المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 20 ص -3-
باب الكفالة بالنفس والوكالة بالخصومة
قال رحمه الله: وإن ادعى
رجل قبل رجل دعوى وأخذ منه كفيلا بنفسه ووكيلا
بالخصومة ضامنا لما ثبت عليه فهو جائز لأن
مقصود صاحب الحق التوثق بحقه وتمام التوثق
يكون بهذا فإن المكفول بنفسه ربما لا يأتي
بالكفيل ويخفي شخصه فيتعذر على الطالب إثبات
حقه ولا يتوصل إلى حبس الكفيل وإن كان وكيلا
في خصومته يمكن من إثبات حقه بالبينة وبعد
الإثبات ليس له أن يطالب الوكيل بأداء المال
وربما لا يظفر الوكيل بالأصيل فإذا كان ضامنا
لما ذاب عليه توصل إلى استيفاء حقه منه فعرفنا
أن تمام التوثق بها يحصل فلهذا جوزناه وعلى
قول الشافعي رحمه الله هذا الضمان لا يجوز.
وأصل المسألة أن الكفالة بالمال مضافا إلى سبب
وجوبه يجوز عندنا نحو أن يقول ما ذاب لك على
فلان فهو علي أو ما بعت به فلانا فهو علي وعند
الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنه التزم المال
بالعقد فلا يحتمل الإضافة كالالتزام بالشراء
ولأن الإضافة إلى وقت في معنى التعليق بالشرط
والتزام المال بالكفالة لا يحتمل التعليق
بالشرط حتى لو علق بدخول الدار وكلام زيد لم
يصح فكذلك إذا أضافه إلى وقت توضيحه أن عندكم
لو أضاف الكفالة إلى موت المطلوب كان صحيحا
ولو أضافها إلى موت غيره لم يصح ولا فرق بين
الموتين فإن كل واحد منهما كائن غير موجود وفي
الحال ثم جهالة المكفول عنه تمنع صحة الكفالة
بهذه الصفة بأن يقول ما بايعت به أحدا من
الناس فكذلك جهالة المكفول به تمنع صحته
بالأولى لأن الملتزم بالعقد هو المكفول به.
وحجتنا قوله تعالى:
{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[سورة
يوسف, آية:72] فهذا المنادي أضاف الالتزام
بالكفالة إلى سبب وجوب المال وهو المجيء بصواع
الملك وإنما نادى بأمر يوسف عليه السلام وما
أخبر به الله تعالى عن شريعة من قبلنا فهو
ثابت في شريعتنا حتى يقوم دليل النسخ غير أن
الشافعي رحمه الله يقول هنا بيان العمالة لمن
يأتي به وعندي من أبق عبده فخاطب جماعة وقال
من جاء به منكم فله عشرة كان هذا صحيحا ولكنا
نقول استدلالنا بزعامة المنادى بقوله
{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ
بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[سورة
يوسف,آية:72] ولا حاجة هنا إلى معرفة طريق
وجوب ذلك المال فإن العمالة تجب على من وقع له
العمل فأما الوجوب على الكفيل فبسبب الكفالة
إلا أنه يقول لم يكن هذا كفالة
ج / 20 ص -4-
على
الحقيقة فإن المكفول له مجهول وجهالة المكفول
له تمنع صحة الكفالة والكلام فيه من حيث
المعنى إذ التزام المال بالكفالة نظير التزام
المال بالإقرار من حيث إنه التزام لا يقابله
إلزام على من يلتزم له وجهالة المقر به لا
تمنع صحة الإقرار فكذلك فيما التزمه بالكفالة
وجواز الكفالة في الأصل لحاجة الناس والحاجة
ماسة إلى إضافة الكفالة إلى سبب وجوب المال
ولهذا جوز العلماء رحمهم الله الكفالة بالدرك
وهو مضاف إلى سبب الوجوب بالاستحقاق فبه يتبين
أن مثل هذه الجهالة لكونها لا تفضي إلى
المنازعة لا تمنع صحة الكفالة ولا يجوز أن
تمنع صحتها لمعنى الخطر فإنه موجود في كل
كفالة إذ لا يدري أن الطالب يطالب الكفيل أو
الأصيل فأما الفرق بين الموتين فهو أن موت
المطلوب يجوز أن يكون سببا لتوجه المطالبة
بالمال عليه بأن يكون وارثه فلهذا تصح إضافة
الكفالة إليه.
وكذلك التعليق بكلام زيد ودخول الدار فإنه ليس
بسبب لوجوب المال بحال فتمحض ذلك تعليقا
بالشرط ولا يكون التزاما فأما ها هنا فإنه
أضاف الالتزام إلى ما هو سبب لوجوب المال وهو
المبايعة والذوب فيكون التزاما صحيحا فإن وافى
به ودفعه إليه فهو بريء من ذلك لوجود الموافاة
به كما التزمه وإن لم يفعل فللطالب أن يأخذه
بالكفالة ويخاصمه في دعواه قبل المكفول به
والكفيل ضامن له لتحقق الذوب بقضاء القاضي وقد
كان ملتزما لما يذوب له عليه والذوب عبارة عن
تحقق الوجوب.
وإن قال إن لم أوافك به غدا فأنا وكيل في
خصومته ضامن لما ذاب عليه فرضي بذلك المطلوب
فهو جائز وإنما شرط رضاه في الوكالة بالخصومة
دون الكفالة بالنفس والمال لأن الوكيل
بالخصومة نائب عنه وربما يتضرر هو به فلا
ينفرد به الوكيل بدون رضا الموكل فأما الكفالة
فالتزام للطالب ولا يتضرر به المكفول عنه فلا
يعتبر رضاه بذلك وكذلك لو قال متى دعوتني به
فلم أوافك به فأنا وكيل في خصومته ضامن ما ذاب
لك عليه لأن كلمة متى للوقت فمعناه إن لم
أوافك به في الوقت الذي تطلب مني وهذا الوقت
وإن كان مجهولا ولكن لا تمكن بسبب جهالته
منازعة.
ولو كفل به على أنه إن لم يواف به غدا ففلان
يعني رجلا آخر وكيل في خصومته فما قضى به عليه
فأنا ضامن له فرضي بذلك المطلوب فهو جائز إذ
لا فرق أن يكون الوكيل والضامن للمال هو
الكفيل بالنفس وبين أن يكون غيره إذا وجد منه
القبول لذلك وقد بينا أنه لو كانت إضافته لذلك
كله إلى نفسه كان صحيحا فكذلك إذا أضاف كل عقد
من هذا إلى شخص معلوم وقبلوا ذلك ورضي به
المطلوب كان صحيحا.
ولو قدم الوكالة فقال هو وكيلي في خصومة ما
بيني وبينك ضامن لما ذاب لك علي أو لما قضى لك
به علي أو لما لزمني لك أو بما لحقني فإن
وافاني به غدا حتى أدفعه إليك فهو بريء من ذلك
فهذا جائز لأنه وإن أخر التزام المال بالكفالة
كان محمولا على معنى التقديم فإذا قدمه فأولى
أن يصح وهذه كلها وثائق لحق واحد فلا فرق في
صحتها بين تقديم
ج / 20 ص -5-
التعيين وتأخير التعيين لأن المقصود لا يختلف
بذلك ولو كفل بنفسه إلى أجل فإن لم يواف به
فيه فهو وكيل في الخصومة التي بينهما ضامن لما
ذاب عليه ولم يشهد المطلوب على ذلك فالكفالة
بالنفس والمال جائزة والوكالة والكفالة باطلة
لأنه أنابه ولا يقدر الإنسان على أن يجعل نفسه
نائبا عن غيره في خصومته من غير رضاه فإذا لم
يرض المطلوب بوكالته بطلت الوكالة ولا تبطل
ببطلانها الكفالة بالمال والنفس لأن جوازهما
لا يتعلق بصحة الوكالة فإنهما صحيحان وإن لم
يذكر الوكالة أصلا.
ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فهو
وكيل في خصومته فرضي به المطلوب فلم يواف به
الغد فهو وكيل بالخصومة لأن الوكالة إطلاق
تحتمل التعليق بخطر عدم الموافاة فإن قضى عليه
بشيء لم يلزم الكفيل منه شيء لأنه ما التزم
شيئا من المال وبالكفالة بالنفس لا يصير
ملتزما للمال ولكن الطالب يأخذ الكفيل
بالكفالة بالنفس حتى يدفعه إليه لأنه التزم
تسليم النفس إليه فلا يبرأ بثبوت المال عليه
ما لم يسلمه فإن ثبوت المال عليه لا يغنيه عن
نفسه بل يحوجه إلى ذلك ليستوفي حقه منه فكان
الكفيل مطالبا به فإن قضى الكفيل الطالب حقه
كان متبرعا بذلك كسائر الأجانب لأنه غير ملتزم
للمال وبأدائه لا يستفيد البراءة من الكفالة
بالنفس لجواز أن يكون بين الطالب والمطلوب
خصومة أخرى فلهذا كان متبرعا في أداء المال إن
شاء الطالب قبل ذلك منه وإن شاء أبى وطالبه
بتسليم النفس إليه كما التزمه
وإن كان كفيلا بالمال أجبرت الطالب على قبضه
منه على معنى أنه إذا وضع المال بين يديه يصير
الطالب قابضا له لأنه يبرئ ذمته بالأداء ولمن
عليه الحق ذلك والأول متبرع لا تبرأ ذمته عن
شيء بما يؤديه
ولو قضاه الكفيل المال على أن يبرئه من
الكفالة بالنفس كان جائزا لأنه متبرع في قضاء
المال وقد قبله الطالب ثم أبرأه الطالب عن
الكفالة بالنفس وذلك حقه.
وكذلك لو قضاه بعضه على أن يبرئه عن الكفالة
بالنفس وهذا لأن الطالب ليس يملك ما يقبضه منه
بإزاء الإبراء عن الكفالة بالنفس إنما يملك
ذلك بدلا عن أصل حقه على المطلوب كما يملكه من
جهة متبرع آخر ثم هو مسقط لحقه في الكفالة
بالنفس من غير عوض فيكون صحيحا فأما إذا أبرأه
عن الكفالة بالنفس بمال يشترطه عليه بمقابلة
البراءة فلا يجب ذلك المال ولو أداه كان له أن
يرجع فيه لأن الكفالة بالنفس ليست بمال ولا
تؤول إلى المال بحال وهو مجرد حتى لا يوصف
بأنه ملكه والاعتياض عن مثله بالمال لا يصح
بخلاف العتاق بجعل والطلاق بجعل فإنه اعتياض
عن ملك.
ألا ترى أن ملك النكاح لا يثبت إلا بالمال
فيجوز الاعتياض عن إزالته بالمال أيضا بخلاف
حق الكفالة بالنفس فإنه لا يثبت ابتداء بمال
قط حتى لو أخذ منه مالا ليكفل به بنفس فلأن لا
يصح فكذلك لا يصح التزام المال عوضا عن
الإبراء بالكفالة بالنفس وفي حصول البراءة
روايتان في كتاب الشفعة يشير إلى أنه يبرأ
وجعل هذا كحق الشفعة إذا سلمه بمال يصح
التسليم ولا يجب المال والمعنى أنه إسقاط محض
واشتراط العوض بمقابلته فاسد ولكن
ج / 20 ص -6-
الإسقاط لا يبطل بالشرط الفاسد لأنه لا يتعلق
بالجائز من الشروط فلا يكون الشرط الفاسد
مبطلا له وفي موضع آخر يقول لا يبرأ عن
الكفالة بالنفس بخلاف الشفعة لأن الكفالة
بالنفس حق قوي لا يسقط بعد ثبوته إلا بإسقاط
تام ولا يسقط إلا بعد تمام الرضا به ولهذا لا
يسقط بالسكوت وإنما يتم رضاه بسقوطه إذا وجب
له المال فإذا لم يجب لا يكون راضيا به فأما
سقوط الشفعة فليس يعتمد الإسقاط وتمام الرضا
به.
ألا ترى أن بالسكوت عن الطلب بعد العلم به
يسقط وحجته أن الوجوب لم يكن لعقده وإنما كان
شرعا لدفع ضرر مخصوص عنه وهو ضرر سوء المجاورة
وقد صار راضيا بهذا الضرر وإن سلمه بمال فأما
وجوب تسليم النفس بالكفالة فكان بقبوله العقد
فلا بد من إسقاط يكون منه وهو إذا أسقطه بمال
فإنما يحول حقه إلى المال فلا يسقط أصلا وهذا
التحويل لم يصح فبقيت الكفالة بالنفس على
حالها ولو قضاه المال على أن يرجع به على
المطلوب وقبضه منه على ذلك فهذا لا يجوز لأن
هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض
والمبادلة بالدين من غير من عليه الدين لا تصح
بخلاف الأول لأنه إسقاط المال عن المطلوب وليس
بتمليك من المتبرع لقضائه بعوض وهنا نص على
التمليك منه حتى شرط له الرجوع على المطلوب
وهذا بخلاف الكفيل بالمال أيضا فإنه متبرع
ملتزم للمال لأن بعقد الكفالة يجب المال في
ذمته على أحد الطريقين وعلى الطريق الآخر عند
قضاء الدين ليرجع به ولهذا لو وهب هناك المال
من الكفيل لرجع به على الأصيل ولو وهب المال
هنا من الكفيل بالنفس لا يصح إلا أن يسلطه على
قبضه فحينئذ يكون نائبا عنه في قبضه استحسانا.
قال فإن أبرأه عن الكفالة على هذا كان للكفيل
أن يرجع بما قضاه عليه لأنه قبضه منه بحكم
تمليك فاسد ويرجع الطالب عليه بالكفالة بالنفس
في أصح الروايتين ولو كفل نفسه إلى أجل مسمى
فإن لم يواف به فهو ضامن لما ذاب عليه وكيل في
خصومته فليس للطالب أن يأخذه بالكفالة بالنفس
قبل الأجل ولا أن يخاصمه قبل الأجل لأن اشتراط
المدة لتوسعة الأمر على نفسه فلا يتضيق الأمر
عليه إلا بمضي المدة كاشتراط المطلوب الأجل
لنفسه في الدين والوكالة في الخصومة وضمان
المال عليه بناء على عدم موافاة مستحقة وذلك
لا يكون إلا بعد الأجل فلهذا لا يطالبه بشيء
من ذلك قبل مضي الأجل وعلى هذا الكفالة بالنفس
بغير وكالة فإن المعنى يجمع الكل.
ولو كفل بنفس رجل وجعل المكفول به وكيلا في
خصومته ضامنا لما ذاب عليه ثم مات الكفيل وله
مال فلا خصومة بين الطالب وورثته ولكنه يخاصم
المكفول به لأن الوكالة تبطل بالموت فإن
الموكل إنما رضي برأيه في الخصومة فلا يقوم
رأي وارثه في ذلك مقام رأيه والكفالة بالمال
باقية بعد موته ولكن ما لم يتحقق الذوب على
المطلوب لا يكون هو ضامنا للمال والذوب إنما
يتحقق عند خصومة الطالب وإثبات حقه عليه
بالحجة فلهذا خاصم المكفول به وما قضى له به
عليه ضرب به مع غرماء الكفيل في ماله لأن
الذوب قد
ج / 20 ص -7-
تحقق
فالوجوب بالكفالة يستند إلى أصل السبب لأن
اللزوم تعلق به نفسه وقد كان أصل السبب في
صحته فلهذا المعنى الواجب من جملة دين الصحة
يضرب به مع غرماء الصحة.
وكذلك لو مات المكفول به أيضا فخاصم الطالب
ورثته أو وصيه فقضي له بالمال كان له أن يتبع
ميراث أيهما شاء لأن الذوب قد تحقق فيضرب في
ميراثه بجميع ماله وفي ميراث الآخر بما يبقى
له لأنه وصل إليه بعض حقه حين ضرب مع غرماء
الأول فلا يضرب مع غرماء الآخر إلا بما بقي له
والله أعلم
فإن لم يكن على واحد منهما سوى هذا الدين
فالجواب واضح وإن كان على كل واحد منهما دين
آخر يضرب مع غرماء أيهما شاء أولا بجميع دينه
وفي الكتاب أبهم فقال إن بدأ فضرب مع غرماء
الكفيل رجع على ورثة الكفيل بما أدوا في مال
المكفول عنه فضربوا به مع غرمائه لأن كفالته
عنه كانت بأمره وما يستوفي من تركته بعد وفاته
بمنزلة ما يؤديه في حياته ويرجع به ورثته في
تركة المكفول عنه
وإن بدأ فضرب مع غرماء المكفول عنه لم يرجع
ورثة المكفول عنه في تركة الكفيل بشيء لأن أصل
الحق كان على مورثهم وكان الطالب يرجع بما بقي
من حقه فيضرب به مع غرماء الكفيل في تركة
الكفيل لأنه لا يبرأ الكفيل إلا من القدر الذي
وصل إلى الطالب من تركة المكفول عنه فقطع
الجواب في الكتاب على هذا وهو مبهم في أصل
الوضع قاصر في البيان فحينئذ لا يتم بيان
المسألة بما ذكر.
وليس في الكتاب مسألة أشكل من هذه المسألة من
الحسابيات وغيرها فالوجه أن نصور المسألة
ليتبين موضع الإشكال فنقول دين الطالب عشرة
دراهم وقد ترك الكفيل عشرة وعليه دين لرجل آخر
عشرة وترك المكفول منه أيضا عشرة وعليه لرجل
آخر دين عشرة فالطالب بالخيار كما بينا فإن
بدأ بتركة الكفيل ضرب بالعشرة في تركته وغريم
الكفيل بالعشرة فكانت تركته بينهما نصفين فوصل
إلى الطالب خمسة يأتي في تركة المكفول عنه
فيضرب مع غريمه بما بقي من دينه وذلك خمسة
ويضرب ورثة الكفيل أيضا بما أدوا إلى الطالب
وذلك خمسة فيسلم الغريم المطلوب خمسة وللطالب
درهمان ونصف ولورثة الكفيل درهمان ونصف لا
يسلم هذا لورثة الكفيل لأنه تركة الكفيل وقد
بقي من دين غريمه خمسة ومن دين الطالب درهمان
ونصف فيقسمان هذا الذي ظهر من تركته على مقدار
حقهما أثلاثا فالثلث الذي يستوفيه الطالب رجع
به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه فيتبين به
بطلان القسمة الأولى وإن استأنفوا القسمة على
هذا الذي ظهر أيضا يرجع به الطالب فيما
يستوفون ويرجعون بما يعطون إليه في تركة
المكفول عنه فتنقض القسمة أيضا ولا يزال يدور
هكذا إلى ما لا يتناهى.
وإذا بدأ بالرجوع في تركة المكفول عنه فضرب مع
غريمه بالعشرة واقتسما تركته نصفين فإنه يضرب
بما بقي من دينه وذلك خمسة في تركة الكفيل مع
غريم الكفيل فيقتسمان العشرة أثلاثا فيتبين أن
ورثة الكفيل أدوا إلى الطالب ثلاثة وثلثا
ويرجعون به في تركة المكفول عنه,
ج / 20 ص -8-
وتبين
بطلان القسمة الأولى وكذلك إن استأنفوا القسمة
ثانيا وثالثا فكما وصل إليهم شيء يأخذ الطالب
من ذلك قدر حصته ويرجع به ورثة الكفيل في تركة
المكفول عنه إلى ما لا يتناهى فهذا بيان مواضع
إشكال المسألة.
وكان أبو بكر القمي رحمه الله من متقدمي
علمائنا رحمهم الله من الحساب يقول هذه
المسألة من باب مفتريات الجبر ومحمد بن الحسن
رحمه الله كان يعرف مفردات الجبر وما كان يعرف
مفتريات الجبر أصلا فلهذا ترك بيان هذه
المسألة ومعنى كلامه أن هذه الحاجة تقع إلى
معرفة القدر الذي يرجع به ورثة الكفيل في تركة
المكفول عنه ليضم ذلك إلى ما يضرب به الطالب
في تركة المكفول عنه غريمه والعلم بمفردات
الجبر لا يهدي إلى ذلك فأما أبو الحسن
الأهوازي من حساب أصحابنا رحمهم الله فكان
يقول إنما تعذر تخريج هذه المسألة لما وقع
فيها من جذر الأصم وكانت عائشة رضي الله عنها
تقول سبحان من لا يعلم الجذر الأصم إلا هو
وقيل الجذر الأصم مغلق ضل مفتاحه فلا يعرفه
أحد من العباد بطريق التحقيق وبرهن بمقالته
بمسئلة مجتذرة من هذا الجنس وحققها وخرجها
وسئل القاضي أبو عاصم الجنوبي في زمانه وكان
مقدما في الحساب أن يخرج هذه المسألة فتكلف
لذلك مدة وخرجها بالتقريب دون التحقيق.
والحاصل أن من تكلف لذلك من أصحابنا رحمهم
الله تعذر عليه تخريج المسألة بالتحقيق أصلا
وكل ما ذكروه عندي في تصنيف ولكن لم يكن معي
شيء من كتبي ولم يجد به خاطري الآن فإن تيسر
وصولي إلى كتبي أو جاد به خاطري أي وقت أتيت
منه بقدر الممكن إن شاء الله تعالى ثم نعيد
المسألة في آخر الكتاب بعينها ومن أراد من
أصحابنا رحمهم الله التخلص من هذه الخصومة
يقول الطالب إذا اختار الرجوع على أحدهما ثم
ضرب ببقية دينه في تركة الآخر فما سلم لورثة
الكفيل لا يرجع فيه الطالب بشيء لأنه بدل ما
وصل إلى الطالب ولا يجتمع البدل والمبدل في
ملك رجل واحد ولكن يكون ذلك سالما لغريم
الكفيل غير أن هذا من حيث المعنى بعيد فإن ما
يأخذون مال الكفيل فكيف يسلم ذلك لأحد غريميه
دون الآخر.
ولو كفل بنفس رجل إلى آخر الشهر فإن لم يواف
به فهو وكيل في خصومة ما بينهما ولم يبين أي
خصومة هي والكفالة بالنفس جائزة ولا يكون
وكيلا في الخصومة لأنه إذا لم يبين أنه في أي
خصومة وكيله فالوكيل عاجز عن تحصيل مقصود
الموكل لأن ما وكله به مجهول جهالة متفاحشة
ولم يفوض الأمر إلى رأيه على العموم ولكن فساد
الوكالة بالخصومة لا يوجب فساد الكفالة بالنفس
لأن أحد الحكمين منفصل عن الآخر فالمفسد في
أحدهما لا يتعدى إلى الآخر وكفالة الصبي
التاجر بإذن أبيه أو بغير إذنه بنفس أو مال
باطلة لأنه تبرع ولا يملكه الصبي بغير إذن
أبيه ولا بإذنه كالهبة وهذا لأن عقل الصبي
إنما يعتبر شرعا فيما ينفعه والتبرع ليس من
جنس ما ينفعه عاجلا وإذن الأب له لا يصح فيما
لا يملك الأب مباشرته
ج / 20 ص -9-
كالطلاق ونحوه ولأن الكفالة إقراض للذمة
بالتزام الحق فيها فكان كإقراض المال فلا
يملكه الصغير بإذن أبيه ولا بغير إذنه
والمعتوه والمبرسم الذي يهذي في ذلك كالصبي.
وكذلك رجل عليه مال أدخل ابنا له غير بالغ معه
في الكفالة أو بنفسه فهو باطل لأنه لما كان لا
يملك الكفالة عن الغير بإذن الأب فلأن لا يملك
عن الأب كان ذلك بطريق الأولى لأنه في حق نفسه
متهم بما لا يتهم به في حق غيره ولو أقر بعد
بلوغه أنه كفل بنفس أو مال وهو صبي كان باطلا
لأن الثابت بالإقرار بعد البلوغ كالثابت
معاينة ولو عايناه كفل في صباه لم ينفذ ذلك
بعد بلوغه ولأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة
تنافي تلك الحال الكفالة فكان منكرا للكفالة
في الحقيقة لا مقرا بها ولهذا لو ادعى الطالب
أنه كفل به بعد بلوغه فالقول قول الصبي مع
يمينه.
ولو أقر أنه كفل به وهو مغمى عليه فإن عرف ذلك
منه فالقول قوله في ذلك لإضافته الكفالة إلى
معهود ينافي كفالته وإن لم يعرف ذلك منه فهو
مأخوذ به لإقراره بالالتزام ولو استدان وصي
اليتيم دينا في نفقة اليتيم وأمر اليتيم فضمنه
أو ضمنه بنفسه فضمان الدين جائز وضمان النفس
باطل لأن حاصل الدين على الصبي ألا ترى أن
الوصي يؤديه من ماله ولو أداه من مال نفسه رجع
به عليه فهو بهذا الضمان يلتزم ما عليه بخلاف
الكفالة بالنفس فإنه يلتزم بها ما ليس عليه
توضيحه أنه لو أمر الصبي بأن يستدين ففعله جاز
وكان مطالبا بالمال فكذلك إذا استدان بنفسه
وأمره حتى ضمن المال ولا يملك مثله في الكفالة
بالنفس بأمره وكذلك الأب إذا استدان على الابن
دينا في بعض ما لا بد منه وأمره بالكفالة جاز
لأن تصرف الأب عليه أنفذ من تصرف الوصي وإن
أمره أن يكفل بنفسه لم يجز والتاجر وغير
التاجر في ذلك سواء لأن الكفالة ليست من عقود
التجارة ولا تجوز الكفالة لصبي لا يعقل ولا
لمجنون ولا لمغمى عليه.
وفي رواية حماد رحمه الله أن الكفالة لهؤلاء
جائزة في قول أبي يوسف رحمه الله وأصل هذا في
الكفالة للغائب وقد بينا أن عند أبي يوسف رحمه
الله الكفيل ينفرد بالكفالة فيجوز العقد وإن
لم يقبله أحد ولا يجوز عند أبي حنيفة رحمه
الله ما لم يقبل قابل وقبول الصبي الذي لا
يعقل والمجنون باطل وتجوز الكفالة للصبي
التاجر لأنه من أهل القبول وهذا تبرع عليه لا
منه أو بمنزلة الإقراض له وذلك صحيح إذا قبله
ولو كفل رجل بنفس رجل على أنه يوافي به إلى
أجل مسمى فإن لم يواف به إلى ذلك الأجل فهو
ضامن لما ذاب عليه فلو مضى الأجل قبل أن
يوافيه به فهو ضامن لما ذاب عليه لوجود شرطه
ولكن الذوب إنما يتحقق بقضاء القاضي فإنما
يلزم الكفيل المال إذا قضى به على المكفول عنه
لأنه ضمن مالا بصفة وليس الكفيل بخصم عنه في
إقامة البينة عليه بالمال لأن المال ما لم يصر
مقضيا به على الأصيل لا يلزم الكفيل منه شيء
وما لم يصر كفيلا به لا يكون خصما فيه وإن مات
الطالب أو المطلوب قام وارثه أو وصيه في ذلك
مقامه وكذلك لو كفل بنفسه على أنه ضامن لما
ج / 20 ص -10-
قضى
عليه أو لما قضى عليه قاضي أهل الكوفة فقضى
بذلك غير قاضي أهل الكوفة فهو لازم للكفيل
لأنه إنما يراعي من الشروط ما يكون مفيدا
والتقييد بصفة أن يكون المال مقضيا به على
الأصيل مفيد فأما التقييد بكون القاضي به قاضي
أهل الكوفة فغير مفيد لأن المقصود القضاء لا
عين القاضي وفي القضاء قاضي الكوفة وغير قاضي
الكوفة سواء.
ولو كفل بنفس رجل على أنه ضامن لما قضى به على
المكفول به وهو ميت والمكفول وارثه فهو جائز
مستقيم لأن المكفول به بعد موت أبيه مطالب
بقضاء دينه من تركة أبيه فهو في الحكم كالذي
عليه وكذلك وصي الميت يكفل نفس رجل على أنه
ضامن لما قضى به على الميت فهو جائز لأنه
مطلوب بذلك الدين يقضيه من تركة الميت وكذلك
الوصي يأخذ من غريم الميت كفيلا بنفسه ضامنا
لما قضى به عليه لأنه في ذلك قائم مقام الموصي
وكذلك الأب يأخذ من غريم ولده الصغير لأنه
قائم في ذلك مقام ولده إن لو كان بالغا.
ولو أن رجلا أخذ غريما بمال لأخيه أو لبعض
أهله من غير وكالة من صاحب المال وأخذ كفيلا
منه بنفسه ضامنا لما ذاب عليه فرضي بذلك مدعي
المال كان جائزا لأن قبول هذا كان موقوفا على
إجازة الطالب فإذا أجازه جاز ولو فسخ الكفيل
الكفالة قبل أن يرضى صاحب المال فهو منها بريء
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن
الكفالة عندهما لا تلزم الكفيل إلا برضا
الطالب وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه
الله وقد بيناه.
ولو وكل رجلا بأن يأخذ له كفيلا عن غريمه
بنفسه ضامنا لما قضى به عليه كان جائزا لأن
التوكيل صحيح بما يملك الموكل مباشرته بنفسه
فإن كفل الكفيل للوكيل فدفعه إليه بريء من
الكفالة بنفسه وليس للموكل أن يطالبه بشيء
لأنه أتى بما التزمه وهو التسليم إلى الوكيل
لأن الوكيل بإضافة العقد إلى نفسه جعل نفسه
مباشرا العقد وإليه الاستيفاء والمطالبة وإن
كفل به للموكل لم يبرأ بدفعه إلى الوكيل لأنه
جعل نفسه رسولا ولأن الكفيل التزم التسليم إلى
الموكل فلا يبرأ بالتسليم إلى غيره وإن دفعه
إلى الموكل بريء في الوجهين لأن في الفصل
الأول الوكيل وإن كان هو المباشر للعقد فإنما
يطالب بموجبها لمنفعة الموكل فإذا حصل المقصود
بالتسليم إلى الموكل بريء الكفيل.
ولو وكل رجل رجلا بأن يعطي فلانا كفيلا بنفس
الموكل ضامنا لما ذاب على الموكل فأعطى الوكيل
كفيلا بذلك فقضى على الموكل بمال للطالب فإنه
يأخذ الكفيل بحكم ضمانه وليس للكفيل أن يأخذ
الوكيل بذلك لأنه كان رسولا من الموكل إليه
فلا عهدة عليه إلا أن يكون ضمن له شيئا فحينئذ
يؤاخذ بضمانه ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن
يضمن رجلا بنفسه وأن يضمن ما ذاب عليه لم يكن
على الآمر شيء ولا على المكفول به لأن الآمر
أشار عليه بالكفالة من غيره ولم يلتزم له شيئا
ولا عهدة على المشير والمكفول عنه لأنه لم
يأمره بالكفالة عنه فلا يرجع عليه أيضا وفي
الباب الأول يرجع على المكفول به بما
ج / 20 ص -11-
أدى من
المال لأن أمره وكيله بالكفالة عنه ككفالته
بنفسه والكفيل بالأمر إذا طولب طالب ولو لوزم
لازم وإذا حبس حبس وإذا أدى رجع ونعني بقولنا
يطالبه أن يقول اقض حق المطلوب لا تخلص من هذه
العهدة ولا يطالبه بأن يدفع إليه شيئا لأنه ما
لم يؤد عنه لا يثبت له حق الرجوع فإنه بمنزلة
المقرض وبالقرض لا يطالبه بأداء المال وإنما
يطالبه بأداء المال بعد إقراض المال منه وذلك
إنما يكون عند أدائه فلهذا لا يرجع عليه
بالمال ما لم يؤد عنه والله أعلم.
باب الكفالة عن الصبيان والمماليك
قال رحمه الله: وإذا
ادعى رجل قبل صبي دعوى وكفل به رجل بغير إذن
أبيه فالكفالة لازمة للكفيل يؤاخذ بهذا لأن
تسليم النفس للجواب مستحق على الصبي حتى يحضر
إن كان مأذونا أو يحضر وليه إن لم يكن مأذونا
ليقوم وليه في ذلك مقامه فلما التزم الكفيل
تسليم ما هو مستحق للتسليم عليه وهو مما تجري
فيه النيابة صح التزامه فإن طلب الكفيل أن
يحضر معه الصبي ليسلمه إلى خصمه لم يؤاخذ
الصبي به وإن كان الصبي طلب ذلك إليه لأن قول
الصبي ليس بملزم إياه شيئا إلا أن يكون تاجرا
مأذونا له فحينئذ قوله ملزم فيؤمر بالحضور معه
لأنه أدخله في هذه العهدة فعليه أن يخلصه
بالحضور معه ليسلمه إلى خصمه وكذلك إن كان غير
تاجر فادعى عليه مالا فطلب أبوه إلى رجل أن
يضمنه فضمنه كان جائزا ويؤخذ به الكفيل
وللكفيل أن يأخذ الغلام به لأن الأب قوله ملزم
على ولده فيما ينفعه وهذا من جملة ما ينفع
الصبي فكان قول الأب فيه ملزما إياه فلهذا
يؤمر بالحضور معه فإن تغيب فله أن يأخذ الأب
حتى يحضره فيدفعه إليه أو يخلصه من ذلك لأن
أمر الأب في هذا لما جاز على الولد صار الولد
مطلوبا به وكل حق كان الولد مطلوبا به فأبوه
مأمور بإيفائه ذلك الحق من ملك الولد كما إذا
ثبت عليه دين بالبينة فلهذا يؤمر الأب بإحضار
الصبي والوصي في هذا بمنزلة الأب لأن فيه
منفعة للصبي ولو أمره بأن يكفل بنفس غلام ليس
هو وصيه أخذ الكفيل بتسليمه لأنه قد التزمه
ولا يؤمر الصبي بالحضور معه لأنه ليس للآمر
عليه قول ملزم وليس للكفيل أن يأخذ الآمر بشيء
لأنه أشار عليه بالكفالة ولم يلتزم له بشيء
والمعتوه في ذلك بمنزلة الصبي لأن ولاية الوصي
على المعتوه تثبت كما تثبت على الصبي.
ولو كفل بنفس صبي على أن يوافي به غدا فإن لم
يواف به غدا فعليه ما ذاب عليه فالكفالة
بالنفس جائزة وكذلك بالمال إن لم يواف به غدا
لوجود شرطه ثم الذوب على الصبي إنما يتحقق
بقضاء القاضي بالمال على أبيه أو وصيه أو قيم
نصبه القاضي له فإذا وجد ذلك لزم الكفيل ولم
يرجع به على الصبي إلا أن يكون أمره بالضمان
أو الوصي لأنه بمنزلة الإقراض والإقراض من
الصبي المحجور لا يلزمه به شيء إلا أن يكون
بأمر وليه فحينئذ يكون المال لازما عليه وأمر
وليه بذلك كأمره بعد بلوغه وكفالة العبد
التاجر أو غير التاجر عن سيده بمال أو بنفسه
بغير إذنه باطلة لأن الكفالة تبرع وهو منفك
الحجر عنه في التجارات
ج / 20 ص -12-
دون
التبرعات فلا تصح منه الكفالة بالنفس والمال
عن المولى بغير إذنه كما لا يصح عن سائر
الأجانب وإنما يعني بهذا أنه لا يطلب به في
حال رقه فأما بعد العتق فهو مأخوذ بذلك لأنه
مخاطب من أهل الالتزام في حق نفسه وإن كفل
بنفسه بإذنه فهو جائز لأن المانع من صحة
التزامه في الحال حق مولاه دون حق غيره من
غرمائه فإن الكفالة بالنفس لا تلاقي حق محل
الغرماء فلهذا نفذ منه بإذن المولى سواء كفل
عن المولى أو عن الأجنبي وهذا لأن أكثر ما يجب
بهذه الكفالة حبسه إن لم يحضر نفس المطلوب
وذلك يوقع الحيلولة بين المولى وبين خدمته
فلهذا جاز بإذن المولى.
وإن كفل عنه بالمال بإذنه وليس عليه دين فهو
جائز لأن الحق في ماليته لمولاه وهو يملك أن
يجعله مشغولا بالدين بأن يرهنه أو يقر بالدين
وكذلك إذا أذن له حتى كفل عنه فإن أداه بعد
العتق لم يرجع على سيده وعن زفر رحمه الله أنه
يرجع عليه لأنه قضى دينه من خالص ملكه بأمره
فيرجع عليه كما لو أمره بالأداء بعد العتق
ولكنا نقول إن الكفالة حين وقعت لم تكن موجبة
له شيئا على المولى فإن العبد لا يستوجب دينا
على مولاه فلهذا لا يرجع عليه إذا أداه بعد
العتق وهذا لما بينا أن الكفالة توجب للطالب
على الكفيل حقا وللكفيل على الأصيل إلا أن ما
يجب للكفيل على الأصيل مؤجل إلى وقت أدائه
ولهذا لو أبرأ الكفيل الأصيل قبل أدائه عنه
كان صحيحا ولا يرجع إذا أدى بعد ذلك فتبين
بهذا أن المعتبر وقت الكفالة وعند ذلك لم يكن
العبد ممن يستوجب شيئا على مولاه وإن كان عليه
دين يستغرق قيمته لم يلزمه الكفالة في حال رقه
لأن المولى في ماليته كأجنبي آخر.
ألا ترى أنه لا يملك شغله بالدين بالإقرار
عليه ولا بالرهن فكذلك بإذنه بالكفالة عنه
ولكن الالتزام منه صحيح في حق نفسه حتى إذا
عتق كان مطالبا به وإن مات السيد وترك مالا
وأعتق العبد عند موته فإن غرماء العبد
يستسعونه في قيمته ولا شيء لغرماء السيد من
هذه القيمة لأن هذه القيمة بدل مالية العبد
وغرماء العبد حقهم أسبق تعلقا بماليته من حق
غرماء السيد ألا ترى أنه لو لم يعتقه حتى مات
لكان يباع العبد ويصرف ثمنه إلى غرمائه دون
غرماء السيد فكذلك حكم هذه السعاية ولكن غرماء
السيد يبيعون مال السيد وإن شاء غرماء العبد
تبعوا مال السيد بقيمة العبد أيضا لأنه صار
مستهلكا محل حقهم بعتق العبد فوجب لهم قيمة
العبد دينا في تركته بعد موته ثم إن عند أبي
حنيفة رحمه الله لا تنفذ الكفالة ما لم يفرغ
من السعاية لأن المستسعي في بعض قيمته عنده
كالمكاتب وكفالة المكاتب لم تصح وعندهما متى
عتق نفذت الكفالة لأنه عندهما حر عليه دين
والمكفول له إن شاء اتبع مال السيد لأن أصل
دينه عليه وإن شاء اتبع العبد لصحة كفالته بعد
عتقه غير أنه لا يشارك غرماءه في تلك القيمة
لأنها بدل ماليته ولم يثبت له مزاحمة مع غرماء
العبد في ماليته فكذلك في بدل المالية فإن كان
مكان العبد أم ولد فعتقت فإن صاحب الكفالة
يستسعيها مع غرمائها بماليتها إذ لا مالية
فيها ولكن الديون تتقرر في ذمتها بعد العتق
فتؤمر بقضاء ذلك كله والمكفول له
ج / 20 ص -13-
أخذها
والمدبرة بمنزلة العبد في ذلك لقيام المالية
فيها ولا يرجع واحد منهم على السيد بشيء مما
يؤدي عنه من الكفالة لأنهم كانوا مملوكين له
عند الكفالة والمملوك لا يستوجب الدين على
مالكه فإن في المدبرة ينبغي أن يثبت لغرمائها
حق الرجوع في تركة المولى بقيمتها بخلاف العبد
لأن المولى بإعتاق المدبرة لم يصر مستهلكا من
حق الغرماء شيئا إذ لم يكن لهم حق بيع الرقبة
في الدين وإنما كان حقهم في الكسب وذلك حاصل
لهم.
قلنا هو كذلك ومراد محمد رحمه الله من هذا
اللفظ المساواة في إيجاب السعاية في القيمة
على المدبرة والعبد دون الولد على أن المالية
كانت قائمة في المدبرة حتى لو غصبها غاصب ضمن
قيمة ماليتها وكان ذلك لغرمائها فلهذا يجب
عليها السعاية في قيمتها لغرمائها كالعبد
وكذلك إذا كان المال على السيد من كفالة فأدى
عنه العبد كأدائه بنفسه فيستوجب الرجوع به على
الأصيل وذكر عن شريح رحمه الله أنه قال لا
كفالة للعبد ومعناه أنه ليس له حق ولاية
الكفالة بالنفس والمال لأنه تبرع بالتزام وهو
محجور عنه لحق مولاه وكفالة المدبر والعبد وأم
الولد من غير السيد بنفس أو مال بغير إذنه
باطلة حتى يعتقوا فإذا عتقوا لزمهم لأن المانع
حق مولاه وإذا أذن له سيده فيها جازت إن لم
يكن عليه دين ويباع العبد في الكفالة بالدين
وإن كان عليه دين بدئ بدينه قبل دين الكفالة
وأما أم الولد والمدبر فإنهما يستسعيان في
الدين لأن رقبتهما ليست بمحل للبيع فكان
عليهما قضاء الدين من كسبهما وهو السعاية
فيبدأ بدينهما من سعايتهما ثم بدين الكفالة
إذا كان بإذن المولى وإذا كفل العبد بإذن سيده
بنفس رجل ثم أعتقه سيده لم يضمن شيئا وأوخذ
العبد بالكفالة لأنه بالإعتاق لم يضع على
المكفول له شيء فإن حقه في مطالبة العبد
بتسليم نفس المكفول به.
ذلك بعد العتق وقبله سواء وإنما أبطل المولى
المالية بالعتق ولا تعلق للكفالة بالنفس
بالمالية وإن كانت الكفالة بمال ضمن السيد
الأقل من قيمته ومن الدين لأن حق المكفول له
تعلق بماليته فإن الدين لا يجب على العبد إلا
شاغلا لماليته وقد ظهر الوجوب في حق المولى
بإذنه له في الكفالة فإذا أتلفه بالإعتاق صار
ضامنا ذلك للطالب والغريم بالخيار إن شاء اتبع
العبد بالمال لكفالته وإن شاء اتبع السيد
لإتلافه مالية الرقبة فإن تبع العبد كان للعبد
أن يتبع المكفول به إن كان كفل بأمره وإن اتبع
السيد كان للسيد أيضا أن يتبع المكفول به إن
كان المكفول به طلب من السيد أن يأمر عبده وإن
لم يكن طلب من السيد ولا من العبد لم يرجع
عليه بشيء لأنهما تبرعا بالالتزام والأداء عنه
وإذا كانت قيمة العبد التاجر ألفي درهم وعليه
دين ألف درهم فأمره مولاه فكفل بألف درهم ثم
استدان العبد بعد ذلك ألف درهم ثم باعه القاضي
في الدين بألف درهم فإن ثمنه يضرب فيه الغرماء
الأولون والآخرون بدينهم كله ويضرب فيه أصحاب
الكفالة بألف درهم مقدار الفارغ من قيمته عن
الدين يوم كفل لأن التزامه المال بالكفالة
بإذن المولى إنما يصح بقدر الفارغ والفارغ
يومئذ كان ألف درهم ألا ترى أن المولى لو أقر
عليه بالدين لم يصح إلا بقدر الفارغ من ماليته
فكذلك إذا
ج / 20 ص -14-
أذن له
حتى كفل فاستدانته ملزمة إياه من غير أن يشترط
فيه فراغ المالية فثبت عليه جميع ما استدانه
فلهذا ضرب كل غريم من غرمائه بجميع دينه ولا
يضرب المكفول له إلا بألف درهم وإذا كفل العبد
وهو صبي بغير إذن سيده بنفس أو مال ثم عتق لم
يلزمه من ذلك شيء لأنه غير مخاطب والتزامه في
حق نفسه غير صحيح ألا ترى أنه لو كفل بعد ما
عتق وهو صبي لم يلزمه بذلك شيء فكذلك قبله وإن
كان كفل بإذن سيده فهو جائز عليه في الرق وبعد
العتق لما بينا أن إذن السيد في الكفالة
بمنزلة إقراره عليه بالدين وذلك صحيح عليه في
الرق وبعد العتق فكذلك هذا وهذا لأن للمولى
قولا ملزما على عبده وقوله على عبده ألزم من
قول الأب على ولده ثم كل دين وجب على الولد
باعتبار إذن والده كديون التجارة يكون الوالد
مؤاخذا به بعد البلوغ فكذلك ما يجب على العبد
بإذن السيد يكون مؤاخذا به بعد العتق.
وإن كفل بإذن سيده بدين يستغرق قيمته ثم كفل
بدين آخر يستغرق قيمته بإذنه أيضا لم يجز
الدين الثاني لأن شرط صحة هذا الالتزام فراغ
المالية فما لم يقض بالأول لا يصير هذا الشرط
موجودا فلا يثبت الثاني وهو بمنزلة ما لو أقر
السيد عليه بدين مستغرق قيمته ثم بدين آخر
وكذلك إن كان الدين الأول من تجارته وإن عتق
قبل أن يقضي دينه لزمه الثاني لأن المانع كان
اشتغال المالية بحق الأول وقد زال ذلك المعنى
ببطلان المالية بالعتق فاستوت الديون عليه بعد
العتق وإن كان مولى العبد صبيا فأذن هو أو
أبوه أو وصيه للعبد في الكفالة لم يجز أما
الصبي فلأنه لا يملك مباشرة الكفالة فكذلك لا
يأذن فيه لعبده وليس للأب ولاية الكفالة على
الصبي ولا في ماله ألا ترى أنهم لو أذنوا
للصبي حتى كفل لم يصح فكذلك إذا أذنوا فيه
لعبد الصبي وكذلك إن كان مولاه عبدا تاجرا
لأنه لا يملك الكفالة بنفسه فلا يصح إذنه بذلك
لعبده فإن أذن المولى لعبد عبده في الكفالة
بنفس أو مال فإن كان على العبد الأول دين
مستغرق لم يجز لأنه من كسبه كسائر الأجانب في
حق التصرف ما لم يفرغ من دينه وإن لم يكن على
واحد منهما دين جاز لأن الثاني خالص ملكه
كالأول فكما تصح الكفالة من الأول بإذن مولاه
فكذلك من الثاني.
وإن أمر السيد عبده أن يكفل بثلاثة آلاف درهم
عن رجل وكفل بها ثم استدان ثلاثة آلاف درهم
وباعه القاضي بألفين فإنه يضرب فيها أصحاب
الكفالة بدينهم كله وأصحاب الدين بجميع دينهم
لأن الكفالة من العبد حصلت في حال فراغه من
الدين فنفذت في الكل ثم اشتغاله بدين الكفالة
لا يمنع وجوب الدين عليه بالاستدانة فيثبت
الدينان فيضرب كل واحد من الغريمين في ثمنه
بجميع دينه وهو كما لو أقر المولى عليه بثلاثة
آلاف درهم ثم استدان العبد مثل ذلك.
وإذا كفل العبد وهو يساوي ألف درهم بإذن سيده
بألف درهم ولا دين عليه ثم كفل بألف أخرى
بإذنه أيضا لم تجز الكفالة الثانية لأن
بالكفالة الأولى اشتغلت جميع مالية العبد
ج / 20 ص -15-
بحق
المكفول له وشرط صحة الكفالة فراغ المالية
فإذا لم يوجد ذلك عند الكفالة الثانية لم يصح
كما لو أقر المولى عليه بدين بقدر قيمته ثم
بدين آخر فإن زادت قيمته حتى بلغت ألف درهم ثم
كفل بألف أخرى بإذن مولاه فهو جائز لأن شرط
صحة الكفالة الثالثة قد وجد وهو فراغ المالية
عندها بقدرها
فإن قيل إذا زادت قيمته لماذا لم تشتغل هذه
الزيادة بالكفالة الثانية حتى لا تصح الكفالة
الثالثة قلنا لأن شرط صحة العقد إنما تعتبر
عند وجود العقد لأنه يتعذر اعتبار ما بعده فإن
القيمة تزداد تارة وتنتقص أخرى فلهذا صححنا
باعتبار هذه الزيادة الكفالة الثالثة دون
الثانية فإن باعه القاضي بألفي درهم فإنها
تقسم بين المكفول له الأول والمكفول له الآخر
نصفين لصحة هاتين الكفالتين ولا شيء للأوسط
لأنه كفل له وليس في قيمته فضل فلم تصح
الكفالة له ولا مزاحمة بين الصحيح والفاسد
وكذلك لو باعه بألف وخمسمائة أو بألف درهم لأن
الكفالتين يعني الأولى والثانية استوتا في
الصحة والمقدار فما يحصل من ثمن العبد قل أو
كثر فهو بينهما نصفان حتى يستوفيا حقهما فإن
فضل شيء بأن باعه بألفين وخمسمائة أو بثلاثة
آلاف فالفضل للثانية لأن هذا الفضل حق المولى
والمولى قد رضي بصرفه إلى الكفالة الثانية حين
أمره أن يكفل بها.
ألا ترى أن العبد المديون لو كفل بإذن مولاه
ثم سقطت ديونه بالأداء يصرف كسبه ورقبته إلى
دين المكفول له فكذلك هنا وإذا قال الرجل لرجل
ما ذاب لك على فلان فهو علي ورضي بذلك الطالب
فقال المطلوب لك علي ألف درهم وقال الطالب لي
عليك ألفان وقال الكفيل ما لك علي شيء فالقول
قول المطلوب لأن الطالب يدعي عليه الزيادة وهو
منكر ثم ما أقر به المطلوب يكون لازما على
الكفيل لأن القاضي يقضي عليه بإقراره فيتحقق
الذوب في هذا القدر بقضاء القاضي كما يتحقق إن
لو قامت البينة فيكون ذلك لازما على الكفيل
فإن قيل في هذا إلزام المال على الكفيل بقول
المطلوب وقوله ليس حجة عليه قلنا ليس كذلك بل
فيه إيجاب المال عليه بكفالته لأنه لما قيد
الكفالة بالذوب مع علمه أن الذوب قد يحصل عليه
بإقراره فقد صار ملتزما ذلك بكفالته.
وكذلك لو قال ما أقر لك به فلان من شيء فهو
على وما صار لك عليه فهو علي وهذا كله استحسان
وفي القياس لا يجب على الكفيل شيء إذا أنكر
الوجوب على المطلوب ما لم يقم البينة بذلك لما
بينا أن الإقرار حجة في حق المقر خاصة فالثابت
بإقرار المطلوب ثابت في حقه دون غيره ولكنا
نترك هذا القياس للتنصيص من الكفيل في الكفالة
على ما يقر به المطلوب أو على ما يذوب عليه
مطلقا من غير تقييد الذوب بشيء وكذلك لو قال
ما قضى لك عليه فهو علي إلا أن هنا لا يلزم
الكفيل حتى يقضي على المطلوب بإقراره لأنه كفل
بمال مقضى به فما لم يصر المال مقضيا به على
المطلوب لا يتقرر الوصف الذي قيد الكفالة به
ولو قال ما لك عليه فهو علي لم يلزم الكفيل
شيء بإقرار المكفول عنه لأنه كفل بما هو واجب
عليه وقت الكفالة وما بعد ذلك ثبت الوجوب عليه
ولم يبين في حق الكفيل أنه صار
ج / 20 ص -16-
واجبا
وقت الكفالة لأن الإقرار إخبار في حق المقر
ولكن في حق الغير يجعل كالإنشاء بمنزلة إقرار
المريض في حق غرماء الصحة بخلاف ما سبق فإن
هناك إنما كفل بما يقر به في المستقبل أو بما
يلزمه في المستقبل أو بما يقضي عليه به في
المستقبل وذلك يثبت بإقراره حتى لو قال ما كان
أقر به لك فلان أمس فهو علي فقال المطلوب قد
أقررت له أمس بألف درهم وجحد ذلك الكفيل فلا
شيء عليه لأنه كفل بمال سبق الإقرار به من
المطلوب على الكفالة ولا يتبين ذلك بإقراره
بعد الكفالة في حق الكفيل لأنه متهم في ذلك
فلا يجب على الكفيل إلا أن يقيم البينة على
إقراره بذلك أمس فحينئذ الثابت بالبينة
كالثابت بالمعاينة.
ولو قال ما أقر لك به من شيء فهو علي فقامت
عليه البينة أنه قد أقر قبل الكفالة بألف درهم
لم تلزم الكفيل إلا أن يقر بها بعد الكفالة
لأن هذا اللفظ إنما يدخل فيه إقرار يكون منه
في المستقبل لا ما كان منه في الماضي وكأنه
أورد هذا الفصل لإيضاح الفرق الأول وما قضى به
القاضي بنكوله عن اليمين لم يلزم الكفيل لأنه
إنما كفل بما يقر به والنكول بدل عند أبي
حنيفة رحمه الله وليس بإقرار وعندهما هو قائم
مقام الإقرار لضرورة فصل الخصومة وذلك في حق
الخصمين دون الكفيل فإذا لم يكن بمنزلة
الإقرار في حق الكفيل لا يلزمه شيء وإذا ادعى
رجل قبل عبد دعوى فكفل مولاه بنفسه فهو جائز
لأنه التزم تسليم ما يقدر على تسليمه وهذا
الفصل في الكفالة بالنفس أقرب إلى الجواز من
غيره لأن له ولاية على عبده بسبب ملكه فيقدر
على تسليمه وكذلك كفالة المولى عن العبد
بالمال جائزة لأن العبد يصح أن يكون مطلوبا
بالمال فلو كفل عنه أجنبي صح فكذلك مولاه.
فإن قيل دين العبد مستحق القضاء من ماليته وهو
ملك مولاه فأي فائدة في هذه الكفالة قلنا
الفائدة شغل ذمة المولى إما بالمطالبة أو بأصل
الدين واستحقاق قضائه من سائر أمواله وهذا إذا
لم يكن ثابتا قبل الكفالة وإذا أدى المال لا
يرجع به على عبده وإن أداه بعد عتقه لم يستوجب
المولى عليه شيئا فإن المولى لا يستوجب على
عبده دينا وقد بينا أنه متى لم يجب عند
الكفالة للكفيل على المكفول عنه لا يجب بعد
ذلك وإن أحال العبد غريما له على مولاه بدينه
على أن يبرأ العبد فمات المولى ولا مال له إلا
العبد وعلى العبد دين كثير فللمحتال له أن
يرجع على العبد لأن مالية العبد مستحقة بديونه
وقد مات المولى ولا مال له إلا العبد مفلسا
ومن أصلنا أن الحوالة تبطل بموت المحتال عليه
مفلسا على ما نبينه في بابه إن شاء الله
تعالى.
وإذا بطلت الحوالة بعود دين المحتال له إلى
العبد فيضرب بدينه في مالية العبد مع غرمائه
وإن كفل المولى عن عبده بدين ثم أبرأ صاحب
الدين المولى الكفيل كان فسخا للكفالة وذلك لا
يسقط الدين عن الأصيل ألا ترى أن قبل الكفالة
كان المال واجبا على الأصيل فكذلك بعد انفساخ
الكفالة يبقى المال على الأصيل وهذا بخلاف
الهبة من الكفيل لأن الهبة تمليك فلا يمكن
تصحيحه إلا بتحويل الدين إلى ذمة الكفيل فلهذا
يسقط
ج / 20 ص -17-
عن
الأصيل فأما الإبراء فإسقاط محض وإسقاط
المطالبة دون أصل الدين صحيح فكان إبراء
الكفيل إسقاطا للمطالبة عنه فيبقى المال على
الأصيل بحاله وإن أبرأ العبد برئا جميعا لأن
إبراء الأصيل إسقاط لأصل الدين وذلك يوجب
براءة الكفيل ضرورة فإن كفل المولى بنفس عبده
وضمن ما ذاب عليه وغاب العبد تاجرا فإن المولى
يؤخذ بنفسه لكفالته ولا يكون خصما فيما على
العبد حتى يحضر العبد فيخاصم فإذا قضى عليه
لزم المولى لأنه إنما ضمن ما يذوب على العبد
بل ولا يتحقق الوجوب على العبد ما لم يقض عليه
القاضي بحضرته وما لم يثبت ضمان المالك لا
يكون هو خصما فيه وقد سبق نظيره في الحر فكذلك
في العبد سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن
المولى ليس بخصم فيما على عبده بدون الضمان.
وإذا كان لرجل على عبد تاجر ألف درهم ولآخر
على ذلك الرجل ألف درهم فأحاله بذلك على العبد
أو ضمنه العبد له بأمره فهو جائز لأنه لا
يلتزم بهذه الحوالة والضمان شيئا لم يكن عليه
إنما يلتزم ما هو عليه فلا يتحقق معنى التبرع
في هذا الالتزام وكذلك وصى الصبي لو استدان
مالا وأنفقه عليه ثم أمر الصبي بأن يضمن هذا
المال جاز لأنه ليس بإلزام للمال بل فيه
التزام لما عليه كذا هنا وفي الحقيقة هذا أمر
من غريم العبد للعبد بأن يدفع ماله عليه إلى
غريمه أو يوكل غريمه في أن يقبض من العبد ماله
عليه وكما يملك أن يطالب بنفسه يملك أن يوكل
غيره ألا ترى أن المال لو كان عينا في يد
العبد للآمر فأمره أن يدفعه إلى مديونه صح
فكذلك إذا كان دينا في ذمته ولو كفل رجل بنفس
عبد محجور عليه بأمره فإن الكفيل يؤخذ
بالكفالة لأن العبد مخاطب وتسليم النفس عليه
لجواب الخصم مستحق وإنما تأخر ذلك عنه لحق
المولى فتصح الكفالة بذلك عنه كالمال فإن
العبد المحجور لو أقر لإنسان بمال ثم كفل به
عنه إنسان صح وليس لهذا الكفيل أن يتبع العبد
بذلك حتى يعتق كما أن الطالب لا يطالبه بذلك
حتى يعتق فإذا أعتق اتبعه بكفالته حتى يبرئه
منها لأنه أمره بهذه الكفالة وأمره في حق نفسه
صحيح فكان مطالبا به بعد العتق.
ولو كان على المكاتب مال لرجل فكفل به عنه
لآخر كان جائزا بخلاف كفالة المكاتب بالنفس أو
بالمال فإن ذلك تبرع واصطناع معروف وهذا ليس
بتبرع وإنما هو التزام مال أصله عليه ولا فرق
في حقه بين أن يدفعه إلى الأول أو إلى الثاني
فلهذا صحت الكفالة وإن أمر المكاتب عبده أن
يكفل بمال على المكاتب فهو جائز لأن المكاتب
ملتزم فصار هذا الدين من كسبه وعبده كسبه فليس
في هذه الكفالة إلا استحقاق ما هو مستحق بخلاف
ما إذا أمره أن يكفل عن غيره فإن ذلك التزام
بطريق التبرع فيما ليس عليه ولا يملك المكاتب
مباشرته بنفسه فكذلك لا يملك أن يأمر عبده به.
ولو أن رجلا طلب من مكاتب أو عبد تاجر أن
يشتري له متاعا بمال مسمى ولم يدفع إليه شيئا
فاشترى العبد كان شراؤه في القياس لنفسه دون
الآمر لأنه ملتزم المال في ذمته
ج / 20 ص -18-
بعوض
يحصل للآمر فيكون هذا بمنزلة الكفالة ألا ترى
أنه لو أمره بالشراء له بالنسيئة لم يصح فكذلك
بالنقد وفي الاستحسان هذا جائز لأنه من صنع
التجار وهو محتال إليه فإن من لا يعين غيره لا
يعان ثم المشتري محبوس في يده حتى يستوفي
الثمن من الآمر بخلاف الكفالة والشراء
بالنسيئة وقد بينا هذا في كتاب الوكالة وذكر
عن إبراهيم رحمه الله قال لا يجوز كفالة الرجل
عن المكاتب بالمكاتبة لمولاه وبه نأخذ لأن
المكاتب عبد والمولى لا يستوجب على عبده دينا
ولأن ما للمكاتب على المكاتب بصفة لا يمكن
إيجابه بتلك الصفة على الكفيل لأن المكاتب
يتمكن من أن يسقط عن نفسه المال بأن يعجز نفسه
ولا يمكن إثباته في ذمة الوكيل الكفيل بهذه
الصفة ولو أثبتناه في ذمة الكفيل لأثبتنا أكثر
مما هو واجب في ذمة الأصيل وذلك لا يجوز وكذلك
لو كان للمولى عليه دين سوى مال الكتابة وكفل
به رجل لم يجز للمعنيين اللذين ذكرناهما فإن
المكاتب إذا عجز نفسه فكما يسقط عنه بدل
الكتابة فكذلك تسقط سائر ديون المولى.
وكذلك لو كان له مكاتبان كل واحد منهما مكاتب
على حدة فكفل أحدهما بمال على صاحبه للمولى من
الكتابة أو الدين لم يجز لأنه كفالة لمكاتب
ولا كفالة للمولى عن المكاتب وذلك غير صحيح من
الحر فلأن لا يصح من المكاتب كان أولى ولو كان
بينهما مكاتبة واحدة وجعل نجومها واحدة فإذا
أديا عتقا وإن عجزا ردا كان ذلك جائزا
استحسانا وفي القياس هذا لا يجوز لأنه كفالة
لمكاتب ولأنه كفالة ببدل الكتابة ولكنه استحسن
فقال المولى جعلهما في هذا الحكم كشخص واحد
فكأنه ألزم جميع المال كل واحد منهما ثم علق
عتق صاحبه بأدائه وله هذه الولاية ولهذا كان
له أن يأخذ كل واحد منهما بجميع الكتابة إلا
أنه في حق ما بينهما إذا أدى أحدهما جميع
البدل رجع على صاحبه بنصفه فأما في حق المولى
فالمال عليهما كشيء واحد حتى أنه لو أدى
أحدهما نصيبه من البدل لا يعتق لأن المولى ما
رضي بعتقهما ولا عتق أحدهما حتى يصل إليه جميع
البدل وإذا دان المولى أحدهما دينا بعد
المكاتبة فكفل الآخر لم يجز لأنه لم يكن على
هذا الآخر من الدين شيء ولا تعلق عتقه بأدائه
فكان هذا التزاما منه بطريق التبرع ثم هو
التزام الدين عن المكاتب لمولاه وذلك باطل
بخلاف الأول فإن عتقه تعلق بأداء ذلك المال
فيجوز أن يكون هو ملتزما أداءه.
ولو كان للمكاتب مال على رجل فأمره فضمنه
لمولاه من المكاتبة أو من دين له سوى ذلك فهو
جائز لأن أصل ذلك المال واجب على الكفيل فهذا
في الحقيقة أمر له منه بدفع ما عليه إلى مولاه
أو توكيل لمولاه أن يقبض دينه من غريمه وذلك
مستقيم ولو كان للمولى دين على ابن المكاتب
أو على رحم محرم منه أو على عبد له فكفل به لم
يجز لأن من دخل في كتابته فهو مكاتب لمولاه
وكفالة الرجل على المكاتب لمولاه باطلة ومن لم
يدخل في كتابته فهو عبد للمكاتب والدين الذي
للمولى على عبد المكاتب بمنزلة الدين له
ج / 20 ص -19-
على
المكاتب لأن كل واحد منهما يسقط بعجز المكاتب
فكما لا تجوز الكفالة للمولى بماله على مكاتبه
فكذلك بماله على عبد مكاتبه وإن كفل به
المكاتب عن عبده أو أم ولده جاز لأن كسبهما
ورقبتهما كذلك.
ألا ترى أنه إذا أدى بدل الكتابة يتقرر ملكه
فيهما فكان الواجب على ملكه بمنزلة الواجب
عليه وتبين بهذا أنه بهذه الكفالة ليس بملتزم
ما ليس عليه بطريق التبرع وإن كفل به عن ابنه
أو عن أحد أبويه لم يجز أما إذا كان حرا فغير
مشكل وكذلك إن كان داخلا في كتابته لأن من دخل
في كتابته فهو بمنزلة المكاتب لمولاه ألا ترى
أن بأدائه يعتق كما يعتق المكاتب وإن كان في
الحال لا تصح منه الكفالة والتبرعات كما لا
تصح من المكاتب فكفالة أحد المكاتبين عن الآخر
باطلة وإن كان المولى واحدا وإذا مات مولى
المكاتب وكفل رجل بماله عليه من الكتابة أو
غيرها للورثة لم يجز لأنهم قائمون مقام المورث
فكما لا تصح كفالة هذا الرجل للمورث عنه في
حياته فكذلك لوارثه بعد وفاته فإن قيل الوارث
لا يملك رقية المكاتب فلماذا لا تصح الكفالة
قلنا هو بمنزلة المالك على معنى أنه إذا عجز
كان مملوكا له مع
أن المانع من الكفالة ضعف ذلك الدين في حق
الأصيل حتى أنه يسقط عنه إذا عجز نفسه وفي هذا
لا فرق بين المولى وبين وارثه بعد موته ولو
كان للمكاتب دين على بعض الورثة وكفل به رجل
أو كفل بنفس المطلوب كان جائزا لأن الأصيل
مطلوب بهذا المال مطلقا فتصح كفالة الكفيل به.
ألا ترى أن المال لو كان للمكاتب على مولاه لم
يكن من جنس الكتابة وكفل به رجل للمكاتب عن
المولى صح فكذلك وارثه بعد موته وإذا أدان
العبد التاجر لمولاه دينا ولا دين عليه وأخذ
منه كفيلا بذلك فالكفالة باطلة لأن العبد لا
يستوجب الدين على مولاه إذا لم يكن عليه دين
فإن دينه كسبه وكسبه ملك المولى ومن ملك ما في
ذمته سقط ذلك عنه وإن كان على العبد دين
فالكفالة جائزة لأن كسبه حق غرمائه فيتحقق
واجبا في ذمة المولى كما يتحقق واجبا في ذمة
غيره فلهذا صحت الكفالة به عنه والكفالة
بالنفس في ذلك مثل الكفالة بالمال لأنه إذا لم
يكن على العبد دين فخصومته مع المولى لا تلزم
المولى تسليم النفس إليه للجواب فلا تصح
الكفالة بتسليم نفسه أيضا وإذا كان عليه دين
فإنه يستحق على المولى تسليم النفس للجواب
فيصح إلزامه بالكفالة أيضا وكذلك أخذ هذا
الكفيل بنفس مولاه في خصومة شيء يدعيه قبله
وكيلا في خصومته فهو جائز إذا كان عليه دين
لأن الجواب لما كان مستحقا على المولى صح
توكيله به وإن لم يكن عليه دين فهو باطل لأن
الجواب غير مستحق له على المولى فكذلك على
وكيله لأن العبد إذا لم يكن عليه دين فحقه
لمولاه ويكون هذا بمنزلة التوكيل من المولى
عبده في أن يخاصم نفسه وذلك باطل.
وكذلك لو كفل الوكيل بنفس المولى وضمن ما عليه
وهو مائة درهم فهو على التقسيم
ج / 20 ص -20-
الذي
قلنا فإن مات المولى وعلى العبد دين فللعبد أن
يستوفي المال من الكفيل لصحة الكفالة ويرجع به
الكفيل في تركة المولى لأنه كفل عنه بأمره
وأدى وكذلك لو كان المولى صبيا وقد أذن أبوه
أو وصيه لعبده في التجارة فاستهلك الصبي شيئا
لعبده وعليه دين فضمان ذلك واجب عليه كما لو
استهلكه على غريم العبد فإذا أخذ منه كفيلا
بالمال برضا الأب أو الوصي كان ذلك جائزا لأنه
دين مستحق عليه يؤمر الأب والوصي بقضائه من
ماله فتصح كفالة الكفيل به وإذا كان بأمر الأب
أو الوصي رجع الكفيل عليه إذا أداه وإذا كفل
الكفيل للعبد بمال عن مولاه وعلى العبد دين
فأدى العبد دينه بريء الكفيل من الكفالة لأن
صحة هذه الكفالة باعتبار الدين على العبد حتى
إذا لم يكن عليه دين لا تصح الكفالة فإذا سقط
الدين فقد انعدم المعنى الذي به كانت الكفالة
وإن عتق قبل أن يؤدي دينه ثم أداه من مال
اكتسبه بعد العتق أخذ الكفيل بالمال لأن الأصل
أن العبد المديون إذا أدى دينه بعد العتق من
مال اكتسبه بعد العتق لا يكون متبرعا بالأداء
ولكن يرجع بالمؤدي فيما اكتسبه قبل العتق وما
اكتسبه قبل العتق هو الدين الذي له على مولاه
فإذا لم يسقط ذلك الدين عن المولى بقي الكفيل
على كفالته وإن أداه من مال كان له في الرق
بريء الكفيل من الكفالة لأنه لا يستوجب الرجوع
بالمؤدي في كسبه فصار ما في ذمة المولى حقا له
فبالخلوص يسقط عنه وبراءة الأصيل توجب براءة
الكفيل.
وكذلك هذا الحرف فيما إذا أدى دينه في حال
الرق فإن ما في ذمة المولى يخلص له ويسقط عنه
وبراءته توجب براءة الكفيل وكفالة الرجل
للمكاتب بنفس مولاه أو بدين له عليه جائزة لأن
المولى في كسب مكاتبه أنفذ منه في كسب عبده
المديون وقد بينا صحة كفالة العبد عن مولاه
إذا كان مديونا فللمكاتب أولى وكذلك لو كفل
بنفسه وضمن ما ذاب عليه أو جعله كفيلا بنفسه
وكيلا في خصومته وهذا بخلاف كفالة المولى عن
المكاتب لأن دين المولى على مكاتبه لا يقوى
حتى يملك المكاتب إسقاطه بالتعجيز فأما دين
المكاتب على مولاه فقوي فإن المولى لا يملك
إسقاطه إلا بالأداء فلهذا صحت الكفالة به.
وكذلك لو كفل عن المولى بدين لابن المكاتب أو
أبعد من ذلك وبن المكاتب بمنزلة المكاتب لأن
من دخل في كتابته فهو مكاتب للمولى والمستسعي
في بعض قيمته بعد ما عتق بعضه بمنزلة المكاتب
وفي قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز كفالة
أحد عنه بالسعاية لمولاه ولا بنفسه فإن قيل
المعنى الذي لأجله لا تجوز الكفالة ببدل
الكتابة عن المكاتب للمولى لأنه ضعيف يملك
المكاتب إسقاطه بالتعجيز وهذا لا يوجد في
السعاية فإنه لا يملك إسقاطه بالتعجيز إذ ليس
له أن يعجز نفسه فينبغي أن تصح الكفالة قلنا
بل المعنى أن المكاتب عبد ولا يقوى دين المولى
في ذمته لأنه ليس للعبد ذمة قوية في حق مولاه
وهذا موجود هنا فالمستسعي عنده بمنزلة المكاتب
لأن الرق يتجزأ عند أبي حنيفة رحمه الله فلا
يعتق نصيبه ما لم يؤد حق السعاية وكذلك العتق
عند الموت إذا لم يخرج من الثلث فلزمته
السعاية
ج / 20 ص -21-
فهذه
السعاية بمنزلة بدل الكتابة على معنى أنه لا
يعتق إلا بأدائها فلا تصح الكفالة بها عند
المولى
وهذا بخلاف ما إذا أعتق عبده على مال فكفل
كفيل للمولى بذلك المال صحت الكفالة لأنه عتق
هناك بنفس القبول فكان المال دينا قويا في
ذمته كسائر الديون والمستسعي لا يعتق إلا
بالأداء فلا يكون المال لازما في ذمته بصفة
القوة وهذا لأن العتق في الأصل صلة وكل مال
يحصل بأدائه العتق أو يتم بأدائه العتق يكون
في معنى الصلة فلا تصح الكفالة به فأما الواجب
بعد تمام العتق فليس فيه معنى الصلة فتصح
الكفالة به.
وإذا كان العبد التاجر بين رجلين فأدانه
أحدهما دينا وأخذ منه كفيلا به أو بنفسه فهو
جائز غير أنه لا يلزم الكفيل إلا نصف المال
لأنه إنما يجب على الكفيل بالكفالة ما هو واجب
على الأصيل وهو العبد نصف المال لأن حصة
المولى المدينة لا تجب عليه فإن المولى لا
يستوجب الدين على عبده وإنما ثبت بحصة نصيب
الآخر وذلك نصف المال فوجب على الكفيل ذلك
أيضا وكذلك لو كان العبد هو الذي أدان أحد
مولييه وأخذ منه كفيلا بنفسه أو بالمال فهو
جائز يؤخذ إن كان على العبد دين لأن جميع
الدين هنا ثابت للعبد على المولى الذي له
النصف لأنه غير مملوك والنصف الآخر لقيام
الدين عليه وإن لم يكن عليه دين ثبت نصف الدين
عليه وهو نصيب المولى الآخر فأما نصيبه من كسب
العبد في خالص حقه فتصح الكفالة عنه للعبد
بالنصف هنا دون النصف الآخر.
وكذلك شريك المولى شركة مفاوضة لو أدان العبد
دينا فأخذ منه كفيلا بنفسه أو بالدين فهو جائز
غير أنه يبطل من حصة المولى من الدين نصفها
بقدر ملكه وما سقط عن الأصيل سقط عن الكفيل
بقدره
ولو كان للمولى شريك شركة عنان فأدان العبد
وأخذ منه كفيلا بنفسه أو بالدين فهو جائز لأن
شريكي العنان فيما ليس من شركتهما كسائر
الأجانب فكان جميع دينه مستحقا على العبد فتصح
الكفالة ولو أن الموليين جميعا أدانا العبد
دينا واحدا بعقد واحد وفي صفقة واحدة فأخذا
منه كفيلا بالمال أو بنفسه فهو جائز غير أنه
يبطل منه مقدار حصته لأنه لا يستوجب الدين على
ملكه وبقدر ما يبطل عن الأصيل يبطل عن الكفيل.
ولو أن العبد أدان مولييه دينا وأخذ منهما
كفيلا به فهو جائز غير أنه يبطل من كل واحد
منهما
نصف الدين لأن نصف كسب العبد خالص كل واحد
منهما إذا لم يكن على العبد دين ولو كان للعبد
دين على رجل فكفل به أحد مولييه أو كفل بنفسه
فهو جائز يؤخذ به كله إن كان عليه دين لأن
كسبه حق غرمائه فالموليان منه كسائر الأجانب
وإن لم يكن عليه دين أخذ بنصفه لأن نصف كسبه
للمولى الذي كفل ولا يجب له بالكفالة على نفسه
فلهذا كان له عليه الكفالة بقدر نصيب شريكه
وإن كفل له الموليان جميعا بمال وكل واحد
منهما كفيل ضامن عن صاحبه فإن كان على العبد
دين فهو جائز لأنه إن كفل به أحدهما جاز فكذلك
إذا كفلا به لأنهما كسائر الأجانب في كسبه
وأيهما أدى إليه المال رجع على صاحبه بنصفه
ليستويا في غرم الكفالة كما استويا في أصل
الكفالة وإن لم يكن عليه دين
ج / 20 ص -22-
بطل
عنهما نصف هذا الدين لأن كل واحد منهما مالك
لنصف كسبه ولا يملك لنفسه بنفسه فلهذا بطل
عنهما نصف هذا الدين ولا يكون كل واحد منهما
كفيلا من قبل صاحبه لأن كل واحد منهما إنما
يضمن بأصل الكفالة صاحبه فلا يجوز أن يصير
صاحبه كفيلا عنه بذلك إذ يكون كفيلا بنفسه
وذلك باطل.
ولو كفل ما جازت فيه كفالة المسلم عن المسلم
والذمي عن الذمي جاز لأن الكفالة من المعاملات
وأهل الذمة يستوون مع المسلمين في المعاملات.
ولو كفل الذمي عن الذمي للذمي بالخمر من قرض
أو غصب أو استهلاك صحت الكفالة لأن الخمر مال
متقوم عندهم فإن أسلم الطالب سقطت الخمر عن
الأصيل والكفيل جميعا لا إلى بدل لأنه لا
يستوجب الخمر ولا قيمتها ابتداء بهذا السبب
على أحد فكذلك لا يبقى ما كان واجبا له ويجعل
بإسلامه له كمبرئ الأصيل والكفيل جميعا وإن
أسلم المطلوب فكذلك الجواب عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يجب على
المطلوب قيمة الخمر ويبقى الكفيل على كفالته
وهي رواية زفر رحمه الله وخالفه أبو حنيفة
رحمه الله لأن إسلام المطلوب لا يمنع وجوب
قيمة الخمر عليه للذمي ابتداء ألا ترى أنه لو
استهلك المسلم خمر ذمي أو استقرض من ذمي خمرا
فأتلفها كانت مضمونة عليه بالقيمة فكذلك تبقى
القيمة على المسلم للذمي وقد جعلنا الطالب
بإسلامه كالمبرئ والمطلوب لا يمكن أن يجعل
بإسلامه كالمبرئ لأنه لا يبرئ نفسه وإن لم
يبرأ الأصيل لا يبرأ الكفيل فيكون للطالب
الخيار إن شاء رجع على الأصيل بقيمة الخمر وإن
شاء رجع على الكفيل بالخمر ثم الكفيل يرجع على
الأصيل بقيمة الخمر إن كان كفل بأمره ووجه قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن الخمر
التي هي بدل القرض إذا سقطت بالإسلام تسقط لا
إلى بدل كما إذا سقطت بإسلام الطالب.
وكان المعنى فيه أن الطالب لو استوفى القيمة
لكان به مملكا من المطلوب الخمر التي في ذمته
ولا يجوز تمليك الخمر من المسلم ببدل فتسقط
أصلا لأن حق إسقاط البدل متى كان متعلقا بشرط
تمليك المبدل فإذا امتنع ذلك يسقط أصلا كمن
هشم قلب فضة لإنسان فلصاحب القلب أن يضمنه
قيمته من خلاف جنسه بشرط أن يملكه المهشوم
فإذا امتنع من ذلك لا يرجع عليه بشيء بخلاف ما
إذا كان المطلوب مسلما وقت الاستقراض
والاستهلاك فإن أصل الخمر هناك لا تجب في ذمته
ابتداء وإنما تجب القيمة ولايشترط لوجوب
القيمة ملك ما يقابله كمن غصب مدبرا أو أتلفه
يضمن قيمته من غير أن يملك المدبر به فإذا
سقطت عندهما الخمر عن المطلوب لا إلى بدل بريء
الكفيل لأن إبراء الأصيل يوجب براءة الكفيل
ولو أسلم الكفيل خاصة سقطت الخمر عن الكفيل لا
إلى بدل في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف
رحمه الله ولكن براءة الكفيل لا توجب براءة
الأصيل وكانت الخمر للطالب على المطلوب على
حالها وعند محمد رحمه الله الطالب بالخيار إن
ج / 20 ص -23-
شاء
رجع على الكفيل بقيمة الخمر لأنه مطلوب وإن
شاء رجع على الأصيل بالخمر فإن أخذ من الكفيل
قيمة الخمر لم يرجع الكفيل على الأصيل بشيء
لأنه مطالب في حق الأصيل وإسلام الطالب يسقط
الخمر لا إلى بدل وإن أسلموا جميعا يسقط الخمر
لا إلى بدل لأن في إسلامهم إسلام الطالب
وزيادة.
وكذلك إن أسلم الطالب والكفيل أو الطالب
والأصيل فإن أسلم الكفيل والأصيل سقطت الخمر
لا إلى بدل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله ويتحول إلى القيمة عند محمد رحمه الله
فإذا استوفاه من الكفيل لم يرجع الكفيل على
الأصيل لأنه طالب في حقه ولو كانت الخمر من
ثمن بيع والمسألة بحالها فإن أسلم الطالب أو
المطلوب سقطت الخمر لا إلى بدل بالاتفاق
لانفساخ البيع بينهما بإسلام أحدهما قبل قبض
الخمر وإن أسلم الكفيل خاصة فالبيع يبقى على
حاله ويسقط الخمر لا إلى بدل من الكفيل في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد
رحمه الله يتحول إلى القيمة لأن ما في ذمة
الكفيل بمنزلة القرض ولو كانت الخمر سلما
والمسألة بحالها فإن أسلم الطالب والمطلوب
سقطت لا إلى بدل لانفساخ العقد بينهما وإن
أسلم الكفيل يبقى العقد بين رب السلم والمسلم
إليه ولكن يبرأ الكفيل بالاتفاق لأنه لا يجوز
أن يتحول حق رب السلم إلى القيمة دينا في ذمته
فإن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز.
ولو كانت الخمر صداقا والمسألة بحالها فنقول
أما بيان قول أبي حنيفة رحمه الله فالصداق إما
أن يكون خمرا أو خنزيرا بعينه أو بغير عينه
فإن كان بعينه وقد كفل به كفيل فهو صحيح لأن
الصداق مضمون بنفسه في يد الزوج والكفالة
بالأعيان المضمونة بنفسها صحيحة كالمغصوب
وسواء أسلم الزوج والمرأة أو أحدهما أو أسلموا
جميعا فبقي حقها في العين كما بيناه في كتاب
النكاح فيكون لها أن تأخذ العين من الزوج وإن
شاءت طالبت الكفيل بالتسليم لأن الزوج لما بقي
بالتسليم بعد إسلامه يبقى الكفيل مطالبا به
أيضا وإن كان بغير عينه فإن كان خمرا وأسلمت
المرأة فحقها في ذمة الزوج في قيمة الخمر
ويبرأ الكفيل من الكفالة لأنها طالبته وما في
ذمة الكفيل بمنزلة بدل القرض فإنه غير واجب
بالنكاح بل إنما وجب بالكفالة فيسقط بإسلام
الطالب لا إلى بدل فأما في ذمة الزوج فصداق
وإسلامها يحول الحق إلى قيمة الخمر في صداق
بغير عينه عند أبي حنيفة رحمه الله وإن أسلم
الزوج فحقها عليه في قيمة الخمر وإن شاءت
طالبت الكفيل بالخمر لأن الأصيل ما بريء
بإسلامه بل تحول إلى القيمة في حقه لتعذر
تسليم عين الخمر عليه ولم يتعذر ذلك على
الكفيل فإن استوفت الخمر من الكفيل لم يكن
للكفيل أن يرجع على الزوج بشيء لأنه بمنزلة
المقرض من الأصيل وعند أبي حنيفة رحمه الله
إسلام المستقرض يسقط الخمر لا إلى بدل وإن
أسلم الكفيل فإنها ترجع على الزوج بالخمر وقد
بريء الكفيل لأن ما في ذمته بمنزلة القرض
وإسلام المطلوب عنده يسقط الخمر لا إلى بدل
وإن كان خنزيرا بغير عينه فإن أسلمت
ج / 20 ص -24-
المرأة
فلها مهر مثلها على الزوج ولا شيء على الكفيل
من ذلك لأن الخنزير قد سقط ومهر المثل دين
حادث على الزوج والكفيل لم يكفل به.
وإن أسلم الزوج فكذلك الجواب لأن الزوج قد
بريء عن الخنزير أصلا فيبرأ الكفيل ببراءته
ومهر المثل دين حادث على الزوج فليس على
الكفيل منه شيء وإن أسلم الكفيل سقط عنه
الخنزير لا إلى بدل ولها على الزوج الخنزير أو
قيمته على حاله فأما على قول أبي يوسف رحمه
الله فالجواب في الفصول كلها كما هو قول أبي
حنيفة رحمه الله في الخنزير بعينه وعلى قول
محمد رحمه الله الجواب في الفصول كلها كجواب
أبي حنيفة رحمه الله في الخمر بغير عينها إلا
في فصلين أحدهما فيما إذا أسلم الزوج وأدى
الكفيل عين الخمر فعند محمد رحمه الله يرجع
الكفيل على الزوج بقيمة الخمر لأنه مطلوب في
حقه وإسلام المطلوب عند محمد رحمه الله يسقط
الخمر إلى القيمة. والثاني فيما إذا أسلم
الكفيل عند محمد رحمه الله فلها الخيار إن
شاءت رجعت على الزوج بالخمر وإن شاءت على
الكفيل بقيمة الخمر لأن الكفيل مطلوب في حقها
وإسلام المطلوب عنده يسقط الخمر إلى القيمة.
ولو كفل الذمي بالخمر عن الذمي لمسلم فهو باطل
لأن المسلم لا يستوجب الخمر دينا على أحد ولا
يكون له الخمر أيضا عينا مضمونة على أحد فلا
تصح الكفالة بها له وكذلك إن كفل عن مسلم لذمي
بخمر لأن الخمر لا يكون دينا في ذمة المسلم
لأحد والكفالة بما ليس بواجب في ذمة الأصيل
باطلة
وكذلك لو كفل مسلم لذمي عن ذمي بخمر فهو باطل
لأن المسلم لا يلتزم الخمر بشيء من العقود
لأحد فكذلك بالكفالة لأن الخمر ليس بمال متقوم
في حق المسلم وكفالة الذمي بالخمر للعبد
التاجر الذمي
والمكاتب الذمي جائزة وإن كان مولاهما مسلما
لأنهما يتصرفان لأنفسهما والمعتبر في التصرف
في الخمر في حقهما دينهما لا دين مولاهما فإن
كانا ذميين جازت الكفالة لهما بالخمر كما لو
كانا حربيين وإذا كاتب الذمي عبدين له ذميين
على خمر مسماة وكل واحد منهما كفيل عن الآخر
فأسلم أحدهما صارت كلها قيمة لأن جواز العقد
كان باعتبار أنهما في هذا العقد كشخص واحد
ولولا ذلك لم يصح لاعتبار معنى الكفالة فإذا
كانا كشخص واحد يجعل إسلام أحدهما في حكم
التحول من الخمر إلى القيمة كإسلامهما.
توضيحه أنه لا يعتق واحد منهما إلا إذا أدى
جميع البدل إلى المولى ولو تحول نصيب المسلم
منهما إلى القيمة وبقي نصيب النصراني منهما
خمر التميز ما على أحدهما مما على الآخر فيعتق
أحدهما بأداء ما عليه وذلك خلاف شرط المولى
فإما أن يبقى الكل خمرا أو يتحول قيمة وإبقاؤه
خمرا بعد إسلام أحدهما لا يصح فيتحول الكل إلى
القيمة وكذلك إذا كان عبد واحد مكاتب لذميين
على خمر فأسلم أحدهما لما بينا أنه لا يتميز
نصيب أحدهما عن نصيب الآخر وقد صح تحول نصيب
المسلم منهما إلى القيمة فيتحول نصيب الآخر
أيضا ضرورة.
ج / 20 ص -25-
ولو
كاتب النصراني عبدا مسلما وعبدا نصرانيا على
خمر وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه لم يجز
لأنهما كشخص واحد في هذا العقد وقد بطل نصيب
المسلم فكذلك النصراني إذ لو جوزنا العقد في
نصيب النصراني لا يبقى جعل المسلم كفيلا به
والمولى ما رضي إلا بذلك ولو غصب ذمي من ذمي
خمرا أو خنزيرا فكفل به عنه مسلم لم يجز إن
كانا قائمين لأن المسلم كما لا يلتزم الخمر
والخنزير في ذمته دينا بالعقد فكذلك لا يلتزم
تسليم عيني الخمر والخنزير بالعقد وإن كانا قد
هلكا قبل الكفالة صارت الكفالة بما عليه من
ضمان الخنزير ولم يجز في الخمر لأن الخمر
مضمونة على الغاصب بالمثل فالكفيل المسلم إنما
يلتزم الخمر في ذمته بالكفالة وذلك لا يجوز
فأما الخنزير فمضمون بالقيمة والقيمة دراهم
فصح التزام ذلك بالكفالة ولو كان الغاصب مسلما
جازت كفالته عنه في الخمر أيضا بعد هلاكها لأن
خمر الذمي مضمونة على المسلم بالقيمة كالخنزير
والقيمة دراهم فإذا كانت الكفالة تكون بالقيمة
بعد هلاكها فهذا مسلم التزم دراهم هي دين على
الأصيل بالكفالة وذلك صحيح.
باب الكفالة بالمال
قال رحمه الله: وفيه
حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين
مقضى والزعيم غارم والمنحة نوع من العارية"
ولكن فيها معنى العطية فإن من أعار غيره شاة
أو ناقة ليشرب لبنها يسمى ذلك منحة ولهذا قلنا
أن من منح غيره شيئا يمكن الانتفاع به مع بقاء
عينه كالدار والدابة والثوب يكون عارية ولا
يكون منحة وإن منحه شيئا لا يمكن الانتفاع به
مع بقاء عينه يكون هبة لا عارية والإعارة في
مثله تكون قرضا وفيه دليل أن رد العارية على
المستعير ورد المنحة على الممنوح له لأن منفعة
النقل حصلت له وقضاء الدين يستحق على المديون
بقوله والدين مقضى ومقصوده آخر الحديث وهو
قوله والزعيم غارم معناه الكفيل ضامن أي ضامن
لما التزمه من مال أو تسليم نفس على معنى أنه
مطالب به.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم إلى أجل فقال
له رجل إذا حل أجل مالك على فلان فلم يوفك
مالك فهو علي أو قال إن حل فهو علي فهو جائز
على ما قال لأن حلول المال على الأصيل سبب
لتوجه المطالبة عليه والكفالة التزام المطالبة
فيجوز إضافتها إلى وقت توجد المطالبة به على
الأصيل وتعليقها به وكذلك لو قال إن مات فلان
قبل أن يوفك مالك فهو علي لأن موت المديون سبب
لحلول الأجل وتوجه المطالبة بقضاء الدين فيجوز
تعليق الكفالة به بخلاف ما إذا علقه بموت رجل
آخر وإذا ادعى الكفيل بعد موته أو بعد حلول
المال أن المطلوب قد كان قضاه قبل ذلك لم يصدق
لأن السبب الموجب لتوجه المطالبة على الكفيل
قد تقرر وقد يدعي مانعا ما لم يظهر وهو قضاء
المطلوب حقه ولو ادعى المطلوب ذلك بنفسه لم
يصدق إلا بحجة فكذلك إذا ادعاه الكفيل ولو كان
حالا فقال إن لم يعطك
ج / 20 ص -26-
فلان
مالك فهو علي فتقاضى الطالب المطلوب فلم يعطه
ساعة تقاضاه فهو لازم الكفيل لأن الشرط امتناع
المطلوب من الإعطاء وإنما يتحقق بعد ذلك
التقاضي فكما تقاضاه وامتنع من الأداء فقد وجد
شرط وجوب المال على الكفيل ولأن مقصود الكفيل
من هذا دفع مؤنة كثرة التقاضي عن الطالب فإنه
يتأدى بذلك وإنما يحصل ذلك إذا صار الكفيل
ملتزما عند امتناع المطلوب بعد التقاضي.
وذكر عن شريح رحمه الله أنه قضى بكفالة وقال
إن الكفيل غارم وفيه دليل جواز الكفالة مطلقا
لكن لا يكون مستحق التسليم حتى يتحقق أن
الكفيل غارم له وإذا كفل الرجل عن رجل بمال
فللطالب أن يأخذ به أيهما شاء وبمطالبة أحدهما
لا يسقط حقه في مطالبة الآخر بخلاف الغاصب مع
غاصب الغاصب وقد بينا نوع فرق بينهما ونوع آخر
وهو أن هناك الحق قبل أحدهما فيعين من عليه
الحق باختياره وهنا أصل الدين بعد الكفالة على
الأصيل كما كان قبله ألا ترى أنه يكتب في
الصكوك لفلان على فلان كذا وفلان به كفيل
وموجب الكفالة زيادة الحق للطالب في المطالبة
وإنما يتحقق ذلك إذا توجهت المطالبة له عليهما
فلا تكون مطالبة أحدهما مسقطه حقه في مطالبته
الآخر فإذا أخذ الكفيل به كان للكفيل أن يأخذ
المكفول به فيعامله بحسب ما يعامل وليس له أن
يأخذ المال من الأصيل حتى يؤديه لأنه قبل
الأداء مقرض للذمة فلا يرجع بالمال حتى يؤديه
فحينئذ يصير به متملكا ما في ذمة الأصيل ولكن
إن قضاه الأصيل فهو جائز لأن أصل الوجوب ثبت
للكفيل على الأصيل وإن كان حق الاستيفاء
متأخرا إلى أدائه وتعجل الدين المؤجل صحيح.
فإذا قبضه الكفيل وتصرف فيه كان ما ربح حلالا
له لأنه ملك المقبوض ملكا صحيحا فالربح الحاصل
لديه يكون له ولو هلك منه كان ضامنا لأنه قبضه
على وجه اقتضاء الدين الذي له على الأصيل وعلى
وجه الاقتضاء يكون مضمونا على المقتضي ولو
اقتضاه الطالب من الذي عليه وهو الأصيل فله أن
يرجع على الكفيل بما أعطاه لأنه إنما أعطاه
ذلك ليسلم له به ما في ذمته بأن يؤديه الكفيل
عنه فإذا لم يسلم له كان له أن يرجع عليه بما
أعطاه ولو لم يكن دفعه إلى الكفيل في الابتداء
على طريق القضاء ولكن قال أنت رسولي بها إلى
فلان الطالب فهلك من الكفيل كان مؤتمنا في ذلك
لأنه استعمله حين بعث بالمال على يده إلى
الطالب ولو استعمل في ذلك غيره كان أمينا فيه
فكذلك إذا استعمل الكفيل حتى إذا أداه المطلوب
إلى الطالب بعد ذلك لا يرجع على الكفيل بشيء.
وإن أدى الكفيل إلى الطالب رجع به على الأصيل
فهلاك الأمانة في يده كهلاكها في يد صاحبها
ولو لم يهلك منه ولكنه عمل به وربح أو وضع
كانت الوضيعة عليه لأنه مخالف بما صنع والربح
له يتصدق به في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يطيب له
بمنزلة المودع إذا تصرف في الوديعة وربح ولو
كان الدين طعاما فأرسل به الأصيل مع الكفيل
إلى الطالب فتصرف فيه الكفيل فربح فهذا والأول
سواء ولو أعطاه
ج / 20 ص -27-
الطعام
اقتضاء عما كفل به فباعه وربح فيه فإن أبا
حنيفة رحمه الله يقول الربح له ولو تصدق به
كان أحب إلي وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله يطيب له الربح فالحاصل أن الكفيل إن قضى
الطالب طعامه فالربح يطيب له لأنه استربح على
ملك صحيح له وإن قضى المطلوب طعامه حتى رجع
على الكفيل بالطعام الذي أعطاه فالربح يطيب
للكفيل في رواية كتاب البيوع لأن أصل ملكه كان
صحيحا فبأن وجب عليه الرد بعد ذلك لا يمكن خبث
في الربح وفي الجامع الصغير يقول يرد الأصل
والربح على الأصيل عند أبي حنيفة رحمه الله
لأنه إنما رضي بتسليمه إليه بشرط ولم يسلم له
ذلك الشرط ولكن مراده أن يفتي برد الربح عليه
من غير أن يجبر عليه في الحكم وهنا قال يتصدق
بالربح لأنه يمكن فيه نوع خبث حين كان قبضه
بشرط ولم يسلم ذلك الشرط للمعطي فيؤمر بالتصدق
به على سبيل الفتوى بخلاف ما تقدم من الدراهم
فإنها لا تتعين في العقد فلم يكن ربحه حاصلا
على عين المال المقبوض فأما الطعام يتعين
فإنما ربح على غير المقبوض فيتمكن فيه الخبث
من هذا الوجه.
وإذا قال الرجل للرجل اكفل عني لفلان بكذا
وكذا فهذا إقرار منه بالمال إن كفل به أو لم
يكفل لأنه أمره بالكفالة عنه ولا تكون إلا بعد
وجوب المال على الأصيل فإن الكفيل إما أن
يلتزم المطالبة بما هو واجب على الأصيل أو
يقرض ذمته على أن يثبت فيها ما هو واجب في ذمة
الأصيل فيقتضي أمره بذلك الإقرار وجوب المال
عليه والثابت بمقتضى النص كالثابت بالنص فكأنه
قال لفلان علي ألف درهم فاكفل بها عني وإذا
كان لرجل على رجل ألف درهم إلى أجل فكفل بها
عنه رجل ولم يسمه في الكفالة إلى أجل فالكفيل
بها ضامن للأصيل وإن لم يسمه لأنه يلتزم
المطالبة التي هي على الأصيل والمطالبة على
الأصيل بهذا المال بعد حلول الأجل فكذلك على
الكفيل أو يلتزم في ذمته ما هو ثابت في ذمة
الأصيل والثابت في ذمة الأصيل مؤجل إلى سنة
فكذلك لو كان في ذمة الأصيل زيوف تثبت في ذمة
الكفيل بتلك الصفة وهذا بخلاف الشفيع إذا أخذ
الدار بالشفعة والثمن مؤجل على المشتري لا
يثبت الأجل في حق الشفيع لأن الأخذ بالشفعة
بمنزلة الشراء وهو سبب مبتدأ لوجوب الثمن به
على الشفيع فلا يثبت الأجل فيه إلا بالشرط
فأما الكفالة فليست بسبب لوجوب المال بها
ابتداء ولكنها التزام لما هو ثابت فلا يثبت
إلا بتلك الصفة.
فإن مات الكفيل قبل الأجل فهو عليه حال يؤخذ
من تركته لأنه بالموت استغنى عن الأجل ولأنه
يتصور لإبقاء الأجل بعد موته لأن يد وارثه لا
تنبسط في التركة لقيام الدين وربما يهلك قبل
حلول الأجل والأجل كان لمنفعة من عليه الدين
فإذا أدى إلى الضرر سقط ولكن لا يرجع ورثته
على الذي عليه الأصيل حتى يحل الأجل لأن الأجل
باق في حق الأصيل لبقاء حاجته حتى لا يطالبه
الطالب بشيء فكذلك ورثة الكفيل ولو مات الأصيل
قبل الأجل حلت عليه لاستغنائه عن الأجل ولم
يحل على الكفيل لبقاء حاجته إلى الأجل.
ج / 20 ص -28-
وليس
من ضرورة حلوله على الأصيل سقوط الأجل في حق
الكفيل ألا ترى أنه لو كان أصل المال حالا ثم
أجل الكفيل فيما عليه صح وبقي المال على
الأصيل حالا والثابت بالضرورة لا يعدو موضع
الضرورة.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم حالة فكفل بها
رجل إلى سنة فهو جائز إلى ذلك الأجل وهذا
تأخير عن الذي عليه الأصل قال ألا ترى أنه لو
كان عليه ذكر حق بألف درهم وفلان كفيل بها إلى
سنة كانت عليهما جميعا إلى سنة وعن زفر رحمه
الله أن المال على الأصيل حال لأنه أجل الكفيل
خاصة والتأجيل إسقاط للمطالبة إلى غاية فإذا
كان إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل
فالتأجيل في حق الكفيل لا يمنع كون المال حالا
على الأصيل ولكنا نقول إنما أجل الطالب هنا
أصل الدين لأن الهاء في قوله فكفل بها إلى سنة
كناية عن أصل المال وإضافة التأجيل إلى أصل
المال يثبت الأجل في حق الأصيل والكفيل جميعا
حتى لو أجل الكفيل بما التزم بالكفالة يبقى
المال حالا على الأصيل وهكذا يقول في الإبراء
إذا أضافه إلى أصل المال يكون إبراء لهما وإذا
أضافه إلى الكفيل خاصة يكون موجبا براءة
الأصيل وإذا كفل له بألف درهم لفلان على أن
يعطيها إياه من وديعة لفلان عنده فهو جائز
لأنه قبل الالتزام بمحل مخصوص وهو أن يؤديه
بما في يده وذلك صحيح في الكفالة والحوالة
جميعا فإن هلكت الوديعة فلا ضمان على الكفيل
لانعدام الجناية ولا فرق في حقه بين التزام
أداء الوديعة إلى صاحبها أو غريم صاحبها بأمر
صاحبها فإذا لم يضمن الوديعة فقد فات المحل
الذي التزم فيه التسليم للطالب وقد بينا أن
فوات المحل مبطل للكفالة.
ولو كان لرجل عند رجل ألف درهم وديعة وعلى رب
الوديعة ألف درهم دين وطلب من الذي عنده
الوديعة التزام أداء ذمته بمحل مخصوص وهو
تقييد مفيد في حقه حتى لا يكون ضامنا في ذمته
شيئا بعد هلاك ذلك المال ثم ليس لصاحب الوديعة
أن يأخذها من الكفيل لا عن حق الغريم وقد تعلق
بها ولأنه التزم أداء دينه منها بأمره ولا
يتمكن من ذلك إلا بعد كونها في يده فإذا هلكت
بريء الكفيل منها لما بينا والقول قوله في
أنها هلكت لأنه بقي أمينا في العين بعد هذه
الكفالة كما كان قبلها فيكون مقبول القول في
هلاكها وإن اغتصبها إياه رب الوديعة أو
اغتصبها إياه إنسان آخر فاستهلكها بريء الكفيل
لما بينا أن وجوب الأداء عليه كان مقصورا على
العين ما بقيت في يده فإنه ما التزم في ذمته
شيئا فإذا لم تبق العين في يده لا يكون ضامنا
شيئا وكذلك لو ضمن له ألف درهم على أن يعطيها
إياه من ثمن هذه الدار فلم يبعها لم يكن عليه
ضمان لأنه التزم الأداء من محل مخصوص وهو ثمن
الدار ولا يحصل ثمن الدار في يده ما لم يبع
الدار وهو لم يلتزم بيعها على ذلك فلهذا لا
يطالب بشيء ما لم يبع الدار ويقبض الثمن.
ولو كفل رجل عن رجل بمال على أن يجعل له جعلا
فالجعل باطل هكذا روي عن إبراهيم رحمه الله
وهذا لأنه رشوة والرشوة حرام فإن الطالب ليس
يستوجب بهذه الكفالة
ج / 20 ص -29-
زيادة
مال فلا يجوز أن يجب عليه عوض بمقابلته ولكن
الضمان جائز إذا لم يشترط الجعل فيه وإن كان
الجعل مشروطا فيه فالضمان باطل أيضا لأن
الكفيل ملتزم والالتزام لا يكون إلا برضاه
ألا ترى أنه لو كان مكرها على الكفالة لم
يلزمه شيء فإذا شرط الجعل في الكفالة فهو ما
رضي بالالتزام إذا لم يسلم له الجعل وإذا لم
يشترطه في الكفالة فهو راض بالالتزام مطلقا
فيلزمه وكفالة المرتد موقوفة عند أبي حنيفة
رحمه الله بنفس كانت أو بمال كسائر تصرفاته
وكفالة المرتدة جائزة وإن ماتت على الردة
كسائر تصرفاتها فإنها لا تقبل بخلاف الرجل
وهذا فرق ظاهر في السير فإن لحقت بدار الحرب
وسبيت بطلت الكفالة بالنفس دون المال لأنها
لما لحقت وسبيت فكأنها ماتت ألا ترى أن مالها
لورثتها وموت الكفيل يبطل الكفالة بالنفس دون
المال وفي الكتاب قال هي بمنزلة أمة كفلت بنفس
لأن الكفالة بالنفس لما كانت لا تتحول إلى
المال وقد صارت هذه أمة بالاسترقاق فكأنها
كفلت ابتداء وهي أمة فلا تطالب بذلك لحق
مولاها وأما الكفالة بالمال فقد تحولت إلى ما
خلفت من المال فكأن وارثها مطالبا بقضاء ذلك
ولكن التعليل الأول أصح لما ذكر بعد هذا.
قال وإن أعتقت يوما من الدهر لم تؤخذ بالكفالة
بالنفس ولا بالمال وقد أبطل السبي كل كفالة
وكل حق قبلها ولو كان هذا بمنزلة ابتداء
الكفالة منها وهي أمة كانت تؤخذ بذلك بعد
العتق فعرفنا أنه لما تبدلت نفسها بالرق كان
ذلك بمنزلة موتها على ما قيل الحرية حياة
والرقية تلف فبطلت الكفالة بالنفس أصلا وتحول
المال إلى مال فلا يعود شيء من ذلك إليها بعد
العتق ولو كفل مسلم بنفس مرتد في دين عليه
فلحق بدار الحرب أو ارتد بعد الكفالة ولحق كان
الكفيل على كفالته وقد بينا هذا الفصل بفروعه
في أول الكتاب فإن كانت امرأة فسبيت بطلت
الكفالة عنها بالنفس دون المال لأنها حين سبيت
فقد سقطت عنها المطالبة بالحضور فيسقط عن
الكفيل ما التزم من الإحضار.
توضيحه أنها لما تبدلت نفسها بالاسترقاق
فكأنها ماتت وموت المكفول عنه بنفسه يبطل
الكفالة ولكن الكفيل مأخوذ بقضاء ذلك الدين
فإذا أداه رجع به فيما تركت في دار الإسلام
لأنه دين مؤجل كان له عليها بمنزلة سائر
ديونها فإن لم يكن شيء تركت وأدى الكفيل ذلك
ثم إن عتقت يوما لم يتبعها من ذلك بشيء لأن
السبي أبطل عنها كل دين فإن نفس المسبي تتبدل
بالاسترقاق من صفة المالكية إلى المملوكية
والدين لا يجب على المملوك إلا شاغلا لماليته
وهذا الدين حين وجب لم يكن شاغلا لشيء سوى
الذمة وقد تعذر إبقاؤه بتلك الصفة فلهذا سقط
عنها وكذلك الذمي والذمية إذا انقضى العهد
ولحقا بالدار وقد كفل رجل عنهما بنفس أو مال
فإن الكفيل يؤخذ بذلك فإن ماتا أو سبيا بطلت
الكفالة بالنفس دون المال فإن أداه ثم عتقا لم
يرجع عليهما به لما بينا في المرتدة ولا تجوز
كفالة المرتد عن الذمي بالخمر والخنزير لأن
حكم الإسلام باق في حق المرتد فإنه مجبر على
العود إلى الإسلام غير مقر على ما اعتقده فكما
لا تجوز كفالة المرتد بالخمر فكذلك كفالة
ج / 20 ص -30-
المرتد
وعلى هذا لو استهلك المرتد خمر الذمي كان عليه
قيمتها كما لو استهلكها مسلم فإن كفل بها عنه
مسلم جاز لأن القيمة الواجبة عليه دراهم أو
دنانير ولو كفل مسلم لمرتد بنفس أو مال ثم لحق
المرتد بدار الحرب كان ورثته على حقه من
الكفالة لأنهم يخلفونه في حقوقه بعد لحاقه كما
يخلفونه في أملاكه. فإن رجع ثانيا كان له أن
يأخذ الكفيل بالنفس والمال لأن ما كان قائما
من حقوقه يعود إليه إذا رجع ثانيا بمنزلة ما
هو قائم من أملاكه وإن كان ورثته قد استوفوا
بقضاء القاضي فالكفيل من ذلك بريء بمنزلة ما
هلك من ماله وهذا لأن الأداء إلى وارثه بقضاء
القاضي بمنزلة الأداء إليه فيبرأ الكفيل به
وكفالة المستأمن والكفالة له بمال أو نفس
جائزة لأنه من المعاملات وإنما دخل دارنا
بأمان ليعاملنا ففي المعاملات يستوي بنا فإن
لحق بداره ثم خرج مستأمنا فالكفالة بحالها
لأنه باللحاق صار من أهل دار الحرب حقيقة بعد
أن كان من أهلها حكما فهو قياس ما بينا في
المرتد وإن أسر بطلت الكفالة فيما له لأن نفسه
قد تبدلت بالأسر وذلك مبطل لحقوقه ولم يخلفه
ورثته في ذلك بخلاف المرتدة على ما بينا.
فأما فيما عليه فتبطل الكفالة بالنفس لتبدل
نفسه بالأسر كما في المرتدة وبالمال كذلك هنا
لأن في المرتدة المال يتحول إلى ما خلفت وليس
هنا محل هو خلف عنه فلهذا بطلت الكفالة بالمال
أيضا ومكاتب الحربي إذا كان مستأمنا في دار
الإسلام وعبده بمنزلة عبيد أهل الذمة ومكاتبهم
في جميع ذلك لأن في المعاملات هم بسبب عقد
الضمان يكونون بمنزلة أهل الذمة فكذلك عبيدهم
ومكاتبوهم والله أعلم بالصواب.
باب كفالة الرهط بعضهم عن بعض
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل ألف
درهم فكفل بها عنه ثلاثة نفر وبعضهم كفيل عن
بعض وكلهم ضامنون ذلك فهو جائز لأن كل واحد
منهم كفيل عن الأصل بجميع المال وذلك جائز فإن
الكفالة للتوثق بالحق وهو يحتمل التعدد ثم كفل
كل واحد منهم عن الآخرين بما لزمهما بالكفالة
والكفالة عن الكفيل صحيحة لأن الكفيل مطلوب
بما التزمه وشرط صحة الكفالة أن يكون المكفول
عنه مطلوبا بما التزمه الكفيل لأن موجب
الكفالة التزام المطالبة بما على الأصيل فإن
أدى أحد الكفلاء المال كان له أن يرجع على
الأصيل بالمال كله إن شاء لأنه أدى ما تحمل
عنه بأمره وإن شاء رجع على شريكيه فإن الكفالة
بثلثي المال لأنهم في حكم الالتزام بهذه
الكفالة سواء فينبغي أن يستووا في الغرم وإن
شاء أخذ أحدهما بالنصف لأنه إذا لقي أحدهما
قال له أنا وأنت في غرم الكفالة سواء لأنا
جميعا كفيلان عن الأصيل وعن الثالث أيضا فهات
نصف ما أديت لنستوي في الغرم ثم إذا رجع عليه
بالنصف رجعا على الثالث إذا لقياه بثلث المال
فيأخذان ذلك نصفين ليستوي هو بهما في عدم
الكفالة ثم يرجعون على الأصيل بالمال كله
لأنهم كفلوا عنه بأمره وأدوه.
ولو كان ثلاثة نفر عليهم ألف درهم وبعضهم كفيل
عن بعض فأدى المال أحدهم,
ج / 20 ص -31-
فإن
للمؤدي أن يرجع على كل واحد من الآخرين بالثلث
إن شاء لأن كل واحد منهم أصيل في ثلث المال
والمؤدي قد كفل عن كل واحد منهما في ذلك الثلث
بأمره وإن شاء رجع على أحدهما بالنصف أما
الثلث فلأنه كفل عنه وأدى وأما السدس فلأن
المؤدي مع الذي لقيه كفيلان عن الثالث بما
عليه وهو الثلث فينبغي أن يكون غرم هذه
الكفالة عليهما على السواء فيرجع عليه بنصف
هذا الثلث لتتحقق المساواة بينهما في الغرم ثم
يرجعان على الثالث إذا لقياه بالثلث فيأخذان
ذلك بينهما نصفين وفي الكتاب ذكر عن عبد الله
بن الجلاب أنه باع قوما غنما على أن يأخذ أيهم
شاء بحقه فأبى شريح رحمه الله ذلك وقال اختر
أملاهم فخذه حتى تستوفي منه حقك وإنما أوردنا
هذا لنبين أنه يجوز أن يكون المال عليهم ويكون
بعضهم كفيلا عن بعض بما على كل واحد منهم لما
في هذا من زيادة التوثق لحق صاحب الحق فإن
بدون هذه الكفالة لم يكن له أن يطالب كل واحد
منهم إلا بما عليه وهو الثلث وبعد هذه الكفالة
له أن يطالب أيهم شاء بجميع المال مع بقاء حقه
في المطالبة الأصلية وهو أن يطالب كل واحد
منهم بالثلث ولا فرق في هذا الحكم بين أن
يشترط أن يأخذ أيهم شاء بحقه كما ذكر في
الحديث وبين أن يشترط أن بعضهم كفيل عن بعض
بالمال أو لم يقل بالمال لأن ذلك معلوم بدلالة
الكلام وإن كان قال مليئهم على معدمهم أو حيهم
على ميتهم فليس هذا بشيء ولا يطالب كل واحد
منهم إلا بثلث المال لأن هذه كفالة بالمجهول
على المجهول ولا يدري من يفلس منهم ليكون
المليء كفيلا عنه ولا من يموت منهم ليكون الحي
كفيلا عنه فإن حرف على في هذه المسائل بمعنى
عن كقوله تعالى:
{إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[سورة المطففين, آية:2] أي عن الناس وكفالة المجهول باطلة وإذا كان
لرجل على أربعة نفر ألف درهم ومائتا درهم وكل
اثنين منهم كفيلان عن اثنين بجميع المال فإن
للطالب أن يأخذ أي اثنين منهم بجميع المال إن
شاء وأن يأخذ الواحد منهم بسبعمائة وخمسين
درهما أما أخذه اثنين منهم بجميع المال فظاهر
لأن الكفالة كانت على هذه الصفة أن كل اثنين
كفيلان بجميع المال عن الآخر فأي اثنين منهم
شاء فهما كفيلان بجميع المال وأما إذا أخذ
الواحد منهم ففي ربع المال وهو ثلاثمائة هو
أصيل فيطالبه بذلك وفي الباقي وهو تسعمائة هو
مع واحد من الآخرين كفيل لأن الشرط في الكفالة
كان هكذا.
وإنما يكون هو مطالبا بالكل إذا التزم الكل
بالكفالة فأما إذا التزم الكل بالكفالة مع آخر
لم يكن هو مطالبا إلا بالنصف وذلك أربعمائة
وخمسون فإذا ضممت ذلك إلى ثلاثمائة يكون
سبعمائة وخمسين فلهذا يأخذ الواحد بهذا
المقدار فإذا أدى أحدهم نصف المال ستمائة ففي
هذا النصف هو مؤد عن نفسه فلا يرجع على أحد
بشيء منه وفي النصف الآخر وهو ثلاثمائة هو مؤد
عن شركائه بحكم الكفالة عنهم بأمرهم فإن شاء
رجع عليهم جميعا وإن لقي أحدهم رجع عليه
بمائتي درهم لأن ثلث هذه الثلاثمائة وهو مائة
أداها عنه فيرجع
ج / 20 ص -32-
هو بها
عليه بقي مائتا درهم وهو مع هذا الذي لقيه
كفيلان عن الآخرين بهما فيرجع عليه بمائة أخرى
ليستويا في غرم الكفالة عن الآخرين فلهذا رجع
عليه بمائتين وإن لقيا آخر كان لكل واحد منهما
أن يرجع بستة وستين درهما وثلثين إما ليستووا
في غرم المائتين أو لأن كل واحد منهما مؤد عنه
خمسين فيرجع بذلك عليه بقي مائة أخرى هما مع
هذا الثالث كفيلان بذلك عن الرابع وقد أديا
فيرجعان عليه بثلث ذلك وهو ثلاثة وثلث كل واحد
منهما بستة عشر وثلثين فصار حاصل ما يرجع به
كل واحد منهما عليه ستة وستين وثلثين فإن لقوا
الرابع بعد ذلك رجع كل واحد منهم عليه بثلاثة
وثلاثين درهما وثلث درهم لأنهم أدوا عن الرابع
قدر المائة فيرجع كل واحد منهما بثلثها ولو
كان أدى النصف ولقي أحدهم فأخذ منه مائتي درهم
ثم لقي صاحب المائتين أحد الباقين فإنه يأخذ
منه خمسة وسبعين درهما لأنه يقول له إنما أديت
المائة عن نفسي ومائة أخرى عنك وعن الرابع
فإنما أديت نصفها عنك والنصف الآخر الذي أديته
عن الرابع أنت معي فيه في الكفالة بذلك على
السواء فأرجع عليك بنصف ذلك أيضا فلهذا يأخذ
منه خمسة وسبعين فإن لقي الأول الثالث أيضا
أخذه باثنين وستين درهما ونصف لأنه يقول له قد
أديت عنك وعن الرابع مائة فارجع عليك بنصف ذلك
وذلك خمسون لأني أديتها عنك وأما الخمسون التي
أديتها عن الرابع فنصف ذلك قد أخذه منك الثاني
وهو خمسة وعشرون فرجوعنا بذلك عليه بقي خمسة
وعشرون فأرجع عليك بنصف ذلك وهو اثنا عشر ونصف
لنستوي في غرم الكفالة عن الرابع فصار حاصل ما
يرجع عليه به اثنين وستين درهما ونصف درهم فإن
لقيهما الأوسط رجعا عليه بثمانية وثلث بينهما
نصفين ليستووا في الغرم في حق الخمسين التي
كفلوا بها عن الرابع فإن لقوا الآخر بعد ذلك
أخذوه بمائة درهم لأنهم في الحاصل كفلاء عنه
بالمائة وقد أدوا فيأخذون ذلك منه ويقتسمونه
أثلاثا لأن حاصل ما غرم كل واحد منهم عنه بعد
هذه المراجعات ثلاثة وثلاثون وثلث.
ولو كان الذي أدى النصف لقي الذي قبض الخمسة
والسبعين فإنه يأخذ منه نصفها لأنا كنا قد
التقينا مرة واستوينا في غرم الكفالة وقد
بلغني أنه وصل إليه شيء من الثالث فلا بد من
أن يعطيني نصف ذلك لنستوي في الغنم كما
استوينا في الغرم فإذا أخذ منه نصفها ثم لقيا
الذي أدى الخمسة والسبعين رجعا عليه بثمانية
وخمسين وثلث بينهما نصفان لأنا قد بينا أنهما
لو لقياه معا رجع كل واحد منهما عليه بستة
وستين وثلثين فيكون جملة ما يرجعان به مائة
وثلاثة وثلاثين وثلثا والآن قد استوفينا منه
مرة خمسة وسبعين فيرجعان بما بقي إلى تمام
مائة وثلاثة وثلاثين وثلث وذلك ثمانية وخمسون
وثلث يأخذان ذلك بينهما نصفين ثم إذا لقوا
الرابع اتبعوه بمائة كل واحد منهم بثلاثة
وثلاثين وثلث لما بينا.
ولو كان لرجل على ثلاثة رهط ألف ومائتا درهم
وبعضهم كفلاء عن بعض ضامنون لها فأدى أحدهم
المال رجع على كل واحد من شريكيه بثلث ما أدى
لأنه في مقدار الثلث
ج / 20 ص -33-
مؤد عن
نفسه وفي الثلثين هو مؤد عن شريكيه بكفالته
عنهما بأمرهما فيرجع بذلك عليهما فإن لقي
أحدهما ورجع عليه بالثلث لأدائه ما يحمله عنه
وبنصف الثلث الآخر أيضا لأنهما يستويان في
الكفالة عن الثالث بهذا الثلث فيرجع عليه
بنصفه ليستويا في غرم الكفالة فإن لقي أحدهم
الغائب بعد ذلك وأخذ منه شيئا كان لصاحبه إذا
لقيه أن يأخذ منه نصف ذلك بالمعنى الذي قلنا
وهو أنهما حين التقيا قد استويا في غرم
الكفالة عن الثالث فينبغي أن يستويا في الغنم
أيضا والذي أخذه أحدهما من الثالث غنم بسبب
تلك الكفالة فيرجع عليه بنصفه ليستويا في
الغنم أو لتبقى المساواة بينهما في الغرم كما
هو موجب الكفالة.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه
رجل ثم أن آخر كفل بها عن الأصيل أيضا فهو
جائز يأخذ الطالب أيهما شاء بجميع المال لأن
كل واحد منهما التزم جميع المال بالكفالة عن
الأصيل بعقد على حدة وذلك صحيح فإن أصل الدين
باق على الأصيل بعد الكفالة الأولى كما كان
قبلها فإن أخذ أحد الكفيلين فأداه لم يرجع على
الآخر بشيء لأنه ما كفل عنه بشيء وإنما كفل عن
الأصيل بعقد باشره وحده فيكون رجوعه عليه إن
كان كفل بأمره ولا يرجع على الكفيل الآخر بشيء
وإن لم يؤد واحد منهما شيئا حتى قال الكفيلان
للطالب كل واحد منا كفيل عن صاحبه ضامن لهذا
المال ثم أدى أحدهما المال فله أن يرجع على
صاحبه بالنصف لأنهما بالعقد الثاني جعلا
أنفسهما في غرم الكفالة سواء فإن كل واحد
منهما كفيل بالمال عن الأصيل وقد كفل عن صاحبه
أيضا بأمر صاحبه فإذا ثبتت المساواة بينهما في
الكفالة فينبغي أن يستويا في الغرم أيضا وذلك
في أن يرجع على الآخر بنصف ما أدى ثم يرجعان
على الأصيل بجميع المال.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه
بأمره رجل ثم أن الطالب أخذ الكفيل بها فأعطاه
كفيلا آخر بها ثم أداها الآخر إلى الطالب لم
يرجع بها على الأصيل لأنه ما تحمل بها عن
الأصيل ولا أمره الأصيل بهذه الكفالة وثبوت حق
الرجوع للكفيل عند الأداء بسبب الأصيل
بالكفالة فإنما يرجع على من أمره به وهو
الكفيل الأول ثم الكفيل الأول يرجع على الأصيل
لأن أداء كفيله بأمره بمنزلة أدائه بنفسه
ولأنه قد أسقط عن الأصيل مطالبة الطالب بهذا
المال بما أداه من مال نفسه إلى الكفيل الآخر
فكأنه أسقط ذلك بأدائه إلى الطالب وإن كان كفل
عن الذي عليه الأصل رجلان ولم يقل كل واحد
منهما كفلت عن صاحبي فإن الطالب يطالب كل واحد
منهما بالنصف لأنهما التزما المال بعقد واحد
فيكون كل واحد منهما ملتزما للنصف كالمشتريين
أو المقرين لرجل عليهما بالمال وأيهما أدى
النصف لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه ما التزم
عن صاحبه شيئا إنما التزم عن الأصيل فيكون
رجوعه عليه إن كان كفل عنه بأمره فإن لم يؤديا
شيئا حتى قالا للطالب أينا شئت أخذت بهذا
المال أو كل واحد منا كفيل ضامن بها فله أن
يأخذ أيهما شاء بجميع المال لأن هذه الزيادة
ألحقتها بالكفالة الأولى وقد صحت منهما فصارت
كالمذكور في أصل الكفالة الأولى
ج / 20 ص -34-
أخذ
أيهما شاء بجميع المال وإن أداه أحدهما رجع
على صاحبه بالنصف ليستويا في غرم الكفالة كما
استويا في كفالة كل واحد منهما عن صاحبه.
فإن لقي الطالب أحدهما فاشترط ذلك عليه مثل
ذلك بأمر صاحبه فهو سواء لأن كل واحد منهما
كفيل عن صاحبه وعن الأصيل ولا فرق بين أن يكون
كفالة كل واحد منهما عن الأصيل ولو كتب ذكر حق
على رجل بألف درهم وفلان وفلان كفيلان بهما
وأيهما شاء أخذ بها وأقر المطلوب والكفيلان
بذلك فهو جائز لأن إضافتهما الإقرار إلى
المكتوب في ذكر الحق بمنزلة تصريحهما بالمكتوب
فإن أدى أحد الكفيلين المال رجع على الذي عليه
الأصل بجميع المال إن شاء وإن شاء رجع على
الكفيل الآخر بنصفه ثم يرجعان على الأصيل
بجميع المال لأن إقرار كل واحد منهم بالمكتوب
في الصك بمنزلة أمر الأصيل لهما بالكفالة عنه
وأمر كل واحد منهما لصاحبه بالكفالة عنه فثبتت
المساواة بينهما في الكفالة بهذا الطريق.
وإذا كان لرجل على عشرة رهط ألف درهم وجعل كل
أربعة كفلاء عن أربعة بجميع المال فهو جائز
لما قلنا وله أن يأخذ أي أربعة شاء بالمال كله
لأنهم هكذا التزموا بالكفالة فإن أخذ واحدا
منهم رجع بثلثمائة وخمسة وعشرين لأنه في
المائة أصيل وفي الباقي وهو سبعمائة هو مع
ثلاثة نفر كفيل عن الباقين فحظه ربع ذلك وذلك
مائتان وخمسة وعشرون وإن أخذ اثنين أحدهما
بستمائة لأنهما في المائتين أصيلان وفي الباقي
وهو ثمانمائة هما مع آخرين كفيلان عن الباقين
فحظهما النصف وهو أربعمائة وإن أخذ ثلاثمائة
منهم أخذهم بثمانمائة وخمسة وعشرين أما مقدار
ثلاثمائة بحكم الأصالة فإن كل واحد منهما أصيل
في مائة والباقي وهو سبعمائة هم مع آخر كفلاء
بذلك عن الباقين فعليهم ثلاثة أرباع ذلك وهو
خمسمائة وخمسة وعشرون فإن أخذ واحدا منهم فأدى
ربع الألف فإن مائة منها حصته لأنه أصيل فيها
والأصيل فيما يؤدي عن نفسه لا يرجع على أحد
وفي مائة وخمسين هو مؤد عن أصحابه حصة كل واحد
منهم من ذلك التسع فإن لقيهم جميعا رجع على كل
واحد منهم بقدر ذلك من تسعمائة وخمسين ستة عشر
وثلثان وإن لقي أحدهم رجع أحدهم بستة عشر
وثلثين لأنه أدى عنه هذا القدر ويرجع عليه
بنصف ما بقي والباقي مائة وثلاثة وثلاثون وثلث
نصفه ستة وستون وثلثان يرجع عليه بذلك ليستويا
في غرم الكفالة فإنهما مستويان في الكفالة عن
الباقين فينبغي أن يستويا في الغرم بسببه أيضا
فإذا أدى ذلك إليه ثم لقي الآخر منهما أحد
الباقين أخذه بنصف تسع الخمسين والمائة لأنه
مع الأول قد أديا عنه التسع فنصفه من ذلك نصف
التسع فيرجع عليه أيضا بنصف ثلاثة أتساع ونصف
لأنه مع هذا الذي لقيه مستويان في الكفالة
فينبغي أن يستويا في الغرم عن السبعة الباقين
وهذا قد أدى عنهم ثلاثة أتساع ونصفا فيرجع
عليه بنصف ذلك ليستويا في غرم الكفالة فإن لقي
الأول الأوسط بعد ما قبض هذا رجع عليه بنصف ما
أخذه كله للمعنى الذي بينا أنهما حين التقيا
استويا في غرم
ج / 20 ص -35-
الكفالة ثم وصل إلى أحدهما بعد ذلك شيء وأخذ
الآخر منه نصفه ليستويا في الغنم أيضا فإن
لقيا الآخر بعد ذلك وهو الثالث رجعا عليه
بتمام ثلاثة أتساع وثلث تسع حصته من ذلك التسع
لأنهما تحملاه عنه وتسعان وثلث للمساواة في
غرم الكفالة لأنهم مع آخر كفلاء عن الباقين
فينبغي أن يستويا في غرم الكفالة.
ألا ترى أنهما لو لقيا الثالث معا كان رجوعهما
عليه بتمام ثلاثة أتساع وثلث تسع فكذلك إذا
أخذ أحدهما منه بعض ذلك ثم لقياه رجعا عليه
بذلك وإذا كان لرجل على ثلاثة رهط ألف درهم
وبعضهم كفلاء عن بعض بها فأدى أحدهم مائة درهم
لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه في قدر ثلث المال
أصيل فما يؤديه يكون أصيلا فيه فلا يرجع على
أحد بشيء إذا كان المؤدى بقدر الثلث أو دونه.
وإن قال إنما أديت هذا عن صاحبي أو عن أحدهما
لم يكن له ذلك على وجهين أحدهما أن فيما هو
أصيل المال ثابت في ذمته وفيما هو كفيل هو
مطالب بما في ذمته غيره من المال والمؤدى ماله
فيكون إيقاعه من المال الذي عليه ليسقط عنه به
أصل المال أولى لأن هذا الطريق أقصر فإنه إذا
جعل المؤدى من غيره احتاج إلى الرجوع وإذا جعل
مؤديا عن نفسه لا يحتاج إلى الرجوع على أحد
ولأنه إن جعل المؤدى عن صاحبيه كان لهما أن
يقولا أداؤه بالكفالة بأمرنا بمنزلة أدائنا
ولو أدينا كان لنا أن نجعل المؤدى عنك فلا
يزال يدور هكذا فلهذا جعلناه إلى تمام الثلث
مؤديا عن نفسه وهذا بخلاف ما إذا كاتب عبيدا
له على ألف درهم على أن كل واحد منهم كفيل
ضامن عن الآخرين ثم أدى أحدهم شيئا لا يكون
المؤدى عن نفسه خاصة بل يكون عنهم جميعا لأن
هناك لو جعلنا المؤدى عن المؤدي خاصة لكان
يعتق إذا أدى مقدار نصيبه ببراءة ذمته عما
عليه من البدل والمولى ما رضي بعتق واحد منهم
إلا بعد وصول جميع المال إليه ففي جعله عن
نفسه يعتبر شرط مذكور في العقد نصا وذلك لا
يجوز فلهذا جعلنا المؤدى من نصيبهم ولا يوجد
مثل ذلك هنا وهذا أيضا بخلاف ما إذا كان المال
على واحد فكفل به ثلاثة على أن بعضهم كفلاء عن
بعض ثم أدى أحدهم شيئا كان له أن يرجع على
صاحبيه بثلثي ما أدى وإن شاء رجع على أحدهما
بنصف ما أدى لأن هناك أصل المال على غيرهم وهم
يلتزمون له بالكفالة فكان حالهم في ذلك على
السواء ولو رجع على شريكيه بثلثي ما أدى لم
يؤد ذلك إلى الدور لأنهما لا يرجعان في ذلك
عليه بشيء من ذلك بخلاف ما نحن فيه على ما
قدرنا فإن أدى زيادة على الثلث كانت الزيادة
على صاحبيه نصفين لأنه في الزيادة على الثلث
مؤد بحكم الكفالة وهو كفيل عنهما ولو رجع بذلك
عليهما لم يكن لهما أن يرجعا عليه بشيء لفراغ
ذمته عما عليه بأدائه وإن أراد أن يجعل
الزيادة عن أحدهما دون صاحبه لم يكن له ذلك
لأن المال واحد وهو دين في الذمة لا يتحقق فيه
التمييز فتلغو نيته عن أحدهما.
فإن لقي أحدهما أخذه بنصيبه من الزيادة وهو
النصف لأنه أدى عنه ذلك وبنصف ما
ج / 20 ص -36-
أدى عن
الآخر أيضا لأنه مع هذا الذي لقيه كفيل عن
الآخر بما عليه فينبغي أن يستويا في غرم
الكفالة وذلك في أن يرجع عليه بنصف ما أدى عن
الآخر وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل
بها عنه رجلان على أن يأخذ الطالب أيهما شاء
فأدى أحدهما مائة فقال هذه من حصة صاحبي
الكفيل معي لم يكن على ما قال ولكنها من جميع
المال يرجع على صاحبه بنصفها لأن بهذا اللفظ
يصير كل واحد منهما مطالبا بجميع المال ويصير
كل واحد منهما ضامنا للأصيل عن صاحبه فإذا جعل
المؤدي ما أدى عن صاحبه كان لصاحبه أن يجعل
ذلك عنه فيؤدي إلى الدور ولكن الوجه فيه أنهما
لما استويا في الغرم وذلك في أن يرجع على
صاحبه بنصفها وإن شاء رجع على الأصيل بجميعها
وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد
منهما كفيل عن صاحبه فلزم أحدهما فأعطاه بها
كفيلا ثم أداها الكفيل فله أن يرجع بها على
الذي أمره بالكفالة خاصة لأن الذي أمره
بالكفالة مستقرض لذمته ابتداء بالتزام
المطالبة فيها ولما له بأداء ما التزم وثبوت
حق الرجوع للمقرض على المستقرض لا على غيره.
والغريم الذي لم يأمره بالكفالة لم يستقرض منه
شيئا ففي حقه يجعل كأنه لم يأمره أحد بالكفالة
فلهذا لا يرجع المؤدي عليه ولكن إذا رجع على
الذي أمره بالكفالة فأخذها منه كان للآمر أن
يرجع على صاحبه بالنصف لأنه صار مؤديا المال
بطريق الاستقراض الذي قلنا وقد تم ذلك بأدائه
ما استقرض وهو في النصف كان كفيلا بأمره فيرجع
عليه بعد الأداء كما لو كان أدى بنفسه إلى
الطالب وإن كانا طلبا إليه أن يكفل بها عنهما
ففعل ولم يشترط عليه أن بعضهم كفلاء عن بعض
فأداها الكفيل عنهما رجع على كل واحد منهما
بالنصف لأنه لما التزم بالكفالة المال عنهما
جملة كان كفيلا عن كل واحد منهما بنصف المال
كما هو قصد مطلق الإضافة إلى اثنين وعند
الأداء إنما يرجع كل واحد منهما بما كفل عنه
ولأن كل واحد منهما في النصف أصيل وكفالته عنه
إنما تكون فيما هو أصيل فيه ولو كان في الشرط
حين كفلوا بعضهم كفلاء عن بعض فأدى الآخر
الألف فإن شاء رجع على كل واحد منهما بنصف ما
أدى إذا لقياهما وإن شاء رجع على أحدهما إذا
لقيه بثلاثة أرباع ما أدى.. أما النصف فلأنه
كفل به عن هذا الذي لقيه وأداه فيرجع به عليه
وأما النصف الآخر فلأن المؤدي مع الذي لقيه
كفيلان به عن الآخر إذ هو موجب الشرط المذكور
في قوله على أن بعضهم كفلاء عن البعض فينبغي
أن يستويا في الغرم بسبب هذه الكفالة وذلك في
أن يرجع بنصف ذلك ثم إذا لقيا الثالث رجعا
عليه بنصف المال لأنهما أديا ذلك عنه بكفالة
تلزمه فيكون ذلك بينهما نصفين.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم وكل واحد
منهما ضامن عن صاحبه بها فأخذ الطالب أحدهما
فأعطاه كفيلا بالمال كله ثم أخذ الآخر فأعطاه
ذلك الكفيل بالمال ثم أدى الكفيل المال فله أن
يرجع على أيهما شاء بالألف كلها لأن كل واحد
منهما كان مطلوبا بجميع المال والكفيل كفيل عن
كل واحد منهما بجميع المال بعقد على حدة فعند
الأداء
ج / 20 ص -37-
كان حق
البيان إليه يجعل أداؤه عن أيهما شاء فيرجع
عليه بالكل وهو نظير ما لو كان لرجل على رجل
ألف درهم في صك وبه رهن وألف في صك آخر وبه
رهن آخر فأدى ألف درهم كان له أن يجعل ذلك عن
أي الصكين شاء فيسترد ذلك الرهن فكذلك إذا أدى
الكفيل هنا.
ألا ترى أنه بعد كفالته عنه لو أدى كان له أن
يرجع بالكل عليه فلا يتغير ذلك الحكم بالكفالة
عن الثاني ولكن يثبت في حق الثاني ما هو ثابت
في حق الأول لاستوائهما في المعنى فإن لم يؤد
شيئا حتى لزمهم الطالب فجعل بعضهم كفلاء عن
بعض ثم أداها الكفيل ثم أخذ أحدهما رجع عليه
بثلاثة أرباع المال لأن هذه الكفالة الأخيرة
تنقض ما كان قبلها لأن التي كانت قبلها في
عقدين مختلفين والكفيل كفيل عن كل واحد منهما
بالكل وهذا الثاني عقد واحد وكل واحد منهم فيه
كفيل مع صاحبه عن الآخر فإقدامهم على العقد
الثاني يكون نقضا منهم لما كان قبله وتمام ذلك
العقد كان بهم وإليهم نقضه أيضا بمنزلة ما لو
باعه شيئا بألف درهم ثم جدد بيعا بألفين ينتقض
البيع الأول بالبيع الثاني فإذا ثبت هذا صارت
هذه المسألة بحالها والمسألة الأولى سواء لأن
الكفيل الآخر يرجع على أحدهما بنصف ما أدى
لكفالته عنه وبنصف النصف الآخر لأنهما مستويان
في الكفالة عن الثالث بهذا النصف.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه
رجلان على أن بعضهم كفيل عن بعض ثم أن الطالب
لزم أحد الكفيلين فأعطاه كفيلا بالمال ثم لزم
الآخر فأعطاه هذا أيضا كفيلا بالمال ثم أدى
الكفيل الآخر فإنه يرجع به على أيهما شاء لأن
الكفالة عن الكفيلين بمنزلة الكفالة عن
الأصيلين وهنا كل واحد من الكفيلين مطالب
بجميع المال وقد بينا أن هناك لتفرق العقد في
كفالته عنهما له أن يرجع على أيهما شاء بجميع
المال فهذا مثله وليس له أن يرجع على الأصيل
بشيء لأنه ما أمره بالكفالة عنه ولا يقال أصل
المال على الأصيل حتى لو بريء هو بريء الكفيل
الآخر وهذا لأن الرجوع عليه عند الأداء ليس
باعتبار أن أصل المال عليه بل بأمره إياه
بالكفالة فإذا لم يأمره بالكفالة لم يكن له حق
الرجوع عليه بشيء ولو لم يؤد شيئا حتى أخذ
الطالب الكفلاء فجعل بعضهم كفيلا عن بعض ثم
أدى الآخر المال كان له أن يرجع على أحد
الكفيلين بثلاثة أرباع المال لما بينا أن هذه
الكفالة تنقض الكفالة الأولى فيكون الحكم لهذه
فإن قيل هذه الكفالة ينبغي لأحدهما أن يكون
رجوعه على الآخر بنصف ما أدى لأن واحدا من
الثلاثة ليس بأصيل بالمال فيكون بمنزلة ما لو
كفل ثلاثة نفر عن الأصيل على أن بعضهم كفلاء
عن بعض.
قلنا هذا أن لو صار الآخر كفيلا عن الأصيل مع
الأولين بمنزلة ما لو كفلوا عنه في الابتداء
ولم يصر كذلك هنا بل بقي كفيلا عن الأولين
وإنما انتقض حكم الكفالة الأولى فيما بينهما
وبين الكفيل الآخر لأنه قبل هذا كان كفيلا عن
واحد منهما بجميع المال وحده والآن صار كفيلا
عن كل واحد منهما بالنصف وهو مع صاحبه في
الكفالة عن الآخر بالنصف سواء فلهذا كان رجوعه
عليه بثلاثة أرباع ما أدى ولو لم يؤد حتى لقي
الكفلاء الثلاثة والذي عليه
ج / 20 ص -38-
الأصل
فجعل بعضهم كفلاء عن بعض بالمال ثم أدى الكفيل
الآخر المال فإنه يرجع على صاحبه بالثلثين
وإن لقي أحدهما رجع عليه بالنصف لأن بهذه
الكفالة انتقض ما كان قبلها في حق الكل وقد
صار الكفيل الأول والآخر كفيلين عن الأصيل
بهذه الكفالة كالأولين فكان هذا بمنزلة ما لو
كفل عنه ثلاثة في الابتداء على أن بعضهم كفلاء
عن بعض فهناك إذا أدى أحدهم رجع على صاحبيه
بثلثي ما أدى وإن لقي أحدهما رجع عليه بنصف ما
أدى فكذلك هنا.
وكذلك لو أدى المال أحد الكفيلين الأولين رجع
على كل واحد منهما بالثلث وعلى أحدهما إن لقيه
بالنصف لأن الأولين والآخر في هذه الكفالة
التي هي ثابتة بينهم الآن سواء وإنما كان
الاختلاف بينهم في الكفالة المتقدمة وتلك قد
انتقضت وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل
بها عنه ثلاثة رهط وبعضهم كفلاء عن بعض بجميع
الألف فأدى أحد الكفلاء المال ثم لقي أحدهم
فأخذ منه نصف ما أدى ثم أن الأول لقي الذي لم
يؤد شيئا وأخذ منه خمسين ومائتين فإنهما
يؤديان إلى الأوسط مائة وستة وستين وثلثين
لأنهم في غرم الكفالة سواء فينبغي أن يكون
الغرم على كل واحد منهم بقدر ثلث الألف الأوسط
قد غرم خمسمائة فيرد عليه مائة وستة وستين
وثلثين حتى يبقى عليه غرم ثلث الألف ولم يتبين
كيفية أدائهما هذا المقدار وهو الألف وإنما
يؤديان نصفين كل واحد منهما ثلاثة وثمانين
وثلثا لأن الآخر قد غرم مائتين وخمسين للأول
فيدفع إلى الأوسط ثلاثة وثمانين وثلثا حتى
يكون الغرم عليه بقدر ثلث الألف والأول قد
أوصل إليه سبعمائة وخمسين فيدفع إلى الأوسط
ثلاثة وثمانين وثلثا حتى يبقى العائد إليه
ثلثا ما أدى ويكون الغرم عليه بقدر ثلث الألف
فإذا فعلوا ذلك رجعوا جميعا على الأصيل بالألف
بينهم أثلاثا.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها رجل
ثم أن الكفيل طلب الرجل فضمنها عنه للطالب ثم
أن الطالب أخذهم جميعا حتى جعل بعضهم كفلاء عن
بعض ثم أن الكفيل الأول أدى المال فإنه يرجع
على الكفيل الآخر بنصف المال لأن الكفالة
الأخيرة نقضت الكفالة الأولى فإن موجب الكفالة
الأولى الأخير كفيل عن الكفيل الأول دون
الأصيل وهو في الكفالة الثانية يصير كفيلا عن
الأصيل وعن الكفيل الأول وكذلك موجب الكفالة
الأولى إن الكفيل الأول لا يكون كفيلا عن
الآخر وفي هذه الكفالة الأخيرة الكفيل الأول
يصير كفيلا عن الأخير وإذا انتقضت الكفالة
الأولى كان الحكم للأخيرة وهما فيها مستويان
في الكفالة عن الأصيل فيرجع المؤدي على صاحبه
بنصف ما أدى ليستويا في الغرم بسبب الكفالة.
ولو كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد
منهما ضامن بذلك ثم أعطاه أحدهما كفيلا بالمال
ثم أخذ الآخر فأعطاه أيضا ذلك الكفيل كفيلا
بالمال ثم أدى الكفيل الألف رجع بها على أيهما
شاء لأنه كفل كل واحد منهما بجميع المال بعقد
على حدة وإن لم يؤد شيئا
ج / 20 ص -39-
حتى
أخذهم الطالب فجعل بعضهم كفلاء عن بعض بالمال
ثم أن الكفيل أدى الألف فإنه يرجع على أيهما
شاء بثلاثة أرباع الألف لأن هذه الكفالة
الأخيرة تنقض الكفالة الأولى وفي هذه الكفالة
الأخيرة الكفيل يصير متحملا عن كل واحد منهما
نصف المال ويكون هو مع الآخر في الكفالة عن
الثالث بنصف المال سواء فلهذا رجع عند الأداء
على أحدهما بثلاثة أرباع الألف فإن لقي الآخر
بعد ذلك فأخذ منه مائتين وخمسين كان للذي أدى
الثلاثة الأرباع أن يرجع عليه بنصف ما أخذ من
هذا الآخر لأنهما قد كانا استويا في غرم
الكفالة مع الآخر فينبغي أن يستويا في الغنم
وهو المأخوذ من الباقي وإنما تتحقق المساواة
في أن يؤدي إليه نصف ذلك ولو لم يؤد الكفيل
شيئا ولكن أدى أحد الأولين المال فله أن يرجع
على الكفيل بمائتين وخمسين لأنه في نصف المال
أصيل مؤد عن نفسه فلا يرجع به على أحد وفي
النصف الآخر هو مع الكفيل في الكفالة عن
الثالث فيرجع عليه بنصف ذلك ليستويا في غرم
الكفالة فإن لقي الأول صاحبه الذي كان معه في
الألف فأخذ منه مائتين وخمسين أخرى رد على
الكفيل نصفها ليستويا في الغنم ثم يتبع هو
الكفيل الآخر الأول بمائتين وخمسين أخرى
ويقتسمان ذلك نصفين.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه
رجلان أحدهما مكاتب أو عبد فإنه يجوز على الحر
وحده النصف لأنهما لما كفلا جميعا عنه بالمال
فقد صار كل واحد منهما كفيلا بالنصف وكفالة
المكاتب والعبد غير صحيحة في حال الرق كما لو
تفرد بها فتبقى كفالته في نصيبه وهو النصف ولا
يقال لما لم تتحقق المزاحمة فينبغي أن يجعل
الحر كفيلا بجميع المال لأنا نقول المزاحمة في
أصل الكفالة متحققة فإن كفالة العبد والمكاتب
صحيحة في حق أنفسهما حتى يطالبان بذلك بعد
العتق وإنما لا يصح في حق المولى فلهذا كان
على الحر نصف المال وعلى العبد والمكاتب النصف
بعد العتق.
ولو كان اشترط أن كل واحد منهما كفيل ضامن عن
صاحبه فعتق العبد وأدى المال كله كان له أن
يرجع على الحر بالنصف ثم يتبعان الذي عليه
الأصل فما أدى إلى واحد منهما شركه فيه الآخر
لأن العبد حين عتق فقد سقط حق المولى والمانع
من كفالته قيام حق المولى في ماليته فإذا سقط
ذلك كان هذا بمنزلة الكفالة من حرين عن ثالث
بهذه الصفة ولو أن ثلاثة نفر كفلوا عن رجل
بألف درهم وبعشرة أكرار حنطة ومائة دينار
وبعضهم كفلاء ضامنون في ذلك فلقي الطالب أحد
الكفلاء فأخذ منه خمسمائة درهم ثم لقي آخر
فأخذ منه خمسة أكرار حنطة ثم غاب الطالب
والمطلوب ولقي الكفيلان المؤديان الكفيل
الثالث وأرادا أخذه بما أديا وأراد كل واحد
منهما أخذ صاحبه فالذي أدى خمسمائة يرجع على
صاحبيه بثلثيها لأنهم في الكفالة بالألف
مستوون فينبغي أن يستووا في الغرم بسببها وذلك
في أن يرجع بثلثي ما أدى عن صاحبيه على كل
واحد منهما بمائة وستة وستين وثلثين وللذي أدى
الطعام أن يرجع على صاحبيه بثلثي الطعام لهذا
المعنى أيضا ولا يصير البعض قصاصا,
ج / 20 ص -40-
لأن
الجنس مختلف والمقاصة بين الدينين عند اتحاد
جنسهما وصفتهما لا عند الاختلاف ولو التقى
هذان المؤديان ولم يلقيا الثالث فلكل واحد
منهما أن يرجع على صاحبه بنصف ما أدى ليستويا
في الغرم بسبب الكفالة.
وكذلك لو التقوا جميعا كان لكل واحد منهما أن
يأخذ صاحبه بنصف ما أدى ليستويا في الغرم ثم
يتبعان جميعا الذي لم يؤد شيئا بثلث ما أداه
كل واحد منهما فإن لقيه أحدهما كان له أن
يأخذه بنصف الغرم الذي حصل عليه يوم يلقاه
ليستويا في الغرم بسبب الكفالة فإن لقي الثالث
أحد هذين رجع عليه بنصف الفضل بثلث ما أدى كل
واحد منهما فيرجع أكثرهما أداء على أقلهما
أداء بنصف الفضل للحرف الذي قلنا وعليه يدور
تخريج هذه المسائل في أنهما لما استويا في
الكفالة ينبغي أن يستويا في الغرم بسببها.
وإذا كفل رجل لرجل عن رجل بمال عليه فأداه
الكفيل ثم لقي المكفول عنه فجحد أن يكون أمره
بالكفالة أو أن يكون لفلان الطالب عليه شيء
فأقام الكفيل البينة أن لفلان على فلان ألف
درهم وأن فلانا هذا قد أمره فضمنها لفلان وأنه
قد أداها لفلان إلى فلان فإن القاضي يقبل ذلك
منه ويقضي بالمال على المكفول عنه لأنه يدعي
لنفسه عليه مالا بسبب وهو لا يتوصل إلى إتيان
ذلك إلا بإثبات سبب بينه وبين الغائب وهو أداء
المال إليه فينصب الحاضر خصما عن الغائب كمن
ادعى عينا في يد إنسان أنها له اشتراها مع
فلان الغائب وأقام البينة على ذلك فإن القاضي
يقضي ببينته على ذلك بهذا الطريق حتى إذا حضر
الغائب فجحد أن يكون باعه لم يكلف المدعي
إعادة البينة عليه فكذلك هنا إذا حضر المكفول
له وجحد أن يكون قبض شيئا من الكفيل لم يكلف
الكفيل إعادة البينة وكان الحكم عليه بوصول
حقه إليه ماضيا وهذا لأن الأسباب مطلوبة
لأحكامها فمن يكون خصما في إثبات الحكم عليه
يكون خصما في إثبات سبب الحكم عليه أيضا ورجوع
الكفيل على الأصيل لا يكون إلا بأمره إياه
بالكفالة وأدائه إلى الطالب بعد الكفالة فما
يكون المكفول عنه خصما لكفيل في إثبات الأمر
عليه يكون خصما في إثبات الأداء إلى الطالب
عليه والقضاء بالبينة على الحاضر يكون نافذا
عليه وعلى الغائب جميعا.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أن
الرجل إذا غاب عن امرأته فأتاها رجل وأخبرها
أن زوجها قد أبانها ووكله أن يزوجها منه ويضمن
المهر ففعلت ذلك ثم رجع الزوج وأنكر أن يكون
طلقها وأن يكون أمر هذا الرجل بشيء فالقول
قوله وليس للمرأة على الكفيل شيء في قول أبي
يوسف رحمه الله لأن الطلاق لما لم يثبت كان
العقد الثاني باطلا والكفالة المثبتة عليه
كذلك بمنزلة أحد الوارثين وإذا أقر لمعروف نسب
أنه أخوه لم يشاركه في الميراث وعلى قول زفر
رحمه الله ترجع هي على الكفيل بالمال لأن
الكفيل مقر بصحة العقد الثاني ووجوب المال
عليه بسبب الكفالة وإقراره حجة في حقه فلو
أقام الكفيل البينة على الزوج بما أدى من
الطلاق وتوكيله إياه بالعقد الثاني والكفالة
قبلت بينته
ج / 20 ص -41-
بذلك
وكان لها أن ترجع بالمال على الكفيل ثم يرجع
الكفيل على الزوج وإن شاءت رجعت على الزوج
للمعنى الذي قلنا أن الكفيل لا يتمكن من
الرجوع على الزوج إلا بإثبات هذه الأشياء عليه
فصار خصما في ذلك كله والله أعلم وأحكم.
باب الكفالة على أن المكفول عنه بريء
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل مال
فضمنه له على إبراء الذي عليه الأصل فهو جائز
والكفيل ضامن للمال ولا يأخذ الطالب المكفول
عنه بشيء لأنهما أتيا بمعنى الحوالة وإن لم
يصرحا بلفظها والألفاظ قوالب المعاني والمقصود
هو المعنى دون اللفظ كأن العقد الذي جرى
بينهما حوالة لتصريحهما بموجب الحوالة كمن
يقول لغيره ملكتك هذا الشيء بألف درهم فيكون
بيعا وإن لم يصرح بلفظ البيع والكفالة
والحوالة يتقاربان من حيث إن كل واحد منهما
إقراض للذمة والتزام على قصد التوثق فكما أنه
لو شرط في الحوالة أن يطالب بالمال أيهما شاء
كانت الكفالة فإذا شرط في الكفالة أن يكون
الأصيل بريئا كانت الحوالة وقوله ضمنت وإلي
وعلي بمنزلة قوله كفلت إذا شرط براءة الأصيل
في ذلك كله كانت حوالة بناء على أصلنا أن
الحوالة توجب براءة المحيل وقد بينا هذه
المسألة ولو توى المال على المحتال عليه عاد
حق الطالب إلى المحيل وللتوى أسباب فمن ذلك أن
يجحد المحتال عليه ويحلف على ذلك وليس للطالب
بينة لأنه يتعذر على الطالب الوصول إلى حقه من
جهة المحتال عليه على التأبيد وهذا أبلغ أسباب
التوى كالدرة الواقعة في البحر والعبد الآبق
ونحو ذلك ومن ذلك أن يموت المحتال عليه مفلسا
فيتحقق به التوى عندنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يعود المال إلى
ذمة المحيل وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله يقول بأن الحوالة تبرئ المحيل براءة
مطلقة فلا يعود المال إليه بحال كما لو بريء
بالإبراء وبيان الوصف أنه لا يطالب بالمال
ولا بشيء يشبهه وهذا موجب البراءة المطلقة
وتقريره من وجهين أحدهما أن الحوالة ليست
بمعاوضة لأن معاوضة الذمة بالذمة والدين
بالدين باطلة فإذا لم يكن ما وجب في ذمة
المحتال عليه عوضا عما في ذمة المحيل لم يكن
تعذر الوصول إليه مبنيا على حق الرجوع له على
المحيل بل بالحوالة يصير كالقابض من المحيل
والمقرض من المحتال عليه لأنه لا يتحقق إسقاط
المال على المحيل وإيجابه على المحتال عليه
معاوضة إلا بهذا الطريق أو يجعل ما في ذمة
المحتال عليه كأنه عين ما كان في ذمة المحيل
تحول من ذلك المحل إلى هذا المحل حكما هو قضية
لفظة الحوالة وفوات الشيء من المحل الذي تحول
إليه لا يكون سببا لعوده إلى المحل الأول بل
فواته عن المحل الذي تحول إليه كفواته في
المحل الأول وذلك يكون على الطالب لا غير وعند
الحوالة المحتال له بالخيار بين أن يقبل فيثبت
حقه في ذمة المحتال عليه وبين أن يأتي فيكون
حقه في ذمة المحيل والمخير بين الشيئين إذا
اختار أحدهما يتعين ذلك عليه وهو لا يعود إلى
المحل الأول بعد ذلك قط كالغاصب الأول مع
الثاني إذا اختار المغصوب منه تضمين
ج / 20 ص -42-
أحدهما
ثم توى عليه لم يرجع على الآخر بشيء والمولى
إذا عتق عبده المديون واختار الغرماء استسعاء
العبد ثم توى ذلك عليه لم يرجعوا على المولى
بشيء من الضمان.
وحجتنا في ذلك حديث عثمان رضي الله عنه موقوفا
عليه ومرفوعا في المحتال عليه يموت مفلسا قال
يعود الدين إلى ذمة المحيل لا توى على مال
امرئ مسلم والمعنى فيه أن هذه براءة بالنقل
فإذا لم يسلم له حقه من المحيل الذي انتقل
إليه يعود حقه إلى المحل الذي انتقل حقه عنه
كما لو اشترى بالدين شيئا أو صالح من الدين
على عين وبيان الوصف أن حق الطالب كان في ذمة
المحيل فنقله إلى ذمة المحتال عليه بالحق الذي
له كما له أن ينقله إلى العين بالشراء ثم هناك
إذا هلكت العين قبل القبض عاد حقه في الدين
كما كان فكذلك هنا وكما أن ذلك السبب محتمل
الفسخ فهذا السبب محتمل للفسخ حتى لو تراضيا
على فسخ الحوالة انفسخت.
وتقريره أن ما في ذمة المحتال عليه ليس بعوض
كما كان في ذمة المحيل كما قاله الخصم ولا هو
واجب بطريق الإقراض كما زعم هو لأن القبض يكون
بالمال لا بالذمة والحوالة التزام في الذمة
فلا يمكن أن يجعل به قابضا ولأنه يثبت في ذمة
المحتال عليه على الوجه الذي كان في ذمة
المحيل حتى لو كان بدل صرف أو سلم لا يجوز
الاستبدال به مع المحتال عليه كما لا يجوز مع
المحيل ويبطل عقد الصرف والسلم بافتراق
المتعاقدين قبل القبض من المحتال عليه ولو صار
بالحوالة قابضا ثم مقرضا لا تثبت فيه هذه
الأحكام ولا يمكن أن يجعل كأن عين ذلك المال
تحولت من ذمة إلى ذمة لأن الشيء إنما يقدر
حكما إذا تصور حقيقة وليس في الذمة شيء يحتمل
التحول فلم يبق الطريق فيه إلا جعل الذمة
الثانية خلفا عن الذمة الأولى في ثبوت الحق
فيها كما في حوالة الفراش المكان الثاني يكون
خلفا عن المكان الأول ويكون الثابت في المكان
الثاني عين ما كان في المكان الأول.
فإذا كان الطريق هذا فنقول إنما رضي الطالب
بهذه الخلافة على قصد التوثق لحقه فيكون رضاه
بشرط أن يسلم له في ماله في الذمة الثانية
فإذا لم يسلم فقد انعدم رضاه فيعود المال إلى
المحل الأول كما كان بمنزلة ما لو اشترى به
عينا إلا أن هناك المحل الذي هو خلف في يد
الغريم فكان مطالبا بتسليمه وهنا المحل الذي
هو حق ليس في يد الغريم فلم يكن هو مطالبا
بشيء ولكنه ليس في يد الطالب أيضا فلم يصر
قابضا لحقه ولا يدخل في ضمانه فلا يكون التواء
عليه وبه فارق الغاصب الأول مع الثاني والمولى
مع العبد فإن إحدى الذمتين هناك ليست بخلف عن
الأخرى ولكن صاحب الحق كان مخيرا ابتداء
والمخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين
ذلك عليه وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله إذا فلسه الحاكم عاد الدين إلى
ذمة المحيل لأن رضاه بالخلافة كان بشرط
السلامة فإذا لم يسلم عاد الحق إلى المحل
الأول ولا معتبر ببقاء المحل الثاني حقيقة
كالعبد المشتري بالدين إذا أبق واختار الطالب
فسخ العقد عاد حقه كما كان.
ج / 20 ص -43-
توضيحه
أن الذمة تتعيب بالإفلاس أما عندهما حكما فمن
حيث إن التفليس والحجر يتحقق من حيث العادة
وهذا ظاهر فإن الناس يعدون الذمة المفلسة
معيبة حتى يعدون الحق فيها ثاويا وكما أن فوات
المحل موجب انفساخ السبب فتعيبه مثبت حق الفسخ
كما إذا تعيب المشتري بالدين قبل القبض والأصل
فيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أحيل على مليء فليتبع". فقد قيد الأمر بالاتباع بشرط ملاء المحتال عليه فلا يكون مأمورا
بالاتباع بدون هذا الشرط وأبو حنيفة رحمه الله
يقول الإفلاس لا يتحقق لأن المال غاد ورائح
فقد يصبح الرجل فقيرا ويمسى غنيا ثم عود المال
إلى المحيل التوي لا يتعذر به الاستيفاء.
ألا ترى أنه لو تعذر استيفاؤه من المحتال
عليه لعيبه لم يرجع على المحيل بشيء ولا تصور
للتوي في الدين حقيقة وإنما يكون ذلك حكما
بخروج محله من أن يكون صالحا للالتزام وبعد
الإفلاس الذمة في صلاحيتها للالتزام كما كانت
من قبل فلا يتحقق التوي ولا العيب بهذا السبب
بخلاف ما لو كان بعد الموت مفلسا لأن الذمة
خرجت من أن تكون محلا صالحا للالتزام فيثبت
التوي بهذا الطريق حكما وأما ذات المحتال عليه
فقال الطالب لم يترك شيئا وقال المطلوب قد ترك
وفاء فالقول قول الطالب مع يمينه على علمه
لأنه متمسك بالأصل وهو العسرة ولأنه بالحوالة
لم يدخل في ملك المحتال عليه.
ولو كان وهو حي يزعم أنه مفلس فالقول قوله
فكذلك بعد موته إذا زعم الطالب أنه مفلس
فالقول قوله مع يمينه على علمه توضيحه أن ذمته
بالموت خرجت من أن تكون محلا صالحا للالتزام
وبه يتحقق التوي إلا أن يكون هناك مال يخلف
الذمة في ثبوت حق الطالب فيه فالمطلوب يدعي
هذا الخلف والطالب منكر لذلك فجعلنا القول
قوله لهذا ولو كفل بالمال من غير شرط البراءة
ثم أن الطالب أبرأ الذي عليه الأصل من المال
بعد الكفالة برئا جميعا لأن إبراء الكفيل
إسقاط لأصل الدين وذلك موجب لبراءة الكفيل
ضرورة فكما أن الكفالة لا تصح إلا باعتبار مال
واجب في ذمة الأصيل فكذلك لا تبقى بعد سقوط
المال عن ذمة الأصيل بالإبراء.
وهذا بخلاف ما لو كانت الكفالة بشرط الأصل لأن
ذلك صار عبارة عن الحوالة واللفظ إذا جعل
عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته في
نفسه توضيح الفرق أن الكفالة بشرط براءة
الأصيل لا تكون إسقاطا لأن أصل الدين يكون
تحويلا إلى ذمة الكفيل بالطريق الذي قلنا فأما
إبراء الأصيل بعد الكفالة فيكون إسقاطا لأصل
الدين والمطالبة تنبني على وجوب أصل الدين
فكما لا يبقى على الأصيل مطالبة بعد الإسقاط
فكذلك على الكفيل والدليل على الفرق ما أشار
إليه وهو أن الصبي التاجر إذا كان له على رجل
مال فضمنه له آخر على أن أبرأ الأول أو كان
عليه مال لرجل فضمنه لآخر بأمر صاحبه على أن
أبرأ المكفول له فهو جائز ولو كان هذا إسقاطا
لأصل الحق عن الأصيل ما ملك الصبي التاجر فيما
له على غيره كإبراء الأصيل بعد الكفالة ولو
كان هذا من المحتال عليه التزاما للمال في
ذمته ابتداء ما ملكه الصبي التاجر فيما عليه
وبهذا الفصل يتبين الفرق وكذلك في الصرف ورأس
مال السلم
ج / 20 ص -44-
الحوالة تصح والكفالة بشرط براءة الأصيل تصح
ولا يبطل به عقد السلم بخلاف ما إذا أبرأ
الأصيل بعد الكفالة فقبله الأصيل حيث يبطل به
عقد السلم.
ولو قال لرجل آخر ما أقر لك به فلان من شيء
فهو علي فقامت عليه بينة أنه أقر بعد الكفالة
بألف درهم لزم الكفيل الألف لأن الثابت من
إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن شهدوا
أنه أقر بذلك قبل
الكفالة لم يلزم الكفيل شيء لأن هذا اللفظ وإن
كان في صورة الماضي فالمراد به المستقبل عادة
فلا يصير به ملتزما لما سبق الإقرار به على
العقد وإنما يكون ملتزما لما يقر به بعد العقد
بمنزلة قوله ما يقر لك كما أن قوله ما ذاب لك
في معنى ما يذوب فهذا قياسه والله أعلم.
باب ضمان ما يبايع به الرجل
قال رحمه الله: وإذا قال
الرجل لرجل بايع فلانا فما بايعته به من شيء
فهو علي فهو جائز على ما قال لأنه أضاف
الكفالة إلى سبب وجوب المال على الأصيل وقد
بينا أن ذلك صحيح والجهالة في المكفول به لا
تمنع صحة الكفالة لكونها مبنية على التوسع
ولأن جهالة عينها لا تبطل شيئا من العقود
وإنما الجهالة المفضية إلى المنازعة هي التي
تؤثر في العقود وهذه الجهالة لا تفضي إلى
المنازعة لأن توجه المطالبة على الكفيل بعد
المبايعة وعند ذلك ما بايعه به معلوم ويستوي
أن وقت لذلك وقتا أو لم يوقت إلا أن في الموقت
يراعي وجود المبايعة في ذلك الوقت حتى إذا قال
ما بايعته به اليوم فباعه غدا لا يجب على
الكفيل شيء من ذلك لأن هذا التقييد مفيد في حق
الكفيل ولكن إذا كرر مبايعته في اليوم فذلك
كله على الكفيل لأن حرف ما يوجب العموم وإذا
لم يوقت فذلك على جميع العمر.
وإذا بايعته مرة بعد مرة فذلك كله على الكفيل
ولا يخرج نفسه من الكفالة لوجود الحرف الموجب
للتعميم في كلامه ويستوي إن بايعه بالنقود أو
بغير النقود لأنه قال ما بايعته به من شيء وهو
يجمع كل ذلك فإن قال الطالب بعته شيئا بألف
درهم وقبضه مني فأقر به المطلوب وجحد الكفيل
ففي القياس لا يؤخذ الكفيل بشيء حتى تقوم
البينة على أنه بايعه بعد الكفالة وقد روى أسد
بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ
بالقياس ووجه ذلك أن وجوب المال على الكفيل
ناشئ عن مبايعته بعد الكفالة وذلك لا يظهر في
حقه بإقرار المطلوب لأن قوله حجة عليه لا على
الكفيل ولو أنكرا جميعا يعني المطلوب والكفيل
لم يكن على كل واحد منهما شيء فإذا أقر به
المطلوب لزمه دون الكفيل لأن الثبوت بحسب
الحجة فإذا قامت البينة ثبت في حقهما لأن
البينة حجة عليهما ولكن استحسن فقال الكفيل
ضامن للمال لأن المطلوب مع الطالب تصادقا على
المبايعة في حال يملكان إنشاءها فإنهما لو
أنشآ المبايعة لزم ذلك الكفيل ومن أقر بما لا
يملك إنشاءه يكون مقبول الإقرار في حق الغير
لانتفاء التهمة بمنزلة التوكيل قبل العزل إذا
أقر بالبيع والمطلق قبل انقضاء العدة إذا أقر
بالرجعة.
توضيحه أنهما إن كانا صادقين فيما أقرا به من
المبايعة فقد تحقق السبب في حق
ج / 20 ص -45-
الكفيل
وإن كانا كاذبين فتصادقا بمنزلة إنشاء
المبايعة فيلزم الكفيل أيضا ألا ترى أنه لو
كان قال ما لزمه لك من شيء فأنا ضامن به لزمه
ما أقر به المكفول عنه بهذا الطريق وعلى هذا
لو قال بعه ما بينك وبين ألف درهم وما بعته من
شيء فهو علي إلى ألف درهم فباعه متاعا
بخمسمائة ثم باعه حنطة بخمسمائة لزم الكفيل
المالان جميعا وإن باعه متاعا آخر بعد ذلك لم
يلزم الكفيل من ذلك شيء لأنه قيد الكفالة
بمقدار الألف فلا تلزمه الزيادة على ذلك.
ولو قال إذا بعته شيئا فهو علي فباعه متاعا
بألف درهم ثم باعه بعد ذلك خادما بألف درهم
لزم الكفيل الأول دون الثاني لأن كلمة إذا لا
تقتضي العموم ولا التكرار وإنما تتناول
المبايعة مرة فبوجود ذلك تنتهي الكفالة بخلاف
ما لو قال كلما بايعته بيعا فأنا ضامن بثمنه
لأن كلمة كلما تقتضي التكرار فيصير هو بهذا
اللفظ ملتزما يجب بمبايعته مرة بعد مرة ولو
قال بعه ولم يزد على هذا فباعه لم يلزم الآمر
شيء لأنه مشير عليه وليس بضامن وكذلك لو قال
أقرضه ولو قال متى بعته بيعا فأنا ضامن لثمنه
أو إن بعته بيعا فباعه متاعا في صفقتين كل
صفقة بخمسمائة ضمن الكفيل الأول منهما لما
بينا أنه ليس في لفظه ما يقتضي التكرار لأن
كلمة إن للشرط وكلمة متى للوقت بمنزلة كلمة
إذا.
ولو قال ما بايعته من زطي فهو علي فباعه ثوبا
يهوديا أو حنطة لم يلزم الكفيل من ذلك شيء
لأنه قيد الكفالة بمبايعته من الزطي خاصة فلا
يتناول غيرها وكذلك لو قال ما أقرضته فهو علي
فباعه متاعا أو قال ما بايعته فهو علي فأقرضه
شيئا لم يلزم الكفيل من ذلك شيء لأنه قيد
الكفالة بسبب فلا تتناول شيئا آخر والمبايعة
غير الإقراض ألا ترى أن المبايعة تصح ممن لا
يصح منه الإقراض كالأب والوصي ولو قال ما
داينته اليوم من شيء فهو علي لزمه القرض وثمن
المبيع لأن اسم المداينة يتناول الكل فإنه
عبارة عن سبب وجوب الدين ألا ترى أن الآمر
بالكتابة والشهود جاء به اسم المداينة وعلم
الكل فلو رجع الكفيل عن هذا الضمان قبل أن
يبايعه ونهاه عن مبايعته ثم بايعه بعد ذلك لم
يلزم الكفيل شيء لأن لزوم الكفالة بعد وجوب
المبايعة وتوجه المطالبة على الكفيل فأما قبل
ذلك فهو غير مطلوب بشيء ولا ملتزم في ذمته
شيئا فيصح رجوعه توضيحه أن بعد المبايعة إنما
أوجبنا المال على الكفيل دفعا للغرر عن الطالب
لأنه يقول إنما عقدت في المبايعة معه كفالة
هذا الرجل وقد اندفع هذا الغرور حين نهاه عن
المبايعة.
ولو قال ما بايعته اليوم من شيء فهو لك علي ثم
جحد الكفيل والمكفول له المبايعة وأقام الطالب
البينة على أحدهما أنه قد باع المكفول له ذلك
اليوم متاعا بألف درهم لزمهما جميعا ذلك المال
أيهما كان حضر لأن الثابت بالبينة كالثابت
بالمعاينة والمال الذي يطالبان به واحد فينصب
الحاضر منهما خصما فيكون حضور أحدهما كحضورهما
فلا يكلف إعادة البينة عند حضور الآخر إذا كان
القاضي هو الأول لأنه عالم بسبب وجوب المال
على الذي حضر إذ هو باشر القضاء به على الأول
وعلمه يغني الطالب عن إعادة البينة.
ج / 20 ص -46-
ولو
قال من بايع فلانا اليوم ببيع فهو علي فباعه
غير واحد لم يلزم الكفيل شيء لأن المكفول له
مجهول وجهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة
كجهالة المقر له فإنه لو قال لواحد من الناس
على شيء كان إقراره باطلا ولو قال لقوم خاصة
ما بايعتموه أنتم وغيركم فهو علي كان عليه ما
يبيع به أولئك القوم ولا يلزمه ما بايع غيرهم
لأن في حقهم المكفول له معلوم فصحت الكفالة
وفي حق غيرهم هو مجهول فلا تصح الكفالة ولكن
ضم المجهول إلى المعلوم لا يمنع صحة الكفالة
في حق المعلوم لأن ما يلتزمه لواحد بالكفالة
منفصل عما يلتزمه للآخر ولو أذن لعبده في
التجارة وقال لرجل ما بايعت به عبدي من شيء
أبدا فهو علي أو لم يقل أبدا فهو سواء ولزمه
كل بيع بايعه به لأن التزام المولى من عبده
بحكم الكفالة صحيح كما يصح من الحر وقد بيناه
فيما سبق.
وكذلك لو قال كل ما بايعته أو الذي بايعته
بخلاف ما لو قال إذا بايعته أو إن بايعته فهذا
على الأول خاصة وقد بينا الفرق بينهما في الحر
فكذلك في العبد.
ولو قال ما بايعت فلانا من شيء فهو علي فأسلم
إليه دراهم في طعام أو باعه شعيرا بزيت فذلك
كله على الكفيل لأنه قد باعه فإن السلم نوع
بيع ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إذا وكله
بثوب يبيعه فأسلمه في طعام جاز على الموكل
وعندهما لا يجوز لأن السلم غير البيع بل إن
مطلق التوكيل بالبيع ينصرف إلى البيع بالنقود
والله أعلم بالصواب.
باب الحوالة
قال رحمه الله: ذكر عن
شريح رحمه الله أنه قال في الحوالة إذا أفلس
فلا توي على مال امرئ مسلم يريد به أن مال
الطالب يعود فدليلهما أن بمجرد الإفلاس تبطل
الحوالة قال وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا كان
لرجل على رجل ألف درهم فأحاله بها فقد بريء
الأول منهما وقد بينا اختلاف العلماء رحمهم
الله فيه ووجه الفرق بين الكفالة والحوالة
ففي الكتاب أشار إلى حروف فإنك لا تكتب ذكر حق
فلان بن فلان أن له على فلان ألف درهم وقد
أحاله بها على فلان فإن هذا لا يحسن في الكتاب
ولا في الكلام وكيف يكون عليه وقد حولها عنه
إلى غيره ويحسن في الضمان أن يقول لفلان على
فلان ألف درهم وقد ضمنها عنه فلان ثم وجوه
التوي قد بيناها فيما سبق والجواب بين الأجانب
والأقارب في جميع أصناف الديون من التجارات
والمهر والجنايات وغير ذلك جائز لأنه تحويل
الحق من الذمة الأولى إلى الذمة الثانية
فيستدعي وجوب الحق في الذمة الأولى ليصح
التحويل ولو أن المحتال عليه أحاله بالمال على
غيره كان جائزا لأنه لما تحول المال إليه
بالحوالة التحق بما كان واجبا عليه في الأصل
وكما يصح التحويل من الذمة الأولى إلى ذمته
يصح التحويل من ذمته إلى ذمة أخرى بالحوالة
وليس للمحتال عليه أن يأخذ الأصيل بالمال قبل
أن يؤديه ولكن يعامله بحسب ما يعامل به من
الملازمة والحبس كما بيناه في فصل الكفيل وفي
هذا نوع إشكال فإن في الكفالة مطالبة
ج / 20 ص -47-
الطالب
على الأصيل باقية فلا تتوجه عليه مطالبة
الكفيل ما لم يؤد وبعد الحوالة لا تبقى مطالبة
المال على الأصيل فينبغي أن تتوجه عليه مطالبة
المحتال عليه كالوكيل بالشراء يطالب الموكل
قبل أن يؤدي ولكنا نقول ما سقطت مطالبة الطالب
عن المحيل على الثبات بل يؤخر ذلك على المحتال
عليه مفلسا فكان من هذا الوجه بمعنى التأجيل
أو لما كانت المطالبة بعرض أن يتوجه عليه جعل
كالمتوجه في الحال بمعنى الكفالة من هذا الوجه
بخلاف الوكيل فإنه ليس للبائع على الموكل
مطالبة بالثمن لا في الحال ولا في ثاني الحال
بل مطالبته مقصورة على الوكيل فكان للوكيل أن
يرجع على الموكل ولو قضى المحيل المحتال عليه
المال قبل أن يؤديه فعمل به وربح كان ربحه له
لأنه بنفس الحوالة قد استوجب المحتال عليه على
المحيل ولكنه مؤجل لأدائه ومن استعجل الدين
المؤجل وتصرف فيه وربح كان الربح له لأنه
استربح على ملك صحيح.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فأحاله بها على
آخر فقضاها إياه المحتال عليه فلما أراد
الرجوع على الأصيل قال الأصيل كانت لي عليك
وقال المحتال عليه ما كان لك علي شيء فإنه
يقضي للمحتال عليه على الأصيل بالمال لأن
السبب الموجب للمال له على الأصيل ظاهر وهو
قبوله الحوالة بأمره وأدائه والمحيل يدعي
لنفسه دينا على المحتال عليه ليجعل ما عليه
قصاصا بذلك الدين ولم يظهر سبب ما يدعيه
والمحتال عليه لذلك منكر فالقول قوله وليس في
قبول الحوالة عنه إقرار بوجوب المال للمحيل
عليه فإن الحوالة قد تكون مقيدة بما للمحيل
على المحتال عليه وقد تكون مطلقة بل حقيقة
الحوالة هي المطلقة فأما المقيدة من وجه
فتوكيل بالأداء والقبض عرفنا أنه لم يوجد منه
دلالة الإقرار بوجوب المال للمحيل عليه وكان
القول قوله في الإنكار.
ولو كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد
منهما كفيل عن صاحبه فأحاله أحدهما على رجل
بألف درهم على أن أبرأه فللطالب أن يأخذ
المحتال عليه بالألف لأنه التزمه بالحوالة
والمحيل كان أصيلا في النصف الأول كفيلا في
النصف الثاني والحوالة بكل واحد منهما صحيحة
وإن شاء أخذ الذي لم يحله بخمسمائة لأن المحيل
في هذه الخمسمائة كان كفيلا وقد بريء بالحوالة
من غير أداء وقد بينا أن براءة الكفيل لا توجب
براءة الأصيل فإن أداها المحتال عليه رجع بها
على المحيل دون صاحبه لأنه هو الذي أمره بقبول
الحوالة ورجوعه بذلك فإن أداها المحيل رجع
بنصفها على صاحبه لأنه كان كفيلا عنه وأداء
المحتال عليه بأمره كأدائه أداؤه بنفسه وإلى
المحتال عليه كأدائه إلى الطالب له ولو أدى
إلى الطالب رجع بنفسها على صاحبه فكذلك هنا.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فأحاله بها على
رجلين فله أن يأخذ كل واحد منهما بنصفها
لأنهما أضافا الحوالة في جميع ذلك المال
إليهما إضافة على السواء فيقسم عليهما انقساما
على السواء وقد بينا في الكفالة نظيره فإن
اشترط أن كل واحد منهما كفيل عن
ج / 20 ص -48-
صاحبه
أخذ بالألف أيهما شاء لأن كل واحد منهما التزم
بجميع المال هنا في النصف عن الأصيل وفي النصف
الآخر عن صاحبه بالكفالة فإذا أداها رجع على
صاحبه بالنصف ليستويا في الغرم الثابت بسبب
هذه الحوالة كما استويا في أصل الالتزام.
ولو كان لرجل على مكاتب مال فأحاله المكاتب به
على رجل عليه مال فهو جائز لأن هذا أمر من
المكاتب به على رجل له عليه مال فهو جائز لأن
هذا أمر من المكاتب للطالب في أن يقبض ماله من
غريمه له أولا ثم لنفسه وأمر للغريم بأن يؤدي
ما عليه إلى الطالب وذلك صحيح من المكاتب وهذا
التكلف غير محتاج إليه في هذا الفصل فإن
المكاتب لو أحال الطالب حوالة مطلقة يجوز
فكذلك الحوالة من المكاتب المقيدة وإنما يحتاج
إليه في الفصل الثاني وهو ما إذا كان المكاتب
هو المحتال عليه لأن قبول الحوالة من المكاتب
مطلقا لا يجوز بمنزلة الكفالة ولكن يجوز مقيدا
بالمال الذي عليه لأنه لا فرق في حقه بين أن
يؤدي ذلك المال إلى المحيل أو إلى المحتال
والعبد التاجر والصبي التاجر في هذا كالمكاتب
وكذلك لو كان المال على رجلين كل واحد منهما
كفيل عن صاحبه فأحالاه على واحد جازت الحوالة
منهما كما تجوز من الواحد إذا كان مطلوبا
بالمال وكذلك الوصي يحتال بدين اليتيم على رجل
أملأ من غريمه الأول فاحتال بذلك فهو جائز لأن
في هذا قربان ماله بالأحسن فإن حياة الدين
بملاءة ذمة من عليه وفي قبول الحوالة على من
هو أملأ إظهار للزيادة في حقه وتيسر الوصول
إلى ماله وكان ذلك منهما نظرا من حقه والله
أعلم.
باب الأمر بنقد المال
قال رحمه الله: وإذا أمر
رجل رجلا بأن ينقد عنه فلانا ألف درهم فنقدها
رجع بها على الآمر لأن هذا من الآمر استقراض
من المأمور وإنه لا يتحقق نقده عنه إلا بعد أن
يكون المنقود ملكا له ولا يصير ملكا له
بالاستقراض منه فكأنه استقرض منه الألف ووكل
صاحب دينه بأن يقبض له ذلك أولا ثم لنفسه
ولأنه أمره أن يملكه ما في ذمته بمال يؤديه من
عنده فكان بمنزلة ما لو أمره أن يملكه عين
الغير في يده بأن يشتريها له فيؤدي الثمن من
عنده وهناك يثبت للمأمور حق الرجوع على الآمر
بما يؤدي فكذلك هنا.
وكذلك لو قال انقد فلانا ألف درهم له علي أو
قال اقضه عني كذا أو قال اقضه ماله علي أو
ادفع إليه الذي له علي أو ادفع عني كذا أو
اعطه عني ألف درهم أو أوفه ماله علي فهذا كله
باب واحد وكله إقرار من الآمر أن المال عليه
لفلان أما لقوله عني أو لقوله اقضه عني فإن
القضاء لا يكون إلا بعد الوجوب أو لقوله علي
أو لقوله أوفه عني فإن الإيفاء يكون بعد
الوجوب ولو قال انقده عني ألف درهم على أني
ضامن لها أو على أني كفيل بها أو علي أنها لك
علي أو إلي أو قبلي فهو سواء وإذا نقدها إياه
رجع بها على الآمر لأنه صرح بالتزام ضمان
المنقود له أو أتى بلفظ يدل عليه ويستوي إن
نقده الدراهم أو نقده بها مائة درهم أو باعه
بها جارية أو غير ذلك لأن بالبيع يجب الثمن
للبائع على المشتري ولم
ج / 20 ص -49-
يصر
قابضا الدراهم التي وجبت له عليه كما أمر به
فكان هذا وما لو دفع إليه دراهم في الحكم
سواء.
ألا ترى أن الطالب يصير مستوفيا حقه بهذه
الطريق إذا حلف ليستوفين ماله عليك قبل أن
يفارقك
وإذا قال الرجل للرجل ادفع إلى فلان ألف درهم
قضاء ولم يقل عني أو قال اقض فلانا ألف درهم
ولم يقل على أنها لك علي فدفعها المأمور فإن
كان خليطا للآمر رجع بها عليه لأن الخلطة
القائمة بينهما دليل ظاهر على أن أمره بالقضاء
عنه بمنزلة التصريح بهذا اللفظ وهذا لأن كل
واحد من الخليطين ينوب عن صاحبه في قضاء ما
عليه وإن أداه بناء على الخلطة السابقة وتلك
الخلطة تثبت له حق الرجوع بما يؤدي بأمره كما
يثبت له حق الرجوع عليه بما يؤدى إليه وإن لم
يكن خليطا له لم يرجع بها عليه في قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف
الأول رحمه الله وإنما رجوعه على المدفوع إليه
وقول أبي يوسف الآخر رحمه الله يرجع على الآمر
خليطا كان أو غير خليط لوجهين.
أحدهما أن أمره بالدفع إلى غيره بمنزلة أمره
بالدفع إليه ولو قال ادفعه إلي كان له أن
يرجع عليه فكذلك إذا أمره بالدفع إلى غيره
ولأن فعله في الدفع يترتب على أمره في الفصلين
وإذا اعتمد في الأداء أمره فلو لم يرجع صار
مغررا من جهته والغرر مدفوع كما في الخليطين.
الثاني: أنه قال ادفعها إليه
قضاء والقضاء ينبني على الوجوب ولم يكن على
المأمور شيء واجب للمدفوع إليه ولا يعتبر أمر
الآمر بذلك بل أمره إنما يعتبر في قضاء ما هو
واجب على الآمر وكان إقرارا بوجوب المال عليه
من هذا الوجه وهذا وقوله اقض عني سواء وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا إن قوله اقض أو
ادفعه إليه قضاء كلام محتمل يجوز أن يكون
المراد اقضه ماله عليك فيكون هذا منه أمرا
بالمعروف ويجوز أن يكون المراد اقضه ماله علي
والمحتمل لا يكون حجة فلا يثبت به المال على
الآمر للمدفوع إليه وإذا لم يثبت المال عليه
لا يكون هذا منه استقراضا ولا أمرا بأن يملكه
ما في ذمته وطريق الرجوع عليه هذا أن بخلاف ما
لو قال قضاء عني إذا كان قضاء لما له علي لأن
الاحتمال قد زال هناك بما صرح به من الإضافة
إلى نفسه ولا يجوز أن يعتبر أمره بالدفع إلى
غيره بالدفع إلى نفسه لأن قوله ادفعه إلي لا
يثبت له حق الرجوع عليه بهذا الأمر بل يقضه
المال منه.
وهذا المعنى يوجب أن يكون رجوعه هنا إلى
المدفوع إليه لأنه هو القابض للمال منه دون
الآمر ولو كان أمر بذلك ولده أو أخاه وهو ليس
في عياله فهذا وأمره للأجنبي بذلك سواء إلا أن
يكون أمره بذلك بعض من في عياله فيكون ذلك
بمنزلة ما لو أمر خليطا له بذلك استحسانا لأن
الإنسان يقضي ما عليه بيد من في عياله ويد
هؤلاء بمنزلة يده ولو دفع بنفسه قضاء كان ذلك
قضاء لما هو واجب فكذلك إذا أمر بعض من في
عياله حتى أدى وكذلك الزوجة إذا أمرت بذلك
زوجها فإن ما بينهما من الزوجية بمنزلة الخلطة
أو أقوى منه وكذلك لو أمر به أجيرا له وإنما
أراد به التلميذ الخاص الذي استأجره مسانهة أو
مشاهرة فإنه بمنزلة من في عياله.
ج / 20 ص -50-
وكذلك
لو أمر به شريكا له لأن قيام الشركة بينهما
بمنزلة الخلطة أو أقوى منها وهذا كله استحسان
وحمل لمطلق الكلام على ما هو معتاد بين الناس.
ولو قال لرجل: ادفع إلى فلان
ألف درهم فإن كان المأمور خليطا للآمر أو بعض
من في عياله رجع المأمور على الآمر باعتبار
الخلطة التي بينهما فإن ذلك بمنزلة الغرر من
جهته لو لم يثبت له حق الرجوع عليه لم يرجع
الآمر على القابض وإن لم يكن له عليه شيء يصير
قصاصا به فأما إذا لم يكن المأمور خليطا للآمر
فلا إشكال على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله أنه لا يرجع على الآمر وإنما يرجع به على
القابض وإنما اختلفوا على قول أبي يوسف الآخر
رحمه الله فعلى قياس الطريقة الأولى يرجع على
الآمر بمنزلة ما لو قال ادفعه إلي وعلى قياس
الطريقة الثانية يكون رجوعه على القابض لأنه
ليس في لفظه ما يدل على أن القابض يستوفي حقا
واجبا له بخلاف ما إذا قال ادفعها إلى فلان
قضاء ولو أمر خليطا له أن ينقد فلانا عنه ألف
درهم نجية فنقد عنه ألف درهم غلة أو نبهرجة لم
يرجع على الآمر إلا بمثل ما أعطي بخلاف الكفيل
بالنجية إذا أدى بالغلة فإنه يرجع بالنجية فإن
رجوع الكفيل بحكم الالتزام ألا ترى أنه لو وهب
المال منه رجع على الأصيل وإنما التزم في ذمته
النجية فاستوجب مثلها في ذمة الأصيل ثم إن
سامحه الطالب فتجوز بالغلة لا يجب أن يسامح
الأصيل بشيء فأما المأمور فهو غير ملتزم في
ذمته شيئا وإنما يثبت له حق الرجوع بالأداء
ألا ترى أنه لو وهب المال منه لم يصح فإن كان
رجوعه بالأداء رجع المؤدي ولو كان لرجل على
رجل ألف درهم فأحال بها عليه رجلا فلما
استوفاها المحتال قال المحتال للمحيل كان
المال لي عليك فإنما استوفيت حق نفسي وقال
المحيل بل كنت وكيلي في قبض مالي لم يكن لك
علي شيء فالقول قول المحيل لأن وجوب المال له
على المحتال عليه كان ظاهرا كالمقبوض بذلك
السبب فيكون ملكا له ثم القابض يدعي لنفسه
دينا عليه حتى يحبس ماله بذلك ولم يظهر ذلك
الدين له عليه فإن إحالته عليه لا تكون دليلا
على وجوب المال للمحتال على المحيل فيكون
القول قول المنكر ويؤمر بدفع المال إليه إلا
أن يثبت دين نفسه عليه ولو أراد المحتال عليه
أن يمنع المال من الذي أحال به عليه ورب المال
غائب لم يكن له عليه ذلك بعد الحوالة لأنه قد
التزم دفع المال إليه فعليه الوفاء بما التزم.
وكذلك لو قال رب المال: اضمن
له هذا المال فهو مثل الحوالة بخلاف ما لو قال
اضمن له هذا المال عني فإنه يكون إقرارا من رب
المال بالمال لهذا لأنه أمره بأن يضمن عنه ولا
يتحقق ذلك إلا بعد وجوب المال عليه ولأن قوله
اضمن عني له بمنزلة التصريح منه أن القابض
عامل لنفسه وليس بوكيل من جهته وإنما يكون ذلك
عند وجوب المال للطالب على الأصيل وكذلك
الحوالة إذا قال يحتال إليك بالألف التي لي
عليك لم يكن هذا إقرارا بأن المال عليه.
ولو قال: هو محتال عليك بألف
درهم لتؤديها عني من المال الذي لي عليك فهذا
إقرار منه بوجوب المال عليه للمحتال وإذا قال
يحتال عليك بألف درهم لم يكن هذا إقرارا
ج / 20 ص -51-
منه
بالمال ولكن المحتال عليه لا يستطيع الامتناع
من أداء المال إلى المحتال لأنه التزمها له
ولأن كلامه محتمل وبالمحتمل لا يكون له أن
يمتنع من إيفاء ما التزم وإن أداها وكان خليطا
للآمر رجع بها عليه ورجع بها الآمر على
المضمون له بعد أن يحلف أنها ليست عليه وقد
بينا في الحوالة نظيره فكذلك في الضمان ولو لم
يكن خليطا له لم يرجع بها عليه لأنه ليس في
لفظه ما يدل على الأمر بالضمان فلا يثبت له حق
الرجوع عليه ولكنها تسلم للمضمون له بخلاف ما
سبق من قوله ادفع لأنه ليس هناك من المأمور
التزام شيء للمدفوع إليه ألا ترى أن له أن
يمتنع من الدفع إليه فكذلك بعد الدفع له أن
يرجع بها عليه وهنا بقبول الحوالة والضمان قد
التزم المال للمضمون له حتى لا يكون له أن
يمتنع من الدفع إليه في الابتداء فكذلك بعد
الدفع إليه لا يكون له أن يرجع عليه بشيء مما
أدى إليه والله أعلم بالصواب.
باب صلح الكفالة
قال رحمه الله: وإذا كان
لرجل على رجل ألف درهم وبها كفيل عنه بأمره
فصالح الكفيل الطالب على مائة درهم على إبراء
الأصيل من الألف جاز كما لو صالحه الأصيل
بنفسه وهذا ظاهر لأن الطالب استوفى عشر حقه
وأبرأه من سوى ذلك وكل واحد من الأمرين صحيح
في الكل فكذلك في البعض لم يرجع الكفيل على
المكفول عنه بمائة درهم لأن رجوع الكفيل
باعتبار ثبوت الملك له وذلك مقصور على ما أدى
دون ما أبرأه الأصيل عنه لأن الإبراء إسقاط
فلا يتضمن التمليك من الكفيل ولا يتحول به أصل
الدين إلى ذمة الكفيل بخلاف الإيفاء فإنه
يتضمن تحول أصل الدين إلى ذمة الكفيل ليتملك
بأدائه ما في ذمته فيستوجب الرجوع به على
الأصيل ولو صالحه على مائة درهم على أن يبرئ
الكفيل خاصة من الباقي رجع الكفيل على الأصيل
بمائة درهم ورجع الطالب على الأصيل بتسعمائة
لأن إبراء الكفيل يكون فسخا للكفالة ولا يكون
إسقاطا لأصل الدين فيبقى له في ذمة الأصيل ما
أبرأه الكفيل منه وتسعمائة وهذا لأن الكفيل
يلتزم المطالبة وإبراء الكفيل يكون تصرفا في
تلك المطالبة دون أصل الدين وبالإبراء لا
يتحول الدين إلى ذمة الكفيل.
ولو صالحه على مائة درهم على أن وهب التسعمائة
للكفيل كان للكفيل أن يرجع بالألف كلها على
المكفول عنه لأنه ملك جميع الأصل وهو الألف
بعضها بالأداء وبعضها بالهبة منه والبعض معتبر
بالكل وهذا لأن الهبة تمليك في الأصل فمن
ضرورة تصحيحه تحول الدين إلى ذمة الكفيل فلا
يبقى للطالب في ذمة الأصيل شيء ويتحول الكل
إلى ذمة الكفيل ثم يتملكها بالهبة والأداء
فيرجع بها على الأصيل.
ولو صالح الكفيل الطالب على عشرة دنانير أو
باعه إياه بعشرة دنانير كان للكفيل أن يرجع
على الأصيل بجميع الألف لأنه بهذا الصلح
والشراء يتملك جميع الألف ومن ضرورة صحتها
تحول الدين إلى ذمة الكفيل فإن الصلح في غير
جنس الحق يكون تمليكا كالبيع وكذلك كل ما
صالحه عليه من مكيل أو موزون بعينه أو حيوان
أو عرض أو متاع فالجواب
ج / 20 ص -52-
في
الكل سواء ولو كان معه كفيل آخر وكل واحد
منهما ضامن عن صاحبه كان له أن يرجع على صاحبه
بنصف ذلك لأن هذا الصلح أو البيع بمنزلة
الأداء في حق الرجوع على الأصيل فكذلك في حق
الرجوع على الكفيل معه ولو أدى جميع المال كان
له أن يرجع بنصفه على شريكه في الكفالة فكذلك
هنا.
ولو كفل رجلان عن رجل بألف درهم وكل واحد
منهما ضامن عن صاحبه فأدى أحدهما ثم أخذ صاحبه
في الكفالة معه بالنصف فصالحه من ذلك على مائة
درهم على أن أبرأه خاصة مما بقي فهو جائز
واستوجب الرجوع على صاحبه بنصف المؤدي وهو
خمسمائة ليستوي معه في الغرم فإذا استوفى منه
بعض ذلك وأبرأه عن الباقي جاز كما لو عامل
الأصيل بمثل ذلك ثم براءة الكفيل بالإبراء لا
تكون براءة للأصيل وقد كان للمؤدي أن يرجع على
الأصيل بجميع الألف فإنما وصل إليه من جهة
صاحبه مائة فيبقى حقه في الرجوع على الأصيل
بتسعمائة ويثبت للكفيل الآخر حق الرجوع على
الأصيل بمائة فأيهما أخذ منه شيئا اقتسما
المأخوذ اعتبارا على قدر شركتهما فيما في ذمته
لأحدهما تسعة أعشاره وللآخر عشره ولو صالح
المؤدي صاحبه من الخمسمائة على عشرة دنانير أو
كر حنطة أو عرض جاز ذلك كما يجوز صلحه مع
الطالب عن الخمسمائة على هذا المقدار ويملك
الكفيل الآخر خمسمائة بهذا الصلح بمنزلة ما لو
أداها بعينها إلى المؤدي فيتبع كل واحد منهما
الأصيل بخمسمائة وأيهما أخذ شيئا كان لصاحبه
نصفه على حسب حقهما في ذمته ولو كان الدين
طعاما وبه كفيل فصالح الكفيل الطالب منه على
عشرة دراهم رجع بالطعام كله على المكفول عنه
لأن ما أداه الكفيل يصلح أن يكون عوضا عن جميع
الطعام فيصير به متملكا بجميع الطعام.
ألا ترى أنه لو باعه بالطعام ثوبا كان به
متملكا جميع الطعام حتى يرجع به على الأصيل
فهذا مثله ولو كان الدين ألف درهم وبه كفيلان
كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فصالح أحد
الكفيلين صاحبه على مائة درهم على أن يبرئه من
حصته من الكفالة وقبضها منه ثم أن الكفيل الذي
قبض المائة أدى المال كله إلى الطالب رجع على
المكفول عنه بتسعمائة ولم يرجع على الكفيل معه
بشيء ويرجع المؤدي للمائة على المكفول عنه
بالمائة لأن كل واحد منهما كفيل عن الأصيل
بجميع المال وعن صاحبه بنصف المال صلح الكفيل
مع الأصيل قبل أدائه إلى الطالب صحيح كما يجوز
صلحه مع الطالب فإذا صالح أحدهما صاحبه على
مائة فقد صار مبرئا له عما زاد على المائة مما
استوجب الرجوع عليه وهو كان كفيلا عن الأصيل
وإبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل فإذا أدى
القابض للمائة جميع الألف فإنما أدى عن الأصيل
تسعمائة فيستوجب الرجوع بها عليه ويصير مؤديا
عن الكفيل معه مقدار ما كفل عنه وذلك مائة
درهم فيرجع المؤدي للمائة على الأصيل بتلك
المائة لأن أداء كفيله عنه كأدائه بنفسه ولو
لم يكن هكذا ولكن الطالب أخذ الكفيل الذي أدى
المائة واستوفى منه الألف كلها فله أن يرجع
على شريكه بتسعمائة لأنه دفع إليه المائة على
أن
ج / 20 ص -53-
يؤديها
عنه إلى الطالب فإذا لم يفعل حتى أداها بنفسه
كان له أن يرجع عليه بتلك المائة وقد كان كفل
عنه خمسمائة وأداها فله أن يرجع عليه بتلك
الخمسمائة أيضا ولو كان الكفيل صالح صاحبه على
كر حنطة ودفعه إليه على أن أبرأه من حصته من
الكفالة فهذا جائز فيما بينهما لأنه كفل
بالخمسمائة وما أدى إليه يصلح أن يكون عوضا عن
الخمسمائة ويكون هذا التصرف منهما غير جائز في
حق الطالب فله أن يأخذ بجميع المال أيهما شاء.
فإن أخذ الطالب الكفيل الذي أدى بالألف فأداها
فإنه يرجع بها تامة على الكفيل الذي معه
وبخمسمائة مع ذلك على الذي عليه الأصل إن شاء
إلا أن يشاء الكفيل القابض للطعام أن يرد عليه
الطعام ويرد عليه خمسمائة مع ذلك لأن المؤدي
للألف استوجب الرجوع على شريكه في الكفالة
بنصف ما أدى وهو خمسمائة لأنه تحمل ذلك عنه
بأمره وبالنصف الآخر لأنه دفع إليه الطعام على
أن يؤدي عنه ما يقابله وهو خمسمائة إلى الطالب
فإذا لم يفعل حتى أدى بنفسه كان له أن يرجع
عليه بتلك الخمسمائة أيضا إلا أن القابض
للطعام قبضه بطريق الصلح على أن يبرئ المؤدي
من رجوعه عليه لا على أن يرجع المؤدي عليه
بخمسمائة فإذا آل الأمر إلى ذلك خير لأن مبني
الصلح على التجوز بدون الحق فإن شاء نقض الصلح
ورد عليه الطعام وإن شاء أمسك الطعام ورد عليه
عوضه وهو خمسمائة وإن شاء المؤدي للألف رجع
بخمسمائة على الأصيل لأنه أداها عنه بعد ما
تحملها بأمره ورجع بخمسمائة على الكفيل الذي
قبض الطعام إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه
الطعام لما بينا.
وحاصل فقه هذه المسألة أن الخمسمائة التي هي
عوض عن الطعام لا يستوجب المؤدي الرجوع بها
على الأصيل لأنه صار مملكا إياها من المؤدي
للطعام فيكون رجوعه بذلك على القابض للطعام
خاصة إلا أن يشاء القابض للطعام أن يرد عليه
الطعام لأنه قبضه منه على سبيل الحط والإغماض
ولو صالح أحد الكفيلين صاحبه على عشرة دنانير
ودفعها إليه على أن أبرأه من حصته من الكفالة
ثم أن الطالب صالح الكفيل الذي قبض الدنانير
على تلك الدنانير بأعيانها عن جميع المال
وأداها إليه كان جائزا لأنه ملك الدنانير وتم
ملكه فيما قبضه من صاحبه فالتحق تعيينها من
دنانيره في جواز الصلح مع الطالب عليها من
جميع المال ويكون هذا الصلح تمليكا منه
لانعدام معنى الربا عند اختلاف الجنس ثم يكون
للكفيل الذي صالح الطالب أن يرجع على الأصيل
بخمسمائة درهم ويرجع الكفيل الآخر على الأصيل
بخمسمائة أيضا لأن الذي صالح الطالب قد يملك
جميع الألف بهذا الصلح بمنزلة ما لو أدى إليه
جميع الألف وكان له أن يرجع على شريكه
بخمسمائة لولا صلحه معه وقد صح صلحه معه عن
الخمسمائة على الدنانير فيجعل ذلك الصلح
بينهما كأنه كان بعد إذنه فيتقرر كل واحد
منهما في الرجوع عن الأصيل بخمسمائة لأن أداء
الكفيل المصالح الأول عنه كأدائه بنفسه وأيهما
أخذ شيئا من الأصيل شاركه فيه صاحبه لأن الدين
الذي في ذمة الأصيل مشترك بينهما وما يقبض أحد
الشريكين من دين مشترك بينهما شاركه فيه
صاحبه.
ج / 20 ص -54-
ولو لم
يكن هكذا ولكن أحد الكفيلين أدى المال كله إلى
الطالب ثم صالح الكفيل معه على مائة درهم على
أن أبرأه أو على عشرة دنانير على أن أبرأه
وقبض ذلك فهو جائز لأنه بالأداء استوجب الرجوع
على شريكه في الكفالة بخمسمائة والصلح من
الخمسمائة على مائة درهم أو على عشرة دنانير
جائز وهما يتبعان الأصيل بالألف تامة لأنهما
صارا مؤديين عنه جميع الألف فإن كان الصلح
بينهما على الدنانير فالألف بينهما نصفان لأن
مؤدي الدنانير يصير متملكا للخمسمائة بما أدى
فالصلح يصح بطريق التمليك إذا أمكن والإمكان
موجود عند اختلاف الجنس فيكون رجوع كل واحد
منهما على الأصيل بخمسمائة بمنزلة ما لو أدى
إلى صاحبه خمسمائة وإن جرى الصلح بينهما على
مائة درهم فالألف بينهما على عشرة أسهم لأن
صحة الصلح عنهما هنا بطريق الإسقاط فإن مبادلة
الخمسمائة بالمائة ربا فالمؤدي للمائة لا يأخذ
إلا مقدارها وإبراء مؤدي الألف صاحبه عما زاد
على المائة لا يكون إبراء الأصيل فيكون له أن
يرجع على الأصيل بتسعمائة وللآخر أن يرجع عليه
بالمائة فإذا اقتضاه شيئا منها يكون المقبوض
بينهما على مقدار حقهما اعتبارا ولو صالحه على
عرض أو حيوان كان مثل الصلح على الدنانير لأن
تصحيحه بطريق التمليك ممكن والصلح قبل الأداء
وبعد الأداء جائز لأن الدين يجب للكفيل عن
الأصيل بالكفالة كما يجب للطالب على الكفيل
بعين في حق المطالبة.
ألا ترى أن الكفيل يطالب الأصيل بحسب ما
تعامله الطالب مع الكفيل ويجوز صلح الكفيل مع
الأصيل قبل الأداء وبعده وإذا كان الدين طعاما
قرضا أو غصبا فصالح أحد الكفيلين صاحبه على
دراهم مسماة على أن أبرأه من خصومته فهو مثل
الباب الأول لما بينا أن تصحيح هذا الصلح
بينهما بطريق المبادلة ممكن فإن أدى الذي قبض
الدراهم والطعام كله كان لهما أن يتبعا الأصيل
بذلك نصفين لأن المؤدي للدراهم كان أصيلا في
حق صاحبه وأداء كفيله كأدائه بنفسه وقد تم
ملكه في حصته من الطعام بما أدى من الدراهم
إلى صاحبه فيرجع على الأصيل بذلك والمؤدي
للطعام كفيل عن الأصيل بالطعام وقد أدى فيرجع
عليه بما لم يصل إليه عوضه من صاحبه وذلك نصف
الطعام فلهذا رجعنا عليه بالطعام نصفين وإن
أدى الطعام الذي دفع الدراهم اتبع صاحب الأصل
بالجميع لأنه كان كفيلا عنه بجميع الطعام وقد
أدى فيرجع على الكفيل الذي قبض الدراهم بنصف
ما أدى الطعام لأنه دفع إليه الدراهم عوضا عن
نصف الطعام الذي كان كفل به عنه ليؤديه إلى
الطالب ولم يفعل فيرجع عليه بذلك إلا أن يشاء
القابض للدراهم أن يرد الدراهم لأنه قبضها
بطريق الصلح ومبنى الصلح على التجوز بدون الحق
فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه رد نصف الطعام
ويكمله عليه كان له أن يلتزم هذا الضرر ويرد
عليه المقبوض من الدراهم إن شاء.
وإن شاء الكفيل الذي أدى الطعام اتبع صاحبه في
الكفالة بجميع الطعام ليؤديه عنه إلى الطالب
فإذا لم يفعل حتى أدى بنفسه كان له أن يرجع
عليه بذلك أيضا إلا أن يشاء القابض
ج / 20 ص -55-
للطعام
أن يرد عليه دراهمه مكان نصف الطعام فحينئذ
يكون له ذلك فيدفع إليه دراهمه مع نصف الطعام
فالمقبوض منه يكون مشتركا بينهما على قدر
حقيهما وإن كانا كفيلين عن رجل بمائة درهم وكل
واحد منهما كفيل عن صاحبه بها ثم أن أحد
الكفيلين صالح الآخر على عشرة دراهم على أن
أبرأه ثم صالح الطالب الذي قبض العشرة على
خمسة دراهم وأداها إليه فإنه يرد تسعة ونصفا
على الكفيل الذي معه ثم يرجعان جميعا على
الأصيل بخمسة لأن المؤدي للعشرة إنما أداها
إلى صاحبها على أن يؤدي عنه العشرة وهو ما أدى
إلى الطالب مما كفل عنه إلا درهمين ونصفا لأنه
أدى إليه خمسة وهي شائعة في النصفين نصف ذلك
مما هو فيه متحمل عن صاحبه فعرفنا أنه أدى إلى
الطالب مما تحمل عن صاحبه درهمين ونصفا وصاحبه
إنما بريء مما بقي بإبراء الطالب لأن عند
اتحاد الجنس يتعدد تصحيح الصلح بطريق المبادلة
فلهذا رجع المؤدي للعشرة على صاحبه بسبعة ونصف
ثم كل واحد منهما يؤدي عن الأصيل درهمين ونصفا
حكما فيرجعان عليه بالخمسة كذلك.
ولو لم يكن هكذا ولكن الذي عليه الأصل صالح
أحد الكفيلين على عشرة دراهم ودفعها إليه فهو
جائز بطريق الإسقاط لما وراء العشرة مما
استوجب الرجوع به عليه عند الأداء فإن أدى
الكفيل الذي أخذ العشرة إلى الطالب المائة
درهم لم يرجع على الأصيل ولا على صاحبه بشيء
وقد صالح الأصيل على ما أخذ منه من العشرة
وصار مبرئا له عما زاد على ذلك فلا يرجع عليه
بشيء عند الأداء والكفيل معه إنما استفاد
البراءة ببراءة الأصيل لا بأدائه لأن براءة
الأصيل على أي وجه تكون تتضمن براءة الكفيل
ولو أدى الكفيل الآخر المائة كان له أن يرجع
على الكفيل الذي معه بخمسين درهما وعلى الأصيل
بمثل ذلك لأنه صار مؤديا عن الكفيل الذي معه
مقدار الخمسين ولو لم يجر بين الكفيل الآخر
وبين الأصيل صلح كان لهذا المؤدي أن يرجع على
الكفيل الآخر بما أدى عنه بالكفالة وهو مقدار
الخمسين فبعد صلحه أولى وقد كان كفيلا عن
الأصيل بالخمسين الأخرى وأداها عنه ثم يرجع
الأصيل على الكفيل الذي صالحه بخمسة دراهم
لأنه كان صالحه على عشرة دراهم ونصف ذلك مما
كان هو الذي كفل به عنه ونصفه مما كفل به
صاحبه على أن يكون هو المؤدي عنه فإذا لم يفعل
كان له أن يرجع عليه بنصف تلك العشرة وهو خمسة
وتسليم الخمسة الأخرى للمصالح لأن الكفيل
الآخر لما رجع عليه بخمسين كان له أن يرجع
بذلك على الأصيل لولا صلحه معه على هذه الخمسة
وإبراؤه إياه عما زاد عليها إلى تمام الخمسين.
ولو صالح الأصيل الكفيلين جميعا على عشرة
دراهم من جميع الكفالة فهو جائز وأيهما أدى
بالكفالة المائة إلى الطالب فإنه لا يرجع على
الأصيل بشيء إلا بخمسة لأن كل واحد منهما
بالصلح قد أبرأه عما زاد على الخمسة إلى تمام
ما كفل عنه ولو أبرأه عن ذلك بعد الأداء سقط
حقه في الرجوع عليه فكذلك قبل الأداء وإن شاء
رجع على صاحبه بالخمسة التي قبضها من الأصيل
لأنه إنما كان قبض تلك الخمسة ليؤدي إلى
الطالب ما
ج / 20 ص -56-
تحمل
عن الأصيل ولم يؤد شيئا وإنما أداه الآخر
فيكون هو أحق بتلك الخمسة يقبضها منه ولا
يتبعان بشيء لما بينا أو المراد بقوله لا يرجع
المؤدي على الأصيل إلا بخمسة سوى الخمسة التي
قبضها صاحبه في الكفالة لأن المؤدي أدى تلك
الخمسة بحكم الكفالة عن الأصيل وهو ما أبرأه
منها فيرجع بها على الأصيل إن شاء ثم يرجع بها
الأصيل على القابض منه وإن شاء رجع بها على
صاحبه لما بينا وإن لم يؤد واحد من الكفيلين
المال ولكن أدى الأصيل رجع على الكفيلين بعشرة
دراهم بعينها لأنهما استوفيا العشرة منه
ليؤديا عنه ما تحملا من الدين ولم يوجد ذلك
حين أدى هو المال بنفسه فكان له أن يرجع
عليهما بتلك العشرة ولا يرجع بما زاد على ذلك
لأن رجوعه عليهما بحكم استيفائهما منه لا بحكم
إسقاطهما عنه.
ولو صالحهما على ثوب ودفعه إليهما ثم أنه أدى
المائة إلى الطالب رجع على كل واحد منهما بقبض
نصف الثوب منه في حكم المستوفي الخمسين بطريق
المبادلة وإنما استوفى على أن يؤدي عنه حق
الطالب فإذا لم يفعل ولكن أداها صاحبه وقد كان
كفيلا عنه بها كان له أن يرجع بتلك الخمسين
عليه وإن شاء رجع بها على الأصيل لأنه يتحمل
تلك الخمسين عن الأصيل وقد أداها فإن رجع بها
على الأصيل رجع بها الأصيل على الكفيل الذي لم
يؤد شيئا إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه نصف
الثوب الذي صالحه عليه لأنه استوفاها عنه
ليؤديها عنه فإذا لم يفعل حتى أدى هو بنفسه
إلى الكفيل المؤدي عنه كان ذلك بمنزلة أدائه
إلى الطالب فيرجع بها على الذي لم يؤد شيئا إذ
الذي لم يؤد شيئا صار مستوفيا بطريق التجوز
بدون الحق فيتخير لذلك ولو لم يؤد مائة درهم
ولكنه أدى عشرة دراهم فصالحه عليها الطالب
فإنه لا يرجع على شريكه في الكفالة بخمسة
دراهم ولكن الأصيل يرجع على الكفيل المؤدي
للعشرة إلى الطالب بأربعين درهما وعلى الكفيل
الآخر بخمسين لأن كل واحد منهما بقبض نصف
الثوب منه صار قابضا للخمسين على أن يؤدي عنه
ذلك إلى الطالب ولم يفعل ذلك الذي لم يؤد إلى
الطالب شيئا وإنما بريء هو عن تلك الخمسين
بإبراء الطالب إياه فكان للأصيل أن يرجع عليه
بتلك الخمسين إلا أن يشاء هو رد نصف الثوب
عليه والمؤدي للعشرة كان في حكم القابض
للخمسين منه أيضا على أن يؤدي ذلك عنه وإنما
أدى إليه عشرة فما زاد على العشرة إنما بريء
الأصيل عنه بإبراء الطالب فيكون له أن يرجع
على المؤدي للعشرة بقدر الأربعين لذلك ولا
رجوع للمؤدي للعشرة على شريكه بنصف العشرة
لأنه قد استوفى من الأصيل هذه العشرة وزيادة
فكيف يرجع بشيء منها على شريكه ولو لم يؤد
شيئا ولكن الأصيل صالح الطالب على عشرة دراهم
فإنه يرجع على كل واحد من الكفيلين بخمسين
درهما إلا أن يشاء رد الثوب عليه لأن كل واحد
منهما في حكم المستوفي للخمسين منه ولكن بطريق
التجوز بدون الحق.
ولو كان الأصيل صالح الكفيلين على عشرة دراهم
وكان أحد الكفيلين صالح الطالب على أربعة
دراهم فإنه لا يرجع على صاحب الدرهمين اللذين
أدى عنه لما بينا أنه قبض
ج / 20 ص -57-
ذلك من
الأصيل وزيادة ولكن يرد درهما على الأصيل لأنه
قبض من الأصيل خمسة وما أدى عنه إلى الطالب
إلا أربعة فإنما بريء عما زاد على الأربعة
بإبراء الطالب ويرد صاحبه خمسة دراهم على
الأصيل لأن صاحبه استوفى من الأصيل خمسة دراهم
ولم يؤد عنه شيئا وإنما بريء هو من حصة صاحبه
بإبراء الطالب ولو كان الأصيل صالحهما على ثوب
ثم أن أحدهما صالح الطالب على دراهم على أن
أبرأه من جميع المال لم يرجع على شريكه بشيء
لأنه إنما أدى إلى الطالب درهما وقد صار
مستوفيا من الأصيل مقدار الخمسين بالصلح على
الثوب فلهذا لا يرجع على شريكه بشيء ولكن
المصالح مع الطالب يرد على الأصيل تسعة
وأربعين درهما وصاحبه يرد على الأصيل خمسين
درهما لأن كل واحد منهما صار مستوفيا للخمسين
درهما من الأصيل على أن يستفيد الأصيل البراءة
من حق الطالب بأدائهما ولم يوجد ذلك فالذي
صالح الطالب على الدراهم إنما أدى عنه الدراهم
فقط فيرد عليه ما زاد على ذلك إلى تمام
الخمسين والآخر لم يؤد عنه شيئا إلى الطالب
فيرد عليه ما صار مستوفيا منه وذلك خمسون
درهما.
وإذا كفل رجل بمال مؤجل ثم فاوض رجلا ثم حل
الأجل لم يلزم شريكه من ذلك شيء أما عند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله فلأن عقد المفاوضة لا
يوجب المساواة بينهما في ضمان الكفالة أن لو
كانت الكفالة بعد الشركة فإذا كانت قبلها أولى
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن كل واحد من
المتفاوضين يكون كفيلا عن صاحبه فيما يجب على
صاحبه بسبب يباشره بعد الشركة وهذا المال إنما
لزمه بسبب باشره قبل الشركة لأن وجوب المال
عليه بسبب الكفالة لا بحلول الأجل والأجل الذي
كان مانعا من المطالبة يرتفع بمضي المدة فيبقى
المال عليه بسبب الكفالة وقد كان قبل الشركة
فهو بمنزلة ما لو اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم
فاوض رجلا.
ولو كفل بالمال مؤجلا وهو معاوضة ثم فارقه أو
صار شريكه فإنه يلزم شريكه جميع الكفالة في
قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المال إنما لزمه
بسبب باشره في حال قيام الشركة بينهما وإنما
كان زوال المانع بعد انقطاع الشركة وكما وجب
المال بمباشرة السبب على الذي باشره وجب على
الآخر بحكم الكفالة عنه فيفسخ الشركة
وانفساخها بالموت لا يسقط عنه ما كان لزمه كما
لو اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم تفاسخا الشركة فإن
أداها الشريك قبل الفرقة أو بعدها كان له أن
يرجع على الذي أمر شريكه بالكفالة لأنه كما
قام مقام الشريك في وجوب المال عليه والأداء
إلى الطالب فكذلك في الرجوع على الأصيل وهذا
لأن بالكفالة كما وجب المال للطالب على كل
واحد من الشريكين وجب أيضا لكل واحد منهما على
الأصيل الذي أمر أحدهما بالكفالة لأن أمره
أحدهما كأمره إياهما فإنهما بعقد المفاوضة
صارا كشخص واحد.
كذلك لو أداه بعد موت الكفيل لأنه مطالب
بالمال بعد موته كأن مات قبله فإن مات
ج / 20 ص -58-
المفاوض الذي لم يكفل قبل حل الأجل فالمال يحل
عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحل على
الحي منهما لأن الأجل كان ثابتا في حق كل واحد
منهما إلا أن الميت استغنى عن الأصيل بموته
والحي يحتاج إلى ذلك والميت لا ينتفع ببقاء
الأجل بل يتضرر بذلك لأن يد الوارث لا تنبسط
في التركة والحي ينتفع بالأجل فيبقى الأجل في
حق الحي منهما دون الميت وحلول المال على
الميت منهما بعد الموت لا يوجب حلوله على
الآخر لأن الشركة قد انقطعت بموته فأما في
شركة العنان والمضاربة إذا كفل أحدهما بمال أو
نفس لم يلزم شريكه منه شيء لأن الشركة بينهما
تتضمن الوكالة في التجارة دون الكفالة فالدين
الذي يجب على أحدهما بمباشرة سببه يكون الآخر
كالأجنبي فيه فلا يطالب بشيء منه.
وإذا كان لرجل على رجل حنطة سلم وبه كفيل
فأداه الكفيل ثم صالح المكفول عنه على دراهم
أو عرض أو مكيل أو موزون يدا بيد فهو جائز لأن
ما يرجع به الكفيل على الأصيل ليس بسلم فإن
السلم اسم لما يجب بعقد السلم وهذا إنما يجب
للكفيل على الأصيل بعقد الكفالة وهو عقد آخر
سوى السلم
ألا ترى أنه لو كفل ببدل الصرف أو برأس مال
السلم وأداه في المجلس ثم فارق الأصيل قبل أن
يرجع به عليه جاز ذلك لأن ما يرجع به الكفيل
على الأصيل بمنزلة بدل القرض فإن الكفيل يصير
مقرضا ذمته من الأصيل بالالتزام للمطالبة
بالكفالة ثم يصير مقرضا ماله منه بالأداء عنه
فما يرجع به عليه يكون بدل القرض والاستبدال
ببدل القرض صحيح ولو كان شيء من ذلك نسيئة لم
يجز إلا الطعام لأن ذلك يكون دينا بدين فأما
إذا صالحه بكر من حنطة إلى أجل فهو جائز لأنه
لا مبادلة هنا بل هو تأجيل في عين ما استوجب
الرجوع به عليه.
فإن قيل فأين ذهب قولكم إنه بمنزلة القرض
والأجل في القرض لا يلزم قلنا هو في حكم القرض
وأما في الحقيقة فليس بقرض بل هو واجب بعقد
مآلا وهو الكفالة والأجل في القرض إنما لم
يلزم بمنزلة الإعارة وهو غير موجود فيما وجب
بعقد الكفالة فلهذا صح تأجيله فيه ولو صالحه
على شيء قبل أن يؤدي كان جائزا لأنه بنفس
الكفالة وجب الدين للكفيل على الأصيل كما وجب
للطالب على الكفيل ولكنه مؤجل على أن يؤدي عنه
والصلح عن الدين المؤجل قبل حلول الأجل صحيح
فإن أدى الأصيل الطعام إلى الطالب رجع على
الكفيل بطعام مثله في ذلك كله ما خلا خصلة
واحدة وهي ما إذا كان صالحه على طعام أقل من
ذلك فإنه لم يرجع إلا بمثل ما أعطاه لأن هذا
كان منه إسقاطا لبعض حقه واستيفاء للبعض فلا
يرجع عليه إلا بقدر ما أوفاه وفيما سواه كان
الصلح بينهما مبادلة وكان الكفيل كالمستوفي
منه جميع الطعام بما أخذه من عوضه وإنما
استوفى ذلك ليقضي عنه ما عليه للطالب فإذا لم
يفعل كان للأصيل أن يرجع عليه بما استوفى منه
كما إذا أوفاه الطعام حقيقة.
ولو أخذ الكفيل الطعام من الأصيل قبل أن يؤديه
ثم أداه كان التأجيل صحيحا لأنه
ج / 20 ص -59-
استوجب
المال عليه بعقد الكفالة قبل الأداء والتأجيل
في الدين بعد وجوبه صحيح ولو صالح الكفيل
الأصيل على دراهم ثم افترقا قبل أن يقبضها
فالصلح باطل لأنه استوجب عليه الطعام دينا
فإذا صالحه على دراهم كان دينا بدين فلا يكون
عفوا بعد المجلس والدراهم لا تتعين بالتعيين
ما لم تقبض وكذلك لو صالحه على شيء بغير عينه
مما يكال أو يوزن ما خلا الطعام فإنه إن صالحه
على نصف كر حنطة إلى أجل فهو جائز لأنه لا
مبادلة بينهما في هذا الصلح وإنما حط عنه نصف
الكر وأجله في ذلك النصف وذلك مستقيم والله
أعلم.
باب الكفالة والحوالة إلى أجل
قال رحمه الله: وإذا كان
لرجل على رجل مائة درهم إلى أجل مسمى فضمنها
رجل عنه إلى أجل دون ذلك أو أكثر منه أو مثله
فهو جائز على ما سمى أما إذا لم يسم الكفيل
شيئا فالمال عليه إلى ذلك الأجل لأنه بالكفالة
إنما يلتزم المطالبة التي هي ثابتة على الأصيل
والمطالبة بهذا المال على الأصيل بعد حل الأجل
فيثبت ذلك على الكفيل أيضا وأما إذا كفل به
إلى مثل ذلك فقد صرح بما هو مقتضى مطلق
الكفالة والتصريح بمقتضى العقد لا يزيده إلا
وكادة وأما إذا كفل به إلى أجل دون ذلك فلأنه
لو كفل به حالا لزمه المال في الحال لأن
الأصيل لو أسقط الأجل لزمه المال في الحال
فكذلك الكفيل وكفالته على أن يؤديه حالا
بمنزلة إسقاط الأجل فإذا جاز في جميع الأجل
جاز في بعضه وإن كفل به إلى أجل أكثر من ذلك
فلأنه لو كان المال حالا على الأصيل فكفل به
الكفيل إلى أجل مسمى صح ولم يطالب الكفيل إلا
بعد حل الأجل.
فكذلك إذا كفل به إلى أجل أكثر من الأجل في حق
الأصيل فإن كان أصل المال حالا فأخذ الطالب
المطلوب حتى أقام له به كفيلا إلى سنة فهو
جائز والتأخير عنهما جميعا لأنه أضاف التأجيل
إلى أصل المال وأصل المال ثابت في ذمة المطلوب
فيثبت الأجل فيه ثم يثبت في حق الكفيل بثبوته
في حق الأصيل وهذا بخلاف ما إذا أجل الكفيل
سنة لأن التأجيل هنا غير مضاف إلى أصل المال
بل هو مضاف إلى المطالبة التي التزمها الكفيل
بالكفالة فيبقى أصل المال حالا على الأصيل ولو
أن الكفيل أخر المطلوب بعد الحل إلى أجل مسمى
كان التأخير عن المطلوب للكفيل دون الطالب
لأنه أضاف التأخير إلى ما استوجبه على الأصيل
بالكفالة وذلك في حكم دين آخر سوى دين الطالب
ولأن التأخير تصرف من الكفيل بإسقاط حق
المطالبة إلى مدة وذلك صحيح منه على نفسه دون
الطالب ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب أو أبرأه
عن بعضه جاز ذلك عليه دون الطالب ولم يرجع به
على المكفول عنه حتى يمضي الأجل كما لو أجله
بعد الأداء ولو أجل المال عليهما ثم أخر
الطالب الأصيل سنة فهو تأخير عنهما ولو أخر
الكفيل سنة كان له أن يأخذ الأصيل بها حالة
اعتبارا للتأجيل بالإبراء فكما أن إبراء
الكفيل لا يوجب براءة الأصيل وإبراء الأصيل
يوجب براءة الكفيل فكذلك التأخير وبعد ما أخر
الأصيل إذا أدى الكفيل المال قبل الأجل لأن
ج / 20 ص -60-
إسقاط
الكفيل الأجل صحيح منه فيما بينه وبين الطالب
ودعواه غير صحيحة منه في حق المطلوب
وإن كان أخر الكفيل سنة ثم أداه الكفيل قبل
الأجل كان له أن يرجع على الأصيل في الحال لأن
المال حال على الأصيل ألا ترى أن الطالب كان
يطالبه به حالا فكذلك الكفيل يطالبه حالا بعد
الأداء بخلاف ما سبق والكفالة بالقرض إلى أجل
مسمى جائزة لأن بدل القرض مضمون تجري النيابة
في أدائه فتصح الكفالة به وهو على الكفيل إلى
أجل وعلى المكفول عنه حالا لما بينا أن الكفيل
إنما التزم المطالبة بالعقد وذلك يقبل التأخير
بالتأجيل.
ولو كفل رجل مالا عن رجل ثم كفل به عن الكفيل
كفيل آخر وأخر الطالب عن الأصيل سنة فهو تأخير
عن الكفيلين لأن أصل المال في ذمة الأصيل فإذا
صار ما في ذمته مؤجلا ثبت الأجل فيما هو بناء
عليه ألا ترى أنه لو أبرأ الأصيل منها بريء
الكفيلان جميعا وإن أخر عن الكفيل الأول فهو
تأخير عنه وعن الكفيل الآخر والمال على الأصيل
حال اعتبار التأجيل بالإبراء وهذا لأن
المطالبة التي التزمها الكفيل الثاني بناء على
المطالبة التي هي على الكفيل الأول فالتأجيل
في حق الكفيل الأول يكون تأجيلا في حق الثاني
دون الأصيل ولو كفل رجل عن رجل بألف درهم إلى
سنة ثم أن الكفيل باع الطالب بها عبدا قبل
الأجل وسلمه إليه فاستحق العبد فالمال على
الكفيل إلى أجله بمنزلة ما لو كانت هذه
المعاملة للطالب مع الأصيل وهذا لأن الأجل
إنما سقط حكما للعقد وقد انتقض العقد من
الأصيل باستحقاق العبد فكان المال عليه إلى
أجله.
وكذلك لو رده المشتري بعيب بقضاء قاض لأن الرد
بالعيب بقضاء القاضي فسخ للعقد من الأصل
ولو رد بغير قضاء قاض ولم يسم أجلا فالمال حال
على الكفيل لأن هذا بمنزلة الإقالة بمنزلة
العقد الجديد فإنها تعتمد التراضي إلا أنها
جعلت فسخا فيما بين المتعاقدين فيما هو من
أحكام العقد الذي جرى بينهما والأجل ليس من
ذلك في شيء فكان في حكم الأجل هذا بمنزلة عقد
مبتدأ فلا يثبت الأجل في بدله إلا بالشرط ولو
كان قضاه الألف معجلة نبهجرة فوجدها ستوقة
فردها عليه كان المال عليه إلى أجله لأنه تبين
أنه ما صار قابضا لدينه وسقوط الأجل من حكم
قبضه فإذا لم يصر قابضا كان المال مؤجلا عليه.
وكذلك إن وجدها زيوفا فردها بقضاء قاض أو بغير
قضاء قاض لأن الرد بعيب الزيافة فسخ للقبض من
الأصل بدليل أن الراد ينفرد به وأن يرجع بموجب
العقد والعقد لا يوجب التسليم مرتين فلو لم
ينتقض القبض من الأصل ما كان له أن يرجع بموجب
العقد وهذا لأن الزيوف غير الجياد التي هي دين
في الذمة فالمقبوض إنما يكون حقا له على أن
يتجوز به فإذا لم يتجوز به ورده عرف أن
المقبوض لم يكن حقا له وسقوط الأجل كان
باعتبار أنه قبض حقه فإذا انعدم ذلك بقي الأجل
كما كان وإن كان حين أعطاه المال أعلمه أنها
زيوف فهو جائز لأنه تجوز بدون حقه فيصير
الكفيل به قابضا دينه ولا يجعل هذا مبادلة
للأجل
ج / 20 ص -61-
بالصفة
لأنه كان من غير شرط بينهما وإنما تتحقق
المبادلة إذا كان شرط ثم يرجع الكفيل على
الأصيل بالجياد لأنه بالكفالة استوجب ذلك
عليه.
ولو أن الكفيل أحاله بالمال على رجل إلى أجل
أو حال فمات المحتال عليه مفلسا رجع المال على
الكفيل إلى أجله لأن الحوالة تنفسخ بموت
المحتال عليه مفلسا على ما بينا فإنما يعود
الحكم الذي كان قبل الحوالة وهو أن المال عليه
إلى أجله ولو كفل رجل عن رجل بألف درهم وكل
واحد منهما كفيل عن صاحبه على أن المال على
أحدهما إلى سنة وعلى الآخر إلى سنتين فهو جائز
لأن هذا هو الشرط لما جاء في الحديث الشرط
أملك أي يجب الوفاء به إذا أمكن وهو ممكن هنا
لما بينا أن ما يلتزمه كل واحد من الكفيلين
ينفصل عما يلتزمه الآخر في حكم الأجل فإن حل
الأجل على صاحب السنة بأدائه رجع به على
الأصيل لأن المال عليه حال وقد كفل هذا الكفيل
عنه بأمره وأداؤه لا يرجع به على الكفيل الآخر
حتى تمضي سنة أخرى لأن المال عليه مؤجل إلى
سنتين وهو كفيل عنه إلى سنة فكما أن الطالب لا
يطالبه بذلك إلا بعد سنتين فكذلك المؤدي عنه
بحكم الكفالة لا يطالبه بشيء منه حتى تمضي
السنتان ولو كان الأصيل باع الطالب عبدا
بالمال وسلمه إليه بريء الكفيل من الكفالة
لبراءة الأصيل فإن رد الطالب العبد عليه بعيب
بغير قضاء قاض لم يرجع المال على الكفيل لأن
هذا الرد بمنزلة عقد مبتدأ في حق الكفيل وإن
رده بقضاء قاض أو استحق العبد من يده رجع
المال على الكفيل لأن بهذا السبب ينفسخ العقد
من الأصل في حق الكل فيعود ما كان قبل العقد
وهو المال على الأصيل والكفيل جميعا.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم حالة أو إلى
سنة فأحاله بها على رجل إلى سنة ثم مات المحيل
وهي على المحتال عليه إلى الأجل لأن بالحوالة
تحول أصل المال إلى ذمة المحتال عليه وثبت
الأجل حقا له وهو حي محتاج إلى الأجل فيبقى
الأجل في حقه بعد موت المحيل وإن مات المحتال
حل المال عليه لأنه استغنى عن الأجل بموته فإن
لم يترك وفاء رجع المال إلى المحيل فإن كان
إلى أجل فهو عليه إلى ذلك الأجل وإن لم يكن له
أجل فهو حال عليه لأن الحوالة تنفسخ بموت
المحتال عليه مفلسا فعاد ما كان من الحكم قبل
الحوالة ولو كان لرجل على رجل ألف درهم قرض
وللمطلوب على آخر ألف درهم قرض فأحال المطلوب
الطالب بالألف التي للمطلوب على الآخر إلى سنة
فهو جائز وهي له إلى سنة لأنها إنما تجب
للطالب على المحتال عليه بعقد الحوالة والواجب
بعقد الحوالة كالواجب بعقد الكفالة في صحة
اشتراط الأجل فيه وليس للمحيل أن يأخذ المحتال
عليه بالألف التي كانت له عليه لأنه إنما قبل
الحوالة مقيدة بذلك المال فصارت مشغولة بحق
الطالب ولا يبقى للمحيل سبيل على أخذها لو
كانت عينا له في يد المحتال عليه فكذلك إذا
كانت دينا في ذمته وإن أبرأه منها أو وهبها له
لم يجز لأن حق الطالب تعلق بها وذلك يوجب
الحجر على المحيل عن التصرف فيها ولو صح منه
هذا التصرف بطل حق الطالب قبل المحتال
ج / 20 ص -62-
عليه
لأنه ما التزم الحوالة بالمال مطلقة وإنما
التزمها مقيدة بذلك المال فإذا سقطت عنه
بالإبراء أو الهبة لم يبق عليه مطالبة بشيء.
ألا ترى أن الحوالة لوكانت مقيدة بوديعة في يد
المحتال عليه فهلكت تلك الوديعة بطلت الحوالة
فإن مات المحيل وعليه دين فما كان قبض المحتال
له في حياته فهو له وما لم يقبضه فهو بينه
وبين الغرماء وعلى قول زفر رحمه الله الطالب
أحق به من الغرماء لأنه بمنزلة المرهون وقد
تقدم بيان هذه المسألة فيما أمليناه من شرح
الزيادات ولو أحال رجل رجلا على رجل بألف درهم
إلى سنة ثم أن المحتال عليه ترك الأجل وجعلها
حالة كان ذلك جائزا لأن الأجل حقه فيسقط
بإسقاطه كما لو أسقط الأصيل الأجل قبل الحوالة
فإن أداها لم يرجع بها على الأصيل المحيل حتى
يمضي الأجل لأن إسقاط الأجل صحيح في حقه لا في
حق المحيل ولو كان دينا للمحيل على المحتال
عليه ثم أن المحيل قضى المال من عنده كان له
أن يرجع بها على المحتال عليه وليس هذا بتطوع
عنه لأن أصل دينه بقي على المحتال عليه إلا
أنه كان لا يطالبه به لاشتغاله بحق الطالب
فإذا زال ذلك الشغل بأن قضاه المال من عند
نفسه كان له أن يرجع بها على المحتال عليه
وإنما لم يجعل هذا تطوعا منه لأنه قصد به
تخليص ذمته عن حق الغرماء بخلاف ما إذا قضاه
عنه غيره فإنه يكون متطوعا في ذلك لأنه ما قصد
هذا المؤدي تخليص شيء لنفسه وهو نظير المعير
للرهن إذا قضى الدين لم يكن متبرعا فيه بخلاف
ما إذا قضاه غيره.
وإذا كان المؤدي متطوعا كان المال الذي عليه
له لا سقوط دين الطالب عنه بإبراء المتطوع
كسقوطه بأداء نفسه ولو أحال رجل بمال لابنه
الصغير على رجل إلى رجل لم يجز وكذلك الوصي
لأن الحوالة إبراء الأصيل والأب والوصي لا
يملكان الإبراء في دين الصغير وكذلك الوكيل
إذا لم يفوض إليه الموكل ذلك والمراد الوكيل
بالقبض لأنه ثابت في الاستيفاء وقبول الحوالة
إبراء للأصيل وليس باستيفاء فأما الوكيل
بالعقد إذا أحال رجل على رجل بمال إلى أجل ثم
أن المحتال عليه أحاله على آخر إلى أجل مثل
ذلك أو أكثر أو أقل لم يكن له أن يرجع على
الطالب حتى يقبض الطالب ماله لأن بالحوالة لم
يصر الطالب مستوفيا شيئا والمال بعرض العود
على الأصيل فإنه تنفسخ الحوالتان بموت المحتال
عليه عليهما مفلسين.
ولو احتال رجل على رجل بمال إلى أجل ثم مات
المحتال عليه وترك وفاء وعليه دين فكان في طلب
الغرماء وقسمته تأخير بعد الأجل لم يكن للطالب
أن يرجع على الأصيل حتى ينظر إلى ما يصير أمره
لأن الحوالة باقية بعد موت المحتال عليه مليا
فإن تركته خلف فيما هو المقصود وهو قضاء الدين
منه ومع بقاء الحوالة لا سبيل للطالب على
المحيل في المطالبة بشيء والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب.
ج / 20 ص -63-
باب الأمر بالضمان
قال رحمه الله: وإذا أمر رجل رجلا أن يضمن
لرجل ألف درهم وليس بخليط له فضمنها له فهي
لازمة الكفيل يأخذه بها الطالب لأنه التزمها
وهو من أهله والمضمون ما يكون لازما في ذمته
ويكون هو مجبرا على أدائه فإذا أداها لم يرجع
بها على الآمر لأنه لم يأمره أن يضمن عنه ولم
يشترط الكفيل لنفسه ضمانها عليه وهو قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف
الأول رحمه الله ثم رجع فقال يرجع بها على
الذي أمره لأن أمره إياه بالضمان بمنزلة
الاعتراف منه أن المال عليه وأنه يلتزم
المطالبة عليه من المال ويسقط المطالبة عنه
بالأداء وقد بينا هذه المسألة فأعادها في
الفروع ولم يذكرها فيما سبق.
وقال إن قال الكفيل إني لم أضمن لك دينا كان
لك على أحد وإنما ضمنت لك مالا لم يكن علي ولا
على غيري فإن الطالب لا يكلف شيئا ولا يطلب
منه تفسير وجه هذا المال من أين كان وكيف كان
ولكن كان الكفيل يؤخذ بالضمان بإقراره أو
بالبينة التي قامت للطالب عليه بالضمان
والكفيل هو الذي ضيع حقه حين كفل على وجه لا
يستطيع الرجوع به على أحد وهذا لأن مطلق
العقود الشرعية محمولة على الصحة وقد باشر
الكفيل الكفالة ظاهرا ووجه صحتها أن يكون
ملتزما للمطالبة بما هو واجب على الأصيل فيصير
هو مقرا بذلك ثم هو بالكلام الثاني رجع عما
أقر به أولا فيكون رجوعه باطلا وإقراره وإن لم
يكن حجة على غيره فهو حجة عليه بمنزلة ما لو
قال لفلان على فلان ألف درهم وأنا بها كفيل
عنه بأمره وأنكر الأصيل ذلك كله فإن المقر
يطالب بالمال ولا يرجع به على أحد إذا أدى.
وكذلك لو قال رجل لآخر أكفل لفلان بألف درهم
ففعل أو قال احتال عليك فلان بألف درهم فأشهد
له الآخر أنه قال احتال عليه بألف درهم فالمال
لازم للكفيل لمباشرته سبب الالتزام وهو
الكفالة والحوالة وليس على الآمر من ذلك شيء
لأنه أمره بالكفالة عنه وليس من ضرورة أمره
إياه بالكفالة والحوالة وجوب أصل المال عليه
لأن الكفالة والحوالة من المباشر كما تجوز
بالمال الذي على الآمر لفلان تجوز بالمال الذي
على غيره لفلان ويحتمل أن يكون الآمر رسول ذلك
المطلوب إليه أو فضوليا أمره بذلك ومع
الاحتمال لا يثبت المال عليه وكذلك لو كان
الآمر عبدا أو مكاتبا أو صبيا.
وإن كان المأمور صبيا تاجرا لم يجب عليه
الضمان لأنه ليس من أهل الالتزام بالكفالة
سواء كان المال على الآمر أو غيره وإن كان
المأمور مرتدا فإن أسلم فضمانه جائز عليه وإن
قتل على الردة فضمانه باطل في قول أبي حنيفة
رحمه الله كسائر تصرفاته وإن لحق بالدار فذلك
بمنزلة موته فنقول إن رجع مستأمنا أخذناه
بالضمان هكذا في بعض النسخ من الأصل والصحيح
فإن رجع مسلما لأن المرتد لا يعطي الأمان وإذا
خرج مستأمنا قتل على الردة إن لم يسلم وكان
الضمان باطلا عند أبي حنيفة رحمه الله.
ج / 20 ص -64-
وإذا قال رجل لآخر: أضمن لفلان
ألف درهم التي له علي أو قال أحلت لفلان عليك
بألف درهم له علي أو قال اضمن لفلان ألف درهم
على أنها لك علي أو قال على أني ضامن لها أو
قال علي أني كفيل بها أو قال على أن أؤديها
إليك أو قال على أن أؤديها عنه فضمن له فهو
جائز ويرجع به الكفيل على الآمر إذا أداه لأن
في كلام الآمر تصريحا بوجوب المال عليه للطالب
فيكون هذا أمرا منه للمأمور في ذمته مما يؤديه
من ماله أو التزاما له ضمان ما يؤديه إلى
الطالب وذلك يثبت حق الرجوع له عليه إذا أدى
وإذا أمر رجل خليطا له أن يضمن لفلان ألف درهم
فضمنها له والآمر مقر بأن الألف عليه فأدى
الكفيل المال رجع به على الآمر استحسانا لأن
الخلطة بينهما تقوم مقام تصريحه بالأمر
بالكفالة عنه فإن الخلطة بينهما مقصودة لهذا
وهو أن يؤدي عنه ما عليه ليرجع به عليه فنزل
ذلك منه منزلة قوله اضمن لفلان عني
والخليط عندنا هو الذي يأخذ منه ويعطيه
ويداينه ويضع المال عنده وكل من في عياله فهو
بمنزلة الخليط نحو ابنه الكبير إذا كان في
عياله لأنه يحفظ ماله في يده ولهذا لو وضع
الوديعة عنده لم يكن ضامنا وكذلك إن أمر الابن
أباه والابن كبير في عيال أبيه أو المرأة
زوجها فهو مثل ذلك كل واحد منهما يحفظ ماله
بيد صاحبه فذلك بمنزلة الخلطة بينهما وإذا
أحال رجل رجلا على رجل بألف درهم كانت للمحيل
على المحتال عليه فأداها فقال المحيل المال لي
وقال المحتال المال لي فالقول للمحيل لأن وجوب
المال للمحيل على المحتال عليه معلوم ووجوب
المال للمحتال غير معلوم وفي هذه الحوالة
احتمال يجوز أن يكون المحتال وكيلا له في
قبضها من المحتال عليه ويجوز أن يكون مقصوده
إسقاط مطالبة المحتال عن نفسه بمال كان له
عليه فلا يجب المال بالشك للمحتال على المحيل
ولا يثبت مع الاحتمال إلا أدنى الأمرين وهو أن
يكون المحتال وكيلا للمحيل في قبض المال فإذا
قبضها أمر بتسليمها إليه حتى يثبت دين نفسه
على المحيل.
وكذلك لو قال له: اضمن له
ألفي التي لي عليك أو اكفل له بألفي التي لي
عليك لأنه ليس في كلامه إقرار بوجوب المال
للطالب على الآمر ويحتمل أن يكون وكيلا له في
قبضه من مديونه ولو أن رجلا أتى خليطا له فقال
اضمن لفلان ألف درهم فضمنها له وأداها إليه
فللآمر أن يأخذها من المضمون له وهو وكيل
للآمر في ذلك وليس للكفيل أن يمتنع من دفعها
إلى المكفول لأنه ليس في كلامه إقرار بوجوب
المال المضمون له عليه والخلطة بين الآمر وبين
الضامن لا بينه وبين المضمون له وتلك الخلطة
لا تكون دليل وجوب المال المضمون له على الآمر
فلهذا كان المضمون له وكيل الآمر إذا قبض
المال أمر بالدفع إليه وليس للضامن أن يمتنع
عليه من دفعها إلى المضمون له لأنه التزمها له
بعقد الكفالة إلا أن يحضر الآمر فإن حضر وادعى
أن المال له على المأمور كلف إقامة البينة على
ذلك وإلا حلف المأمور وبرئ منهما فإذا حلف
بريء من حق الآمر والمضمون له وكيل من جهته
ج / 20 ص -65-
وبراءته عن مطالبة الموكل توجب البراءة من
مطالبة الوكيل ضرورة لأنه ادعى لنفسه دينا
عليه فيحتاج إلى إثباته بالبينة وإذا لم يكن
له بينة فالقول قول المنكر مع يمينه.
ولو كان المأمور ليس بخليط للآمر كان الضمان
جائزا لأنه التزمه بعقد الكفالة والمال
للمكفول له دون الآمر لأن المكفول له لا يمكن
أن يجعل وكيلا للآمر هنا فإن ذلك لا يكون إلا
بعد وجوب المال للآمر على المأمور وليس في
لفظه ما يدل على ذلك ولا يثبت بينهما بدل على
أنه إنما ضمن المال له وكان هذا التزاما من
المأمور للمكفول له خاصة ولو كان الكفيل خليطا
للمكفول له لم يرجع على الآمر بشيء لأنه لا
سبب بين الآمر وبين المأمور والخلطة التي بين
الكفيل والمكفول له لا تكون دليلا على أن
الآمر إنما أمر المأمور بالضمان عنه فلهذا لا
يرجع عليه بشيء إلا في قول أبي يوسف الآخر
رحمه الله على ما بينا والله أعلم بالصواب.
باب تكفيل القاضي في الدعوى
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل على رجل مالا
عند القاضي فأنكره وسأل المدعي أن يأخذ له
كفيلا منه بنفسه وادعى أن له بينة حاضرة أخذ
له منه كفيلا معروفا بنفسه ثلاثة أيام وفي
القياس لا يأخذ كفيلا لآخر بنفس الدعوى لا يجب
شيء على الخصم لكون الدعوى خبرا محتملا للصدق
والكذب وفي الإجبار على إعطاء الكفيل إلزام
شيء أباه وإنما تركنا القياس للتعامل من لدن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
فإن القضاة يأمرون بأخذ الكفيل من الخصوم من
غير نكير منكر ولا زجر زاجر وفيه نظر للمدعي
لأنه إذا أحضر شهوده فلا بد من حضور الخصم
ليشهدوا عليه وربما يهرب أو يخفي شخصه فيعجز
المدعي عن إثبات حقه عليه وفي أخذ الكفيل
بنفسه ليحضره نظر للمدعي ولا ضرر فيه على
المدعى عليه فهو نظير الاستخلاف والخصم يستحلف
عند طلب المدعي بعد إنكاره وإن لم تتوجه له حق
في تلك الدعوى ولكن فيه منفعة للمدعي من غير
ضرر فيه على الخصم إذا كان محقا في إنكاره
وكذلك الأشخاص إلى بابه يثبت بنفس الدعوى بما
لها من النظر للمدعي فكذلك أخذ الكفيل وشرط أن
يكون الكفيل معروفا لأن مقصود المدعي لا يحصل
بالمجهول فقد يهرب ذلك المجهول مع الخصم
والتعذير بثلاثة أيام ليس بلازم ولكن يأخذ
كفيلا إلى المجلس الثاني.
وقد كان القاضي فيهم يجلس بنفسه كل ثلاثة أيام
وإن كان يجلس في كل يوم فربما يعرض للمدعي
عارض فيتعذر الحضور في المجلس أو المجلسين
وإنما أخذ الكفيلين لنظر المدعي فيؤخذ الكفيل
على وجه لا يؤدي إلى التعنت في حق المدعي وإن
قال بينتي غيب لم يأخذ له منه كفيلا لأنه لا
فائدة في أخذ الكفيل هنا فالغائب كالهالك من
وجه وليس كل غائب يؤوب وإن أراد المدعي
استحلاف الخصم يمكن منه في الحال فلا معنى
للاشتغال بأخذ الكفيل وكذلك إن أقام شاهدا
واحدا لأن بالشاهد الواحد لا يثبت للمدعي شيء
كما
ج / 20 ص -66-
يثبت
بنفس الدعوى وإن قال لا بينة لي وأنا أريد أن
أحلفه فخذ لي منه كفيلا لم يأخذ منه كفيلا
ولكنه يستحلفه مكانه لأن حكم اليمين لا يختلف
باختلاف الأوقات والقاضي مأمور بفصل الخصومة
في أول أحوال الإمكان وذلك في أن يستحلفه
للحال بكون المدعي طالبا لذلك فلا معنى
للاشتغال بأخذ الكفيل وإن قال بينتي حاضرة فخذ
لي منه كفيلا فقال المطلوب له ولي كفيل فإنه
يأمر الطالب أن يلزمه إن أحب حتى يحضر شهوده
لأن الملازمة فعل متعارف قد كان على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب رضي
الله عنه وهو يلازم غريما له الحديث وليس
تفسير الملازمة أن يقعده في موضع ويقعد إلى
جنبه فإن ذلك حبس وليس له ذلك قبل أن يثبت
دينه عليه ولكن تفسير الملازمة أن يدور معه
حيثما دار فإذا دخل على أهله قعد من يلازمه
على باب داره وإن كان يخاف أن يهرب من جانب
آخر فإما أن يقعد معه على باب داره حيث يراه
أو يأذن له في أن يدخل معه ليلازمه إذ المقصود
هو الأمن من هروبه والتمكن من إحضاره إذا أحضر
شهوده ولا يحصل إلا بذلك وإن أحب أن يستحلفه
فعل لأن اليمين حق الدعوى قبل المدعى عليه وله
فيه غرض صحيح وهو التوصل إلى حقه في أقرب
الأوقات بنكوله وفيه اختلاف بين أبي حنيفة
وصاحبيه رحمهما الله وموضع بيانه شرح أدب
القاضي للخصاف رحمه الله ولا ينبغي أن يسجنه
لأن الحبس أقوى العقوبات في دعوى المال فلا
يثبت بمجرد الدعوى قبل أن يثبت المال عليه.
وإن قال الطالب: خذ لي منه
كفيلا بالعين التي ادعيتها في يده أخذ له
كفيلا بها أيضا لأنه لا يتمكن من إقامة البينة
إلا بإحضار العين وربما يخفيها الخصم ولا وجه
لإخراجها من يده قبل إقامة المدعي حجته وكان
أخذ الكفيل بها وأخذ الكفيل بنفسه سواء وإن
كان الكفيل بنفسه وبذلك الشيء واحدا جاز لأن
المقصود حاصل وإن أراد الطالب كفيلا بنفسه
ووكيلا في خصومته فإن القاضي يأمر المطلوب أن
يعطيه ذلك ثلاثة أيام هكذا قال هنا لأن الخصم
ربما لا يبالي بالكفيل بالنفس ويهرب فلا يتمكن
المدعي من إثبات حقه بالبينة على الكفيل وفي
الزيادات قال لا يجبر على إعطاء الوكيل في
خصومته هذا هو الأصح لأن المدعى عليه يقول أنا
أهدي إلى الخصومة من غيري خصوصا في هذه
الحادثة وربما لا ينظر الوكيل ولا يشتغل
بالدفع بما أشتغل به إذا حضرت ففي الإجبار على
إعطاء الكفيل إضرار به والقاضي ينظر لأحد
الخصمين على وجه لا يضر بالآخر فإذا أراد
الطالب أن يكون ضامنا لما قضى له عليه فإن
القاضي لا يجبر المطلوب على ذلك لأن بعد إثبات
الدين لا يجبر الخصم على إعطاء الكفيل به فقبل
إثباته أولى وهذا بخلاف ما إذا كان المدعي
عينا فإن هناك لا يتمكن من إثبات المدعي إلا
بإحضار العين وهنا يتمكن من إثبات الدين عند
إحضار الخصم وإنما الكفيل بالمال هنا للتوثق
لجانب المطالبة ولم تتوجه له مطالبة بالمال
قبل إثباته فكيف يجبر على إعطاء الكفيل به وإن
بعث القاضي مع الطالب رسولا يأخذ له
ج / 20 ص -67-
كفيلا
فكفل به الكفيل الطالب أو أحضره القاضي فكفل
عنده ثم رده الكفيل إلى الطالب بريء لأن
الكفالة كانت له وقد أوفاه حقه حين سلم نفس
الخصم إليه.
وإن كانت الكفالة للقاضي أو لرسوله الذي كفل
له به وقال زفر رحمه الله يبرأ لأن الكفالة
للطالب في الوجهين جميعا فإنها تنبني على
دعواه ولكنا نقول المقصود لا يعتبر مع التصريح
بخلافه وقد صرح الكفيل بالتزام النفس إلى
القاضي أو إلى رسوله فلا يبرأ بدونه وإن كفل
له بنفسه إلى ثلاثة أيام فتغيب الطالب فالكفيل
على كفالته حتى يدفع صاحبه إليه ويبرأ منه لأن
التزام التسليم إليه لا يبرأ بمضي الوقت بدون
الوفاء بما التزم والعبد التاجر والمكاتب
والصبي التاجر مطلوبا كان أو طالبا والمستأمن
والذمي والمرتد في جميع ذلك بمنزلة الحر
المسلم لأن الكفالة بالنفس تنبني على الدعوى
والدعوى صحيحة من هؤلاء وعليهم.
وإن قدم رجل مكاتبه إلى القاضي وادعى مضي أجل
الكتابة وقال بينتي حاضرة فخذ لي منه كفيلا
بنفسه لم يأخذه لأنه عبده والمولى لا يستوجب
على عبده حقا قويا يصح التزامه بالكفالة ألا
ترى أنه لو كفل عن المكاتب لمولاه ببدل
الكتابة الذي عليه لم يجز ذلك وكذلك لا يأخذ
كفيلا بنفسه في دعوى ذلك قبله ألا ترى أن
المكاتب يتمكن من أن يعجز نفسه فلا يطالب بشيء
من ذلك وكذلك لو ادعى على عبد له تاجر دعوى
وعليه دين أو لا دين عليه فإن المولى لا
يستوجب على عبده دينا ولو ادعى المكاتب قبل
مولاه دينا فإنه يؤخذ للمكاتب كفيل بنفس
المولى لأنه يستوجب قبل مولاه من الحق ما
يستوجبه قبل غيره ألا ترى أنه لو كفل كفيل
بالدين الذي له على مولاه جاز فكذلك يؤخذ له
الكفيل بنفسه وكذلك العبد التاجر يدعي قبل
مولاه دينا وعلى العبد دين لأن كسبه حق غرمائه
فهو يستوجب قبل مولاه حق غرمائه وإن لم يكن
على العبد دين لم يؤخذ له من مولاه كفيل لأن
كسبه خالص حق المولى ولا حق له قبل مولاه إذا
لم يكن عليه دين.
وإن ادعى رجل دعوى والمدعى عليه محبوس في حق
رجل فأراد الطالب أن يخرجه من السجن حتى
يخاصمه فقال الذي حبسه خذ لي منه كفيلا بنفسه
فيما لي عليه فإنه يخرجه له ويخاصمه وهو معه
حتى يرده إلى محبسه ولا يأخذ منه كفيلا بنفسه
لأنه في يده وهو محبوس معناه إنما يخرجه مع
أمينه وهو في السجن محبوس في يد أمينه فكذلك
إذا أخرجه ولا غرض للطالب هنا في المطالبة
بالكفيل سوى التعنت فلا يحبسه القاضي إلى ذلك
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في الكفالة
بالنفس لا يجعل لها أجلا إنما ذلك على قدر
خلوصه إلى القاضي حتى إذا كان يمكنه من التقدم
إلى القاضي في أكثر من ثلاثة أيام جاز ذلك على
أكثر من ثلاثة أيام وهذا عندهم جميعا لأن
المعتبر توفير النظر على المدعي وإذا كانت
الدعوى في شيء بعينه فخفت أن يغيبها المطلوب
وكانت غير معينة وضعتها على يدي عدل ولم أجعل
لذلك وقتا وجعلته بمنزلة الكفالة لأن في
التعديل هنا معنى النظر
ج / 20 ص -68-
للمدعي
وليس فيه كثير ضرر على المدعي وقد بينا أنه
يأخذ كفيلا بتلك العين ولكن المقصود ربما لا
يتم بأخذ الكفيل بأن يغيبها الخصم ولم يعرف
الشهود أوصافها فلا يتمكنون من أداء الشهادة
فإن كان ذلك مما يعرفه الشهود أو مما لا يمكن
تعيينه أصلا لم يصفه على يدي عدل لأن النظر
يتم بأخذ الكفيل بمحضر من ذلك الشيء وأما
العقار فليس فيه كفالة ولا يوضع على يدي عدل
حتى يقيم البينة لأن تعيينه غير ممكن ولا حاجة
إلى إحضارها لإقامة البينة وإنما إقامة البينة
بذكر الحدود فإن قامت بينة وكانت أرضا فيها
نخيل تمر فلا بد من أن يوضع هذا على يدي عدل
إذا خيف على المطلوب استهلاكه لأنه لما أقام
البينة فقد ثبت حقه من حيث الظاهر.
ألا ترى أنه لو قضى القاضي له قبل أن تظهر
عدالة الشهود بعد قضائه فمن تمام النظر له أن
يوضع على يدي عدل لكيلا يتمكن المطلوب من
استهلاكه ويؤخذ الكفيل في دعوى الدين وفي
العتق والطلاق وجميع أجناس حقوق العباد مما لا
يندرئ بالشبهات وإذا ادعى المدعي ألف درهم
وقال سله أيقر بمالي أو ينكره فإنه ينبغي
للقاضي أن يسأله عن ذلك ليعلم المدعي أنه
بماذا يعامله الناس فإن أنكر قال للمدعي أحضر
بينتك وإن لم يقر ولم ينكر قال للمدعي أحضر
البينة لأن الساكت بمنزلة المنكر وإن لم يكن
للمدعي بينة وطلب يمينه فإن كان أنكر استحلفه
القاضي له وإن لم يقر ولم ينكر فقد روي عن أبي
حنيفة رحمه الله أن القاضي لا يستحلفه ولكن
يحبسه ليتجنب خصمه لأن الاستحلاف لترجح جانب
الصدق في إنكار المدعى عليه فلا معنى للاشتغال
به قبل إنكاره وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
أن القاضي يستحلفه لأن سكوته قائم مقام
الإنكار شرعا حتى يقبل عليه البينة بعد سكوته
فكذلك يعرض اليمين على الساكت حتى يقضي عليه
بالنكول لحق المدعي ولا ينبغي للقاضي أن يحبسه
حتى يقر أو ينكر ولا يجبره على ذلك لأنه ما
ثبت عليه شيء بمجرد سكوته فلا يعاقبه بالحبس
والمقصود حاصل من غير أن يجبره على الإنكار
لأن سكوته قائم مقام إنكاره فإن المنكر ممتنع
والساكت كذلك.
وإن قال المطلوب للقاضي سل الطالب من أي وجه
يدعي علي هذا المال سأله من غير أن يجبره على
ذلك فإن أبى أن يبين وجهه سأله البينة لأنه
بدعوى المال قد تم ما كان محتاجا إليه من
جانبه وربما يضره بيان الجهة وليس للقاضي أن
يجبر أحدا على ما يضره ولا أن يحبسه إذا امتنع
من ذلك ولكن يسأله البينة فإن لم تكن له بينة
استحلف المطلوب بالله ماله قبله هذا الحق ولا
شيء منه فإن حلف دعا المدعي ما على شهوده وفي
هذا بيان ما أن للمدعي أن يستحلف الخصم وإن
كان شهوده حضورا وهو قولهما أما عند أبي حنيفة
رحمه الله فلا يستحلفه إذا زعم المدعي أن
شهوده حضور هكذا ذكره في النوادر لأن مقصود
المدعي من ذلك هتك ستر المدعى عليه وافتضاحه.
وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم فقال
أحدهما هي بيض وقال
ج / 20 ص -69-
الآخر
سود وللبيض صرف على السود فإن ادعى الطالب
البيض أو ادعى المالين جميعا قضيت له بالسود
لاتفاق الشاهدين على ذلك لفظا ومعنى فإن
البياض صفة زائدة لا تثبت بشهادة أحدهما وتبقى
شهادتهما على أصل الألف فيقضي بالقدر المتيقن
وهو الشهود وإن ادعى المدعي السود بطلت شهادة
الشاهد على البيض لأنه أكذبه في ذلك ولا يقضي
له بالسود حتى يحضر شاهدا آخر عليها وكذلك لو
أشهد بكر حنطة فقال أحدهما جيد والآخر رديء أو
شهد أحدهما بكر حنطة والآخر بكر شعير لم يقض
القاضي بشيء لأن لكل واحد من الجنسين شاهدا
واحدا والمدعي إنما يدعي أحدهما فيكون مكذبا
أحد شاهديه.
ولو ادعى عليه مائة درهم فشهد له بها شاهد
والآخر بمائتين لم تقبل الشهادة في قول أبي
حنيفة رحمه الله وفي قولهما تقبل على مقدار
المائة وهذا بناء على ما سبق أن عندهما
الموافقة بين الشاهدين معنى يكفي لقبول
الشهادة وعند أبي حنيفة رحمه الله يعتبر
اتفاقهما في اللفظ والمعنى جميعا ولو ادعى
مائة وخمسين فشهد له أحدهما بمائة والآخر
بمائة وخمسين جازت شهادتهما على المائة لأنهما
اتفقا عليها لفظا ومعنى وإنما تفرد أحدهما
بزيادة الخمسين وهما اسمان أحدهما معطوف على
الآخر.
ولو ادعى خمسة عشر فشهد له شاهد بعشرة والآخر
بخمسة عشر لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله في
شيء لأن هذا كله اسم واحد لقدر معلوم بدليل
أنه خلا عن حرف العطف فهو كالمائة والمائتين
وعندهما تقبل الشهادة على الأقل في جميع ذلك
وهو قول شريح رحمه الله فإنه شهد عنده شاهدان
أحدهما بتسعمائة والآخر بثمانمائة فقضى شريح
رحمه الله بالأقل وروي نحو ذلك عن الحسن
وإبراهيم رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله
سمعت ابن أبي ليلى رحمه الله يقول شهادة أهل
الأهواء جائزة
وقد بينا هذا في كتاب الشهادات أنه قول
علمائنا رحمهم الله وبين المعنى فيه فقال إنما
الهوى شيء افتتن به رجل فأخطأ في ذلك فلا
ينبغي أن تبطل به شهادته وإنما دخلوا في الهوى
لشدة المبالغة في الدين فإنهم عظموا الذنوب
حتى جعلوها كفرا فيؤمن عليهم شهادة الربا.
ألا ترى أن أعظم الذنوب بعد الكفر القتل ثم
دماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي
عنهم أعظم الدماء وقد قتل بعضهم بعضا فلو شهد
بعضهم على بعض أما كان تجوز شهادتهم إلا
الخطابية وهم صنف من الروافض فإنهم بلغني أن
بعضهم يصدق بعضا بما يدعي ويشهد له به إذا حلف
عنده أنه محق فهذا متهم في شهادته فلا أقبل
شهادته لهذا.
وإذا ادعى رجل قبل رجل ألف درهم وقال خمسمائة
منها من ثمن عبد قد قبضه وخمسمائة من ثمن متاع
قبضه وجاء بشاهدين فشهد أحدهما على خمسمائة
ثمن عبد وشهد الآخر على خمسمائة ثمن متاع قد
قبضه فإنه يجوز من ذلك خمسمائة لأن البيع
انتهى بتسليم المعقود عليه وإنما دعواه دعوى
الدين فهو كما لو ادعى ألفا وشهد له الشاهدان
بخمسمائة.
ج / 20 ص -70-
ولو
شهد شاهدان أن لرجل على رجل ألف درهم وشهد
أحدهما أنه قبض منها خمسمائة وأنكر الطالب
قبضها فشهادتهما بألف جائزة لأنهما اتفقا على
وجوبها وإنما تفرد أحدهما بالشهادة بشيء آخر
وهو أنه قضاه خمسمائة ولو قضاه جميع المال لم
يبطل به أصل الشهادة فهذا مثله وعن زفر رحمه
الله أن هذه الشهادة لا تقبل لأن المدعي مكذب
أحد شاهديه ولكنا نقول هو غير مكذب له فيما
شهد له به وإنما كذبه فيما شهد عليه وذلك لا
يضره فكل أحد يصدق الشاهد فيما شهد له به
ويكذبه فيما شهد عليه.
أرأيت لو شهد أحدهما أنه أجره سنة أكنت تبطل
شهادته على أصل المال بذلك ولو شهد شاهدان
لرجل على رجل بألف درهم فقال الطالب إنما لي
عليك خمسمائة وقد كانت ألفا فقبضت منها
خمسمائة ووصل الكلام أو لم يصل فإن شهادتهما
جائزة بخمسمائة لأنه لم يكذبهما بل وفق بين
دعواه وشهادتهما بتوفيق محتمل فقد يستوفي
المدعي بعض حقه ولا يعرف الشاهد بذلك ولو قال
لم يكن لي عليك قط إلا خمسمائة أبطلت شهادتهما
لأنه قد أكذبهما فيما يشهدان له من الزيادة
ولو شهدا على رجل لرجل بألف درهم من ثمن جارية
قد قبضها المشتري فقال البائع قد أشهدهم
المشتري بهذه الشهادة والدين باق عليه من ثمن
الدين متاع أجزت شهادتهما لما بينا أن المبيع
إذا كان مقبوضا فالعقد فيه منتهى وإنما دعواه
دعوى الدين وقد صدق الشهود في ذلك.
ولو قال لم يشهدهما بهذا ولكن أشهدهما أنه من
ثمن متاع أبطلت شهادتهما لأنه أكذبهما فيما
شهدا له به وأقر عليهما بالغفلة والنسيان ولو
شهد أنه كفل له بألف درهم عن فلان كان له أن
يأخذه بالمال لأنه ما أكذبهما في الشهادة
ويجعل ما ثبت بشهادتهما كالثابت بإقرار الخصم
ولو قال لم يقر بهذا وإنما أقر أنها كانت عن
فلان بطلت شهادتهما لأنه قد أكذبهما ولو أنكر
المطلوب أن يكون للطالب عليه شيء فشهد له
شاهدان بألف درهم فجاء المطلوب بشاهدين يشهدان
بالبراءة منها والدفع إليه أجزت ذلك لأنه لا
منافاة بين إنكاره للمال في الحال وبين ما
ادعى من الإبراء والإيفاء وكذلك لو قال لم يكن
له علي شيء قط ثم أقام البينة على الإبراء
والإيفاء وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول
هنا لا تقبل بينته لكونه مناقضا في دعواه
ولكنا نقول هو غير مناقض لأنه يقول ما كان له
علي شيء قط ولكن افتديت نفسي من المال الذي
ادعاه علي أو سألته أن يبرئني ففعل ذلك
والبينة حجة فلا يجوز إبطالها مع العمل بها.
ولو كان قال لم أدفع إليه شيئا أو لم أقبضه
شيئا أو لم أعرفه أو لم أكلمه أو لم أخالطه لم
أقبل منه البينة بعد ذلك على دفع المال لأن ما
تقدم من كلامه إكذاب منه لشهوده وشهادة
الشاهدين على البراءة في دين أو كفالة وقد
اختلفا في الوقت أو المكان جائزة لأن البراءة
جائزة بإقرار من الطالب فلا يضرهم الاختلاف في
المكان أو الزمان ولو كانوا كفلاء ثلاثة بعضهم
كفيل عن بعض فشهد اثنان على واحد أنه دفع
المال الذي عليهم لم
ج / 20 ص -71-
تجز
شهادتهما لأنهما ينفعان أنفسهما بذلك وهو
إسقاط مطالبة الطالب عنهما ولم يرجع عليهما
المشهود له بشيء لأنهما لم يبرآ من شيء من حق
الطالب وإنما يرجع الكفيل على الأصيل إذا
استفاد الكفيل البراءة من حق الطالب فإذا لم
يوجد ذلك لم يرجع عليهما بشيء والله أعلم.
باب ما يصدق فيه الدافع من قضاء الدين
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل
ثلاثمائة درهم كل مائة منها في صك فصك منها
قرض وصك كفالة عن رجل وصك كفالة عن آخر فدفع
المطلوب مائة درهم إلى الطالب وأشهد أنها من
صك كذا فهي من ذلك الصك لأنه هو المعطي وقد
صرح في الإعطاء بالجهة التي أعطي بها المال
فتصريحه بذلك نفي منه الإعطاء بسائر الجهات
ولا معارضة بين النافي والمثبت وكذلك إن لم
يشهد عند الإعطاء فوقع الاختلاف بينه وبين
الطالب في الجهة التي أعطي بها فالقول قول
المطلوب لأنه هو المالك لما أدى من الطالب
والقول في بيان جهة الطالب للتمليك قول المملك
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا اختلف المتبايعان فالقول ما يقوله البائع" وهذا لأنه لو أنكر التمليك أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أقر
بالتمليك من جهة دون جهة وهذا لأن المديون
إنما يقضي الدين بملك نفسه والإنسان مطلق
التصرف في ملك نفسه مقبول البيان فيه في
الانتهاء كما في الابتداء إذا كان مفيدا له
وهذا بيان مفيد فربما يكون ببعض المال رهن
فتعين المدفوع مما به الرهن ليسترد الرهن
وربما يكون ببعض المال كفيل فتعجل المكفول له
من ذلك ليبرئ كفيله وإن مات الدافع قبل أن
يقول شيئا من ذلك كانت المائة من كل صك ثلاثة
لأنه ليس جعل المدفوع من بعضها بأولى ببعض ولا
بيان في ذلك لورثته لأنهم إنما يخلفونه فيما
صار ميراثا لهم والمال الذي قضى به دينه لم
يصر ميراثا لهم لأنه مجرد رأي كان له في
التعيين فلا يصير ميراثا وهو حق البيان لما
أراده عند الإعطاء ولا طريق لورثته إلى معرفة
ذلك فلا يقومون فيه مقامه كحق البيان في العتق
المبهم وكذلك إن مات الدافع والمدفوع إليه
واختلفت الورثة فإنها من كل صك ثلاثة إلى أن
تقوم البينة على شيء كان من الدافع قبل موته
فبها تعين بعض الجهات فيجعل الثابت بالبينة
كالثابت بالمعاينة أو يتصادق الورثة كلهم على
شيء يعني ورثة الدافع والمدفوع إليه لأن الحق
لهم فإذا تصادقوا على شيء كان ذلك كالثابت
بالبينة أو يكون القابض حيا فيقول شيئا فتصدقه
ورثة الدافع في ذلك.
ولو كان لرجل على رجلين ألف درهم في صك ثم أن
أحدهما كفل عن صاحبه بأمره ثم أدى خمسمائة مما
في الصك فجعله من حصة المكفول عنه عند الدافع
أو بعد الدفع فذلك صحيح والقول فيه قوله ويرجع
بها المكفول عنه لأنه هو المالك لما أدى وهذا
البيان منه مفيد فإذا قبل منه كان مؤديا دين
الكفالة فيرجع على الأصيل لأنه كفل عنه بأمره
ولو لم يؤد شيئا حتى كفل الآخر عنه أيضا بأمره
فصار كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه أو كانت
ج / 20 ص -72-
الكفالة على ذلك في أصل الصك في عقد البيع أو
القرض فأيهما قضى شيئا فهو من حصته خاصة دون
حصة صاحبه حتى يؤدي حصته لأنه لا فائدة له في
أن يجعل المؤدى عن صاحبه لا من جهة صاحبه بأن
يقول أنا كفيل عنك بأمرك وأداؤك عني كأدائي
بنفسي فكان لي أن أجعل المؤدى عنك فأنا أجعله
الآن عنك فلا يزال يدور كذلك بخلاف ما سبق
فالمؤدي هناك إذا جعل المؤدى عن صاحبه لا يكون
لصاحبه أن يعارضه فيجعل المؤدى عنه لأن صاحبه
ليس بكفيل عنه فإن أدى زيادة على مقدار حقه
كانت مما كفل به عن صاحبه لأن صاحبه لا يتمكن
في معارضته من هذه الزيادة وقد استفاد البراءة
عن حصته بأدائه وبراءة الأصيل توجب براءة
الكفيل.
وكذلك إن شرط عند الأداء للنصف أن يؤدي ذلك من
حصة صاحبه فإنه لا يكون من حصته حتى يؤدي
زيادة على النصف لأن هذا الشرط حق لا يفيده
شيئا فإن صاحبه يعارضه بجعل المؤدى عنه.
ولو كان ثلاثة نفر عليهم ألف درهم من ثمن بيع
وبعضهم كفلاء عن بعض كان ما أدى أحدهم من حصته
إلى الثلاث فإذا جاوز الثلاث كانت الزيادة من
حصة صاحبه لا يستطيع أن يجعلها من حصة أحدهما
دون الآخر لأن كل واحد من الآخرين كفيل عن
صاحبه كما أنه كفيل عنهما فإذا جعل الزيادة من
حصة أحدهما كان للمجعول ذلك من حصته أن يجعله
من حصة الآخر بالطريق الذي بينا فتحققت
المعارضة بينهما فلهذا كانت الزيادة من
النصيبين جميعا فيرجع على كل واحد منهما بنصف
ذلك كما هو قضية المعارضة والمساواة ولو كانوا
مكاتبين ثلاثة بعضهم كفلاء عن بعض فأدى بعضهم
طائفة من الكتابة كان ذلك من حصتهم جميعا قل
المؤدي أو كثر ولو جعلها المؤدي من حصته أو
حصة صاحبيه أو أحدهما يجوز ذلك لأنهم كشخص
واحد في حكم هذه المكاتبة إذ لو لم يجعلهم
كذلك لم يصح فإن الكفالة من المكاتب والكفالة
ببدل الكتابة لا تكون صحيحة والمكاتب الواحد
لو أراد أن يجعل المؤدى عن بعض نفسه دون بعض
لم يكن ذلك شيئا فهذا مثله بخلاف ما سبق فهناك
كل واحد منهم أصل في بعض المال كفيل في البعض
لأن ذلك في ثمن المبيع صحيح من الأحرار.
توضيح الفرق أن في جعل المؤدي من نصيب المؤدي
خاصة في باب الكتابة إبطال شرط المولى لأنه
شرط أن لا يعتق واحد منهم حتى يصل إليه جميع
المال فإذا أدى أحدهم الثلث وجعلنا ذلك من
نصيبه خاصة عتق هو لأنه بريء مما عليه من بدل
الكتابة وبراءة المكاتب على أي وجه كان توجب
العتق وفي هذا إبطال شرط المولى فلهذا كان
المؤدى عنهم جميعا وذلك لا يوجد في ثمن المبيع
لأنا وإن جعلنا المؤدي هناك من نصيب المؤدي
خاصة يبقى البائع في حبس المبيع إلى أن يصل
إليه الثمن فجعلنا ذلك من حصته ما لم يزد
المؤدي على الثلث ولو كان لرجل دين مائة درهم
وله عنده وديعة مائة درهم فدفع إليه مائة
ج / 20 ص -73-
درهم
فقال الطالب هي وديعتي وقال المطلوب هلكت
الوديعة وهي من الدين الذي كان لك فالقول قول
الدافع مع يمينه لأن الاختلاف بينهما في الملك
المدفوع وقد كان ذلك في يد الدافع فيكون القول
قوله في أنه ملكي ولأنه أمين في الوديعة مسلط
على ما يخبر به من هلاكها فيثبت القول بهلاك
الوديعة ويبقى الدين وقد دفع إلى الطالب مثل
الدين على جهة قضاء الدين فتبرأ ذمته من ذلك
بعد أن يحلف على ما يدعي من هلاك الوديعة
والكفالة بالمال في المرض بمنزلة الوصية حتى
يبطل لمكان الدين المحيط بالتركة ويبطل إذا
وقعت لوارث أو عن وارث ويبطل فيما زاد على
الثلث إذا كان لأجنبي لأنه التزم المال على
وجه التبرع فيكون بمنزلة تمليك المال في مرضه
على وجه التبرع إلا أن يبرأ من مرضه فحينئذ
يكون صحيحا على كل حال لأن المرض يتعقبه برؤه
بمنزلة حال الصحة فإن مرض الموت ما يتصل به
الموت وما لا يكون مرض الموت لا يكون مغيرا
للحكم فإنما لا تصح الكفالة من المريض للوارث
وعن الوارث لأن فيه منفعة للوارث وهو محجور عن
القول الذي فيه منفعة لوارثه فيما يرجع إلى
المال.
ولو كفل المريض عن رجل بألف درهم وأقر بدين
يحيط بماله فلا شيء للمكفول له لأن الكفالة
تبرع واصطناع معروف كالهبة والدين مقدم على
الهبة في المرض سواء كان بالإقرار أو بالبينة
ولو كان له ثلاثة آلاف درهم فكفل بألف درهم ثم
مات جاز ذلك وأخذ من ماله ألف لخروج المكفول
به من ثلث ماله ثم يرجع ورثته على المطلوب إذا
كان كفيلا بأمره كما لو أدى بنفسه في حياته
وإذا كانت الكفالة منه في الصحة بألف درهم
فمات الكفيل وعليه دين فضرب المكفول له بدينه
مع غرمائه فأصابه خمسمائة ثم مات المكفول عنه
وعليه دين ضرب المكفول له في ماله بالخمسمائة
التي بقيت له لبقاء ذلك القدر له في ذمة
الأصيل بعد ما استوفى الخمسمائة من تركة
الكفيل وضرب وارث الكفيل بالخمسمائة دراهم
التي أدى لأنه كان أدى بحكم الكفالة عنه بأمره
فكان ذلك دينا عليه فما أصاب وارث الكفيل فإنه
يقسم بين غرماء الكفيل بالحصص ويضرب المكفول
له بما بقي له أيضا.
وهذه هي المسألة التي بينا فيما سبق أن في هذا
جذر الأصم وأنه لا وجه لتخريجها إلا بطريق
التقريب فإن ما يستوفي المكفول له ثانيا مما
في يد الوارث للكفيل يرجع به وارث الكفيل في
تركة المكفول عنه أيضا فتنتقض القسمة الأولى
ولا يزال يدور هكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا
يمكن ضبطه.
ولو أن متفاوضين عليهما ألف درهم ماتا جميعا
وتركا ألفا وعلى كل واحد منهما ألف درهم مهر
امرأته قسم المال بينهما نصفين ولم يضرب
الطالب في مال أيهما شاء بألف درهم لأن كل
واحد منهما مطلوب بجميع الألف بعضها بجهة
الأصالة وبعضها بجهة الكفالة فيضرب بجميع
الألف في تركة أيهما شاء وتضرب امرأته بمهرها
أيضا ثم يضرب مع امرأة الآخر بما بقي وتضرب هي
بألف درهم هكذا ذكره شيخ الإسلام جواهر زاده.
ج / 20 ص -74-
وتضرب
هي بالذي بقي لها من مهرها ولا ترجع الورثة
بالذي أخذ منه أول مرة في مال الثاني بشيء إلا
أن يكون الطالب أصاب من ماله أكثر من النصف
لأنه في مقدار النصف هو أصيل فإن كان المقبوض
النصف أو ما دونه لا ترجع ورثته في تركة الآخر
بشيء من ذلك وإن كان أكثر من النصف فحينئذ
يضربون بالفضل لأنهم أدوا ذلك بجهة كفالة
صاحبهم عن شريكه بأمره فإذا قبضوا شيئا من ذلك
كان المقبوض لامرأته وللطالب إن بقي له شيء
بالحصص ثم عند ذلك يعود الجذر الأصم وما لا
طريق إلى معرفته إلا من الوجه الذي قدرنا أن
كل ما يستوفيه الطالب يثبت لهم حق الرجوع به
في تركة الشركة فتنتقض به القسمة الأولى والله
سبحانه وتعالى أعلم.
باب ادعاء الكفيل أن المال من ثمن خمر أو ربا
قال رحمه الله: وإذا كفل رجل عن رجل بألف درهم
بأمره ثم غاب الأصيل فادعى الكفيل أن الألف من
ثمن خمر فإنه ليس بخصم في ذلك لأنه التزم
المطالبة بكفالة صحيحة والمال يجب على الكفيل
بالتزامه بالكفالة وإن لم يكن واجبا على
الأصيل ألا ترى أنه لو قال لفلان علي ألف درهم
وأنا بها كفيل بأمره وجحد الأصيل ذلك فإن
المال يجب على الكفيل وإن لم يكن على الأصيل
شيء فبهذا تبين أنه ليس في ادعائه أن المال من
ثمن خمر أو ما يسقط المال عنه فلا يكون خصما
في ذلك وهو مع هذا مناقض في دعواه لأن التزامه
بالكفالة إقرار منه أن الأصيل مطالب بهذا
المال والمسلم لا يكون مطالبا بثمن خمر فيكون
مناقضا في قوله أن المال من ثمن خمر والدعوى
مع التناقض لا تصح حتى أنه لو جاء بالبينة على
إقرار الطالب بذلك لم يقبل بعد أن يكون الطالب
يجحد ذلك ولو أراد استحلاف الطالب لم يكن عليه
يمين لأن توجه اليمين وقبول البينة تنبني على
دعوى صحيحة إلا أن يقر الطالب بذلك فحينئذ هو
مناقض ولو صدقه خصمه في ذلك والتصديق من الخصم
صحيح مع كونه مناقضا في دعواه.
ثم أن أصل سبب التزام المال جرى بين المطلوب
والطالب والكفيل ليس بخصم في ذلك العقد ويدعي
معنى كان في ذلك العقد حتى إذا ثبت ذلك ترتب
عليه خروجه من أن يكون مطالبا بالمال ولا يمكن
إثبات ذلك بالبينة لأنها بينة تقوم للغائب
والبينة للغائب وعلى الغائب لا تقبل إذا لم
يكن عنه خصم حاضر وهو بمنزلة المشتري للجارية
إذا ادعى أنها زوجة لفلان الغائب وأراد إقامة
البينة على ذلك ليردها بالعيب لا يكون خصما في
ذلك فهذا مثله والحوالة في هذا كالكفالة وكذلك
إن كان كل واحد منهما ضامنا عن صاحبه لأن أصل
المال على غير هذا الكفيل فهو لا يكون خصما
فيما على غيره فهذا تنصيص على ما أشرنا إليه
في أن الطريق الأصح في الكفالة أن الكفيل
يلتزم المطالبة بما على الأصيل ولا يلتزم أصل
المال في ذمته.
ولو أدى الكفيل المال إلى الطالب وغاب الطالب
وحضر المكفول عنه فقال المال
ج / 20 ص -75-
من ثمن
خمر وجاء بالبينة لم يكن بينه وبين الكفيل
خصومة في ذلك ويدفع المال إلى الكفيل لأنه
التزم المال بأمره وأدى فيرجع عليه كيف كان
ذلك المال ويقال للمكفول عنه اطلب صاحبك
فخاصمه وهذا لما بينا أنه يدعي سببا في تصرف
جرى بينه وبين الغائب وهذا الحاضر ليس بخصم عن
الغائب أو لأنه مناقض فإنه أمره أن يلتزم
المطالبة التي هي متوجهة عليه بجهة الكفالة.
ولو أقر الطالب عند القاضي أن ماله عنده من
ثمن خمر فهذا مثله وهو إقرار ببراءة الأصيل
وهو بمنزلة ما لو قال لم يكن لي على الأصيل
شيء وذلك يوجب براءة الكفيل والأصيل ألا ترى
أنه لو أبرأ الأصيل بريء الكفيل فإذا بقي أصل
المال من الأصيل بإقراره أولى أن يبرأ الكفيل
فإن أقر الطالب بذلك وأبرأ القاضي الكفيل ثم
حضر المكفول عنه فأقر أن المال الذي عليه قرض
لزمه المال إن صدقه الطالب بذلك لتصادقهما على
أن وجوب المال له عليه بسبب صحيح ولا يصدقان
على الكفيل لأن قولهما ليس بحجة على الكفيل
وقد استفاد الكفيل البراءة بما سبق من إقرار
الطالب ويجعل هذا من المطلوب بمنزلة إقراره
للطالب ابتداء بدين آخر سوى الدين كان كفل به
الكفيل.
ولو أن مسلما باع مسلما خمرا بألف درهم ثم
أحال مسلما عليه بها بطلت الحوالة ولو أحاله
بألف درهم فجعلها له بذلك ثم غاب المحيل وقال
المحتال عليه المال الذي علي من ثمن خمر وأقام
البينة فلا خصومة بينه وبين الطالب في ذلك
لأنه التزم المال بالحوالة فعليه أداء ما
التزم وهو إنما يدعي سببا مبطلا بعقد جرى بينه
وبين الغائب وهذا الحاضر ليس بخصم عنه في ذلك
فإذا دفع المال ثم حضر المحيل خاصمه إن أقام
عليه بينة بذلك رجع عليه بالمال لأنه قبل
الحوالة بأمره وأدى واستوجب الرجوع عليه فكان
تقع المقاصة بما للمحيل عليه فإذا تبين أنه لم
يكن للمحيل عليه شيء كان له أن يرجع عليه
بالمال وإن لم يؤد المال حتى يحضر المحيل
فخاصمه وجاء بالبينة أنها من ثمن خمر أبطلها
القاضي عن المحتال عليه لأنه قبل الحوالة
مقيدة بالمال الذي للمحيل عليه وقد تبين أنه
لم يكن للمحيل عليه شيء فكانت الحوالة باطلة
وإن كان أحاله عليه حوالة مطلقة بألف درهم لم
يبرأ منها ولكنه يؤديها ويرجع بها لأن الحوالة
المطلقة لا تستدعي مالا للمحيل على المحتال
عليه ولا في يده إلا أنه إذا كان للمحيل على
المحتال عليه لم يرجع به عليه وإذا كانت مطلقة
يؤدي المال ثم يرجع بمثلها عليه.
وإذا باع الرجل رجلا عبدا بألف درهم ثم أحال
البائع غريمه على المشتري بالمال الذي باعه به
العبد ثم استحق العبد أو وجد حرا فإن القاضي
يبطل الكفالة والحوالة لأنه ظهر أنه أحال عليه
بمال ولا مال
ولو رد بعيب بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي
لم تبطل الحوالة والكفالة وكذلك لو مات العبد
قبل القبض وهذا عندنا وقال زفر رحمه الله تبطل
الحوالة
ج / 20 ص -76-
إذا
كانت مقيدة وجه قوله أن الثمن الذي تقيدت به
الحوالة بطل من الأصل لانفساخ العقد من الأصيل
ولو ظهر بطلانه تبطل الحوالة فكذلك إذا بطل من
الأصيل إلا أنا نقول أن الحوالة لما صحت مقيدة
بمال واجب عنده ولم يتبين أنه لم يكن واجبا أو
بطل إنما يبطل ببطلانه أن لو كان له تعلق
بالدين بها أما من حيث الوجوب فلا يشكل لأن
تعلق الدين بالذمة لا بالدين ولا تتعلق به
استيفاء لأن تعلقه به استيفاء إنما يستقيم إذا
كان قابلا للاستيفاء والدين لا يقبل استيفاء
دين آخر منه إلا بعد خروجه فقبل خروجه منه لم
يكن لدين الحوالة تعلق به بوجه من الوجوه فصار
كالحوالة المطلقة في حالة البقاء فلا تبطل
ببطلانه ولا يلزم إذا أحال على مودعه ليستوفي
دينه من الوديعة ثم هلكت الوديعة حيث تبطل
الحوالة لأن ثمة للدين تعلق به استيفاء لكونه
قابلا للاستيفاء منه فجاز أن يبطل ببطلانه.
وإذا أحال رجل رجلا على رجل بألف درهم كانت
للمحتال على المحيل وكان مثلها للمحيل على
المحتال عليه ثم مات المحيل وعليه دين كان
ماله الذي على المحتال عليه بين غرمائه وبين
المحتال له بالحصص ولا يختص المحتال له بذلك
عندنا وعند زفر رحمه الله يختص به لأنه اختص
به في حال حياته حتى كان أحق به من المحيل حتى
لو حجر المحيل عن استيفائه فيختص به بعد موته
بمنزلة المرتهن في حق الراهن ولكنا نقول أن ما
في ذمة المحتال عليه مال المحيل لأنه بعقد
الحوالة لا يصير للمحتال له لأن الدين لا يقبل
التمليك من غير من عليه الدين ومتى كان باقيا
على ملكه كان بين غرمائه بالحصص لما مر أنه لا
تعلق لحقه بالدين قبل الخروج فصار هو وسائر
غرمائه سواء وإنما منع المحيل من التصرف فيه
باعتبار عرضة الخروج لأنه لو خرج يكون المحتال
له أحق بها ولهذا كان التوي على المحيل لأن
الحوالة كانت مقيدة به وقد استحقت فصار بمنزلة
الاستحقاق من الأصيل فيعود الدين على المحيل
والله أعلم.
باب الحبس في الدين
قال رحمه الله: ويحبس الرجل في كل دين ما خلا
دين الولد على الأبوين أو على بعض الأجداد
فإنهم لا يحبسون في دينه أما في دين غيرهم
فيحبس لأنه بالمطل صار ظالما والظالم يحبس
وأنه عقوبة مشروعة ولهذا كان حدا في الزنى في
ابتداء الإسلام قال الله تعالى: في حق قطاع
الطريق
{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[سورة
المائدة, آية: 33] والمراد به الحبس وكذلك حبس
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بالتهمة
وكذلك علي كرم الله وجهه اتخذ سجنين سمى
أحدهما نافعا والآخر محبسا وكذلك شريح رحمه
الله كان يحبس الناس وحبس ابنه بسبب الكفالة
عن رجل ولا يحبسه في أول ما يتقدم إلى القاضي
ولكنه يقول له قم فأرضه لأن الظلم لا يتحقق من
أول وهلة فإن عاد إليه مرة أو مرتين يحبسه
والقياس في دين الولد على والديه هكذا إلا أنا
استحسنا في دين الوالدين ومن كان في معناهم
أنه لا يعاقب الوالد بسبب الجناية على ولده
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يقاد الوالد لولده
ج / 20 ص -77-
ولا يعاقب
بسبب الجناية على ماله لأن له ضرب تأويل في
ماله"
وذكر حديث علي كرم الله وجهه أنه اتخذ سجنين
وقال فيه:
ألا تراني كيسا مكيسا
يثبت بعد
نافع محبسا
وعن الشعبي رحمه الله أن
رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا
أمير المؤمنين أجرني فقال مم قال من دين قال
عمر رضي الله عنه السجن ثم قال عمر رضي الله
عنه كأنك بالطلبة حلو ذكر هذا لبيان أن الحبس
مشروع قال أبو حنيفة رحمه الله لا يباع مال
المديون المسجون في دين عليه إلا أن يكون عليه
دنانير أو يكون عليه دراهم فاصطرفها بدراهم
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يباع ماله
وهي مسائل الحجر ثم ذكر عن عمر رضي الله عنه
أنه خطب الناس ثم قال في أسفع جهينة رضي من
دينه وأمانته أن يقال له سبق الحاج فأدان
معرضا حتى دين به فمن كان له عليه شيء فليفد
علينا فأنا بائع ماله قاسم ثمنه بين الغرماء
وإياك والدين فإن أوله هم وآخره حرب ونعم ما
قال فإن الدين سبب العداوة خصوصا في زماننا
فيؤدي إلى إهلاك النفوس ويكون سببا لهلاك
المال خصوصا مداينة المفاليس والحرب هو الهلاك
ثم إذا حبس المديون ولم يدع الإعسار فظاهر أنه
لا يخلى عنه أما إذا ادعى الإعسار فإن كان ذلك
في ديون وجبت بسبب المبايعات فينبغي أن لا
يصدق لأن الظاهر يكذبه لأنه يكون واحدا
باعتبار بدله وإن كان بأسباب مشروعة سوى
المبايعات كالمهر وبدل الخلع والكفالة وبدل
الصلح.
اختلف مشايخنا رحمهم الله فقال بعضهم يصدق ولا
يحبس لأنه متمسك بالأصل وهو العدم فالقول قوله
وقال بعضهم لا يصدق لأن التزامه المال اختيارا
دليل قدرته ولو كان دينا وجب حكما باستهلاك
مال ونحوه ينبغي أن يصدق ثم قال أبو حنيفة
رحمه الله إذا حبس الرجل شهرين يسأل عنه وإن
شاء سأل عنه في أول ما يحبسه والرأي فيه إلى
القاضي إن أخبر بعد أويقات أنه معسر خلى سبيله
وإن قالوا واجد أمر بحبسه حتى يذوق وبال أمره
لأنه من الجائز أنه أخفى ماله فيشهد الناس على
ظاهر حاله فتبطل حقوق الناس وإذا أخبروه أنه
معسر أخرجه ولم يحل بين الطالب وبين لزومه
عندنا وقال زفر رحمه الله يمنعه من ملازمته
لأنه منظر بإنظار الله تعالى ولو كان منظرا
بإنظاره لا يكون له حق الملازمة هكذا كنا نقول
بأنه منظر إلى زمان الوجود ووجود ما يقدره على
أداء الدين موهوم في كل ساعة فيلازمه إذا وجد
مالا أو اكتسب شيئا فوق حاجته الدراة يؤخذ منه
والكفيل بالمال والذي عليه الأصل سواء لأن
خطاب الأداء متوجه على الكفيل كما هو متوجه
على الأصيل وذكر عن الكلبي ومحمد بن إسحاق أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس بني قريظة
حتى نزلوا في حكم سعد رضي الله عنه في دار بنت
الحارث حتى ضرب رقابهم فإذا تبين أن الحبس
مشروع وإذا حبس الكفيل بالدين فللكفيل أن يحبس
المكفول عنه حتى يخلصه إذا كان بأمره وكذلك لو
لازمه الطالب كان له أن يلزم الذي عليه الأصل
لأنه التزم الأداء من مال المطلوب بأمره,
ج / 20 ص -78-
فكان
الأصيل ملتزما تخليصه فله أن يلازمه وليس
للكفيل أن يأخذ المال حتى يؤديه لأنه إنما
يرجع عليه بحكم الإقراض وإنما يتحقق هذا
المعنى عند الأداء.
وإذا حبس رجل بدين فجاء غريم له آخر يطالبه
فإن القاضي يخرجه من السجن ويجمع بينه وبين
هذا المدعي فإن أقر له بالدين أو قامت له عليه
بينة كتب اسمه فيمن حبس له مع الأول لأنه لو
لم يكتب ربما يشتبه على القاضي أنه محبوس بدين
واحد فيخلي سبيله فيكتبه حتى لا يخلي سبيله
إلا بقضائهما وإن كان القاضي قد فلس المحبوس
جاز إقراره لأشخاص في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال
تفليس القاضي إياه جائز ولا يجوز إقراره بعد
ذلك ولا بيعه ولا شراؤه ولا بشيء يضيفه في
ماله ما خلا العتق والطلاق والنكاح والإقرار
بالسبب فإنا ندع القياس فيه ونجوزه وهو قول
محمد رحمه الله وقول شريح وإبراهيم وبن أبي
ليلى رحمهما الله ويعني بالتفليس أن يحكم
بعجزه عن الكسب فيجعله كالمريض مرض الموت
فيحكم بتعلق حق غرمائه في مال هذا وهذا نوع
حجر وإن كان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى ذلك
وهما يجوزان ذلك وليس الحبس بتفليس لأنه دلالة
القدرة على أداء الدين لا دلالة العجز ولا
يضرب المحبوس في الدين ولا يقيد ولا يقام ولا
يؤاجر لأن هذه عقوبات زائدة ما ورد الشرع بها
وإنما قلنا بالحبس ليكون حاملا له على قضاء
الدين وإن كان فيه ضرب عقوبة بالنصوص ولا نص
في الزيادة عليه فإنه روي عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أنه قال ليس في هذه الأمة
صفد ولا قيد ولا غل ولا تجريد والصفد ما تقيد
به الأيدي أراد بقوله لا يقام يعني لا يؤمر
بالقيام بين يدي صاحب المال إهانة له فإن ذلك
مع عقوبة ولا يؤاجر من غير اختياره لأن ذلك
نوع حجر عليه ولا يجوز ذلك في ماله فلأن لا
يجوز في نفسه بطريق الأولى ويحبس الأبوان في
نفقة الولد ولا تشتبه النفقة بالدين لأن
الإنفاق على الولد إنما شرع صيانة للولد عن
الهلاك والممتنع كالقاصد الهلاك ومن قصد إهلاك
ولده يحبس بخلاف الدين فإنه ليس فيه قصد إهلاك
نفسه ولا يخرج المحبوس في الدين بجمعة ولا عيد
ولا حج ولا جنازة قريب أو بعيد لأن الواجب أن
يحبس على وجه لا يخلص بعد زمان حتى يضجر قلبه
عند ذلك فيسارع في قضاء الدين فلو خرج أحيانا
لا يضيق قلبه حينئذ ولهذا قالوا ينبغي أن يحبس
في موضع خشن لا يتبسط له في فراش ولا وطاء ولا
أحد يدخل عليه ليستأنس ليضجر قلبه بذلك.
وإذا سأل القاضي عن المحبوس بعد شهرين أو أكثر
في السر فأخبره ثقة بعدمه خلى سبيله ولم يخل
بين غريمه وبين لزومه وإن شهد عليه شهود أنه
موسر أو أن له مالا أجزت شهادتهم ويترك
المسألة في السر لأن السؤال للاختبار ومتى
ظهرت حاله بالشهادة لا تقع الحاجة إلى
الاختبار وإن أدى دين أحد الغريمين لم يخرج من
السجن حتى يؤدي دين الآخر لأن الظلم قائم
ويحبس الرجل في الدرهم وفي أقل منه لأن مانع
الدرهم وما دونه ظالم,
ج / 20 ص -79-
وينبغي
أن يكون محبس النساء في الدين على حدة ولا
يكون معهن رجل حتى لا يؤدي إلى فتنة ولا يمنع
المحبوس من دخول إخوانه وأهله عليه لأنه يحتاج
إلى ذلك حتى يشاورهم في توجيه ديونه ولكن لا
يمكنون من المكث عنده حتى يستأنس بهم ولا يحبس
المكاتب لمولاه بالمكاتبة لأنه عبد ولا يليق
به الحبس.
ألا ترى أنه لو عجز نفسه عن ذلك يسقط ويحبس
بدين غير الكتابة قالوا أراد به في حق غير
المولى وقال بعضهم يحبس بدين المولى وهو ملحق
بالأجانب في المعاملات مع مولاه والأول أصح
وإن كان للمكاتب على مولاه طعام ومكاتبته
دراهم فإن المولى يحبس في دين المكاتب لأن
مطالبته متوجهة على مولاه وهو ملحق بالأجانب
في حق أكسابه وكذلك العبد التاجر الذي عليه
الدين يكون له على مولاه دين ولا يحبس لحقه
ولكن لحق الغرماء والصبي التاجر في السجن مثل
الرجل يعني يحبس لأنه يؤاخذ بحقوق العباد
فيتحقق ظلمه والغلام الذي يستهلك المتاع فيضمن
قيمته وله أب أو وصي وليس بناجز مثل ذلك يريد
به في حق الحبس ولم يذكر أنه يحبس الصبي أو
أبوه أو وصيه والصحيح أنه يحبس وليه وفي
الكتاب ما يدل عليه حيث قيده بهذا اللفظ وهذا
لأن الظلم إنما يتحقق ممن يخاطب بأداء المال
ووليه هو الذي يخاطب بذلك لا هو.
وبعضهم قال الحبس للصبي بطريق التأديب حتى لا
يتجاسر على مثله ولكن هذا إنما يكون فيما
يباشر من أسباب التعدي قصدا أما ما وقع خطأ
منه فلا ولا يحبس العاقلة في الدية ولا في شيء
منها من الأرش بقضائه عليهم ولكنه يؤخذ من
الأعطية وإن كرهوا ذلك لأن الدية إنما تعطى من
عطائهم لا مما في أيديهم من الأموال حتى يتحقق
المنع من قبلهم حتى لو كانوا من أهل التأدية
وليس لهم عطاء يفرض ذلك عليهم في أموالهم فإذا
امتنعوا من أدائه حبسوا وكذلك الذعار يحبسون
أبدا حتى يتوبوا والذاعر الذي يخوف الناس
ويقصد أخذ أموالهم فكان في معنى قطاع الطريق
قال الله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[سورة المائدة, آية: 33] الآية. ولو أن غلاما استهلك لرجل مالا وله
دار ورقيق وعروض وليس له أب ولا وصي لم يحبس
ولكن القاضي يرى رأيه فيه إن شاء جعل وكيلا
ببيع بعض ماله فيوفي الطالب حقه وإن كان له أب
أو وصي يجوز بيعه فإنه لا يحبس والصحيح أنه
يحبس من يخاطب بقضاء دينه لما مر ولا يحبس
الصبي إلا بطريق التأديب ويحبس المسلم للذمي
بدينه والذمي للمسلم ويحبس الحربي المستأمن
ويحبس له لأن معنى الظلم يتحقق في حق الكل
والله أعلم بالصواب.
باب الإبراء والهبة للكفيل
قال رحمه الله: وإذا قال الطالب للكفيل قد
برئت إلي من المال الذي كفلت به من فلان فهذا
إقرار بالقبض وللكفيل أن يرجع به على المكفول
عنه لأنه أخبر عن البراءة بفعل متعد من
المطلوب والكفيل إلى الطالب وذلك بفعل الأداء
لأن الإبراء متعد من المطلوب
ج / 20 ص -80-
إلى
الطالب وكذلك قوله قد دفعت إلي المال أو
نقدتني أو قبضته منك وكذلك الحوالة وإذا قال
أبرأتك لم يكن هذا إقرارا بالقبض وللطالب أن
يأخذ الذي عليه الأصل لأنه أضاف الفعل إلى
نفسه متعديا إلى المطلوب وذلك إنما يكون
بإسقاط الدين عنه.
ولو قال برئت من المال ولم يقل إلي فهذا إقرار
بالقبض في قول أبي يوسف رحمه الله لأنه وصفه
بالبراءة فينصرف إلى ذلك السبب المعهود والسبب
المعهود الإيفاء وعند محمد رحمه الله هو
بمنزلة قوله أبرأتك لأنه يحتمل الوجهين فكان
الحمل على الأدنى أولى ألا ترى أن الحاجة إلى
الرجوع على الأصيل لا تثبت بالشك وقد مر هذا
في الجامع والتحليل بمنزلة الإبراء لأن الدين
لا يوصف بالتحليل أما المال الذي يراد به
الدين فيوصف بهذا وذلك بمنزلة الموضوع الديون
فمتى حلله أسقط حقه عن ذلك أصلا فكأنه قال لا
حق لي في مالك ولو قال له هكذا كان إبراء
مطلقا فهذا كذلك والمحتال عليه في جميع هذا
بمنزلة الكفيل
ولو وكل الطالب وكيلا بقبض ماله فقال الوكيل
للكفيل برئت إلي كان هذا إقرارا بالقبض فيصح.
ولو قال الوصي للكفيل قد أبرأتك أو أنت في حل
منه لم يجز لأن ذلك معروف منه وليس له ذلك
وكذلك الصبي التاجر والعبد التاجر والمكاتب
إذا قالوا ذلك للكفيل لا يصح لما مر وإذا أبرأ
الطالب الكفيل من المال فأبى أن يقبل ذلك فهو
بريء ولا يشبه هذا الهبة لأن الإبراء إسقاط
محض في حقه لأنه ليس في حقه إلا مجرد المطالبة
فصار كسائر الإسقاطات فلا يرتد بالرد بخلاف
الذي عليه الأصل لأن أصل الدين عليه فيكون ذلك
تمليكا منه لأن الحق الذي هو واجب له في ماله
غير عين فصار هذا تصرفا بإسقاط الفعل عنه
ويجعل الواجب له إسقاطا من وجه وتمليكا من وجه
فوفرنا على السهمين حظهما
فعلى هذا يصح من غير قبول لشبهه بالإسقاط
ويرتد بالرد لشبهه بالتمليكات ومثله لو وهب من
الكفيل فإنه يرتد بالرد كما لو وهب من الأصيل
لأن الهبة لفظ وضع للتمليك ويمكن تحقيق الهبة
في حق الكفيل كما في حق الأصيل لأن هبة الدين
من غير من عليه الدين جائزة فإذا سلطه عليه
فهو مسلط عليه في الجملة أو يجعل ذلك نقلا
للدين منه بمقتضى الهبة منه فيصير هبة الدين
ممن عليه الدين لو أمكن ذلك لأن له ولاية نقل
الدين إليه قصدا بإحالة الدين عليه فيثبت ذلك
بمقتضى تصرفهما تصحيحا له وإذا استقام تحقيق
الهبة كما في حقه وجب الجري على مقتضى الهبة
كما في حق الأصيل.
وقد مر أنه لو أبرأ الذي عليه الأصل من الدين
يصح من غير قبول ولكنه يرتد بالرد لما فيه من
معنى التمليك فكذلك لو وهب منه فلو مات قبل أن
يعلم فهو بريء منه في الهبة والإبراء جميعا
لأنه تام في نفسه ولكنه يرتد بالرد فمتى مات
وقع اليأس عن الرد فانبرم بمنزلة لو تصرف له
فيه جاز وكذلك لو كان ميتا فأبرأه منه وجعله
في حل منه فهو جائز لأن الدين قائم عليه حكما
فاحتمل الإسقاط فإن قالت الورثة لا تقبل فلهم
ذلك ويقضون
ج / 20 ص -81-
المال
والكفيل منه بريء في قول أبي حنيفة رحمه الله
وقال محمد رحمه الله ليس للورثة في ذلك قول
فمحمد رحمه الله يقول بأن هذا في حق الورثة
إسقاط محض لأنه لا دين عليهم حقيقة إنما عليهم
مجرد المطالبة فأشبه الكفيل ثم في حق الكفيل
لا يرتد بالرد فكذا في حقهم وأبو يوسف رحمه
الله يقول إن الدين قائم وقد أخذ شبها
بالأعيان بعد الموت لتعلقه بالتركة فكان أقبل
للتمليك في هذه الحال والملك بهذا التمليك
واقع لهم فيرتد بردهم كما لو أضاف الإبراء
إليهم تنصيصا وإذا وهب الطالب المال الذي عليه
للأصيل فأبى أن يقبل كان المال عليه وعليه
فضله لأن الهبة منه كالهبة من كفيله ولو وهبه
من كفيله فأبى أن يقبل كان المال عليه بخلاف
ما إذا أبرأه فأبى أن يقبل لأنه لا يعود الدين
على الكفيل لأنا نجعل إبراءه كإبراء الكفيل لا
يرتد بالرد فكذلك هنا.
وإذا وهب للكفيل وقبله رجع به على الذي عليه
الأصل لأنه ملكه بالهبة فصار كما لو ملكه
بالأداء والتمليك منه صحيح لأنه قابل للملك في
حق ما في ذمة الأصل ولهذا يملكه بالأداء وإذا
ملكه رجع عليه وكذلك المحتال عليه وإذا كانت
الكفالة على أن المكفول عنه بريء أو كانت
حوالة فوهب الطالب الذي كان عليه الأصل فالهبة
باطلة لأنه ليس في ذمته شيء لانتقال الدين إلى
ذمة غيره وعلى رواية الجامع ينبغي أن يصلح ولو
وهب الكفيل الذي عليه للأصيل فهو جائز لانعقاد
سبب وجوب الدين له في الحال فإن أدى الكفيل لم
يرجع به عليه لأنه يقرر ملكه ما في ذمته فصحت
الهبة فصار كما لو وهبه بعد الأداء فإن أدى
الذي عليه الأصل لم يرجع به على الكفيل لأنه
تبين أن هبته باطلة لانتقاض سبب وجوب الدين
بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب إقرار أحد الكفيلين بأن المال عليه
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجلين ألف
درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بالمال
فأقر أحد الكفيلين بأن المال كله عليه وأداه
وأراد أن يرجع بنصفه على صاحبه وقال إنما عنيت
بإقراري أنه علي لأني كفلت عنك كل حصتك فله أن
يرجع عليه بنصفه لأنه صادق في قوله أنه كله
عليه لكن بعضه بحكم الكفالة وبعضه بحكم
الأصالة ولو أقر أن كله عليه وأن صاحبه كفل
عنه بأمره لم يكن له أن يرجع على صاحبه بشيء
لأنه قد صرح أنه أصيل في كله وصاحبه كفيل عنه
فيجري على قضية قوله.
ولو أن رجلين كان عليهما خمسون دينارا لرجل
قرضا وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ضامن له
فأشهد أحدهما على صاحبه أني معك دخيل في هذا
المال ولو أقر الآخر بذلك ثم ادعى أن المال
كله على صاحبه فإنه يرجع على صاحبه بنصفه لأن
قوله أنت دخيل معي ليس بإقرار بشيء لم يكن
عليه خاصة دون الآخر يريد به أنه أخبر بكونهما
دخيلين في هذا المال وهذا يقتضي أن يكونا
أصيلين في بعضه فمن ادعى أن كله على صاحبه فقد
ناقض فيما أخبر فلا يلتفت إلى ذلك وإن أقر
أحدهما أن هذا المال عليه خاصة دون الآخر,
ج / 20 ص -82-
ثم أدى
المال لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه نص أنه
كفيل أصيل في الكل ولو أداه صاحبه كان له أن
يرجع بكله عليه.
ولو كان لرجل على ثلاثة نفر ألف درهم في صك
باسمه وبعضهم كفلاء عن بعض ضامنون للمال كله
فأقر الطالب أن أصل المال على أحدهم وأن
الآخرين كفيلان عنه ولم يقر بهذه الكفالة التي
نسبت إليه في الصك ثم أدى المال أحدهم فله أن
يرجع على صاحبه بالثلثين لأنه أقر على غيره
فلم يعتبر ولو لم يقر الطالب بذلك ولكن أحد
الكفلاء قال أصل المال علي وصاحباي منه بريئان
ثم أدى المال لم يرجع على صاحبيه بشيء لأن
زعمه معتبر في حقه وإن أداه صاحباه رجعا بالكل
عليه لإقراره أنه أصيل في جميع المال وإقراره
ملزم إياه ولو كان لرجل على رجل ألف درهم في
صك باسمه وفلان بها كفيل فأقر الكفيل أن أصل
المال عليه وأن فلانا كفيل عنه وأنه إنما قدمه
في الصك لشيء خافه فأدى المقدم في الصك المال
كله فله أن يرجع بذلك على الكفيل مؤاخذا بما
أقر به على نفسه ويجعل ذلك في حقه كالثابت
بالبينة ولو كان أصل المال قرضا في الصك أو من
ثمن بيع ونسبه إلى الذي في صدر الصك ثم أقر
الكفيل بهذه المقالة كان إقراره على نفسه أصدق
مما في الصك لأن إقراره على نفسه حجة ملزمة
والصك ليس بحجة ملزمة ما لم يشهد الشهود بما
فيه وشهادة الشهود بما فيه لا تكون مقبولة مع
تكذيبه إياهم بإقراره.
فلهذا كان المقبول ما أقر به على نفسه ولو لم
يقر الكفيل بهذه المقالة ولكنه أقر أنه هو
القابض للمال من صاحب الصك أو أنه قد اشترى
المبيع من صاحب الصك وقبضه وقال الذي عليه
الصك وهو الذي اسمه في أوله أجل أو صدق ثم
ادعى المقر له المال فله أن يرجع على صاحبه
المقر لأن إقراره بمباشرة سبب التزام المال
يكون إقرارا منه بأنه أصيل في جميع المال وأن
صاحبه كفيل به وإقراره حجة عليه ولو لم يقر
الكفيل بذلك ولكنه أقر أنه قبض المال من
المكفول عنه فهو جائز لأنه بالكفالة قد استوجب
المال على المكفول عنه وإن كان مؤجلا وإقراره
بقبض الدين المؤجل صحيح فإن أداه المكفول عنه
إلى الطالب رجع على الكفيل بسبب إقراره لأن
ثبوت قبضه منه بإقراره كثبوته بالبينة أو
بالمعاينة في حقه.
وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد
منهما كفيل عن صاحبه بجميع المال فادعى كل
واحد منهما على صاحبه أنه كفيل عنه لم يصدق
واحد منهما على ذلك إلا بحجة لأنه يدعي خلاف
المعلوم بطريق الظاهر فعلى كل واحد منهما
البينة على ما ادعى فإن لم يكن له بينة يحلف
كل واحد منهما على دعوى صاحبه لأنه يدعي على
صاحبه ما لو أقر به لزمه وأيهما نكل عن اليمين
فنكوله بمنزلة إقراره فيثبت بنكوله أن أصل
المال عليه وإن حلفا جميعا ثم أدى أحدهما
المال رجع على صاحبه بنصفه لأن دعوى كل واحد
منهما تنفي عن صاحبه نصيبه وقيل هذه الدعوى
إذا كان أدى أحدهما المال رجع على صاحبه
بالنصف لاستوائهما في الضمان إن قامت البينة
من الأصيل أن المال على أحدهما والآخر
ج / 20 ص -83-
كفيل
ولم يعرفوا ذلك فهذا بمنزلة من لم تقم عليه
بينة لأن المشهود عليه بالأصالة منهما مجهول
والشهادة على المجهول لا تكون مقبولة ولا تبطل
هذه الشهادة حق الطالب ولا توهنه لأنها لا تمس
حقه.
وإن أقر الطالب أن الأصل على أحدهما والآخر
كفيل لم يصدق على ذلك لأن إقراره ليس بحجة
لأحدهما على صاحبه وشهادته في ذلك لا تكون
مقبولة لأن المال له فإنما يشهد لنفسه على
أحدهما بأن جميع المال عليه وكذلك لو كان
للطالب ابنان فشهدا بذلك لأنهما يشهدان
لأبيهما وهذا إذا لم يكن على أصل المال بينة
أنه عليهما وكل واحد منهما ضامن فإن كان على
أصل المال بينة بذلك فشهادة ابني الطالب جائزة
لأنهما لا يثبتان بشهادتها حق أبيهما وإنما
يشهدان لأحد الغريمين على الآخر أنه هو الأصيل
وأن صاحبه كفيل فلا تتمكن التهمة في هذه وكذلك
إن كان الغريمان مقرين بالمال لأن حق الطالب
عليهما ثابت بإقرارهما فشهادة ابني الطالب على
هذا لا تكون لأبيهما وإنما تكون لأحدهما على
الآخر ولو شهد ابنا أحدهما أن الأصل على أبيه
والآخر كفيل عن أبيه جاز لأنهما يشهدان على
أبيهما
ولو شهدا أن الأصل على الآخر وأن أباهما كفيل
به عنه لم تجز شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه
الشهادة عن أبيهما مغرما ويجران إليه المنفعة
فكانا متهمين فيه والله تعالى أعلم بالصواب.
باب بطلان المال عن الكفيل من غير أداء ولا
إبراء
قال رحمه الله: وإذا كفل
الرجل بمال عن رجل من ثمن مبيع اشتراه فاستحق
المبيع من يده بريء الكفيل من المال لأن
باستحقاق المبيع انفسخ البيع وبرئ الأصيل من
الثمن وبراءة الأصيل منه توجب براءة الكفيل
لأن الكفيل يلتزم المطالبة التي هي على الأصيل
ولا تبقى المطالبة على الأصيل بعد استحقاق
المبيع فكذلك على الكفيل وكذلك لو رده بعيب
بقضاء أو بغير قضاء أو بإقالة أو بخيار شرط أو
رؤية أو بفساد البيع لأن الأصيل يبرأ عن الثمن
بهذه الأسباب وكذلك المهر يبطل عن الزوج كله
بفرقة من جهتها قبل الدخول أو بعضه بالطلاق
ببراءة الكفيل به مما بطل عن الزوج لبراءة
الأصيل وكذلك الكفيل بطعام السلم إذا صالح
الأصيل الطالب على رأس المال فهو بريء عما كفل
به لبراءة الأصيل وليس عليه شيء من رأس المال
لأنه دين آخر سوى ما كفل به وهو ليس ببدل عن
المكفول به وكيف يكون بدلا ووجوب المسلم فيه
بعقد السلم ووجوب رأس المال بانفساخ عقد السلم
والبدل ما يجب بالسبب الذي وجب به الأصل.
فلو ضمن المشتري ثمن المشترى لغريم البائع
يعني أحال البائع غريما له على المشتري حوالة
مقيدة بالثمن أو كفل المشتري لغريم الكفالة
البائع كفالة مقيدة بالثمن ثم استحق العبد
بطلت الحوالة والكفالة لأن بانفساخ العقد من
الأصل ينتفي الثمن عن المشتري من الأصل وقد
كان التزاما مقيدا به وكذلك لو وجد العبد حرا
أو رده المشتري بعيب بقضاء أو بغير قضاء أو
بخيار رؤية أو هلك العبد قبل القبض لم تبطل
الحوالة عندنا ولا الكفالة لأن بما
ج / 20 ص -84-
اعترض
من الأسباب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجبا
على الأصيل وعلى قول زفر رحمه الله تبطل
الكفالة والحوالة لأن البيع ينفسخ من الأصيل
بهذه الأسباب ويسقط الثمن عن المشتري وقد كان
التزامه مقيدا به واستشهد في الكتاب بالصرف
فقال لو باعه بالدراهم مائة دينار وقبضها ثم
انفسخ البيع بهذه الأسباب رجع على البائع بألف
درهم لأن صرفها وأصلها صحيح بخلاف ما إذا
استحق العبد أو وجد حرا فإنه يرجع بالدنانير
لأنه تبين أن الدراهم لم تكن واجبة من الأصيل
وعلى هذا لو ضمن الزوج مهر المرأة لغريمها ثم
وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول من قبلها لم
يبرأ الزوج عن الكفالة إلا على قول زفر رحمه
الله ثم إذا أداها رجع بها على المرأة لأنه
كفل عنها بأمرها فيستوجب الرجوع عليها عند
الأداء إلا أنه كانت تقع المقاصة قبل الفرقة
بمهرها وقد انعدم ذلك بسقوط المهر عنه فيرجع
عليها بالمؤدى وكذلك لو طلقها قبل أن يدخل بها
غير أنه يرجع عليها بنصف المؤدى لأن المقاصة
وقعت بالنصف الثاني من مهرها.
ولو كاتب رجل عبده على ألف درهم ثم أمره
فضمنها لغريم له على المولى ألف درهم وقبل
الحوالة بها فذلك صحيح لأن هذا ليس بكفالة ولا
حوالة في الحقيقة ولكنه بمنزلة توكيل المولى
غريمه باستيفاء بدل الكتابة من المكاتب ولا
فرق في حق المكاتب بين أن يكون يطالبه المولى
بالبدل وبين أن يطالبه غريم المولى فإن أعتق
المولى المكاتب عتق ولم يبرأ من الضمان وفي
بعض نسخ الأصل قال وبرئ من الكفالة لأنه كان
بمنزلة التوكيل وبإعتاق المكاتب يسقط عنه بدل
الكتابة حتى لا يطالبه المولى بشيء منه فكذلك
وكيله ووجه الرواية الأخرى أن الغريم كان
يطالبه بدينه قبل العتق ولم يتغير حكم دينه
بإعتاق المكاتب وإنما كان هذا بمنزلة التوكيل
وحكم توجه المطالبة للغريم على المكاتب
بالتزامه فأما المطلوب في حق الغريم دينه وما
اعترض من العتق لا يبقي التزام المطالبة
ابتداء فلأن لا ينفي بقاءه بطريق الأولى ثم
إذا أدى رجع على المولى لأنه قبل العتق كانت
تقع المقاصة بدين الكتابة وقد انعدم ذلك حين
سقط عنه دين الكتابة بالعتق وكذلك لو مات
المولى والمكاتب مدبر يعتق وعتق من ثلثه أم
ولد فعتقت لأن البراءة عن بدل الكتابة يحصل
بهذا السبب كما يحصل بإعتاق المولى إياه.
ولو كفل عبد عن مولاه بألف درهم بأمره ثم
أعتقه المولى فأداه لم يرجع على المولى فأما
بعد العتق فإنه يطالبه بذلك المال لأنه كان
مطالبا في حال رقه بالعتق وهو لا يزيده إلا
وكادة ولأن المولى شغله به حين أمره بالكفالة
عنه فهو بمنزلة ما لو أقر بالدين عليه ثم
أعتقه فلا يرجع العبد بها على المولى وإن أدى
من كسب هو خالص حقه لأن الكفالة حين وقعت لم
تكن موجبة لرجوع الكفيل على الأصيل فلا يصير
موجبا للرجوع بعد ذلك بخلاف المكاتب فإن هناك
أصل الكفالة كانت موجبة لرجوع المكاتب على
المولى عند الأداء لأن المكاتب يستوجب على
مولاه دينا إلا أنه كانت تقع المقاصة ببدل
ج / 20 ص -85-
الكتابة وهنا أصل الكفالة لم يكن موجبا لرجوع
العبد على المولى فإن العبد لا يستوجب على
مولاه دينا.
ولو أن رجلا له على رجل ألف درهم فأمره أن
يضمنها الغريم له ثم أن الآمر وهبها للكفيل أو
أبرأه منها لم يجز ذلك وكان للمكفول له أن
يأخذه بالمال لأن الكفالة أو الحوالة المقيدة
قد اشتغلت بما للآمر في ذمة الكفيل لحق الطالب
وذلك يمنع الآمر من التصرف فيه بمنزلة الراهن
إذا تصرف في المرهون بالهبة أو البيع من إنسان
فإنه لا ينفذ لحق المرتهن ولو مات الآمر وعليه
دين ولم يقتض المكفول له الدراهم كانت الدراهم
بين سائر غرماء الميت ولم يكن المكفول له أحق
بها منهم استحسانا وكان ذلك القياس أن يكون
للمكفول له خاصة وهو قول زفر رحمه الله لأنه
صار كالمرهون به ولأن سائر الغرماء يثبت حقهم
من جهة الأصل وقد كان مقدما على الأصل في هذا
المال في حياته ووجه الاستحسان أن المكفول له
لم يصر أحق بغرم هذا المال حتى لو بريء مما في
ذمة الكفيل لم يبطل حق المكفول له ولا يكون
أحق بالغنم وبه فارق الرهن فقد صار المرتهن
أحق بغرم الرهن هناك.
يوضحه أن يد الاستيفاء ثبتت للمرتهن بقبض
الرهن وعلى ذلك ينبني اختصاصه به دون سائر
الغرماء وهنا يد الاستيفاء لم تثبت للمكفول له
فيما في ذمة الكفيل بل هو مال الأصيل فيقسم
بعد موته بين غرمائه بالحصص ولو كان المكفول
عنه حيا فأقام رجل البينة أن هذا المال له
وأنه أمر فلانا فباع المبيع الذي هذا المال
ثمنه لم يكن له أن يبطل الكفالة في قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله ولكنه يضمنه للبائع
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تبطل الكفالة وهو
بناء على مسألة كتاب البيوع أن الوكيل بالبيع
عندهما في نفوذ تصرفه في الثمن بمنزلة العاقد
لنفسه ويضمن للموكل وعند أبي يوسف رحمه الله
بمنزلة الثابت لا ينفذ من تصرفه إلا ما يرجع
إلى القبض ولو كان المال إلى أجل وبه كفيل فإن
مات الأصيل فقد حل المال عليه ولا يحل على
الكفيل حتى يمضي الأجل لأن الأصيل استغنى
بموته عن الأجل والكفيل محتاج إليه وحلوله على
الأصيل لا يمنع كونه مؤجلا على الكفيل كما لو
كفل الكفيل بمال هو حال على الأصيل مؤجلا إلى
سنة ولو كان الميت هو الكفيل فقد حل المال
عليه لوقوع الاستغناء عن الأجل ويؤخذ من تركته
في الحال ثم لا يرجع ورثته على الأصيل قبل أن
يحل الأجل عندنا.
وقال زفر رحمه الله يرجعون على الأصيل في
الحال لأنهم أدوا دينا عليه بعد توجه المطالبة
فيه شرعا بحكم الكفالة عنه بأمره فيرجعون إليه
وهذا لأن الكفيل يصير بمنزلة المقرض لما أدى
عن الأصيل فيستوجب الرجوع به عليه في الحال
إلا إذا قصد إثبات حق الرجوع لنفسه بتعجيله
قبل حل الأجل ولم يوجد إذا كان سقوط الأجل
حكما لموته ولكنا نقول بالكفالة كما وجب المال
للطالب على الكفيل مؤجلا والأصيل باق منتفع
بالأجل فكما
ج / 20 ص -86-
بقي
المال مؤجلا في حق الطالب بعد موت الكفيل
فكذلك في حق الكفيل للطالب قبل حل الأجل فإنه
لا يرجع على الأصيل حتى يحل الأجل فهذا مثله
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه
ثلاثة رهط بعضهم كفلاء عن بعض بالمال وهو حال
من ثمن مبيع فأخر الطالب أحد الكفلاء إلى سنة
فهو جائز وله أن يأخذ أيهم شاء سواء بجميع
المال بمنزلة ما لو كان أحدهم كفل به مؤجلا في
الابتداء فإن المال يكون حالا على الباقين
وهذا لأن كل واحد منهم كفيل بجميع المال
وإبراء أحد الكفلاء لا يوجب البراءة للباقين
كما لا يوجب براءة الأصيل فكذلك التأخير عن
أحد الكفلاء إلى سنة فإن أدى المال أحد
الكفيلين الآخرين كان له أن يأخذ صاحبه بالنصف
ليستوي به في غرم الكفالة كما هو مساو له في
الالتزام بأصل الكفالة ولا يأخذ الذي أخره حتى
يحل الأجل لأن الأجل ثابت في حقه فكما لا
تتوجه مطالبة الطالب عليه بشيء لمكان الأجل
فكذلك مطالبة الكفيل الآخر فإذا حل الأجل وقد
كان أخذ من صاحبه النصف بيعا جميعا ذلك الكفيل
بالثلث لأنه كان مساويا لهما في الكفالة وقد
كان المانع لهما من الرجوع عليه الأجل وقد
انعدم فيرجعان عليه بقسطه وهو الثلث ليستووا
في غرم الكفالة ثم يرجعون على الأصيل بجميع
المال فلو كان الطالب أخر المال على الأصيل
سنة كان ذلك تأخيرا عن جميع الكفلاء بمنزلة ما
لو أبرأ الأصيل وكان ذلك موجبا براءة الكفيل
أو لو كان أخر كفيلا منهم شهرا وآخر شهرين
وآخر ثلاثة أشهر كان جائزا على ما سمي فإن حل
على صاحب الشهر أخذه من سهمه ولا يرجع هو على
الآخرين لقيام المانع وهو الأجل.
وإن أخر الذي عليه الأصل بعد هذا سنة كان
المال عليهم إلى سنة ودخلت الشهور تحت السنة
لأن التأجيل في حق الأصيل فهو في حق الكفيل
ولو كان أخر الكفيل شهرا ثم أخره سنة دخل
الشهر في السنة فهذا مثله وإن كان المال من
ثمن مبيع أو غصب وبه كفيل فأخر الطالب الأصيل
إلى سنة فأبى أن يقبل ذلك فالمال عليه وعلى
الكفيل حال كما كان لأن تأخير المطالبة
بالتأجيل في حق الأصيل بمنزلة إسقاطه بالإبراء
وإبراء الأصيل يرتد بالرد فكذلك التأخير عنه
يرتد برده فيبقى المال عليه حالا.
وكذلك على الكفيل لأن التأجيل في حق الأصيل
يجعل في حق الكفيل بمنزلة ما لو أجل الكفيل
ولو أجل الكفيل فأبى أن يقبل المال أن يثبت
حالا فكذلك إذا أجل الأصيل وهذا لأن التأجيل
لا يوجب انفساخ الكفالة سواء أجل الكفيل أو
الأصيل وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل
بها ثلاثة نفر وبعضهم كفلاء عن بعض ثم أن
الطالب وهب المال لواحد منهم فأبى أن يقبل
فالمال عليهم كما كان لأن الهبة من الكفيل
تمليك فيرتد برد الكفيل كما يرتد برد الأصيل
إذا وهب منه وإن قبل فقد تملك المال بقبول
الهبة فهو بمنزلة ما لو وهبه تملكه بالأداء
فإن شاء رجع على الأصيل بجميع المال وإن شاء
رجع على صاحبيه بالثلثين إن وجدهما أو على
أحدهما بالنصف إن وجده دون الآخر بمنزلة ما لو
ج / 20 ص -87-
أدى
المال فإن كان الموهوب له غائبا فلم يقبل ولم
يرد ولم يعلم به حتى مات فالهبة جائزة ويرجع
ورثته على أيهم شاء ولما بينا أن هبة الدين
إسقاط يتضمن التمليك فإن ضمنه معنى التمليك
يرتد برده ما دام حيا ولكونه إسقاطا يتهم
بموته قبل الرد ويجعل تمامه كتمامه بقبوله
وورثته قائمون مقامه فيرجعون على أيهم شاء كما
بينا.
ولو وهبه لرجلين من الكفلاء فقبلا جاز ورجعا
به على الأصيل وإن شاءا رجعا على الكفيل
الثالث بالثلث بمنزلة ما لو أديا وليس لواحد
منهما أن يرجع على صاحبه بشيء من أجل أن كل
واحد منهما صار متملكا خمسمائة وهما يستويان
في ذلك وإن أخذا الكفيل الثالث فأدى إليهما
الثلث ثم أراد هذا الكفيل الغارم أن يرجع على
أحدهما بنصف ما أدى إلى الآخر لم يكن له ذلك
لأن كل واحد منهما متملك للثلث فيكون بمنزلة
ما لو أدوا جميعا المال إلى الطالب وإنما
يتبعون الأصل بالألف كلها فإذا أخذوها كان لكل
واحد منهم ثلث المقبوض ولو أن الطالب حين وهب
المال لهذين الكفيلين قبل أحدهما الهبة وأبى
الآخر أن يقبل فللذي قبل أن يأخذ ثلث هذا
النصف من الكفيلين الآخرين لأن تملكه نصف
المال بقبول الهبة كتملكه بأداء النصف فإن شاء
رجع على الكفيلين معا بثلثي ذلك النصف وإن شاء
على أحدهما بنصف ذلك الثلث ويأخذ الطالب
بالنصف الآخر أي الكفلاء شاء وإن شاء رجع على
الأصيل لأن الهبة بطلت في هذا النصف برد
الموهوب له فعاد الحكم كما كان قبل الهبة فإن
قبض الطالب من الذي عليه الأصل شيئا فهو له
خاصة وللطالب أن يأخذ الموهوب له بما بقي من
ذلك لأن النصف الباقي ما وهبه منه فهو فيه
كغيره من الكفلاء.
ولو وهب الطالب نصف المال لأحد الكفلاء كان
بهذه المنزلة فإن رجع الموهوب له على الكفيلين
بثلثي ذلك النصف فأخذه منهما لم يتبعه واحد
منهما بشيء من ذلك لأنه لو كان له حق الاتباع
بعد الأداء كان له أن يمنع ذلك منه في
الابتداء ولكن لو أديا إلى الطالب خمسمائة كان
للموهوب له أن يرجع عليهما بثلث خمسمائة أخرى
فيرجع عليهما بتلك الخمسمائة حتى يكون الأداء
عليهم أثلاثا وكذلك الصدقة والنحلة والعطية
فأما البراءة فليست كذلك ولا يرجع المبرأ من
الكفلاء على أحد بشيء لأن إبراء الكفيل فسخ
للكفالة وليس بتملك شيء منه والله تعالى أعلم.
باب الحلف في الكفالة
قال رحمه الله: وإذا حلف
الرجل لا يضمن لفلان شيئا فضمن له بنفس أو مال
فهو حانث لأنه قد ضمن له فالمفهوم من هذا
اللفظ التزام المطالبة بتسليم شيء مضمون له
وقد وجد ذلك وكذلك لو كفل أو قبل الحوالة له
وقال في الحوالة ضمان وزيادة والكفالة والضمان
عبارتان عن عقد واحد ولو اشترى شيئا بأمره
فهذا ليس بضمان وإنما هذا التزام لعقد الشراء
وعقد الشراء لا يسمى كفالة عرفا وفي الأيمان
يعتبر العرف ولو ضمن لعبده أو مضاربه أو شريك
له مفاوض أو عنان لم يحنث لأن الضمان وقع
لغيره فإن المضمون ما
ج / 20 ص -88-
تجب به
المطالبة قبل الضامن بعقد الضمان وهو غير
المحلوف عليه فأما المحلوف عليه إن توجهت له
المطالبة فذلك باعتبار سبب آخر دون عقد
الضمان.
ألا ترى أن الرد والقبول إنما يعتبران ممن
ضمنه له دون المحلوف عليه وعلى هذا لو ضمن
الرجل فمات فورثه المحلوف عليه لم يحنث وإن
صار الضمان له في الانتهاء لأن الأصل كان
لغيره وإنما يثبت له باعتبار سبب آخر وهو
الخلافة عن المورث ولو حلف لا يضمن لأحد شيئا
فضمن إنسان ما أدركه من درك في دار اشتراها أو
عبد حنث لأنه قد ضمن للمشتري ألا ترى أنه
يسمى في الناس ضامنا من كان ضامنا للدرك وهو
بمنزلة ما لو قال إن لم يوفك فلان مالك إذا حل
أو إن مات فلان قبل أن يوفيك فهو علي أو فأنا
له ضامن فإنه يكون ضامنا له ويكون حانثا في
يمينه وإن كانت المطالبة متأخرة عنه إلى أن
يوجد ما صرح به ولا يخرج به من أن يكون ضامنا
في الحال فكذلك في الدرك.
ولو ضمن لرجل غائب لم يخاطب عنه أحد لم يحنث
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويحنث في
قول أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على ما سبق
أن الكفالة للغائب إذا لم يقبل عنه أحد باطل
في قولهما فلا يحنث في يمينه وهو صحيح في قول
أبي يوسف رحمه الله والضمان لازم للكفيل فيكون
حانثا في يمينه ولو خاطبه عنه مخاطب حنث في
قولهم جميعا لأن الضمان صحيح في حق الضامن وإن
كان للمضمون له الخيار إذا بلغه بين أن يرضي
به وبين أن يرده فيتم به شرط الحنث في حقه ولو
ضمن لصبي لأن أباه أو وصيه لو أجاز ذلك جاز
فهو بمنزلة ما لو ضمن الغائب فيتم في حقه إذا
خاطبه به مخاطب وكذلك العبد المحجور عليه يحلف
أنه لا يضمن شيئا فضمن فهو حانث لأن يمين
المحجور عليه ينعقد لكونه مخاطبا والالتزام
بالضمان صحيح في حقه وإن كان المال يتأخر عنه
إلى ما بعد العتق لحق مولاه فهو بمنزلة ما
لوضمن الغائب وعنه مخاطب أو ضمن لإنسان بعد ما
حلف وهو مفلس ولو حلف لا يكفل بفلان أو لا
يضمن فلانا فكفل عنه بمال لم يحنث لأن الكفالة
بفلان إذا أطلقت فإنما يفهم منها الكفالة
بالنفس ومطلق اللفظ في اليمين محمول على ما
يتفاهمه الناس في مخاطباتهم فإن عنى المال كان
ذلك على ما عنى لأنه شدد على نفسه بلفظ يحتمله
وقد تقدم بيان هذا الجنس في كتاب والله أعلم.
باب الكفالة بما لا يجوز
قال رحمه الله: ولا يجوز الكفالة بشجة عمد
فيها قصاص ولا بدم عمد فيه قصاص حتى لا يؤاخذ
الكفيل بشيء من القصاص ولا من الأرش لأن
الكفالة إنما تصح بمضمون تجري النيابة في
إيفائه والقصاص عقوبة لا تجري النيابة في
إيفائها فلا يصح التزامها بالكفالة والأرش لم
يكن واجبا على الأصيل بالفعل الذي هو موجب
للقصاص والكفيل لم يكفل به أيضا وكذلك الكفالة
بحد القذف باطلة لأنه عقوبة لا تجري النيابة
في إيفائها ولأن المغلب فيه حق الله تعالى
فيكون على قياس سائر الحدود وكذلك لا تجوز
الكفالة بشيء
ج / 20 ص -89-
من
الأمانات لأنها غير مضمونة على الأصيل ولا هو
مطالب بإيفائها من عنده وإنما يلتزم الكفيل
المطالبة بما هو مضمون الإيفاء على الأصيل
فإذا استهلكها بعد ذلك من هي في يده أو خالف
فيها لم يلزم الكفيل ضمانها لأن أصل الكفالة
لم يصح والضمان إنما لزم الأصيل بسبب حادث بعد
الكفالة وهو ما أضاف الكفالة إلى ذلك السبب.
وكذلك في القصاص لو صالح الطالب المطلوب على
مال لم يلزم الكفيل من ذلك المال شيء لأنه وجب
بعقد بعد الكفالة والكفالة ما أضيفت إليه وكما
لا تصح الكفالة بهذه الأشياء فكذلك الرهن لأن
جواز الرهن يختص بما يمكن استيفاؤه من الرهن
فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء وكذلك الكفالة
بالرهن عن المرتهن الرهن باطل لأن عين الرهن
أمانة في يد المرتهن والكفالة بتسليم الأمانة
لا تصح كالوديعة والعارية والمضاربة وكذلك
الكفالة للمولى مملوكة وهو في بيت مولاه أو قد
أبق عنه باطلة لأنه غير مضمون للمولى على
العبد فإن المولى لا يستوجب على عبده حقا
مضمونا وهذه الكفالة دون الكفالة ببدل الكتابة
للمولى عن مكاتبه وذلك باطل فهذا أولى ولو دفع
ثوبا إلى قصار ليقصره وضمنه رجل فضمانه باطل
في قول أبي حنيفة رحمه الله وكذلك من يشبهه من
الصناع لأن العين عنده أمانة في يد الأجير
المشترك ولهذا لو هلك من غير صنعه لم يضمن
وأما في قول من يضمن الأجير المشترك ما هلك
عنده بسبب يمكن التحرز عنه وهو قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله فالكفيل ضامن لأن العين
عندهما مضمونة في يد القابض بنفسها وهو بمنزلة
المغصوب في يد الغاصب فتصح الكفالة به.
ولو كفل بعبد رجل إن هو أبق من مولاه فهو باطل
لأنه ما أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان
فالإباق ليس بسبب يوجب ضمانا للمولى على عبده
وكذلك لو كفل بدابته إن انفلتت منه أو بشيء من
ماله إن تلف لأن الكفيل يلتزم مطالبة هي على
الأصيل وذلك ينعدم هنا.
ولو استودع رجلا وديعة على أن هذا كفيل بها إن
أكلها أو جحدها فهو جائز على ما شرط لأنه أضاف
الكفالة إلى سبب وجوب الضمان والمتعلق بالشرط
عند وجود الشرط كالمنجز وكذلك لو قال أنا كفيل
بما صالحته عليه من مال من القصاص الذي تملك
عليه في نفس أو من مال لك عليه لأنه أضاف
الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها
وكذلك لو قال إن قتلك فلان خطأ فأنا ضامن
لديتك فقتله فلان خطأ فهو ضامن أرشه لأنه أضاف
الكفالة بالأرش إلى سبب موجب له وهو مما تجري
النيابة في إيفائه.
ولو قال إن أكلك سبع أو ذئب فأنا ضامن لديتك
فهذا باطل لأنه ما أضاف الضمان إلى سبب موجب
له ولو قال إن غصبك إنسان فأنا ضامن له فغصبه
إنسان شيئا فلا ضمان عليه لأنه عم معناه أن
المكفول عنه مجهول جهالة متفاحشة وذلك يمنع
انعقاد الكفالة مضافا كان أو مجردا ولو خص
إنسانا أو قوما لزمه ذلك لأن المكفول عنه
معلوم ولو دفع
ج / 20 ص -90-
ثوبا
إلى قصار يقصره بأجرة وكفل به رجل إن أفسده
كان جائزا لأن الأجير المشترك ضامن لما جنت
يده فقد أضاف الكفالة إلى سبب موجب الضمان
فصحت الكفالة لهذا ولو ادعى قبل رجل قصاصا في
نفس أو دونها أو حدا في قذف وسأل القاضي أن
يأخذ له كفيلا بنفسه وقال بينتي حاضرة لم يجبه
القاضي إلى ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله
وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجيبه إلى
ذلك لأن تسليم النفس مستحق على الأصيل الطالب
في هذا الموضع فتصح الكفالة به كما في دعوى
المال وهذا لأن تسليم النفس تجري فيه النيابة
فالكفيل إنما يلتزم ما يقدر على إيفائه وأبو
حنيفة رحمه الله يقول تسليم النفس هنا لمقصود
لا تصح الكفالة به وهو الحد والقصاص فلا يجبر
على إعطاء الكفيل بالنفس فيهما بخلاف المال
وهذا لأن العقوبات تدرأ بالشبهات فلا ينبغي
للقاضي أن يسلك فيها طريق الاحتياط بالإجبار
على إعطاء الكفيل بالنفس لأن ذلك يرجع إلى
الاستيثاق وهو ضد موضوع العقوبات ولكن السبيل
أن يقول له ألزمه ما بينك وبين قيامي فإن أحضر
البينة قبل أن يقوم القاضي وإلا خلي سبيله ولو
أقام شاهدا واحدا لا يعرفه القاضي فإن أقام
شاهدين أو واحدا عدلا يعرفه القاضي فإن القاضي
يحبسه في السجن حتى يسأل الشهود لأنه صار
متهما بارتكاب الحرام الموجب للعقوبة حين تم
أحد شطري الشهادة والحبس مشروع في حق مثله.
ألا ترى أن الداعر يحبس ولا يكفل حتى يأتي
بشاهد آخر لأن الكفيل للاستيثاق بالحدود
والقصاص وذلك غير مشروع فأما الحبس للتعزير
فهو مشروع في حق من هو متهم بارتكاب الحرام
وعلى قولهما لا يحبسه قبل تمام الحجة الموجبة
للقضاء ولكنه يكفله ثلاثة أيام كما في دعوى
المال ولو ادعى قبل رجل مالا بسرقة منه وقال
بينتي حاضرة فإنه يؤخذ له منه كفيل بنفسه
ثلاثة أيام لأن المدعي مال والاستيثاق
بالكفالة فيه مشروع فإن قال قبضت منه السرقة
لكني أريد أن أقيم عليه الحد لا يؤخذ منه كفيل
لأن الحد يجب لله تعالى وهو ينبني على البرء
والإسقاط فلا يستوثق بأخذ الكفيل بالنفس فيه
وكذلك حد الزنى فإن طلب المشهود عليه من الذي
شهد عليه بالزنى حد القذف فقال الشاهد عندي
بذلك أربعة شهداء أجل فيه إلى قيام القاضي
ليظهر عجزه بهذا الإمهال عن إقامة أربعة من
الشهداء فإن لم يحضرهم أقام عليه حد القذف لأن
السبب الموجب للحد قد تقرر وهو القذف مع العجز
عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يحل عنه ولا
يكفل لأن ذلك يرجع إلى الاستيثاق ولكن الطالب
يلزمه إلى قيام القاضي مراعاة لحقه حتى لا
يهرب.
فإن قال الشاهدان المشهود عليه عبد فالقول
قوله لأن ثبوت حريته بطريق الظاهر وبمثله يدفع
الاستحقاق ولا يستحق الحد وإن طلب المقذوف من
القاضي أن يأخذ له منه كفيلا حتى يحضر البينة
أنه حر لم يؤخذ لأن هذا استيثاق لإقامة الحد
ولكن القاذف يحبس على وجه له فقد استوجب ذلك
بإشاعة الفاحشة حرا كان المقذوف أو عبدا ويؤجل
ج / 20 ص -91-
المقذوف أياما بمنزلة ما لو أقام رجل عليه
البينة بالرق فزعم أن له بينة حاضرة على
الحرية وكما يؤجل هناك أياما ليتمكن من إثبات
حريته بالبينة فكذلك هنا وإن أقام رب السرقة
شاهدين على السارق وعلى السرقة وهي بعينها في
يديه لم يؤخذ منه كفيل ولكنه يحبس وتوضع
السرقة على يدي عدل حتى يزكي الشهود لأن في
الاشتغال بأخذ الكفيل بنفسه أو بالعين
المسروقة استيثاقا لإقامة الحدود ذلك غير
مشروع ولكنه يحبس على وجه التعزير وتوضع
السرقة على يدي عدل لأن السارق غير مأمون على
العين المسروقة والمدعى عليه المال إذا كان
يخاف منه أن يتلف المال فللقاضي أن يضعه على
يدي عدل بعد إقامة البينة حتى يزكي الشهود
وإخراج العين فيه نوع تعزير له.
وإذا ادعى عبد على حر قذفا وأراد أن يعذر له
أو ادعى رجل قبل رجل مسألة فيها تعزير وقال
بينتي حاضرة أخذ له منه كفيلا بنفسه ثلاثة
أيام لأنه ليس بحد وإنما هو تعزير وهو من حقوق
العباد حتى يجوز العفو عنه وهو مما لا يندرئ
بالشبهات التي هي في معنى البدل بمنزلة
الأموال ولو ادعت امرأة على زوجها أنه قذفها
والزوج حر أو عبد لم يؤخذ منه كفيل في قول أبي
حنيفة رحمه الله لأن اللعان في قذف الزوج
زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبي وقد بينا
الخلاف هناك بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله
فكذلك هنا ولو ادعى الولد قبل الوالد قذفا لم
يؤخذ منه كفيل ولم يترك أن يلزمه لأن الابن لا
يستوجب على والده شيئا من نوع العقوبة تعزيرا
كان أو حدا أو قصاصا وكذلك لا يستوجب عليه
الحبس في دين له واجب عليه وكذلك لا يستوجب
الملازمة في دعواه قبله.
وكذلك لو ادعاه قبل والدته أو جده أو جدته
وكذلك لو ادعى عبد أن مولاه قذف أمه وهي حرة
مسلمة لأن حقوق الملك في إخراج المملوك من أن
يكون أهلا لاستيجاب العقوبة على مالكه بمنزلة
الولادة ولو ادعى حر قبل عبد قذفا فأراد أن
يأخذ منه كفيلا بنفسه أو نفس مولاه وخاف أن لا
يقام عليه الحد إلا بمحضر من مولاه لم يؤخذ له
الكفيل من واحد منهما ولكنه يؤمر بتلازمهما
إلى أن يقوم القاضي في قول أبي حنيفة رحمه
الله ولو أقام البينة عليه بذلك بمحضر من
مولاه فإن العبد يحبس له ويؤخذ له من مولاه
كفيل في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي
يوسف رحمه الله لا يحبس العبد ولكن يؤخذ له
كفيل بنفس العبد خاصة دون نفس المولى وفي قول
محمد رحمه الله يؤخذ له الكفيل بنفس العبد
ونفس مولاه والذي قال في الكتاب أن قول محمد
رحمه الله مثل قول أبي حنيفة رحمه الله إنما
يريد به أخذ الكفيل من المولى فأما حبس العبد
فقوله كقول أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على
مسألتين إحداهما ما بينا من أخذ الكفيل بنفس
المدعي قبله حد القذف والأخرى ما تقدم بيانه
في الآبق أن حد القذف بالبينة لا يقام على
العبد إلا بمحضر من مولاه في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله
يقام عليه وإن لم يحضر المولى.
فقال أبو يوسف رحمه الله لا يأخذ الكفيلين
بنفس المولى لأنه لا حاجة إلى حضوره
ج / 20 ص -92-
في
إقامته الحد ويؤخذ الكفيل بنفس العبد ولا يحبس
قبل إقامة البينة ولا بعدها قبل ظهور عدالة
الشهود لأن هذا بمنزلة المال عنده في حكم
الكفالة بالنفس وقال محمد رحمه الله كذلك إلا
أنه قال يؤخذ الكفيل بنفس المولى لأنه لا بد
من حضرة المولى لإقامة الحد على العبد عنده
وعند أبي حنيفة رحمه الله في دعوى حد القذف لا
يجبر على إعطاء الكفيل بالنفس قبل إقامة
البينة ولكن يصار فيه إلى الملازمة ولا بد من
حضرة المولى عنده لإقامة البينة فيكون للمدعي
أن يلازمهما وبعد إقامة البينة يحبس العبد
تعزيرا كما يحبس الحر إذا قامت البينة عليه
بالقذف ويؤخذ من مولاه كفيل لأنه لا بد من
حضرة المولى لإقامة الحد ولا سبيل إلى حبسه
لأنه ما ارتكب حراما فيؤخذ منه كفيل نظرا
للمدعي لأنه ليس في أخذ الكفيل من المولى هنا
توثق بحد عليه إذ لا حد على المولى.
ولو ادعى رجل على رجل حدا في قذف فأقام شاهدين
على شهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين لم يكفل
ولم يحبس وكذلك هذا في القصاص لأنه لا مدخل
لهذا النوع من الحجة في حد أو قصاص ولو كان
هذا في سرقة أخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن
الشهود لأن المال يثبت بهذه الحجة فإن زكوا
قضى عليه بالمال وكذلك كل جراحة لا قصاص فيها
لا في دعوى المال وبمثل هذه الشهادة يثبت
المال فإذا ادعى رجل دم عمد على ثلاثة نفر
فأقر اثنان منهم بذلك وشهدا على الثالث أنه
قتل معهما عمدا فإنهما يحبسان فإقرارهما على
أنفسهما بمباشرة السبب الموجب للعقوبة ولا
يحبس الآخر بشهادتهما ولا يكفل لأن شهادتهما
ليست بمقبولة على الثالث فإنهما فاسقان
ولأنهما يشهدان بفعل كان مشتركا بينه وبينهما
ولا شهادة لهما في مثله فإنما يبقى في حق
الثالث مجرد دعوى المدعي وبه لا يثبت الحبس
ولا التكفيل ولو كان أولياء الدم ثلاثة فادعى
أحدهم على رجل وادعى الآخر على الشريك قتل
العمد وكل واحد منهما يدعي بينة حاضرة لم يحبس
أحد منهم ولكن يؤخذ من كل واحد منهم كفيل
ثلاثة أيام لأنه لا قصاص في هذه الدعوى وإنما
إنهاء المال بشيء واحد منهما على من بينته
عليه في دعوى المال يكفل بالنفس ثلاثة أيام.
ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ثم أبرأه
وادعاه على آخر لم يكفل الثاني ولا تقبل بينة
عليه لوجود التناقض منه في الدعوى فإن أقر
الثاني بذلك قضى عليه لأنه مناقض صدق خصمه في
ذلك إلا أنه لا يقضي عليه بالقصاص لأن ما تقدم
من الدعوى منه على غيره يمنعه من استيفاء
القصاص منه فيصير ذلك شبهة في حق القصاص دون
المال وهذا مشكل فإن تعذر استيفاء القصاص
لمعنى من جهة من له الحق وهو تناقضه في الدعوى
وفي مثله لا يقضي بالدية كما لو قال قتلت وليك
عمدا فقال لا بل قتلته خطأ لا يقضي بالمال وكل
ما لا قصاص فيه فهو بمنزلة الخطأ في حكم
الكفالة حتى إذا ادعى على رجلين قطع يد عمدا
أخذ له منهما الكفيل بالنفس لأن هذا غير موجب
للقصاص وإنما الدعوى فيه دعوى المال ولو أقام
شاهدين عدلين على قتل خطأ قضى له بالدية ولا
حبس على القاتل في ذلك
ج / 20 ص -93-
ولا
كفالة لأن الخاطئ معذور والخطأ موضع رحمة من
الشرع علينا فالخاطئ لا يستوجب التعزير إلا أن
يكون داعرا فيحبس للدعارة لأن في حبس الداعر
تسكين الفتنة.
ولو أن رجلا قطع يميني رجلين فاجتمعا وطلبا
كفيلا بنفسه لا يؤخذ لهما منه كفيل بنفسه من
قبل أن كل واحد منهما يدعي القصاص ألا ترى أن
أحدهما إذا أقام البينة قضى له بالقصاص وإذا
أقاما جميعا البينة قضى لهما بالقصاص حتى إذا
بادر أحدهما واستوفى كان مستوفيا لحقه إلا
أنهما إذا استوفيا القصاص يقضي لهما حينئذ
بأرش اليد وقضى بنصف طرفه حقا مستحقا عليه لكل
واحد منهما وإذا ثبت أن دعوى كل واحد منهما
دعوى القصاص لم يؤخذ الكفيل بنفسه في قول أبي
حنيفة رحمه الله.
ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ويد القاطع
شلاء فقال المدعي أنا أختار الدية فخذ لي منه
كفيلا بنفسه أخذ له الكفيل لأن باختياره يتعين
حقه في المال وفي دعوى المال تجري الكفالة
بالنفس
وإذا ادعى رجل قبل رجل شتمة فاحشة وأقام عليه
شاهدين بالشتمة لم يحبس المدعى عليه ولكن يؤخذ
منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود ولما بينا
أن دعوى التعزير كدعوى المال وفي دعوى المال
لا يحبس ما لم تظهر عدالة الشهود ثم الحبس
نهاية العقوبة في هذه الدعوى ألا ترى أن بعد
عدالة الشهود لو رأى القاضي أن يحبسه أياما
عقوبة ولا يعزر بالسوط كان له ذلك فلما كان
الحبس له نهاية العقوبة هنا لا يمكن إقامتها
قبل ظهور العدالة بخلاف القصاص والحدود وأشار
في الحدود والقصاص إلى أن على قولهما بعد
إقامة البينة قبل ظهور عدالة الشهود يحبس ولا
يؤخذ الكفيل ولكن يبرأ الكفيل إن كان أخذه
منه تأويله بعد ظهور العدالة فأما قبل ذلك
فلا يشتغل بحبسه عندهما على ما فسره في دعوى
الحد على العبد.
وإن كان المدعى عليه الشتمة رجلا له مروءة
وخطر استحسنت أن لا أحبسه ولا أعزره إذا كان
ذلك أول مرة لأن إحضاره مجلس القاضي فيه نوع
تعزير في حقه فيكتفي به في أول مرة ويؤخذ بما
رواه الحسن رحمه الله عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"تجافوا عن ذوي المروءة إلا في الحد" وإذا ادعى رجل قبل رجل شيئا يجب عليه فيه عقوبة فأخذ منه كفيلا
بنفسه ثلاثة أيام فهرب المكفول به وقدم الطالب
الكفيل إلى القاضي فإنه يحبسه حتى يجيء به
لأنه التزم تسليم نفسه فيحبس لإيفاء ما
التزمه.
ولو ادعى قبل رجل أنه ضربه وخنقه وشتمه وأن له
بينة حاضرة أخذت له منه كفيلا ثلاثة أيام فإن
أقام على ذلك شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو
شاهدين على شهادة شاهدين عزر به لأن التعزير
بمنزلة المال يثبت مع الشبهات وقد بينا في
كتاب الحدود أنه لا يبلغ بالتعزير أربعين سوطا
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول
أبي يوسف رحمه الله يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين
سوطا إذا كان في أمر متفاحش وتعزير العبد في
مثل ذلك تسعة وثلاثون سوطا عنده ذكر هذه
الزيادة هنا لأن الأربعين حد في حق العبد وقد
قال صلى الله عليه وسلم:
ج / 20 ص -94-
"من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" ولو ادعت امرأة قبل زوجها أنه ضربها ضربا فاحشا وادعت بينة حاضرة
أو ادعى رجل ذلك قبل ولده الكبير أو قبل أخيه
يؤخذ منه كفيل ثلاثة أيام وكذلك الذمي يدعي
الشتمة قبل المسلم أو الذمي أو العبد يدعيها
قبل الحر لأن الدعوى في هذا كله دعوى التعزير
والكفالة فيه مشروعة وإذا مات الرجل وعليه دين
ولم يترك شيئا فكفل ابنه أجنبي للغريم بما له
على الميت لم تجز الكفالة في قول أبي حنيفة
رحمه الله وهي جائزة في قول أبي يوسف ومحمد
والشافعي رحمهما الله.
وإذا كان الميت ترك وفاء جازت الكفالة عندهم
جميعا وإن ترك شيئا ليس فيه وفاء فإنه يلزم
الكفيل بقدر ما ترك الميت في قوله وفي قولهما
يلزمه جميع ما كفل به وحجتهم في ذلك ما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل من
الأنصار ليصلي عليه فقال صلى الله عليه وسلم:
"هل على صاحبكم دين"
فقالوا نعم درهمان أو ديناران فقال صلوات الله
عليه وسلامه:
"صلوا على صاحبكم"
فقال
أبو قتادة هما علي يا رسول الله وفي رواية قال
ذلك علي كرم الله وجهه فصلى عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلو لم تصح الكفالة عن
الميت المفلس لما صلى عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد الكفالة وعن عبد الحميد بن أبي
أمية عن رجل من الأنصار أنه قال لأصحابه من
استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل
فإني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
أتى بجنازة رجل من الأنصار فقال صلى الله عليه
وسلم:
"هل على صاحبكم دين" فقالوا نعم فقال صلوات الله عليه وسلامه:
"وما ينفعكم صلاتي عليه وهو في قبره مرتهن بدينه" ثم قال صلى الله عليه وسلم:
"فمن ضمنه قمت فصليت عليه" فهذا تنصيص على تصحيح الضمان عن الميت المفلس والمعنى فيه أنه كفل
بدين واجب فيصح كما في حال حياة المديون وهذا
لأن الدين كان واجبا عليه في حال حياته فلا
يسقط إلا بإيفاء أو إبراء أو انفساخ سبب
الوجوب وبالموت لا يتحقق شيء من ذلك ألا ترى
أنه مؤاخذ به في الآخرة مطلوب به ولو تبرع
إنسان بقضائه جاز التبرع إلا أنه تعذرت
مطالبته به في الدنيا بموته وبهذا لا يخرج
الحق من أن يكون مطلوبا في نفسه كما لو أفلس
في حال الحياة وكالعبد إذا أقر على نفسه بدين
ثم كفل عنه كفيل به صح وإن كان هو لا يطالبه
في حال رقه لأن الحق مطلوب في نفسه وهذا لأن
ذمته باقية بعد الموت حكما لأنها كرامة اختص
بها الآدمي وبموته لا يخرج من أن يكون محترما
مستحقا لكرامات بني آدم.
ألا ترى أنه لو مات مليا بقي الدين ببقاء ذمته
حكما لا للانتقال إلى المال وليس بمحل لوجوب
الدين فيه وإنما هو محل القضاء الواجب منه.
ولو كان بالدين رهن بقي الرهن على حاله وإن
كان مات عن إفلاس بأن كان الرهن مستعارا من
إنسان وبقاء الرهن لا يكون إلا باعتبار بقاء
الدين ولو قتل عمدا وهو مفلس فكفل به كفيل
بالدين الذي عليه صح والقصاص الواجب ليس بمال
ولو لم تكن الذمة باقية حكما لما صحت الكفالة
هنا وهذا بخلاف دين الكتابة فالحق هناك غير
مطلوب وكذلك الديون الواجبة لله تعالى فإنها
غير مطلوبة في الحكم في الدنيا والكفالة تكون
بالحق فيشترط
ج / 20 ص -95-
كون
الحق مطلوبا في نفسه على الإطلاق وهناك الحق
مطلوب في نفسه وبموته لم يتغير الحكم فبقي
مطلوبا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الحق
قد توى وإنما تصح الكفالة بالقائم مثلا من
الدين دون التاوي وبيان ذلك هو أنه لا يتصور
قيام الحق بدون محله ومحل الدين الذمة وقد
خرجت ذمته بموته من أن يكون محلا صالحا لوجوب
الحق فيها فإن الذمة عبارة عن العهدة ومنه
يقال أهل الذمة.
وأصل ذلك من الميثاق المأخوذ على الذرية
المأخوذة من ظهر آدم صلوات الله عليه قال
تعالى:
{وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي
عُنُقِهِ}[سورة
الإسراء, آية: 13] وذلك باعتبار صفة الحياة
قبله فأما بالموت فخرج من أن يكون أهلا
لالتزام شيء من الحقوق في أحكام الدنيا فعرفنا
أنه لم يبق له ذمة صالحة تكون محلا للحق ولكنه
في أحكام الآخرة معد للحياة فتبقى الذمة في
أحكام الآخرة ولهذا كان مؤاخذا به وهو معد
للحياة في الدنيا عادة فلا تبقى الذمة في
أحكام الدنيا وباعتبار المطالبة في أحكام
الآخرة لا يمكن تصحيح الكفالة كما في ديون
الله جلت قدرته والدليل عليه أن الذمة لم تبق
محلا لوجوب الحق فيها بعد الموت وكما يشترط
المحل لابتداء الالتزام فكذلك يشترط المحل
لبقاء الحق ولم يبق المحل فلا يبقى في أحكام
الدنيا أيضا والكفيل إنما يلتزم المطالبة بما
على الأصيل ولا يلتزم أصل الدين في ذمته ولم
يبق في ذمة الأصيل شيء في أحكام الدنيا فلا
تصح الكفالة وهذا الدين في حكم المطالبة دون
دين الكتابة فالمكاتب يطالب بالمال وإن كان لا
يحبس فيه ثم هناك الكفالة به لا تصح فهنا أولى
بخلاف المفلس في حال الحياة فإن ذمته محل صالح
لوجوب الحق فيها ابتداء فبقي الواجب وبخلاف
العبد أيضا فإن له ذمة صالحة لوجوب الحق فيها
وإن ضعفت ذمته بسبب الرق وبخلاف ما إذا مات
مليا فالمال هناك خلف عن الذمة فيما هو
المقصود وهو المطالبة والاستيفاء لأن
الاستيفاء يكون من المال بجعل الأصل قائما
حكما وهنا لم يبق حلف بعد موته مفلسا وتوهم أن
يتبرع إنسان بماله فيقضي عنه الدين لا يجعل
مال الغير خلفا عن ذمته قبل جعل صاحبه وبخلاف
ما إذا كان بالدين كفيل لأن ذمة الكفيل هنا
خلف عن ذمته وبعد صحة الكفالة قد يتحول الدين
إلى ذمة الكفيل عند الضرورة وهو عند أداء
الكفيل أو الهبة وقد تحققت الضرورة هنا فلهذا
بقي الكفيل في الكفالة.
وكذلك الرهن خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو
استيفاء الدين منه بقدر استيفائه من محل آخر
وإذا قتل عمدا فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله
لا تصح الكفالة عند أبي حنيفة رحمه الله وبعد
التسليم يقول القصاص الواجب بفرض أن يصير مالا
بعفو بعض الشركاء أو تمكن الشبهة فتوهم توجه
المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل
الذمة باقية حكما فتصح الكفالة لهذا المعنى
والحديث المروي في الباب يحتمل أن يكون ذلك من
أبي قتادة أو علي رضي الله عنهما إقرارا
بكفالة سابقة فإن لفظ الإقرار والإنشاء في
الكفالة سواء والعموم بحكاية الحال لا يثبت
ويحتمل أن يكون وعدا منهما لا كفالة وقد كان
ج / 20 ص -96-
رسول
الله صلى الله عليه وسلم يمتنع من الصلاة على
الميت ليظهر طريق لقضاء ما عليه فلما ظهر
الطريق لوعدهما صلى عليه لهذا.
ألا ترى أنه ما روي أنه كان يقول لعلي رضي
الله عنه بعد ذلك ما فعل الديناران حتى قال
يوما قضيتهما فقال صلى الله عليه وسلم:
"الآن بردت عليه جلدته ولم يجبره على الأداء." وبه يتبين أنه كان وعدا لا كفالة والحديث الآخر شاذ ويحتمل أن
النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن لذلك الرجل
مالا ولكنه ما كان ظاهرا عند الناس فلهذا
ندبهم إلى الضمان عنه ليصلي عليه ثم هذا حكم
منسوخ لاجماعنا على جواز الصلاة على المديون
المفلس والاستدلال بالمنسوخ لا يقوى والله
أعلم بالصواب.
باب كتاب القاضي في الكفالة
قال رحمه الله: وإذا كتب القاضي إلى القاضي في
كفالة بنفس رجل كفل به بأمره فأراد أن يقبل
معه حتى يوافيه به فأقام على كتاب القاضي
شاهدي عدل وكتب أنه قد قامت عنده البينة
العادلة أنه كفل بنفسه بأمره فإن القاضي يأمره
بالخروج معه حتى يوفي مكانه ويخلصه مما أدخله
فيه لأن الكفالة بالنفس تثبت مع الشبهات فيثبت
كتاب القاضي إلى القاضي ثم الثابت بالبينة عند
القاضي المكتوب إليه كالثابت بإقرار الخصم ولو
أقر الخصم بذلك في الذمة بالخروج معه لأنه هو
الذي أوقعه في هذه الورطة حين أمر أن يكفل
بنفسه فعليه أن يخلصه ها هنا كما لو أمر
بالكفالة بالمال كان عليه تخليصه مما يلزمه
به.
فإن كفل بالبصرة وجاء بالكتاب من قاضي البصرة
إلى قاضي الكوفة بذلك فإنه يؤمر أن يوافيه حتى
يبرئه من ذلك لأنه إنما يلزمه تسليمه في
الموضع الذي التزم التسليم فيه ولا يقدر على
ذلك إلا بموافاة الآمر معه إلى ذلك الموضع
وكذلك لو كان كفل به بالكوفة على أن يوافي به
بالبصرة فأخذ الطالب بالكوفة فإنه يأمره
القاضي أن يوافي معه بالبصرة حتى يبرئه لما
قلنا ولو كفل بنفسه بالكوفة على أن يدفعه
بالكوفة وأخذه الطالب بالبصرة فطلب كتاب قاضي
البصرة إلى قاضي الكوفة بذلك ليأمره بأن يوافي
معه البصرة لم يجبه إلى ذلك ولو كتب له يجبر
قاضي الكوفة المكفول به على الذهاب معه إلى
البصرة لأن مطالبة الطالب بالبصرة لا تلزم
الكفيل شيئا فإنه ما التزم تسليمه إليه
بالبصرة ولو طلب الكفيل كتاب قاضي البصرة
ببينة بالكفالة بأمره فإنه يكتب له بذلك حتى
إذا قدم الكوفة وطالب الطالب بالتسليم فامتنع
الأصيل وجحد الآمر بالكفالة كان كتاب قاضي
البصرة حجة له عليه.
ولو كتب القاضي إلى القاضي كتابا في كفالة
بنفس رجل ولم يبين في كفالته أنه كفل بأمره
فإنه لا يؤخذ له بذلك بمنزلة ما لو أقر أنه
كفل بغير أمره وهذا لأنه لو كفل عنه بمال بغير
أمره لم يكن عليه أن يخلصه من ذلك لأنه التزمه
باختياره فكذلك إذا كفل بنفسه بغير أمره وإذا
كان الكفلاء بالمال ثلاثة وبعضهم كفلاء عن بعض
فأدى المال أحدهم والكفيلان الآخران في بلدين
وصاحب الأصل في بلد آخر فأقام البينة بذلك عند
القاضي وسأله أن
ج / 20 ص -97-
يكتب
له به فإنه يكتب له بثلاثة كتب إلى كل بلد
بصفة الكفالة وحالها وأداء المال لأنه يحتاج
إلى ذلك كله فربما يقصد أخذ الثلاثة فلا بد من
أن يعطيه ما يكون حجة له عليه إلا أنه يكتب
إلى كل قاض بما كتب به إلى القاضي الآخر على
سبيل النظر فيه للخصوم لكيلا يلتبس المدعي
ويأخذ مالا على حده كل كتاب عن كل خصم ولا بد
من أن يسمي في كتابه الشهود وآباءهم وقبائلهم
لأن هذا الكتاب لنقل الشهادة فلا بد من إعلام
الشاهد فيه وإعلامه بذكر اسمه واسم أبيه
وقبيلته فإن أخذ أحد الكفلاء فقال قد أخذت من
الكفيل معي نصف المال أو من الأصيل المال
فعليه البينة لأن الأصيل لو ادعى ذلك بنفسه
كان عليه أن يبينه بالبينة فكذلك إذا ادعى ذلك
الكفيل.
وهذا لأن السبب الموجب للرجوع له بنصف المال
على الذي أخذه ظاهر وهو يدعي مانعا أو مسقطا
فعليه إثباته بالبينة فإن لم يكن له بينة حلف
الذي ادعى المال وأخذ منه نصفه وإذا أدى
الكفيل المال وأخذ به كتاب قاض إلى قاض فلم
يجد صاحبه هناك فإن القاضي الذي أتاه بالكتاب
يكتب له إلى قاض آخر بما أتاه من قاضي كذا لأن
على المكتوب إليه أن ينظر له ويقبضه على ما
يتوصل به إلى حقه كما هو على الكتاب ولأن
شهوده قد ثبت في مجلس القاضي المكتوب إليه
بالكتاب فهو كما لو ثبت بأدائهم الشهادة في
مجلسه فعليه أن يكتب له إلى قاضي البلدة التي
فيها خصمه وإن رجع القاضي الذي كتب له أول مرة
فقال اكتب لي كتابا آخر فإني لم أجد خصمي في
البلد الذي كتب إلى قاضيه لم يكتب له حتى يرد
إليه كتابه الأول نظرا منه لخصمه لأن من
الجائز أن يقصد المدعي التلبيس ليأخذ مالا بكل
كتاب وإنما حقه في مال واحد وإن كتب له قبل أن
يرد إليه كتابه فقد أساء في ترك النظر لأي
الخصمين وميله إلى أحدهما وتمكينه من التلبيس
وليبين في كتابه أنه قد كتب له في هذه النسخة
إلى قاضي كذا وكذا فبهذا يندفع بعض التلبيس
ويحصل للقاضي الكاتب التحرز عن التمكين من
الظلم.
وإذا كتب للقاضي بمال أداه كفيل عن كفيل فهو
جائز ويؤخذ به الكفيل الأول للثاني إذا كان هو
الذي أمره به ولا يؤخذ به الذي عليه الأصل ولم
يأمره بالكفالة عنه وإنما أمره الكفيل الأول
والتخليص إنما يجب على من أوقعه بأمره إياه
بالكفالة في الورطة فإن كان الأصل هو الذي أمر
الثاني أن يضمن من لم يأمره بشيء وأصل المال
على الأصيل فلا فرق بين أن يأمره أن يكفل بذلك
المال عنه وبين أن يأمره بأن يكفل به عن كفيله
وإذا ادعى الكفيل المال وكتب له القاضي بذلك
ولم يكتب في كتابه أنه كفل بأمره فإن الذي
أتاه الكتاب لا يرد الكفيل بالمال لأن الأصيل
لو أقر بكفالته عنه وجحد أن يكون أمره بذلك لم
يكن له أن يرجع عليه بشيء فكذلك إذا ثبت ذلك
بالبينة وإن جاء الكفيل بكتاب من قاض آخر أنه
كفل عنه بأمره فهو مستقيم ويؤخذ له بالمال
بمنزلة ما لو أقر الخصم بذلك أو شهد عليه
شاهدان والله تعالى أعلم بالصواب.
ج / 20 ص -98-
باب الشهادة واليمين في الحوالة والكفالة
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل على رجل كفالة
بنفس رجل وشهد له شاهدان فاختلفا في الوقت أو
في البلد الذي وقعت الكفالة فيه أو في الأجل
بأن قال أحدهما إلى شهر وقال الآخر إلى شهرين
أو قال أحدهما حال وقال الآخر إلى شهر
فالكفالة لازمة في ذلك كله لأنه قول يعاد
ويكرر فلا يختلف المشهود به وهو أصل الكفالة
باختلافهما في هذه الأشياء ولو شهدا أن هذا
كفل لهذا بنفس رجل لا نعرفه ولكن نعرف وجهه إن
جاء به فهو جائز لأنهما يشهدان على قول الكفيل
ويجعل ما ثبت من قوله بشهادتهما كالثابت
بإقراره فيقضي القاضي به ويأمره أن يأتي به
على معرفتهما ولو قالا لا نعرف وجهه أيضا فإنه
يؤخذ بالكفالة بمنزلة ما لو أقر عند القاضي
بأنه كفل بنفس رجل لهذا ثم يقال له أي رجل
أتيت به وقلت هو هذا وحلفت عليه فأنت بريء من
الكفالة وهذا لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة
الإقرار فالقول في بيانه قول المقر بمنزلة ما
لو أقر أنه غصب من فلان شيئا أو شهد الشهود
على إقراره بذلك.
ولو قال أحدهما كفل بنفس فلان وقال الآخر كفل
بنفس فلان الآخر لم تجز الشهادة لاختلافهما في
المشهود به على وجه لا يمكن التوفيق فيه ولو
ادعى رجل كفالة بنفس رجلين فأقام شاهدين
فأثبتا كفالة أحدهما واختلفا في الآخر فأثبته
أحدهما وشك الآخر فيه فإنه يؤخذ بالكفالة التي
اجتمعا عليها لأن الحجة فيها قد تمت وفي الآخر
لم تتم الحجة حين شك فيه أحدهما والكفالة
بأحدهما تنفصل عن الكفالة بالآخر.
ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل لأبيهما ولرجل
بنفس فلان كانت شهادتهما باطلة لأنهما يشهدان
بلفظ واحد وقد بطلت شهادتهما في حق أبيهما
فتبطل في حق الآخر أيضا إذ المشهود به لفظ
واحد
ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل لفلان بنفس
فلان فإن لم يواف به غدا فعليه ما عليه وهو
ألف درهم فهو جائز لأن الثابت بالبينة كالثابت
بالمعاينة أو إقرار الخصم.
فإن اختلفا في الوقت أو المكان أو الأجل
فشهادتهما جائزة إذا ادعى الطالب أقرب الأجلين
فإن ادعى أبعد الأجلين لم تقبل الشهادة لأنه
قد أكذب الذي شهد بإقرارهما حين ادعى الأبعد
وإنما أكذبه فيما شهد له به وإكذاب المدعي
شاهده فيما شهد له يبطل شهادته بخلاف الأول
فهناك إنما أكذب الشاهد بأبعد الأجلين فيما
شهد عليه به وذلك لا يضره وهو بمنزلة ما لو
ادعى ألفا وشهد له أحد الشاهدين بألف وخمسمائة
لا تقبل ولو ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له أحد
الشاهدين بألف قبلت شهادتهما على مقدار الألف
لهذا المعنى ولو اختلفا في المال فشهد أحدهما
بدراهم والآخر بدنانير لم تجز شهادتهما في شيء
من ذلك إذا ادعى الطالب النصفين وقال لم يشهد
لي بالنصف الآخر لأنه أكذب أحدهما فيما شهد له
به فتبطل شهادتهما في جميع ما شهدا به وإن
ادعى النصفين جميعا جازت شهادتهما في الكفالة
ج / 20 ص -99-
بالنفس
وبطلت في المال لأنه ما أكذب واحدا منهما
فيقضي بشهادتهما فيما اتفقا عليه ويتعذر
القضاء فيما تفرد به كل واحد منهما فإن اتفقا
في المال أنه ألف درهم فقال أحدهما قرض وقال
الآخر ثمن مبيع وقال لم تشهد لي على القرض فقد
أكذب الشاهد بالقرض فلا تجوز شهادته له في شيء
من ذلك.
وإن ادعى الطالب ألفين ألف قرض وألف ثمن مبيع
فهو ما أكذب واحدا منهما فتجوز شهادتهما له في
الكفالة بالنفس وفي ألف درهم لا يقبلها على
وجوب الألف واختلافهما في الجهة لا يمنع
القضاء بالمال لأنهما اختلفا ولم يختلفا بقلة
ولأن الجهة غير مطلوبة بعينها وإنما المقصود
المال بخلاف الأول فقد اختلفا هنا في جنس
المال الذي هو مقصود وإن كان الشاهدان كفيلين
بالمال عن صاحب الأصل لم تجز شهادتهما لأنهما
يجران بها إلى أنفسهما مغنما فإن الطالب إذا
أخذ المال من المشهود عليه استفاد البراءة به
وكذلك لا تجوز شهادة ولدهما ووالدهما لأنه
ينفعهما بشهادته وكذلك لا تجوز شهادة ابن
الأصيل على الكفيل بذلك لأنه ينفع أباه فإن
الطالب إذا استوفى المال من الكفيل بريء
الأصيل وكذلك تجوز شهادة ابن الكفيل إذا أقر
به الكفيل وأنكره الأصيل لأنه شهد لأبيه في
ثبوت حق الرجوع على الأصيل عند الأداء وإن جحد
الكفيل وأقر به الأصيل جازت شهادة ابن الكفيل
لأنه يشهد على أبيه للطالب بإلزام المال وإذا
ادعى رجل على رجل أنه كفل له بنفس رجل وبألف
درهم له عليه إن لم يواف به غدا وشهد له بذلك
شاهدان وشهدا أن المكفول به أمر الكفيل بذلك
والكفيل والمكفول به ينكران المال والأمر فقضى
القاضي بتلك الشهادة على الكفيل ولم يواف به
فأخذ المال وأداه رجع به على المكفول به
عندنا.
وقال زفر رحمه الله لا يرجع لأنه أقر عند
القاضي أنه أمره بالكفالة عنه بشيء وإقراره
حجة عليه ولأنه بزعمه مظلوم فيما أخذ منه
المال وليس للمظلوم أن يظلم غيره ولكنا نقول
القاضي أكذبه في إقراره وزعمه حين ألزمه المال
بشهادة الشهود والمقر متى صار مكذبا في إقراره
حكما سقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا كان أقر
بالملك لبائعه فاستحق المبيع من يده بالبينة
رجع على بائعه بالثمن ولم يعتبر إقراره بذلك
ولو أقر الكفيل بالكفالة بالنفس والمال وقال
لم يأمرني بذلك فقضى عليه القاضي بذلك ثم جاء
الكفيل بالبينة أن المكفول عنه أمره بالكفالة
لم تقبل بينته على ذلك لأنه مناقض في دعواه
حين أقر أنه لم يأمره بذلك والمناقض لا يقبل
بينة على خصمه ولأن القاضي إنما قضى عليه
بالكفالة بالمال بإقراره على نفسه بذلك
وإقراره ليس بحجة على الأصيل بخلاف الأول
فالقضاء هناك كان بحجة البينة وقد قامت على
الكفيل والأصيل جميعا.
وإذا كفل بنفسه بأمره فإن لم يواف به غدا
فعليه المال ولو ادعى الكفيل أنه وافى به لم
يصدق إلا ببينة لأنه ادعى مانعا أو مسقطا بعد
ما ظهر سبب وجوب المال عليه وهو الكفالة فإن
أقام البينة على ذلك بريء من الكفالة بالنفس
والمال جميعا لأن الثابت بالبينة كالثابت
ج / 20 ص -100-
بالمعاينة ويستوي إن شهدا على الموافاة أو على
إقرار الطالب بذلك فإن اختلفا في مكان إقراره
أو وقته جازت الشهادة لأن الإقرار قول يكرر
وإن شهد أحدهما أنه دفعه إليه غدوة بمحضر منه
بغير إقراره وشهد الآخر أنه دفعه إليه عشية
بمحضر منه بغير إقرار والمدعي يدعي أحدهما أو
كلاهما وقال دفعته إليه غدوة أو عشية لم تجز
شهادتهما لاختلافهما في المشهود به فإن الفعل
الموجود في مكان أو زمان غير الفعل الموجود في
مكان أو زمان آخر ولو أقر الكفيل أنه لم يدفع
الرجل إليه وأن المال قد لزمه والشهود شهدوا
بباطل وقد اتفقت شهادتهما فالمال لازم للكفيل
لإكذابه الشاهدين فيما شهدا به له ولا يرجع به
إذا أداه على المكفول عنه لأنه قد أقر به
فلزمه ذلك بإقراره بعد ما ظهرت حجة براءته
وإقراره ليس بحجة على الأصيل.
وإذ كفل رجل بنفس رجل فإن لم يواف به غدا
فعليه المال فشهد عليه شاهد بذلك معاينة وآخر
بإقراره والكفيل يجحد ذلك لزمه ذلك لأن
الكفالة قول وصيغة الإقرار والإنشاء فيه واحدة
وفي مثله اختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء
لا يضر كالبيع وإن شهدا على رجل أنه كفل لرجل
بألف درهم عن فلان واختلفا في اللفظ فقال
أحدهما كفل بها وقال الآخر ضمنها أو قال
أحدهما هي لي وقال الآخر هي علي فالشهادة
جائزة لاتفاقهما فيما هو المقصود وهو الكفالة
والألفاظ قوالب المعاني فعند اتفاقهما على
العقد المشهود به لا يضرهما اختلاف العبارة
كما لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالنحلة وإن
قال أحدهما احتال بها عليه وقال الآخر ضمنها
له على أن أبرأ الأول أو لم يذكر البراءة
وادعى الطالب الضمان أو الحوالة والبراءة فإنه
يأخذ المحتال عليه بالمال لاتفاق الشاهدين على
الحوالة وإن اختلفا في العبارة أو لاتفاقهما
على التزام المشهود عليه للمال كما إذا شهد
أحدهما بالضمان ولم يذكر البراءة وهذا لأن في
الحوالة ضمانا وزيادة فيقضي بما اتفقا عليه
والأصيل بريء بإقرار الطالب لا بشهادة أحد
الشاهدين بالحوالة.
ولو ادعى الطالب الضمان بغير براءة وقال لم
أحل عليه فإنه يأخذ أيهما شاء بالمال لاتفاق
الشاهدين على مقدار الالتزام بالضمان والطالب
ما أكذب الذي شهد له بالحوالة في شهادته له
وإنما أكذبه في شهادته عليه وهو براءة الأصيل
وذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهدا له
بالمال وشهد أحدهما أنه استوفاه أو أنه أبرأ
المطلوب منه قال ألا ترى أنه لو شهد شاهدان
أنه كفل له بالمال على أن أبرأ الأول والطالب
يقول لم أبرئ الأول والكفيل يجحد الكفالة قضيت
للطالب بالكفالة وأبرأت الأصيل إذا كان هو
يدعي شهادتهما على البراءة وبهذا يتبين أنهما
في الشهادة على البراءة يشهدان على الطالب لا
له وكذلك لو شهدا بالحوالة وقال الطالب إنما
كفل لي فهو ما أكذبهما فيما شهدا له من ضمان
المال.
ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل بألف درهم لرجل
فقال أحدهما إلى سنة وقال الآخر حالة وادعى
الطالب حالة وجحد الكفيل أو أقر وادعى الأجل
فالمال عليه في
ج / 20 ص -101-
الوجهين من قبل أن الطالب لم يكذب شاهده فيما
شهد له به وإنما أكذبه فيما شهد به عليه
والشاهد بالأجل للكفيل واحد وقد بينا فيما سبق
أن زفر رحمه الله يخالفنا في جميع هذه الفصول
وأنه لا يفصل بين الإكذاب فيما شهد به له أو
عليه ولو ادعى رجل قبل رجلين كفالة بألف درهم
وكل واحد منهما كفيل ضامن بها وشهد له شاهدان
فشهد أحدهما بذلك عليهما وشهد الآخر على
أحدهما فإن الطالب يأخذ الذي اجتمعا عليه
بالألف لأن كل واحد منهما بحكم هذه الكفالة
مطالب بجميع المال وقد تمت الحجة على أحدهما.
ولو شهد شاهد عليهما وشهد آخر على أحدهما وشهد
الآخر على الآخر كان للطالب أن يأخذهما جميعا
بالمال لأن الحجة قد تمت في حق كل واحد منهما
في حق أحدهما لشهادة الأولين وفي حق الآخر
بشهادة الآخر أخذ الأولين مع الثالث.
وإن شهد اثنان على أحدهما أنه كفل له هو وفلان
عن فلان بألف درهم على أن يأخذ أيهما شاء وشهد
له الآخران على كفيل الآخر بمثل ذلك كان له أن
يأخذ أيهما شاء بجميع المال لأن الحجة قد تمت
في حق كل واحد منهما بالتزامه جميع المال ولو
شهد له شاهدان بالمال حالا على الأول وشهد له
آخران على الآخر بالمال إلى أجل على مثل شهادة
الأول كان جائزا وأخذ الطالب صاحب الأجل
بالمال إلى أجله والآخر بالمال حالا اعتبارا
للثابت بالبينة بالثابت بالمعاينة وكذلك إن
اختلف الفريقان في مبلغ المال أخذ الطالب
أيهما شاء بما شهد به الشاهدان عليه اعتبارا
بما لو أقر كل واحد منهما بذلك القدر وإذا
ادعى رجل كفالة ألف درهم له على رجل قد سماه
فشهد شاهدان أنه كفل له بألف درهم عن رجل
وقالا رأيناه ولم نعرفه أو لم نره ولكن الكفيل
أشهدنا على ذلك فالمال لازم للكفيل لأنهما
يشهدان على قوله فهو بمنزلة شهادتهما على
إقراره والمشهود له معلوم إذا أدى الكفيل
المال لم يرجع على المكفول عنه إلا أن يشهد له
شاهدان أنه أمره بذلك وإن أراد الطالب أن يأخذ
الأصيل دون الكفيل لم يكن له ذلك إذا جحد لأن
البينة الأولى ليست بحجة على الأصيل حين لم
يعرفه الشهود أو لم يروه.
وإذا ادعى الرجل على الرجل ألف درهم أحال بها
فلان الغائب وأقام البينة فأدى إليه المحتال
عليه رجع بها على المحيل ولم يكلف إعادة
البينة عليه لأن المحتال عليه التزم بالحوالة
بالمال الذي هو على الأصيل وإنما يتحول إلى
ذمته ما كان في ذمة الأصيل على أن يكون هو
خلفا عن الأصيل ولهذا لو مات مفلسا عاد المال
إلى الأصيل فانتصب هو خصما عنه ومن ضرورة
القضاء عليه بالحوالة بالأمر القضاء بالمال
على المحتال عليه ولو كان الطالب غائبا فأقام
المحتال عليه البينة على الأصيل أنه كان لفلان
عليك ألف درهم وأحلته بها علي وأديتها إليه
قضيت بها له عليه وهو قضاء على الطالب
بالاستيفاء لأنه ادعى لنفسه المال على الأصيل
ولا يتوصل إلى ذلك إلا بإثبات الأداء إلى
الطالب ولا يتوصل الأصيل إلى دفع
ج / 20 ص -102-
ذلك عن نفسه إلا بإنكار قبض الطالب بالاستيفاء
فلا يلتفت إلى جحوده بعد ذلك إذا حضر والكفالة
في هذا قياس الحوالة.
ولو ادعى رجل على رجل كفالة بنفس أو مال أو
حوالة ولا بينة له استحلف المدعى عليه فإن نكل
عن اليمين لزمه ذلك وإن حلف بريء ورجع المدعي
على صاحب الأصيل بالمال وهذا ظاهر في الكفالة
فإن الكفالة لا توجب سقوط مطالبة الطالب عن
الأصيل وكذلك في الحوالة لأن الأصيل إنما يبرأ
إذا ثبتت الحوالة ولم نثبت حين حلف المحتال
عليه ولأنه حين جحد وحلف قد تحقق التوى وذلك
يوجب عود المال إلى الأصيل كما لو مات المحتال
عليه مفلسا فإن نكل عن اليمين وأدى المال رجع
على الأصيل إن كان مقرى أو قامت بينة عليه
بالأمر وجحود المحتال عليه لا يبطل تلك
الحوالة لأنه صار مكذبا في ذلك حين قضى القاضي
به عليه ولم يجعل نكوله هنا بمنزلة إقراره بل
جعله بمنزلة البينة لأنه مضطر إلى هذا النكول
وإنما لحقته هذه الضرورة في عمل باشره لغيره
فهو نظير الوكيل بالبيع إذا نكل عن اليمين في
دعوى العيب فرد عليه كان ذلك ردا على الموكل.
ولو كان قضى بالمال على الكفيل أو المحتال
عليه ببينة قامت عليه بذلك وإن فلانا أمره به
فأدى المال وصاحب الأصل جاحد للآمر فإنه يرجع
عليه بالمال لأنه صار مكذبا شرعا بالبينة التي
قامت عليه بذلك
ولو كان قضى عليه بالمال بنكوله عن اليمين
وأداه فله أن يستحلف الأصيل بالله ما أمره
بذلك لما بينا أنه مضطر إلى النكول إلا أن
نكوله ليس بحجة على الأصيل في الأمر فيحلفه
على ذلك ولو ادعى قبل رجل كفالة بنفس أو مال
فقال الكفيل لم أكفل له بشيء وقد أبرأني من
هذه الدعوى فاستحلفه ما أبرأني وقال الطالب بل
استحلفه ما كفل به لي فإني استحلفه بالله ماله
قبله ذلك لأن القاضي إنما يشتغل بالاستحلاف
على ما هو المقصود وهو قيام الكفالة بينهما في
الحال فيحلف على ذلك فإن حلف بريء وإن نكل
لزمته الكفالة ولم يستحلف الطالب بالله ما
أبرأه لأن الكفيل يدعي عليه البراءة فيحلف على
ذلك لحقه فإن نكل عن اليمين بريء الكفيل من
كفالته كما لو أقر ببراءته وإن ادعى الكفيل
بالنفس أنه دفعه إلى وكيل الطالب حلف الطالب
على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير بخلاف ما
إذا ادعى الدفع إليه فإنه استحلاف على فعل
نفسه فيكون على البتات.
ولو ادعى رجل قبل رجل كفالة فقال أخذك غلامي
حتى كفلت لي بفلان وجحد الكفيل ذلك فإنه يحلف
على ذلك لأنه لو أقر به لزمه تسليم النفس إليه
وإن كانت الكفالة له بحضرة غلامه دونه فإن
أنكر يستحلف عليه لرجاء النكول وإذا طلب مدعي
الكفالة بنفس أو مال أن يحلف الكفيل بالله ما
كفل لم يحلف كذلك ولكنه يحلف بالله ماله قبلك
هذه الكفالة لأن الإنسان قد يكفل لغيره ثم
يبرأ من كفالته بسبب فلو حلفه القاضي ما كفل
يضر به لأنه لا يمكنه أن يحلف وإن كان هو محقا
في إنكاره الكفالة في الحال والقاضي مأمور
ج / 20 ص -103-
بالنظر للخصمين فلهذا يحلفه بالله ماله قبلك
هذه الكفالة وكذلك هذا في كل دين ومال وديعة
وعارية وشراء وإجارة فإنه لا يحلف ما اشتريت
ولا استودعك ولا أعارك ولا استأجرت منه ولكن
يحلف بالله ماله قبلك ما ادعى به وعن أبي يوسف
رحمه الله أنه قال هذا إذا عرض المدعى عليه
فقال أيها القاضي قد يكفل الإنسان ثم يبرأ منه
فلا يلزمه شيء فأما إذا لم يشتغل بهذا التعريض
فإنه يحلف بالله ما كفلت لأنه إنما يستحلف على
جحوده وقد جحد الكفالة أصلا فيحلف على ذلك
فإذا عرض فقد طلب من القاضي أن ينظر له فعلى
القاضي إجابته إلى ذلك وإن لم يعرض فهو الذي
لم ينظر لنفسه فلا ينظر القاضي له ولكنه يحلفه
على جحوده وفي ظاهر الرواية قال هذا التعريض
لا يهتدي إليه كل خصم وعلى القاضي أن يصون
قضاء نفسه عن الجور ونفسه عن الظلم فيحلفه على
ما بينا عرض الخصم أو لم يعرض.
ولو قال الكفيل للقاضي حلف الطالب أن له قبلي
هذه الكفالة فإني أرد عليه اليمين فإنه لم يرد
عليه اليمين لأن الشرع جعل اليمين على المنكر
فإذا رددت اليمين على المدعي فقد خالفت الأثر
وقد بينا هذا في الدعوى ولو جاء الطالب
بشاهديه على قوله فقال المطلوب استحلفه بالله
لقد شهدت شهوده على حق لم أستحلفه على ذلك لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على
المدعي فإذا جعلت عليه مع البينة يمينا فقد
جعلت ما لم يجعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم وذلك ممتنع والله أعلم بالصواب.
باب كفالة الرجلين على شرط لزوم المال بترك
الموافاة
قال رحمه الله: وإذا كفل
رجل لرجلين بنفس رجل فإن لم يواف به أدى ما
ادعيا به عليه فعليه مالهما عليه وسمى لكل
إنسان منهما الذي له عليه وهو مختلف فهو جائز
لأنه نجز الكفالة بالنفس لكل واحد منهما وعلق
الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة إذا دعياه
وذلك صحيح في حق كل واحد منهما عند الانفراد
في حقهما فإن دعاه أحدهما ولم يواف به لزمه
ماله عليه لوجود الشرط في حقه ولم يلزمه مال
الآخر حتى يدعوه به وبهذا يتبين أن هذا في
المعنى ليس بتعليق للكفالة بالمال بالشرط
ولكنه بمنزلة الكفيل بالمال بشرط إبرائه من
مال كل واحد منهما بموافاته به إذا دعياه لأنه
لو كان هذا تعليقا بالشرط لم يجب شيء من المال
بوجود بعض الشرط وإذا دعاه أحدهما فلم يوافه
به فالموجود بعض الشرط وقال يلزمه المال عرفنا
أنه إنما يلزمه لأن الموافاة كانت مبرئة له
ولم توجد ولو بدأ بالمال فضمنه لكل واحد منهما
وقال إن وافيتكما بنفسه إذا دعوتماني به فأنا
بريء من المال فهو مثل الأول وتقديم المال في
هذا وتأخيره سواء لأنه وإن أخر الكفالة بالمال
في لفظه فهو في المعنى مقدم وإنما هو شرط
البراءة عند الموافاة بنفسه إذا دعياه به ولكل
واحد منهما أن يأخذ بكفالته دون الآخر لأنه في
المعنى كفيل لكل واحد منهما على حدته ويلزمه
ذلك دون الآخر وإن جمع بينهما في العقد لفظا
بمنزلة ما لو أقر لهما بمال فلكل واحد منهما
أن يأخذ حصته دون الآخر.
ج / 20 ص -104-
ولو كان الطالب رجلين متفاوضين لهما على رجل
ألف درهم فكفل لهما رجل بنفس المطلوب فإن
وافاهما به غدا فهو بريء من المال فوافى به
أحدهما ودفعه إليه فهو بريء من كفالته بالنفس
والمال لهما جميعا لأن المتفاوضين كشخص واحد
ما بقيت المفاوضة بينهما وكل واحد منهما قائم
مقام صاحبه في استيفاء ما وجب لصاحبه كما هو
قائم مقام صاحبه في كونه مطالبا بما على صاحبه
ولو كانا شريكين شركة عنان بريء من حصة الذي
وافاه به ولم يبرأ من الكفالة للآخر لأنه فيما
هو واجب لصاحبه بمنزلة الأجنبي في الاستيفاء
حتى لا يكون له أن يطالب الغريم به فكذلك لا
يبرأ عن كفالة صاحبه بموافاته به.
ولو كفل رجلان بنفس رجل على أن يوافيا به غدا
فإن لم يفعلا فالمال عليهما فوافى به أحدهما
عنه وعن صاحبه ولم يحضر الآخر فهما بريئان
لأنهما التزما التسليم بعقد واحد ولو التزما
مالا فأداه أحدهما برئا منه جميعا فكذلك
الكفالة بالنفس ولو مات أحدهما ثم مضى الأجل
ولم يوافيا به لزم الحي منهما نصف المال وفي
تركة الميت نصف المال لوجود الشرط وهو عدم
الموافاة به ولو كان وافى به بعض ورثة الميت
قبل الأجل برئا جميعا لأن الوارث قائم مقام
المورث في التسليم.
ولو كان كفل به كل واحد منهما على حدة فاشترط
الطالب على كل واحد منهما أنه إن لم يواف به
إلى وقت كذا فعليه المال فوافى به أحدهما
فدفعه فإنه يبرأ من كفالته ولا يبرأ الآخر لأن
الكفالة هنا مختلفة وكل واحد منهما أجنبي عن
عقد صاحبه إلا أن يقول الذي جاء به دفعته عن
نفسي وعن صاحبي ويقبله الطالب على ذلك بمنزلة
ما لو جاء به أجنبي آخر فدفعه عنهما جميعا
وقبله الطالب ولو دفع المكفول به نفسه إلى
الطالب عنهما جميعا كانا بريئين سواء قبله
الطالب أو لم يقبله بمنزلة ما لو دفعاه إليه
لأنه أصيل في هذا التسليم غير متبرع به بخلاف
الأجنبي والله أعلم بالصواب.
باب الكفالة بالأعيان
قال رحمه الله: وإذا ادعى عبدا في يدي رجل فلم
يقدمه إلى القاضي وأخذ منه كفيلا بنفسه
وبالعبد فمات العبد في يدي المطلوب وأقام
المدعي البينة أن العبد عنده فإن القاضي يقضي
له بقيمة العبد على المطلوب وإن شاء على
الكفيل لأنه ثبت بالبينة أن العبد كان مغصوبا
والكفالة بالعين المغصوبة توجب على الكفيل رد
القيمة عند تعذر رد العين كما أنها واجبة على
الأصيل وإن لم يقم البينة ولكن المطلوب نكل عن
اليمين فقضى عليه القاضي بالعبد فمات العبد
قبل أن يقبضه فإنه يقضي له بقيمته على الأصيل
دون الكفيل لأن نكوله كإقراره أو كبدله فلا
يكون حجة على الكفيل إلا أن يقر الكفيل بمثل
ذلك أو يأبى اليمين فيلزمه مثل ما يلزم
المطلوب.
ولو غصب رجل عبدا فضمنه رجل لصاحبه فهو ضامن
له حتى يأتي به فإن هلك فعليه قيمته لأنه
التزم المطالبة بما على الأصيل والقول قول
الكفيل في قيمته لإنكاره الزيادة
ج / 20 ص -105-
كالأصيل فإن أقر الغاصب بأكثر من ذلك لزمه
الفضل بإقراره ولا يصدق على الكفيل ولو اشترى
رجل جارية من رجل فقبضها وجاء آخر فادعاها
وأخذ بها كفيلا وأقام البينة أنها جاريته فقضى
له بها فقال المطلوب قد ماتت أو أبقت وقال
الطالب كذبت فإني أحبس الكفيل حتى يأتي بها
كما أحبس فلانا الأصل حتى يثبت إباقها فإن طال
ذلك يعني مدة الحبس ضمنهما قيمتها مراعاة لحق
الطالب إذا طلب.
وإن قال هي بمائة درهم وحلفا عليها وقال
الطالب ألف درهم ضمنهما مائة درهم لأن الزيادة
انتفت أن تكون قيمتها ما لم يقم البينة بها
ويأخذ بها أيا شاء فإذا ظهرت الجارية بعد ذلك
فهو بالخيار إن شاء أخذ الجارية ورد القيمة
وإن شاء سلم الجارية وسلمت المائة له وقد بينا
هذا في كتاب الغصب قال ولا يسع الغاصب أن
يطأها ما كان للمغصوب منه فيها خيار لأن
المغصوب منه يملك الجارية من الغاصب بالقيمة
فيكون بمنزلة تمليكها بالبيع وما بقي له
الخيار يعني للبائع فليس للمشتري أن يطأها
فهذا مثله ولو كانوا تصادقوا على القيمة أو
قامت لهما بينة أو نكلا عن اليمين فأخذها
المغصوب منه ثم ظهرت الجارية لم يكن للمغصوب
منه عليها سبيل لأن قبضه القيمة رضا منه
بخروجها عن ملكه فإن البدل والمبدل لا يجتمعان
في ملك وكان للغاصب أن يطأها بعد أن يستبرئها
بحيضة لتمام التملك فيها.
وإذا كان عبد في يدي رجل فادعاه رجل وأخذ منه
كفيلا به ووكل في خصومته ولم يغب المطلوب وغيب
العبد فإن الكفيل يحبس حتى يجيء به بعينه لأنه
التزم بالكفالة إحضاره وكذلك لو ظهر المطلوب
وغيب العبد حبس حتى يأتي به لأنه في تغييبه
قاصدا الإضرار بالمدعي فإنه لا يتمكن من إقامة
البينة على استحقاق العين إلا بمحضر منه فإن
قال المدعي أنا آتي بالبينة أنه عبدي قبل ذلك
منه ليستحق به العين إن قدر عليه والقيمة إن
لم يقدر على العبد فإن شهد شاهداه أنه العبد
الذي ضمن هذا به وسمياه وجلياه عند فلان قضيت
له بالعبد على الكفيل فإن أتى به وإلا قضيت له
بقيمته بعد أن يحلف المدعي بالله ما خرج من
ملكه بوجه من الوجوه قيل إنما يحلف على هذا
عند طلب الكفيل وقيل بل يحلف عليه وإن لم يطلب
الكفيل على وجه النظر من القاضي للغائب
والصيانة لقضائه.
وإن شهد شاهداه أن العبد الذي يقال له فلان
الفلاني وجلياه لفلان لم أقبل ذلك لأن الاسم
يوافق الجلية فلا يثبت بهذه البينة أنه ضامن
للعبد المشهود به أنه ملك للمدعي ولكن الكفيل
يحبس حتى يأتي به لأنه التزم إحضاره بالكفالة
قبل هذه البينة فإن مات الكفيل أخذ به المدعى
عليه إن ظهر العبد حتى يأتي به بعد أن يوافق
جلية العبد الذي ظهر بشهادة الشهود ليتمكن
المدعي من إثبات ملكه بالبينة فإن لم يأت
المولى بالعبد جليت عنه لأن المولى ما ضمن
شيئا ولم يثبت عليه شيء بالبينة التي قامت على
الاسم والجلية وليس المولى في هذا كالكفيل لأن
الكفيل التزم الإحضار بكفالته فلا بد من أن
يأتي به والمولى لم يضمن شيئا فلا يحبسه
القاضي ولا يلزمه شيئا من غير حجة.
ج / 20 ص -106-
وإذا كان العبد في يد رجل فادعاه آخر وكفل به
رجلان فأقام المدعي البينة أنه عبده حبس
الكفيلان حتى يدفعاه إليه وإن لم يكن له بينة
أخذ الكفيلان بإحضار ما التزما إحضاره
بالكفالة فإن قالا قد مات العبد أو أبق وأقاما
على ذلك بينة فإني أخرجهما من السجن لأنهما
حبسا لإحضاره وقد ثبت بهذه البينة عجزهما عن
إحضاره ولكن لا أبرئهما من الكفالة لأن بتلك
الكفالة هما ضامنان للقيمة إذا ثبت ملك الطالب
في العبد بالحجة وادعى الطالب بشهوده أن العبد
عبده فإن أقام على ذلك بينة أخذ كل واحد من
الكفيلين بنصف القيمة وإن لم يكن له بينة فلا
ضمان على الكفيلين لأن الحق لم يثبت على
الكفيل ويؤجل الكفيلان في الإباق أجلا حتى
يأتيا به وقد بينا هذا الحكم في الكفالة
بالنفس إذا غاب الأصيل عن البلدة.
وإذا ادعى الرجل في يدي الرجل أرضا أو حماما
أو بستانا وقال بينتي حاضرة أخذ له منه كفيل
بالمدعى به لأن العقار لا يغيب ولا يحرك ولا
يحول ولأنه لا حاجة إلى إحضاره مجلس الحكم
لتقع الإشارة إليه في الدعوى والشهادة ولو
استودع رجل رجلا عبدا فجحده ذلك وأخذ منه
كفيلا بنفسه وبالعبد فمات العبد وأقام رب
العبد البينة أنه استودعه وقال لا يدري ما
كانت قيمته يوم كفل به الكفيل فالمستودع ضامن
لقيمته يوم استودعه على ما شهدت الشهود لأنه
ثبت وصوله إلى يده وعلى هذه القيمة والجحود
موجب عليه ضمان تلك القيمة باعتبار تلك اليد
ولا يضمن الكفيل من قيمته إلا ما يقر به بعد
أن يحلف لأن الكفيل إنما يضمن بعقد الكفالة
لاعتبار يد المستودع ولم يثبت بالبينة مقدار
قيمته عند الكفالة ولكن ما عرف ثبوته فالأصل
بقاؤه وهذا نوع من الظاهر يصلح حجة لدفع
الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق فلهذا لا يضمن
الكفيل من قيمته إلا ما يقر به بعد أن يحلف.
ولو كان العبد يوم اختصموا فيه أعمى وجحده
المستودع فشهد الشهود أنه استودعه وهو صحيح
يساوي ألفا فكفل به الكفيل وهو أعمى فرفعوه
إلى القاضي وهو كذلك ثم مات في يد المستودع
وزكى شهوده فالمستودع ضامن قيمته أعمى على
الحال الذي جحد فيها وكذلك الكفيل لأن
المستودع إنما يصير ضامنا عند الجحود وقد علم
القاضي تغيره عن القيمة التي شهدت بها الشهود
فلا تعتبر تلك القيمة في القضاء عليه بخلاف
الأول ألا ترى أنه لو علم هلاكه قبل الجحود
لم يضمنه شيئا ولو لم يعلم بذلك ضمنه قيمته
فكذلك إذا علم فوات جزء منه وكذلك لو لم يعلم
ولكن السوق اتضعت وجحده يوم جحده وهو يساوي
خمسمائة وعلم ذلك القاضي لم يضمنه إلا قيمته
خمسمائة ولو لم يعلم ذلك ضمن المستودع ألف
درهم كما شهد به الشهود ولم يقبل منه بينة على
اتضاع السوق لأن المقصود بهذه البينة النفي
والبينات للإثبات لا للنفي ألا ترى أنه بعد
ما جحد لو قال قد مات العبد لم ألتفت إلى قوله
ولم أقبل منه بينة عليه لأن المقصود بهذه
البينة نفي الضمان عنه إلا أن يعلم القاضي أنه
مات قبل جحوده أو يقر الخصم به ولو استعار
دابة من رجل إلى مكان معلوم فجاوز ذلك المكان
ضمنها ولو أعطاه كفيلا بها جاز لأنه صار غاصبا
ضامنا.
ج / 20 ص -107-
بالمجاوزة وكذلك المستودع إذا جار في بعض
الوديعة جازت الكفالة بقدر ما جار فيها لأنها
أمانة في يد المودع ولو اشترى عبدا من رجل
ونقده الثمن وأخذ منه كفيلا بالعبد حتى يدفعه
إليه فمات العبد لم يكن على الكفيل شيء لأن
العقد قد انفسخ بموته قبل القبض وبرئ الأصيل
عن تسليم عينه فكذلك الكفيل والكفيل ما ضمن
الثمن فلا يطالب بشيء منه وكذلك لو كان ضمن
الدرك في العبد لأن الهلاك قبل التسليم ليس
يدرك وإنما الدرك للاستحقاق ولو قبضه ثم وجد
به عيبا فرده لم يكن على الكفيل شيء لأن العيب
ليس يدرك ولو لم يجد به عيبا ولكن استحق بصفة
فرد المشتري النصف الباقي لم يضمن الكفيل إلا
ثمن النصف المستحق لأن الدرك تحقق في ذلك
النصف الآخر فإنما رده المشتري بعيب التبعيض
وذلك ليس بدرك.
وإذا كفل رجل بالرهن وفيه فضل على الدين فهلك
عند المرتهن لم يكن على الكفيل شيء لأن عين
الرهن أمانة في يد المرتهن والزيادة على مقدار
الدين من مالية الرهن أمانة فلا يضمن الكفيل
شيئا من ذلك بالكفالة ولو كان ضمن لصاحب الدين
ما نقص الرهن من دينه وكان الرهن قيمته
تسعمائة والدين ألفا ضمن الكفيل مائة درهم
لأنه التزم بالكفالة دينا مضمونا في ذمة
الأصيل ولو أن جارية بين رجلين أخذها أحدهما
بغير أمر صاحبه فكفل رجل لصاحبه بنصيبه منها
جاز لأن الآخذ غاصب ضامن لنصيب شريكه ولو كان
أخذها برضاه لم يجز لأن نصيبه أمانة في يد
القابض ولو استعار الرهن من المرتهن على أن
أعطاه كفيلا به فهلك عند الراهن كان خارجا من
الرهن لأن ضمان الاستيفاء باعتبار يد المرتهن
ولم يبق بعد ما استعاره الراهن ولم يلزم
الكفيل شيء لأنه لا ضمان للمرتهن على الأصيل
بسبب هذا القبض فلا يضمن الكفيل أيضا شيئا ولو
كان أخذه بغير رضا المرتهن جاز ضمان الكفيل
وأخذ به لأن الراهن ضامن مالية العين هنا ألا
ترى أنه لو هلك في يده يضمن قيمته للمرتهن
فيكون هذا بمنزلة الكفالة بالمغصوب ولو استقرض
من رجل مالا على أن يعطيه فلانا عنده رهنا
وكفل له بذلك الرهن كفيل فلا ضمان على الكفيل
لأن الرهن لا يكون إلا بالقبض فقبل القبض ليس
هنا شيء مضمون على الأصيل لتصح الكفالة به.
ولو أجر عبدا أو دابة وعجل الأجر ولم يقبض
العبد ولا الدابة وكفل له كفيل بذلك حتى يدفعه
إليه فالكفيل يؤخذ به ما دام حيا لأن التسليم
مستحق على الأصيل وهو مما تجري فيه النيابة
فتصح الكفالة به
فإن هلك ما استأجره لم يكن على الكفيل شيء لأن
الإجارة انفسخت وخرج الأصيل من أن يكون مطالبا
بتسليم العين وإنما عليه رد الأجر والكفيل ما
كفل بالأجر ولو أوصى لرجل بأمة وهي حبلى ولآخر
بما في بطنها وهي تخرج من الثلث فأخذ صاحب
الحبل من صاحب الأمة كفيلا بما في بطنها لم
يجز لأن ما في البطن غير مضمون على صاحب الأمة
وكذلك لو دفع الأمة إلى صاحب الولد تكون عنده
على أن أعطاه بها كفيلا لم تجز لأنه أمين فيها
حين قبضها بإذن صاحبها ولو أخذها بغير أمره
ج / 20 ص -108-
وأعطاه بها كفيلا جاز لأنه غاصب لها ضامن ولو
أخذ صاحب الأمة الأمة بغير رضا صاحب الولد
وأعطاه كفيلا بالولد لم يجز لأنه بأخذ الأم لا
يصير غاصبا ضامنا لما في بطنها.
ولو أوصى لرجل بخادم ولآخر بخدمتها فإنها تكون
عند صاحب الخدمة فإن أخذ منه صاحب الرقبة
كفيلا بها وقد أخذها صاحب الخدمة بإذنه لم يكن
على الكفيل شيء لأنه أخذها بحق مستحق له تبرعا
فلا يكون ذلك الأخذ موجبا عليه ضمانا فلا يلزم
الكفيل ذلك بالكفالة ولو أخذها صاحب الرقبة
بغير إذن صاحب الخدمة ثم أعطاه كفيلا بها حتى
يسلمها إليه أخذ بها الكفيل لأن تسليم العين
إلى صاحب الخدمة مستحق على صاحب الرقبة هنا
وهو مما تجري فيه النيابة فيصح التزامه
بالكفالة فإن ماتت بريء الكفيل لأن حق صاحب
الخدمة بطل بموتها وسقطت المطالبة عن صاحب
الرقبة بالتسليم وكذلك لو كانت الوصية بالغلة
مكان الخدمة.
ولو أن رجلا باع من رجل عينا فادعى رجل فيه
دعوى فأراد المشتري أن يأخذ من البائع كفيلا
بنفسه أو بما أدركه في ذلك لم يكن له ذلك لأن
بمجرد الدعوى على المشتري لا يستحق المدعي على
البائع شيئا فلا يجبر على إعطاء الكفيل ولكنه
لو أعطاه كفيلا بما أدركه في ذلك جاز بمنزلة
ما لو أعطاه ذلك عند الشراء أو بعده قبل دعوى
المدعي ولو ادعى ذمي قبل ذمي خمرا أو خنزيرا
بعينه فأخذ منه به كفيلا من أهل الذمة جاز وإن
كفل به مسلم لم يجز لأن الخمر والخنزير ليسا
بمال متقوم في حق المسلم فلا يصح منه التزام
تسليمه بالكفالة كما لا يصح في سائر العقود
وإن هلك ذلك عنده ثم ضمنه المسلم له ثم أقام
المدعي على ذلك شهودا مسلمين ضمن قيمة الخنزير
ولم يضمن الخمر لأن الخنزير مضمون بالقيمة عند
الهلاك وقيمته دراهم أو دنانير فتصح الكفالة
بها من المسلم وأما الخمر فإنها مضمونة بالمثل
فلا تصح الكفالة بها من المسلم كما لا تصح
الكفالة بالعين حال قيامها.
ولو تقبل من رجل بناء دار معلوم أو كراب أرض
معلوم أو كرى نهر معلوم فأعطاه بها كفيلا كان
جائزا لأن هذا عمل مستحق على الأصيل مضمون
بالعقد وهو مما تجري النيابة في إيفائه وكذلك
لو أكراه إبلا إلى مكة فأعطاه كفيلا بذلك جاز
لأن تسليمها مستحق على الأصيل ولو كانت الإبل
بأعيانها فأعطاه كفيلا بها كان جائزا ما دامت
قائمة بأعيانها لأن الأصيل مطالب بتسليمها
بالعقد فإذا هلكت فقد انفسخ العقد وبرئ الأصيل
عن التسليم فلا ضمان على الكفيل فلو أعطاه
كفيلا بالحمولة لم يجز فيما كان بعينه لأنه لا
تجري النيابة فيه فإن إبل الكفيل لا تقوم مقام
تلك الحمولة المعينة في إيفاء المعقود عليه
وجاز فيما كان بغير عينه لأنه مستحق على
الأصيل بالعقد وهو مما تجري فيه النيابة
بإيفائه وإنما يلتزم الكفيل تسليم ما يقدر على
تسليمه وإذا كتب ذكر حق على رجل وكتب فيه وكل
واحد منهما ضامن له وأيهما شاء فلان أخذه بهذا
المال إن شاء أخذهما جميعا وإن شاء شتى كيف
ج / 20 ص -109-
شاء وكلما شاء حتى يستوفي منهما هذا المال
وإنما يكتب ذلك احتياطا لصاحب الحق من اختلاف
القضاة فإن المذهب عندنا أنه إذا كفل بمال
فللطالب أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال كيف
شاء وكلما شاء وقال بن أبي ليلى رحمه الله
بريء الأصيل والمال على الكفيل إلا أن يشترط
على كل واحد منهما كفيل عن صاحبه أجزته وأيهما
أجاز أبرأت الآخر إلا أن يشترط أن يأخذهما
جميعا أو شتى فأدخلا في الصك جميعا أو شتى
لذلك وقال شريك بن عبد الله رحمه الله إن
أدخلا جميعا أو شتى أجزته فإن اختار أحدهما لم
يكن له أن يأخذ الآخر إلا أن يفلس هذا أو يموت
ولا يترك شيئا فأدخلا في الصك كيف شاء وكلما
شاء حتى يكون له الاختيار كل مرة وهذا لأن
الكتاب للتوثق فينبغي لكل من يكتب الكتاب أن
يحتاط لصاحبه بكل ما يقدر عليه من التوثق
ويحتاط للتحرز عن اختلاف القضاة عملا بقوله
تعالى:
{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}[سورة البقرة, آية:283] والله أعلم بالصواب.
باب من الكفالة أيضا
قال رحمه الله:وإذا أقرض
الرجل الرجل قرضا على أن يكفل به فلان كان
جائزا حاضرا كان فلان أو غائبا ضمن أو لم يضمن
وكذلك لو شرط أن يحيله به على فلان لأن القرض
لا يتعلق بالجائز من الشروط فلا يفسده الباطل
بخلاف البيع فإنه لو شرط فيه كفالة أو حوالة
من مجهول أو معلوم غير حاضر لم يرض بذلك
فالبيع فاسد لأن الفاسد من الشروط مبطل للبيع
فإنه يتعلق بالجائز من الشروط فأما ضمان القرض
فإنه يثبت بالقبض شرعا ولا أثر للشروط فيه
كضمان الغصب والتزويج والخلع والصلح من دم عمد
وجراحة فيها قصاص حالا أو مؤجلا وجناية
الوديعة والعارية إذا ضمنها فشرط له في ذلك
كفالة أو حوالة فهو بمنزلة القرض لأن هذا كله
لا يبطل بالشرط الفاسد وكذلك العتق على مال
ولو قبل الكفيل الكفالة أو الحوالة في جميع
ذلك جاز لأنه دين لازم يطالب به الأصيل وتجري
النيابة في إيفائه وبدل العتق بمال ليس كبدل
الكتابة في حكم الكفالة لأن ذلك ليس بدين قوي
ومن الدليل على أن فساد شرط الكفالة لا يبطل
هذه العقود ما قال في العتق لأنه لا يرد ومعنى
هذا أن الشرط الفاسد لا يمنع انعقاد العقد
ولكن يستحق به الفسخ بعد الانعقاد وهذه العقود
لا تحتمل الفسخ بعد التمام فلا يؤثر فيها
الشرط الفاسد.
ولو كان لرجل على رجل دين حال من ثمن بيع أو
قرض أو غصب فسأله أن يؤخره عنه نجوما على أن
يضمنه له فلان الغائب فصالحه على ذلك فقدم
الكفيل فأبى أن يضمن فالصلح منتقض لأن الصلح
على التنجيم في المال يعتمد تمام الرضا وهو ما
رضي بذلك إلا بكفالة الكفيل فإذا أبى أن يكفل
كان المال حالا عليه كما كان وإن ضمن الكفيل
بعد ما حضر جاز الصلح لتمام الرضا به ولا
يشترط حضوره في مجلس الصلح لأنه ليس في هذا
العقد من التمليك شيء فلا فرق بين أن يتم
الرضا به في المجلس وبعد المجلس بخلاف البيع
فإنه مال بمال مبني على الضيق فإذا لم يحضر
الكفيل في المجلس صار اشتراط كفالته شرطا
ج / 20 ص -110-
فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد وهذا لأن
البيع لا يجوز أن يتوقف على القبول بعد المجلس
فكذلك لا تتوقف صحته على قبول الكفالة المشروط
فيه بعد المجلس ولو كان حاضرا فأبى أن يضمن لم
يجز الصلح لانعدام تمام الرضا به وإن ضمن فهو
جائز وإن اشترط في التأخير أنه إن أخره عن
محله فالمال كله حال أو إن أخر نجما عن محله
عشرة أيام فالمال كله حال فهو جائز على ما
اشترطا لأنه ليس في هذا الصلح من معنى التمليك
شيء وهذا الشرط في الصلح متعارف.
ولو أعطاه كفيلا على أن جعل له أجلا معلوما
كان جائزا في جميع الديون إلا القرض فإنه حال
على الأصيل لأن القرض حق الأصيل كالعارية لا
يلزم فيه الأجل وهو مؤجل على الكفيل لأن المال
إنما يجب على الكفيل بعقد الكفالة والدين
الواجب بالعقد يقبل الأجل وإذا كفل المريض
بمال ثم مات ولا دين عليه لزمه من ثلثه لأن
الكفالة تبرع وتبرعات المريض تصح من ثلثه إذا
لم يكن عليه دين وإن أقر أنه كفل به في الصحة
لزمه ذلك في جميع ماله إذا لم يكن لوارث ولا
عن وارث لأن الكفالة في الصحة سبب لوجوب الدين
عليه وإقراره في المرض بسبب وجوب الدين مضافا
إلى حال الصحة يكون إقرارا بالدين وإقرار
المريض للأجنبي بالدين صحيح وللوارث باطل وإن
كان عن وارث فهذا قول من المريض فيه منفعة
وارثه والمريض محجور عن مثله.
وإن كان عليه دين يحيط بماله لم يجز إقراره
بذلك لأن دين الصحة متقدم على ما أقر به في
المرض فما بقي دين الصحة لم يعتبر إقراره
بالدين في المرض وإذا كفل في الصحة بما أقر به
فلان لفلان ولم يسمه ثم مرض وعليه دين يحيط
بماله فأقر المكفول عنه أن لفلان عليه ألف
درهم لزم المريض ذلك في جميع ماله لأن سبب
وجوب المال قد تم منه في حال الصحة وهو
الكفالة والدين الواجب عليه بذلك السبب بمنزلة
دين الصحة وكذلك إن أقر بعد موته فإن المقر له
يخلص غرماء الكفيل بذلك لأن أصله كان في الصحة
وكان قد لزم على وجه لا يملك الرجوع عنه
وإبطاله وكذلك لو كفل بما ذاب لفلان على فلان
أو بما صار له عليه وكذلك لو كان لوارث أو عن
وارث أو لوارث عن وارث لأنه كان في الصحة وهو
بمنزلة ضمان الدرك فإنه لو كفل في صحته بما
أدركه من درك في دار اشتراها ثم استحقت الدار
في مرض الكفيل أو بعد موته فإن المشتري يضرب
مع غرماء الكفيل الميت بالثمن لأن أصل الدين
كان في الصحة بخلاف الكفالة في المرض.
وإن كفل في المرض وليس عليه دين ثم استدان
دينا يحيط بماله ثم مات فالكفالة باطلة لأن ما
لزمه في المرض من الدين بسبب معاين بمنزلة دين
الصحة وقد بينا أن الكفالة في المرض لا تصح
إذا كان دين الصحة محيطا بماله وإذا كفل رجل
لرجلين وقال قد كفلت لفلان بماله على فلان أو
كفلت لفلان الآخر بماله على فلان فهذا باطل
سواء كان المالان من جنس واحد أو من جنسين لأن
المكفول له والمكفول عنه مجهول فتكون
ج / 20 ص -111-
الجهالة متفاحشة وقد بينا أن مثل هذه الجهالة
تمنع الكفالة ولو كان الحق لرجل واحد على
رجلين على كل واحد منهما ألف درهم فقال كفلت
لك بمالك على فلان فهذا جائز سواء كان المالان
من جنس واحد أو من جنسين لأن الجهالة هنا
يسيرة مستدركة وهي جهالة المكفول عنه ومثل هذه
الجهالة لا تؤثر في العقد المبني على التوسع
وهذا لأن الطالب معلوم فتتوجه المطالبة من
جهته على الكفيل وإنما بقي الخيار في حق
الكفيل في أن يؤدي أي المالين شاء ولو كفل عن
واحد بأحد المالين جاز فهذا مثله بخلاف الأول
فالمطالبة هناك لا تتوجه من المجهول على
الكفيل والكفالة بالنفس في هذا مثل الكفالة
بالمال وكذلك لو جمع بينهما فقال كفلت لك بنفس
فلان فإن لم أوافك به غدا فعلي مالك عليه وهو
المائة دينار أو بنفس فلان فإن لم أوافك به
غدا فعلى مالك عليه وهو ألف درهم فلم يواف به
غدا فهو ضامن لأحدهما أحد المالين أي ذلك شاء
لأن الطالب واحد معلوم وإن دفع أحدهما في ذلك
اليوم بريء من الكفالة كلها لأن اشتغاله بدفع
أحدهما اختيار منه لكفالته فتبطل عنه كفالته
عن الآخر بهذا الاختيار وقد وجدت الموافاة في
حق الذي اختار فيبرأ من كفالته أيضا.
ولو كان لرجلين لكل واحد منهما على رجل مال
فقال رجل لأحدهما كفلت بنفس غريمك فلان فإن لم
أوافك به غدا فما لفلان على فلان فهو علي جازت
الكفالة بالنفس لأنه كفل بها لمعلوم مطلقا
وبطلت الكفالة بالمال لأنها مخاطرة فإن الحق
ليس للمكفول له بالنفس وما كان صحة الكفالة
بالنفس باعتبار هذا المال لتثبت الكفالة بها
تبعا للكفالة بالنفس فيكون هذا تعليق التزام
المال بمحض الشرط وهو باطل كما لو علقه بدخول
الدار وكذلك الرجل يقول للرجل كفلت لك بنفس
فلان فإن لم أوافك به غدا فأنا كفيل بنفس فلان
لإنسان آخر فالكفالة الثانية باطلة لأنها ليست
من توابع الكفالة الأولى فيكون تعليقا لالتزام
التسليم بمحض الشرط ولو كانت الكفالة عن واحد
فقال كفلت لك بنفس فلان فإن لم أوافك به غدا
فما لفلان عليه وهو ألف علي فرضي بذلك الآخر
فالكفالة الأولى جائزة والنيابة باطلة لأن صحة
الكفالة بالنفس ما كانت باعتبار هذا المال فلا
يمكن تصحيح الكفالة بالمال تبعا للكفالة
بالنفس.
ولو قال كفلت لك بنفس فلان أو فلان بماله عليه
أو بنفسه فهذا باطل كله لجهالة المكفول له ولو
قال كفلت لك بأحد غريميك هذين أو بأحد ماليك
على هذين كان جائزا لأنه المكفول له والمطالبة
تتوجه من جهته والخيار في تعيين ما التزمه
الكفيل إليه وإذا كفل عن رجل بمال بأمره فرهنه
المكفول عنه رهنا به وفاء فهو جائز لأن بنفس
الكفالة كما وجب المال للطالب على الكفيل وجب
للكفيل على الأصيل وإن كان مؤجلا والرهن
بالدين المؤجل صحيح فإن هلك الرهن عند الكفيل
صار مستوفيا دينه بهلاك الرهن فكأنه استوفى
حقيقة حتى إذا أدى الكفيل المال لم يرجع به
وإن أداه الأصيل إلى الطالب رجع على الكفيل
بمثله بمنزلة ما لو استوفاه منه حقيقة ولو كفل
عن رجل بألف درهم بأمره على أن يعطيه
ج / 20 ص -112-
بها هذا العبد رهنا فوقعت الكفالة بهذا بغير
شرط من الكفيل على المكفول له ثم أن المكفول
عنه أبى أن يدفع إليه العبد فإن العبد لا يكون
رهنا لأن الكفيل لم يقبضه والرهن لا يتم إلا
بالقبض ولا يجبر المكفول عنه على دفعه لأن ذلك
كان وعدا من جهته والمواعيد لا يتعلق بها
اللزوم والكفالة لازمة للكفيل لأنه التزم
المال للطالب بالكفالة المطلقة عند شرط بينهما
فإن كان الكفيل اشترط على الطالب فقال له أكفل
لك بهذا المال عن فلان على أن رهن به فلان هذا
العبد فإن لم يدفعه إلي فأنا بريء من الكفالة
فكفل له على هذا الشرط فهو جائز وإن لم يدفع
إليه الرهن بريء الكفيل من الكفالة والمال
لأنه لما رضي بالتزام المال بدون هذا الشرط
والتزام المال بالكفالة يعتمد تمام الرضا
ولأنه شرط البراءة إذا لم يعطه الرهن والشرط
أملك وكذلك لو كفل عنه بالمال على أن يعطيه
بذلك المطلوب كفيلا فوقعت الكفالة للطالب على
غير شرط ثم أن المكفول عنه أبى أن يعطي الكفيل
كفيلا فإن الكفالة على الكفيل جائزة.
وإن كان الكفيل شرط على الطالب إن لم يعط
كفيلا بهذا المال فأنا بريء من كفالتي فهو على
شرطه إن لم يعطه كفيلا بريء من الكفالة لأن
الكفالة بمنزلة الرهن وقد بينا في الرهن أن
هذا الشرط مع الطالب يجب الوفاء به فكذلك في
الكفالة وهذا لأن مقصود الكفيل بكل واحد منهما
التوثق والنظر لنفسه حتى لا يلحقه غرم وإن كتب
الكفيل على دار المكفول عنه شراء بالمال فهو
جائز لأنه شراء بالدين المؤجل وهذا قضاء من
المكفول عنه للكفيل بطريق المقاصة فكأنه أوفاه
الدين حقيقة.
ولو كفل بنفس رجل على أنه للكفيل إن لم يواف
به إلى سنة فعليه المال الذي عليه وهو ألف
درهم ثم أعطي المكفول عنه رهنا بالمال قبل
السنة فالرهن باطل لأن المال لم يجب على
الكفيل بعد لأنه علق التزام المال بشرط عدم
الموافاة فلا يكون واجبا قبل الشرط ألا ترى
أنه لو دفع نفسه إليه قبل الأجل لم يكن عليه
من المال شيء فإن قيل فأين ذهب قولكم إن في
كلامه تقديما وتأخيرا أو أنه التزم المال ثم
جعل الموافاة بنفسه صرفا له عن المال قلنا ذلك
طريق صار إليه بعض مشايخنا رحمهم الله لتوجه
المطالبة بالمال عند عدم الموافاة بالنفس فأما
في الحقيقة فإنما يلزمه المال بالتزامه وهو ما
التزم المال إلا بعد عدم الموافاة بالنفس غدا
فلا يكون المال واجبا عليه في الحال ولا يجوز
الرهن في الكفالة بالنفس على وجه من الوجوه
لأن الرهن يختص بحق يمكن استيفاؤه من الرهن
فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء ولا ضمان على
المرتهن إن هلك الرهن في يده لأنه أخذه رهنا
بغير مال وضمان الرهن ضمان استيفاء وذلك لا
يكون بدون الدين.
وإذا كفل رجل عن رجل بما لم يحل عليه بعد فقال
إذا حل المال فهو علي وأعطي المكفول عنه
الكفيل رهنا كان جائزا لأنه التزم المال بعقد
الكفالة وجعل مطالبة الطالب عنه متأخرة إلى ما
بعد حلول الأجل ذلك غير مانع وجوب أصل المال
على الأصيل فكذلك
ج / 20 ص -113-
على الكفيل وإذا وجب المال على الكفيل وجب
للكفيل على المكفول عنه أيضا فيجوز الرهن به.
ولو قال إن توى مالك عليه فهو علي وأعطاه بذلك
رهنا لم يجز الرهن لأن المال لم يجب بعد فإنه
علق التزام المال بالشرط وكذلك لو قال إن مات
ولم يوفك المال فهو علي فأعطاه المكفول عنه به
رهنا فالرهن باطل لأن المال لم يجب بعد
والكفالة جائزة على هذا الشرط لأنه شرط متعارف
في الكفالات
ولو أخذ الكفيل بالدرك رهنا فالرهن باطل
والكفالة جائزة لأن المال غير واجب على الكفيل
قبل لحوق الدرك فلا يكون واجبا على الأصيل فلا
يصح الرهن به ولا ضمان على المرتهن فيه لأنه
قبضه بإذن صاحبه وكل ما أبطلنا فيه الرهن
بالمال فكان الرهن في يدي الكفيل حتى يحل عليه
المال ويؤخذ به فإن أراد أن يمسك الرهن بذلك
فليس له ذلك لأن أصل الرهن لم يكن صحيحا لم
يثبت بقبضه يد للاستيفاء فلا يكون له أن يمسكه
بعد ذلك وإن وجب الدين عليه ولو آجر منه إبلا
إلى مكة وكفل عنه رجل بالأجر وبالحمولة فأخذ
الكفيل منه بذلك رهنا فإن الرهن في ذلك جائز
لأن الكفيل مأخوذ بالكفالة وقد وجبت عليه أما
على أصل محمد رحمه الله فلأن الأجر بنفس العقد
مؤجلا وعند أبي يوسف رحمه الله سبب الوجوب
متقرر وإن تأخر وجوب المال ألا ترى أن الإبراء
عنه صحيح فيجوز الرهن به سواء ارتهن من الكفيل
أو ارتهن الكفيل من المكفول عنه بخلاف ما سبق.
ولو أن رجلا أحال على رجل بمال وأعطاه به رهنا
جاز لأن المال بالحوالة يجب للمحتال عليه على
المحيل كما يجب للطالب على المحتال عليه وإن
كان رجوعه عليه يتأخر إلى حين أدائه المال
وإذا ادعى مسلم على كافر مالا وأدى كفالة مسلم
بذلك وأقام بينة من الكفار بذلك ثبت المال
بهذه البينة على الأصيل دون الكفيل المسلم
وشهادة الكفار لا تكون حجة على المسلم وكذلك
لو كان أصل المال على كافر فشهد كافران على
مسلم وكافر أنهما كفلا عنه بهذا المال وبعضهم
كفلاء عن بعض جازت الشهادة على الأصيل وعلى
الكفيل الكافر ولا يجوز على الكفيل المسلم لأن
بعض هذه الكفالة تنفصل عن البعض فإنما يقضي
بقدر ما قامت الحجة به.
وإذا ادعى مسلم على مسلم مالا وجحده المطلوب
وادعى الطالب كفالة رجل من أهل الذمة عنه
بالمال بأمره وجحد الكفيل وشهد له بذلك ذميان
جازت شهادتهما على الكفيل ولم تجز على المسلم
حتى أن الكفيل إذا ادعى لم يكن له أن يرجع على
المسلم بشيء لأن شهادة الكفار لا تكون حجة على
المسلم فكما لا يثبت بهذه الشهادة الدين
للطالب على المسلم فكذلك لا يثبت بها أمر
الكفيل بالكفالة وكذلك لو كان المال عليهما في
الصك والمسلم في صدر الصك والذمي كفيل بعده أو
كان الصك عليهما وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه
لأن وجوب المال على أحدهما ينفصل عن وجوب
المال على الآخر فإنما
ج / 20 ص -114-
يقضي القاضي بقدر ما قامت الحجة به وهذه
البينة حجة على الكافر دون المسلم وإذا كان
الدين لرجلين على رجل فكفل أحدهما لشريكه
بحصته عن المطلوب لم يجز من قبل الشركة التي
بينهما معناه أن أصل المال كان مشتركا بينهما
فلا يمكن أن يجعل هو كفيلا بنصيب صاحبه خاصة
لأن ذلك يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض ولا
يمكن أن يجعل كفيلا بالنصف من المال المشترك
بينهما لأن هذا يؤدي إلى أن يكون ضامنا نفسه
عن نفسه وذلك لا يجوز.
ألا ترى أن أحدهما لو استوفى نصيبه من المطلوب
أو من غيره كان للآخر أن يشاركه فيه فكذلك إذا
استوفاه من شريكه الكفيل ولا يمكن أن يجعل هو
بهذه الكفالة مسقطا حقه في المشاركة معه لأن
الإسقاط قبل وجوب سبب الوجوب باطل والسبب
الموجب للشركة له في المقبوض القبض والكفالة
يستحق ذلك فلهذا بطلت الكفالة وليست الكفالة
في هذا بمنزلة التبرع بالأداء فإن أحد
الشريكين لو تبرع بأداء نصيب شريكه عن المديون
جاز لأن ذلك إسقاط لحق المشاركة في المقبوض
مقترنا بالسبب وهو صحيح وهذا بمنزلة الوكيل
بالبيع إذا كفل باليمين عن المشتري للموكل لم
يجز ولو ادعى عنه جاز
وكذلك لو كفل بنفس إنسان ببدل الكتابة لا يجوز
ولو تبرع بأداء بدل الكتابة عن المكاتب جاز
وكذلك لو كان الدين لواحد فمات فورثه ابناه
فكفل أحدهما لصاحبه بحصته لأن الدين كان
مشتركا بينهما إرثا فهو قياس دين مشترك بسبب
آخر.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم كفل بها عنه
رجل بأمره أو بغير أمره ثم مات الطالب
والمطلوب وارثه لم يكن له على الكفيل شيء لأن
المطلوب ملك ما في ذمته بالميراث فسقط عنه
وبراءته توجب براءة الكفيل فإن كان معه وارث
آخر للطالب فإنما يسقط عن الكفيل حصة المطلوب
وللوارث الآخر أن يطالب الكفيل بحصته لأنه في
حصته قائم مقام الطالب وإنما يبرأ الكفيل من
كل شيء يبرأ به الأصيل
ولو كان احتال بها عليه فكفل بها على أن أبرأ
الطالب المطلوب ثم مات الطالب والمطلوب وارثه
وكانت الحوالة بأمره لم يكن على الكفيل شيء
لأن المال صار مملوكا للمطلوب بموت الطالب فلو
رجع به على الكفيل والمحتال عليه بذلك أيضا
لأن الحوالة والكفالة كانت فاسدة فلا يكون
مقيدا بقضاء فإن كان بغير أمره رجع بها على
المحتال عليه أو الكفيل لأنه قائم مقام الطالب
بعد موته وهذا رجوع مفيد فإن الكفيل والمحتال
عليه إن كانا متطوعين هنا لا يستوجبان الرجوع
عند الأداء على أحد بشيء وهذا بخلاف الأول فإن
أصل المال هناك في ذمة المطلوب فهو إنما يملك
بالإرث ما في ذمة نفسه فسقط عنه.
ولا يرجع الكفيل بشيء سواء كفل بأمره أو بغير
أمره وهنا أصل المال تحول إلى المحتال عليه
فالأصيل إنما يملك ما في ذمة غيره فيكون له أن
يطالبه به إذا كان دينا مفيدا وإذا كفل الرجل
لعبده بدين على رجل وعلى عبده دين فهو جائز
لأن كسب العبد المديون
ج / 20 ص -115-
لغرمائه فهذه الكفالة في الصورة للعبد وفي
المعنى للغرماء والعبد المديون يستوجب على
مولاه الدين بسائر الأسباب فكذلك بالكفالة فإن
قضى العبد الدين بطلت الكفالة عن المولى لأن
كسب العبد صار له ولا يكون كفيلا لنفسه عن
نصيبه وكان الدين للعبد على المكفول عنه على
حاله يأخذه به لأن براءة المولى هنا بمنزلة
الفسخ للكفالة فلا توجب براءة الأصيل.
وإذا كفل رجل لرجل بألف درهم ثم مات الطالب
والكفيل وارثه بريء الكفيل منه والمال على
المكفول عنه على حله يأخذه به إن كان كفل عنه
بأمره وإن كان كفل عنه بغير أمره فلا شيء على
المكفول عنه أيضا لأن المال صار للكفيل ميراثا
بموت الطالب فيكون بمنزلة ما لو صار له بهبة
الطالب منه أو بقضائه إياه ولو قضاه أو وهبه
له في حياته رجع على المكفول عنه إن كان كفل
بأمره وإن كان كفل بغير أمره لم يرجع عليه
بشيء فهذا مثله وكذلك لو كان الطالب أبرأ منه
المطلوب على أن ضمنه هذا بأمر المطلوب أو على
أن احتال به على هذا ثم مات الطالب والكفيل
وارثه كان له أن يأخذ الأصيل بذلك ولو كان ذلك
بغير أمر المطلوب لم يرجع عليه بشيء لأن تملكه
ما في ذمته بالإرث بمنزلة تملكه بالأداء.
وإذا كفل العبد بأمر سيده لرجلين بألفين أو
ثلاثة آلاف وقيمته ألف درهم ثم استدان ألفا ثم
بيع بألف كان ثمنه بينهم يضرب صاحب الكفالة
بجميعها لأن جميع دينه ثبت على العبد بكفالته
بإذن مولاه حين كان فارغا عن الدين فلو كان
استدان أولا ألفا وكانت الكفالة بعد ذلك
فالثمن للمدين خاصة لأن الكفالة منه كانت بعد
ما اشتغلت ماليته بالدين فكفالته بأمر المولى
إقرار للمولى في الفصلين عليه جميعا
ولو كان كفل بألف ثم استدان ألفا ثم بيع بألف
كانت الألف الوسطى باطلة لأنه كفل بها وماليته
اشتغلت بالكفالة الأولى وهو بمنزلة ما لو أقر
المولى عليه بألف درهم ثم استدان ألفا ثم بيع
بألف وتمام بيان هذه الفصول في كتاب المأذون
والله أعلم بالصواب.
تم كتاب الكفالة ولله المنة |