المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 21 ص -3-          باب الصلح في الوصايا
قال رحمه الله: وإذا أوصى الرجل بخدمة عبده سنة لرجل وهو يخرج من ثلثه فصالحه الوارث من الخدمة على دارهم أو على سكنى بيت أو على خدمة خادم آخر أو على ركوب دابة أو على لبس ثوب شهرا فهو جائز استحسانا وفي القياس لا يجوز لأن الموصي له بالخدمة في حكم الاعتياض كالمستعير ولهذا لا يملك أن يؤاجره كالمستعير وهذا لأنه يملك الخدمة بغير عوض في الموضعين ثم المستعير لا يعتاض عن الخدمة مع المعير فكذلك الموصي له وجه الاستحسان أن الصلح يصح بطريق الإسقاط إذا تعذر تصحيحه بطريق المبادلة كما لو صالح من الألف على خمسمائة وهنا تصحيحه بطريق إسقاط الحق بعوض ممكن لأنه استحق على الورثة تسليم العبد له في المدة ليستوفي خدمته وهو حق لازم لا يملك الوارث إبطاله فيجوز إسقاطه بعوض بخلاف المستعير فإنه لا يستوجب على المعير حقا لازما فلا يمكن تصحيح الصلح معه اعتياضا عن إسقاط الخدمة فكذلك لو فعل ذلك وصي الوارث الصغير وربما يكون هذا التصرف نظرا للصغير والوصي في ذلك يقوم مقامه إسقاطا كان أو تمليكا.
فإن مات العبد الموصي له بخدمته بعد ما قبض الموصي له ما صالحوه عليه فهو جائز لأنه الذي من جانبه إسقاط الحق فيتم بنفسه لأن المسقط يكون متلاشيا والوارث بعد ذلك يستوفي خدمته بملكه لا بالتملك على الموصي له بعوض فبقاؤه ومؤنته في حكم الصلح سواء وإن صالحوه على ثوب فوجد به عيبا كان له أن يرده ويرجع في الخدمة لأن ما وقع عليه الصلح بمنزلة المبيع وإذا كان ما يقابله إسقاط الحق كما في الصلح على الإنكار والمبيع يرد بالعيب اليسير والفاحش وبرده ينفسخ البيع فهذا مثله وإذا انفسخ رجع في الخدمة وليس له بيع الثوب قبل أن يقبضه لبقاء الغرر في الملك المطلق التصرف كما في البيع ولو صالحه على دراهم كان له أن يشتري بها ثوبا قبل أن يقبضها بمنزلة الثمن يجوز الاستبدال به قبل القبض ولو أن الوارث اشترى منه الخدمة ببعض ما ذكرنا لم يجز لأن الشراء لفظ خاص وضع لتمليك مال بمال والموصي له بالخدمة لا يملك تمليكه من الوارث بخلاف لفظ الصلح.
 ألا ترى أن المدعى عليه بعد الإنكار لو صالح المدعي على شيء لم يصر به حتى إذا استحق عاد على رأس الدعوى ولو اشترى منه المدعي صار مقرا له بالملك حتى لو

 

ج / 21 ص -4-          استحق البدل لرجع بالمدعي ولو قال أعطيك هذه الدار مكان خدمتك أو عوضا عن خدمتك أو بدلا من خدمتك أو مقاصة بخدمتك أو على أن تترك خدمتك كان جائزا لأنه ذكر معنى الصلح وتصحيحه بطريق إسقاط الحق ممكن من الوجه الذي قلنا في الصلح ولو قال أهب لك هذه الدار على أن تهب لي خدمتك كان جائزا إذا قبض الدراهم لأن لفظة الهبة في معنى لفظ الصلح حتى يستعمل في الإسقاطات كما في التمليكات بخلاف لفظ البيع ألا ترى أن هبة المبيع من البائع قبل القبض يكون إقالة إذا قبله البائع بخلاف البيع وقد طعن بعض مشايخنا رحمهم الله في هذا الفصل فقال الهبة بشرط العوض تتم تبعا فتصير عند القبض بمنزلة ما لو صرحا بلفظ البيع وقد بينا أن ذلك لا يجوز وكما يستعمل الهبة في الإسقاطات مجازا فكذلك البيع.
ألا ترى أنه يبيع العبد من نفسه ويبيع المرأة من نفسها ويكون ذلك إسقاطا بعوض بعبارة البيع ولكنا نقول الهبة بشرط العوض يثبت فيها حكم البيع ولا يعتبر لفظة البيع والبطلان هنا باعتبار لفظ البيع ولكنا نقول لا يحكم بالبيع لأن موضوعه لفظ خاص بتمليك مال والثاني أن لفظ الهبة إنما يعتبر بيعا بالتقابض من الجانبين وذلك غير متحقق هنا فالقبض لا يجري من الوارث للخدمة هنا في الحال ولا فيما بعده لأنا لو صححنا هنا بطريق الإسقاط والمسقط بلا شيء فلا يتصور القبض فيه ليصير به بيعا ولو كان الوارث اثنين فصالحه أحدهما وصرحا بتمليك الخدمة منه بعوض ولا يمكن تصحيحه إسقاطا ولكنه بمنزلة الإجارة والموصي له بالخدمة لا يؤاجر من الوارث ولا من غيره وإنما استحسنا إذا كان جميع الورثة لأن الخدمة تبطل ويصير العبد بينهم على الميراث وهو إشارة إلى طريق إسقاط الحق بقبض كما بينا.
ولو باع الورثة العبد فأجاز صاحب الخدمة البيع بطلت خدمته ولم يكن له في الثمن حق لأن حقه في الخدمة لا يكون أقوى من حق المستأجر والبيع ينفذ من المالك برضا المستأجر ولا يثبت حق المستأجر في الثمن فهذا مثله وهذا بخلاف حق المرتهن فإنه يثبت في الثمن إذا نفذ بيع الراهن برضاه لأن حق الموصي له في المنفعة والثمن بدل العين دون المنفعة وحق المرتهن في العين لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء له من مالية العين والثمن بدل العين وبالبيع يتحقق وصوله إلى مقصوده وهو الاستيفاء فلهذا يتحول حقه إلى الثمن.
وكذلك لو دفع بجناية برضا صاحب الخدمة جاز لأن الملك للورثة والمنفعة لصاحب الخدمة فيجوز دفعه بجناية بتراضيهما ويبطل به حق الموصي له لفوات محل حقه ولو قتل العبد خطأ وأخذوا قيمته كان عليهم أن يشتروا بها عبدا فيخدم صاحب الخدمة لأن القيمة بدل العبد فيثبت فيه حق صاحب الخدمة كما كان ثابتا في المبدل وهذا لأن الوصية بالخدمة وإن كانت بالمنفعة فهي تتعدى إلى العين حتى يستحق على الوارث تسليم العين إلى الموصي

 

ج / 21 ص -5-          له ويعتبر خروج العين من الثلث والموصي له لم يرض بسقوط حقه هنا لأن القتل ما كان برضاه ليقوم البدل مقام الأصل في إيفاء حقه باعتباره بخلاف البيع فإن هناك نفوذه كان بإجازته وذلك منه إسقاط لحقه في الخدمة فلهذا يثبت حقه في الثمن.
 ولو صالحوه على دراهم مسماة أو طعام أجزت ذلك بطريق إسقاط الحق بعوض لأن حقه بعد القتل باق كما كان قبله ولو قطعت إحدى يدي العبد فأخذوا أرشها فهو مع العبد يثبت فيه حق الموصي له بالخدمة اعتبار البدل الطرف ببدل النفس وإن اصطلحوا منها على عشرة دراهم على أن يسلم له بعينها والعبد أجزت ذلك بطريق إسقاط الحق بعوض ولو أوصى لرجل بسكنى داره سنة أو حياته ثم مات وهو يخرج من الثلث فصالحوا الوارث منها على سكنى دار أخرى سنين مسماة فهو جائز بطريق الحق إسقاط بعوض لا بطريق المبادلة فإن مبادلة السكنى بالسكنى لا تجوز ولو صالحه على سكنى دار أخرى حياته لم يجز لأن المصالح عليه يتملك عوضا وسكنى الدار من غير بيان العوض لا يجوز استحقاقها عوضا بالبيع ولا بالإجارة فكذلك الصلح بخلاف الموصي له فإن السكنى هناك تتملك بالوصية تبرعا بمنزلة العارية في حال الحياة فإن صالحه على سكنى دار مسماة فانهدمت بطل الصلح لفوات ما وقع عليه الصلح قبل دخوله في ضمانه ويرجع في داره الأولى فيسكنها حتى يموت إن كانت وصيته كذلك وإن كانت سنة رجع بحساب ما بقي.
 ولو كان أوصى له بغلة عبد مدة فصالحه الورثة من ذلك على دراهم مسماة فهو جائز وإن كانت غلته أكثر من ذلك لأن تصحيح هذا الصلح بطريق إسقاط الحق دون المبادلة فلا يتمكن فيه الربا ولو صالحه أحد الورثة على أن تكون الغلة له خاصة لم يجز وإن كانت الوصية له بغلته سنة أو أبدا لأنهما صرحا بالتمليك وتمليك غلة العبد بعوض لا يجوز من أحد ولو استأجر منه العبد مدة معلومة جاز كما لو استأجره غيرالوارث بخلاف ما تقدم من السكنى والخدمة لأن الموصي له بالغلة يملك أن يؤاجر فالغلة لا تحصل إلا به وإجارته من الوارث ومن غيره سواء بخلاف الموصي له بالخدمة والسكنى وهذا بخلاف الأول فهناك بالصلح يملك الغلة من الوارث إذا وجدت وكانت عينا فلا يجوز تمليكها قبل الوجود وهنا إنما يملك المنفعة بالإجارة وذلك صحيح كما لو كان المملك في الوجهين مالك العبد فإن أجره المستأجر بأكثر مما استأجره به تصدق بالفضل إن كان من جنسه فيما يكال أو يوزن وقد بينا هذا في الإجارات .
ولو استأجره بثوب يهودي بعينه فأجر بثوبين يهوديين طاب له الفضل لأن الثوب ليس بمال الربا فلا يتحقق في هذا التصرف الفضل الخالي عن العوض والوصية بغلة الدار بمنزلة الوصية بغلة العبد في جميع ما ذكرنا ولو كانت الوصية بغلة نخلة بعينها أبدا فصالحه الورثة بعد ما خرجت ثمرتها وبلغت منها ومن كل غلة تخرج أبدا على حنطة وقبضها جاز بطريق تمليك الغلة الخارجة بعوض وإسقاط الحق عما يخرج بعد ذلك بعوض وإذا كان يجوز كل

 

ج / 21 ص -6-          واحد منهما بانفراده فكذلك إذا جمع بينهما وإن صالحوه على حنطة سنة لم يجز لأن ما في رؤوس النخيل ثمر مكيل وبوجود أحد وصفي علة ربا الفضل يحرم النساء فإذا بطل في حصة الموجود بطل في الكل لاتحاد الصفقة ولو صالحه على شيء من الوزن نسيئة فهو صحيح لأنه لم يجمع البدلان أحد وصفي علة ربا الفضل ولو صالحوه على تمر لم يجز حتى يعلم أن التمر أكثر مما في رؤوس النخيل ليكون بمقابلة ما في رؤوس النخيل مثلها والباقي عوض عن إسقاط الحق في المستقبل فإذا لم يعلم ذلك تمكنت فيه شبهة الربا فلا يجوز.
 وإن صالحوه من غلة هذا النخل على غلة نخل آخر أبدا أو سنين معلومة لم يجز لأن ما وقع الصلح عليه في معنى المبيع وتمليك غلة النخيل قبل خروجها بالبيع لا يجوز وكذلك لو صالحوه على غلة عبد سنين معلومة لأن الغلة مجهولة وهي للحال معدومة فلا يجوز استحقاقها عوضا بالبيع وبالإجارة فكذلك بالصلح ولو أوصى لرجل بما في بطن أمته وهي حامل فصالحه الورثة على دراهم معلومة جاز بطريق إسقاط الحق المستحق له بعوض ولو باعه منهم أو من غيرهم لم يجز لأن البيع تمليك مال متقوم بمال وما في البطن ليس بمال متقوم وهو غير مقدور التسليم فلا يجوز تمليكه بالبيع من أحد ولو صالحه أحد الورثة على أن يكون له خاصة لم يجز لتصريحهما بتمليكه ما في البطن بعوض ولو صالحه الورثة منه على ما في بطن جارية أخرى لم يجز لأن ما يقع عليه الصلح في حكم الصلح المبيع ولو صالحوه على دراهم مسماة ثم ولدتالجارية غلاما ميتا فالصلح باطل لأنه تبين إنه لم يكن له حقا مستحقا يحتمل الإسقاط بعوض وإنما كنا نصحح الصلح بطريق إسقاط الحق المستحق بعوض ولو ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا كان أرش ذلك لهم والصلح جائز لأن الحق كان للموصي له.
 ألا ترى إنه قبل الصلح كان الأرش يسلم له بطريق الوصية فصح إسقاط الحق بعوض بخلاف ما إذا ولدته ميتا فإنه يتبين بطلان الوصية فيه ولو مضت السنتان قبل أن تلد شيئا كان الصلح باطلا لأنه قد تبين بطلان الوصية فالجنين لا يبقى في البطن أكثر من سنتين والوصية كانت بالموجود في البطن فالوصية بما تحمل هذه الأمة لا تكون صحيحة وكذلك الوصية بما في بطون الغنم وضروعها في جميع ما ذكرنا ولو أوصى لرجل بما في بطن أمته فصالحه رجل من غير الورثة على أن يكون ذلك له خاصة على دراهم مسماة لم يجز كما لا يجوز صلح أحد الورثة على ذلك لأنه تمليك لما في البطن بعوض فإن قبض الرجل الأمة ثم أعتق ما في بطنها لم يجز لأن ما في البطن ليس بمال متقوم ومثله لا يملك بالبيع وإن قبض مع أن قبض الأمة ليس بقبض لما في البطن.
 ألا ترى أن الوارث إذا أعار الجارية أو أجرها من إنسان لا يحتاج في التسليم إلى رضا الموصي له بما في البطن وإن الغاصب للأمة الحامل لا يصير ضامنا لما في بطنها فدل أن بقبض الأمة لا يصير قابضا لما في بطنها وبدون القبض لا ينفذ التصرف في البيع الفاسد ولو

 

ج / 21 ص -7-          أعتق الورثة ما في بطنها لم يجز لأنهم لم يملكوا ما في البطن لكونه مشغولا بحاجة الميت وحق الموصي له ولو أعتقوا الأمة جاز لأنهم يملكون رقبتها فإن صالحهم بعد عتق الأمة مما في بطنها على دراهم جاز لأن تصحيح هذا الصلح بطريق إسقاط الحق ولو لم يبطل حقه بإعتاقهم الأمة حتى إذا ولدت ولدا حيا كانت الورثة هنا ملزمين له بقيمة الولد فإسقاطه الحق بعوض بطريق الصلح معهم جائز ولا يتمكن فيه معنى الربا سواء وقع الصلح على أقل من قيمته أو أكثر من قيمته لأنه إسقاط لا تمليك وفي الإسقاطات لا يجري الربا وإن ولدته ميتا بطل الصلح لأنه تبين بطلان الوصية حين انفصل ميتا وإنه لم يكن له قبلهم حق مستحق.
ولو أوصى بما في بطن غنمه فذبحها الورثة قبل أن تلد فلا ضمان عليهم فيما في بطونها أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر لأن ذكاة الأم لا تكون ذكاة للجنين عنده فلم يوجد من الورثة صنع في الجنين وأما عندهما فإنما يكون ذكاة الأم ذكاة للجنين إذ انفصل ميتا وإذا انفصل ميتا فلا حق للموصي له فلهذا لا يضمنون له شيئا ولأنه يتوهم انفصال الجنين حيا بعد ذبح الأم فلا يكون هذا من الورثة إتلافا لحق الموصي له بطريق المباشرة والتسبب وإذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان بخلاف العتق فإنه لا يتصور انفصال الولد رقيقا بعد عتق الأم فكان ذلك منه إتلافا لحق الموصي له بطريق المباشرة وإن صالحوه بعد الذبح على شيء لم يجز لأنه لم يكن للموصي له حق استحقاق وكذلك الأمة لو قتلوها هم أو غيرهم كانت القيمة للورثة ولا شيء للموصي له لأن قتل الأم لا يكون قتلا للجنين ويتوهم انفصال الجنين حيا قبل الأم فلهذا لا شيء للموصي له من قيمة الولد.
ولو أوصي له بما في ضروع غنمه فصالحه الورثة على لبن أقل من ذلك أو أكثر لم يجز لأنه مبادلة اللبن باللبن مجازفة ولا يقال ينبغي أن يصحح الصلح بطريق الإسقاط كما لو صالحوه على دراهم لأنا وإن جعلناه إسقاطا للحق حكما فمن حيث الحقيقة اللبن موجود في الضرع والوصية لا تصح إلا باعتبار هذه الحقيقة وباعتبار هذه يكون تمليك اللبن بلبن هو أقل منه أو أكثر وباب الربا ينبني على الاحتياط فلهذا لا يجوز وكذلك الصوف لأنه مال الربا كاللبن وهذا بخلاف ما سبق فيما إذا صالح الموصي له الورثة عما في بطن الأمة بعد عتق الأم على أكثر من قيمته لأنا لا نتيقن بوجوب القيمة وإن تيقنا به فالقيمة ليست من جنس ما قبض لا محالة فالتقويم تارة بالدراهم وتارة بالدنانير فيمكن تصحيح ذلك الصلح بطريق الإسقاط بخلاف ما نحن فيه ولو أوصى لصبي بما في بطن أمته أو لمعتوه فصالح أبوه أو وصية الورثة على دراهم جاز بطريق إسقاط حقه بعوض فوليه في ذلك يقوم مقامه لما فيه من النظر ولكن لو كانت الوصية لمكاتب فصالح جاز لأن إسقاط الحق بعوض من باب اكتساب المال والمكاتب فيه كالحر.
ولو أوصى بشيء لما في بطن فلانة لم تجز له الوصية إلا أن تضعه لأقل من ستة أشهر فحينئذ تيقن إنه كان موجودا حين أوجب الوصية له وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا

 

ج / 21 ص -8-          يتيقن بوجوده حين وجبت الوصية له والوصية أخت الميراث والجنين إذا كان موجودا في البطن يجعل في حكم الميراث كالمنفصل وكذلك في حكم الوصية وإن أقر الموصي أنها حامل ثبتت الوصية له إن وضعته ما بينه وبين سنين من يوم أوصى لأن وجوده في البطن عند الوصية ثبت بإقرار الموصي فإنه غير متهم في هذا الإقرار لأنه يوجب له ما هو من خالص حقه بناء على هذا الإقرار وهو الثلث فيلحق بما لو صار معلوما هنا بأن وضعته لأقل من ستة أشهر فإن صالح عنه أبوه على شيء لم يجز فعل الأب على ما في البطن فإن ثبوت الولاية لحاجة المولي عليه إلى النظر ولا حاجة للجنين إلى ذلك ولأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم ما دام متصلا بها من وجه فكما لا يثبت للأب الولاية على الأم فكذلك على ما هو من أجزائها وكذلك الأم لو كانت هي التي صالحت لأن الأبوة في إثبات الولاية أقوى من الأمومة فإذا كان لا تثبت الولاية على ما في البطن للأب فللأم أولى والجنين وإن كان بمنزلة جزء منها من وجه فهو أولى في الحقيقة في نفس مودعة فيها ولاعتبار معنى النفسية صحت الوصية فالوصية للأجزاء لا تصح ولا يمكن تصحيح هذا الصلح من الأم باعتبار الحرية لهذا المعنى فإن ولدت غلاما وجارية فالوصية بينهما نصفان لأن استحقاق الوصية بالإيجاب بالعقد والذكر والأنثى في ذلك سواء وإنما التفاوت بينهما فيما يستحق ميراثا وإن ولدت أحدهما ميتا وهو للحي منهما بمنزلة ما لو أوصى لحي وميت فإن ولدتهما ميتين أو لأكثر من سنتين حييين فالوصية باطلة وإن ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا فالوصية تبطل أيضا لأن الأرش لا يقوم مقامه أن لو انفصل حيا في استحقاق الوصية كما لا يقوم مقامه في استحقاق الميراث والوصية له في هذا الوجه مخالفة للوصية به لأن البدل لا يقوم مقام الأصل في الحكم الذي يصلح أن يكون مبادلة والأرش يجوز أن يكون مستحقا بالوصية كالأصل أن لو انفصل حيا فقام مقامه في ذلك والأرش لا يجوز أن يكون مستحقا بالوصية فلا يقوم مقامه الأصل في حكم تصحيح الوصية له فلهذا بطلت وصيته.
ولو كان الحمل عبدا فصالح مولاه عليه لا يجوز لأن الولاية كما لا تثبت على ما في البطن باعتبار الأبوة فكذلك لا تثبت باعتبار الملك بل أولى فإن المالكية على القدرة والاستيلاء وذلك يتحقق على ما في البطن فإن صالح مولى الابن الحمل بعد موت المريض على صلح ثم أعتق المولي الأمة الحامل عتق ما في بطنها ثم ولدت غلاما فالغلام حر لأنه انفصل منها وهي حرة ولا وصية له والوصية لمولاه لأن وجوب الوصية بالموت وعند الموت كان مملوكا فصار الموصي به ملكا للمولي ثم عتق بعد ذلك بإعتاق الأم وهو لا يبطل ملكه عما صار مستحقا له من كسبه ولا يجوز الصلح أيضا لأنه لا يمكن تصحيح الصلح بطريق الولاية على ما في البطن ولا باعتبار حقه لأن ثبوت حقه بطريق الخلافة فالمولي يخلف العبد في استحقاق كسبه خلافة الوارث المورث وما لم يتم سبب الاستحقاق للمملوك لا يخلفه المولي في ذلك وإنما يتم السبب إذا انفصل حيا والصلح قبل ذلك فلهذا

 

ج / 21 ص -9-          لم يجز وكذلك لو باع الأمة وكذلك لو دبر ما في بطنها وهذا أظهر فالتدبير لا يخرج المولي من أن يكون مستحقا لكسب المدبر.
ولو كان الموصي له حيا ثم أعتق المولي الأمة والولد أو أعتق الأمة دون الولد ثم مات الموصي كانت الوصية للغلام دون المولي لأنه صار حرا سواء أعتقه مقصودا أو أعتق أمه وإنما وجبت الوصية بالموت ولو كان حرا يومئذ فكانت الوصية له دون المولي ولو صالح الورثة من الوصية قبل موت الموصي لم يجز لأن استحقاق الوصية بالموت والصلح قبل ثبوت الاستحقاق لا يصح لأن صحته على وجه إسقاط الحق بعوض فإذا لم يكن العوض مستحقا كان الصلح باطلا.

باب الصلح في الجنايات
قال رحمه الله: والصلح من كل جناية فيها قصاص على ما قل من المال أو كثر فيها فهو جائز لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] ومعناه من أعطى له من دم أخيه شيء وذلك بطريق الصلح ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فأدوا" والمفاداة بالصلح تكون ولا يتعذر بدل الصلح بالأرش عندنا خلافا للشافعي رحمه الله وهي مسألة الديات واعتمادنا فيه على ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضي بالقصاص على القاتل" ولما رأى الصحابة رضي الله عنهم الكراهية في ذلك من وجهه صلوات الله وسلامه عليه صالحوا أولياء القتيل على ديتين واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن حق استيفاء القود قد يؤول إلى المال عند تعذر الاستيفاء فيجوز إسقاطه بمال بطريق الصلح كحق الرد بالعيب بخلاف حد القذف فإنه لا يؤول ما لا بحال ثم البدل يكون في مال الجاني حالا لأنه التزمه بالعقد ولأنه وجب باعتبار فعل هو عمد وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعقل العاقلة عمدا ولا عيبا" ولو صالحه من الجرح أو الجراحة أو الضربة أو القطع أو الشجة أو اليد على شيء ثم برأ فالصلح جائز لأنه أسقط بهذه الألفاظ حقه بعوض وإن مات بطل الصلح في قول أبي حنيفة رحمه الله وعليه القصاص في القياس وفي الاستحسان عليه الدية في ماله وإن آل الجرح إلى قتل كانت الدية على عاقلته. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الصلح ماض ولا شيء عليه لأنه أسقط الحق الواجب له بالجراحة بالصلح وبعد الموت سبب حقه الجراحة كما بعد البرء وعند أبي حنيفة رحمه الله هو إنما أسقط بالصلح قطعا أو شجة أوجبت له قصاصا وبالموت يتبين أن الواجب له القصاص في النفس لا القطع والشجة فكان هذا إسقاطا لما ليس بحقه فيكون باطلا ولهذا كان عليه القصاص في النفس في القياس ولكنه استحسن فقال يتمكن فيه نوع شبهة من حيث إن أصل القتل كان هو الشجة والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات ولكن المال يثبت مع الشبهات وأصل المسألة في العفو وموضع بيانها كتاب الديات ولو كان صالحه عن ذلك وما يحدث منه كان الصلح ماضيا إن مات أو عاش لأن ما يحدث منه السراية يكون هو بهذا

 

ج / 21 ص -10-        اللفظ مسقطا حقه عن النفس بعوض والقصاص في النفس وإن كان يجب بعد الموت فإنما يجب بسبب الجناية وإسقاط الحق بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب صحيح وكذلك من الجناية صحيح إن عاش أو مات لأن اسم الجناية يعم النفس وما دونها حتى لو قال لا جناية لي قبل فلان ثم ادعى عليه النفس لم تسمع دعواه بخلاف ما لو قال لا شجة لي قبل فلان والصلح باسم الجناية يكون مسقطا حقه بريء أو سرى فإن كان مريضا صاحب فراش حين صالح فهو جائز في العمد وإن صالحه على عشرة دراهم لأنه أسقط ما ليس بمال ولو أسقطه بغير عوض بالعفو لم يعتبر خروجه من الثلث فإذا أسقط بالصلح ببدل يسير أولى وفي الخطأ ما حط يكون من الثلث لأن الواجب الدية وهو مال فيكون ما حط وصية من الثلث ولا يقال هي وصية القاتل لأن الدية في الخطأ على العاقلة فيكون هذا منه وصية لعاقلة قاتله وذلك صحيح من الثلث.
وإذا قطع رجل أصبع رجل عمدا أو خطأ فصالحه منها على ألف درهم ثم شلت أصبع أخرى سواها فلا شيء له عليه في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه أسقط بالصلح موجب ذلك القطع وذلك يعم الأصبع الأولى والثانية وعند أبي حنيفة رحمه الله عليه أرش الأصبع الأخرى لأنه إنما أسقط بالصلح قصاصا واجبا في الأصبع فلا يتناول الصلح الأصبع الأخرى فيلزمه أرشها إلا أن هنا لا يتبين بهذه السراية إن الأصبع الأولى لم تكن مستحقة له فيبقى الصلح عنها صحيحا بخلاف الأول فإن هناك بالسراية إلى النفس يتبين أن الشجة لم تكن مستحقة له قصاصا فكان الصلح باطلا لأنه صالح من غير حقه وإذا كانت الشجة موضحة فصالحه منها على مائة درهم فصارت منقلة فلا يبقى عليه شيء عندنا لما قلنا وعند أبي حنيفة رحمه الله عليه ألف وأربعمائة درهم لأن المنقلة غير الموضحة والموضحة ما يوضح العظم ولا يؤثر فيه والمنقلة ما يكسر العظم وينقله من موضعه وهو إنما أسقط من موضحة موجبة له قصاصا وقد تبين أنها لم تكن حقا له وإنما كان حقه في المنقلة وأرش المنقلة عشر الدية وذلك ألف وخمسمائة استوفى من ذلك مائة فالباقي عليه ألف وأربعمائة.
رجل قتل عمدا وله ابنان فصالح أحدهمامن حصته على مائة درهم فهو جائز ولا شركة لأخيه فيها لأنه أسقط نصيبه من القود بعوض ولو أسقط بغير عوض جاز والمال عوض عن القصاص استحقه بالعقد وهو المباشرة للعقد فلا شركة لأخيه فيها باعتبار العقد ولا باعتبار الشركة في أصل القود لأن ذلك ليس بمال ثم كل ما يصلح أن يكون صداقا في النكاح يصلح أن يكون عوضا في الصلح عن القصاص لأنه مال يستحق عوضا عما ليس بمال بالعقد وعلى هذا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض وإن كان عينا كما يجوز التصرف في الصداق لأنه لم يبق في الملك المطلق للتصرف عذر حتى لا يبطل بالهلاك ولكن تجب قيمته وكذلك لو استحق العبد كان على القاتل قيمته لأن بالاستحقاق لا يبطل الصلح

 

ج / 21 ص -11-        ولكن تعذر استيفاء العبد مع قيام السبب الموجب له فتجب قيمته كما في الصداق وهذا لأن الصلح عن القود لا يحتمل الفسخ بالتراضى كالنكاح بخلاف الصلح عن المال وكذلك إن وجد به عيبا فاحشا فرده رجع بقيمته ولا يرده بالعيب اليسير كما في الصداق ولو كان العبد حرا كان على القاتل الدية لأولياء القتيل في ماله وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله عليه قيمته أن لو كان عبدا وأصل الخلاف في الصداق وقد بيناه في النكاح ولو اختلفا في العبد الذي وقع الصلح عليه كان القول فيه قول القاتل مع يمينه لأن القابل للقود سقط باتفاقهما وإنما تنازعا في المال المستحق على القاتل بمقابلته فالقول فيه قوله مع يمينه كما في الخلع بخلاف الصداق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فإن هناك يصار إلى تحكيم مهر المثل لأن صحة النكاح موجبة مالا وهو مهر المثل فعند الاختلاف في المسمى يصار إلى موجبه الأصلي وهنا ليس لسقوط القود بالعفو موجب من حيث المال فيكون هذا نظير الخلع.
وإن كان القتل خطأ فصالحه أحدهما على مال كان لشريكه أن يشركه في ذلك لأن الواجب في الخطأ الدية وهو مال وجب مشتركا وصلح أحد الشريكين من الدين المشترك على شيء صحيح ولشريكه أن يشركه في ذلك ولو صالح أحدهما من نصيبه على عبد بعينه كان لشريكه أن يشركه في ذلك إلا أن يشاء المصالح أن يعطيه ربع الأرش ويمسك العبد كما في سائر الديون المشتركة إذا صالح أحدهما من نصيبه على عين وهذا لأنه يملك العبد بالعقد وهو في العقد عامل لنفسه فله أن يختص به ويعطي صاحبه ربع الأرش لأن ذلك أصل حقه فيما وقع الصلح عنه وهو نصف الأرش وإن شاء أبى ذلك وأعطاه نصف العبد لأن مبني الصلح على التجوز بدون الحق وهو يقول إنما توصلت إلى حقي لأني رضيت بدون حقي فعليك أن ترضى به أيضا وتأخذ نصف ما وقع عليه الصلح إن شئت وإلا فاتبع القاتل بحقك ولو صالحه من ذلك على عرض بغير عينه لم يجز لأن هذا العرض بمقابلة الدية يكون بيعا وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز وكذلك لو صالحه على موصوف من المكيل أو الموزون مؤجلا والمكيل والموزون إذا قوبل بالنقد يكون مبيعا ولو صالحه منه على عبد بعينه فاستحق أو مات قبل أن يقبضه رجع بنصف الأرش لأن هذا صلح عن مال على مال وهو محتمل للفسخ فبالاستحقاق أو الهلاك قبل التسليم يبطل الصلح.
وكذلك لو وجد به عيبا صغيرا أو كبيرا رده لأن المصالح عليه بمنزلة المبيع في الصلح عن المال فيرد بالعيب اليسير والفاحش وليس له أن يتصرف فيه قبل أن يقبضه كما في المبيع وكذلك لو صالح عن الجاني غيره بإقرار أو إنكار كما في الصلح عن سائر الديون ولو صالحه من دم العمد على سكنى دار أو خدمة عبد سنة جاز لأن المنفعة المعلومة يجوز استحقاقها عوضا في الصلح عن المال ففي الصلح عما ليس بمال أولى وقد بينا أن هنا العوض بمنزلة الصداق والسكنى والخدمة إذا كانت معلومة ببيان المدة تثبت صداقا في النكاح وإن صالحه

 

ج / 21 ص -12-        عليه أبدا أو على ما في بطن أمته أو على غلة نخله سنين معلومة أو أبدا لم يجز لأن هذا كله لا يثبت صداقا بالتسمية في النكاح فكذلك لا يستحق عوضا عن دم العمد في الصلح وهذا بخلاف الخلع وإنها لو اختلعت نفسها على ما في بطن أمتها صحت التسمية والفرق من وجهين أحدهما أن بالخلع المرأة لا تستحق شيئا هو متقوم ولكن يبطل ملك الزوج عنها والبضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم فكان التزامها بالوصية والإقرار وذلك صحيح مضافا إلى ما في البطن ولهذا لو اختلعت بمال في مرضها اعتبر من ثلثها كالوصية.
وأما الصلح عن القود فالقاتل يستفيد العصمة والمتقوم في نفسه ولهذا لو صالح في مرضه على قدر الدية اعتبر من جميع المال فكان المال عوضا عما هو متقوم في حق من التزمه فيكون نظير الصداق لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم فيكون الصداق عوضا عما هو متقوم في حق من التزمه والجنين لا يصلح عوضا في مثله يوضح الفرق أن أحد البدلين في الخلع وهو الطلاق يحتمل الإضافة فكذلك البدل الآخر والإيجاب في الجنين بمعنى المضاف إلى حال بعضها إذا جنى وهو وحده حقيقة لا يصير معلوما إلا عند ذلك فأما في الصلح فأحد البدلين وهو إسقاط القود لا يحتمل التعليق والإضافة بالشرط فكذلك البدل الآخر فلا يمكن تصحيحه في الجنس مضافا ولا يمكن تصحيحه في الحال لأنه غير معلوم الوجود والتقوم فكان كالصداق من هذا الوجه ثم على القاتل الدية لأن فساد التسمية لا يمنع سقوط القود كما أن فساد التسمية لا يمنع صحة النكاح وإذا سقط القود وجبت الدية لأن الولي ما رضي بسقوط حقه مجانا وقد صار مغرورا من جهة القاتل بما سمى له فيرجع عليه ببدل ما سلم له وهو العصمة والتقوم في نفسه وبدل النفس الدية ولو صالحه على ما في نخله من ثمرة جاز لأن الثمرة الموجودة تستحق صداقا وتستحق مبيعا فيجوز الصلح عليها أيضا بخلاف ما إذا صالح على ما يحمل نخله العام.
ولو صالحه على أن عفى الآخر عن قصاص له قبل رجل آخر كان جائزا لأن كل واحد منهما أسقط حقه عما له من القود وكل واحد منهما متقوم صالح للاعتياض عنه فيجوز أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر وهذا بخلافه فإن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا لأن الشرط في الصداق أن يكون مالا قال الله تعالى:
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}[النساء: 24] والقصاص ليس بمال وهنا الشرط أن يكون ما يستحق بالصلح متقوما وذلك موجود في القصاص كما قررنا.
ألا ترى أنه لو صالح عن القود على أقل من عشرة دراهم يجوز وإن كان ما دون العشرة لا يستحق صداقا ولو قطع رجل يد رجل عمدا فصالحه على خمر أو خنزير أو على حر وهو يعرفه فهو عفو ولا شيء للمقطوعة يده لأنه أسقط حقه بغير عوض فالخمر والخنزير والحر ليس بمال متقوم فلا يكون هو باشتراطه طالبا للعوض عن إسقاط القود ولم يصر مغرورا من جهة القاطع فلا يرجع عليه بشيء كما في الخلع إذا خالع امرأته على خمر أو

 

ج / 21 ص -13-        خنزير أو حر وهذا بخلاف النكاح فإنه لو تزوجها على خمر أو خنزير أو حر كان لها مهر مثلها لأن استحقاق مهر المثل هناك باعتبار صحة النكاح لا باعتبار تسمية العوض حتى لو لم يسم شيئا وجب مهر المثل في الخلع والصلح عن دم العمد استحقاق البدل باعتبار تسمية البدل حتى لو لم يسم له شيئا كان العفو مجانا وعلى هذا التحقيق يتبين أنه لا فرق فإنا نجعل تسمية الخمر والخنزير وجودها كعدمها في المواضع كلها وهذا لأنه يتملك الزوج بالنكاح ما هو متقوم مصون عن الابتذال فلا يملك إلا بعوض إظهارا لخطره وهنا من له القود يسقط القود ولا يملك القاتل شيئا وإسقاط القود غير مصون عن التبذل فلهذا لا يجب المال إلا باعتبار تسمية عوض هو مال متقوم.
وكذلك لو صالح على أن يقطع رجله فهذا عفو مجانا لأنه لو لم يسم عوضا مالا هو متقوم فكان ذكره والسكوت عنه سواء ولو كان القتل خطأ كان عليه الدية لأن هذا صلح من مال فيكون كسائر صلح الديون إذا بطل بقي المال واجبا كان هو الدية ولوكان قتل عمد فصالح عنه رجل على ألف درهم ولم يضمنها له لم يكن عليه شيء لأنه متبرع بالصلح فلا يلزمه المال إلا بالتزامه والتزامه بالضمان أو بإضافة البدل إلى نفسه أو مال نفسه فإذا لم يوجد ذلك توقف على إجازة القاتل ليكون المال عليه إذا أجاز كما في الخلع وإن كان القاتل هو الذي أمره بذلك كان البدل على القاتل لأن المصالح معبر عنه.
ألا ترى إنه لا يستغني عن إضافة العقد إليه فهو نظير الخلع ولو صالحه عنه على عبد له ولم يضمن له خلاصه جاز لإضافة الصلح إلى مال نفسه وقدرته على تسليم بدل الصلح فإن استحق العبد لم يرجع عليه بشيء لأنه ما ضمن له شيئا التزمه في ذمته وإنما التزم تسليم العين فيكون حكم الالتزام مقصورا على العين في حقه فإذا عجز عن تسليمه بالاستحقاق لم يلزمه شيء ولكن يرجع على القاتل بقيمته إن كان أمره بذلك لأن عند استحقاق العين بدل الصلح هو القيمة دينا فيكون على الأمر دون المأمور كالألف المسمى وإن كان المصالح تبرع بالصلح عليه وضمن له خلاصه ثم استحق رجع عليه بقيمته لأنه صير نفسه زعيما والزعيم غارم وعند الاستحقاق بدل الصلح قيمته وقد ضمنه فيكون مطالبا بإيفائه كما لو صالحه على ألف درهم وضمنها له فإن قيل كيف يضمن القيمة وهو إنما ضمن له خلاص العبد قلنا التزامه بالضمان إنما يصح باعتبار وسعه والذي في وسعه خلاص المالية بتسليم العين إن أمكن أو بتسليم قيمته إن استحق وهو نظير الخلع في جميع ما ذكرنا.
وللأب أن يصالح عن دم عمد واجب لابنه الصغير أو المعتوه على الدية لأنه متمكن من استيفاء القود الواجب لولده في النفس وما دون النفس كهو في حق نفسه لأن الولد جزء منه وولايته عليه فيما يرجع إلى استيفاء حقه ولاية كاملة تعم المال والنفس جميعا بمنزلة ولايته على نفسه فإذا جاز له أن يستوفي القود جاز صلحه بطريق الأولى لأن المقصود باستيفاء القود تشفى الغيظ وذلك يحصل للصبي في الثاني إذا عقل وإذا صالح على الدية

 

ج / 21 ص -14-        تصل إليه منفعة في الحال ثم هو بالصلح يجعل ما ليس بمال من حقه مالا فيتمحض تصرفه نظير الصبي وإن حط عنه شيئا من الدية لم يجز ما حط قل ذلك أو كثر لأنه فيما حط مسقط لحقه غير مستوف له ولاية الاستيفاء في حق الصغير وهذا بخلاف البيع فإنه لو باع ماله بغبن يسير جاز لأن البدل في البيع غير مقدر شرعا والقيمة تعرف بالحزر والظن والمقومون يختلفون فيها ففي الغبن اليسير لا يتيقن بترك النظر فيه بإسقاط شيء من حقه وهنا الدية مقدرة شرعا فإذا نقص عن المقدر شرعا فقد أسقط من حقه شيئا تيقن وذلك غير صحيح منه فعلى القاتل تمام الدية قال وكذلك الوصي فيما دون النفس له أن يستوفي وأن يصالح لأن ما دون النفس سلك به مسلك الأموال حتى تعتبر فيه المساواة في البدل ويقضي عنه بالنكول عند أبي حنيفة رحمه الله كما في الأموال.
وللوصي ولاية التصرف في مال اليتيم استيفاء فكذلك فيما يسلك به مسلك الأموال فأما في النفس فليس للوصي أن يستوفي القود رواية واحدة لأن ولاية الوصي ولاية قاصرة تثبت في المال دون النفس والقصاص في النفس ليس بمال حقيقة ولا حكما فيكون الوصي في استيفائه كأجنبي آخر كما في التزويج وهذا لأن القصاص في النفس عقوبة تندرئ بالشبهات فالمستحق به محل هو مصون عن الابتذال من كل وجه وفي ولاية الوصي شبهة القصور فلا يتمكن به من استيفاء ما يندرئ بالشبهات بخلاف الأب وبخلاف القصاص في الطرف لأنه لا يندرئ بكل شبهة ولهذا حرز أبو حنيفة رحمه الله فيه القضاء بالنكول فإن المستحق به محل غير مصون عن الابتذال وقد قدرنا ذلك في الدعوى فيمكن الوصي الاستيفاء مع قصور ولايته وليس للوصي أن يصالح من القصاص في النفس على الدية في رواية هذا الكتاب.
وقال في الجامع الصغير: والديات للوصي أن يصالح من النفس على الدية وجه هذه الرواية إنه لا يملك استيفاء القود بولايته وإنما يملك الإسقاط بعوض من يكون متمكنا من الاستيفاء ووجه الرواية الأخرى أن في الصلح اكتساب المال للصبي والوصي منصوب لاكتساب المال بخلاف استيفاء القود فهو ليس من اكتساب المال في شيء وبخلاف التزويج فهو غير مشروع لاكتساب المال بل لتمليك البضع وهو مصون عن الابتذال توضيحه إن القصاص ليس بمال للحال وهو مال في المآل فلا يملكه الوصي وفي الصلح تحقيق ما هو المطلوب في المآل وهو المال فيملكه الوصي ولا يبعد أن يكون حكم الصلح على المال مخالفا لحكم استيفاء القود.
ألا ترى أن الموصي له بالثلث لا حق له في القود استيفاء ويثبت حقه إذا وقع الصلح عن القود في المال فهذا مثله وإن كان دم عمد بين ورثة فيهم الصغير والكبير فله أن ينفرد باستيفاء القود عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليس له ذلك وفي مثله الديات فإن صالح عن الدية فصلحه جائز أما عند أبي حنيفة فلا يتمكن من استيفاء نصيب الصغير من

 

ج / 21 ص -15-        القود فيتمكن من إسقاطه بالصلح على الدية كما في الأب وعندهما صلحه عن نصيب نفسه صحيح بمنزلة عفوه وبه ينقلب نصيب الصغير مالا وهو حصته من الدية لتعذر استيفاء القود عليه ولو قتل رجل عمدا ولا ولي له غير الإمام فللإمام أن يستوفي القود في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله فأبو يوسف رحمه الله يجعل الإمام في استيفاء القود كالوصي لأن ثبوت ولايته بالعقد وهو التقليد كثبوت ولاية الوصي وهما يجعلان الإمام فيما هو حق للمسلمين كالأب في حق ولده الصغير لأن ولايته ولاية متكاملة تعم المال والنفس والمسلمون يعجزون عن الإجماع للاستيفاء كالصغير ويجوز للإمام أن يصالح على الدية بالاتفاق أما عندهما فلأنه يملك الاستيفاء فيملك الإسقاط بالصلح على الدية ومنفعة المسلمين في هذا أظهر منه في استيفاء القود وعند أبي يوسف رحمه الله لم يجب القصاص بهذا القتل لانعدام المستوفي فيكون الواجب هو الدية وللإمام ولاية استيفائه لأنه حق جماعة المسلمين.
وذكر حديث وهب بن كيسان أن عبد الله بن عمر قتل يزدان في تهمة له في دم عمر فقال علي لعثمان رضي الله عنهما أقتل عبيد الله به فقال عثمان رضي الله عنه قد قتل أبوه بالأمس وإنما استحيى أن يقتل أبوه وأقتله هذا اليوم لا أفعل هذا رجل من أهل الأرض قتل وأنا وليه وأعفو عن هذا وأؤدي ديته فذلك دليل جواز صلح الإمام عن القود على الدية في حق من لا وارث له وإذا قتل الحر والعبد رجلا فوكل الحر ومولى العبد رجلا بالصلح فصالح ولي الدم عنهما على ألف درهم فعلى الحر نصف الألف وعلى مولى العبد نصفها لأن الوكيل نائب عنهما فصلحه كصلحهما وهذا لأن الصلح اعتياض عن الجناية وهما في الجناية وفي موجبها سواء يعني الحر عن نفسه والمولي عن عبده فيستويان فيما يلزمهما من العوض وإذا قتل العبد رجلا وله وليان فصالح مولاه أحدهما عن نصيبه من الدم على العبد فالصلح جائز ويقال للذي صار له العبد ادفع نصفه إلى شريكك أو أفده بنصف الدية على أن يسلم لك العبد لأن المصالح أسقط نصيبه من القود بعوض وهو العبد فصح ذلك ثم تعذر على الآخر استيفاء القود فانقلب نصيبه مالا وعند انقلاب نصيبه مالا العبد في ملك المصالح فهو المخاطب بدفع نصف العبد إليه أو الفداء بنصف الدية لأن نصيبه حين انقلب مالا كان لجناية الخطأ من العبد يتعلق برقبته ويخاطب مولاه بالدفع أو الفداء وليس للعبد الآخر أن يضمن مولى العبد شيئا لأنه ما استحق مالا في ملكه وإنما استحق المال في ملك المصالح وحقه قائم لم يفوته المولي عليه فلهذا لا يضمن له شيئا ولو صالحه على عبد آخر مع ذلك لم يكن له في العبد الآخر حق لما بينا أن المصالح إنما أسقط حقه من القود بعوض فلا يكون للآخر أن يشاركه في العوض فإنما يثبت حقه في نصيب العبد الجاني لا بالصلح ثم يتعذر استيفاء القود منه وذلك غير موجود في العبد الآخر.
ولو صالحه على نصف العبد القاتل جاز وصار العبد بين المولي والمصالح نصفين ثم

 

ج / 21 ص -16-        انقلب نصيب الآخر مالا واستحق به نصفا شائعا من العبد في النصفين جميعا فيدفعان نصفه إلى الولي الآخر أو يفديانه بنصف الدية ولو صالحه على دراهم أو شيء من المكيل أو الموزون حالا أو مؤجلا فهو جائز ولا حق للآخر في ذلك لأن العاقد في الصلح عاقد لنفسه ولكنه يتبع العبد القاتل حتى يدفع إليه مولاه نصفه أو يفديه بنصف الدية لأن نصيبه انقلب مالا وهو في ملك مولاه على حاله والأمة والمدبرة وأم الولد في الصلح عن قتل العمد سواء لأن الواجب عليهم القود والمنفعة في الصلح للمولي من حيث إن كسبهم يسلم له وإذا قتل العبد رجلا خطأ فصالح المولي ولي الدم من ذلك على أقل من الدية أو على عروض أو على شيء من الحيوان بعينه فهو جائز ولشركائه أن يشاركوه في ذلك المال بمنزلة ما لو كان القاتل حرا وصالحه بعض الأولياء وهذا لأن أصل الواجب بقتل العبد ما هو الواجب بقتل الحر وهو الدية فإنه بدل المتلف إلا أن المولي يتخلص بدفع العبد إن شاء وكيف ما كان فهو مال مشترك بينهم.
وإذا صالح أحد الشركاء عن الدين المشترك كان للباقين حق المشاركة معه فيه وإذا قتلت الأمة رجلا خطأ وله وليان ثم ولدت الأمة ابنا فصالح المولي أحد الوليين على أن يدفع إليه بن الأمة بحقه في الدم فهو جائز وللآخر على المولي خمسة آلاف درهم لأن حق أولياء الجناية لا يثبت في ولدها لما عرف أن هذا ليس بحق متأكد لهم في عينها فصلح إحداهما على ولدها كصلحه على عبد آخر له وذلك منه بمنزلة اختيار الفداء واختيار الفداء في نصيب أحدهما يكون اختيارا في نصيب الآخر لأن الجناية واحدة فلا تتجزأ في اختيار الفداء ولو صالحه على أن يدفع إليه ثلث الأمة لحقه من الدم كان جائزا أو يدفع إلى شريكه نصف الأمة أو يفديه بنصف الدية فلم يجعل اختياره الدفع في البعض اختيارا في الكل في رواية هذا الكتاب وفي رواية الجامع والعتق في المرض قال اختياره في الدفع في نصيب أحدهما يكون اختيارا في نصيبهما كما في الفداء وتلك الرواية أصح وتأويل ما ذكر هنا إن أحدهما صالحه على ثلث الأمة وذلك دون حقه فمن حجة المولي أن يقول للآخر إنما اخترت الدفع في نصيبه لأنه تجوز بدون حقه وأنت لا ترضى بذلك فلا يلزمني بذلك تسليم جميع حقك إليك من الأمة ولكن في الحال في نصيبك حتى لو كان صالح أحدهما على نصف الأمة كان اختيارا منه الدفع في نصيب الآخر وما سوى هذا من الكلام فيه قد بيناه في إملاء شرح الجامع.
وإن قتل المدبر قتيلا عمدا فصالح عنه مولاه بألف درهم وهي قيمته جاز لأن المولي من مدبره كان بمنزلة الحر في نفسه فيصح منه التزام العوض عن القود المستحق عليه وإن قتل آخر خطأ فعلى مولاه قيمة أخرى بخلاف ما إذا كانت جنايته الأولى خطأ من قتل فإن في الخطأ المستحق نفس المملوك على المولي دفعا بالجناية وبالتدبير السابق صار مانعا دفع الرقبة على وجه لم يصر مختارا فيلزمه القيمة وهو ما منع إلا رقبة واحدة فلا يلزمه باعتباره إلا

 

ج / 21 ص -17-        قيمة واحدة فأما هنا فالمستحق بالجناية الأولى نفس العبد قودا والمولي بالتدبير غير مانع استيفاء القود منه فإنما لزمه المال بالتزامه بالصلح وهو سبب آخر سوى منع الرقبة فلا يؤثر ذلك فيما يلزمه بسبب منع الرقبة بالتدبير.
ولأن حق ولي الخطأ لا يثبت في بدل الصلح فلا بد من إثباته في القيمة على المولي وإذا كانت الجنايتان خطأ فحق الثاني يثبت في الجناية الأولى لاتحاد سبب استحقاقهما للقيمة وهو منع الرقبة بالتدبير السابق فلا يجب على المولي شيء آخر فإن صالح المولي الآخر على عبده ودفعه إليه ثم قتل آخر خطأ فولي الدم الآخر يتبع الذي أخذ العبد حتى يدفع إليه نصفه أو نصف قيمة المدبر لأن القيمة صارت مشتركة بينهما وقد صالح أحدهما عن جميعه على عبد وأحد الشريكين في الدين إذا صالح عن جميع الدين على عبد فللآخر أن يرجع عليه بنصف الدين إلا أن يختار المصالح دفع نصف العبد إليه وقد بينا معنى هذا الخيار فيما سبق وإذا كان ذلك بقضاء قاض أو بغير قضاء فهو سواء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وكذلك في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان بقضاء قاض وإن كان بغير قضاء فلولي الدم أن يتبع المولي بنصف قيمة العبد المدبر ويرجع المولي على المصالح بنصف العبد الذي دفع إليه إلا أن يعطيه نصف قيمة العبد المدبر والخيار فيه إلى الذي في يده العبد وأصل هذا فيما إذا كان دفع القيمة إلى الأول بغير قضاء قاض وهي مسألة كتاب الديات نبينها ثمة إن شاء الله تعالى وقيل ينبغي أن يكون الجواب هنا قولهم في الفرق بين قضاء القاضي وغير القضاء لأن الصلح وقع على خلاف الحق وهما يسويان بين القضاء وغير القضاء فيما إذا وقع إلى الأول عين الواجب وما يقضي به القاضي لو رفع الأمر إليه وهذا موجود هنا ولو كان لم يصالحه على العبد ولكن القاضي قضى له بالقيمة فاشترى به العبد ثم قتل آخر فإنه يكون له على المشتري نصف المدبر ولا خيار للمشتري في ذلك ولا ضمان على البائع فيه لأن القاضي قضي بالقيمة للأول فيتعينحق الثاني فيما قضي به القاضي للأول فلهذا لا ضمان على البائع كما لو كان دفع القيمة إلى الأول بقضاء قاض ثم على المشتري نصف قيمة المدبر هنا من غير خيار له في ذلك بخلاف ما إذا أخذ العبد بطريق الصلح لأن مبني الشراء على الاستقضاء فيصير به في معنى المستوفي بجميع القيمة فيرجع الآخر عليه بنصفه ومبنى الصلح على الإغماض عفو فقد رضي بدون حقه حين أخذه صلحا فلهذا يكون له الخيار بين أن يعطي الآخر نصف ما قبضه صلحا وبين أن يغرم له نصف قيمة المدبر.
وتوضيحه إن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه بل بمثله ثم يصير قصاصا ولهذا لو صح الشراء بالدين المظنون فصار هو بطريق الشراء مستوفيا قيمة المدبر بالمقاصة فيلزمه دفع نصفها إلى الثاني والصلح يتعلق بالدين المضاف إليه ولهذا لو صالح عن الدين المظنون ثم ظهر أنه لا دين يبطل الصلح إذا لم يرض المصالح به فهو بطريق الصلح لا يصير مستوفيا إلا للعبد فلهذا كان له الخيار بين أن يدفع نصف العبد إلى الثاني وبين أن يغرم له نصف القيمة

 

ج / 21 ص -18-        وإذا قتل المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر خطأ فعلى مولاه قيمته بينهما أثلاثا لأن حق صاحب العين في نصف الدين وحق ولي الدم في جميع الدية وعلى المولي قيمة واحدة فيضرب كل واحد منهما فيها بمقدار حقه فإن صالح المولي صاحب العين على مائة درهم وقيمته ستمائة فالمسئلة على ثلاثة أوجه.
أحدها أن يصالح على مائة ويبرئه عن المائة الأخرى قبل القبض والقسمة والثالث أن يبرئه عن المائة الأخرى بعد القبض قبل القسمة أما إذا قبض المائة ولم يبرئه عن المائة الأخرى فإنهما يقسمان هذه المائة أثلاثا على مقدار حقهما فإن إبراءه عن المائة الأخرى بعد القسمة لا يتغير بتلك القسمة لأن جميع حقه كان ثابتا عن القبض والقسمة فبالإسقاط بعد ذلك لا تبطل القسمة كمن مات وعليه لرجل ألف درهم وللآخر ألفا درهم وترك ألف درهم فاقتسما ها أثلاثا ثم أبرأه أحدهما عن بقية دينه وأما إذا صالح على المائة وأبرأه عما بقي قبل القبض والقسمة فهذه المائة تقسم بينهما أخماسا خمسها لصاحب العين وأربعة أخماسها لولي الدم لأن القيمة الواجبة وهي ستمائة كانت بينهما أثلاثا لولي الدم أربعمائة ولصاحب العين مائتان فحق صاحب العين بقي في مائة لأنه أسقط حقه في المائة فإنما يقسم المقبوض بينهما على قدر حقهما عند القبض وعند القبض حق ولي الدم أربعمائة وحق صاحب العين في مائة فإذا جعلت كل مائة بينهما كان قسمة المقبوض بينهما أخماسا فأما إذا قبض المائة ثم أبرأه عن المائة الأخرى قبل القسمة ففي قول أبي يوسف رحمه الله تقسم هذه المائة بينهما أثلاثا لأن قسمة المقبوض بينهما باعتبار القبض وعند ذلك حق صاحب العين في مائتين فوجب قسمة المقبوض بينهما أثلاثا ثم الإبراء في ذلك لا يغير الحكم الثابت في المقبوض كما لا يغير في المقسوم وهذا لأن صاحب العين قد تم استيفاؤه في مقدار نصيبه من المقبوض قسم بينهما أو لم يقسم فإنما يظهر حكم إبرائه فيما بقي ثم رجع فقال لصاحب العين خمس المقبوض لأن القسمة تكون على مقدار القائم من حق كل واحد منهما وقت القسمة وعند القسمة حق صاحب العين في المائة وحق الآخر في أربعمائة كان هذا والإبراء قبل القبض في المعنى سواء وهو قول محمد رحمه الله ولو لم يقض لهما بشيء حتى صالحهما على عبد ودفعه إليهما كان العبد بينهما على ثلاثة لأنه بدل ما استوجباه من القيمة وحكم البدل حكم المبدل ولو استوفيا القيمة اقتسماه أثلاثا فكذلك إذا صالحهما على العبد وأم الولد بمنزلة المدبر في حكم الجناية لأن المولي أحق بكسبها وقد صار مانعا دفع رقبتها بالاستيلاد السابق على وجه لم يصر مختارا وكانت بمنزلة المدبر في ذلك.
وإذا قتل المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر فصالحهما المولي على عبد دفعه إليهما فاختلفا فقال كل واحد منهما أنا ولي الدم فعلى كل واحد منهما البينة لأن كل واحد منهما يدعي الزيادة في المستحق من القيمة على المولي لنفسه فإن لم تقم لهما بينة فالعبد بينهما نصفان لاستوائهما في سبب استحقاقه فكل واحد منهما في احتمال إنه ولي الدم مثل صاحبه فإن

 

ج / 21 ص -19-        قال مولي المدبر لأحدهما أنت ولي القتل فالقول قوله مع يمينه لأن استحقاق القيمة عليه وقد أقر لأحدهما بالزيادة وإقرار المرء في المستحق عليه مقبول وقد أنكر حق الآخر في الزيادة فالقول قوله مع يمينه وإذا أقر المدبر بقتل فإقراره جائز بإقرار القن لأن المستحق نفسه قصاص وهو خالص حقه والتهمة منتفية عن إقراره لما يلحقه من الضرر في ذلك فإن صالح مولاه عنه أحد وليي الدم على ثوب فهو جائز وللآخر نصف قيمة المدبر على المولي إن قامت له بينة أو أقر المولي بذلك وإن لم تقم له بينة لم يكن له شيء لأن المولي بالإقدام على الصلح لم يصر مقراً.
ألا ترى أن دعوى القصاص لو كانت عليه لرجلين فصالح أحدهما مع الإنكار لا يصير بهذا الصلح للآخر بشيء وإقرار المدبر في استحقاق المال بجنايته غير مقبول لأن ذلك إقرار على المولي وبعد ما صالح أحدهما المستحق للآخر حصته من المال فلا يثبت ذلك بإقرار المدبر ما لم يقر المولي بذلك أو يقيم عليه البينة وإذا قطعت المرأة يد رجل عمدا فصالحها من الجراحة على أن يتزوجها فالنكاح جائز فإن أبرأه من ذلك فهو أرش ذلك لأن القصاص لا يجري بين الرجال والنساء فيما دون النفس فإن برأ تبين أن الواجب له عليها خمسة آلاف وذلك مال يصلح أن يكون مهرا وكان ذلك مهرها وإن مات من ذلك فلها مهر مثلها وعليها الدية في مالها في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه تبين أن الواجب له عليها القصاص والقصاص لا يصلح أن يكون صداقا لأنه ليس بمال فكان لها مهر مثلها لذلك.
ثم التزويج على اليد والضربة أو الجراحة أو القطع بمنزلة الصلح وقد بينا أن في الصلح بهذه الألفاظ يتبين بطلان الصلح بالسراية عند أبي حنيفة رحمه الله وفي القياس يجب القصاص وفي الاستحسان تجب الدية وعندهما الصلح صحيح فها هنا كذلك عندهما القود ساقط ولا شيء عليها وعند أبي حنيفة رحمه الله عليها الدية في مالها استحسانا لأن العاقلة لا تعقل العمد وإن كان القتل خطأ فالدية على عاقلتها عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه سمى اليد في التزويج وبين أن حقه كان في النفس فلهذا كانت الدية على عاقلتها عند أبي حنيفة رحمه الله وليس لها منه شيء لأنها قاتلة ولا ميراث للقاتل وإن كان تزوجها على الجناية وهي عمد ثم مات فقول أبي حنيفة رحمه الله هنا كقولهما أن القود يسقط لأن اسم الجناية يتناول النفس وما دونها ولها مهر مثلها لأن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا وكذلك لو قال علي الضربة وما يحدث منها أو الجراحة وما يحدث منها وإن مات من ذلك وهو خطأ فإنه يدفع عن عاقلتها مهر مثلها من ذلك لأن التسمية صحيحة باعتبار أن المسمى مال وهو الدية وقد تناوله لفظة بدل النفس وما دونه إلا إذا كان مهر مثلها ألفا فما زاد على ذلك لا يستحقه لأنه صاحب فراش فالزيادة على قدر مهر المثل بمنزلة الوصية منه لها والوصية منه لها وصية لقاتل فالمستحق لها مقدار مهر مثلها يدفع عن العاقلة من ذلك بقدر ثلثه لأن ذلك وصية منه لعاقلتها على ما بينا أن الدية على العاقلة فيصح بقدر الثلث ولا ميراث لها لأنها قاتلة

 

ج / 21 ص -20-        وإن طلقها قبل الدخول أخذ من عاقلتها نصف الدية لأن نصف المسمى سقط بالطلاق قبل الدخول ونظر إلى النصف الباقي فيرجع منه عن عاقلتها نصف مهر مثلها لأن الاستحقاق لها في مقدار مهر المثل صحيح وبقي نصف ذلك لها بعد الطلاق ولا تعقل العاقلة عنه لها فيدفع ذلك عنهم ثم ينظر إلى ثلث ما ترك الميت ويدفع ذلك عن العاقلة لأنه كان موجبا بذلك لعاقلتها فتعتبر من الثلث وتؤدي العاقلة ما بقي بعد ذلك فيكون لورثته.
ولو أن رجلا جرح رجلا جراحة عمدا فتزوجت أخت الجارح المجروح على أن مهرها الجراحة على أن ذلك لها خاصة دون أختها فالنكاح جائز وإن بريء فهو عفوولها مهر مثلها على الزوج لأن الواجب هو القصاص وقد صار المجروح مسقطا لحقه بهذه التسمية إلا أن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا فكان لها مهر مثلها على الزوج وإن كانت الجراحة لا يستطاع فيها القصاص أو كان ذلك خطأ فأرش ذلك مهرها في مال الزوج لأن الأرش مال يصلح أن يكون صداقا فتصح التسمية وإن كان ذلك دينا للزوج في ذمة الجارح ولكن الصداق يجب في ذمة من ثبت له الملك وهو الزوج دون الجارح وإن اشترطت العفو عن أخيها والبراءة له فلها مهر مثلها وأخوها بريء منه لأن الصداق لا يصير مملوكا لها بالتسمية فالعفو عن أختها والبراءة له لا يوجب الملك لها في شيء فيجعل في حقها كأنه تزوجها من غير تسمية المهر فلها مهر مثلها وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة وقد بريء أخوها بإبراء المجروح إياه في النكاح وإن كانت اشترطت أن تأخذ لنفسها فهو جائز فإن شاءت أخذته من الأخ وإن شاءت رجعت به على الزوج لأن المسمى مال يملكه بهذه التسمية فتصح التسمية وقد شرطت أن تأخذ ذلك من الجارح ولا بد من أن يجب الصداق بالنكاح على الزوج فإن شاءت أخذته من الزوج لصحة النكاح والتسمية وإن شاءت أخذته من الأخ بالشرط كما لو تزوجها على ألف درهم على أجنبي وضمن الأجنبي ذلك وإن طلقها قبل الدخول رجعت بنصف ذلك على أيهما شاءت لأن عند صحة التسمية يتنصف المسمى بالطلاق قبل الدخول.
 ولو شجت امرأة رجلا موضحة فصالحها على أن تزوجها على هذه الجناية فذهبت عيناها من ذلك فذلك كله مهرها لأن الواجب هو الأرش وقد بينا أن اسم الجناية يعم أصل الفعل والسراية فيكون ذلك كله مهرا لها وإن طلقها قبل الدخول تنصف ذلك كله ويرجع عليها بنصف أرش ذلك وإن كان ذلك عمدا ففي مالها وإن كان خطأ فعلى عاقلتها وإذا جرح الزوج امرأته عمدا فصالحته على أن اختلعت منه بذلك الجرح فذلك جائز إن برأت من ذلك لأنها سمت في الخلع ما هو حقها وإن ماتت فكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعند أبي حنيفة رحمه الله عليه الدية لأنها سمت ما ليس بحق لها فلا تصير هي مسقطة بهذه التسمية شيئا عن الزوج فيجب عليه الدية استحسانا ولا شيء له عليها من مهر المثل لأن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم وهي لم تغره في شيء فهو وما لو خالعها على خمر أو خنزير سواء بخلاف النكاح وقد بيناه.

 

ج / 21 ص -21-        وإن طلقها على ذلك طلقة ثم ماتت من ذلك فعليه الدية في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا وهو يملك الرجعة لأن الطلاق وقع بغيرجعل حين سمت ما لم يكن حقا لها وصريح لفظ الطلاق إذا كان بغير جعل لا يوجب البينونة بخلاف ما إذا كان بلفظ الخلع كما لو كان المسمى خمرا أو خنزيرا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ليس عليه دية والطلاق رجعي أيضا لأن المسمى بمقابلة الطلاق قصاص والقصاص ليس بمال فلا تقع البينونة باعتباره وإن طلقها على الجناية أو الجرح وما يحدث منه فماتت وهو عمد فهو جائز والطلاق رجعي لأنه مثل العفو عن القصاص وذلك ليس بمال فإن قيل العفو عن القصاص متقوم حتى يصلح أن يكون بدلا في الصلح عن القصاص على ما بينا وإذا كان لكل واحد منهما على صاحبه قصاص فاصطلحا على أن عفى كل واحد منهما عن صاحبه جاز ذلك فكذلك يصلح أن يكون بدلا عن الطلاق فينبغي أن يكون الطلاق ثابتا قلنا وقوع البينونة عند صريح لفظ الطلاق باعتبار ملك الزوج ما له عليها وذلك لا يوجد هنا لأن العفو إسقاط والمسقط يصلح بدلا في الصلح عن دم العمد ولكن الطلاق لا يصير بائنا باعتبار الإسقاط إذا لم يكن فيه معنى التمليك.
كما لو كان تحت رجل امرأة وأمته تحت عبدها فطلق امرأته على أن طلق عبدها أمته فإن كل واحد من الطلاقين يكون رجعيا باعتبار هذا المعنى وإن كان الفعل خطأ فالدية على عاقلته ويرجع عليهم بالثلث من تركتها لأنها سمت المال والمريضة إذا اختلعت من زوجها بمال يعتبر ذلك من الثلث وذلك وصية منها لعاقلة الزوج فيكون صحيحا ويؤخذ منهم الباقي والطلاق بائن لأنه وقع بجعل ولا ميراث له لأنه قاتل وإذا جرح الرجل امرأة رجل خطأ فصالحها زوجها على أن طلقها واحدة على أن عفت له عن ذلك كله ثم ماتت منه فالعفو من الثلث لأنها سمت بمقابلة الطلاق ما هو ماله وهو الدية على عاقلة الجارح فيكون ذلك معتبرا من الثلث سواء كان بطريق الإسقاط أو التمليك والطلاق بائن لأنه وقع بمال إن كان عمدا فهو جائز كله والطلاق رجعي لأن الواجب هو القود والقود ليس بمال فلا يعتبر عفوها من الثلث وتسميته لا يثبت البينونة كالخمر.
ولو ضرب رجل سن امرأته فصالحها من الجناية على أن طلقها فهو جائز والطلاق بائن لأن الواجب مال فتسميته بمقابلة الطلاق يوجب البينونة اسودت السن أو سقطت سن ذلك من أخرى فلا شيء عليه لأن اسم الجناية يتناول الكل وإذا قتل المكاتب رجلا عمدا فصالح من ذلك على مائة درهم فهو جائز ما دام مكاتبا لأن المكاتب أحق بمكاسبه وهو بمنزلة الحر في صرف كسبه إلى إحياء نفسه بطريق الصلح عن القود فإن أدى فعتق فالمال لازم له لأن الكسب خلص بالعتق وإن عجز رد رقيقا فبطل المال عنه لأن بعد العجز الحق في كسبه ومالية رقبته لمولاه وقوله في استحقاق المالية على المولي لا يكون حجة فإن أعتق يوما من الدهر لزمه المال لأن التزامه في حق نفسه صحيح وإنما امتنعت صحته في حق المولي فإذا سقط

 

ج / 21 ص -22-        حق المولي كالعتق كان مطالبا به كالعبد إذا كفل بمال أو أقر به على نفسه وهو محجور عليه وزفر رحمه الله يخالفنا في هذا الفصل وموضع بيانه في كتاب الديات ولو صالح من ذلك على شيء بعينه له كان جائزا لأن المسمى كسبه وهو يملك صرفه إلى إحياء نفسه فإن كان الذي صالح عليه عبدا وكفل به كفيل فمات العبد قبل أن يدفعه كان لولي الدم أن يضمن الكفيل قيمته لأن بموت العبد لم يبطل الصلح وقد تعذر تسليم المسمى مع بقاء السبب الموجب له فتجب القيمة إن شاء رجع بهذه القيمة على المكاتب وإن شاء على الكفيل لأن بدل الصلح عن دم العمد مضمون بنفسه كالمغصوب فالكفيل به يكون كفيلا بقيمته بعد الهلاك وإذا كان العبد قائما فله أن يبيعه قبل أن يقبضه لأنه مضمون بنفسه فيجوز التصرف فيه قبل القبض كالصداق.
ولو صالحه من ذلك على مال مؤجل والقتل يثبته وكفل به كفيل ثم عجز ورد رقيقا لم يكن للطالب أن يأخذ المكاتب بشيء حتى يعتق لما بينا أن التزامه المال بالصلح عوضا عن إسقاط القود صحيح في حقه غير صحيح في حق المولي وبالعجز خلص الحق للمولي في كسبه ورقبته فلا يطالب بشيء حتى يعتق ولكنه يأخذ الكفيل لأن المال باق في ذمته ولكن يؤخر مطالبته به لقيام حق المولي وذلك لا يوجدفي حق الكفيل فكان هو مطالبا في الحال كما لو أقر العبد المحجور عليه بدين وكفل به كفيل وكذلك لو كان القتل بإقرار وولد المكاتب في ذلك بمنزلة المكاتب لأن حكم الكتابة ثابت فيه تبعا لأمه وإذا قتل المكاتب رجلا عمدا وله وليان فصالح أحدهما على مائة درهم وأداها إليه ثم عجز ورد في الرق ثم جاء الولي الآخر فالمولي بالخيار إن شاء دفعه أو دفع نصفه إلى الولي وإن شاءفداه بنصف الدية لأن بالصلح مع أحد الوليين سقط القود وانقلب نصيب الآخر مالا ولا يتم ذلك دينا في ذمة المكاتب إلا بقضاء القاضي بمنزلة جناية المكاتب وإذا كانت خطأ فإذا عجز قبل القضاء كان حقه في رقبته ويتخير المولي بين دفع النصف إليه والفداء بنصف الدية كما لو كانت الجناية خطأ في الابتداء ثم وجوب المال للآخر هنا كان حكما بسبب قتل ثابت بالمعاينة فلهذا يباع به بعد العجز بخلاف المال الواجب للمصالح فإن ذلك كان بالتزام المكاتب بدلا عما ليس بمال فلا يباع به بعد العجز ما لم يعتق بمنزلة إقراره بالجناية خطأ وإن لم يعجز ولكنه عتق ثم جاء الولي الآخر فإنه يقضي له على المكاتب بنصف قيمته دينا عليه لأن نصيب الآخر قد انقلب مالا وكان دفعه متعذرا عند ذلك وبالعتق قد تقرر وقوف الناس عن الدفع وكان حق الآخر في حصته من القيمة دينا في ذمته بمنزلة ما لو جنى المكاتب جناية خطأ ثم عتق.
ولو عفى أحد الوليين عن الدم بغير صلح فإنه يقضي على المكاتب أن يسعى في نصف قيمته للآخر لأن نصيب الآخر انقلب مالا لغير شريكه فصار في حقه كما لو كانت الجناية في الأصل خطأ وموجب جناية المكاتب في الخطأ قيمته لتعذر دفعه بالجناية مع بقاء الكتابة وذلك عليه دون المولي لأنه أحق بكسبه بخلاف المدبر وأم الولد لأن المولي أحق بكسبهما

 

ج / 21 ص -23-        وموجب الجناية على من يكون الكسب له فإن صالحه الآخر من ذلك على شيء بعينه جاز وهذا صلح عن مال هو دين على عين فيكون صحيحا ولكن لا يجوز تصرفه فيه قبل القبض لأنه بمنزلة البيع وإن صالحه على شيء بغير عينه وتفرقا قبل أن يقبض بطل الصلح لأنه دين بدين ولو صالحه على طعام بعينه أكثر من نصف قيمته جاز وكذلك العروض لأن الواجب عليه نصف القيمة من الدراهم والدنانير ولا ربا بينه وبين الطعام والعروض.
ولو صالحه على دراهم أو دنانير أكثر من نصف قيمته لم يجز بمنزلة ما لو صالح من الدين على أكثر من قدره من جنسه وقد بينا أن ذلك ربا ولو كفل له رجل بنصف القيمة جاز لأنه كفل بدين على المكاتب للأجنبي فإن صالحه الكفيل على طعام أو ثياب جاز ورجع الكفيل على المكاتب بنصف القيمة لأنه صار موفيا بهذا الصلح إذا كفل عنه بأمره ولو أعطاه المكاتب رهنا بنصف القيمة فهلك الرهن وفيه وفاء بنصف القيمة فهو بما فيه وإن كان فيه فضل بطل الفضل لأن في الفضل المكاتب بمنزلة المودع وذلك منه صحيح والله أعلم.

باب الشهادة في الصلح
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل في دار رجل دعوى فأقام الذي في يده الدار شاهدين شهدا أنه صالحه على شيء فرضي به منه ودفعه إليه فهو جائز وإن لم يسميا ما وقع عليه الصلح لأنه مقبوض وحكم الصلح ينتهي في المقبوض بالقبض وإنما يحتاج إلى التسمية فيما يستحق قبضه للتحرز عن الجهالة المانعة من التسليم وهذا لا يوجد في المقبوض وترك التسمية فيه لا يمنع العمل بالشهادة كترك التسمية فيما وقع الصلح عنه وكذلك لو سمي أحدهما دراهم ولم يسم الآخر شيئا وشهدا جميعا إنه استوفى جميع ما صالح عليه فهو جائز لأن تسمية أحدهما زيادة غير محتاج إليها فذكره والسكوت عنه سواء ولو جحد صاحب الدار وادعى الطالب الصلح وجاء بشاهدين فشهد أحدهما على دراهم مسماة وشهد الآخر على شيء غير مسمى أو تركا جميعا تسمية البدل لم تقبل الشهادة لأن المصالح عليه غير مقبوض فلا يتمكن القاضي من القضاء مع الجهالة فإن ادعى الطالب مائة وخمسين درهما وشهد له شاهد بها وشاهد بمائة درهم قضيت له بمائة درهم لأن دعواه في الحاصل دعوى الدين فالإسقاط قد حصل بإقراره وقد اتفق الشاهدان على المائة لفظا ومعنى فتقبل الشهادة إذا كان المدعي يدعي الأكثر وإن كان يدعي الأقل فلا تقبل الشهادة لتكذيب المدعي أحد شاهديه وإذا شهد أحدهما بمائة والآخر بمائتين لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله لاختلاف الشاهدين لفظا ومعنى وإن ترك بينة الصلح فالمدعى على حجته لأنه إنما أقر بسقوط حقه بعوض فإذا لم يقبل ذلك العوض فهو على حقه وحجته فإن شهد شاهد على صلح بمعاينة على دراهم مسماة وشهد الآخر على الإقرار بمثل ذلك فهو جائز لأن الصلح هو إقرار معناه أن صفة الإقرار والإنشاء في الصلح واحد كما في البيع وإن شهد أحدهما بالبيع والآخر بالإقرار به كانت الشهادة مقبولة والله تعالى أعلم.

 

ج / 21 ص -24-        باب الصلح في الدين
قال رحمه الله:وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على عبد بعينه فهو جائز والعبد للطالب يجوز فيه عتقه ولا يجوز فيه عتق المطلوب لأن الطالب ملكه بنفس الصلح والمصالح عليه كالمبيع وإعتاق المشتري في المبيع قبل القبض صحيح دون إعتاق البائع إياه وإن مات في يد المطلوب قبل أن يقبضه الطالب كان من مال المطلوب بمنزلة المبيع إذا هلك قبل القبض ويرجع الطالب بالدين لأن الصلح بطل لفوات قبض المبدل بموته وكذلك كل شيء بعينه لا يبطله افتراقهما قبل القبض لأنه افتراق عن عين بدين ولو صالحه على دنانير مسماة ثم افترقا قبل القبض بطل الصلح لأنه دين بدين والدين بالدين لا يكون عفوا بعد المجلس وكذلك إن كان الصلح على إنكار لأنه مبني على زعم المدعي وفي زعمه إنه صالحه من الدراهم على الدنانير فيكون ذلك صرفا يشترط فيه القبض في المجلس ولم يوجد وكذلك إن صالحه على مكيل أو موزون بغير عينه لأن في زعمه أنهما افترقا عن دين بدين وذلك مبطل للصلح.
ولو صالحه من الألف على مائة درهم وافترقا قبل القبض لم يبطل الصلح لما بينا أن تصحيح الصلح هنا بطريق الإسقاط لا بطريق المبادلة لأن مبادلة الألف بالمائة لا يجوز فيكون مسقطا بعض الحق بغير عوض وذلك صحيح مع ترك القبض فيما بقي بخلاف ما تقدم ولو صالحه من كر حنطة قرض على عشرة دراهم وقبض خمسة ثم افترقا بقي الصلح في نصف الكر بحساب ما قبض وبطل في النصف الآخر بحساب ما بقي لأنهما افترقا عن دين بدين وهذا فساد طارئ فيقتصر على ما وجد فيه عليه ولو صالحه على كر شعير بعينه ثم تفرقا قبل أن يقبضه فهو جائز لأنهما افترقا عن عين بدين ولو ابتاع رجل كرا من حنطة بكر من شعير بعينه وقبض الحنطة ولم يقبض الآخر الشعير حتى افترقا فهو جائز لأن البدل الذي هو دين تعين بالقبض في المجلس فالتحق بما لو كان عينا عند العقد والذي لم يقبض عين والتقابض في بيع الطعام بالطعام في المجلس ليس بشرط عندنا ولو كان الشعير بغير عينه فإن تقابضا قبل أن يتفرقا فهو جائز لأن تعينه بالقبض كبيعه عند العقد وإن تفرقا قبل أن يقبض فسد البيع لأن الدين في مبادلة الطعام بالطعام بعد المجلس لا يكون عفوا فإن الكيل بانفراده يحرم النساء وحرمة النساء كيلا يكون أحد البدلين دينا بعد المجلس فإن ترك القبض فيما هو دين حتى افترقا كان أحد البدلين دينا بعد المجلس وذلك مبطل للبيع والصلح جميعا.
اولو كان لرجل على رجل مائة درهم ومائة دينار فصالحه من ذلك على خمسين درهما وعشرة دنانير إلى شهر فهو جائز لأنه حط وليس ببيع فإن الطالب أسقط بعض حقه من كل واحد من المالين وأجله في الباقي فالإحسان من جهته خاصة في الحط والتأجيل وليس فيه من معنى المبادلة شيء وكذلك لو صالحه من ذلك على خمسين درهما حالة أو إلى أجل فهو جائز لأنه أسقط جميع حقه من الدنانير وبعض حقه من الدراهم وأجله فيما بقي منه وذلك

 

ج / 21 ص -25-        مستقيم وكذلك لو صالحه على خمسين درهما فضة تبرا بيضاء حالا أو إلى أجل لأن ما وقع عليه الصلح من جنس حقه فصحة الصلح بطريق الإسقاط دون المبادلة وكذلك لو كانت دراهمه سودا فصالحه منها على خمسين غلة حالة أو إلى أجل لأن التبرع كله من جانب صاحب الحق فإنه أبرأه عن البعض وتجوز بدون حقه فيما بقي وأجله فيما بقي أيضا فلا تتحقق معنى المبادلة بينهما بوجه وكذلك لو كانت له عليه مائة درهم بخية وعشرة دنانير فصالحه من ذلك على خمسين درهما سودا حالة أو إلى أجل فالتبرع كله من جهة صاحب المال.
ولو صالحه من ذلك على مائة درهم وعشرة دراهم إلى أجل لم يجز لأن العقد صرف فيما زاد على المائة الدرهم فإنه مبادلة عشرة دراهم بعشرة دنانير وهو صرف والتأجيل في عقد الصرف مبطل للعقد وإنما أجله في المائة الدرهم بشرط أن يسلم له مقصوده في الصرف ولم يسلم فلهذا لم يثبت التأجيل في شيء وإن كانت حالة وقبضها قبل التفرق جاز وكذلك إن قبض عشرة دراهم ثم افترقا لأن المصارفة بينهما في هذا المقدار وإنما يجعل المقبوض مما كان قبضه مستحقا بعقد الصرف وإن صالحه على مائة درهم وعشرة دراهم على أن ينقد خمسين درهما وستين إلى أجل ولم ينقده الخمسين قبل التفرق جاز في قول أبي يوسف رحمه الله ولم يجز في قول محمد رحمه الله لأن العقد في العشرة مع الدنانير صرف وقد شرط في عقد الصرف التأجيل في بعض المائة وفيه منفعة لأحد المتعاقدين فاشتراطه في عقد الصرف يفسد الصرف وأبو يوسف رحمه الله يقول إن بدل الصرف حال مقبوض في المجلس واشتراط الأجل في ستين من المائة محتمل يجوز أن يكون على وجه البراء المبتدأ ويجوز أن يكون ذلك شرطا في عقد الصرف فمع الاحتمال لا يفسد عقد الصرف وهذا لأنه قال ستين إلى أجل ولم يقل وعلى ستين إلى أجل ومقصود المتعاقدين تصحيح العقد فإن حملناه على الإبراء المبتدأ صح العقد وإن حملناه على الشرط لم يصح.
ولو صالحه على خمسين درهما وخمسة دنانير إلى أجل جاز ذلك لأنه أسقط بعض كل واحد من المالين وأجله فيما بقي من كل واحد منهما فالتبرع كله من جهة صاحب المال وكذلك الحكم في المكيلات والموزنات وإن كان لرجل على رجل كر حنطة فصالحه بعد إقرار أو إنكار على نصف كر حنطة ونصف كر شعير إلى أجل فالصلح كله باطل لأن في حصة الشعير العقد مبادلة نصف كر حنطة بنصف كر شعير والقدر بانفراده يحرم النساء فيفسد العقد ثم اشتراط ما بقي من الأجل في الحنطة إنما كان بناء على حصول مقصودهما في العقد على الشعير وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي فهو وما لو كان الصلح على الإقرار سواء ولو لم يضرب لذلك أجلا أو كان الشعير معيبا والحنطة بغير عينها كان جائزا وإن تفرقا قبل القبض لأن مبادلة الحنطة التي هي دين بالشعير بعينه جائزة وإن كان الشعير بغير عينه فإن قبضه قبل التفرق جاز وإن كانت بالحنطة مؤجلة أو حالة قبضها لأن الشعير قد تعين في المجلس كالمعين عند العقد

 

ج / 21 ص -26-        ومعنى قوله إن كانت الحنطة مؤجلة في الأصل إلا أن يكون مراده أنه أجله في الحنطة فإن ذلك يفسد العقد عند محمد رحمه الله لأنه شرط في مبادلة الحنطة بالشعير التأجيل في النصف الآخر من الحنطة وذلك مفسد للعقد فعرفنا أن مراده أن صفة الدينية والتأجيل في الحنطة لا يمنع جواز هذا العقد وإن فارقه قبل أن يقبض الشعير بطل الصلح في حصة الشعير لأنه دين بدين فلا يكون عفوا بعد المجلس فإن قيل حصة الشعير من الحنطة صارت في حكم المقبوض لمن عليه حين سقط عنه فكيف يكون دينا بدين قلنا صار مقبوضا دينا والدين بالسقوط يصير في حكم المقبوض المتلف ولكن لا يتعين ولو كان عليه ألف درهم فضة تبرا بيضاء فصالحه منها على خمسمائة فضة تبرا سوداء إلى أجل فهو جائز وهو حط لا بيع لأن الفضة كلها جنس واحد فيكون صاحب الحق مبرئا عن بعض الحق من الألف ومتجوزا بدون حقه فيما بقي.
ولو صالحه على خمسمائة درهم مضروبة وزن سبعة إلى أجل لم يجز لأن المضروب أجود من التبر فتمكن بينهما معاوضة من حيث إن صاحب الحق أبرأه عن خمسمائة وأجله فيما بقي وذلك كله فيما بقي والجودة التي شرطها لنفسه فيما بقي ومبادلة الجودة في الأجل والقدر ربا ولو كان له عليه ألف درهم غلة فصالحه منها على ألف درهم بخية حالة فإن قبض قبل أن يتفرقا جاز لأن مبادلة البخية بالغلة صرف فإذا وجد القبض في المجلس جاز العقد وإن تفرقا قبل القبض بطل وإن جعلا لها أجلا بطل وكذلك إن كان الصلح على خمسمائة بخية في جميع ذلك في قول أبي يوسف الأول رحمه الله معناه إذا قبض خمسمائة في المجلس جاز وإن فارقه قبل القبض فعليه خمسمائة درهم من دراهمه الأولى وقد بريء مما سوى ذلك لأنه يجعل هذا إبراء من الطالب للمطلوب من خمسمائة وإحسانا من المطلوب في قضاء ما بقي وإنما جزاء الإحسان الإحسان لما بينا أنه إن حمل هذا على مبادلة بعض القدر بالجودة لم يصح وإن حمل على البراء المبتدأ صح ومقصودهما تصحيح العقد فعند الاحتمال يتعين الوجه الذي يحصل فيه مقصودهما وإذا فارقه قبل القبض فعليه الخمسمائة من دراهمه الأولى لأنه وعده أن يعطيه ما بقي أجود والإنسان مندوب إلى الوفاء بالوعد من غير أن يكون ذلك مستحقا عليه وقد تمت البراءة عن الخمسمائة حين لم تمكن معنى المعاوضة بينهما.
ثم رجع أبو يوسف رحمه الله فقال الصلح فاسد وهو قول محمد رحمه الله لأنهما بادلا صفة الجودة في الخمسمائة الباقية ببعض القدر وهي الخمسمائة التي أبرأه عنها وذلك ربا وإنما يتأتى حمله على البراء المبتدأ إذا لم يذكرا ذلك على وجه المعاوضة والشرط بينهما فأما مع الذكر على وجه المعاوضة فلا يمكن حمله على البراء المبتدأ ولو كان لرجل على رجل دراهم لا يعرفان وزنها فصالحه منها على ثوب أو غيره جاز لأنه صار مشتريا للثوب وجهالة مقدار الثمن فيما يحتاج إلى قبضه لا يمنع جواز البيع إذا كان بعينه ففيما لا

 

ج / 21 ص -27-        يحتاج إلى قبضه أولى وإن صالحه على دراهم فهو فاسد في القياس لأنه مبادلة الدراهم بالدراهم من غير معرفة الوزن فمن الجائز أن يكون ما يستوفي أكثر من أصل حقه قدرا فيكون ذلك ربا وفي الاستحسان يجوز الصلح لأن مبني الصلح على الحط والإغماض والتجوز بدون حقه فلفظة الصلح دليل على أنه استوفى دون حقه فصح بطريق الإسقاط وكذلك إن جعل لها أجلا لأنه أسقط بعض القدر وأجله فيما بقي والتبرع كله من الطالب.
ولو كان بين رجلين أخذ وعطاء وبيوع وقرض وشركة فتصادقا على ذلك ولم يعرف الحق كم هو للطالب عليه ثم صالحه على مائة درهم إلى أجل فهو جائز استحسانا لأن لفظة الصلح دليل على أن حقه أكثر مما وقع الصلح عليه وقد تبرع بالتأجيل فيما بقي ولو ادعى قبل رجل وديعة دراهم بأعيانها في المدعى عليه فصالحه الطالب على دراهم دونها فهو جائز لأن الوديعة بالجحود صارت دينا أو صارت مضمونة كالمغصوبة فيمكن تصحيح الصلح بينهما بطريق الإسقاط ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم وقبضها ثم استحقت المائة من يدي الطالب رجع بمثلها لأنه صار مبرئا له عن تسعمائة مستوفيا للمائة فبالاستحقاق ينتقض قبضه فيما صار مستوفيا له فيرجع بمثله والبراءة تامة فيما أسقط سواء كان الصلح بإقرار أو إنكار وكذلك لو كان وجدها ستوقة أو نبهرجة ردها ورجع بمائة جاز لانتقاض قبضة بالرد في المستوفي وكذلك لو كانت عليه مائة درهم بخية فصالحه منها على خمسين درهما فقبضها فوجدها بخية نبهرجة أو وجدها سوداء فله أن يستبدلها ببخية لأنه في الخمسين مستوف فإذا كان دون حقه رده واستبدل بمثل حقه والبراءة تامة في الخمسين الأخرى.
وكذلك لو كانت له عليه عشرة دنانير فصالحه على خمسة دنانير وقبضها فوجدها حديدا لا ينفق أو مقطعة لا تنفق فله أن يستبدلها بجياد مثل حقه والبراءة تامة في الخمسة الأخرى ولو صالحه من الدنانير على دراهم وقبضها ثم استحقت قبل التفرق رجع بالدنانير لأن العقد بينهما صرف فإذا انتقض قبضه بالاستحقاق من الأصل بطل الصرف ورجع بالدنانير ولو صالحه من دراهم له عليه على فلوس وقبضها فتفرقا ثم استحقت رجع بالدراهم لأن القبض قد انتقض في المستحق من الأصل ويتبين أنهما افترقا عن دين بدين وذلك مبطل للعقد وكذلك إن وجدها من ضرب لا ينفق لأنه تبين إنه صار مستوفيا حقه في المقبوض وكذلك لو كان عليه حنطة فصالحه من ذلك على شعير وقبضه وتفرقا ثم استحق من يده أو وجد به عيبا فرده رجع بالحنطة لأن قبضه انتقض في المردود فظهر إنه دين بدين بعد المجلس ولو صالحه على كر شعير وسط وأعطاه إياه ثم استحق منه قبل أن يتفرقا رجع بمثله لأن قبضه انتقض بمثله في المستحق فكأنه لم يقبضه حتى الآن وصفة الدينية في المجلس لا تضر فلهذا رجع بمثل ذلك الشعير.
ولو كان له عليه كر حنطة قرضا أو غصبا فصالحه على عشرة دراهم ودفعها ثم استحقت

 

ج / 21 ص -28-        الدراهم أو وجدها ستوقة بعد ما افترقا فردها بطل الصلح لأن القبض في المستحق انتقض من الأصل والستوقة ليست من جنس حقه فتبين أنه دين بدين بعد المجلس ولو وجدها زيوفا أو نبهرجة فردها كان ذلك فاسدا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يستبدلها قبل أن يتفرقا من مجلسهما الثاني وهو بناء على ما إذا وجد رأس مال السلم وبدل القرض زيوفا بعد الافتراق فردها وقدمنا ذلك في البيوع ولو كانت له عليه عشرة دراهم وكرا حنطة قرضا فصالحه من ذلك على أحد عشر درهما ثم فارقه قبل أن يقبض انتقص من ذلك درهما وأخذ حصة الطعام لأنه مبادلة الحنطة بالدراهم فإذا لم يقبض الدراهم في المجلس كان دينا بدين وبعد فساد العقد تبقي عليه الدراهم والطعام على حاله.
ولو كان له عليه ألف إلى أجل فصالحه منها على خمسمائة درهم ودفعها إليه لم يجز لأن المطلوب أسقط حقه في الأجل في الخمسمائة والطالب بمقابلته أسقط عنه خمسمائة فهو مبادلة الأجل بالدراهم وذلك لا يجوز عندنا وهو قول بن عمر رضي الله عنهما فإن رجلا سأله عن ذلك فنهاه ثم سأله ثم نهاه ثم سأله فقال إن هذا يريد أن أطعمه الربا وهو قول الشعبي رحمه الله وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يجوز ذلك وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه استدلالا بحديث بني النضير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلاهم قالوا إن لنا ديونا على الناس فقال صلوات الله عليه
:"ضعوا وتعجلوا" وكنا نحمل ذلك على أنه كان قبل نزول حرمة الربا ثم انتسخ بنزول حكم الربا فإن مبادلة الأجل بالمال ربا.
ألا ترى أن الشرع حرم ربا النساء وليس ذلك إلا شبهة مبادلة المال بالأجل فحقيقة ذلك لا يكون ربا حراما أولى ولو كان له عليه ألف درهم مؤجلة ثمن خادم فصالحه على أن يردها عليه بخمسمائة قبل الأجل أو بعده غير إنه لم ينتقدها أو انتقدها إلا درهما منها فهو فاسد عندنا لأنه شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن وقد بينا ذلك في البيوع وذكرنا إنه لو كان بعيب عند المشتري جاز ذلك لأن الربح لا يظهر إذا عاد إليه لا على الوجه الذي خرج من ملكه ولو ادعى عليه ألف درهم فأقر بها أو أنكرها فصالحه منها على مائة درهم إلى شهر على أنه إن أعطاها إلى شهر فهو بريء مما بقي وإن لم يعطها إلى شهر فمائتا درهم لم يجز لأنه في معنى شرطين في عقد حين لم يقاطعه على شيء معلوم وهو مبادلة الأجل ببعض المقدار أيضا فيكون ربا حراما وكذلك لو قال أصالحك على مائتي درهم إلى شهر فإن عجلتها قبل الشهر فهي مائة فهذا والأول سواء وكذلك لو صالحه على أحد شيئين سماهما أو أشار إليهما ولم يعزم على أحدهما لم يجز لتمكن الجهالة فيما وقع عليه الصلح والمصالح عليه بمنزلة المبيع فكان هذا في معنى صفقتين في صفقة.
وكذلك لو كان الصلح من أحد الشيئين على الشك أو مع أحد هذين الرجلين على الشك لأن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة ولو أقر له بألف درهم ثم صالحه منها على عبد على أن يخدم الرجل المدعي عليه شهرا لم يجز لأن المصالح عليه مبيع وقد شرطا التأجيل في تسليمه

 

ج / 21 ص -29-        شهرا أو شرط البائع لنفسه منفعة لا يقتضيها العقد وكذلك لو صالحه على دار واشترط سكناها شهرا أو صالحه على عبد على أن يدفعه إليه بعد شهر وكذلك لو صالحه على ثوب على أن يعطيه قميصا ويخيطه أو صالحه على طعام على أن يطبخه له أو يحمله إلى منزله لأنه شرط منفعة لا يقتضيها العقد وذلك مفسد للبيع فكذلك الصلح وإن صالحه على طعام بعينه في الكوفة على أن يوفيه إياه في منزله فهو جائز استحسانا بخلاف ما لو شرط أن يوفيه بالبصرة وقد تقدم بيان هذه الفصول في البيوع والله تعالى أعلم بالصواب.

باب الخيار في الصلح
قال رحمه الله: اعلم بأن حكم خيار الشرط في الصلح كهو في البيع في جميع الفصول لأن الصلح عقد يعتمد التراضي ويمكن فسخه بعد انعقاده كالبيع وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على عبد على أن زاده المدعي عشرة دنانير إلى شهر واشترطا الخيار ثلاثة أيام فهو جائز لأنه اشترى العبد بألف درهم وعشرة دنانير واشتراط الخيار في مثل هذاالعقد صحيح فإن استوجب العقد بريء المطلوب من الألف لتمام البيع بينهما وتقرر وجوب الثمن عليه وصارت الدنانير على المطالب الأول إلى شهر من يوم استوجب العقد لأنه شرط في الدنانير أجل شهر واشترط الأجل لتأخير المطالبة وتوجه المطالبة عليه بعد سقوط الخيار وإنما يعتبر ابتداء الأجل من ذلك الوقت ولو كان له عليه عشرة دنانير فصالحه منها على ثوب واشترط المطلوب الخيار ثلاثا ودفع إليه الثوب فهلك عنده في الثلاث فهو ضامن لقيمته وما له على المطلوب كما كان لأن المطلوب بائع للثوب وهلاك المبيع في مدة خيار البائع مبطل للعقد والمبيع في يد المشتري في مدة خيار البائع مضمون بالقيمة لأنه في معنى المقبوض على جهة الشراء.
ولو كان لرجل على رجلين دين فصالحاه على عبد على إنه بالخيار ثلاثا فأوجب الصلح على أحدهما ورد على الآخر كان له ذلك لأنه مشتر للعبد منهما وقد شرط كل واحد منهما له الخيار في النصف الذي باعه منه فكان له الرد على أحدهما في نصيبه دون الآخر بخلاف ما إذا كان الدين لرجلين على رجل فصالحهما على أنهما بالخيار ثلاثة أيام لأنهما في معنى المشتريين للعبد منه وأحد المشتريين لا ينفرد بالرد بخيار الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله وقد بيناه في البيوع ولو كان لرجل على رجل دين فصالحه على عبد واشترط الخيار ثلاثا فمضت الثلاثة ثم ادعى صاحب الخيار الفسخ في الثلاثة لم يصدق إلا ببينة لأن السبب الموجب لتمام العقد قد وجد وهو مضي مدة الخيار قبل ظهور الفسخ ومدعي الفسخ يدعي ما لا يقدر على إنشائه في الحال فلا يقبل ذلك إلا ببينة فإن أقام بينة على الفسخ وأقام الآخر البينة على أنه قد أمضى في الثلاثة أخذت البينة للفسخ لأنهما كانا بالخيار لأن مدعي الفسخ هو المحتاج إلى إقامة البينة وهو المثبت لعارض الفسخ وذلك خلاف ما يشهد الظاهر به فكان الأخذ ببينته أولى وقع في بعض نسخ الأصل أخذ ببينة إمضاء الصلح وهذا غلط وإن

 

ج / 21 ص -30-        صح فوجهه إن في بينة إمضاء الصلح إثبات الملك فيما وقع عليه الصلح وقد بينا شبهة اختلاف الروايات في نظير هذا في البيوع من الجامع وإن اختلفا في الثلاثة فالقول قول الذي له الخيار إنه وجد فسخ لأنه أقر بما يملك إنشاءه في الحال فلا تتمكن التهمة في إقراره والبينة بينة الآخر أنه قد وجب لأنه هو المحتاج إلى إسقاط الخيار وفي الصلح على الإنكار إذا شرط المدعي عليه الخيار ثم فسخ العقد بخياره فالمدعي يعود على دعواه ولا يكون ما صنع المدعي عليه إقرارا منه لأن الصلح البات أقوى من الصلح بشرط الخيار وقد بينا أن إقدامه على الصلح البات لا يكون إقرارا فعلى الصلح بشرط الخيار أولى وخيار الرؤية في الصلح بمنزلته في البيع لأن ما وقع عليه الصلح من العين مبيع ومن اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه.
وإذا ادعى رجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على عدل زطي فقبضه ولم يره ثم صالح عليه القابض آخر ادعى قبله دعوى أو قبضه الآخر ولم يره فللآخر أن يرده على الثاني إذا رآه فلم يرضه لأنه بمنزلة مشتري شيء لم يره وليس للثاني أن يرده على الأول إن قبله بقضاء قاض أو بغير قضاء لأن خياره قد سقط حين ملكه من غيره باعتبار أنه عجز عن رده بحكم الخيار وخيار الرؤية كخيار الشرط لا يعود بعد ما سقط بحال وقد بينا أن الصلح من الدعوى ليس بإقرار فبعد الرد بخيار الرؤية إنما يعود المدعي على دعواه وفي حكم الرد بالعيب المصالح عليه كالمبيع أيضا يرد بالعيب اليسير الفاحش يرجع في الدعوى إن كان رده بحكم أو بغير حكم.
ولو ادعى رجل قبل رجل مائة درهم فصالحه على أمة على الإنكار وقبضها فولدت عنده ثم وجدها عوراء لم يستطع ردها لحدوث الزيادة المنفصلة بعد القبض من العين ولكنه يكون على حجته فيما يصيب العور من المائة فإذا أقام أو استحلف المدعي عليه فنكل أو أقر يرجع عليه بنصف المائة لأن العين من الآدمي نصفه ولو ادعى عليه كر حنطة قرضا فصالحه منه على ثوب من غير أن يقر بذلك على أن زاد الآخر عشرة دراهم وتقابضا قبل أن يتفرقا فقطع الثوب قميصا ثم وجد به عيبا ينقصه العشرة فإنه لا يستطيع الرد لما أحدث فيه من القطع ولكن يرجع بحصة الغير وذلك غير ما نقده وهو درهم واحد فيكون على حجته في عشر الكر فيستوفي ذلك إن أتى بالبينة أو استحلف صاحبه فنكل ولو ادعى عليه مائة درهم فلم يقر بها فصالحه منها على كر ودفع إليه الكر على أن زاده الآخر عشرة دراهم إلى شهر فهو جائز لأنه اشترى الكر بالعشرة وبما ادعاه وهو المائة في زعمه وذلك صحيح فإن وجد بالكر عيبا ووجد به عنده عيب وكان عيبه الأول ينقصه العشر فإنه يبطل من العشرة الدراهم التي عليه درهم ويكون على حجته في عشر المائة لأن حصة العيب من البدل هذا وهذا عند تعذر الرد يرجع بحصة العيب من البدل.
ولو صالحه من المائة على كر حنطة ودفعه إليه أو على عشرة دراهم إلى شهر من غير

 

ج / 21 ص -31-        إقرار ثم وجد بالكر عيبا وقد حدث به عنده عيب وكان العيب الأول ينقصه العشر فهو على حجته في عشر تسعين درهما لأن المدعي بقي حقه في عشرة دراهم وأجله في ذلك إلى شهر وإنما صالحه على كر حنطة بما زاد على العشرة إلى تمام المائة وذلك تسعون درهما فعند تعذر الرد بالعيب يرجع بحصة العيب من البدل فلهذا كان على حجته في عشر تسعين درهما وقيل ينبغي أن لا يجوز هذا الصلح عند محمد رحمه الله لأن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وفي زعمه إنه اشترى الحنطة بتسعين درهما وشرط له التأجيل في عشرة دراهم سوى الثمن إلى شهر وذلك شرط منفعة لأحد المتعاقدين لا يقتضيها العقد فيكون مفسدا للعقد والله أعلم

باب الصلح في الدين
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل دين إلى سنة فصالحه على أن أعطاه به كفيلا وأخره به إلى سنة أخرى فهو جائز لأن المطلوب أعطاه بما عليه كفيلا والطالب أجله إلى سنة أخرى وكل واحد منهما صحيح عند الانفراد فكذلك إذا جمع بينهما ولا يتمكن هنا معنى معاوضة والكفالة بالأجل لأن الكفالة إنما تصح بقبول الكفيل سواء سأل المطلوب ذلك أو لم يسأل والتأجيل يثبت حقا للمطلوب فلا تتحقق معنى المعاوضة بينهما وكذلك لو كان به كفيل فأبرأه على أن أعطاه به كفيلا آخر وأخره سنة بعد الأجل الأول لأن إبراء الكفيل الأول يتم بالطالب والتأخير بإيجاب الطالب ذلك للمطلوب ولا يتمكن معنى المعاوضة فيه لما كان تمام كل واحد منهما بشخص آخر ولو صالحه على أن يعجل له نصف المال على أن يؤخر عنه ما بقي سنة بعد الأجل كان ذلك باطلا لأن المطلوب أسقط حقه في الأجل في نصف المال وشرط على الطالب التأجيل فيما بقي سنة أخرى فهذا مبادلة الأجل بالأجل وهو ربا وكذلك كل ما يعجل مؤجلا بتأخير شيء آخر معجلا أو مؤجلا فهو فاسد لما فيه من معاوضة الأجل بالأجل.
ولو كان المطلوب قضى الطالب المال قبل حله ثم استحق من يده لم يرجع عليه حتى يحل الأجل لأن القبض انتقض في المستحق من الأصل وسقوط الأجل كان في ضمن التعجيل بتسليم المال إليه وإذا ثبت في ضمن غيره يبطل ببطلانه فلهذا كان المال عليه بعد الاستحقاق إلى أجل وكذلك لو وجد زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا أما في الستوق فظاهر لأنه يتبين إنه لم يكن موفيا له حقه فيبقى المال عليه إلى أجله وفي الزيوف والنبهرجة قد انتقض قبضه بالرد وسقوط الأجل كان باعتبار قبضه وهو دليل أبي حنيفة رحمة الله عليهما في أن الرد بعيب الزيافة ينقض القبض من الأصل بمنزلة الاستحقاق حين عاد الأجل ولكنهمايقولان نحن نسلم هذا إلا أنا نجعل في الصرف والسلم اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما في مجلس العقد وذلك لا يتحقق في حكم سقوط الأجل وعند رد الزيوف رجوعه بأصل حقه وهو ثمن المبيع وقد كان أصل حقه مؤجلا فلهذا رجع به بعد حله

 

ج / 21 ص -32-        أيضا وكذلك لو باعه به عبدا أو صالحه منه على عبد وقبضه ثم استحق أو وجد حرا أو رده بعيب بقضاء قاض فالمال عليه إلى أجله لأن بهذه الأسباب ينتقض العقد من الأصل.
وكذلك لو طلب إليه أن يقيله الصلح على ما كان من الأجل فأقاله أو رده بعيب بغير قضاء فالمال عليه إلى أجله لأن الإقالة إن جعلت فسخا عاد المال إلى أجله وإن جعلت كعقد مبتدأ فقد شرط التأجيل في البدل فيكون مؤجلا والرد بالعيب بغير قضاء قاض بمنزلة الإقالة وإن لم يسم الأجل فالمال حال لأن الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء قاض بمنزلة البيع المبتدأ فإنه يعتمد التراضي ومطلقه يوجب المال حالا فإن قيل الإقالة فسخ في حقهما وعود الأجل من حقهما قلنا هو فسخ في حقهما فيما هو من أحكام ذلك البيع فأما فيما ليس من أحكامه فهو كالبيع المبتدأ والأجل في أصل الدين لم يكن من أحكام هذا البيع بينهما فالإقالة فيه كالبيع المبتدأ وقد قررنا هذا المعنى فيما أمليناه من شرح الزيادات ولو كان بالدين كفيل لم يعد المال على الكفيل إلا أن يكون رد العبد بالعيب بقضاء قاض لأن الرد بالقضاء فسخ من الأصل ولم يثبت المال على الكفيل لأن هذا دين آخر سوى ما كفل به فهذا مثله ولو كان به رهن وهو في يد الطالب حين رد بالعيب كان رهنا على حاله بالمال لأن البيع قد انفسخ برد العبد وإنما يرجع الطالب بالدين الذي كان له عليه وقد كان الرهن محبوسا عنده بذلك الدين فيبقى محبوسا على حاله لأن الشراء بالدين مثله.
ولو كان للطالب على المطلوب ألف درهم من ثمن مبيع ومائة دينار من ثمن مبيع إلى أجل فعجل له المائة الدينار على أن أخر عنه الألف إلى سنة فهذا باطل لأنه أسقط حقه في الأجل في الدنانير عوضا عما أجله الآخر من الدراهم ولو قال أعجل لك الألف درهم على أن تؤخر عني الدنانير سنة أخرى فهذا جائز لأن له أن يأخذ الألف عاجلا فإنما أجله في الدنانير خاصة وليس بمقابلة إسقاط الآخر أجله شيء ولو صالحه من الدين المؤجل على أن جعله حالا فهو جائز وهو حال وليس هذا صلحا وإنما هذا إسقاط من المطلوب حقه في الأجل والأجل حقه فيسقط بإسقاطه وكذلك لو قال أبطلت الأجل الذي في هذا الدين إن تركته أو جعلته حالا فهذا كله إسقاط منه للأجل إن قال قد برئت من الأجل أو قال لا حاجة لي في الأجل وهذا ليس بشيء والأجل على حاله أما في قوله لا حاجة لي في الأجل فإنه غير مسقط للأجل لأن الإنسان قد يكون حقه قائما وإن كان هو لا يحتاج إليه فإظهاره الاستغناء عنه لا يكون إسقاطا للأجل ومعنى قوله لا حاجة لي في الأجل إني قادر على أداء المال في الحال وبقدرته على الأداء لا يسقط الأجل وقوله قد برئت من الأجل بمنزلة قوله أبرأت الطالب منه وذلك لغو فإن الأجل حق المطلوب من حيث إنه يؤخر المطالبة عنه ولكن لا يستوجب به شيئا في ذمة الطالب فإبراء الطالب وليس له في ذمة الطالب شيء يكون لغوا بخلاف قوله أبطلت الأجل فذلك إسقاط منه لحقه وتصرف منه في المال الذي في ذمته بجعله حالا وليس يتصرف في ذمة الطالب بشيء فلهذا كان صحيحا

 

ج / 21 ص -33-        ولو ادعى عليه ألف درهم فأنكرها ثم صالحه على أن باعه بها عبدا فهو جائز وهذا إقرار منه بالدين بخلاف قوله فصالحتك منها وقد تقدم بيان هذا الفرق أن البيع لفظ خاص بتمليك مال بمال فإقدام المدعي عليه على البيع يكون إقرارا منه إنه يملكه العبد بالمال الذي عليه وذلك إقرار منه بالمال فأما الصلح فتمليك المال بإزاء إسقاط الدعوى والخصومة فلا يكون إقرارا حتى لو قال صالحتك من حقك على أن لك هذا العبد كان إقرارا بحقه أيضا ولو صالحه من الدين على عبد وهو مقر به وقبضه لم يكن له أن يبيعه مرابحة على الدين والصلح مخالف للبيع يعني لو اشترى بالدين العبد كان له أن يبيعه مرابحة لأن مبني الشراء على الاستقصاء فلا يتمكن فيه شبهة التجوز بدون الحق ومبني الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق فيتمكن فيه شبهة الحط وبيع المرابحة مبني على الاحتياط والشبهة فيما هو مبني على الاحتياط يعمل عمل الحقيقة ولو ادعى على رجل كر حنطة قرضا فجحده فصالحه فضولي على أنه اشتراه منه بتصييره دراهم ونقدها إياه كان الصلح باطلا لأن الشراء تمليك مال بمال فيصير المصالح مشتريا الدين من غير من عليه الدين وذلك باطل ولو لم يشتره ولكن صالحه منه على عشرة دراهم ودفعها إليه فهو جائز لأنه التزم المال عوضا عن إسقاط المدعي حقه قبل المدعي عليه وذلك صحيح وإنما أوردنا هذه الفصول لإيضاح الفرق بين لفظ البيع ولفظ الصلح.
وإذا كان لرجلين على رجل ألف درهم من ثمن مبيع حال فأخر أحدهما حصته لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ويأخذ الآخر حصته ولا يشاركه المؤخر في المقبوض حتى يمضي الأجل فحينئذ يكون له أن يشارك القابض في المقبوض وجه قولهما أن المؤخر تصرف في خالص نصيبه ولا ضرر على شريكه في تصرفه فينفذ تصرفه كالشريكين في العبد إذا باع أحدهما نصيبه أو وهبه وهذا لأن التأجيل في إسقاط المطالبة إلى مدة ولو أسقط حقه في المطالبة بنصيبه لا إلى غاية بأن أبرأ عن نصيبه كان صحيحا فإذا أسقط مطالبته إلى غاية كان أولى بالصحة ولو اشترى أحدهما نصيبه على عين أو قبل الحوالة بنصيبه على إنسان كان صحيحا لما أنه متصرف في خالص نصيبه فكذلك إذا أجل نصيبه ولو أقر أحد الشريكين بأن الدين مؤجل إلى سنة وأنكر صح إقرار المقر في نصيبه فكذلك إذا أنشأ التأجيل لأن الإقرار لا يصح فيما هو حق للغير مع تمكن التهمة فيه وذلك لأنه لا يملك تحصيل مقصوده بالإنشاء ولما صح إقراره هنا عرفنا أنه يصح تأجيله.
ولأبي حنيفة رحمه الله في المسألة روايتان إحداهما إن تأجيله يلاقي بعض نصيب شريكه وهو لا يملكه بالاتفاق وبيان هذا إن أصل الدين يبقى مشتركا بعد التأجيل ولا يمكن أن يجعل تأجيله مضافا لنصيبه خاصة إلا بعد قسمة الدين وقبل القبض لا يجوز لأن القسمة تمييز وما في الذمة لا يتصور فيه التمييز وفي العين القسمة بدون التمييز لا تحصل فإنه لو

 

ج / 21 ص -34-        كان بين رجلين صبرة حنطة فقال اقتسمنا على أن هذا الجانب لي والجانب الآخر لك لا يجوز وهذا لأن في القسمة تمليك كل واحد منهما نصف نصيب شريكه عوضا عما يتملكه عليه وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز وإنما قلنا إن هذا قسمة لأن نصيب أحدهما يصير مخالفا لنصيب الآخر في الوصف والحكم في القسمة ليس إلا هذا والدليل على أن تأجيله يصادف بعض نصيب شريكه أن الآخر إذا قبض نصيبه ثم حل الأجل كان للمؤخر أن يشاركه في المقبوض ويكون ما بقي مشتركا بينهما والباقي هو ما كان مؤجلا.
ولو سلم للقابض ما قبض واختار اتباع المديون ثم نوى ما عليه كان له أن يرجع على القابض فيشاركه في المقبوض باعتبار أن نصف المقبوض حقه وإنما يسلمه له بشرط أن يسلم له ما في ذمة المديون فإذا لم يسلم رجع عليه وبهذا الفصل تبين فساد مذهبهما فإنه بعد التأجيل إذا لم يكن للمؤخر أن يطالب بنصيبه فكيف يكون للآخر أن يقبض شيئا من نصيبه وإن جعل الآخر قابضا لنصيب نفسه كان ذلك قسمة فينبغي أن لا يكون للمؤخر أن يشاركه بعد حلول الأجل وإن جعل قابضا لبعض نصيب المؤخر فإذا لم يكن للمؤخر أن يطالب بنصيبه قبل حلول الأجل لا يكون ذلك لغيره بطريق الأولى وهذا بخلاف ما لو أبرأه عن نصيبه لأنه لا يبقى نصيبه بعد الإبراء وإنما القسمة مع بقاء نصيب كل واحد منهما بخلاف البيع في نصيب أحدهما من العين فإنه لا يلاقي شيئا من نصيب شريكه بدليل إنه لا يشاركه في الثمن وبخلاف ما إذا استوفى أحدهما لأن القسمة هناك باعتبار اختلاف المحل فنصيب المستوفي لم يبق في ذمة المديون وكذلك إذا اشترى بنصيبه أو صالح أو قبل الحوالة فيه فقد وجد اختلاف المحل.
وإذا أقر أحدهما أن المال كله مؤجل فإقرار المقر حجة في حقه وهو يزعم أن الدين كله مؤجل فلا يتحقق معنى القسمة باعتبار زعمه وإنما لا يظهر حكم الأجل في حق الآخر لقصور الحجة عنه لا لأن نصيبه غير مؤجل في حق المقر ولا يكون في أعمال إقراره في نصيبه معنى قسمة الدين بخلاف النسأ والأجل حتى لو أقر أحدهما إن نصيبه مؤجل فهو على الخلاف أيضا والطريق الآخر إن في تصرف الآخر إضرارا لشريكه وأحد الشريكين إذا تصرف في نصيبه على وجه يلحق الضرر بصاحبه لم ينفذ تصرفه في حق شريكه كما لو كاتب أحد الشريكين العبد كان للآخر أن يبطل المكاتبة وبيان ذلك أن مؤنة المطالبة بجميع الدين على شريكه لأنه يؤخر نصيبه حتى يستوفي الآخر نصيبه فإذا أجل الأجل شاركه في المقبوض ثم يؤخر نصيبه مما بقي حتى يستوفي الآخر نصيبه فإذا أجل شاركه في المقبوض فلا يزال يفعل هكذا حتى تكون مؤنة المطالبة في جميع الدين على شريكه وفيه من الضرر ما لا يخفى وبه فارق الإبراء لأنه ليس في تصرفه هناك إضرار لشريكه لأنه لا يشاركه فيما يقبض بعد ذلك وكذلك استيفاء نصيبه أو الشراء بنصيبه أو الصلح أو قبول الحوالة ليس فيه إضرار بالشريك

 

ج / 21 ص -35-        وإذا أقر أن الدين مؤجل فهو غير ملحق الضرر بشريكه ولكن في زعمه أن الشريك ظالم في المطالبة ولا يستقل له على المطلوب حتى يحل الأجل فيكون هو في المطالبة ظالما ملتزما مؤنة المطالبة باختياره فلهذا يصح إقراره في نصيبه ولو صالح أحد الشريكين المديون على مائة درهم على أن أخر عنه ما بقي من حصته لم يجز التأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله وما قبض فهو بينهما نصفان لأن المقبوض جزء من دين مشترك حقهما فيه سواء وعندهما تأخيره فيما بقي صحيح والمقبوض بينهما نصفان أيضا لأنه حين قبضه كان حقهما في الدين سواء فصار المقبوض بينهما نصفين فتأخير أحدهما ما بقي من حقه لا يغير حكم الشركة بينهما في المقبوض لأن التأخير لا يمس المقبوض.
وكذلك لو كانا شريكين شركة عنان وكل واحد منهما لا يملك التصرف في نصيب صاحبه من الدين بمنزلة الشريكين في الملك فأما المتفاوضان فتأخير أحدهما جائز على الآخر لأن التأخير من صنع التجار وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما هو من صنع التجار ولو أقر أحد الشريكين في الدين وهو ألف درهم إنه كان للمطلوب عليه خمسمائة درهم قبل دينهما فقد بريء المطلوب من حصته بطريق المقاصة بمنزلة ما لو أبرأه ولا يكون لشريكه عليه شيء لأن المقر صار قابضا بنصيبه من الدين ما كان عليه لا مقضيا فإن آخر الدينين قضاء عن أولهما لأن القضاء لا يسبق الوجوب وإنما يشاركه الآخر فيما يقبض فإذا لم يصر بهذا الطريق قابضا شيئا لا يكون للآخر أن يشاركه فيه كما لو أبرأه من نصيبه أو وهبه له وكذلك لو جنى عليه عمدا دون النفس جناية يكون أرشها خمسمائة أو صالح من جناية عمد فيها قصاص على ذلك لأنه ما صار مستوفيا شيئا مضمونا أو شيئا قابلا للشركة وإنما صار متلفا لنصيبه فلا يكون للآخر أن يرجع عليه بشيء.
ولو غصب أحد الشريكين من المديون ما يساوي خمسمائة فهلك في يده فللآخر أن يرجع عليه بمائة وخمسين لأنه صار قابضا بنصيبه مالا مضمونا وضمان الغصب يوجب الملك في المضمون فكأنه استوفى نصيبه ولأن المديون يكون قابضا لنصيبه بطريق المقاصة لأن دينه يكون آخر الدينين ولو حرق أحدهما ثوبا للمديون يساوي خمسمائة فكذلك الجواب في قول محمد رحمه الله لأنه بالإحراق صار قابضا متلفا للمال ويكون ذلك مضمونا فيكون كالغصب والمديون صار قابضا لنصيبه بطريق المقاصة فيجعل المحرق مقضيا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرجع عليه بشيء لأنه متلف لنصيبه بما صنع لا قابض والإحراق إتلاف ويكون هذا نظير الجناية وقد بينا أنه لو جنى أحدهما على المديون حتى يسقط نصيبه من الدين لم يكن للآخر أن يرجع عليه بشيء فكذلك إذا جنى على ماله بالإحراق ولو صالحه على مائة درهم على أن أبرأه مما بقي من حصته بعد قبض المائة أو قبل قبضها كان لشريكه أن يرجع عليه بخمسة أسداس المائة لأن الباقي من دينه على المديون مائة ونصيب شريكه خمسمائة فالمقبوض يكون مقسوما بينهما على مقدار حقهما بخلاف ما إذا أجل فيما

 

ج / 21 ص -36-        بقي على قولهما لأن التأجيل لا يسقط نصيبه من الدين وإن تأخر حق المقبوض فلهذا بقي المقبوض بينهما نصفين.
 ولو كان قبض المائة وقاسمهما شريكه نصفين ثم أبرأه مما بقي له كانت القسمة جائزة لا تعاد لأن عند تمام القسمة كان حقهما في ذمة المديون سواء فسقوط ما بقي من نصيب أحدهما بالإبراء لا يبطل تلك القسمة بعد تمامها ولو كان لرجلين على رجل حنطة قرض فصالحه أحدهما على عشرة دراهم من حصته فهو جائز ويدفع إلى شريكه إن شاء ربع كر وإن شاء خمسة دراهم لأنه بهذا الصلح صار مستوفيا لنصيبه فللآخر أن يطالبه بنصف نصيبه وهو ربع كر كما لو استوفاه حقيقة وهذا لأن الصلح يصحح بطريق المبادلة ما أمكن ومبادلة الكر بعشرة دراهم صحيحة إلا أن مبنى الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق فمن حجة المصالح مبادلة الكر بعشرة دراهم صحيحة إلا أن يقول إنما توصلت إلى نصيبي لأني تجوزت بدون حقي فإن أردت أن تشاركني فتجوز بما تجوزت به لأدفع إليك نصف ما قبضت وهي خمسة دراهم فلهذا كان الخيار لقابض الدراهم في ذلك ولو باعه حصة من الطعام بعشرة دراهم ضمن لشريكه ربع الكر ولا خيار له في ذلك لأن مبني البيع على الاستقصاء فيصير هو بطريق البيع كالمستوفي بجميع نصيبه لشريكه نصفه ولأن البيع عقد ضمان فيصلح أن يكون موجبا لشريكه عليه ضمان نصف نصيبه والصلح عقد تبرع فلا يكون موجبا للضمان على المتبرع إلا أن يلتزم ذلك باختياره ثم في الشراء إذا رجع بربع الكر فما بقي في ذمة المطلوب وذلك نصف كر يكون مشتركا بينهما كما لو قبض أحدهما نصيبه وشاركه الآخر فيه.
ولو كان عبد بين رجلين باع أحدهما نصيبه من رجل بخمسمائة وباع الآخر نصيبه منه بخمسمائة وكتبا عليه صكا واحدا بألف ثم قبض أحدهما منه شيئا لم يكن للآخر أن يشاركه فيه لأن نصيب كل واحد منهما وجب على المطلوب بسبب آخر فلا تثبت الشركة بينهما باتحاد الصك كما لو أقرضه كل واحد منهما خمسمائة وكتبا بالألف صكا واحدا وكذلك لو باعاه صفقة واحدة على أن نصيب فلان منه مائة لأن تفرق التسمية في حق البائعين كتفرق الصفقة بدليل أن للمشتري أن لا يقبل البيع في نصيب أحدهما وكذلك لو اشترط أحدهما أن نصيبه خمسمائة بخية وشرط الآخر خمسمائة سوداء لأن التسمية تفرقت ويغني نصيب أحدهما عن نصيب الآخر وصفا فأما إذا باعاه صفقة واحدة بثمن واحد فأيهما قبض من ذلك شيئا شركه الآخر فيه لأنه دين وجب لهما بسبب واحد بدلا عما هو مشترك بينهما فلا يقبض أحدهما شيئا إلا بشركة الآخر لأن المقبوض إما أن يكون عين ما كان في الذمة أو بدلا عنه وحكم البدل حكم المبدل.
ولو كان لرجلين على رجل ألف درهم بخية فصالحه أحدهما من نصيبه على خمسمائة زيوف أو على خمسمائة سود كان لشريكه أن يأخذ منه نصفها لأن ثبوت حق المشاركة له

 

ج / 21 ص -37-        باعتبار قبضه فإنما ينظر إلى صفة المقبوض فيشاركه فيه ويأخذ منه نصفه وهذا لأن المستوفي إنما وصل إلى حقه لأنه تجوز بدون حقه فعلى الآخر أن يتجوز به إذا أراد مشاركته لأن مشاركته لا تكون إلا بعد رضاه بقبضه وعند الرضا يصير كأنهما قبضا ذلك وإذا كان لرجلين على رجل كر حنطة فصالحه أحدهما عن نصيبه على كر شعير وقبضه وأعطى شريكه ربع كر حنطة ثم وجد بالشعير عيبا ينقصه العشر وقد حدث به عنده عيب آخر فإنه يرجع بنصف عشر كر حنطة وهو حصة العيب فيكون ذلك له خاصة لأنه غرم بدل هذا المقبوض لشريكه فإن هذا المقبوض بدل عن هذا الجزء الفائت بالعيب وقد غرم لشريكه حصة ذلك فيكون له خاصة.
وإذا اشترى الرجل من الرجل ثوبا بفرق بثمن جيد بغير عينه ثم صالحه من الثمن على فرق زيت ودفعه إليه في المجلس جاز لأن الموزون بمقابلة الثوب يستحق ثمنا إذا كان بغير عينه والاستبدال قبل القبض جائز وإذا تعين في المجلس بالقبض فهو كالمعين عند العقد وإذا صالح الرجل الرجل من دعواه على كر حنطة وسط ثم صالحه من ذلك الكر على كر شعير بغير عينه وافترقا قبل القبض لم يجز لأنه دين بدين ولو كان الشعير بعينه جاز لأن الافتراق حصل عن عين بدين وذلك جائز فيما سوى عقد الصرف ولو كان لرجلين على رجل ألف درهم لأحدهما ومائة دينار للآخر فصالحاه من ذلك كله على ألف درهم وقبضا لم يجز بخلاف ما إذا كان المال لواحد فهناك يصير مبرئا من أحد المالين مستوفيا للآخر فأمكن تصحيح العقد بطريق الإسقاط وهنا لا يتأتى ذلك لأنهما صالحاه على أن يكون الألف لهما فلو أجزنا ذلك قسمنا الدراهم بينهما على ألف درهم ومائة دينار فيكون الألف درهم بأقل من ألف درهم وذلك ربا وكذلك لو كان لأحدهما عليه كر حنطة وللآخر كر شعير قرض فصالحاه على كر حنطة فهو باطل لأنا لو جوزناه لم يكن بد من قسمة المقبوض على قيمة كر حنطة وقيمة كر شعير بينهما وقبضت الحنطة دون كيلها وذلك ربا.
ولو صالحاه على مائة درهم وقبضاها قبل أن يتفرقا جاز وتقسم المائة بينهما على قيمة الحنطة والشعير لأنهما كالبائعين منه الحنطة والشعير بمائة درهم والبدل يقسم على قيمة المبدل ولو كان لرجلين على امرأة ألف درهم فتزوجها أحدهما على حصة منها فهو جائز ولا يرجع صاحبه عليه بشيء لأنه لم يقبض بحصته شيئا مقبوضا يقبل الشركة فإنه يملك به البضع والبضع ليس بمال متقوم ولا يكون مضمونا على أحد فلا يقبل الشركة فهو كالجناية التي تقدمت وروى بشير عن أبي يوسف رحمه الله أن للآخر أن يشاركه فيضمنه نصف نصيبه من الدين لأن النكاح إنما ينعقد بمثل تلك الخمسمائة والصداق لا يجب بالعقد ويكون مالا متقوما ثم يصير الزوج مستوفيا لنصيبه من الدين بطريق المقاصة لأن آخر الدينين دين المرأة فتصير هي قاضية به نصيب الزوج من الدين وكذلك لو كان لامرأتين على زوج إحداهما ألف درهم فاختلعت منه فليس للأخرى أن ترجع عليها بشيء لأنها لم تقبض شيئا

 

ج / 21 ص -38-        ولو كان تزوجها أحدهما على خمسمائة ثم قاصها بحصته من الألف أو لم يقاصها رجع عليه شريكه بمائتين وخمسين لأنه صار مستوفيا نصيبه بطريق المقاصة ثم تتبع ابنها بخمسمائة ولو طلقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بمائتين وخمسين لتنصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ويتبعانها بخمسمائة أيضا فيكون عليها سبعمائة وخمسون فما خرج من ذلك كان بينهما على حساب ذلك أثلاثا.
ولو كان لرجلين على رجل ألف درهم فقال له أحدهما قد برئت إلي من خمسمائة فهذا إقرار بالقبض ولشريكه أن يأخذه بنصفها لأنه قد أقر ببراءته بفعل مبتدأ بالمطلوب متحتم بالطالب وذلك بطريق الإيفاء فكان هذا وإقراره باستيفاء نصيبه سواء وكذلك لو استأجر منه أحدهما دارا بحصته منها وسكنها فهو بمنزلة القبض أو استأجر بنصيبه عبدا للخدمة أو أرضا للزراعة لأن المنافع مال في حكم العقد وهي بالاستيفاء تدخل في ضمان المستأجر بمنزلة المشتري ولو اشترى أحدهما بنصيبه شيئا كان ذلك بمنزلة القبض وللآخر أن يرجع عليه بنصف نصيبه فكذا هذا وروى بن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال هذا إذا استأجر أحدهما بخمسمائة ثم أصاب قصاصا بنصيبه فأما إذا استأجر بحصته من الدين لم يكن للآخر أن يرجع عليه بشيء وجعل هذا بمنزلة النكاح لأن المنفعة ليست بمال مطلق فإذا كان بدل نصيبه المنفعة لا يضمن باعتباره مالا مطلقا لشريكه والله تعالى أعلم بالصواب.

باب الصلح في السلم
قال رحمه الله: وإذا صالح الرجل من السلم على ماله لم ينبغ له أن يشتري به شيئا حتى يقبضه عندنا وقال زفر رحمه الله لا يشترط ذلك لأنه ليس له وجه رده بسبب القبض فيجوز الاستبدال به كالمغصوب والمستقرض وهذا لأن إقالة السلم فسخ وليس بعقد مبتدأ بينهما بدليل أنه لا يستحق قبض رأس المال في المجلس والدين بالدين حرام فإذا كان فسخا وجب رد رأس المال بسبب القبض لا بسبب عقد السلم ولكنا نقول قد ثبت بالنص إن رب السلم ممنوع شرعا من أن يأخذ غير رأس المال وغير المسلم فيه فلو جوزنا الاستبدال بعد الإقالة أدى إلى ذلك وإنما لا يجوز الاستبدال بالمسلم فيه قبل الإقالة بهذا المعنى لما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد فالإبراء عن المسلم فيه يصح بالاتفاق وهذا المعنى موجود في الاستبدال برأس المال بعد الإقالة فيكون ذلك فاسدا شرعا فإن كان رأس مال السلم عوضا فصالح عليه ثم هلك قبل أن يقبضه فعلى المسلم فيه قيمته لأن الإقالة لا تنقض بهلاك رأس المال قبل الفسخ فإن إقالة السلم بعد ما صح لا تحتمل الفسخ لأن المسلم فيه كان دينا وقد سقط بالإقالة والساقط متلاش لا يتصور عوده ولهذا لو أراد فسخ الإقالة لم يملكها.
ولو اختلفا في رأس المال بعد الإقالة لم يتخالفا فإذا ثبت أن الإقالة باقية بعد هلاك العوض قلنا تعذر رد العين مع بقاء السبب الموجب للرد فتجب قيمته كالمغصوب وكذلك لو هلك قبل أن يتناقض السلم لأن ما لا يمنع بقاء الإقالة لا يمنع ابتداء الإقالة وهذا لأن

 

 

ج / 21 ص -39-        السلم في حكم بيع المعاوضة فإن المسلم فيه بيع وهو قائم بمحله بعد هلاك رأس المال وهلاك أحد العوضين في المعاوضة لا يمنع الإقالة ابتداء وبقاء فإن كان للسلم كفيل يبرأ الكفيل حين وقع الصلح على رأس المال لأن الأصيل بريء عن المسلم فيه لأنه لو كان بدلا عنه لم تصح الإقالة فإن مبادلة الدين بالدين حرام لكنه دين آخر لزم الأصيل ولم يكفل به الكفيل ولا يجوز الصلح من السلم على جنس آخر سوى رأس المال لأنه استبدال بالمسلم فيه وذلك فاسد والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أسلمت في شيء فلا تصرفه في غيره ولو كان السلم كر حنطة فصالحه منه على نصف كر حنطة على أن أبرأه مما بقي جاز" لأن هذا حط ولا إبراء عن جميع المسلم فيه صحيح في ظاهر الرواية لأنه دين لا يستحق قبضه في المجلس وقد بيناه في البيوع فكذلك الإبراء عن بعضه.
وكذلك لو كان السلم كر حنطة جيدة فصالحه على كر رديء إلى شهر لأن رب السلم تبرع بالتأجيل بعد ما حل حقه وتجوز بدون حقه أيضا وذلك مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين
:"أحسن إلى الشريك ولو كان السلم كر حنطة رديئة فصالحه على كر جيدة" على أن يزيده رب السلم درهما في رأس المال لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وجاز في قول أبي يوسف رحمه الله إذا نقده الدراهم قبل أن يتفرقا وقد بينا هذه الفصول في كتاب البيوع في الحط والزيادة في المكيل والموزون والمذروع إلا أن قول أبي يوسف رحمه الله لم يذكر في كتاب البيوع وإنما ذكر هنا فأما المسائل فهي التي ذكرناها في البيوع أعادها هنا ولو كان المسلم فيه كر حنطة إلى أجل والثمن دراهم أو شيء بغير عينه فاصطلحا على أن زاده الذي عليه السلم نصف كرحنطة إلى ذلك الأجل لم تجز الزيادة لأنها لو جازت كانت برأس مال دين يبتدئ عقد السلم برأس مال هو دين لا يجوز فكذلك الزيادة ولهذا لم تجز الزيادة في الثمن بعد هلاك المبيع اعتبارا لحالة الزيادة بحالة ابتداء العقد وعلى المسلم إليه أن يرد ثلث رأس المال إلى رب السلم وعليه كر حنطة تام في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ليس عليه رد شيء من رأس المال لأنه ما حط شيئا من رأس المال إنما زاده في المسلم فيه ولم تثبت تلك الزيادة فبقي جميع رأس المال بمقابلة الكر والعقد في جميع الكر باق فلا يجب رد شيء من رأس المال وأبو حنيفة رحمه الله يقول الزيادة في المعقود عليه حال قيام العقد وبقاء المعقود عليه صحيح كما في بيع العين وإنما تعذر إثبات الزيادة هنا لأنه دين بدين فإذا لم تثبت الزيادة في المسلم فيه باعتبار هذا المعين وجب رد الدين الذي بمقابلة هذا لأنه لو ثبتت هذه الزيادة ألحقت بأصل العقد ويصير كأنه أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ونصف ثم أبطلا العقد في نصف الكر فيجب رد حصته من رأس المال وهو الثلث وإقدامه على هذه الزيادة إخراج الثلث من رأس المال حتى يكون بمقابلة الكر فإذا لم يكن جعله بمقابلة نصف الكر جعل حطا ليحصل

 

ج / 21 ص -40-        مقصوده وهو إخراج الغبن من العقد وإدخال الرخص فيه وهذه المسألة نظير ما ذكرنا في العتاق فيما إذا قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني لم يعتق عندهما لأن ما صرح به صار لغوا لم يثبت به شيء آخر وعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل ذلك عبارة عن الإقرار بالعتق مجازا فهنا أيضا تحصيل الزيادة في المسلم فيه عبارة عن حق حصته من رأس المال فجاز.
وإن كان السلم عشرة دراهم في رأس المال جاز لأن المعقود عليه قائم في الذمة فتجوز الزيادة في السلم ملتحقة بأصل العقد ثم مجلس الزيادة فيما زاد كمجلس العقد في رأس المال لأنها وجبت في هذا المجلس فيشترط قبضها قبل أن يتفرقا فإن تفرقا قبل أن يقبض العشرة بطلت حصتها من الكر كما لو كانت الزيادة مذكورة في أصل العقد فتفرقا قبل قبضها فإن كان السلم ثوبا يهوديا قد حل فصالحه على نصف رأس المال وعلى أن يعطيه نصف الثوب جاز عندنا لأنهما تقايلا السلم في النصف وذلك جائز اعتبارا للبعض بالكل وفيه يقول بن عباس رضي الله عنهما ذلك المعروف الحسن الجميل فإن أتاه بنصف ثوب مقطوع لم يجبر على أخذه لأنه في حال قيام العقد في الكل لو أتاه بالثوب مقطوعا نصفين لم يجبر على أخذه فكذلك بعد الإقالة في النصف وهذا لأن القطع في الثوب عيب فكما استحق صفة السلامة في جميع الثوب بالعقد يستحقها في النصف الذي بقي فيه العقد فلا يجبر على أخذ ثوب مقطوع ولكنه تأيد بثوب صحيح فيكون له نصفه ويكونان شريكين فيه.
ولو كان السلم إلى أجل فصالحه على أن يأخذ نصف رأس المال ويناقضه السلم ويعجل له نصف السلم قبل الأجل جاز النقض في نصف رأس المال ولم يجز التعجيل لأن الصلح على رأس المال إقالة وقد شرط في الإقالة تعجيل النصف الآخر وإسقاط المسلم إليه حقه في الأجل وهو شرط فاسد إلا أن الإقالة لا تتعلق بالجائز من الشروط ولهذا لا يشترط فيها تسمية البدل فالفاسد من الشروط لا يبطلها وأما شرط التعجيل في النصف الآخر فباطل لأنه مقابلة الأجل بشيء مما عاد إليه المسلم فيه أو بمنفعة حصلت له بالإقالة في النصف وذلك باطل فيكون الباقي عليه إلى أجله ولو كان أسلم كر حنطة إلى رجل فصالحه على أن زاده في الأجل شهرا على أن حط عنه من رأس المال درهما ورد عليه الدرهم لم يجز لأنه مقابلة الأجل بالدرهم المردود وذلك ربا ولو كان حالا فرد عليه من رأس المال درهما على أن الكر عليه كما كان أو على أن أخره شهرا كان جائزا أما إذا شرط أن الكر عليه كما كان فهو غير مشكل لأن المسلم إليه حط درهما من رأس المال ولم يشرط لنفسه بمقابلته شيئا وإنما الإشكال في قوله أو على إنه أخره شهرا فإن كان المراد على أن أخر المسلم فيه عنه شهرا فهو غلط لأنه مقابلة الأجل بالدرهم الذي رده عليه وذلك ربا وإن كان المراد منه على أن أخره بالدرهم المحطوط شهرا فهذا صحيح لأن المحطوط واجب رده باعتبار القبض فيجوز التأجيل فيه كالمغصوب المستهلك وهو الظاهر من مراده لأنه قال وكذلك لو افترقا قبل أن يقبض الدرهم فبه تبين أن المراد بيان أن المحطوط لا يجب قبضه في المجلس ويجوز التأجيل

 

ج / 21 ص -41-        فيه وإذا اصطلحا على أن يرد عليه رأس المال وهي جارية قد ولدت عند المسلم إليه فإنه يأخذ قيمتها يوم دفعها إليه لأن الزيادة المنفصلة متولدة من عينها ومثل هذه الزيادة تمنع فسخ العقد على العين لأن الولد يبقى فضلا خاليا عن المقابلة فيكون ربا وقد بيناه في البيوع إلا أن الإقالة لا تبطل بالشرط الفاسد واشتراط رد عينها بعد الولادة بشرط فاسد لا يمنع صحة الإقالة وبعد صحتها يجب رد قيمتها يوم قسطها لتعذر رد عينها.
وكذلك لو قتل الولد فأخذ أرشه لأن قيام بدله في يده كقيام عينه وإن كان الولد مات كان له أن يأخذ الجارية لأن المانع كان هو الزيادة وقد فات من غير صنع أحد فصار كأن لم يكن فإن كانت الولادة بقبضها كان لرب السلم الخيار إن شاء أخذها وإن شاء أخذ قيمتها يوم دفعها بمنزلة لو تعيبت عنده بعيب آخر وهذا لأن تعذر الرد بعد النقصان فحق رب السلم فإذا رضي به جاز رده فأما بعد الزيادة بعد الرد فحق الشرع وهو معنى الربا فلا يسقط ذلك برضا رب السلم بها ولو لم تكن ولدت ولكنه جنى عليها فأخذ أرش الجناية لم يكن لرب السلم إلا قيمتها لأن الأرش بدل جزء من عينها فهو بمنزلة الزيادة المنفصلة المتولدة من العين ولو كان المسلم إليه باعها لرب السلم ثم صالحه على رأس المال فعلى المسلم إليه قيمتها يوم قبضها بمنزلة ما لو باعها من غيره وكذلك لو وهبها له على عوض فالهبة بشرط العوض بعد التقابض كالبيع وإن وهبها بغير عوض ففي القياس كذلك بمنزلة ما لو وهبها من غيره وفي الاستحسان لا يرجع بشيء لأن ما هو المقصود له عند الإقالة قد حصل له قبل الإقالة وهو عود رأس المال إليه مجانا فلا يستوجب عند الإقالة شيئا آخر كمن عليه الدين المؤجل إذا أجل ثم حل الأجل بخلاف البيع فهناك لم يحصل مقصوده لأن رأس المال ما يسلم له إلا بعوض غرمه من ماله وهذا نظير ما بيناه في الصداق إذا كان عينا فوهبته للزوج ثم طلقها قبل أن يدخل بها.
وإذا كان السلم حنطة رأس مالها مائة درهم فصالحه على أن يرد عليه مائتي درهم أو مائة وخمسين درهما لم يجز لأن هذا استبدال وليس بإقالة فإنه يسمى فيه ما لم يكن مذكورا في العقد والصلح إنما يكون إقالة إذا كان على رأس المال فإذا كان على شيء آخر فهو استبدال والاستبدال بالمسلم فيه باطل وإن صالحه على مائة درهم من رأس ماله فهو جائز لأن حرف من هنا صلة فيبقى الصلح على مائة درهم رأس ماله وذلك إقالة وكذلك إن قال خمسين درهما من رأس مالك فهو جائز لأنه لم يذكر فيه ما لم يكن مستحقا بالعقد فيكون إقالة فإن قال مائتي درهم من رأس مالك فهو باطل لأن رأس المال دون المائتين فحين ذكر في الصلح ما لم يكن مذكورا في العقد كان ذلك استبدالا للمسلم فيه وإذا كان بعض ما هو مذكور في العقد فهو إقالة صحيحة وشرط ترك بعض رأس المال له باطل والإقالة لا تبطل بالشرط الفاسد وإذا سلم الرجل إلى رجل ثوبا في كر حنطة وفيه المسلم إليه ثم إن المسلم إليه سلم ذلك الثوب إلى آخر ثم صالحه الأول على رأس المال ثم صالح الثاني الثالث على

 

ج / 21 ص -42-        رأس ماله فرد عليه الثوب لم يرده على الأول ويأخذ منه الأول قيمته لأن الأول صالحه على رأس المال والثوب خارج عن ملكه فيجب عليه بهذا الصلح رد قيمته ثم عاد إليه الثوب بملك مستقبل في حق الأول على ما عرف على أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما وفي حق الأول عاد الثوب بملك مستقبل فلهذا يأخذ قيمته ولا سبيل له على عينه كما لو اشتراه الثاني من الثالث فإن اصطلحا كان له ذلك لأن رأس ماله بعينه وهو عائد إليه بطريق الفسخ في حقه وإنما جعل الإقالة بمنزلة البيع الجديد في حق غيره لدفع الضرر فإذا وقع التراضي عليه فقد اندفع الضرر فهذا لأن الاستبدال إنما لا يجوز لما فيه من أخذ رأس المال وغيره المسلم وذلك لا يوجد هنا فإنما يأخذ رأس ماله بعينه وإن كان عوده إليه بحكم ملك جديد وهذا لأن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين لتراضيهما عليه وإذا رضي الأول بذلك كان فسخا في حقه أيضا وهذا بخلاف ما إذا قضى القاضي له بالقيمة قبل أن يصالح الثاني مع الشك لأن حقه هناك تقرر في القيمة بقضاء القاضي فلا يعود في العين بعد ذلك وإن قدر على رده وفي الأول لم يتقرر حقه في القيمة بقضاء القاضي فيعود التعين إذا وقع التراضي عليه كما في المغصوب الآبق إذا عاد لأن هناك بعد قضاء القاضي لو اصطلح على أخذ العبد جاز بطريق إنه بدل عن القيمة التي قضى بها القاضي وهنا لا يجوز لأن القيمة التي قضى بها القاضي رأس مال السلم والاستبدال برأس المال بعد الإقالة لا يجوز بالتراضي.
وكذلك لو كان الأوسط قبل الثوب بغير حكم بعيب بعد الصلح الأول أو قبله لأن قبوله بالعيب حكم بمنزلة الإقالة ولو رد عليه بعيب بقضاء قاض ثم ناقض الأقل رده بعينه لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من الأجل أعاد إليه الثوب على الملك الذي كان له قبل ملك الثاني فهو وما لو صالح الأول على رأس المال قبل العقد الثاني سواء ولو كان ناقضه السلم قبل أن يرد عليه الثوب فقضى له بقيمته ثم رد الثوب عليه بعيب بقضاء القاضي كان عليه قيمته بسبب المناقضة لأن القيمة تقررت عليه بقضاء القاضي فلا يسقط عنه بعود رأس المال إليه بعد ذلك على أي وجه عاد ولكن الثوب رد عليه بالعيب بسبب هو فسخ من الأصل فيكون له أن يرده بالعيب على بائعه ويأخذ قيمته وإنما رده بالعيب لدفع الضرر عنه وأخذ القيمة لأن مناقض السلم عقد الرد فبطل ولما صار رأس المال هو القيمة التي قبضها بقي هنا الثوب ثوبا بنفسه أن يسلم إليه على رد السلم وقد تعذر رده إليه سليما فيلزمه قيمته كما في الصداق إذا رد بعيب فاحش يؤخذ قيمته من الزوج.
ولو كان وهبه ثم اشتراه أو ورثه ثم أقاله السلم كان عليه قيمة الثوب لأنه عاد إليه الثوب بملك متجدد بالشراء وفي الوراثة كذلك لأن الوارث يخلف المورث في الملك والملك الذي كان للمورث كان ملكا متجددا سوى المستفاد بعقد السلم فيخلفه الوارث في ذلك الملك واختلاف سبب الملك باختلاف العين لأنهعاد إليه عين آخر فلهذا لزمه عند

 

ج / 21 ص -43-        الإقالة قيمة الثوب ولو رجع في الهبة ثم ناقضه السلم رد عليه بعيبه لأن الرجوع فسخ الهبة سواء حصل بقضاء أو بغير قضاء وإنما يعود إليه الملك الذي كان قبل الهبة وإذا مات رب السلم أو المسلم إليه ثم صالح الحي الوارث وماتا جميعا ثم صالح الوارث على رأس المال جاز لأن الوارث خلف المورث فيما كان له والصلح على رأس المال إقالة تستفاد بالملك دون العقد.
ألا ترى أن الوكيل بالشراء لا يملك الإقالة بعد الشراء والموكل يملكها لأن الملك له فإذا كان الوارث قائما مقام المورث في الملك قام مقامه في الإقالة أيضا وإذا صالح رب السلم المسلم إليه على أن يرد عليه رأس المال وبعض المسلم فيه لم يجز لأن هذا استبدال للمسلم فيه فإن بمقابلة نصف المسلم فيه نصف رأس المال وهو قد صالحه على أن يرد عليه بمقابلة نصف المسلم فيه جميع رأس المال فيكون هذا استبدالا وذلك باطل ولو كان رأس المال ثوبا فصالحه على أن إبرأه عن الطعام على أن يرد عليه رب السلم خمسة دراهم فهذا باطل أيضا لأن المسلم فيه يأخذ الخمس أيضا بغير شيء أعطاه إياه فإن الطعام قد سقط عنه كله ومثل هذا يكون ربا وإذا كان رأس المال عرضا فصالحه فباعه المسلم إليه من رب السلم بطعام مثل طعامه أو أكثر جاز وإن رب السلم بائع لذلك العرض وقد اشترى بعد السلم بمثل ما باعه أو بأكثر وذلك جائز وإن باعه بأقل لم يجز لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد السلم وهو المسلم فيه فغير جائز لأنه استرباح على ما لم يدخل في ضمانه وقد بيناه في البيوع وكذلك لو كان ذلك بطريقة الصلح.
وإذا كان رأس المال شاة فأصاب المسلم إليه من لبنها وصوفها وسمنها ثم صالحه على رأس المال جاز وعليه ثمنها لمكان الزيادة المتولدة من العين كما في الولد الذي قدمنا قال إلا أن يرضى رب السلم أن يأخذ الشاة بعينها ومراده إذا لم تكن الزيادة قائمة ولكن المسلم إليه هنا استهلكها فإن لم يجب عليه عوض بالاستهلاك فيكون هذا بمنزلة تفويته جزءا من عينها وذلك يمنع رد عينها بعد الإقالة إلا أن يرضى به رب السلم فهذا مثله وكذلك لو كان نخلا فأكل من ثمرته بخلاف الولد الذي أعتقه فهناك ولاء الولد باق له والولاء أثر من آثار الملك فيكون بقاؤه كبقاء ملكه في الولد فيمنع رد عينها وإن رضى رب السلم بها رهنا بعد الاستهلاك لم يبق شيء من الزيادة فوزان هذا من ذلك أنه لو قتل الولد ولو كان عبدا فأكل من غلته ثم صالحه على رأس المال كان عليه أن يرد العبد ولا يرد الغلة لأن الغلة ليست متولدة من العين وقد بينا الفرق بينها وبين الزيادة من العين في البيوع قال فإذا كان السلم فاسدا فلا بأس بأن يشتري برأس ماله ما يشاء يدا بيد كما يشتري بالعرض لأن المسلم فيه مع فساد العقد غير مستحق فما بقي من رأس المال لا يكون بدلا من المسلم فيه ولا هو مستحق بقية السلم إنما هو بمنزلة قرض أقرضه والاستبدال ببدل القرض جائز بخلاف الاستبدال برأس المال بعد الإقالة في باب السلم لأن المقبوض كان مستحقا بعقد القبض

 

ج / 21 ص -44-        وكان السلم بدلا عن المسلم فيه فلا يجوز الاستبدال فيه بعد الفسخ كما لا يجوز الاستبدال في المسلم فيه ولا برأس المال قبل الفسخ.
وإذا كان للمتفاوضين سلم على رجل فصالحه أحدهما على رأس المال جاز لأن الإقالة من صنع التجار وأحد المتفاوضين في صنع التجار قائم مقام صاحبه وكذلك شركاء العنان لأن الصلح عن المسلم فيه على رأس المال إقالة وأحد الشريكين يملك ذلك في حق شريكه كما في الإقالة في بيع العين لو اشتريا عبدا ثم أقال أحدهما المبيع من البائع جاز ذلك على شريكه لأن أكثر ما فيه أن الإقالة بمنزلة بيع جديد وكل واحد من الشريكين يملك ذلك وكذلك يملك الإقالة والصلح على رأس المال في السلم ولو أمر رجل رجلا فأسلم له في كر حنطة ثم صالح الذي ولي السلم على رأس المال جاز عليه ويضمن كر سلم للآمر في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف رحمهما الله لا يجوز صلحه على رأس المال وقد بينا هذا في البيوع أن الوكيل بالسلم إذا أبرأ المسلم إليه جاز في قولهما وكان للآمر مثل طعامه وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز وكذلك إذا أبرأه لا بطريق الصلح على رأس المال وهذا بخلاف الوكيل بالشراء إذا أقال البيع لأن المشتري هناك صار مملوكا للموكل بعينه وإقالة الوكيل تصادف محلا هو حق غيره بغير أمره فأما المسلم فيه فهو دين واجب بالعقد والعاقد فيه لغيره كالعاقد لنفسه.
ألا ترى أن حق القبض إليه على وجه لا يملك الموكل عزله عنه والدين في الذمة ليس إلا حق المطالبة بالسلم فتصرفه من حيث الإقالة إسقاط لذلك وهو حق الوكيل فلهذا صح ولكن إذا قبضه تعين المقبوض ملكا للآمر فإذا أقره عليه كان ضامنا له مثله ولو كان الآمر هو الذي صالح المطلوب على رأس المال وقبضه جاز بمنزلة ما لو أبرأه لا بطريق الصلح وهذا لأنه يصير المقبوض ملكا له بالقبض وقد بينا أن ملك الإقالة باعتبار ملك المعقود عليه وباعتبار المال ملك المعقود له عليه فإن المقبوض في عقد السلم عين ما تناوله العقد لا غيره فلهذا صحت الإقالة عن الموكل فصار الحاصل أن الاعتبار حال الدينية هو حق الوكيل لأنه مختص بالمطالبة والقبض وباعتبار حال العينة هو حق الموكل فتصح الإقالة والإبراء من كل واحد منهما باعتبار أن تصرفه يلاقي محلا هو حقه.
وإذا أسلم رجلان عشرة دراهم في كر حنطة فنقد هذا من عنده خمسة وهذا من عنده خمسة ولم يخلطا العشرة ثم صالح أحدهما على رأس ماله وأخذه فهو جائز ولا يشركه الآخر فيه في قول أبي يوسف رحمه الله لأن أصل رأس المال لم يكن مشتركا بينهما ولم يذكر قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في هذا الكتاب وقد ذكر في كتاب البيوع أن الصلح من أحد ربي السلم يتوقف على إجازة الآخر عندهما فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا على الخلاف أيضا إذ لا فرق بين أن يكون رأس المال الذي نقداه مختلطا أو غير مختلط ومنهم من يقول بل جوابهما هنا كجواب أبي يوسف رحمه الله وهذا لاختلاف الطرق لهما

 

ج / 21 ص -45-        في تلك المسألة فعلى الطريق الذي قلنا إن وجوب المسلم فيه باعتبار عقدهما وكل واحد منهما فيه كشطر العلة الجواب في الفصلين واحد وعلى الطريق الذي قلنا إن تجويز صلح أحدهما يؤدي إلى أن يبطل حق رب السلم عن المسلم فيه ويتقرر في رأس المال ثم يعود في المسلم فيه هذا الجواب قولهم جميعا لأن ذلك إنما يتحقق باعتبار مشاركة الساكت مع المصالح في المقبوض وليس له حق المشاركة هنا إذا لم يكن بينهما شركة فيما نقدا من رأس المال ولو لم يأخذه من رأس المال وقبض شيئا من السلم شاركه صاحبه فيه لأن طعام السلم وجب بالعقد مشتركا بينهما والعقد صفقة واحدة فيشارك أحدهما صاحبه فيما يقبض من الدين المشترك وإذا أسلم الذميان إلى ذمي في خمر ثم أسلم أحدهما بطلت حصته من السلم ورجع إليه رأس ماله لأن إسلامه يمنعه من قبض الخمر بحكم السلم.
ألا ترى أن الخمر لو كانت مبيعا عينا بطل العقد بإسلامه قبل القبض فإذا كانت مملوكة بالعقد دينا أولى فإن صالح من رأس ماله على طعام بعينه أو إلى أجل لم يجز لأن أصل السلم كان صحيحا فإنما عاد إليه رأس المال بعد صحة السلم ببطلان العقد فهو بمنزلة ما لو عاد إليه بالإقالة وقد بينا أن الاستبدال بالمال بعد الإقالة لا يجوز ولو توى لنصراني مال من هذا السلم كان له أن يشارك المسلم فيما قبض من رأس المال لأن أصل رأس المال كان مشتركا بينهما وقد عاد إلى أحدهما بصفة بطريق لا يمكن رده وهو الإسلام فيكون للآخر حق المشاركة معه في المقبوض إذا توى ماله على المسلم إليه من الخمر لأن سلامة المقبوض له كانت بشرط أن يسلم ما بقي من الخمر للآخر وهو بمنزلة دين مشترك بين اثنين إذا صالح أحدهما المديون على شيء وأجاز الآخر اتباع المديون بنصيبه ثم توى ما عليه فإنه يكون له أن يشارك صاحبه فيما قبض فهذا مثله.
ولو أعتق نصراني عبدا نصرانيا على خمر ثم أسلم أحدهما فعليه قيمة نفسه في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله وفي القول الأول وهو قول محمد رحمهما الله عليه قيمة الخمر وهذا بناء على مسألة كتاب البيوع إذا أعتق عبده على جارية فاستحقت الجارية أو هلكت قبل التسليم لأن هنا تعذر تسليم الخمر بإسلام أحدهما بعد صحة التسمية فهو بمنزلة ما لو تعذر بالهلاك أو الاستخلاف والرد بالعيب قال وكذلك الخلع والنكاح والصلح عن دم العمد وقد بينا هذا في كتاب النكاح إن عند أبي يوسف رحمه الله إذا أسلم أحدهما فله مهر مثلها وعند محمد رحمه الله لها قيمة الخمر والخنزير وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بين العين والدين والخمر والخنزير ولو أسلم نصراني خمرا إلى نصراني في حنطة وقبض الخمر ثم أسلم أحدهما لم ينتقض السلم لأن الإسلام طرأ بعد قبض الحرام وإنما بقي من حكم العقد قبض الحنطة والإسلام لا يمنع من ذلك ولو صالح المسلم منهما على رأس ماله لم يجز لأن رأس المال خمر والمسلم ليس من أهل أن يملك الخمر بالعقد ولا بالفسخ

 

ج / 21 ص -46-        ألا ترى أن نصرانيا لو باع نصرانيا جارية بخمر وتقابضا ثم أسلم أحدهما ثم تعاملا لم يجز فكذلك في السلم إذا صالحا على رأس المال وهذا كما لا يتملك المسلم الخمر بالعقد والفسخ لا يملك قيمتها وبه فارق ما لو هلك رأس المال ثم صالحه عليه لأن هناك تصحيح الإقالة على قيمتها ممكن وإنها مال متقوم في حقه وهنا يتعذر تصحيح الإقالة على قيمتها لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وإذا أسلم نصراني إلى نصراني خنزيرا في خمر وقبض الخنزير واستهلكه ثم أسلم أحدهما انتقض السلم لأن الحرام مملوك بالعقد غير مقبوض حين طرأ الإسلام وعليه قيمة الخنزير لأن الخنزير ليس من ذوات الأمثال وحين استهلكه كان هو مالا متقوما في حقهما فيحول حكم رأس المال إلى قيمته.
ألا ترى أنهما لو تقايلا قبل الإسلام وجب رد قيمة الخنزير وكذلك إذا أسلم أحدهما حين انتقض به السلم بخلاف الأول فإن الخمر من ذوات الأمثال ولو استهلكها ثم تقايلا قبل الإسلام كان الواجب الرد مثل تلك الخمر والإسلام يمنع استحقاق تلك أو قيمتها بالإقالة للمسلم وإذا صالح الكفيل بالسلم الطالب من السلم على ثوب والسلم حنطة لم يجز لأن رب السلم بهذا الصلح يصير مملكا الحنطة من الكفيل بالثوب وإذا كان تمليك المسلم فيه من المسلم إليه بعوض لا يجوز فمن غيره أولى ثم هذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ظاهر لأنه لو صالح الكفيل على رأس المال لم يجز عندهما فإذا صالحه على شيء آخر أولى وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز صلحه مع الكفيل على رأس المال لأنه قائم مقام المسلم إليه مطلوب بطعام السلم كالمسلم إليه وصلحه مع المسلم إليه على غير رأس المال يكون استبدالا ويكون باطلا فكذلك صلحه مع الكفيل ولو صالح الكفيل رب السلم على أن زاده رب السلم درهما في رأس المال وقبضه لم يجز لأن أصل الطعام المسلم في المسلم إليه والكفيل مطالب به فلا يمكن إثبات هذه الزيادة على أن يملكها المسلم إليه لأنه ليس لأحد ولاية إدخال الشيء في ملكه من غير رضاه ولأن رب السلم ما أوجب له الزيادة إنما أوجبها للكفيل ولا يمكن إثباتها للكفيل لأن الزيادة ملحقة بأصل العقد وبأصل العقد لا يجوز أن يملك شيئا من رأس المال بالشرط ممن لا يجب عليه شيء من أصل طعام السلم وليس في ذمة الكفيل شيء من أصل طعام السلم فلهذا لا تثبت الزيادة على الكفيل أن يرد الدراهم ولأن الزيادة تثبت على أن يتغير بها وصف العقد والكفيل ليس بعاقد فلا يملك التصرف في وصف العقد وهو دليل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في أن الكفيل لا يملك الصلح على رأس المال لأن ذلك فسخ للعقد وإذا عقد لم يكن إليه تغيير وصف العقد فلا يكون له ولاية فسخ العقد بطريق الأولى.
ولو قال الطالب للكفيل: قد أغلى على السلم فزاده الكفيل مختوم حنطة في السلم لم يجز ذلك كما لو زاده المسلم إليه ولم يحط به شيء من رأس المال لأن الكفيل لا يملك حط شيء من رأس المال فإن رأس المال صار متحققا للمسلم إليه وليس إلى الكفيل ولاية
 

 

ج / 21 ص -47-        إسقاط حقه وقد بينا أن الكفالة بطعام السلم لا تمس رأس المال فلهذا لم يثبت حط شيء من رأس المال بزيادة الكفيل في طعام السلم ولو زاد رب السلم درهما على أن زاده الكفيل مختوم حنطة لم يجز ذلك أيضا لأن كل واحد منهما على الانفراد لا يمكن تصحيحه ولا يمكن أن يجعل هذا ابتداء إسلام الدراهم في مختوم حنطة من الكفيل لأنهما ذكرا ذلك على وجه الزيادة والزيادة تتبع الأصل فلو جعلنا هذا سلما مبتدأ كان أصلا لا زيادة فيكون غير ما أوجباه وذلك لا يجوز ولو كان السلم ثوبا مرويا فأعطاه الكفيل ثوبا أجود منه أو أطول منه على أن زاده رب السلم درهما لم يجز لأن هذه الزيادة لا يمكن إثباتها على سبيل الالتحاق بأصل العقد لما قلنا ولا يمكن إثباتها بمقابلة الجودة أو زيادة الزرع لأن رب السلم التزمها بيعا لا مقصودا بالمعاوضة وكذلك لو أعطاه ثوبا فرد على الكفيل درهما لم يجز لأن الكفيل لم يبايعه بشيء ولم يستحق عليه شيئا من المال فلا يمكن أن يجعل ذلك حطا في حق الكفيل.
ولو كان السلم طعاما فأعطاه الكفيل طعاما فيه عيب على أن يرد عليه درهما مع ذلك لم يجز لأن هذا مع الأصيل لا يجوز على ما بينا أن إقالة العقد في الوصف فكيف يجوز مع الكفيل ولو أعطاه طعاما فيه عيب وتجوز به رجع الكفيل على المكفول عنه بمثل ما كفل به لأن بعقد الكفالة وجب للطالب على الكفيل وللكفيل على المطلوب حق مؤجل إلى أن يقضي عنه ما التزمه وقد فعل ذلك حين أعطاه جنس حقه وتجوز هو بالعيب فيه فيرجع على المكفول عنه بمثل ما كفل به ولو أوفاه الكفيل السلم في غير الموضع الذي شرط فقبله كان له أن يرجع به على الأصيل في موضع الشرط لأنه استحق بالكفالة عليه مثل ما التزم وماله حمل ومؤنة تختلف ماليته باختلاف المكان فقبول رب السلم منه في غير الموضع المشروط بمنزلة قبوله المعيب فيكون له أن يطالب الأصيل بما استوجبه عليه بالكفالة وهو التسليم في الموضع المشروط.
ولو صالحه الكفيل على أن يعطيه السلم في غير موضعه ويعطيه الأجر إلى ذلك الموضع لم يجز الصلح ويرد الأجر ويرد الطعام حتى يوفيه عند الشرط كما لو كان هذا الصلح مع الأصيل وقد بيناه في البيوع ولو كان شرط عليه أن يوفيه إياه بالسواد فصالحه على أن يعطيه بالكوفة ويأخذ له كذا من الأجر لم يجز ذلك ويرجع عليه بذلك إن كان دفعه كما لو صالح مع الأصيل على ذلك وهذا لأنه يأخذ المسلم فيه مع الزيادة وتلك الزيادة خالية عن المقابلة وإذا صالح الذي عليه أصل السلم الكفيل من الطعام على دراهم أو شعير أو ثوب فهو جائز لأن ما استوجبه على المسلم إليه ليس بمستحق له بعقد السلم بل بعقد الكفالة والكفيل بالكفالة والأداء يصير كالمقرض لما أدى إلى المسلم إليه والاستبدال ببدل القرض وبالدين الواجب بغير عقد السلم صحيح ثم إن كان صلحه بعد الأداء فهو ضامن وإن كان قبل الأداء فإن أدى الطعام إلى الطالب برئا جميعا لحصول مقصود المطلوب وهو براءة ذمته بأداء

 

ج / 21 ص -48-        الكفيل ولو أداه المكفول عنه رجع به على الكفيل لأن مقصود المسلم لم يحصل حين احتاج إلى أداء طعام السلم من ماله والكفيل بمنزلة المشتري منه لما أخذه ثم المقاصة بينهما إنما استوجب به الرجوع فيه فإذا أداه من مال نفسه لم تقع المقاصة فكان له أن يرجع على الكفيل به إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه ما أخذه به منه لأنه أخذ بطريق الصلح وهو مبني على التجوز بدون الحق وقد بينا نظيره في سائر الديون.
 وإذا أسلم عشرة دراهم إلى رجل في كر حنطة إلى أجل وقبضها ثم مرض رب السلم وحل الطعام وهو يساوي عشرين درهما فتقايلا السلم ثم مات المريض ولا مال له غيره فإن الإقالة تجوز في ثلث الكر ويرد على الورثة ثلثي رأس المال وثلث الطعام لأن المريض بالإقالة حابي بنصف ماله ولا يمكن تصحيح المحاباة فيما زاد على الثلث ولا وجه لإزالة المحاباة في الزيادة بأن يغرم ذلك المسلم إليه من ماله لأن فيه عود الزيادة على رأس المال من رب السلم بطريق الإقالة وذلك لا يجوز ولا وجه إلى إبطال الإقالة لأن إقالة السلم لا يحتمل التبعيض فيتعين الإطلاق الذي قلنا وهو تصحيح الإقالة في ثلثي الكر وإبطالها في الثلث لأنه لو كان للمريض سوى هذا عشرة دراهم لكانت الإقالة تصح في الكل فإنه يسلم للورثة عشرون درهما والمحاباة بقدر عشرة فيقسم الثلث والثلثان فالسبيل فيه أن نضم ما عدمنا إلى الموجود ثم ننظر إلى ما عدمنا إنه كم هو من الجملة فتبطل الإقالة بقدره والعشرة التي عدمنا من الجملة الثلث فنبطل الإقالة في ثلث الكر ونجوزها في ثلثي الكر بثلثي رأس المال فيحصل للورثة ثلث كر قيمته ستة وثلثان وثلثا رأس المال ستة وثلثان فذلك ثلاثة عشر وثلث ويجعل للمسلم إليه ثلثا كر قيمته ثلاثة عشر وثلث بستة وثلاثين فإنما نفذ بالمحاباة له في ستة وثلاثين وقد سلم للورثة ضعف ذلك فينقسم الثلث والثلثان فإن قيل كيف تبطل الإقالة في الثلث والإقالة في السلم لا ناقض لها قلنا إنما ينفذ من تصرفات المريض ما يحتمل النقض بعد وقوعه فأما ما لا يحتمل النقض فالحكم فيه يثبت على سبيل التوقف كما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في العتق وقد قررنا هذا الأصل في كتاب العتاق والله أعلم بالصواب.

باب الصلح في الغصب
قال رحمه الله: رجل غصب عبدا من رجل ثم صالحه صاحبه من قيمته على دراهم مسماة حالة أو إلى أجل فهو جائز بمنزلة ما لو باع العبد منه بثمن حال أو مؤجل جاز سواء قل الثمن أو كثر فإن كان العبد مستهلكا فأقام الغاصب البينة أن قيمته أقل مما صالحه عليه بكثير لم تقبل بينته في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله تقبل بينته ويرد زيادة القيمة على الغاصب إن كان العبد مستهلكا وقت الصلح وإن كان قائما فالصلح ماض وأصل المسألة أن الصلح عن المغصوب الهالك على أكثر من قيمته يجوز في قول أبي حنيفة ولا يجوز في قولهما ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول موضع الخلاف إذا كان

 

ج / 21 ص -49-        العبد آبقا فأما إذا كان مستهلكا حقيقة فلا خلاف أن الصلح على أكثر من قيمته من النقود لا يجوز حتى إذا تصادقا على أن ما وقع عليه الصلح أكثر من القيمة يجب رده ولكن اختلفا فيه فأبو حنيفة رحمه الله يقول لا أقبل بينة الغاصب على أن قيمته دون ما وقع عليه الصلح لأن إقدامه على الصلح إقرار منه أن قيمته هذا المقدار أو أكثر منه فيكون هو مناقضا في دعواه بعد ذلك ويكون ساعيا في نقض ما تم به فلا يقبل ذلك منه وهما يقولان قد يخفى عليه مقدار القيمة في الابتداء أو يعلم ذلك ولا يجد الحجة لغيبة شهوده فإذا ظهر له ذلك أو حضر شهوده وجب قبول بينته على ذلك لأنه يقصد به إثبات حقه في استرداد الزيادة كالمرأة إذا خالعت زوجها ثم أقامت البينة أنه كان طلقها زوجها ثلاثا قبل الخلع والأصح عندي أن هذا كله يخلف فإن الصلح جائز عند أبي حنيفة رحمه الله على أكثر من قيمة المغصوب وإن كان مستهلكا وتصادقا إن ما وقع الصلح عليه أكثر من القيمة وعندهما لا يجوز وحجتهما في ذلك أن الواجب على الغاصب بعد هلاك العين القيمة وهي مقدرة من النقود شرعا فإذا صالح على أكثر منها من جنس النقود كان ربا كما لو قضى القاضي بالقيمة ثم صالحه على أكثر من القيمة والدليل على أن الواجب هو القيمة وإن ما يقع عليه الصلح بدل عن القيمة أنه لو صالحه على طعام موصوف في الذمة إلى أجل لا يجوز ولو كان ما يقع عليه الصلح بدلا عن العبد لجاز لأن الطعام الموصوف بمقابلة العبد عنه وبمقابلة القيمة يكون مبيعا وقاسا هذا بشريكين في عبد إذا أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر فيضمنه الآخر وصالحه على أكثر من نصف القيمة فإنه لا يجوز لأن الواجب نصف القيمة شرعا وكذلك لو كان المعتق معسرا فصالح الساكت العبد على أن استسعاه في أكثر من نصف القيمة لم يجز لهذا المعنى.
وإذا قضى للشفيع بالشفعة بأكثر من الثمن الذي اشترى به المشتري فرضي الشفيع بذلك لم يجز لأن العوض تقدر شرعا بما أعطاه المشتري فلم تجز الزيادة عليه ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أن المغصوب بعد الهلاك باق على ملك المغصوب منه ما لم يتضرر حقه في ضمان القيمة بدليل إنه لو اختار ترك التضمين بقي العبد مملوكا على ملكه حتى تكون العين عليه وإن كان آبقا فعاد من إباقه كان مملوكا له ولو كان اكتسب كسبا كان له أن يأخذ كسبه ولو كان نصب سكة فيعقل بها سيده بعد موته كان للمغصوب منه وإنما يملك الكسب بملك الأصل وهذا لأنه إذا أبرأ الغاصب من إباقه يجعل القول قول الغاصب ولأن الغاصب هو المشتري للعبد بهذا الصلح فإذا قال هو عندي فقد أقر إنه محل البيع وإنه يصير قابضا له بنفس الشراء فيمكن تصحيح هذا الصلح بينهما شراء.
ألا ترى أن شراء الآبق لا يجوز فإن قال المشتري هو عبدي فقد أخذته ثم اشتراه جاز فكذلك المغصوب قال ولو غصبه كر حنطة ثم صالحه منه وهو قائم بعينه على دراهم مؤجلة فهو جائز لأن الدراهم إذا قوبلت بالحنطة يكون ثمنا والشراء بالثمن المؤجل جائز

 

ج / 21 ص -50-        فكذلك الذهب والفضة والموزونات كلها فأما إذا صالحه على مكيل فلا يجوز فيه النسيئة لأن الكل بانفراده يحرم النساء فإن كان الطعام مستهلكا لم يجز الصلح على شيء من ذلك نسيئة لأنه دين بدين ما خلا الطعام فإن صالحه على طعام مثله إلى أجل حالا فهو جائز لأنه تأجيل في ضمان المغصوب فإن الواجب بهذا الاستهلاك ضمان المثل ولا يتمكن في هذا الصلح معنى المبادلة وكذلك لو صالحه على أقل منه فإنه إسقاط لبعض الواجب وتأجيل فيبقى وإن صالحه على أكثر منه لم يجز نسيئة كان أو حالا لأجل الربا فالمصالح عليه إما أن يكون عوضا عن المستهلك أو عن مثله فكيفما كان فالفضل ربا ولو غصبه كر حنطة وكر شعير فاستهلكهما ثم صالحه على كر شعير إلى أجل على أن أبرأه من الحنطة فهو جائز لأنه أسقط حقه في الحنطة وأجله فيما عليه من ماله لتغيير كل واحد منهما صحيح إذا أفرده فكذلك إذا جمع بينهما وكذلك إذا كان أحدهما قائما فصالحه عليه على أن أبرأه من المستهلك لأنه مستوف عين حقه في القائم مبرئا له عن ضمان المستهلك.
ولو غصبه مائة درهم وعشرة دنانير فاستهلكهما ثم صالحه منهما على كر حنطة بعينه ثم استحق الكراء ووجد به عيبا فرده رجع بالدراهم والدنانير لأن بالاستحقاق والرد بالعيب انتقض الصلح وكان قد صح بطريق المعاوضة فإنما يرجع بعد انتقاضه بالعوض الذي كان حقا له وهو الدراهم والدنانير وإن صالحه على خمسين درهما حالة أو مؤجلة فهو جائز لأنه مبرئ له عن الدنانير وعن بعض الدراهم ومؤجل له فيما بقي من حقه في الدراهم وكل ذلك مستقيم فإن استحقت بعد ما قبضها أو وجدها زيوفا أو ستوقة رجع بمثلها ولو لم ينتقض الصلح لأن صحته هنا بطريق الإسقاط دون المعاوضة فباستحقاق ما استوفى أو رده بعيب الزيافة لا يبطل الإبراء فيما سوى ذلك وإنما ينتقض القبض في المستوفي فيرجع بمثله وكذلك لو صالحه على وزن خمسين درهما فضة فصحة هذا الصلح بطريق الإسقاط لأن المستوفي من جنس حقه فلا يمكن تصحيح الصلح بطريق المعاوضة وكذلك لو غصبه مائة مثقال فضة تبرا وعشرة دنانير فصالحه على خمسين درهما حالة أو مؤجلة فهو جائز إذا كانت الدراهم مثل الفضة بطريق الجودة في الإسقاط لبعض حقه وإن كان خيرا منها لم يجز لأن زيادة الجودة فيما وقع عليه الصلح بمقابلة ما أسقط من الدنانير وبعض الدراهم وذلك ربا وهذا كله بخلاف ما سبق فيما إذا كانت الدنانير لإنسان والدراهم لآخر فصالحاه على مائة درهم أو صالحاه على عشرة دنانير لم يجز وقد غلط فيه بعض المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله فقالوا يجوز الصلح في الوجهين على أن يكون صاحب الدراهم مبرئا عن بعض حقه مستوفيا لما يخصه من الدراهم فإن تصحيح الصلح بهذا الطريق ممكن كما إذا كان المالان لواحد ولكن الفرق بينهما واضح فإن المالين إذا كانا لاثنين فلا بد من قسمة ما وقع الصلح عليه بينهما على قدر ماليهما. وإذا جعلنا صاحب الدراهم مبرئا عن بعض حقه لا يمكنه أن يزاحم صاحبه بما أبرأه عنه

 

ج / 21 ص -51-        من العشرة فلا بد من اعتبار معنى المعاوضة في المالين ابتداء وباعتباره يظهر الربا ولا يوجد هذا المعنى فيما إذا كان المالان لواحد منهما فلهذا صح الصلح بطريق الإبراء ولو غصبه كر حنطة فصالحه منه على نصف كر حنطة والمغصوب قائم بعينه أو صالحه على نصف الكر المغصوب ودفعه إليه واستفضل الثاني غير أن طعام الغصب لم يكن بحضرتهما حين اصطلحا فالصلح جائز حين لم يكن بحضرتهما فإنا نجبر الغاصب على رد العين في الحال وهو في حكم المستهلك من هذا الوجه فيمكن تصحيح الصلح بطريق الإسقاط كما لو كان الكر دينا فصالحه على نصفه وما استفضل الغاصب واجب له أن يرده على المغصوب منه لأنه غير ملكه ولا يتملكه الغاصب حقيقة بما جرى بينهما لأن تصحيح ما جرى بينهما بطريق المعاوضة غير ممكن وبطريق الإسقاط لا يملك العين فلهذا يؤمر بالرد وجميع ما يكال أو يوزن من الدراهم والدنانير في ذلك كالحنطة.
ولو غصب ألف درهم فأخفاها وغيبها عنه ثم صالحه على خمسمائة أعطاها إياه من تلك الدراهم أو من غيرها أحببت له أن يرد الفضل كما في الأول لأن الدراهم تتعين في الملك وفي البعض بحكم الغصب والرد كالحنطة فإن كانت الدراهم في يد الغاصب بحيث يراها المغصوب منه والغاصب منكر للغصب ثم صالحه على خمسمائة منها جاز وكذلك كل ما يكال أو يوزن لأن الغاصب بإنكاره الغصب يزعم أن العين ملكه والشرع جعل القول قوله فيتعذر على المغصوب منه أخذ عينه في الحكم ويكون بمنزلة المستهلك فيمكن تصحيح الصلح منهما بطريق الإسقاط فلهذا أمكن تصحيحه في الحكم ويكون بمنزلة المستهلك والمنكر آثم في الإنكار والغصب فإن وجد المغصوب منه بينة على بقية ماله الذي في يده قضيت له به لأنه لما وجد البينة فقد تمكن من استرداد العين وزال المعنى الذي لأجله كان في حكم المستهلك وتصحيح الصلح بطريق الإسقاط إنما يكون في المستهلك لا في حقهما فلهذا لا يشاركه فيما قبضه ولكنه على حجته مع الغاصب.
ولو أن رجلين ادعيا في دار دعوى ميراثا عن أبيهما فصالح رب الدار أحدهما على مال لم يشركه الآخر فيه إن كان المصالح منكرا أو لأنهما يتصادقان على أن المدعي ملكهما وإن البائع لنصيبه وتصادقهما يكون حجة في حقهما ثم ذكر بعض مسائل الإكراه وأن الإكراه عند أبي حنيفة رحمه الله لا يكون إلا من السلطان وعندهما يكون من كل متغلب يقدر على إيقاع ما هدده به والصلح في حكم الإكراه كالبيع فإنه يعتمد تمام الرضا كالبيع وكما أن الإكراه بالجنس والمقيد بعدم الرضا في البيع فكذلك في الصلح ولو أن قوما دخلوا على رجل بيتا نهارا أو ليلا فهددوه وشهروا عليه السلاح حتى صالح رجلا عن دعواه على شيء فهذا الصلح ينبغي أن يجوز في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه ليس بسلطان والإكراه عنده لا يتحقق إلا من السلطان وكذلك لو أكرهوه على الإقرار فإقراره جائز عنده وعندهما إن كانوا شهروا عليه السلاح لم يجز صلحه وإقراره لأنه صار خائفا التلف على نفسه والسلاح مما

 

ج / 21 ص -52-        لا يلبث وإن كانوا لم يشهروا عليه السلاح وضربوه وتوعدوه فإن كان ذلك نهارا في المصر فالصلح جائز لأنه يستغيث بالناس فيلحقه الغوث في المصر بالنهار قبل أن يأتوا على أحد فالضرب بغير السلاح مما لا يلبث عادة وإن كان ذلك ليلا في المصر أو كان في الطريق غير السفر أو دارا لم يجز الصلح والإقرار لأن اللبث بعيد فصار خائفا التلف على نفسه وكذلك إذا كان في بستان لا يقدر فيه على الناس فهو والمناداة فيه سواء وكذلك الغوث وعلى هذا لو أن الزوج هو الذي أكره في ذلك انتصافه في الصداق لأن الزوج ليس بسلطان فلا معتبر بإكراهه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما المعتبر خوفهما التلف كما ذكرنا قال ولو توعدها بالطلاق أو بالتزويج عليها أو بالتسري لم يكن ذلك إكراها لأنه ما هددها بفعل متلف أو مؤلم بدنها إنما يغمها بذلك والإكراه بهذا القدر لا يتحقق.
وذكر في الأصل إذا كان المدعي رجلين فأكره السلطان المدعي عليه على صلح أحدهما فصالحهما جميعا لم يجز صلحه مع من أكره على الصلح معه وجاز مع الآخر لأنه أنشأ الصلح مع كل واحد منهما ابتداء وهو راض بالصلح مع أحدهما غير راض به مع الآخر لأجل الإكراه وهذا بخلاف ما لو أجبره على أن يقر لأحدهما بدين فأقر لهما بدين لم يجز الإقرار في حق كل واحد منهما لأن الإقرار إخبار منه عن واجب سابق ولم يصح في حق من أكره على الإقرار له فلو صححناه في حق الآخر فقبض نصيبه كان للآخر أن يشاركه في المقبوض ولو قلنا لا يشاركه كان هذا إلزام شيء سوى ما أقر به لأن هذا إقرار بدين مشترك بينهما فلهذا لا يجوز الإقرار بخلاف الصلح فإنه إنشاء عقد يمكن تصحيحه في نصيب أحدهما دون الآخر وهو نظير المريض إذا أقر لوارثه ولأجنبي لم يجز إقراره لواحد منهما ولو أوصى لأجنبي ولوارثه بثلث ماله جاز في نصيب الأجنبي فهذا قياسه والله أعلم بالصواب.

باب الصلح في العارية والوديعة
قال رحمه الله:وإذا قال المستودع ضاعت الوديعة أو قال رددتها عليك فهو مصدق في ذلك لكونه أمينا فإن صالحه صاحبها بعد هذا الكلام على مال لم يجز الصلح في قول أبي يوسف رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والرواية في الأجير المشترك إذا ادعى الرد ثم صالح صاحبه على ما قال فالأجير عنده أمين كالمودع وقال محمد رحمه الله الصلح صحيح والحاصل أن في هذه المسألة ثلاثة أوجه.
أحدها أن يدعي صاحبها عليه الاستهلاك وهو ينكر ذلك وفي هذا يجوز الصلح والاتفاق لأن صاحبها يدعي عليه دينا بسبب لو أقر به لزمه فهذا صلح مع الإنكار وذلك صحيح عندنا.
والثاني أن يقول المودع قد هلكت أو رددتها ولا يدعي صاحبها عليه الاستهلاك ولكنه يكذبه فيما يقول ففي هذا خلاف كما بينا وجه قول محمد رحمه الله أن صاحبها يدعي عليه الضمان بالمنع بعد طلبه وذلك منه بمنزلة الغصب ولو ادعى غصبا على إنسان ثم

 

ج / 21 ص -53-        صالحه على مال جاز الصلح بناء على زعم المدعي فهذا مثله لأن الثمن باق على المودع فهو بهذا الصلح بقي عليه بمال وذلك صحيح عندنا وأبو يوسف رحمه الله يقول المودع أمثل فيثبت بخبره ما أخذ عن دعوى الرد أو الهلاك لأن تأثير كونه أمينا في قبول قوله فصار ثبوت ذلك بقوله كثبوته بالبينة ولو ثبت ذلك بالبينة لم يجز الصلح بعد ذلك وتوجه اليمين على المودع لنفي التهمة عنه لأن البراءة تظهر بخبره بدليل إنه لو مات قبل أن يحلف كانت البراءة تامة وإذا ثبت حصول البراءة بخبره فهو كما لو أبرأ المغصوب منه الغاصب عن المستهلك ثم صالحه على مال وإنما يجوز بالصلح فداء اليمين التي هي حق المدعي خلفا عما فوت عليه المنكر للدعوى بزعمه وهذه اليمين ليست بتلك الصفة بل هي لنفي التهمة ويفدي مثلها بمال كالمرأة إذا أخبرت بانقضاء العدة فالقول قولها مع اليمين ولو صالحها الزوج على مال لم يجز.
ألا ترى أن هذه اليمين تسقط بموته بخلاف يمين المنكر في الدعوى والخصومات فإن وارثه يقوم مقامه في ذلك حتى يحلف على العلم ولأن المودع سلطه على الإخبار بالرد والهلاك فقوله في ذلك كقول المنكر ولو أقر المودع بذلك ثم صالحه لم يجز الصلح والعذر عن اليمين ما ذكرنا.
الثالث فيما إذا قال المودع رددتها وقال المودع استهلكتها ثم صالحه على مال ففي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز هذا الصلح أيضا ذكره في رواية أبي حفص رحمه الله في الجامع وفي قوله الآخر يجوز الصلح وهو قول محمد رحمه الله وجه قوله الأول ما ذكرنا أن البراءة تحصل له بقوله رددتها وقوله في ذلك بمنزلة قول صاحبها والحكم الثابت بخبره لا يبطل بدعوى صاحبها الاستهلاك فكما أن قبل هذه الدعوى لو صالح لم يجز الصلح عنه فكذلك بعد هذه الدعوى وجه قوله الآخر أن الرد وإن ثبت بخبره فصاحبها يدعي عليه شيئا آخر للضمان وهو الاستهلاك فصار ذلك كدعوى مبتدأة عليه فيجوز أن يصالحه على مال.
ألا ترى أن اليمين هنا على ما يدعيه صاحبها بخلاف الأول فهناك اليمين على المودع من الرد وإن هذه اليمين لا تسقط بموته ولكن يحلف الوارث على علمه بالله ما استهلكتها كما يدعيه صاحبها بخلاف الأول وهذا لأن البراءة تثبت بقوله رددتها لكونه أمينا وذلك في حكم القبض بجهة الوديعة وفي الفصل الأول لا يدعي صاحبها لوجوب الدين عليه شيئا آخر وهنا يدعي ذلك قال وإن جحد الطالب أن يكون المستودع قال هذه المقالة قبل الصلح فادعى المستودع أنه قد قالها فالصلح جائز وهذا التفريع على قول أبي يوسف رحمه الله خاصة فأما عند محمد رحمه الله فلا فائدة في هذا الاختلاف لأنه لا يجوز الصلح قبل هذه المقالة وبعدها وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن إقدام المستودع على الصلح طائعا التزام منه للمال بسبب تصحيح ظاهر فهو يريد بها تفريع ذلك أن يبطل ما التزمه فيها فلا يقبل قوله في

 

ج / 21 ص -54-        ذلك كالمرأة إذا اختلعت من زوجها بعد الطلاق الرجعي ثم زعمت أن عدتها كانت قد انقضت قبل الخلع لا يقبل قولها فإن أقام المودع بينة بهذه المقالة بريء من الصلح وإن لم يكن له بينة فعلى الطالب اليمين لأنه يدعي عليه وجوب رد المال عليه فهو كالمختلعة إذا أقامت البينة على أن الزوج طلقها ثلاثا قبل الخلع فإن قيل هو مناقض في الدعوى هنا أيضا شائع في بعض ما قد تم به فينبغي أن لا تقبل بينته ولا يحلف خصمه كالبائع إذا زعم أنه كان باع العين من فلان قبل أن يبيعه من هذا المشتري بخلاف الخلع فإن هناك هي مناقضة في الدعوى أيضا ولكن البينة على الإطلاق مقبولة من غير الدعوى والجواب أن يقول هو غير مناقض في دعواه لأن قبوله الصلح لا يكون إقرارا منه بوجوب شيء عليه ولكنه يدعي خلاف ما يشهد له الظاهر لأن العقود في الظاهر محمولة على الصحة فلا يقبل قوله في ذلك إلا بالبينة وعند عدم البينة القول قول خصمه مع اليمين لكون الظاهر حجة وشاهدا له وإن كانت الوديعة قائمة بعينها وهي مائة درهم فصالحه منها على مائة درهم بعد إقرار أو إنكار لم يجز إذا قامت البينة على الوديعة لأنها عين في يد المودع فيكون الصلح عنها معاوضة ومعاوضة المائة بالمائتين باطل ولا يمكن تصحيحه بطريق الإبراء والإسقاط لأن العين لا تحتمل ذلك وإن لم تقم بينة وكان المودع منكرا فالصلح جائز عند دعوى الدين عند إنكار المودع وعجز المدعي عن الدار وإنه بمنزلة البيع فلهذا صح العقد بدون الإضافة إلى الموكل ثم المقصود من الصلح قطع المنازعة وقطع المنازعة واجب ما أمكن باعتبار معنى البيع وإذا صح الصلح غير مضاف إلى الموكل انقطعت المنازعة بينهما فوجب المصير إلى ذلك استحسانا والله أعلم بالصواب

باب الحكمين
قال رحمه الله: الأصل في جواز التحكيم قوله تعالى:{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء: 35] والصحابة رضي الله عنهم كانوا مجمعين على جواز التحكيم ولهذا بدأ الباب بحديث الشعبي رحمه الله قال كان بين عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما مدارأة بينهما في شيء فحكما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فخرج زيد بن ثابت إليهما وقال لعمر رضي الله عنه ألا تبعث إلي فآتيك يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتي الحكم فأذن لهما فدخلا وألقي لعمر وسادة فقال عمر رضي الله عنه هذا أول جورك وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه فقال زيد لأبي رضي الله عنه لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر يمين لزمتني فلا حلف فقال أبي رضي الله عنه بل يعفي أمير المؤمنين ويصدقه والمراد بالمدارأة الخصومة واللجاج قال الله تعالى:{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}[البقرة: 72] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ثابت بن شريك رضي الله عنهما "لا يدارى ولا يمارى" أي لا يلاحي ولا يخاصم وقد بينا فوائدا الحديث وإذا حكم الحكم بين رجلين ثم تخاصموا إلى حكم آخر فحكم بينهما سوى ذلك ولم

 

ج / 21 ص -55-        يعلم بالأول ثم ارتفعا إلى القاضي فإنه ينفذ الحكم الذي يوافق رأي القاضي من ذلك لما بينا أن حكم كل واحد منهما غير ملزم شيئا وإذا حكم رجلان حكما في خصومة بينهما ما دام في مجلسه ذلك فتجاحدا وقالا لم تحكم بيننا وقال الحاكم بل حكمت فإنه يصدق ما دام في مجلس الحكومة ولا يصدق بعد القيام منه حتى يشهد على ذلك غيره لأنه ما دام في مجلسه فهو يملك إنشاء الحكم بينهما فلا تتمكن التهمة في إقراره به فأما بعد القيام فهو لا يملك إنشاء الحكم فتتمكن التهمة في إقراره وهو نظير المولي إذا أقر بألف والمطلق إذا أقر بالرجعة في الفرق بينهما إذا أقر قبل مضي المدة وبينهما بعده وإن حكماه ولا يشهدا على تحكيمهما إياه لم يقبل قول الحكم فيه عليهما لأنه يدعي لنفسه عليهما ولاية تنفيذ القول وهو غير مصدق فيما يدعي عليهما إذا كانا يجحدانه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.