شاهدا للطالب فجعلنا القول قوله ولأن المطلوب يدعي زيادة فيما أوفاه والطالب ينكر ذلك فالقول قوله مع يمينه وكذلك لو قال المطلوب بعتك ثوبا بعشرة دراهم ممالك علي فقال الطالب نعم قد دخل في هذه المائة فالقول قول الطالب لأن ما ادعاه من المطلوب من البيع سبب لقضاء الدين بالثمن وإقرار الطالب باستيفائها لا بد له من سبب فمال المطلوب لسبب في البعض لا يزداد ما أوفاه من المال.
ولو قال: كان في يد المطلوب شاة فقال الطالب ابتعتها منك بعشرة دراهم من هذه المائة وقال المطلوب لم أبعها وقد أخذت مني مائة درهم فالقول للمطلوب مع يمينه لأنهما تصادقا على أن الشاة كانت مملوكة للمطلوب وادعى الطالب تملكها عليه وهو منكر لذلك فالقول له مع يمينه ويبقى إقرار الطالب بقبض المائة فذلك لازم عليه وإذا أقر المريض بقبض ماله على فلان وسماه فهو جائز لأن الإقرار باستيفاء الدين منه بمنزلة الإقرار بالدين له فيصح إذا كان أجنبيا وإن كان المطلوب وارثه أو كفيلا عن وارثه والوارث كفيل عنه بالإقرار باطل لما فيه من اتصال النفع إلى وارثه وإذا جاء الوارث بالمال فأدخله عليه بمحضر من الشهود بريء الوارث منه لأنه لا تهمة في السبب المعاين فالأجنبي والوارث فيه سواء .
وإذا أقر الطالب أنه قبض من المطلوب خمسمائة ثم خمسمائة ثم قال وجدتها زيوفا فالقول قوله وصل أم فصل لأنه أقر بقبض الدراهم مطلقا والزيوف من جنس الدراهم يتناولها مطلق أسم الدراهم فكان بيانه هذا مقررا لكلامه ولو قال قبضت منه حقي أو قبضت منه الذي لي عليه أو قبضت منه مالي عليه أو الألف التي كانت لي عليه ثم قال وجدتها زيوفا لم يصدق إلا أن يصله بكلامه لأن لفظه هذا محمول على الحق الذي له عليه وهو الجياد من

 

ج / 18 ص -165-    حيث الظاهر على احتمال أن يكون المقبوض زيوفا وقال ذلك لجهالته بها فكان هذا بيانا مغايرا لكلامه عن ظاهره فيصح ولا يصح مفصولا ولو قال قبضت منه خمسمائة درهم ثم قال بعد وجدتها ستوقا أو رصاصا لم يصدق لأنه أقر بقبض الدراهم والستوق ليست من جنس الدراهم فكان بيانه هذا مغايرا ورجوعا عما أقر به فلا يصح مفصولا .
ولو أقر أنه قبض خمسمائة درهم مما له على المطلوب ثم قال بعد ذلك وجدتها زيوفا لم يصدق لما بينا أنه لو أقر بقبض جميع ما عليه ثم ادعى أنه زيوف لم يصدق إذا كان مفصولا فكذلك إذا أقر ببعض ماله عليه ولا يمين على المطلوب أنها كانت جيادا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله .
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا اتهمته حلفته وهو بناء على الاختلاف الذي سبق إذا أقر البائع بقبض الثمن ثم قال لم أقبضه لم يحلف خصمه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يخلف للعرف الظاهر في الإقرار قبل أن يستوفى بالاستيفاء للإشهاد فكذلك هنا فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله اعتبرا التناقض وأبو يوسف رحمه الله اعتبر العرف أنه قد يقر بالاستيفاء بناء على أن المستوفى جياد ثم تبين له أنه زيوف فلهذا قال إذا اتهمته حلفته ولو أقر بقبض خمسمائة وله شريك في الدين ثم قال بعد ذلك هي زيوف فالقول قوله لما بينا أنه أقر بقبض الدراهم وذلك يتناول الزيوف حقيقة وللشريك الخيار إن شاء شاركه في المقبوض من الزيوف وإن شاء اتبع المطلوب الجياد وإن قال بعد ما سكت هي رصاص لم يصدق وللشريك نصفها جياد لأنه راجع عن الإقرار فإن أسم الدراهم لا يتناول الرصاص حقيقة وإن قال هو رصاص موصولا فالقول قوله لأن الرصاص من الدراهم صورة وإن لم تكن الدراهم معنى فكان هذا بيانا مغايرا لظاهر كلامه إلى ما هو محتمل فيصح موصولا وإذا صح فلا شيء للشريك منها لأنه بقبض الرصاص لا يصير مستوفيا شيئا من حقوقه وإنما يثبت للآخر حق المشاركة معه فيما يقبض من حقه.
وإن قال: قبضت من مالي ولفلان على فلان خمسمائة ثم قال بعد ذلك هي زيوف لم يصدق لإقراره بأن المقبوض مما له عليه وذلك جياد فلا يصدق في حق الشريك مفصولا كما لا يصدق في حق المطلوب فلهذا كان للشريك نصفها جيادا.
وإذا أقر الطالب أنه قبض من المطلوب كر حنطة أو شعير أو شيئا مما يكال أو يوزن ثم قال بعد ذلك هو رديء فالقول قوله لأن الرداءة في الحنطة بيان للنوع لا بيان للعيب فإن العيب لا يخلو عنه أصل الفطرة السليمة وفي بيان نوع المقبوض القول قول القابض وقد تقدم بيان هذه الفصول فيما سبق والله أعلم.
تم كتاب الإقرار ولله المنة وبه تم الجزء الثامن عشر ويليه الجزء التاسع عشر وأوله كتاب الوكالة