المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 19 ص -141-
كتاب الكفالة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة
وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
رحمه الله إملاء: الكفالة مشتقة من الكفل وهو
الضم ومنه قوله تعالى:
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: من الآية37] أي ضمها إلى نفسه وقال صلى الله عليه وسلم:
"أنا وكافل
اليتيم في الجنة كهاتين" أي ضام
اليتيم إلى نفسه ومنه سميت الخشبة التي تجعل
دعامة الحائط كفيلا لضمها إليه فمعنى تسمية
العقد بالكفالة أنه يوجب ضم ذمة الكفيل إلى
ذمة الأصيل على وجه التوثيق أحدهما الضم في
المطالبة دون أصل الدين بل أصل الدين في ذمة
الأصيل على حاله والكفيل يصير مطالبا كالأصيل
وكما يجوز أن تنفصل المطالبة عن أصل الدين في
حق من له ابتداء حتى تكون المطالبة بالثمن
للوكيل بالبيع وأصل الثمن للموكل فكذلك يجوز
أن تنفصل المطالبة عن أصل الدين في حق من عليه
فتتوجه المطالبة على الكفيل بعد الكفالة وأصل
الدين في ذمة الأصيل وكذلك تنفصل المطالبة عن
أصل الدين سقوطا بالتأجيل فكذلك التزاما
بالكفالة والمطالبة مع أصل الدين بمنزلة ملك
التصرف مع ملك الغير فكما يجوز أن ينفصل ملك
التصرف عن ملك العين في حق المطالبة وملك اليد
عن ملك العين في حق المرتهن فكذلك يجوز أن
ينفصل التزام المطالبة بالكفالة عن التزام أصل
الدين.
والطريق الآخر: أن تنضم ذمة
الكفيل إلى ذمة الأصيل في ثبوت أصل الدين لأن
الكفالة إقراض للذمة والتزام المطالبة ينبني
على التزام أصل الدين وليس ضرورة ثبوت المال
في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل ما يوجب
زيادة حق الطالب لأنه وإن ثبت الدين في ذمتهما
فلأن لا يكون إلا من أحدهما كالغاصب مع غاصب
الغاصب فإن كل واحد منهما ضامن للقيمة ولا
يكون حق المغصوب منه إلا في ذمة واحد لأنه لا
يستوفي إلا من أحدهما غير أن هناك اختيار
تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر لما فيه من
التمليك منه وهنا لا يوجب مالا توجد حقيقة
الاستيفاء فلهذا ملك مطالبة كل واحد منهما به.
والحوالة مشتقة من التحول ومنه الحوالة في
الغرس بالنقل من موضع إلى موضع وموجبه تحول
الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه على
سبيل التوثق به والعقدان في الشرع وأما
الكفالة فلقوله تعالى:
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: من الآية72] وما ثبت في شريعة من قبلنا فهو ثابت في شريعتنا
ما لم يظهر نسخه والظاهر هنا التقرير فإن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث والناس يكفلون
فأقرهم على ذلك وقال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"الزعيم غارم"
والدليل على جواز الحوالة قوله صلى الله عليه
وسلم:
"من أحيل على مليء فليتبع" أي فليتبع من أحيل عليه والكفالة مع جوازها وحصول التوثق بها
فالامتناع من مباشرتها أقرب إلى الاحتياط على
ما
ج / 19 ص -142-
قيل إنه مكتوب في التوراة الزعامة أولها ملامة
وأوسطها ندامة وآخرها غرامة واختلف العلماء
رحمهم الله في موجب العقدين فعندنا الكفالة لا
توجب براءة الأصيل والحوالة توجب وعند ابن أبي
ليلى رحمه الله الكفالة توجب براءة الأصيل
كالحوالة لأنه لا بد من وجوب الدين في ذمة
الكفيل ومن ضرورته فراغ ذمة الأصيل منه لأن ما
ثبت في محل فما دام باقيا في ذلك المحل فرغ
منه سائر المحال ضرورة وإذا ثبت في محل آخر
فرغ منه المحل الأول ضرورة لاستحالة أن يكون
الشيء الواحد شاغلا لمجلس وقد ثبت الدين في
ذمة الكفيل فمن ضرورته براءة ذمة الأصيل وعلى
قول زفر رحمه الله الحوالة لا توجب براءة
الأصيل كالكفالة لأن المقصود بها التوثق لحق
الطالب وذلك في أن تزاد له المطالبة لا أن
يسقط ما كان له من المطالبة ولكنا نقول كل
واحد من العقدين اختص باسم واختصاص العقد
بموجب هو معنى ذلك الاسم كاختصاص الصرف باسم
كان كاختصاصه بموجب هو معنى ذلك الاسم وهو صرف
ما في يد كل واحد منهما إلى يد صاحبه بالقبض
في المجلس والسلم اختص باسم لاختصاصه بموجب هو
معنى ذلك الاسم وهو تعجيل أحد البدلين في
القبض في المجلس وتأخير البدل الآخر بالتأجيل
فكذلك هنا معنى الكفالة الضم فيقتضى أن يكون
موجب هذا العقد ضم أحد الذمتين إلى الأخرى
وذلك لا يكون مع براءة ذمة الأصيل ومعنى
الحوالة التحويل وذلك لا يتحقق إلا بفراغ ذمة
الأصيل.
ثم الكفالة نوعان كفالة بالنفس وكفالة بالمال
وقد بدأ ببيان الكفالة بالنفس لأن ذلك يكون
قبل ثبوت المال عادة ومباشرته بين الناس أظهر
من مباشرة الكفالة بالمال وافتتح بحديث حبيب
الذي كان يقوم على رأس شريح رحمه الله أن
شريحا حبس ابنه بكفالة بنفس رجل قال حتى طلبنا
الرجل فوجدناه فدفعناه إلى صاحبه وفي الحديث
دليل عدل شريح رحمه الله فإنه لم يمل إلى ابنه
بل حبسه ولهذا بقي على القضاء نيفا وأربعين
سنة وفيه دليل على أن الكفالة بالنفس تصح وأن
الكفيل يحبس إذا لم يسلم نفس المطلوب إلى خصمه
وأن تسليم الغير بأمر الكفيل كتسليم الكفيل
لأنه قال طلبنا الرجل فأخذناه فدفعناه إلى
صاحبه وجواز الكفالة بالنفس مذهب علمائنا
رحمهم الله وعليه عمل القضاة من لدن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهو أحد
أقاويل الشافعي رحمه الله وفي القول الآخر
يقول هي ضعيفة وفي القول الثالث يقول لا تكون
صحيحة لأنه يلتزم ما لا يقدر على تسليمه فيكون
كبيع الطير في الهواء وبيانه أن المكفول بنفسه
رقباني مثله لا ينقاد له لتسليمه خصوصا إذا
كفل بغير أمره.
وكذلك إذا كفل بأمره لأن أمره بالكفالة لا
يثبت له عليه ولاية في نفسه لتسليمه كما أن
أمره بالكفالة بالمال لا يثبت له عليه ولأنه
يؤدي المال من مال المكفول عنه وهو الحرف
الثاني له أن هذه الكفالة بشرط أداء المكفول
به من ملك المكفول عنه ولو كفل بشرط أن يؤديه
من مال المكفول عنه لم يصح فكذلك إذا كفل
بالنفس وحجتنا في ذلك ما روي عن
ج / 19 ص -143-
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كفل رجلا في
تهمة والتكفيل أخذ الكفيل بالنفس وكان بين علي
وابن عمرو رضي الله عنهما خصومة فكفلت أم
كلثوم رضي الله عنها بنفس علي رضي الله عنه
وكفل حمزة بن عمر والأسلمي في تهمة رجل
فاستصوبه عمر رضي الله عنه وإن ابن مسعود رضي
الله عنه لما استناب أصحاب ابن النواحة كفلهم
عشائرهم ونفاهم إلى الشام والمعنى فيه أنه
التزم تسليم ما هو مستحق على الأصل فتصح
كالكفالة بالمال ومعنى هذا أن تسليم النفس
مستحق على الأصيل حقا للمدعي حتى يستوفي عند
طلبه فإن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضرة مجلسه
عند طلب خصمه.
وقد ذم الله تعالى قوما على الامتناع عن
الحضور بقوله:
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: من الآية48] الآية وإنما يذم الامتناع بما هو مستحق عليه
فإذا ثبت أن التسليم مستحق وهو مما تجري فيه
النيابة صح التزامه بالكفالة والظاهر أن
الإنسان لا يكفل إلا بنفس من يقدر على تسليمه
ممن هو تحت يده أو ينقاد له في التسليم خصوصا
إذا كفل بأمره فإنه هو الذي أدخله في هذه
الورطة فعليه إخراجه بالانقياد له لتسليمه إلى
خصمه إلا أنه إذا كان كفل بالمال والديون تقضي
بأمثالها وهو موجود في يد الكفيل فلا حاجة إلى
إثبات الولاية له في مال الأصيل فيؤمر بالأداء
من مال نفسه ثم يؤمر بالرجوع عليه وفي النفس
لا يتأتى التسليم إلا بإحضار الأصل فيثبت له
عليه ولاية الإحضار للتسليم.
وكذلك إن كان كفل بغير أمره لأنه يتمكن من أن
يدعي عليه مالا ليحضره القاضي فيسلمه إلى خصمه
ويكون هذا كذبا ولا رخصة في الكذب والأصح أن
يقول ليس التسليم كله في إحضار الأصل إذا أتى
بالطالب إلى الموضع الذي فيه المطلوب فبدفعه
يتحقق التسليم مع أن شرط صحة الالتزام كون
الملتزم ملتزما ما لا قدرة له على أدائه
كالتزام حقوق الله تعالى بالنذر حتى أن من نذر
أن يحج ألف حجة يلزمه وإن كان لا يعيش هو ألف
سنة ليؤدي فهنا أيضا التسليم يتأتى فيصح
التزامه وإن كان الكفيل ربما يعجز عنه.
وعن الشعبي رحمه الله في رجل كفل بنفس رجل
فمات المكفول بريء الكفيل وبه نأخذ لمعنيين
أحدهما أن الخصومة وتسليم النفس إلى الخصم
الذي سقط عن الأصل بموته وبراءة الأصيل بأي
طريق يكون موجب براءة الكفيل والثاني أن محل
التسليم فات بموته ولا يتأتى التسليم بدون
المحل فكما أن عدم تأتي التسليم يمنع ابتداء
الكفالة فكذلك يمنع بقاءها ثم ذكر عن أبي
حنيفة رحمه الله في الرجل يكفل بنفس الرجل ثم
لم يأبه أن يحبس ولا يكون ذلك في أول مرة
يتقدم إليه وهذا لأن الحبس نوع عقوبة وإنما
تتوجه على الظالم ولا يظهر ظلمه في أول مرة
لأنه لم يسرقه أنه لماذا يدعي حتى يأتي بالخصم
معه فلهذا لا يحبسه القاضي ولكنه يأمره أن
يأتي بالخصم فيسلمه فإذا امتنع حين ذلك مع
تمكنه منه حبسه.
وإذا ارتد المكفول ولحق بدار الحرب لم يبرأ
الكفيل لأن لحاقه بدار الحرب كموته
ج / 19 ص -144-
حكما في قسمة ماله بين ورثته فأما في حق نفسه
فهو مطالب بالتوبة والرجوع وتسليم النفس إلى
الخصم فيبقى الكفيل على كفالته وكذلك الإحضار
والتسليم يتأتى بعد ردته وعليه تنبني الكفالة
إذا علم ذلك لا يحبس الكفيل ولكنه إن كان
يتمكن من الدخول في دار الحرب وإحضاره أمهله
في ذلك مقدار ما يذهب فيأتي به فإن لم يفعل
حبسه حينئذ بمنزلة ما لو كان غائبا في بلدة
أخرى وإن كان يعلم أن الكفيل لا يتمكن من ذلك
أمهله إلى أن يتمكن منه ويحبسه ما لم يمتنع
منه بعد تمكنه وهو نظير الكفيل بالمال فإنه
إذا كان معسرا عاجزا عن الأداء أمهله القاضي
إلى وقت يساره عملا بقوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: من الآية280] وطريق ثبوت هذا العجز علم القاضي به بإقامة
البينة عليه
ولم يذكر في الكتاب أن في مدة عجزه عن الطالب
أن يلزم الكفيل فهو على الاختلاف عندنا له ذلك
ولكن لا يمنعه من كسبه وحوائجه وعند إسماعيل
بن حماد رحمهما الله ليس له ذلك وهو نظير
الاختلاف في المديون إذا ثبت عند القاضي عسرته
فأخرجه من السجن وسنقرره في موضعه إن شاء الله
تعالى
وإذا حبس المكفول به بدين أو غيره فللطالب أن
يأخذ الكفيل بتسليمه لأنه قادر على تسليمه بأن
يعتقه مما حبس فيه إن كان دينا قضاه عنه أو
حقا آخر أوفاه إياه وهذا النوع من التسليم وإن
كان يلحقه الضرر فيه فقد رضي بالتزامه حتى قدم
على الكفالة.
ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا إذا كان
محبوسا عند غير هذا القاضي فأما إذا كان
محبوسا عند هذا القاضي فالسبيل للكفيل أن يقول
للقاضي هو في يديك فأخرجه من السجن لأسلمه إلى
خصمه حتى يثبت عليه حقه ثم يحبسه بحقهما
فالقاضي يحبسه إلى ذلك لأنه طلب منه أن ينظر
له وليس فيه ضرر على أحد فيحبسه القاضي إلى
ذلك وإن مات الكفيل بطلت الكفالة لأن تسليم
الكفيل المطلوب بعد موت الكفيل لا يتحقق منه
ولا تتوجه المطالبة بالتسليم على ورثته لأنهم
لم يكفلوا له بشيء وإنما يخلفونه فيما له لا
فيما عليه ألا ترى أن من عليه القصاص إذا مات
لا يخلفه وارثه فيما عليه وكذلك لا يبقى
باعتبار تركته بعد موته لأنه إنما يبقى
باعتبار التركة بعد الموت ما يمكن استيفاؤه من
التركة.
والكفالة بالنفس لا يمكن استيفاؤها من المال
فلهذا لا يبقى باعتبار التركة وإذا أقر الطالب
أنه لا حق له قبل المكفول ثم أراد أخذ الكفيل
بتسليم نفسه فله ذلك وإقراره بهذا لا يمنع
ابتداء الكفالة فلا يمنع بقاءها بطريق الأولى
وهذا لأنه ربما يكون وصيا لميت له عليه حق أو
وكيلا في خصومة له قبل ذلك الرجل حق فانتفاء
حق نفسه عنه لا يمنع استحقاق التسليم له بهذا
الطريق فلهذا كان الكفيل مطالبا بتسليم نفسه
وإن لم يقر الطالب بذلك ولكن بقي المكفول به
فأخذ منه كفيلا آخر لا يبرأ الكفيل الأول لأنه
لا منافاة بين الكفالة الثانية والأولى ومقصود
الطالب من هذه الزيادة التوثق بحقه فلا يتضمن
براءة الكفيل الأول وكذلك ملاقاة الطالب مع
المكفول لا يمنع بقاء الكفالة لأن ذلك كان
موجودا عند ابتداء الكفالة ولم يمنع صحة
كفالته فلأن لا يمنع بقاءها أولى وإذا سلم
الكفيل المكفول إلى
ج / 19 ص -145-
الطالب بريء منه لأنه أوفاه ما التزمه له فإنه
ما التزم التسليم إلا مرة واحدة وقد أتى به
وهو كالمطلوب إذا أوفى الطالب ما عليه من
الدين ويستوي إن قبله الطالب أو لم يقبله لأن
الكفيل يبرأ بإيفاء عين ما التزم فلا يتوقف
ذلك على قبول صاحب الحق كالمديون إذا جاء
بالدين فوضعه بين يدي الطالب وتضرر من عليه
فإنه يمتنع من ذلك إبقاء لحق نفسه والضرر
مدفوع بحسب الإمكان وإذا كفل بنفس رجل على أن
يوافي به في المسجد الأعظم فدفعه إليه
بالكناسة أو في السوق أو في غير ذلك الموضع من
المصر بريء لأن التقييد إنما يعتبر إذا كان
مفيدا فأما إذا لم يكن مفيدا فلا وتقييد
التسليم بالمصر مفيد لأنه إذا سلمه خارج المصر
ربما يهرب منه أو لا يتمكن من إحضاره بل يمتنع
منه أما في المصر فالتقييد بموضع منه غير مفيد
لأنه يتمكن من إحضاره مجلس الحكم في أي موضع
من المصر سلمه إليه إما بقوة نفسه وإما
بمعاونة الناس إياه فلهذا لا يعتبر تقييده
بالمسجد الأعظم.
والمتأخرون من مشايخنا رحمهم الله يقولون هذا
الجواب بناء على عادتهم في ذلك الوقت فأما في
زماننا إذا شرط التسليم في مجلس القاضي فإنه
لا يبرأ بالتسليم إليه في غير ذلك الموضع لأن
في زماننا أكثر الناس يعينون المطلوب على
الامتناع من الحضور لغلبة أهل الفسق والفساد
فتقييد التسليم بمجلس القاضي مفيد وفيه طريقة
أخرى أن نواحي المصر كلها كمكان واحد ألا ترى
أن في عقد السلم إذا شرط التسليم في مصر كذا
جاز وإن لم يبين في أي موضع من المصر يسلمه
إليه فإذا جعل الكل كمكان واحد قلنا في أي
موضع من المصر سلمه إليه فقد أتى بما التزمه
فيبرأ وإذا كفل بنفس رجل وهو غائب أو محبوس
جاز وهو جائز ضامن لأن تسليمه يتأتى بإحضاره
أو إخراجه من السجن وشرط صحة الكفالة يأبى
التسليم
وإذا طلب رجل إلى رجل أن يكفل بنفس آخر ففعل
فإن الكفيل يؤخذ به ولا يرجع على الآمر ولا
على المكفول به أما الكفيل فلأنه التزم تسليم
ما يتأتى تسليمه فيؤخذ به ولا يرجع عليه فكذلك
إذا كفل بنفسه وهو يرجع على الآمر لأنه ما ضمن
له شيئا وإنما أشار عليه بمشورة ولم تكن تلك
المشورة ملزمة إياه شيئا وإنما اللزوم
بالتزامه باختياره فلهذا لا يرجع عليه وإذا
كفل بنفسه إلى شهر ثم دفعه إليه قبل الشهر
بريء لأن التأجيل إنما كان لحق الكفيل حتى لا
يضيق عليه الأمر في المطالبة قبل الشهر.
فإذا سلمه قبل مضي الشهر فقد أوفى ما عليه
وأسقط حق نفسه فهو بمنزلة من عليه دين مؤجل
إذا قضاه قبل مضي الأجل بريء ولم يكن للطالب
أن يأبى القبول فكذلك هنا لا يكون للمكفول أن
يأبى القبول وإذا دفع المكفول به إلى الطالب
في السجن وقد حبسه غيره فإن الكفيل لا يبرأ
منه لأن المقصود من التسليم أن يتمكن من
إحضاره مجلس الحكم ليثبت حقه عليه وذلك لا
يتأتى إذا كان محبوسا فهو بمنزلة تسليم الطير
في الهواء أو السمك في الماء.
وكذلك لو دفعه إليه في مفازة أو موضع يستطيع
المكفول أن يمتنع من الطالب فإن المقصود بهذا
التسليم لا يحصل للطالب فهو نظير المؤجر إذا
سلم الدار إلى المستأجر
ج / 19 ص -146-
وهناك غاصب يحول بينه وبين السكنى لا يكون هذا
التسليم معتبرا وإذا دفع إليه في مصر غير
المصر الذي كفل به وفيه سلطان أو قاض بريء في
قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يبرأ في قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله حتى يدفعه إليه في
المصر الذي كفل به فيه.
قيل: هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم فأبو
حنيفة رحمه الله كان في القرن الثالث وقد شهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بالصدق
فكانت الغلبة لأهل الصلاح والقضاة لا يرغبون
في الميل بالرشوة وعامل كل مصر ينقاد لأمر
الخليفة فلا يقع التفارق بالتسليم إليه في ذلك
المصر أو في مصر آخر ثم تغير الحال بعد ذلك في
زمن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فظهر أهل
الفساد والميل من القضاة إلى أخذ الرشوة فقالا
يتقيد التسليم بالمصر الذي كفل له فيه دفعا
للضرر عن الطالب ثم وجه قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله أن مقصود الطالب التسليم في موضع
يمكن فيه إثبات حقه عليه بالحجة وربما يكون
شهوده على الحق في ذلك المصر الذي كانت فيه
الكفالة فإذا سلمه إليه في مصر آخر لا يتمكن
من إثبات الحق عليه كما لو سلمه إليه في
المفازة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: سلمه إليه في موضع
آمن وغاب فيبرأ مما سلمه إليه في ذلك المصر
وهذا لأن المعتبر تمكنه من أن يحضره مجلس
القاضي إما ليثبت الحق عليه أو ليأخذ منه
كفيلا وهذا قد حصل ثم كما يتوهم أن يكون شهوده
في ذلك المصر يتوهم أن يكون شهوده في ذلك
المصر فيتقابل الموهومات ويبقى التسليم متحققا
من الكفيل على وجه الالتزام فيبرأ به.
وإذا كفل بنفس رجل ثم دفعه إليه وبرى ء منه
فلزمه الطالب فقال الكفيل دعه وإنما على
كفالتي أو على مثل كفالتي أو أنا كفيل به فهو
لازم له أتى بلفظ صالح لإنشاء الكفالة به أما
قوله أنا على كفالتي أي بعقد إنشائه سوى الأول
لأنه لا وجه لتصحيحه إلا هذا ووجه الصحة مقصود
كل متكلم عاقل أو معناه فسخنا ذلك الإبراء
الحاصل لي بالرد عليك فأنا كفيل به كما قلت
وإذا كفل بنفس رجل والطالب يدعي قبله مالا
عينا أو دينا أو كفالة بنفس أو مال أو وكالة
أو وصية فالكفالة صحيحة لأن تسليم النفس بهذه
الدعاوي للجواب مستحق على المطلوب.
وكذلك لو كان الطالب يدعي قبل المطلوب قصاصا
في النفس أو فيما دونها أو حدا في قذف أو سرقة
لأن تسليم النفس للجواب يستحق على المطلوب في
هذه الدعاوي فيصح التزامه بعقد الكفالة ومراده
من هذا إذا أعطي الكفيل بنفسه طوعا فأما
القاضي فلا يأخذه بإعطاء الكفيل بنفس في دعوى
القصاص والحد ولكن إن أقام المدعي شاهدين
مستورين أو شاهدا عدلا وقال لي شاهد آخر حاضر
حبسه القاضي على قدر ما يرى استحسانا ولا
يجبره على إعطاء الكفيل بالنفس وإن لم يقم
شاهدا لم يحبسه ولكنه يمكنه من ملازمته إعطاء
الكفيل بالنفس وإن لم يقم شاهدا لم يحبسه
ولكنه يمكنه من ملازمته إذا ادعى شهودا
ج / 19 ص -147-
حضورا إلى آخر المجلس ليأتي بهم لأنه ينظر
لأحد الخصمين على وجه لا يضر بالآخر والمقصود
من الكفالة بالنفس التوثق والاحتياط ومبنى
الحدود والقصاص الدرء والإسقاط فلهذا لا يجبر
على إعطاء الكفيل فيه.
فإن قيل: فقد قلتم بحبسه بعد إقامة شاهد عدل
ومعنى الاحتياط في الحبس أكثر منه في أخذ
الكفيل
قلنا الحبس ليس للاحتياط ولكن لتهمة الدعاوي
والفساد فبشهادة الواحد العدل أو شهادة
المستورين يصير متهما بذلك فيحبس تعزيرا له
وهذا لأن الحبس نوع عقوبة وفي دعوى القصاص
والحد عقوبة هي أقوى من الحبس إذا صار متهما
به يعاقب بالحبس فأما في المال فأقصى العقوبات
إذا ثبت الحبس لا يجوز أن يعاقب به قبل ثبوته
وإذا لم يجز حبسه وجب الاحتياط بأخذ الكفيل
بنفسه ولكن هذا في دعوى الحد والقصاص بنفسه لو
كفل صح بخلاف ما إذا كفل بنفس الحد والقصاص
لأن ذلك لا تجري النيابة في إيفائه والكفالة
التزام التسليم فإذا حصل بما يمكن استيفاؤه من
الكفيل كان باطلا فأما تسليم النفس فتجري فيه
النيابة فلهذا صحت الكفالة ولو لم يدع شيئا من
ذلك قبله غير أنه كفل له بنفسه فالكفالة جائزة
لأن الحضور عند دعواه مستحق عليه.
ألا ترى أنه لو حضر مجلس القاضي وادعى قبله
شيئا أحضره مجلسه للجواب والدعوى ليست بسبب
الاستحقاق فعرفنا أن الحضور مستحق إذا لم يسبق
ما ينفيه فلهذا جازت الكفالة وكان التسليم
مستحقا بما التزمه بعقد الكفالة ألا ترى أنه
لو كفل عنه بمال صحت الكفالة وإن كان الأصيل
منكرا للمال وجعل كالثابت في حق الكفيل فإن
خاصم الكفيل بالنفس الطالب إلى القاضي وقال
إنه لا حق لهذا قبل الذي كفلت به فإن القاضي
ينبغي له أن يسأله عن ذلك ولكنه يأخذه
بالكفالة لأنه التزم تسليم نفسه فيكون مطالبا
به ما لم يظهر ما ينفيه وما ادعاه قبل الطالب
من إسقاط حقه عن المطلوب فإنه هو ليس بخصم فيه
فلهذا لا يسأل الخصم عنه ولكن إن أقر الطالب
أنه لا حق له قبل المكفول وأنه ليس بوصي لميت
قبله خصومة ولا حق له قبله بوجه من الوجوه فإن
الكفيل يبرأ لأن الإقرار بهذه الصفة ينفي
استحقاق تسليم النفس للمقر على المطلوب وبراءة
الأصيل توجب براءة الكفيل.
وقد ذكر قبل هذا أنه لا يبرأ واختلف الجواب
لاختلاف الموضوع فإنه وضع المسألة هناك فيما
إذا أقر مطلقا أنه لا حق له قبله وهذا لا يوجب
براءة الكفيل لجواز أن يكون الطالب صبيا أو
وكيلا وهنا وضع المسألة فيما إذا فسر إقراره
بما يبقى استحقاقه لتسليم النفس عنه من كل وجه
وكذلك لو جحد الطالب هذه المقالة وشهد عليه
بها شاهدان بريء لظهور ما ينفي استحقاق تسليم
النفس عن المطلوب والثابت بشهادة العدالة
كالثابت بإقرار الخصم أو أقوى منه وقوله ضمنت
وكفلت وهو على أو إلى سواء يصير به كفيلا
بالنفس أما الضمان فهو موجب عقد الكفالة لأنه
يصير به ضامنا للتسليم والعقد ينعقد بالتصريح
بموجبه كعقد البيع ينعقد بلفظ التمليك وكذلك
كفلت فإن اسم هذا العقد هو الكفالة
ج / 19 ص -148-
والعقد ينعقد بالتصريح باسمه ولفظ القبالة
كلفظ الكفالة فإن الكفيل يسمى قبيلا وهو عبارة
عن الالتزام ومنه يسمى الصك الذي هو وثيقة
قبالة ولفظ الزعامة كذلك قال الله تعالى:
{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: من الآية72]
وقوله وهو على أي أنا ملتزم بتسليمة لأن مبلغ
كلمات اللزوم على وإلى وإلى هنا بمعنى على قال
صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلورثته ومن
ترك كلا أو عيالا فإلي" أو قال علي معناه أنا
ملتزم له.
وإذا أبرأ الطالب الكفيل من الكفالة بريء منها
لأنه أسقط خالص حقه وهو من أهله وألحق بمحل
السقوط وكذلك قد بريء إلى صاحبي فهذا إقرار
بالتسليم إليه لأنه أقر ببراءته مفتتح بالكفيل
مختتم بالطالب وذلك بالتسليم يكون ألا ترى أن
هذا اللفظ في المال يكون إقرارا بالاستيفاء
وذلك لو قال قد دفعه إلي أو قال لا حق لي قبل
الكفيل من هذه الكفالة فهو بريء منها لأن
النفي على سبيل الإطلاق أبلغ وجوه البراءة
وإذا دفع المكفول به نفسه إلى الطالب وقال
دفعت نفسي إليك من كفالة فلان بريء الكفيل
وهذا وما لو سلمه الكفيل سواء لأن للكفيل أن
يطالبه بالحضور ليسلمه إذا طولب به فهو إنما
يبرى ء نفسه عن ذلك بهذا التسليم فلا يكون
منتزعا فيه كالمحيل إذا قضي الدين بنفسه.
وكذلك لو دفعه إليه إنسان من قبل الكفيل من
رسول أو وكيل أو كفيل لأنهم قائمون مقامه في
التسليم أو لم يقبل والمرأة والرجل والذمي
والمستأمن في ذلك سواء وإذا كفل ثلاثة رهط
بنفس رجل على أن بعضهم كفيل عن بعض كان للطالب
أن يأخذ أيهم شاء بنفس الأول وبنفس صاحبه لأن
كل واحد منهم التزم تسليم نفس المطلوب يملكه
إليه بنفسه وتسليم نفس صاحبه باشتراط كفالة
بعضهم عن بعض وكما تصح الكفالة بنفس المطلوب
فكذلك تصح الكفالة بتسليم النفس لإبقاء ما
التزمه مستحقا عليه فأيهم دفع الأول إلى
الطالب بريء لأن تسليم النفس لإبقاء ما التزمه
مستحق عليه فأيهم دفع الأول إلى الطالب وأشهد
بالبراءة فهو بريء وصاحباه بريئان لأنه في حق
صاحبيه هو كفيل بنفسيهما
وقد بينا أن تسليم كفيل الكفيل كتسليم الكفيل
بنفسه فلهذا يبرءون جميعا عن تسليم نفس
المطلوب كما لو سلموه جميعا وبراءة الأصيل
توجب براءة الكفيل فيبرأ كل واحد منهم عن
كفالة صاحبه.
ولو لم يكن بعضهم كفيلا عن بعض كان للطالب أن
يأخذ أيهم شاء بنفس الأول وليس له أن يأخذه
بصاحبه لأنه ما التزم تسليمهما بنفسهما وأيهم
دفع الأول برئوا جميعا لأنهم التزموا تسليم
نفس المطلوب بعقد واحد فكانوا فيه كشخص واحد
ولأن المستحق عليهم إحضار واحد فبالعقد الواحد
لا يستحق إلا إحضار واحد وقد أتى به أحدهم وهو
غير متبرع في ذلك فكأنهم أتوا جميعا به وهذا
بخلاف ما إذا كفل كل واحد منهم بنفسه بعقد على
حدة ثم سلمه أحدهم بريء هو دون صاحبه لأن هناك
كل واحد منهم التزم الإحضار بعقد على حدة
فالإحضار المستحق على كل واحد منهم غير ما على
صاحبيه وفي الأول التزموا الإحضار بعقد واحد
فيكون المستحق عليهم إحضار واحد.
ج / 19 ص -149-
وقد قال ابن أبي ليلى رحمه الله: إذا كفل به
الثاني بريء الأول لأن الطالب يصير معرضا عن
كفالته حين اشتغل بأخذ كفيل آخر وهذا فاسد
فإنه يأخذ الكفيل الثاني بقصد زيادة التوثق
فلا يصير مبرئا للكفيل الأول ولا منافاة بين
الكفالتين فالمستحق على كل واحد منهما الإحضار
ولا يبعد أن يكون إحضار شيء واحد مستحقا على
شخصين.
وإذا كفل رجل بنفس رجل وكفل آخر بنفس الكفيل
ثم مات الأول بريء الكفيل لأن الأصل بريء من
الحضور فيبرأ الكفيل الأول ببراءة الأصيل
والكفيل الأول أصل في حق الكفيل الثاني فيبرأ
ببراءته أيضا وإن مات الأوسط بريء الأخير لأن
الوسط أصل في حق الآخر وقد بريء بموته وإن مات
الأخير فالأوسط على كفالته لأن براءة الكفيل
على ما هو سقوط محض لا يوجب براءة الأصيل كما
لو بريء الكفيل بالإبراء ولو دفع الأول نفسه
إلى الطالب بريء الكفيلان لما بينا ولو كفل
بنفس رجل والطالب غير حاضر فهو باطل في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف
الأول ثم رجع وقال هو جائز وكذلك الكفالة
بالمال إذا لم يكن الطالب حاضرا وفي موضع آخر
من هذا الكتاب يقول هو موقوف عند أبي يوسف
رحمه الله حتى إذا بلغ الطالب فعله جاز.
وذكر الطحاوي رحمه الله قول محمد مع قول أبي
يوسف رحمهما الله وهو غلط فإن كان الصلح
الصحيح من مذهب أبي يوسف رحمه الله التوقف فهو
مبني على بيانه في كتاب النكاح وهو ما إذا قال
اشهدوا أني تزوجت فلانة وهي غائبة فكما أن
هناك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله كلام
الواحد شطر العقد فلا يتوقف على ما وراء
المجلس وعند أبي يوسف رحمه الله جعل كلام
الواحد كالعقد التام حتى يتوقف على ما وراء
المجلس فكذلك هنا لأنه لا ضرر على أحد من هذا
التوقف وإن كان الصحيح من قول أبي يوسف رحمه
الله أنه جائز في مسألة مبتدأة وجه قوله أن
الكفالة التزام من الكفيل من غير أن يكون
بمقابلته إلزام على غيره والالتزام يتم
بالملتزم وحده كالإقرار وهذا لأنه تصرف منه في
ذمته وله ولاية على ذمته ولا يتعدى ضرره إلى
الطالب لأنه لا يزداد بالكفالة حق الطالب.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: الكفالة
تبرع وهو تبرع على الطالب بالالتزام له وإنشاء
سبب التبرع لا يتم بالتبرع ما لم يقبله
المتبرع عليه كالهبة والصدقة وهذا لأن التزام
الحق بإنشاء العقد والعقد لا يتم بالإيجاب
بدون القبول ولا يمكن جعل إيجابه قائما مقام
قبول الآخر لأنه لا ولاية له عليه فبقي إيجابه
شطر العقد وذلك يبطل بالقيام عن المجلس بخلاف
الإقرار فإنه إخبار عن واجب سابق والإخبار يتم
بالمخبر ثم قد يتعدى ضرر هذا الالتزام إلى
الطالب فإن على قول بعض العلماء رحمهم الله
الكفالة إذا صحت بريء الأصيل فبقي الأمر إلى
الطالب ولعل قاضيا يرى ذلك فيحكم ببراءة
الأصيل عن حق الطالب وفيه ضرر عليه فلهذا لا
تصح الكفالة إلا بقبوله وعلى هذا لو خاطب
فضولي عن الطالب على قولهما يتوقف على إجازة
الطالب وعلى قول أبي يوسف رحمه الله هو جائز
قبله الفضولي أو
ج / 19 ص -150-
لم يقبله إلا في خصلة واحدة وهي ما إذا قال
المريض لورثته أو لبعضهم اضمنوا علي ديني
فضمنوا فهذا لا يجوز في القياس على قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن الطالب غير حاضر
فلا يتم الضمان إلا بقبوله ولأن الصحيح لو قال
هذا لورثته أو لغيرهم لم يصح إذا ضمنوه فكذلك
المريض.
وفي الاستحسان يصح لأن حق الغرماء والورثة
يتعلق بتركته بمرضه على أن يتم ذلك بموته
وتتوجه المطالبة على الورثة بقضاء ديونهم من
التركة فقام المطلوب في هذا الخطاب لورثته
مقام الطالب أو نائبة لأنه يقصد به النظر
لنفسه حتى يفرغ ذمته بقضاء الدين من تركته
فلهذا جوزناه استحسانا بخلاف ما إذا كان صحيحا
فإنه لا حق لأحد في ماله ولا مطالبة في شيء من
دينه قبل ورثته فلا يقوم هو مقام الطالب في
الخطاب لهم بهذا الضمان واختلف مشايخنا رحمهم
الله فيما إذا قال المريض ذلك لأجنبي فضمن
الأجنبي دينه بالتماسه فمنهم من يقول لا يجوز
لأن الأجنبي غير مطالب بقضاء دينه بدون
الالتزام فكان المريض في حقه والصحيح سواء
ومنهم من يقول يصح هذا الضمان لأن المريض قصد
به النظر لنفسه والأجنبي إذا قضى دينه بأمره
يرجع به في تركته فيصح هذا من المريض على أن
يجعله قائما مقام الطالب لضيق الحال عليه بمرض
الموت ومثل ذلك لا يوجد في الصحيح فأخذنا فيه
بالقياس ثم هذا من المريض صحيح وإن لم يسم
الدين ولا صاحب الدين لأنه إنما يصح بطريق
الوصية منه لورثته بأن يقضوا دينه ووجوب تنفيذ
الوصية على الورثة لحق الموصي والجهالة لا
تمنع صحة الوصية.
وإذا كفل رجل برأس رجل أو برقبته أو بوجهه أو
بجسده أو ببدنه جاز لأن هذا كله يعبر به عن
جميع البدن ولهذا صح إيقاع الطلاق والعتاق به
فهذا وكفالته بنفسه سواء وكذلك لو كفل بروحه
وهكذا ذكره في الكتاب خاصة فإنه يعبر بالروح
عن النفس وكذلك لو كفل بنصفه أو بجزئه لأن
النفس واحدة في الكفالة لا تتجزأ فإن المستحق
إحضارها وإحضار بعض النفس لا يتحقق وذكر جزء
ما لا يتجزأ كذكر كله ولو كفل بيده أو رجله
فهذا باطل لأن هذا اللفظ لا يعبر به عن جميع
البدن ولهذا لا يصح إيقاع الطلاق والعتاق به
فكذلك الكفالة.
ولو قال: علي أن أوفيك به أو إلي أن أوفيك به
فهو كفيل لأن الموافاة به إحضاره للتسليم وذلك
موجب الكفالة وقد التزمه بقوله علي أو إلي
وكذلك لو قال علي أن أكفلك به يعني على أن
أحضره وأسلمه إليك إذا التقينا وذلك موجب
الكفالة وكذلك لو قال هو علي حتى تجتمعا أو
تلتقيا لأنه التزام إلى غاية وهو اجتماعهما
وذلك موجب الكفالة والتصريح بموجب العقد ينعقد
به العقد وإن قال أنا ضامن لمعرفته فهو باطل
لأن موجب الكفالة التزام التسليم وهو إنما ضمن
المعرفة فهذا بمعنى قوله أنا ضامن لأن أدخلك
عليه أو أوقفك عليه بخلاف ما لو قال أنا ضامن
بوجهه لأن الوجه إنما يعبر به عن النفس
ج / 19 ص -151-
فكأنه قال أنا ضامن بنفسه ولو قال أنا ضامن لك
أن تجتمعا أو تلتقيا فهو باطل لأن اجتماعهما
أو ملاقاتهما فعلهما ولا يكون الإنسان ضامنا
لفعل الغير بخلاف قوله هو علي حتى تجتمعا أو
تلتقيا لأن قوله هو علي إشارة إلى نفسه فإنه
التزم تسليم نفسه إلى هذه الغاية وذلك التزام
منه لفعله دون فعل الغير وإذا كفل وصي الميت
غريما للميت بنفسه من رجل فدفعه الكفيل إلى
ورثة الميت أو غريم من غرمائه لم يجز لأنه
التزم تسليم النفس إلى الوصي وبالتسليم إلى
غيره لا يكون موفيا ما التزمه والمقصود لا
يحصل بالتسليم إلى الغرماء وهم لا يتمكنون من
إثبات الدين للميت عليه وكذلك الورثة لأن
أيديهم لا تنبسط في التركة عند قيام الدين على
الميت وإنما الوصي هو الذي يتمكن من إثبات
الدين عليه واستيفائه فلهذا لا يبرأ بالتسليم
إلى غيره.
والكفالة جائزة بالنفس فيما بين الأولاد
والأزواج والزوجات وفيما بين الأقارب كجوازها
بين الأختين بمنزلة سائر العقود من التبرعات
والمعاوضات والكفالة بالنفس أو المال إلى
الحصاد والدياس أو إلى الجذاذ أو إلى المهرجان
أو إلى النيروز جائزه إلى الأجل الذي سمي لأن
ما ذكر من الأجل وإن كان فيه نوع جهالة فهي
جهالة مستدركة متقاربة فإن الدياس والحصاد
يتقدمان الحر وتأخرهما بامتداد البرد فتكون
متقاربة ومثل هذه الجهالة لا تمنع صحة الكفالة
لأنها مبنية على التوسع ألا ترى أن الجهالة
في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة مع أنه هو
المقصود بها المعقود عليه ففيما ليس بمعقود
عليه وهو الأجل أولى وبه فارق البيع فإن
الجهالة في المعقود عليه هناك تمنع صحة العقد
فكذلك في الأجل المشروط فيه لأنه إذن شرط في
نفس العقد ولهذا روى ابن سماعة عن محمد رحمهما
الله أنه إذا أجله في الثمن بعد البيع إلى
الحصاد أو إلى الدياس يجوز لأنه إذا لم يكن
الأجل مشروطا في العقد لا يصير من العقد ولكن
تأثيره في تأخير المطالبة ويجوز تأخير
المطالبة إلى هذه كما في الكفالة.
فإن قيل ما يقولون فيما إذا تزوج امرأة بصداق
مؤجل إلى هذا الأجل فإن الصداق يحتمل الجهالة
المتقاربة ثم لا يصح اشتراط هذه الآجال فيه
قلنا جواب هذا الفصل غير مذكور في الكتب وبين
مشايخنا رحمهم الله فيه خلاف والأصح عندي أنه
تثبت هذه الآجال في الصداق لأنه لا شك أن
اشتراط هذه الآجال لا يؤثر في أصل النكاح
بخلاف البيع فيبقى هذا أجلا في الدين المستحق
بالعقد لأن في العقد والمهر تحتمل جهالة الصفة
فجهالة الأجل أولى ومن يقول لا يثبت تحول ما
هو المعقود عليه في النكاح وهو المرأة لا
يحتمل الجهالة فكذلك الأجل المشروط فيه بخلاف
الكفالة وكذلك لو قال الكفالة إلى العطاء أو
إلى الرزق أو إلى صوم النصارى أو فطرهم فهذا
كله جائز بأجل وإن كانت فيه جهالة مستدركة ولو
قال إلى أن يقدم المكفول به من سفره لأن قدوم
المكفول به من سفره منتشر لتسليم نفسه إلى
خصمه والتأجيل إلى أن ينتشر التسليم صحيح
بخلاف ما لو قال إلى
ج / 19 ص -152-
قدوم فلان غير المكفول به لأن ذلك غير منتشر
لتسليم ما التزمه فيكون تعليقا للكفالة بالشرط
المحض وذلك باطل كما لو علقه بدخول الدار أو
كلام زيد وهذا لأنه إنما يحتمل التعليق ما
يجوز إن يحلف به كالطلاق والعتاق.
ونعني بقولنا باطل: أن الشرط باطل فأما
الكفالة فصحيحة لأن الكفالة لا تبطل بالشروط
الفاسدة كالنكاح ونحوه وعلى هذا لو كفل به إلى
أن تمطر السماء أو إلى أن يمس السماء فالكفالة
جائزة والأجل باطل لأن ما ذكره ليس من الآجال
المعروفة بين التجار ولأن الأجل بذكر الزمان
في المستقبل ولا يحصل ذلك بهذا اللفظ لجواز أن
يتصل هبوب الريح وإمطار السماء بالكفالة فيبقى
شرطا فاسدا فلا تبطل به الكفالة فأما ما ذكر
من الحصاد والدياس فذكر زمان في المستقبل لا
بالعلم إذ زمان الدياس ليس زمان الحصاد فيصح
ذلك على وجه التأجيل.
ولو قال: أنا كفيل بنفس هذا إلى قدوم فلان
وذلك معه في الدين عليهما جازت الكفالة إلى
هذا الأجل لأن اشتراط قدومه لينتشر الأمر عليه
يتمكن الطالب من استيفاء الدين منه فكان هذا
وما لو شرط قدوم المكفول بنفسه سواء ولو قال
رجل لقوم اشهدوا أني كفيل لفلان بنفس فلان
والطالب غائب فقد بينا أن إنشاء الكفالة بهذه
الصفة لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وسواء أجازه الطالب أو لم يجزه فإن قال
الطالب حين حضر قد كنت كفلت لي به قبل ذلك
وأنا حاضر وإنما كان هذا اللفظ إقرارا منك
بالكفالة وقال الكفيل بل أنشأت الكفالة بهذا
اللفظ فلم يصح فالقول قول الطالب لأن صيغة
كلامه إقرار ولأنا لو حملنا كلامه على الإقرار
كان صحيحا ولو حملناه على الإنشاء لم يصح
وكلام العاقل مهما أمكن حمله على وجه صحيح
يحمل عليه وكان الظاهر شاهدا للطالب من هذا
الوجه وإذا كفل رجل بنفس رجل على أنه إن لم
يوثق به غدا فهو كفيل بنفس فلان لرجل آخر
وللطالب قبله حق فذلك جائز إن لم يواف بالأول
كان عليه الثاني وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله الآخر فأما على قول أبي يوسف
الأول وهو قول محمد رحمهما الله فالكفالة بنفس
الأول صحيحة وبنفس الثاني باطلة نص على الخلاف
بعد هذا في الكفالة بالمال والكفالة بالنفس
والكفالة بالمال في هذا سواء.
وجه قول محمد رحمه الله أن هذه مخاطرة لأنه
علق الكفالة بالشرط وتعليقها لا يجوز كما لو
قال إن دخلت الدار فأنا كفيل لك بنفس فلان
وهذا بخلاف ما لو كفل بنفسه على أنه إن لم
يواف به فعليه المال الذي له عليه لأن القياس
هناك أن لا تصح الكفالة الثانية لكونها مخاطرة
وكنا استحسنا للتعامل الجاري بين التجار وهذا
ليس في معنى ذلك لأن ذلك المال كان سببا
للكفالة بالنفس فكان بينهما اتصالا من هذا
الوجه فأما الكفالة بنفس عمر وفليست بسبب
للكفالة بنفس زيد فلا اتصال بين الكفالتين هنا
فوجب اعتبار كل واحدة منهما على حدة والثانية
منهما متعلقة بالخطر وأبو حنيفة وأبو يوسف
رحمهما الله قالا
ج / 19 ص -153-
تعليق الكفالة بخطر عدم الموافاة صحيح كما لو
قال إن لم أوافك به غدا فعلي مالك عليه وهذا
لأن الكفالتين حصلتا لشخص واحد فكان في تصحيح
الثانية تأكيد يوجب الأولى لأن موجبها
الموافاة فإذا علم أنه إن لم يواف به لزمته
الكفالة الثانية جد في طلبه ليوافي به حتى
يدفع عن نفسه ضرر التزام الكفالة الثانية.
ولو قال: أنا كفيل لفلان أو لفلان كان جائزا
بدفع أيهما شاء الكفيل إلى المكفول له فيبرأ
من الكفالة لأن جهالة المكفول به لا تمنع صحة
الكفالة على ما بينه في قوله ما ثبت لك على
فلان فهو علي إن شاء الله تعالى ثم الكفيل
بهذا اللفظ يكون ملتزما تسليم أحدهما إلى
الطالب لإقحامه حرف أو بينهما فيكون الخيار في
بيان ما التزمه إليه وأيهما سلم فقد وفي بما
شرط وإذا قال رجل لرجل لفلان على فلان مال
فأكفل له بنفسه فقال قد فعلت ثم بلغ الطالب
فقال أجزت فإنه يجوز لأنه عقد جرى بين اثنين
ولو كان الملتزم وكيل الطالب كانت الكفالة
صحيحة فإذا كان فضوليا توقفت على إجازته فإذا
أجاز صار ملتزما وللكفيل أن يخرج من الكفالة
قبل قدوم الطالب لأنه يدفع اللزوم عن نفسه عند
إجازة الطالب وللعاقد هذه الولاية في العقد
الموقوف إذا فسخه المشتري قبل إجازة المالك.
وليس للمخاطب أن يبطل هذه الكفالة قبل إجازة
الطالب لأنه لا يدفع به عن نفسه شيئا فإن عند
الإجازة لا يجب على المخاطب شيء بخلاف البائع
في البيع الموقوف فإنه يجوز فسخه قبل أن يجيزه
المالك لأنه يدفع به عن نفسه ضرر لزوم العهدة
إذا أجازه المالك وإذا وكل رجل رجلا أن يأخذ
له من فلان كفيلا بنفسه فأخذ منه كفيلا بنفسه
فإن كان الكفيل كفل للوكيل فإن الوكيل يأخذه
بذلك دون الموكل لأنه أضاف العقد إلى نفسه
بقوله أكفل لي والتزام الكفيل تسليم نفس
المطلوب إليه فعليه الوفاء بما التزم وإن كفل
به للموكل أخذه الموكل دون الوكيل لأن الوكيل
أضاف الكفالة إلى الموكل وجعل نفسه رسولا من
جهته والكفيل التزم تسليم نفسه إلى الموكل فإن
دفعه في الوجهين جميعا إلى الموكل فهو بريء من
الكفالة.
أما في الفصل الثاني فلا يشكل وأما في الفصل
الأول فالوكيل وإن كان هو الذي يطالب للموكل
فإذا سلمه إلى الموكل فقد وفى الحق المستحق
عليه إلى مستحقه وهو كالمشتري من الوكيل إذا
دفع الثمن إلى الموكل وإذا ادعى رجل من رجل
كفالة بنفس وأراد يمينه فإنه يستحلفه له لأنه
يدعي عليه حقا مستحقا لو أقر به لزمه فإذا
أنكره يستحلف عليه حتى إذا نكل عن اليمين يقام
نكوله مقام إقراره فيؤخذ بذلك فإن أخذ به
فاستعدى على المكفول به أن يحضر فيبرئه عن
الكفالة فإن كان المكفول به مقرى بأنه أمره
بالكفالة أمر بأن يحضر معه لأنه هو الذي أدخله
في هذه الورطة فعليه إخراجه منها ولا طريق
للإخراج سوى أن يحضر معه ليسلمه فإن تسليم
نفسه لا يتصور بدون نفسه.
وإن قال: كفل لي ولم آمره وحلف على ذلك لم
يجبر على الحضور معه لأنه تبرع بهذا الالتزام
ولم يكن مأمورا به من جهة أحد فيقتصر وبال ما
التزمه عليه إلا أن يقيم البينة
ج / 19 ص -154-
أنه كفل له بأمره فحينئذ الثابت بالبينة
كالثابت بإقرار الخصم فيؤمر بالحضور معه وإذا
كفل رجل بنفس رجل فمات الطالب فلوصيه أن يأخذه
بها لأن الوصي قائم مقام الموصي في حقوقه وكما
يطالب الوصي المطلوب بالحق الذي كان عليه
للموصي فكذلك يطالب الكفيل وإن لم يكن له وصي
أخذه الورثة لأنهم خلفاؤه يقومون مقامه في
حقوقه وأي الورثة أخذه به فله ذلك ولكن يبرأ
الكفيل بدفعه إليه من جهته لا من جهة سائر
الورثة حتى أن لهم أن يطالبوه بالتسليم لأن كل
واحد منهم يقوم مقام الميت فيما هو من حقه ولا
يقوم مقام شركائه في حقوقهم ألا ترى أنه لا
يقبض من المطلوب إلا مقدار حصته من المال ولو
دفع إليه جميع المال لم يبرأ من نصيب سائر
الورثة.
ولو كان على الميت دين يحيط بماله ولم يوص إلى
أحد فدفعه الوكيل إلى غرمائه أو إلى الورثة لا
يبرأ لأن المقصود لا يحصل بالدفع إليهم فإن
الغرماء لا يتمكنون من الخصومة معه والورثة
كالأجانب إذا كانت التركة مستغرقة بالدين ولو
كان في ماله فضل على الدين وقد أوصى الميت
بالثلث فدفع الكفيل المكفول به إلى الغرماء أو
إلى الموصى له لم يبرأ إلا أن يدفعه إلى الوصي
لأنه هو القائم مقام الميت للمطالبة بحقوقه
حتى يوصل إلى كل مستحق حقه فأما الموصى له
والورثة فحقهم مؤخر عن حق الغرماء والخلافة
لكل واحد منهم بقدر حقه فلهذا لا يبرأ إلا
بدفعه إلى الوصي ولم يذكر في الكتاب ما إذا
دفعه إلى الثلاثة جميعا قيل يبرأ بالدفع إليهم
لأن الحق لهم لا يعدوهم والأصح أنه لا يبرأ
لأن الغرماء لا يتمكنون من الخصومة معه فلا
يعتبر دفعه إليهم ولا حق للورثة والموصى له ما
لم يصل إلى الغرماء حقهم فإذا أدى الورثة
الدين والوصية جاز الدفع إلى الورثة وبرى ء
الكفيل من كفالته لأن المانع من صحة الدفع
إليهم قيام حق الموصى له والغريم وقد زال ذلك
بوصول حقهم إليهم فبقي الحق للورثة فلهذا جاز
دفعه إليهم.
وإذا كفل رجل لرجلين بنفس رجل ثم دفعه إلى
أحدهما بريء من كفالة هذا وكان للآخر أن يأخذه
لأنه التزم تسليمه إليهما وواحد منهما ليس
بنائب عن الآخر في استيفاء حقه فلا يبرأ عن
حقه بالتسليم إلى الآخر ولكن في حق من سلم
إليه المقصود لم يحصل بهذا التسليم لأنه يتمكن
من خصومته وإثبات حقه عليه وكذلك وصيان لميت
كفلا رجلا بنفسه للميت عليه دين فدفعه الكفيل
إلى أحد الوصيين بريء منه وكان للآخر أن يأخذه
به سواء كانت الكفالة في صفقة واحدة أو في
صفقتين لأن كل واحد منهما ينفرد بالخصومة
فيحصل المقصود بالتسليم إليه فلهذا بريء من
حقه والله أعلم.
باب الكفالة بالنفس فإن لم يواف به فعليه المال
قال رخمه الله: وإذا كان
لرجل على رجل مال فكفل رجل بنفس المطلوب فإن
لم يواف به إلى وقت كذا فعليه ما له عليه وهو
كذا فمضى الأجل قبل أن يوافيه به فالمال لازم
له عندنا استحسانا وكان ابن أبي ليلى رحمه
الله يقول لا يلزمه المال وهو القياس لأنه علق
ج / 19 ص -155-
التزام المال بالخطر وتعلق التزام المال
بالخطر باطل كالإقرار لأنه إنما يعلق بالأخطار
ما يجوز أن يحلف به ولهذا لا يجوز تعليق
الكفالة بسائر الشروط فكذلك بخطر عدم الموافاة
وللاستحسان وجهان أحدهما أنه يحمل على التقديم
والتأخير فيجعل كأنه كفل بالمال في الحال ثم
علق البراءة على الكفالة بالموافاة بنفسه
والموافاة تصلح سببا للبراءة عما التزمه
بالكفالة والتقديم والتأخير في الكلام صحيح
فإذا أمكن في هذا الوجه تصحيح كلامه حمل عليه
وللتحرز عن الغاية والثاني أن هذا متعارف فيما
بين الناس فإن رغبة الناس في الكفالة بالنفس
أكثر منه بالكفالة بالمال فللطالب أن يرضى بأن
يكفل بنفسه على أنه إن لم يواف به يكون كفيلا
بالمال حينئذ وفيه يحصل مقصوده فإنه يجد في
طلبه ليسلمه إلى خصمه فيتمكن من استيفاء الحق
منه وإن لم يفعل يصير كفيلا بالمال فقد بينا
أن سبب كفالته بالنفس هو المال الذي ادعاه
قبله ويكون للحقين اتصال من هذا الوجه فإذا
عين الكفالة بأحدهما وأخر الكفالة الثانية إلى
وقت عدم الموافاة كان صحيحا وإذا لم يواف
بنفسه حتى لزمه المال لا يبرأ من الكفالة
بالنفس لأنه لا منافاة بين الكفالتين ألا ترى
أنه لو كفل بهما معا كان صحيحا وبعد ما ما صحت
الكفالة بالنفس لا يستفيد البراءة عنها إلا
بالموافاة بالنفس ولم يوجد ذلك وكذلك إن كان
قال فعلي مالك عليه ولم يسم كم هو جاز لأن
جهالة المكفول به لا تمنع صحة الكفالة فإنها
مبنية على التوسع مع أن عين الجهالة لا تؤثر
في العقد وإنما المؤثر جهالة تفضي إلى
المنازعة ألا ترى أن بيع القفيز من الصبرة
جائز فإن جهالة القفيز لا تقتضي المنازعة وهنا
الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأن الحق الذي
له عليه معلوم في نفسه وإن لم يكن معلوما
فإعلامه بطريق ممكن فلهذا صحت الكفالة ألا
ترى أنه لو قال كفلت لك ما أدركك في هذه
الجارية التي اشتريت من درك كان جائزا وأصل
لحوق الدرك وقدر ما يلحقه فيه من الدرك مجهول
وقد اعتاد الناس الكفالة بهذه الصفة.
وكذلك لو قال كفلت لك بما أصابك من هذه الشجة
التي شجك فلان وهي خطأ كان جائزا بلغت النفس
أو لم تبلغ ومقدار ما التزمه بهذه الكفالة
مجهول لأنه لا يدري قدر ما يبقي من الشجة وأنه
هل يسري إلى النفس أو لا يسري فدل أن مثل هذه
الجهالة لا تمنع الكفالة وكذلك لو قال كفلت
بالمال الذي لك عليه إن وافيتك به غدا فإن
بريء منه كان جائزا عن المال إذا أسلم نفسه
إليه في الغد لأن إبراء الكفيل إسقاط محض
والإسقاط بالتعليق بالشرط كالطلاق والعتاق
ولأن الموافاة بنفسه ممكنة للطالب من الوصول
إلى حقه فيجعل ذلك قائما مقام وصول حق الطالب
إليه في إبراء الكفيل ولكن هذه الإقامة تكون
عند الشرط فلا تثبت بدون الشرط وإذا كفل رجل
رجلا وقال إن لم أوافك به غدا فعلي ألف درهم
ولم يقل التي لك فمضى الغد ولم يواف به وفلان
ينكر أن يكون عليه شيء والطالب يدعي عليه ألف
درهم والكفيل ينكر أن يكون له عليه شيء فالمال
لازم على الكفيل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه
الله لا شيء عليه لأن
ج / 19 ص -156-
بمجرد دعوى الطالب لا يثبت المال على واحد
منهما فكانت هذه رشوة التزمها الكفيل له عند
عدم الموافاة والرشوة حرام ولو جعلناه كأنه
قال فعلي الألف التي لك عليه لزمه المال ولو
جعلناه كأنه قال فلك علي ألف درهم ابتداء من
جهتي لم يلزمه شيء والمال لا يجب بالشك لعلمنا
ببراءة ذمته في الأصل ووقوع الشك في اشتغالها
وحجتهما ما بينا أن الصحة مقصود كل متكلم
فمهما أمكن حمل كلامه على وجه صحيح يجب حمله
عليه ولو حملناه على الالتزام بطريق الرشوة لم
يصح ولو حملناه على الالتزام بطريق الكفالة عن
فلان كان صحيحا فعلي مالك عليه وهو ألف درهم
موجب حمله على هذا الوجه.
ألا ترى أن من قال لغيره لك علي ألف درهم حمل
كلامه على الإقرار فيصح ولا يحمل على الالتزام
ابتداء لأنه إذا حمل عليه لم يصح توضيحه أن
أول كلامه كفالة صحيحة عن فلان والأصل أن ما
مبناه على كلام صحيح يكون صحيحا على ما بينا
هذا في الفرق بين الوجه واليد إن شاء الله
تعالى وإذا حملنا آخر كلامه على الكفالة كان
ذلك إقرارا منه بوجوب المال على فلان وإقراره
صحيح في حق نفسه فلا ينفعه الإنكار بعد ذلك
ولو ادعى الطالب المال وجحد المطلوب وكفل رجل
بنفسه فإن لم يواف به غدا فعليه الذي ادعى على
المطلوب فلو مضى الغد ولم يواف به لزم الكفيل
المال عندهم جميعا لأنه صرح بالالتزام بطريق
الكفالة عن فلان وذلك إقرار بوجوب المال على
فلان لأن الكفالة لا تصح إلا به وإقراره حجة
على نفسه فإذا أداه رجع به على المطلوب إن كان
أمره أن يكفل عنه بالمال وإن لم يأمره بذلك
وأمره أن يكفل بالنفس لم يرجع عليه بالمال
لأنه متبرع بالكفالة بالمال وهذا عندنا.
وقال مالك رحمه الله الكفيل بالمال إذا أدى
يرجع على الأصيل سواء أمره بالكفالة عنه أو لم
يأمره لأن الطالب بالاستيفاء منه يصير كالمالك
لذلك المال من الكفيل أو كالمقيم له مقام نفسه
في استيفاء المال من الأصيل ولكنا نقول تمليك
الدين من غير من عليه الدين لا يجوز وإذا كفل
بأمره فبنفس الكفالة يجب المال للطالب على
الكفيل كما يجب للكفيل على الأصيل ولكن يؤخر
إلى أدائه وهذا لا يكون عند كفالته بغير أمره
والثاني أن عند الكفالة بالأمر يجعل أصل المال
كالثابت في ذمة الكفيل عند الأداء يتملكه
بالأداء وذلك يصح عند وجود الرضا من الطالب
والمطلوب وإذا كانت الكفالة بغير أمره لا يمكن
إثبات أصل المال في ذمته حتى يتملكه بالأداء
لانعدام الرضا من المطلوب بذلك فلهذا لا يرجع
عليه.
قال وكذلك لو كان المطلوب عبدا تاجرا لأنه
تبرع عليه والعبد في التبرع عليه كالحر ولو
كفل بنفس المطلوب على أن يوافيه به إذا ادعى
به فإن لم يفعل فعليه الألف التي له عليه فلو
سأله الرجل أن يدفعه إليه فدفعه إليه مكانه
فهو بريء من المال لأن شرط التزام المال عدم
الموافاة حين يطلبه منه فإذا وافاه به في
المجلس الذي طلب منه فقد انعدم شرط وجوب المال
وإن لم يدفعه إليه فقد تقرر شرط وجوب المال
فيلزمه وكذلك إن قال ائتني به العشاء أو
الغداء فلم يوافه به على ما قال فالمال لازم
عليه لوجود شرطه وإن قال الطالب
ج / 19 ص -157-
ائتني به غدوة وقال الكفيل آتيك به بعد غدوة
فأبى الطالب أن يفعل فلم يواف به الكفيل غدوة
فالمال عليه لأن الكفيل استمهله وله أن يأبى
الإمهال فإذا أباه بطل ذلك الاستمهال فيبقى
عدم الوفاء إلى الوقت الذي طلب منه فيلزمه
المال وإن أخره الطالب إلى بعد غد كما قال فقد
أجابه إلى ما التمس من الإمهال وصار في
التقدير كأنه أمره بالموافاة بعد غد فإذا
أوفاه به فقد بريء عن المال وإن مضى بعد غد
ولم يوافه به فعليه المال وإن كان شرط أن
يوافيه به عند مكان القاضي فدفعه إليه في
السوق أو الكناسة فهو بريء من المال لأنه أتاه
بالموافاة المستحقة عليه فإن التقييد بمكان
القاضي غير معتبر لأن المقصود أن يتوصل إلى
الخصومة معه وذلك حاصل بالتسليم في المصر وقد
بينا هذه الفصول في الباب المتقدم.
وإن شرط عليه أن يدفعه إليه عند الأمير فدفعه
إليه عند القاضي أو شرط عليه عند القاضي فدفعه
إليه عند الأمير أو شرط له عند القاضي فاستعمل
قاض غيره فدفعه إليه عنده فهو بريء لأنه ليس
المقصود بهذا التقييد عين القاضي والأمير
وإنما المقصود تمكنه من إثبات الحق عليه
بالحجة والاستيفاء منه بقوة الوالي وفي هذا
المقصود الأمير والقاضي الأول والثاني سواء
وقد بينا أن ما لا يكون مفيدا من التقييد لا
يعتبر ولو كفل بوجهه على أنه إن لم يواف به
غدا فعليه ما عليه وهو الألف درهم فهو جائز لا
على ما شرط ولو كفل بيده أو برجله على هذا
الشرط كان باطلا لا يلزمه المال فيه والفرق
بينهما أن الكفالة الثابتة بالمال مبنية على
الكفالة الأولى بالنفس والكفالة بالنفس
بالإضافة إلى الوجه تصح فإذا صح ما هو الأصل
صح ما جعل بناء عليه لمعنى وهو أن الكفالة
بالمال لا يمكن إثباتها بهذه الصفة مقصودا
لأنه علقها بالشرط وتعليق الكفالة بالشرط لا
يصح وإنما يصححها اعتبار التبعية للكفالة
الأولى وثبوت التبع بثبوت المتبوع ففي الفصل
الأول لما صح المتبوع صح التبع وفي الفصل
الثاني لم يصح المتبوع فلا يمكن تصحيحه التبع
ولا يمكن تصحيح الكفالة بالمال مقصودا بهذه
الصفة فتعينت جهة البطلان فيه وإذا كفل رجل
بنفس رجل فإن لم يوافه به غدا فالمال الذي
للطالب على فلان رجل آخر وهو ألف درهم على
الكفيل فهو جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله الآخر وفي قول محمد وأبي يوسف
رحمهما الله الأول الكفالة بالمال باطلة.
وهذه الفصول أحدها أن يكون الطالب والمطلوب
واحدا في الكفالتين فتجوز الكفالتان استحسانا
كما بينا والثاني أن يكون الطالب مختلفا فتبطل
الكفالة بالمال سواء كان المطلوب واحدا أو
اثنين نحو أن يكفل بنفس رجل على أنه إن لم
يواف به غدا فالمال الذي لرجل آخر على هذا
المطلوب على الكفيل أو المال الذي لرجل آخر
سوى الطالب على رجل آخر سوى المطلوب على
الكفيل فهذا باطل بالاتفاق لأن عند اختلاف
الطالب الكفالة الثانية لا تكون تابعة للكفالة
الأولى ولا يكون تصحيحها مقصودا لأنه تعليق
للالتزام بالشرط ولأنا عند اتحاد الطالب
والمطلوب صححنا الكفالة الثانية حملا لكلامه
على معنى التقديم والتأخير ولا يتأتى ذلك عند
اختلاف الطالب فأما إذا كان الطالب واحدا
والمطلوب اثنين فهو على
ج / 19 ص -158-
الخلاف كما بينا فمحمد رحمه الله يقول الكفالة
الثانية هنا لا يمكن تصحيحها تبعا للكفالة
الأولى لأن الكفالة الأولى بنفس غير نفس
المطلوب بالمال ولا يمكن أن تجعل الموافاة
بنفسه مبرئة له عما التزمه عن آخر فبقيت هذه
كفالة مقصودة متعلقة بالشرط وهي مخاطرة فلا
يصح كما قال في الفصل الثاني.
وكذلك لا يمكن تصحيح الكفالة هنا بحمل كلامه
على التقديم والتأخير بخلاف ما إذا اتحد
المطلوب
فأما أبو يوسف رحمه الله فإنه يقول الكفالة
الثانية هنا توقن بحق من وقعت الكفالة الأولى
له فيصح كما إذا اتحد المطلوب وهذا لأن
الكفالة إنما تقع للطالب حتى يحتاج إليه قبول
الطالب وإذا كان الطالب واحدا أمكن جعل
الكفالتين في المعنى ككفالة واحدة واتباع
الثانية للأولى فيحكم بصحتها بخلاف ما إذا
اختلف الطالب.
ولو قال فإن لم أوافك به فالمال الذي لك عليه
وهو مائة درهم والمال الذي لك على فلان وهو
عشرة دنانير علي فإن ذلك كله عليه عند عدم
الموافاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
وعند محمد رحمه الله عليه المال الذي كان على
المطلوب دون الذي على غيره اعتبارا لحالة
الجمع بينهما بحال إفراد كل واحد منهما
واستشهد لهما بما لو كان عليهما مال واحد وكل
واحد منهما كفيل عن صاحبه فكفل بنفس أحدهما
على أنه إن لم يواف به غدا فالمال الذي على
فلان وهو كذا علي إن لم أواف به أن ذلك عليه
وعذر محمد رحمه الله واضح لأن المال هنا واحد
سواء أضافه إلى المكفول بنفسه أو إلى صاحبه.
ولو كفل بنفس رجل للطالب عليه مال فلزم الطالب
الكفيل فأخذ منه كفيلا بنفسه على أنه إن لم
يواف به فالمال الذي له على فلان المكفول به
الأول عليه فهو جائز وهذا عندهم جميعا وعذر
محمد رحمه الله أن الكفالة بالنفس هنا باعتبار
ذلك المال ألا ترى أن المطلوب إذا بريء من
ذلك المال بريء الكفيل الأول والثاني فأمكن
تصحيح الكفالة بالمال تبعا للكفالة بالنفس
وإذا كفل رجل بنفس رجل أو بما عليه وهو مائة
درهم كان جائزا لأنه ردد الالتزام بين شيئين
وقد ذكرنا أن مثل هذه الجهالة لا تمنع صحة
الالتزام بحكم الكفالة والخيار إلى الكفيل
وأيهما سلم المال أو النفس بريء لأن حرف أو
للتخيير وعزيمة الكلام في أحدهما.
وإذا كفل بنفس فلان أو بما عليه أو بنفس فلان
آخر أو بما عليه فهو جائز وأي ذلك دفع الكفيل
فهو بريء لأن الجهالة في المكفول به لا تمنع
صحة الكفالة عند عدم التنصيص فعند التنصيص
عليه أولى وأي ذلك دفع فقد وفى بما لزمه.
ولو ادعى رجل قبل رجل ألف درهم فأنكرها ثم قال
إن لم أوافك به غدا فهو علي فإن لم يوافه به
غدا لا يلزمه شيء لأنه تعليق للالتزام بالخطر
بمنزلة قوله إن دخلت دارك فهو علي وهذا بخلاف
ما لو كفل رجل بنفس جاحد وقال إن لم أوافك به
غدا فالذي تدعي عليه لك علي لأن الكفالة
بالنفس والمال جائزة ويلزم الكفيل المال إن لم
يواف لأنه جعل التزام المال تبعا للكفالة
بالنفس وقد صحت الكفالة بالنفس فكذلك بالمال
وحقيقة
ج / 19 ص -159-
المعنى في الفرق أنه ليس من شرط توجه المطالبة
على الكفيل وجوب أصل المال في ذمته على ما
بينا أن موجب الكفالة المطالبة بما هو في ذمة
غيره وهو لما قدم على الكفالة صار كالمقر
بوجوب المال في ذمة المطلوب وإقراره بذلك ملزم
إياه وإن لم يثبت المال له في ذمة المطلوب
بخلاف المطلوب إذا علق الالتزام بعدم موافاته
لأنه لا يمكن توجه المطالبة عليه إلا بعد وجوب
المال في ذمته ولم يوجد منه الإقرار بوجوب
المال عليه صريحا ولا دلالة فكانت هذه مخاطرة
حتى لو كان المطلوب أمر الكفيل بالكفالة بهذا
الشرط يجب المال به على المطلوب كما يجب على
الكفيل.
ولو كفل رجلا بنفسه فإن لم يواف به غدا فالألف
درهم التي لك عليه على فلان آخر سوى الكفيل
بالنفس وإقرار الكفيل بالمال بذلك فهو جائز
على هذا الشرط لأن معنى الاستحسان الذي ذكرنا
في الفصل الأول إذا أضاف الكفالة بالمال إلى
نفسه يأتي هنا أيضا وهو أن يحمل كلامه على
التقديم والتأخير ويجعل كأن أحدهما كفيل بنفس
المطلوب والآخر بالمال بشرط أن الكفيل بنفسه
إن وفى بالنفس بريء الكفيلان جميعا.
فأيهما صرح بهذا كان جائزا مستقيما لأن عند
الموافاة بالنفس الطالب يستغنى عن الكفالتين
فلذا تعينت البراءة عن الكفالتين بسبب بعينه
عنهما ولا فرق في ذلك بين أن يكون الكفيل رجلا
أو رجلين وإذا كفل رجل بنفس رجل فإن لم يواف
به غدا فعليه المال الذي عليه وهو الألف فلم
يواف به الكفيل ولكن الرجل لقي الطالب وخاصمه
ولازمه في المسجد حتى الليل فالمال لازم
للكفيل لوجود شرطه وهو عدم موافاة الكفيل به
وقد بينا أنهما وإن تلاقيا لا يبرأ الكفيل به
عن الكفالة بالنفس بخلاف ما إذا وافاه به
فكذلك في وجوب المال وهذا لأن تسليم المطلوب
نفسه إلى الطالب أنواع قد يكون عما هو مستحق
عليه وقد يكون من جهة الكفالة فلا تتعين جهة
الكفالة في تسليمه إلا بالتنصيص لأن الأصل في
تسليمه أنه عما هو مستحق عليه فإن الكفالة
بناء على ذلك الاستحقاق إلا أن يكون المطلوب
قال قد دفعت نفسي إليك عن كفالة فلان فحينئذ
يصح ذلك منه لأنه مطلوب بذلك من جهة الكفيل
فيصح تعيينه لتلك الجهة ليسقط به مطالبة
الكفيل عن نفسه وإذا صح ذلك كان هذا وموافاة
الكفيل به سواء فيبرأ من المال.
ألا ترى أنه لو بعث به مع رسوله إلى الطالب
كان ذلك موافاة منه حتى يبرئه من المال ولو
كفل رجل بنفس الكفيل على أنه إن لم يواف به
غدا فالمال الذي كفل عن فلان وهو ألف عليه
فوافى الكفيل الأول بالمطلوب ودفعه إليه في
الغد فالكفيلان بريئان من الكفالة بالمال أما
الكفيل الأول فلوجود الموافاة منه وأما الكفيل
الثاني فلأن الكفيل الأول في حقه أصيل وبراءة
الأصيل توجب براءة الكفيل وإن لم يواف به
الأول ولا الثاني ووافى الكفيل الأول في الغد
فإن الكفيل الثاني يبرأ لوجود شرط البراءة في
حقه وهو الموافاة بنفس الكفيل الأول في الوقت
الذي اشترطه والتزم المال الكفيل الأول لوجود
شرطه وهو عدم الموافاة بنفس
ج / 19 ص -160-
المطلوب ولو كفل بنفس رجل فإن لم يواف به إلى
شهر فالمال الذي عليه وهو مائة عليه ثم لقي
الطالب به المكفول قبل الأجل فأخذ منه كفيلا
آخر بنفسه وبالمال بهذا الشرط أيضا فوافى به
أحدهما في الأجل فإن الذي وافى به بريء من
المال والنفس ولا يبرأ الآخر لأن كل واحد
منهما التزم تسليم النفس بعقد على حدة
فموافاته به تكون تسليما عن نفسه لا عن غيره
فيجب المال على الآخر لوجود شرطه وهو انعدام
الموافاة بالنفس منه.
وإن قال الكفيل الذي وافى به قد دفعته عن نفسي
وعن فلان فإنه يكون عن نفسه ولا يكون عن فلان
لأن التسليم الواحد لا يكون عن جهتين ولأنه
متبرع في التسليم عن فلان لأن ذلك الالتزام
غير متعلق به أصلا فهو في ذلك كأجنبي آخر فلا
يصح تسليمه عن فلان إلا أن يقبله الطالب فإذا
قبله على ذلك برئا جميعا ويصير كأنه سلم مرة
عن نفسه ومرة عن فلان فإن الاستدامة على ما
يستدام بمنزلة الإنشاء وعلى هذا لو جاء رجل
ليس بكفيل فقال قد دفعته إليك عن فلان لم يبرأ
واحد منهما إلا أن يقبله الطالب عنهما.
ولو قال المكفول به قد دفعت نفسي إليك عن فلان
وفلان برئا جميعا من الكفالتين ولا يشترط قبول
الطالب هنا لأن الطالب مطالب من جهة كل واحد
من الكفيلين بتسليم النفس إليه لتسليمه إلى
الطالب فلا يكون هو متبرعا في هذا التسليم فلا
يشترط فيه قبول الطالب بخلاف الأجنبي وتوضيح
هذا الكلام لو كان المكفول به قاعدا مع الطالب
يحدثه فقال رجل للطالب قد دفعت إليك هذا عن
فلان فسكت الطالب أو قال لا لم يبرإ الكفيل
وإن قال الطالب نعم قد قبلت فالكفيل بريء لأن
المسلم ليس بخصم عنه فكان متبرعا فلا تقع
البراءة للكفيل إلا بقبول الطالب ولو كان
المتكلم بذلك وكيل الكفيل بريء الكفيل لأن
وكيله قائم مقامه فصار تسليم النفس كتسليم
المال في حكم البراءة ولو أن أجنبيا أدى المال
عن المطلوب لم يبرأ المطلوب إلا بقبول الطالب
بخلاف ما إذا كان المؤدي وكيل المطلوب أو
المطلوب نفسه فكذلك البراءة عن الكفالة
بالنفس.
ولو كفل ثلاثة رهط بنفس رجل فإن لم يوافوا به
يوم كذا فعليهم المال الذي عليه وهو ألف درهم
فلم يوافوا به فعلى كل واحد منهم ثلث الألف
كما لو أرسلوا الكفالة بالمال والمعنى فيه أنه
التزام للمال أو للمطالبة فإذا أضيف إلى جماعة
يتوزع على عددهم كالإقرار ولو قال ثلاثة نفر
لرجل لك علينا ألف درهم يجب على كل واحد منهم
ثلث الألف فإن وافى به أحدهم في ذلك اليوم فهم
جميعا برآء من المال والنفس لأنهم التزموا
تسليم النفس بعقد واحد فموافاة أحدهم به
كموافاتهم جميعا وكذلك إن كان قال فعليهم
الألف التي عليه وبعضهم كفيل عن بعض بها فوافى
به أحدهم برئوا جميعا وهذا أظهر وإن لم يوافوا
به لزمهم المال وللطالب أن يأخذ أيهم شاء
بجميع المال لأن كل واحد منهم التزم عن الأصيل
ثلث المال وكل واحد عن صاحبه كفيل بالثلث الذي
التزمه أيضا فإن أدى أحدهم جميع المال رجع كل
واحد على صاحبه بثلثه إن شاء لأنه كفل عن كل
واحد منهم بثلث المال وأدى ثلثه
ج / 19 ص -161-
ويرجعون جميعا على صاحب الأصل بالمال وإن شاء
المؤدي رجع على أحد صاحبيه بالنصف لأنه يقول
أنت مساو لي في هذه الكفالة وقد أديت المال
فارجع عليك بنصفه لنستوي في القيام بالكفالة
كما استوينا في الكفالة فإن قيل كيف يرجع عليه
بالنصف وهو إنما كفل عنه الثلث قلنا نعم ولكن
الثلث الذي على الثالث المؤدي وهذا الآخر
يستويان في الكفالة عنه بذلك فكان له أن يقول
نصف ذلك الثلث أديته بحكم الكفالة عنك لأنك
كفيل معي عنه بذلك وبعضنا كفيل عن بعض فلهذا
رجع عليه بنصفه فإذا فعل ذلك ثم لقيا الثالث
رجعا عليه بثلث المال ليستووا في عدد الكفالة
ثم إذا لقوا المطلوب رجعوا عليه بجميع المال.
ولو كفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به غدا
فعليه ألف درهم التي له عليه فلم يواف به في
الغد وقال الطالب وصلني الألف وأديته ألفا
أخرى أو قال لم يكن لي عليه يومئذ شيء ولكن
أديته ألفا قبل حلول الأجل لم يلزم الكفيل من
ذلك شيء لأنه إنما كفل المال الواجب عليه عند
الكفالة بالنفس لا عند عدم الموافاة وذلك
المال قد سقط أو تبين أنه لم يكن واجبا بإقرار
الطالب وما وجب بعد ذلك لم يتناوله عقد
الكفالة فلا يطالب الكفيل بشيء منه.
ولو قال إن لم يواف به فعليه المائة درهم التي
له عليه وما باعه من شيء ما بينه وبين أن يمضي
هذا الأجل لزمه على ما قال لأن الكفالة هنا
كما تناولت الواجب عند الكفالة بالنفس تتناول
ما يجب بعدها قبل الأجل وكل واحد منهما صحيح
لأنه أضاف الالتزام بالكفالة إلى سبب وجوب
المال وهو المبايعة فما كان قائما من المال
عند عدم الموافاة يصير الكفيل به كفيلا به.
ولو كفل بنفس رجل وإن لم يواف به إلى كذا من
الأجل فعليه المال الذي عليه وهو مائة درهم
فمات المكفول به قبل الأجل ثم مضى الأجل
فالمال على الكفيل لأن شرط الوجوب عدم
الموافاة وذلك يتحقق بعد موت المكفول به وإن
قيل شرط وجوب المال عدم موافاة مستحقه وذلك لا
يكون بعد موت المكفول به لأن الكفالة بالنفس
تبطل بالموت فينبغي أن لا يلزمه المال وهو كما
قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا قال إن
لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم
فامرأته كذا فأهريق الماء قبل الليل لا يقع
الطلاق لأن الشرط عدم شرب يتأتى أو يكون
مستحقا باليمين في آخر النهار ولا يتحقق ذلك
إذا أهريق
والجواب عنه أن نقول هما جعلا عدم الموافاة
شرط وجوب المال فالتقييد بموافاة مستحقة يكون
زيادة ثم حقيقة المعنى وبه يتضح الفرق أن
تصحيح الكفالة بالمال هنا بطريق التقديم
والتأخير وهو أنه يجعل كأنه كفل بالمال للحال
ثم علق التركة عنه بالموافاة بالنفس والموافاة
بالنفس لا توجد بالموت فيبقى المال واجبا
بالكفالة ولا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير
في اليمين بالطلاق لأن الطلاق يحتمل التعليق
بالشرط وبعد الوقوع لا يحتمل الرفع فلهذا
افترقا وإن مات الكفيل قبل حلول الأجل فإن مضى
الأجل قبل أن يوافي ورثة الكفيل الطالب بالرجل
فالمال دين في مال الكفيل لأن شرط البراءة
الموافاة بالنفس ولم توجد ثم يضرب الطالب مع
سائر غرمائه في تركته لأن حق الطالب قبله في
حكم دين الصحة في الوجه.
ج / 19 ص -162-
قلنا إنه يجعل كأنه كفل بالمال في الحال وعند
الكفالة كان صحيحا فلهذا كان حق الطالب بمنزلة
غرماء الصحة يضرب معهم في تركته وإن دفعوه
إليه في الأجل أو دفع المكفول به نفسه بريء
الكفيل من المال والكفالة لأن موافاة الوارث
بنفسه كموافاة المورث في حياته وكذلك دفع
المكفول به نفسه من جهة الكفالة بمنزلة دفع
الكفيل فقد وجد شرط البراءة عن المال وهو
الموافاة بالنفس وإن لحق الكفيل بدار الحرب
مرتدا فهو بمنزلة موته في أن تسليم الورثة
يقوم مقام تسليمه في براءة الكفيل لأنهم
يخلفونه في أمواله بهذا السبب كما يخلفونه بعد
موته وإن لحق المكفول به بدار الحرب فإن مضى
الأجل قبل أن يوافي به فالمال لازم للكفيل لأن
شرط البراءة عن المال الموافاة بالنفس ولم
توجد وأكثر ما فيه أن يكون لحوقه كموته وقد
بينا أن المال بعد موته يجب على الكفيل عند
عدم الموافاة فهذا مثله.
ولو كان المكفول به امرأة فارتدت ولحقت بالدار
وسبيت فوافى بها وهي أمة في الأجل بريء الكفيل
من الكفالة والمال لأن شرط البراءة وهو
الموافاة في الأجل قد وجد والموافاة تتحقق بعد
ما صارت أمة ولأنها حين سبيت سقط الدين عنها
وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل وكذلك لو كان
المكفول به رجلا فوافى به وهو حلال الدم بردة
أو قتل عمدا لأن الموافاة بعد حل دمه تتحقق
كما تتحقق قبله ولو مات الطالب فوافى به
الكفيل وصيه بريء من المال والكفالة لأن وصيه
قائم مقامه بعد موته فتسليم النفس إليه
كالتسليم إلى الموصي فلهذا يستفيد به البراءة
وإن لم يكن له وصي فوافى به ورثته فإن كان
عليه دين يستغرق ماله لم يبرأ بتسليمه إلى
الورثة لأنهم لا يملكون شيئا من تركته مع
الدين المستغرق فالتسليم إليهم في هذه الحال
بمنزلة التسليم إليهم قبل موته وهذا لأن
المقصود لا يحصل بالتسليم إليهم فإنهم لا
يتمكنون من مطالبته بالمال فأما إذا لم يكن
عليه دين فيبرأ بتسليمه إلى جميع الورثة لأنهم
خلفاؤه في التركة فيتمكنون من مطالبته بالمال
فتسليمه إليهم بمنزلة تسليمه إلى الطالب في
حياته ولو وافى به أحدهم بريء من الكفالة لهذا
الواحد ولم يبرأ من غيره لما بينا أن حق
المطالبة والاستيفاء إليه في نصيبه دون نصيب
سائر الورثة فقد بريء بالتسليم إليه في نصيبه
دون نصيب غيره.
ولو كفل بنفس رجل لرجلين فإن وافاهما به فكذا
وإلا فعليه مالهما عليه فلو وافى به أحدهما
والآخر غائب بريء من كفالة الشاهد لوجود شرط
البراءة في حقه وهو الموافاة بالنفس ولزمه
نصيب الغائب من المال لانعدام شرط البراءة في
حقه فإن شريكه لم يكن نائبا عنه في المطالبة
بحقه ثم ما أخذه الغائب من الكفيل يكون بينه
وبين شريكه لأن أصل المال كان مشتركا بينهما
فاستيفاء أحدهما نصيبه من الكفيل بمنزلة
استيفائه من الأصيل فكان له أن يشاركه في
المقبوض ولو ماتا جميعا كان ورثتهما على ما
كانا عليه حتى إذا سلمه إلى ورثة أحدهما بريء
في نصيبه دون نصيب الآخر إقامة لكل وارث مقام
مورثه ولو كان الطالب واحدا فتغيب عند حل
الأجل فطلبه الكفيل وأشهد على طلبه ولم يدفع
إليه الرجل فالمال لازم للكفيل لأن شرط
البراءة عن المال تسليم النفس إلى الطالب ولم
يوجد ذلك وإن طلبه
ج / 19 ص -163-
ليسلمه فيبقى المال عليه فإن قيل إنما تغيب
قصدا منه إلى الإضرار بالكفيل فيبقى إلى أن
يرد عليه قصده ويقام هذا مقام تسليمه لأن
الكفيل أتى بما في وسعه قلنا الكفيل هو الذي
أضر بنفسه بكفالته بالمال وقد بينا أن وجوب
المال عليه بالكفالة لانعدام الموافاة ولكن
الموافاة بنفسه مبرئة له عن المال فإذا انعدم
ذلك بقي المال عليه بكفالته لا بتغيب الطالب.
وكذلك لو كان اشترط عليه مكانا فوافى به ذلك
المكان وتغيب الطالب لأن المبرى ء له تسليم
نفسه إلى الطالب دون إحضاره ذلك ولا يتصور
تسليمه إلى الطالب وهو غائب فوجود إحضاره ذلك
المكان كعدمه وإن كان الكفيل اشترط في الكفالة
أنه بريء منه إن وافى به المسجد الأعظم وأشهد
عليه يوم كذا فوافى به المسجد يومئذ وأشهد
وغاب الطالب فقد بريء الكفيل من الكفالة
بالنفس والمال لأنه جعل شرط براءته إحضاره
للمسجد في ذلك الوقت وقد وجد ذلك فيبرأ من
الكفالة بالنفس والمال جميعا وكذا في الكفالة
بالنفس وحدها وهذا لأن إبراء الكفيل إسقاط محض
ولهذا لا يرتد بردته فيصح تعليقه بحضور المكان
في وقت معلوم كالطلاق والعتاق وإذا صح التعليق
فالمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
ولو كفل بنفسه إلى غد في المسجد فعليه المائة
الدرهم التي له عليه ولو اشترط الكفيل على
الطالب إن لم يوافني غدا عند المسجد ليقبضه
مني فأنا بريء منه فالتقيا بعد الغد فقال
الكفيل قد وافيت به وقال الطالب قد وافيت ولم
تواف لم يصدق كل واحد منهما على الموافاة لأن
كل واحد منهما يدع موافاته وخصمه يكذبه في ذلك
فلا نثبت موافاة بدعوى كل في حق صاحبه وكان
الكفيل على كفالته والمال لازم لما بينا أنه
ملتزم للمال بنفس الكفالة وجعل شرط براءته
موافاته ولم يثبت ذلك بقوله فلا يبرأ منه
ولو جعل شرط البراءة عدم موافاة الطالب ليقبضه
منه ولم يثبت هذا الشرط بقوله لم تواف أنت بل
يجعل القول قول الطالب مع يمينه على ما عرف أن
الشرط سواء كان نفيا أو إثباتا لا يثبت إلا
بحجة والقول قول من ينكر وجود الشرط فإن أقام
كل واحد منهما البينة على الموافاة إلى المسجد
ولم تشهد على دفع الكفيل إليه فإن المال لا
يلزم الكفيل لأنه قد أثبت بالبينة شرط براءته
عن المال وهو عدم موافاة الطالب ليقبضه منه
فيبرأ من المال ولكن الكفالة بالنفس على حالها
لأن براءته عن الكفالة بالنفس بتسليمه إلى
الطالب ولم يوجد ولأن البينتين قد تحققت
المعارضة بينهما فامتنع القضاء بما كان متقررا
وهو وجوب تسليم النفس بحكم الكفالة والعمل
بهما ممكن في البراءة على المال لأن الكفيل
يثبت شرط البراءة ببينة والآخر ينفي فيترجح
الإثبات.
وإن أقام المطلوب البينة على موافاة المسجد
ولم يقم الطالب البينة بريء الكفيل من كفالة
النفس والمال جميعا لأن الطالب غير مصدق على
الموافاة والكفيل أثبت ببينته موافاته المسجد
فوجب قبول بينته على ذلك وإذا قبلنا ببينته
صار الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم
فيثبت شرط البراءة عن المال والنفس جميعا ولو
كفل بنفسه على أن يدفعه إليه غدا
ج / 19 ص -164-
فإن لم يفعل فالمال عليه ولو اشترط الكفيل
عليه إن لم توافني فتقبضه مني فأنا بريء من
الكفالة والمال فلم يلتقيا من الغد فالكفيل
بريء والقول قول الكفيل أن الطالب لم يواف مع
يمينه وعلى الطالب البينة بخلاف ما تقدم لأن
هناك موافاة المكان مشروطة على الطالب والكفيل
جميعا وموافاة الكفيل لا تثبت بقوله لأنه يدعي
وجود فعل كان مشروطا فلا يصدق عليه إلا بحجة
ولهذا لو أقام البينة على الموافاة بنفسه بريء
لأن موافاته المكان مشروطة عليه فتثبت ببينته
فأما في الفصل الأول فالموافاة غير مشروطة على
الكفيل وإنما هي مشروطة على الطالب وأن يأتي
ليقبضه منه ولم يأت فقد وجد شرط براءة الكفيل
عن المال فلهذا كان بريئا وحاصل الفرق بين هذه
الفصول بحرف وهو أن من ينكر فعل غيره فالقول
قوله في ذلك لأنه متمسك بالأصل ومن يدعي فعل
نفسه لا يقبل قوله إلا بحجة لأنه يدعي أمرا
عارضا.
ولو كفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به غدا
فعليه ما للطالب عليه من شيء فلم يواف به الغد
وقال الكفيل لا شيء لك عليه فالقول قوله مع
يمينه على علمه لأنه التزم مالا موصوفا وهو أن
يكون واجبا على الأصيل فلما لم يثبت الوجوب
على الأصيل لا يصير هو ملتزما كما لو قال ما
قضي به لك عليه فهو علي فما لم يصر المال
مقضيا به على الأصيل لا يجب على الكفيل وبقول
الطالب لم يصر المال واجبا على الأصيل والكفيل
في إنكاره تمسك بالأصل وهو عدم الطالب فالقول
قوله مع يمينه على علمه لأنه استحلاف على ما
هو فعل غيره وهذا بخلاف ما تقدم وهو ما إذا
قال إن لم أوافك به غدا فالمال الذي تدعي عليه
علي لأنه كفل هناك بما يدعيه الطالب والدعوى
متحققة منه فلما وجدت الصفة التي قيدت الكفالة
بما يصحح التزامه للمال كان مؤاخذا به.
وكذلك إن قر الكفيل بمائة درهم وأقر المكفول
عنه بمائة درهم صدق المكفول عنه ولم يصدق
الكفيل لما بينا أنه التزم بالكفالة ما كان
واجبا على الأصيل وقت كفالته وإقرار الأصيل
ليس بحجة على الكفيل فإنما يثبت الوجوب وقت
الكفالة فما أقر به الكفيل وهو المائة فلا
يلزمه أكثر من ذلك ولو كفل بنفسه على أنه إن
لم يواف به غدا فعليه من المال قدر ما أقر به
المطلوب فلم يواف به الغد وأقر المطلوب أن
عليه ألف درهم فالكفيل ضامن لها لأنه قيد
الكفالة هنا بصفة ثبتت تلك الصفة بإقرار
المطلوب فيتم به شرط الالتزام بالكفالة بخلاف
الأول فإن بإقراره هناك ثبت الوجوب عليه وقت
الإقرار وإنما التزم هو بالكفالة ما كان واجبا
عليه وقت الكفالة ولا يثبت ذلك إلا فيما أقر
به الكفيل لو نكل عن اليمين فيه بعد
الاستحلاف.
ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا
فعليه ما ادعى الطالب فلم يواف به الغد وادعى
الطالب ألف درهم وأقر بها المطلوب وجحدها
الكفيل فالقول قول الكفيل مع يمينه على علمه
وهو مشكل لأنه إنما كفل هنا بما ادعاه الطالب
وقد تحققت الدعوى منه والإقرار من المطلوب
ولكن مراده من هذه المسألة أنه كفل بما ادعاه
الطالب قبل الكفالة ولم تظهر تلك الدعوى منه
ولكنه لما لم يواف به غدا ادعى الآن أنه كان
ادعى عليه ألف درهم قبل الكفالة وهو غير مصدق
في
ج / 19 ص -165-
هذا فالقول للكفيل في إنكاره أنك لم تدع مع
يمينه على علمه بخلاف ما تقدم فإن هناك إنما
كفل بما يدعي الطالب عليه وقد وجد ذلك منه
بالمعاينة بعد الكفالة.
ولو كفل بنفسه على أن يوافي به إذا جلس القاضي
فإن لم يواف به فعليه الألف التي للطالب عليه
فلم يقعد القاضي أياما ولم يواف به وطلبه
صاحبه فلم يأت به فلا شيء عليه أي على الكفيل
من المال لأنه جعل شرط وجوب المال عدم
الموافاة إذا جلس القاضي وإن لم يجلس القاضي
لم يوجد ذلك ولأنه أجل في الموافاة إلى جلوس
القاضي وما لم يمض الأجل لا تتوجه عليه
المطالبة بالموافاة ووجوب المال عليه عند عدم
موافاة مستحقة فإذا لم يوجد ذلك قبل جلوس
القاضي لا يلزمه المال.
ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فقد
احتال الطالب عليه بالألف درهم التي له على
المطلوب ولم يواف به الغد فالمال عليه
والحوالة في هذا والكفالة سواء على ما بينا من
طريق الاستحسان أنه يلزم المال وتتعلق براءته
عنه بشرط الموافاة بالنفس وذلك صحيح في
الكفالة والحوالة جميعا وكذلك لو قال فإلي
المال أو فعلي المال لأن هذا من ألفاظ الكفالة
وكذلك لو قال فعندي له هذا المال لأن كلمة عند
عبارة عن القرب وقرب الدين منه إما بالتزام
أصله في ذمته أو بالتزام المطالبة به فكان هذا
والكفالة سواء
ولو كفل بنفسه على أن يوافي به غدا فإن لم
يواف به غدا فعليه المال الذي عليه وهو ألف
درهم فلم يواف به الغد ولزمه المال ثم أخذه
الطالب بكفالة النفس وقال لي عليه مال آخر
أولي معه خصومة فإن الكفيل يؤخذ بنفسه ولا
يبرأ منه حتى يدفعه إليه لأنه بأصل الكفالة
التزم تسليم نفسه وبأداء المال لم يصر مسلما
نفسه وأداؤه ذلك المال لا يمنع ابتداء الكفالة
بنفسه فلأن لا يمنع بقاءها كان أولى.
وإن كفل بنفسه على أنه متى ما طالبه الطالب
فلم يواف به فعليه المال الذي عليه وهو ألف
درهم فطلبه منه فلم يدفعه إليه فعليه المال
لوجود شرطه وهو عدم الموافاة في الوقت الذي
طلبه الطالب منه وكذلك لو طلبه غدوة فلم يدفعه
إليه حتى العشي قال ولا يبرئه من المال إلا أن
يدفعه إليه ساعة طلبه منه وهذا اللفظ إشارة
إلى ما بينا أن المال واجب عليه بالكفالة وشرط
براءته أن يوافيه به حين يطلبه الطالب فإذا لم
يفعل انعدم شرط البراءة فبقي المال عليه كما
التزمه بأصل الكفالة ولا ينفعه دفع النفس إليه
بعد ذلك لأن ذلك لم يكن شرطا عن المال والله
أعلم بالصواب. |