المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 23 ص -3-         بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب المزارعة
"قال الشيخ الإمام" الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن المزارعة مفاعلة من الزراعة والاكتساب بالزراعة مشروع أول من فعله آدم صلوات الله وسلامه عليه على ما روي أنه لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بحنطة وأمره بالزراعة وازدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف وقال عليه الصلاة والسلام:
"الزارع يتاجر ربه عز وجل" وقال عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض" يعني عمل الزراعة والعقد الذي يجري بين اثنين لهذا المقصود يسمى مزارعة ويسمى مخابرة أيضا على ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فقيل وما المخابرة قال المزارعة بالثلث والربع وإنما سميت مخابرة من تسمية العرب الزارع خبيرا وقيل هذا الاشتقاق من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر فسميت مخابرة بالإضافة إليهم وبيانه في الحديث الذي بدئ الكتاب به ورواه عن أبي المطرف عن الزهري قال حدثني من لا أتهمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود حين عاملهم على خيبر أقركم ما أقركم الله وفيه بيان أن المرسل حجة فإن الزهري رحمه الله أرسل الحديث حين لم يبين اسم الراوي ورواه محمد رحمه الله مستدلا به على جواز المزارعة والمعاملة فقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل الجواز وتأويل ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله من وجهين:
أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر استرقهم وتملك أراضيهم ونخيلهم ثم جعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبيد في نخيل مواليهم وكان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم ولأنهم كانوا أبصر بذلك العمل من المسلمين وما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم فإنهم مماليك للمسلمين يعملون لهم في نخيلهم فيستوجبون النفقة عليهم فجعل نفقتهم فيما يحصل بعملهم وجعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبا وقد نقل بعض هذا عن الحسين بن علي رضي الله عنهما.
والثاني أنه من عليهم برقابهم وأراضيهم ونخيلهم وجعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة وللإمام رأي في الأرض الممنون بها على أهلها إن شاء جعل عليها خراج

 

ج / 23 ص -4-         الوظيفة, وإن شاء جعل عليها خراج المقاسمة وهذا أصح التأويلين فإنه لم ينقل عن أحد من الولاة أنه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك وكذلك عمر رضي الله عنه أجلاهم ولو كانوا عبيدا للمسلمين لما أجلاهم فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب يتمكن من إمساكه واستدامة الملك فيه فعرفنا أن الثاني أصح ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما فعله من المن عليهم بنخيلهم وأراضيهم غير مؤبد بقوله عليه الصلاة والسلام "أقركم ما أقركم الله" وهذا منه شبه الاستثناء وإشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد لأنه علم من طريق الوحي أنه يؤمر بإجلائهم فتحرز بهذه الكلمة عن نقض العهد لأنه كان أبعد الناس عن نقض العهد والغدر وفيه دليل أن المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة وأن الغدر ينتفي بمثل هذا الكلام وإن لم يفهم الخصم فإنهم لم يفهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح منه التحرز عن الغدر بهذا اللفظ قال وإن بني عذرة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر وجاءته يهود وادي القرى شركاء بني عذرة بالوادي فأعطوا بأيديهم وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء كانوا بالقرب من أهل خيبر وإن اليهود بالحجاز كانوا ينتظرون ما يئول إليه حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر فقد كانوا أعز اليهود بالحجاز كما روي أنه كان بخيبر عشرة آلاف مقاتل فلما صاروا مقهورين ذلت سائر اليهود وانقادوا لطلب الصلح فمنهم يهود وادي القرى جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوا بأيديهم أي انقادوا له وطلبوا الأمان وخشوا أن يغزوهم فكان هذا من النصرة بالرعب كما قال عليه الصلاة والسلام نصرت بالرعب مسيرة شهر فلما أعطوا بأيديهم والوادي حين فعلوا ذلك نصفان نصف لبني عذرة ونصف لليهود فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي أثلاثا ثلثا له وللمسلمين وثلثا خاصة لبني عذرة وثلثا لليهود فكان هذا بطريق الصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدل أن للإمام أن يصالح أهل بلده على بعض الأموال والأراضي إذا رضوا بذلك ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بإجلاء اليهود إلى الشام على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وقال عليه الصلاة والسلام إن عشت إلى قابل لأخرجن نجران من جزيرة العرب وكان في ذلك إظهار فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته حيث أن جزيرة العرب مولده ومنشأه طهر الله تلك البقعة عن سكني غير المؤمن فيها وهي أفضل البقاع لأن فيها الحرم وبيت الله تعالى حرم الله تعالى نعم مشاركة غير المؤمن مع المؤمن في السكنى فيها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يتمم ذلك ولم يتفرغ أبو بكر الصديق رضي الله عنه لذلك لأنه لم تطل مدة خلافته وقد كان مشغولا بقتال أهل الردة حتى إذا كان في زمن عمر رضي الله عنه وكان قد سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى اليهود من خيبر وأمر يهود الوادي أن يتجهزوا بالجلاء إلى الشام وكان المعنى في ذلك أن اليهود إنما جاؤوا من الشام إلى أرض الحجاز وكان مقصود رؤسائهم من ذلك طلب الحنيفية لما وجدوا في كتبهم من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعت أمته وبذلك كان يوصي بعضهم بعضا فلما بعث الله تعالى

 

ج / 23 ص -5-         رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنعوا من متابعته والانقياد للحق الذي دعا إليه حسدا وكفرا قال الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] فجوزوا على سوء صنيعهم بأن لا يمكنوا من المقام في أرض العرب وأن يعودوا إلى الموضع الذي جاء من ذلك الموضع آباؤهم فلهذا أجلاهم عمر رضي الله عنه ثم احتج عليه يهود الوادي بقولهم إنما نحن في أموالنا قد أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاسمنا ومعنى هذا الكلام الإشارة منهم إلى الفرق بينهم وبين أهل خيبر فإن خيبر قد افتتحها المسلمون فصارت مملوكة لهم فأما نحن فصالحنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض الأراضي فأقرنا في أموالنا على ما كنا عليه في الأصل ولم يظهر منا خيانة فليس لك أن تجلينا من أرضنا فقال لهم عمر رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم أقركم ما أقركم الله يعني أن هذا اللفظ كان استثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح الذي جرى بينه وبينكم فلا يمنعني ذلك من إجلائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد أن لا يجتمع في أرض العرب دينان وإني مجل من لم يكن له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عهدا خاصا سوى ذلك الصلح العام فقد كان ذلك مقيدا بالاستثناء وأنا مقوم أموالكم هذه فمعطيكم أثمانها يعني بهذا الإجلاء لا أبطل حقكم عن أموالكم ولا أتملكها عليكم مجانا ولكني أعطيكم قيمتها وفيه دليل أن الملك الذمي من الحرمة ما لملك المسلم وأنه متى تعذر إيفاء العين في ملكه يجب إزالته بالقيمة ولهذا قلنا في الكافر إذا أسلم عبده يجبر على بيعه وإذا أسلمت أم ولده تخرج إلى الحرية بالسعاية في القيمة وفيه دليل أن الإمام إذا أحس بالغدر من أهل بلدة من بلاد أهل الذمة وأنهم يخبرون المشركين بعورات المسلمين يكون له أن يجليهم من تلك الأرض إلى أرض أخرى وأنه يقوم من أملاكهم ما يتعذر نقله فيعطيهم عوض ذلك من بيت المال أو من أرض أخرى إن كانت لعامة المسلمين كما فعله عمر رضي الله عنه فإنه أمر بأموالهم فقومت بتسعين ألف دينار فدفعها إليهم وأجلاهم وقبض أموالهم ثم قال لبني عذرة إنا لن نظلمكم ولن نستأثر عليكم أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود فإن شئتم أعطيتم نصف ما أعطيناهم وأعطيتكم نصف أموالهم وإن شئتم سلمتم لنا البيع فتولينا الذي لهم وفيه دليل أن الشفعة تستحق بالشركة في العقار فقد كانت بنو عذرة في الوادي شركاء وأن أحد الشركاء إذا اشترى فله الشفعة فيما اشترى كما للشريك الآخر وإنما يشتريه الإمام للمسلمين بمال بيت المسلمين ليستحق بالشفعة ولكن الإشكال في أنهم لم يطلبوا الشفعة حتى قال لهم عمر رضي الله عنه ما قال.
والشفعة تبطل بترك الطلب بعد العلم بالبيع فقيل هم قد طلبوا الشفعة وأظهروا ذلك بينهم ولكنهم احتشموا عمر رضي الله عنه فلم يجاهروه بذلك فلما بلغه طلبهم قال ما قال وقيل هم عمر رضي الله عنه أن ذلك بيع شرعي وأن لهم الشفعة بذلك فعند ذلك طلبوا الشفعة وقالوا بل نعطيكم نصف الذي أعطيتم من المال وتقاسمونا أموالهم فباعت بنو عذرة في ذلك الرقيق والإبل والغنم حتى دفعوا إلى عمر رضي الله عنه خمسة وأربعين ألف دينار

 

ج / 23 ص -6-         فقسم عمر الوادي نصفين بين الإمارة وبين بني عذرة وذلك زمان التحظير حين حظر عمر رضي الله عنه الوادي نصفين يعني جمع أنصباء المسلمين في جانب وأنصباء بني عذرة في جانب وكان ذلك أمرا عظيما قد اشتهر في العرب حتى جعلوه تاريخا وكانوا يسمون ذلك زمان التحظير فيقول بعضهم لبعضهم كنت زمان التحظير بن كذا سنة كما يكون مثله في زماننا إذا حدث أمر عظيم في الناس يجعل التاريخ منه بمنزلة وقت الوباء وغيره.
وقال الزهري رحمه الله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح أهل خيبر أعطاهم النخل على أن يعملوا ويقاسمهم نصف الثمار وكان يبعث لقسمة ذلك عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم فيقول:
"إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا" وفي هذا الحديث بيان حكمين حكم المعاملة وقد بيناه وحكم الخرص فهو دليل على أن للإمام في الأراضي التي يكون للإمام خراجها خراج المقاسمة وفي الأرض العشرية أن يبعث من يخرص الثمار والزروع على أربابها إلا أن عند الشافعي هذا الخرص بمنزلة الكيل حتى إذا ادعوا النقصان بعد ذلك لا يقبل قولهم إلا بحجة وعندنا هذا الخرص لا يكون ملزما إياهم شيئا لأن الذي يخرص إنما يقول شيئا بظن والظن لا يغني من الحق شيئا فالقول قولهم في دعوى النقصان وعلى من يدعي عليهم الخيانة والسرقة إثبات ذلك بالبينة.
وعلى هذا الأصل جوز الشافعي رحمه الله بيع العرايا وهو بيع الثمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق وقال الخرص بمنزلة الكيل ولم يجوز ذلك علماؤنا رحمهم الله وقالوا الخرص ليس بمعيار شرعي تظهر به المماثلة فيكون هذا بيع الثمر بالثمر مجازفة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"التمر بالتمر مثلا بمثل".
وتأويل ما فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أحدهما أن ذلك كان على سبيل النظر للمسلمين منه حتى يتحرز اليهود من كتمان شيء فقد كانوا في عداوة المسلمين بحيث لا يمتنعون مما يقدروا عليه من الإضرار بالمسلمين وقيل كان بن رواحة مخصوصا بذلك حتى كان خرصه بمنزلة كيل غيره لا يتفاوت قد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي أو كان له ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكونه مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بين فيما رواه بعد هذا ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره ومعنى قوله إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا أي إن شئتم أخذتم على ما خرصت وأعطيتمونا نصف ذلك بعد الإدراك وإن شئتم أخذنا ذلك وأعطيناكم نصف ذلك بعد الإدراك فهذا منه بيان أنه عدل في الخرص ولم يمل إلى المسلمين ولا قصد الحيف على اليهود.
وعن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى أهلها الذين كانت لهم على أن يعملوها فإذا بلغت الثمار كان لهم النصف وللمسلمين النصف فبعث بن رواحة رضي الله عنه فخرصها عليهم وقد بينا فائدة الحديث وفي اللفظ المذكور في هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أنه من عليهم بأراضيهم وجعل عليهم نصف الخارج بطريق خراج المقاسمة وعن حجاج بن أرطاة قال سألت محمد بن علي رضي الله عنه عن المزارعة

 

ج / 23 ص -7-         بالثلث فالنصف فقال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر وأبو بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأهلوهم إلى يومهم هذا يفعلونه وفيه دليل جواز استعمال القياس فقد سئل عن المزارعة وجوازها استدلالا بالمعاملة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل خيبر في النخيل وقيل بل كانت بخيبر نخيل ومزارع فقد كان عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في المزارعة عقد مزارعة وفي هذا الحديث دليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله في جواز المزارعة والمعاملة.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر قال لليهود
"أقركم ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم" فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بن رواحة فخرص عليهم ثم يقول: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا" فكانوا يأخذونه وفي هذا الحديث بيان أن ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم كان على طريقة الصلح وقد يجوز من الإمام المعاملة بين بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين فيضعف من هذا الوجه استدلالهم بمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وفيه دليل هداية بن رواحة رضي الله عنه في باب الخرص فإنهم كانوا أهل نخل وقد علموا أنه أصاب في الخرص حين رغبوا في أخذ ذلك.
وعن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث بن رواحة فيخرص بينه وبين اليهود قال فجمعوا له حليا من حلى نسائهم فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم فقال يا معشر اليهود إنكم أبغض خلق الله تعالى إلي وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم أما الذي عرضتم من الرشوة فهو سحت وإنا لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض وإنما طلبوا من بن رواحة رضي الله عنه ما ظهر منهم من الميل إلى أخذ الرشوة وترك بيان الحق لأجله فإنهم كتموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث أمته من كتابهم وحرفوا الكلم عن مواضعه بهذا الطريق كما قال الله تعالى
{لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وما طلبوا منه التخفيف من غير ميل وخيانة فقد كان بن رواحة رضي الله عنه يفعل ذلك من غير طلبهم وبه كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال للخراصين "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية" ثم أنه قطع طمعهم بما قال إنكم من أبغض خلق الله تعالى إلي وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة فإنهم في عداوة المسلمين بهذه الصفة كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82] وقال عليه الصلاة والسلام "ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله" وكان شكواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت حتى قال: "لو آمن بي اثنا عشر منهم آمن بي كل يهودي على وجه الأرض" يعني رؤساءهم ثم بين أن هذا البغض لا يحمله على الحيف والظلم عليهم فالحيف هو الظلم قال الله تعالى: {يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] فكيف
يحمله ما عرضوا من الرشوة على الميل إليهم وقال أما الذي عرضتم من الرشوة فإنها سحت يعني تناول السحت من معامليكم دون المسلمين وقد وصفهم الله بذلك بقوله:
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [المائدة: 42]

 

ج / 23 ص -8-         والسحت: هو الحرام الذي يكون سببا للاستئصال مأخوذ من السحت قال الله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] أي يستأصلنكم فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض يعني ما يقوله حق وعدل وبالعدل قامت السماوات والأرض وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول في هذا الحديث إشارة إلى أن أمتعة النساء وحليهن لم تزل عرضة لحوائج الرجال فإن اليهود لحاجتهم إلى ذلك تحكموا على نسائهم فجمعوا من حلى نسائهم وحكي أن رجلا من أهل العلم كانت له امرأة ذات يسار فسألها شيئا من مالها لحاجته إلى ذلك فأبت فقال لا تكوني أكفر من نساء خيبر كن يواسين أزواجهن بحليهن وأنت تأبي ذلك.
وعن بن سيرين رحمه الله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر فقال بعثني إليكم من هو أحب إلي من نفسي ولأنتم علي أهون من الخنازير ولا يمنعني ذلك من أن أقول الحق هكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وولده وماله لأنه به نال العز في الدنيا والنجاة في الآخرة قال الله تعالى:
{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران103] يعني بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه.
وينبغي أن يكون اليهود عند كل مسلم بهذه الصفة والمنزلة أيضا فهم شر من الخنازير فيما أظهروا من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسدا وتعنتا فكأنه قال ذلك لأنه قد مسخ منهم قردة وخنازير كما قال الله تعالى:
{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاصر بني قريظة فسمع من بعض سفهائهم شتيمة فقال عليه الصلاة والسلام: "أتشتموني يا أخوة القردة والخنازير" فقالوا ما كنت فحاشا يا أبا القاسم قال: "وذلك لا يمنعني من أن أقول الحق" فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض أي بالحق ومخالفة الهوى والميل بها ثم قال: "قد خرصت عليكم نخيلكم" ففيه دليل أن النخيل كانت مملوكة لهم وأن ما كان يؤخذ منهم بطريق خراج المقاسمة فإن شئتم فخذوه ولي عندكم الشطر وإن شئتم أخذته ولكم عندي الشطر فخذوه فإن لكم فيه منافع فأخذوه فوجدوا فيه فضلا قليلا وهذا دليل على حذاقته في باب الخرص وإن خرصه بمنزلة كيل غيره حين لم يخف عليه الفضل اليسير وإنما تجوز بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمره بالتخفيف في الخرص ولم يترك النصيحة لهم في الأخذ مع شدة بغضه إياهم فدل أنه لا ينبغي للمسلم أن يترك النصيحة لأحد من ولي أو عدو إذا كان لا يخاف على نفسه لأن نصيحته بحق الدين.
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر وقال
"لكم السواقط" قيل المراد من السواقط ما يكسر من الأغصان من النخيل مما يستعمل استعمال الحطب والأصح أن المراد ما سقط من الثمار قبل الإدراك فإن ذلك مما لم يمكن ادخاره إلى وقت القسمة لأنه يفسد فشرط ذلك لهم دفعا للحرج عنهم وفيه دليل على أن مثل هذا يجعل عفوا في حق المزارع والمعامل لأنه لا يتأتى التحرز عنه إلا بحرج والحرج مدفوع

 

ج / 23 ص -9-         وعن بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بن رواحة رضي الله عنه فخرص عليهم مائة وسق فقالت اليهود أشططتم علينا فقال عبد الله رضي الله عنه نحن نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالت بهذا تنصرون وقوله أشططتم علينا أي ظلمتمونا وزدتم في الخرص والشطط عبارة عن الزيادة قال عليه السلام: "لا وكس ولا شطط" وكان ذلك منهم كذبا وكانوا يعلمون ذلك ولكن كان من عادتهم الكذب وقول الزور مع علمهم بذلك كما وصفهم الله تعالى به بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] فرد عليهم تعنتهم بما قال إنا نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالوا بهذا تنصرون أي بالعدل والتحرز عن الظلم فالنصر موعود من الله تعالى للعادلين المتمسكين بالعدل والحق في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. يعني أن تنصروا الله تعالى بالانقياد للحق والدعاء إليه وإظهار العدل ينصركم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع.
واعلم بأن المزارعة في جوازها اختلاف بين العلماء رحمهم الله وكان الخلاف في الصدر الأول والتابعين رحمهم الله تعالى بعدهم واشتبهت فيها الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع محمد رحمه الله ما نقل من الآثار في ذلك ثم بنى عليه بيان المسألة من طريق المعنى فممن قال بجوازها من الصحابة رضي الله عنهم علي رضي الله عنه ومعاذ رضي الله عنه على ما روي عن طاوس رحمه الله قال قدم علينا معاذ رضي الله عنه اليمن ونحن نعطي أراضينا بالثلث والربع فلم يعب ذلك علينا وفيه بيان أن ترك التكثر ممن تعين عليه البيان دليل التقرير فقد كان معاذ رضي الله عنه متعينا للبيان لأهل اليمن لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم ليبين لهم الأحكام واستدل بترك التكثر عليهم بعد ما اشتهر هذا العقد بينهم على جوازه ثم روي عنه أنه أمضى ذلك وفي هذا تنصيص على الفتوى بالجواز.
وعن طاوس رحمه الله أنه سئل عن المخابرة في الأرض فقال خابروا على الشطر والثلث والربع ولا تخابروا على كيل معلوم فكأن طاوسا تعلم من معاذ رضي الله عنه وفيه دليل أن المزارعة على كيل معلوم يشترطه أحدهما لا تجوز وبه يأخذ من يجوز المزارعة لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج بعد حصوله. وعن موسى بن طلحة قال أقطع عمر رضي الله عنه خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد بن مالك والزبير وخبابا ورأيت هذين يعطيان أرضهما بالثلث والربع وعبد الله وسعدا رضي الله عنهم والمراد عبد الله بن مسعود وقد ذكره مفسرا بعد هذا وهو من كبار فقهاء الصحابة وسعد بن مالك من العشرة وكانا يباشران المزارعة بالثلث والربع.
وفي الحديث دليل أن للإمام ولاية الإقطاع فيما ليس بملك لإنسان بعينه لأن ما كان الحق فيه لعامة المسلمين فالتدبير فيه إلى الإمام وله أن يخص بعضهم بشيء من ذلك على حسب ما يرى كما يفعله في بيت المال وعن أبي الأسود قال إنا كنا لنزارع على عهد علقمة

 

ج / 23 ص -10-       والأسود رحمهما الله بالثلث والربع فما يعيبان ذلك علينا وهما من كبار أصحاب علي وعبد الله رضي الله عنهما وفتواهما في ذلك على موافقة فتوى علي وعبد الله رضي الله عنهما حجة أيضا.
وعن محمد بن رافع بن خديج قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى قوم يطمس عليهم نخلا فجاء أرباب النخيل فقالوا يا رسول الله إن فلانا قد طمس علينا نخلنا فقال عليه الصلاة والسلام:
"قد بعثت رجلا في نفسي أمينا فإن أحببتم أن تتخذوا نصيبكم بما طمس وإلا أخذنا وأعطيناكم نصيبكم" فقالوا هذا الحق وبالحق قامت السماوات والأرض والمراد بالطمس المذكور في أول الحديث الحزر والمذكور ثانيا الظلم فالطمس هو الاستئصال ومنه يقال عين مطموسة قال الله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]وكان الحديث في بن رواحة رضي الله عنه في أهل خيبر وإن لم يفسره في هذه الرواية وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت رجلا في نفسي أمينا" في معنى الرد لتعنتهم عليه وهكذا ينبغي للإمام أن يختار لعمله من هو أمين عنده ثم يقبل قوله فيما يخبر به ولا يرده لطعن الطاعنين فالقائل بحق لا بد أن يطعن فيه بعض الناس فالناس أطوار وقليل منهم الشكور وقد تحقق تعنتهم لما خيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هذا الحق وبالحق قامت السماوات والأرض وبيانه في قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71].
وعن الضحاك رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه كان يكري الأرض الجرز بالثلث والربع وكان لا يرى بذلك بأسا والمراد به الأرض البيضاء التي تصلح للزراعة قال الله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27] وعمر رضي الله عنه كان ممن يرى جواز المزارعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينما دار عمر فالحق معه" رضي الله عنه فهو حجة لمن يجوزها.
وعن بن عمر رضي الله عنه أنه قال لرافع بن خديج ما حديث بلغني عن عمومتك في كراء المزارع فقال دخل عمومتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا إلينا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نهى عن كراء المزارع" فقال بن عمر رضي الله عنه قد كنت أعلم أنا كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لرب الأرض ماء في الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء وطائفة من الدين قال لا أدري كم هو قال محمد رحمه الله وهذا عندنا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراء المزارع أنهم كانوا يكرونها بشيء لا يدرون كم هو ولا ما يخرج وفيه دليل أن النهي العام يجوز أن يقيد بالسبب الخاص إذا علم ذلك فقد قيد بن عمر رضي الله عنه النهي المطلق بما عرف من السبب والخصوصية وهو تأويل النهي عند من أجاز المزارعة قال المزارعة بهذه الصفة لا تجوز لأنها تؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصولها فمن الجائز أن يحصل الخارج في الجانب الذي شرط لأحدهما دون الجانب الآخر والربيع الساقي الماء وهو ماء السيل ينحدر من الموضع المرتفع فيجتمع في موضع ثم يسقى

 

ج / 23 ص -11-       منه الأرض ولكن أبو حنيفة رحمه الله أخذ بعموم النهي بحديثين رويا في الباب عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحائط فأعجبه فقال:
"لمن هذا؟" فقال رافع رضي الله عنه لي استأجرته فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تستأجره بشيء منه" وهذا الحديث يمنع حمله على هذا التأويل.
والثاني: ما روي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"نهى عن كراء المزارع" فقلت إنا نكريها بما على الربيع الساقي فقال "لا" فقلت إنا نكريها بالتبن فقال "لا" فقلت إنا نكريها بالثلث والربع فقال عليه السلام: "لا أزرعها أو امنحها أخاك" وهذا إن ثبت فهو نص وكأن هذه الزيادة لم تثبت عند من يرى جوازها وإنما الثابت القدر الذي رواه محمد رحمه الله عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن أسد بن ظهير جاء ذات يوم إلى قومه فقال يا بني خارجة قد دخلت عليكم اليوم مصيبة قالوا ما هي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قلنا يا رسول الله إنا نكريها بما يكون على الربيع الساقي من الأرض فقال عليه السلام: "لا أزرعها أو امنحها أخاك" وإنما سمى ذلك مصيبة لهم لأن اكتسابهم كان بطريق المزارعة وكانوا قد تعارفوا ذلك وكان يشق عليهم تركها فلو كان المراد التأويل الذي أشار إليه في الحديث الأول لم يكن في ذلك كبير مصيبة لتمكنهم من تحصيل المقصود بدفع الأرض مزارعة بجزء شائع من الخارج فهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "ازرعها أو امنحها أخاك" يدل على سد باب المزارعة عليهم بالنهي مطلقا وبه يستدل من يقول من المتعسفة أنه لا يجوز استئجار الأرض بالذهب والفضة لمقصود الزراعة ولكن ما روينا من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وهو قوله لي استأجرته دليل على جواز ذلك وقد ذكر بعد هذا آثارا تدل على جوازه والمراد ها هنا الانتداب إلى ما هو من مكارم الأخلاق بأن يمنح الأرض غيره إذا استغنى عن زراعتها بنفسه ولا يأخذ منه أجرا على ذلك.
وعن يعلى بن أمية وكان عاملا لعمر رضي الله عنه على نجران فكتب إليه يذكر له أرض نجران فكتب إليه عمر رضي الله عنه ما كان من أرض بيضاء يسقيها السماء أو تسقى سحا فادفعها إليهم لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان من أرض تسقى بالغروب فادفعها إليهم لهم الثلثان ولنا الثلث وما كان من كرم يسقيه السماء أو يسقى سحا فادفعه إليهم لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان يسقى بالغروب فادفعه إليهم لهم الثلثان ولنا الثلث والمراد بالأراضي التي هي لبيت المال حق عامة المسلمين أنه يدفعها إليهم مزارعة.
الا ترى أنه فاوت في نصيبهم بحسب تفاوت عملهم بين ما تسقيها السماء أو تسقى بالغروب وهي الدوالي فهو دليل لمن يجوز المزارعة.
وعن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال أخبرني أعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها

 

ج / 23 ص -12-       ولكنه قال: "يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ منه خرجا معلوما" أو قال "خراجا معلوما" وكل واحد من اللفظين لغة صحيحة والمراد بقوله أعلمهم معاذ رضي الله عنه فكأنه أشار به إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" أو قال ذلك لأنه أخذ العلم منه وهكذا ينبغي لكل متعلم أن يعتقد في معلمه أنه أعلم أقرانه ليبارك له فيما أخذ منه ثم قد دعاه عمرو بن دينار إلى الأخذ بالاحتياط والتحرز عن موضع الشبهة والاختلاف فأبى ذلك لأنه كان يعتقد فيه الجواز كما تعلمه من أستاذه وفيه دليل أنه لا بأس للإنسان من مباشرة ما يعتقد جوازه وإن كان فيه اختلاف العلماء رحمهم الله ولا يكون ذلك منه تركا للاحتياط في الدين وقوله: "يمنح أحدكم أخاه" إشارة إلى الانتداب الذي بيناه في الحديث الأول. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال لم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حتى تظالموا كان الرجل يكري أرضه ويشترط ما يسقيه الربيع والنطف فلما تظالموا نهى عنها والنطف جوانب الأرض فهذا إشارة إلى التأويل الذي ذكره محمد رحمه الله وأن النهي كان بناء على تلك الخصومة فكان تقييدا بها.
وعن بن عمر رضي الله عنه قال كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركنا من أجل قوله يعني من أجل روايته وبن عمر كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم وأشار بهذا إلى أنه يعتقد في المزارعة الجواز ولكنه تركها لحيثية مطلق النهي المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم من حلال يتركه المرء على طريق الزهد وإن كان يعتقد الجواز على ما جاء في الحديث:
"لا يبلغ العبد محض الإيمان حتى يدع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام".
وعن بن عمر قال أكثر رافع رضي الله عنه على نفسه ليكريها كراء الإبل معناه شدد الأمر على نفسه بروايته النهي مطلقا من غير رجوعه إلى سبب النهي ولأجل روايته يترك المزارعة ويكري الأرض بالذهب والفضة كراء الإبل فهو دليلنا على جواز الإجارة في الأراضي لمقصود الزراعة. وعن بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا أكرى الأرض اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ولا يعذرها وهذا من المتقرر الذي اختاره عمر رضي الله عنه ولسنا نأخذ به فلا بأس بإدخال الكلب الأرض لحفظ الزرع.
" ألا ترى" أن الحديث جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رخص في ثمن الكلب للصيد والحرث والماشية" وقوله ولا يعذرها أي لا يلقي فيها العذرة وهو ما ينفصل من بني آدم وقد كان بين الصحابة خلاف في جواز استعمال ذلك في الأرض فابن عمر رضي الله عنه كان لا يجوز ذلك وكذلك بن عباس رضي الله عنهما كان ينهى عن إلقاء العذرة في الأرض. وعن سعد رضي الله عنه أنه كان يجوز ذلك وهكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه حتى كان يباشر ذلك بنفسه فعاتبه إنسان على ذلك فجعل يقول مكيل بر بمكيل بر.
وعن أبي حنيفة فيه روايتان في إحدى الروايتين يجوز إلقاؤها في الأرض إذا كان غير مخلوط بالتراب وفي الرواية الأخرى لا يجو ز ذلك إلا مخلوطا وهو الظاهر من المذهب

 

ج / 23 ص -13-       إذا صار مغلوبا بالتراب فحينئذ يجوز إلقاؤها في الأرض ويجوز بيعها لأن المغلوب في حكم المستهلك فأما إذا كانت غير مخلوطة بالتراب فلا يجوز بيعها ولا استعمالها في الأرض لنجاسة عينها بمنزلة الخمر وكانت هذه الحرمة لاحترام بني آدم فبيع السرقين وإلقاؤه في الأرض جائز ولكن لاحترام بني آدم لا يجوز ذلك في الرجيع وهو كالشعر فإن شعر الآدمي لا ينتفع به بعد ما بان عنه بخلاف شعر سائر الحيوانات وصوفها وعلى الرواية الأخرى عن أبي حنيفة إذا ألقاها في الأرض وخلطها بالأرض وصارت مستهلكة فيها يجوز استعمالها كذلك ولكن لا يجوز بيعها غير مخلوطة بالتراب.
وعن خالد الحذاء قال كنت عند مجاهد فذكر حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في كراء الأرض فرفع طاوس يده فضرب صدره ثم قال قدم علينا معاذ رضي الله عنه اليمن وكان يعطي الأرض على الثلث والربع فنحن نعمل به إلى اليوم ومعنى ما قاله طاوس أن معاذا رضي الله عنه كان أعلمهم بالحلال والحرام وما كان يخفى عليه النهي الذي رواه رافع بن خديج وقد كان يباشر المزارعة بالثلث والربع فنحن نتبرم في ذلك ونحمل النهي على ما حمله معاذ رضي الله عنه فقد كان دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله تعالى لما وفقه لما يرضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن كليب بن وائل قال قلت لابن عمر رضي الله عنهما رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر أعطاني أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري ثم قاسمته فقال حسن وفيه منه دليل على أن العالم يفتي بما يعتقد فيه الجواز وإن كان لا يباشره فقد روينا أن بن عمر رضي الله عنهما ترك المزارعة لأجل النهي ثم أفتى بحسنها وجوازها للسائل.
وعن جابر رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم مبشر فقال:
"يا أم مبشر من غرس هذا النخل مسلم أو كافر؟" قالت بل مسلم قال عليه الصلاة والسلام: "لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا سبع ولا طير إلا كانت له صدقة يوم القيامة" وفي رواية "وما أكلت العافية منها فهي له صدقة" يعني الطيور الخارجة عن أوكارها الطالبة لأرزاقها وفيه دليل أن المسلم مندوب إلى الاكتساب بطريق الزراعة والغراسة ولهذا قدم بعض مشايخنا رحمهم الله الزراعة على التجارة لأنها أعم نفعا وأكثر صدقة وقد باشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روينا أنه ازدرع بالجرف وفي الحديث رد على من يكره من المتعسفة الغرس والبناء وقالوا إنه يركن به إلى الدنيا وينتقص بقدره من رغبته في الآخرة {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وهذا غلط ظنوه فإنه يتوصل بهذا الاكتساب إلى الثواب في الآخرة. وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام "نعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة الغرس والبناء" وإن كان حسنا من كل واحد ولكن معنى القربة فيه إذا باشره المسلم دون الكافر فإن الكافر ليس من أهل القربة وهو مأمور بتقديم الإسلام على الاشتغال بالغرس ولكن قد ورد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن ربه عز وجل حيث قال: "عمروا بلادي فعاش فيها عبادي" فلهذا قلنا هذا الفعل حسن من كل أحد.

 

ج / 23 ص -14-       وعن بن المسيب رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسا بكراء الأرض البيضاء بذهب وفضة وعن جبير أنه كان لا يرى بأسا بإجارة الأرض بدراهم أو بطعام مسمى وقال هل ذلك إلا مثل دار أو بيت وهو حجة على مالك رحمه الله فإنه لا يجوز إجارة الأرض بالطعام لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يستأجر بشيء منه" ولكنا نقول الأرض غير منتفع بها كالدار والبيت وكل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح أجرة في الإجارة وتأويل النهي الاستئجار بأجرة مجهولة معدومة هي على خطر الوجود كما يكون في المزارعة وهذا ينعدم في الاستئجار بطعام مسمى وربما يكون في هذا نوع رفق لأن من يستأجر الأرض للزراعة فأداء الطعام أجرة أيسر عليه من أداء الدراهم لقلة النقود في أيدي الدهاقين.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال
"إنما يزرع ثلاثة" رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة, والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فالنهي عنها حجة لنا في إفساد ذلك العقد. والمحاقلة قيل بيع الحنطة في سنبلها بحنطة والعرب تقول الحقلة تنبت الحقلة أي الحنطة تنبت السنبلة وقيل المحاقلة المزارعة وهذا أظهر فقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله: "إنما يزرع ثلاثة" فهو دليل لأبي حنيفة على أن الانتفاع بالأرض للزراعة مقصور على هذه الطرق الثلاثة وأن المزارعة بالربع والثلث لا تكون صحيحة لأن كلمة إنما لتقرير الحكم في المذكور ونفيه عما عداه.
وعن بن عباس رضي الله عنهما قال إن أمثل ما أنتم صانعون أن يستكري أحدكم الأرض البيضاء بذهب أو فضة عاما بعام يعني أبعدها عن المنازعة والجهالة واختلاف العلماء رحمهم الله فإن الأمثل ما يكون أقرب إلى الصواب والصحة وذلك فيما يكون أبعد عن شبهة الاختلاف. وعن مجاهد قال اشترك أربعة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم من عندي البذر وقال الآخر من عندي العمل وقال الآخر من عندي الفدان وقال الآخر من عندي الأرض فقضى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لصاحب الفدان أجرا مسمى وجعل لصاحب العمل درهما كل يوم وألحق الزرع كله لصاحب البذر وألغى الأرض وبهذا يأخذ من يجوز المزارعة فيقول المزارعة بهذه الصفة فاسدة لما فيها من اشتراط الفدان وهي البقر وآلات الزراعة على أحدهم مقصودا به وبما فيها من دفع البذر مزارعة على الانفراد وكل واحد من هذين مفسد للعقد ثم في المزارعة الفاسدة الخارج كله لصاحب البذر لأنه بما بذره.
الا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقه بصاحب البذر وألغى الأرض؟ يعني لم يجعل لصاحب الأرض من الخارج شيئا إلا أنه يستوجب على صاحب البذر أجر مثل أرضه بل يستوجب ذلك عليه كصاحب الفدان وقد أعطاه أجرا مسمى والمراد أجر المثل وصاحب العمل فقد أعطاه درهما كل يوم وتأويله أن ذلك كان أجر مثله في عمله.
وكما أنه سلم لصاحب البذر منفعة الفدان والعامل بحكم عقد فاسد فقد سلم له منفعة

 

ج / 23 ص -15-       الأرض بعقد فاسد فيستوجب أجر المثل وبهذا تبين أن المراد بالإلغاء أنه لم يجعل لصاحب الأرض شيئا من الخارج فكان الطحاوي لا يصحح هذا الحديث ويقول الخارج لصاحب الأرض أو رد ذلك في المشكل وقال البذر يصير مستهلكا لأن النبات يحصل بقوة الأرض فيكون النابت لصاحب الأرض وجعل الأرض كالأم وفي الحيوانات الولد يكون مملوكا لصاحب الأم لا لصاحب الفحل ولكن هذا وهم منه والحديث صحيح وكل قياس بمقابلته متروك.
ثم في الحيوانات توجد الحضانة من الأم لماء الفحل في رحمها وفي حجرها بلبنها نموه بعد الانفصال فلهذا جعلت تابعة للأم في الملك وذلك لا يوجد في الأرض ثم الخارج نماء البذر.
ألا ترى أنه يكون من جنس البذر وقوة الأرض ويكون بصفة واحدة ثم جنس الخارج يختلف باختلاف جنس البذر فعرفنا أنه يكون نماء البذر فيكون لصاحب البذر وهذا هو الحكم في كل مزارعة فاسدة أن للعامل أجر مثل عمله إن عمل بنفسه أو بأجرائه أو بغلمانه أو بقوم استعان بهم بغير أجر ويكون الخارج لصاحب البذر في هذه المسألة بعينها قول جميع المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن المزارعة فاسدة على كل حال وعندهما المزارعة فاسدة هنا كما بينا ثم صاحب البذر يؤمر فيما بينه وبين ربه عز وجل أن ينظر إلى الخارج فيدفع فيه مثل ما بذر ومقدار ما غرم فيه من الأجر لصاحب الأرض ولصاحب العمل ولصاحب البقر فيطيب له ذلك بما غرم فيه ويتصدق بالفضل لتمكن الحنث فيه باعتبار فساد العقد والأصل في المزارعة الفاسدة أنه متى ربى زرعه في أرض غيره يؤمر بالتصدق بالفضل وإن ربى زرعه في أرض نفسه بعقد فاسد لا يؤمر بالتصدق في عقد فاسد وسيأتي بيان هذا الفصل في موضعه إن شاء الله تعالى.

باب المزارعة على قول من يجيزها في النصف والثلث
قال رحمه الله: اعلم أن المزارعة والمعاملة فاسدتان في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وفي قول أبي يوسف ومحمد وبن أبي ليلى هما جائزتان وقال الشافعي المعاملة في النخيل والكروم والأشجار صحيحة ويسمون ذلك مساقاة والمزارعة لا تصح إلا تبعا للمعاملة بأن يدفع إليه الكرم معاملة وفيه أرض بيضاء فيأمره أن يزرع الأرض بالنصف أيضا وقد قدمنا بيان الكلام من حيث الأخبار في المسألة فأما من حيث المعنى فهما يقولان المزارعة عقد شركة في الخارج والمعاملة كذلك فتصح كالمضاربة وتحقيقه من وجهين:
أحدهما: أن الربح هناك يحصل بالمال والعمل جميعا فتنعقد الشركة بينهما في الربح بمال من أحد الجانبين وعمل من الجانب الآخر وهما باعتبار عمل من أحد الجانبين وبذر وأرض من الجانب الآخر أو نخيل من الجانب الآخر والدليل على أن للعمل تأثيرا في تحصيل الخارج أن الغاصب للبذر أو الأرض إذا زرع كان الخارج له وجعل الزرع حاصلا بعمله.
والثاني: أن بالناس حاجة إلى عقد المضاربة فصاحب المال قد يكون عاجزا عن

 

ج / 23 ص -16-       التصرف بنفسه والقادر على التصرف لا يجد مالا يتصرف فيه فيجوز عقد المضاربة لتحصيل مقصودهما فكذلك هنا صاحب الأرض والبذر قد يكون عاجزا عن العمل والعامل لا يجد أرضا وبذرا ليعمل فيجوز العقد بينهما شركة في الخارج لتحصيل مقصودهما.
وفي هذا العقد عرف ظاهر فيما بين الناس في جميع البلدان كما في المضاربة فيجوز بالعرف وإن كان القياس يأباه كالاستبضاع وبهذا الطريق جوز الشافعي رحمه الله المعاملة ولم يجوز المزارعة لأن المعاملة بالمضاربة أشبه من المزارعة فإن في المعاملة الشركة في الزيادة دون الأصل وهو النخيل كما أن المضاربة الشركة في الربح دون رأس المال.
وفي المزارعة لو شرط الشركة في الفضل دون أصل البذر بأن شرطا دفع البذر من رأس الخارج لم يجز العقد فجوزنا المعاملة مقصودا لهذا ولم نجوز المزارعة إلا تبعا للحاجة إليها في ضمن المعاملة وقد يصح العقد في الشيء تبعا وإن كان لا يجوز مقصودا كالوقت في المنقول وبيع الشرب وهذا كله بخلاف دفع الغنم معاملة بنصف الأولاد أو الألبان لأن ذلك ليس في معنى المضاربة فإن تلك الزوائد تتولد من العين ولا أثر لعمل الراعي والحافظ فيها وإنما تحصل الزيادة بالعلف والسقي والحيوان يباشر ذلك باختياره فليس لعمل العامل تأثير في تحصيل تلك الزيادة وليس في ذلك العقد عرف ظاهر في عامة البلدان أيضا ولهذا لو فعل الغاصب لم يملك شيئا من تلك الزوائد فأما هنا فلعمل الزارع تأثير في تحصيل الخارج وكذلك لعمل العامل من السقي والتلقيح والحفظ تأثير في جودة الثمار لأن بدون ذلك لا يحصل إلا ما لا ينتفع به من الحشف فلهذا جوزنا المزارعة والمعاملة ولم نجوز المعاملة في الزوائد التي تحصل من الحيوانات كدود القز والديباج وما أشبه ذلك وأبو حنيفة يقول هذا استئجار بأجرة مجهولة معدومة في وجودها خطر وكل واحد من المعنيين يمنع صحة الاستئجار والاستئجار بما يكون على خطر الوجود في معنى تعليق الإجارة بالخطر والاستئجار بأجرة مجهولة بمنزلة بيع بثمن مجهول وكل واحد منهما عقد معاوضة يعتمد تمام الرضا ثم البيع بثمن مجهول يكون فاسدا فكذلك الاستئجار بأجرة مجهولة وهذا القياس سنده الأثر وهو قوله عليه الصلاة والسلام
"من استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وبيان ما ذكرنا أن البذر إن كان من قبل العامل فهو مستأجر للأرض بما سمى لصاحبها من الخارج وفي حصول الخارج خطر ومقداره مجهول وإن كان من قبل رب الأرض فهو مستأجر للعامل والدليل على أن هذا إجارة لا شركة أنه يتعلق به اللزوم من جانب من لا بذر من قبله وكذلك من جانب الآخر بعد إلقاء البذر في الأرض وعقد المعاملة يتعلق به اللزوم من الجانبين في الحال والشركة والمضاربة لا يتعلق بهما اللزوم والدليل عليه أنه لا بد من بيان المدة واشتراط بيان المدة في عقد الإجارة لإعلام ما تناوله العقد من المنفعة، فأما في الشركة والمضاربة فلا يشترط التوقيت ولا معنى لاعتبار العرف لأن العرف يسقط اعتباره عند وجود النص بخلافه وقد وجد ذلك هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لا تستأجره بشيء منه" وقوله عليه الصلاة والسلام: "فليعلمه أجره".

 

ج / 23 ص -17-       وكما وجد العرف هنا فقد وجد العرف في دفع الدجاج معاملة بالشركة في البيض والفروج وفي دفع البقر والغنم معاملة للشركة في الأولاد والألبان والسمون وفي دفع دود القز معاملة للشركة في الإبريسم ومعنى الحاجة يوجد هناك أيضا ثم لا يحكم بصحة شيء من ذلك باعتبار العرف والحاجة فهنا كذلك وإذا ثبت فساد العقد على قوله كان الخارج كله لصاحب البذر فإن كان صاحب البذر هو العامل فعليه أجر مثل الأرض فينبغي لصاحب الأرض أن يشتري منه نصف الخارج بعد القسمة بما استوجب عليه من أجر المثل وكذلك يفعله العامل إن كان البذر من قبل صاحب الأرض وبهذا الطريق يطيب لكل واحد منهما على قوله ثم التفريع بعد هذا على قول من يجوز المزارعة والمعاملة وعلى أصول أبي حنيفة أن لو كان يرى جوازها. وأبو حنيفة رحمه الله هو الذي فرع هذه المسائل لعلمه أن الناس لا يأخذون بقوله في هذه المسألة ففرع على أصوله إن لو كان يرى جوازها.
ثم المزارعة على قول من يجيزها تستدعى شرائط ستة:
أحدها: التوقيت لأن العقد يرد على منفعة الأرض أو على منفعة العامل بعوض والمنفعة لا يعرف مقدارها إلا ببيان المدة فكانت المدة معيارا للمنفعة بمنزلة الكيل والوزن وهذا بخلاف المضاربة فإن هناك بالتصرف المال لا يصير مستهلكا فلا حاجة إلى إثبات صفة اللزوم كذلك العقد وهنا البذر يصير مستهلكا بالإلقاء في الأرض فبنا حاجة إلى القول بلزوم هذا العقد لدفع الضرر من الجانبين ولا يكون ذلك إلا بعد علم مقدار المعقود عليه من المنفعة.
والثاني: أنه يحتاج إلى بيان من البذر من قبله لأن المعقود عليه يختلف باختلافه فإن البذر إن كان هو من قبل العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض وإن كان من قبل صاحب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل فلا بد من بيان المعقود عليه وجهالة من البذر من جهته تؤدي إلى المنازعة بينهما.
والثالث: أنه يحتاج إلى بيان جنس البذر لأن إعلام جنس الأجرة لا بد منه ولا يصير ذلك معلوما إلا ببيان جنس البذر.
 والرابع: أنه يحتاج إلى بيان نصيب من لا بذر من قبله لأنه يستحق ذلك عوضا بالشرط فما لم يكن معلوما لا يصح استحقاقه بالعقد شرطا.
والخامس: أنه يحتاج إلى التخلية بين الأرض وبين العامل حتى إذا شرط في العقد ما تنعدم به التخلية وهو عمل رب الأرض مع العامل لا يصح العقد.
والسادس: الشركة في الخارج عند حصوله حتى إن كل شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج بعد حصوله يكون مفسدا للعقد.
ثم المزارعة على قول من يجيزها على أربعة أوجه.
أحدها: أن تكون الأرض من أحدهما والبذر والعمل والبقر وآلات العمل كله من

 

ج / 23 ص -18-       الآخر فهذا جائز لأن صاحب البذر مستأجر للأرض بجزء معلوم من الخارج ولو استأجرها بأجرة معلومة من الدراهم والدنانير صح فكذا إذا استأجرها بجزء مسمى من الخارج شائع.
والوجه الثاني: أن تكون الأرض والبذر والبقر والآلات من أحدهما والعمل من الآخر فهذا جائز أيضا لأن صاحب الأرض استأجر العامل ليعمل بآلاته له وذلك صحيح كما لو استأجر خياطا ليخيط بإبرة صاحب الثوب أو طيانا ليجعل الطين بآلة صاحب العمل.
والوجه الثالث: أن تكون الأرض والبذر من أحدهما والبقر والآلات من العامل وهذا جائز أيضا لأن صاحب الأرض استأجره ليعمل بآلات نفسه وهذا جائز كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة نفسه أو قصارا ليقصر الثوب بآلات نفسه أو صباغا ليصبغ الثوب بصبغ له فكذلك هنا وهذا لأن منفعة البقر والآلات من جنس منفعة العامل لأن إقامة العمل يحصل بالكل فيجعل ذلك نابعا لعمل العامل في جواز استحقاقه بعقد المزارعة.
والرابع: أن يكون البذر من قبل العامل والبقر من قبل رب الأرض وهذا فاسد في ظاهر الرواية لأن صاحب البذر مستأجر للأرض والبقر واستئجار البقر بجزء من الخارج مقصودا لا يجوز وهذا لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض فإن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل به الخارج ومنفعة البقر يقام به العمل فلانعدام المجانسة لا يمكن جعل البقر تبعا لمنفعة الأرض ولا يجوز استحقاق منفعة البقر مقصودا بالمزارعة كما لو كان البقر مشروطا على أحدهما فقط والأصل فيه حديث مجاهد في اشتراك أربعة نفر كما بينا.
وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن هذا النوع جائز أيضا للعرف ولأنه لما جاز أن يكون البقر مع البذر مشروطا على رب الأرض في المزارعة فكذلك يجوز أن يكون البقر بدون الأرض مشروطا عليه كما في جانب العامل لما جاز أن يكون البذر مع البقر مشروطا على العامل جاز أن يكون البقر مشروطا عليه بدون البذر.
ثم في الوجوه الثلاثة إن حصل الخارج كان بينهما على الشرط وإن لم يحصل الخارج فلا شيء لواحد منهما على صاحبه لأن العقد انعقد بينهما شركة في الخارج ولئن كان إجارة فالأجرة يتعين محلها بتعيينها وهو الخارج ومع انعدام المحل لا يثبت الاستحقاق وهكذا في الوجه الرابع على رواية أبي يوسف فأما في ظاهر الرواية فالخارج كله لصاحب البذر لأنه نماء بذره فإنه يستحقه الغير عليه بالشرط بحكم عقد صحيح ولم يوجد وعليه لصاحب الأرض أجرة مثل الأرض والبقر لأنه صار مستوفيا منفعة أرضه وبقره بحكم عقد فاسد.
ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويل قوله عليه أجر المثل لأرضه وبقره أنه يغرم له أجر مثل الأرض مكروبة فأما البقر فلا يجوز أن يستحقه بعقد المزارعة بحال فلا ينعقد العقد عليه صحيحا ولا فاسدا ووجوب أجر المثل لا يكون بدون انعقاد العقد فالمانع لا يتقوم إلا بالعقد والأصح أن عقد المزارعة من جنس الإجارة ومنافع البقر يجوز استحقاقها بعقد الإجارة فينعقد عليها عقد المزارعة بصفة الفساد ويجب أجر مثلها كما يجب أجر مثل

 

ج / 23 ص -19-       الأرض وزعم بعض أصحابنا أن فساد العقد هنا على أصل أبي حنيفة لأنه فسد العقد في حصة البقر ومن أصله أن العقد إذا فسد بعضه فسد كله فأما عندهما فينبغي أن يجوز العقد في حصة الأرض وإن كان يفسد في حصة البقر والأصح أنه قولهم جميعا لأن حصة البقر لم يثبت فيه الاستحقاق أصلا وحصة الأرض من المشروط مجهول فيفسد العقد فيه للجهالة وقد بينا نظيره في الصلح إذا صولح أحد الورثة من العين والدين على شيء في التركة.
وسواء أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج فأجر المثل واجب لصاحب الأرض والبقر لأن محل وجوب الأجر هنا الذمة دون الخارج وإنما يجب استيفاء المنفعة وقد تحقق ذلك سواء أحصل الخارج أم لم يحصل وقيل ينبغي في قياس قول أبي يوسف رحمه الله أن لا يزاد بأجر مثل أرضه وبقره على نصف الخارج الذي شرط له وفي قول محمد يجب أجر المثل بالغا ما بلغ على قياس الشركة في الاحتطاب وقد بيناه في كتاب الشركة فإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل عنده مع العامل والخارج بينهم أثلاث جازت المزارعة وللعامل ثلث الخارج والباقي كله لرب الأرض لأن اشتراط العبد على رب الأرض والبذر كاشتراط البقر عليه في هذا الفصل وأنه صحيح فكذلك اشتراط العبد عليه.
ثم المشروط للعبد إن لم يكن عليه دين فهو مشروط لصاحب الأرض وإن كان عليه دين ففي قولهما كذلك وفي قياس قول أبي حنيفة المولى من كسب عبده المديون كالأجنبي فكأنه دفع الأرض والبذر مزارعة إلى عاملين على أن لكل واحد منهما ثلث الخارج حتى أن في هذا الفصل لو لم يشترط العمل على العبد ففي قولهما المشروط للعبد يكون لرب الأرض فيجوز العقد وفي قياس قول أبي حنيفة المشروط للعبد كالمسكوت عنه لأنه لا يستحق شيئا من غير بذر ولا عمل والمسكوت عنه يكون لصاحب البذر وإن كان البذر من العامل والمسألة بحالها فالعقد فاسد لأن اشتراط العمل على رب الأرض كاشتراط البقر عليه وذلك مفسد للعقد وإن كان شرط ثلث الخارج لعبد العامل.
فإن كان البذر من قبل العامل ولا دين على العبد فالعقد صحيح ولرب الأرض ثلث الخارج والباقي للعامل لأن اشتراط العبد عليه كاشتراط البقر والمشروط لعبده إن لم يكن عليه دين كالمشروط له وإن شرط لعبده ثلث الخارج ولم يشرط على عبده عملا فإن كان على العبد دين ففي قول أبي يوسف ومحمد هذا جائز والمشروط للعبد يكون للعامل لأنه يملك كسب عبده المديون وعند أبي حنيفة كذلك الجواب لأن المشروط للعبد كالمسكوت عنه إذا لم يشرط عليه العمل فهو للعامل لأنه صاحب البذر بخلاف ما إذا شرط عليه العمل والعبد مديون لأن العبد منه كأجنبي فكأنه شرط عمل أجنبي آخر مع صاحب البذر على أن يكون له ثلث الخارج وذلك مفسد للعقد في حصة العامل الآخر على ما بينه في آخر الكتاب.
وإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل هو مع العامل لم يجز لأن

 

ج / 23 ص -20-       هذا الشرط يعدم التخلية بين العامل وبين الأرض والبذر وقد بينا نظيره في المضاربة أنه إذا شرط عمل رب المال مع المضارب يفسد العقد لانعدام التخلية والحاكم رحمه الله في المختصر ذكر في جملة ما يكون فاسدا من المزارعة على قولهما يجمع بين الرجل وبين الأرض ومراده أن يكون البقر والبذر مشروطا على أحدهما والعمل والأرض مشروطا على الآخر وهذا فاسد إلا في رواية عن أبي يوسف يجوز هذا بالقياس على المضاربة لأن البذر في المزارعة بمنزلة رأس المال في المضاربة ويجوز في المضاربة دفع رأس المال إلى العامل فكذلك يجوز في المزارعة دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض والعمل فأما في ظاهر الرواية فصاحب البذر مستأجر للأرض ولا بد من التخلية بين المستأجر وبين ما استأجر في عقد الإجارة وتنعدم التخلية هنا لأن الأرض تكون في يد العامل فلهذا فسد العقد.
ثم في كل موضع صار الريع لصاحب البذر من قبل فساد المزارعة والأرض له لم يتصدق بشيء لأنه لا يتمكن في الخارج خبث فإن الخارج نماء البذر بقوة الأرض والأرض ملكه والبذر ملكه وإذا لم تكن الأرض له تصدق بالفضل لأنه تمكن خبث في الخارج فإن الخارج إنما يحصل بقوة الأرض وبهذا جعل بعض مشايخنا الخارج لصاحب الأرض عند فساد العقد ومنفعة الأرض إنما سلمت له بالعقد الفاسد لا بملكه رقبة الأرض فيتصدق لذلك بالفضل ونعني بالفضل أنه يرفع من الخارج مقدار بذره وما غرم فيه من المؤن والأجر ويتصدق بالفضل.
وإن كان هو العامل لا يرفع منه أجر مثله لأن منافعه لا تتقوم بدون العقد ولا عقد على منافعه إذا كان البذر من قبله فلهذا لا يرفع أجر مثل نفسه من الخارج ولكن يتصدق بالفضل وما يشترط للبقر من الخارج فهو كالمشروط لصاحب البقر لأن البقر ليس من أهل الاستحقاق لنفسه فالمشروط له كالمشروط لصاحبه وما يشترط للمساكين للخارج فهو لصاحب البذر لأن المساكين ليس من جهتهم أرض ولا عمل ولا بذر واستحقاق الخارج في المزارعة لا يكون إلا بأحد هذه الأشياء فكان المشروط لهم كالمسكوت عنه فيكون لصاحب البذر لأن استحقاقه بملك البذر لا يشترط والأجرة تستحق عليه بالشرط فلا يستحق إلا مقدار ما شرط له.
وإذا لم يسم لصاحب البذر وسمى ما للآخر جاز لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر ففي القياس هذا لا يجوز لأنهم ذكروا ما لا حاجة بهم إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد ومن لا بذر من قبله يستحق بالشرط فبدون الشرط لا يستحق شيئا ولكنه استحسن فقال الخارج مشترك بينهما والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيان أن الباقي للآخر قال الله سبحانه وتعالى:
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] معناه وللأب ما بقي فكأنه قال صاحب البذر على أن لي ثلثي

 

ج / 23 ص -21-       الخارج ولك الثلث وإذا قال له اعمل ببذري في أرضي بنفسك وبقرك وأجرائك فما خرج فهو كله لي جاز والعامل معين لأن صاحب الأرض والبذر استعان به في العمل حين لم يشترط له بمقابلته شيئا ولأن الذي من جانب العامل منفعة والمنفعة لا تتقوم إلا بالتسمية في العقد فإذا لم يسم لم تتقوم منافعه وإن قال على أن الخارج كله لك فهو جائز أيضا وصاحب الأرض معير لأرضه مقرض لبذره لأنه شرط للعامل جميع الخارج ولا يستحق جميع الخارج إلا بعد أن يكون البذر ملكا له.
ولتمليك البذر منه هنا طريقان أحدهما الهبة والثاني القرض فيثبت الأدنى وهو القرض لأنه متيقن به ثم البذر عين متقوم بنفسه فلا يسقط تقومه عنه إلا بالتنصيص على الهبة ومنفعة الأرض غير متقومة بنفسها فلا تتقوم إلا بتسمية البدل بمقابلتها ولم يوجد فلهذا كان معير الأرض مقرضا للبذر بمنزلة ما لو دفع إليه حانوتا وألف درهم وقال اعمل بها في حانوتي على أن الربح كله لك فإنه يكون مقرضا للألف معيرا للحانوت ولو قال ازرع في أرضي كرا من طعامك على أن الخارج كله لي لم يجز هذا العقد لأنه دفع الأرض مزارعة بجميع الخارج وحكى عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه قال يجوز هذا لأنه لما شرط جميع الخارج لنفسه ولا يكون ذلك إلا بملك البذر فكأنه استقرض منه البذر وأمره بأن يزرعه في أرضه فيصير قابضا له باتصاله بملكه وقد بينا نظير هذا في كتاب الصرف ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن الأصل أن يكون الإنسان في إلقاء بذره في الأرض عاملا لنفسه وقوله على أن الخارج لي محتمل بجواز أن يكون المراد الخارج لي عوضا عن منفعة الأرض ويجوز أن يكون المراد الخارج لي بحكم استقراض البذر والمحتمل لا يترك الأصل به ولا يثبت تمليك البذر منه بالمحتمل فكان الخارج كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض لأن صاحب الأرض ابتغى عن منفعة أرضه عوضا ولم ينل فله أجر مثله أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج.
ولو قال ازرع لي في أرضي كرا من طعامك على أن الخارج لي أو على أن الخارج نصفين جاز على ما قال والبذر قرض على صاحب الأرض أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن قوله ازرع لي تنصيص على استقراض البذر منه فإنه لا يكون عاملا له إلا بعد استقراضه البذر منه فكان عليه بذرا مثل ما استقرض أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأنه صار قابضا له باتصاله بملكه ثم إن كان قال إن الخارج بيننا نصفان فهي مزارعة صحيحة وإن قال على أن الخارج لي فهو استعانة في العمل وكان محمد بن مقاتل رحمه الله يقول ينبغي أن يفسد العقد هنا لأنه مزارعة شرط فيها القرض إذا قال على أن الخارج بيننا نصفان والمزارعة كالإجارة تبطل بالشرط الفاسد ولكن في ظاهر الرواية قال الاستقراض مقدم على المزارعة فهذا قرض شرط فيه المزارعة والقرض لا يبطل بالشروط الفاسدة كالهبة.
وفي الأصل استشهد فقال أرأيت لو قال أقرضني مائة درهم فاشتر لي بها كرا من

 

ج / 23 ص -22-       الطعام ثم ابذره في أرضي على أن الخارج بيننا نصفان ألم يكن هذا جائزا فكذلك ما سبق إلا أن هذا مكروه لأنه في معنى قرض جر منفعة ولو دفع بذرا إلى صاحب الأرض على أن يزرعه في أرضه على أن الخارج بينهما نصفان فهو فاسد وهذه مسألة دفع البذر مزارعة وقد بينا قول أبي يوسف رحمه الله وحكم هذه المسألة على ظاهر الرواية نفى الإشكال في أنه أوجب لصاحب الأرض أجرا مثل أرضه ولم يسلم الأرض إلى صاحب البذر فكيف يستوجب عليه أجر مثله ولكنا نقول صارت منفعته ومنفعة الأرض حكما كلها مسلمة إلى صاحب البذر لسلامة الخارج له حكما.
وكذلك إن لم تخرج الأرض شيئا لأن عمل العامل بأمره في إلقاء البذر كعمله بنفسه فيستوجب عليه أجر المثل في الوجهين جميعا وإن قالا على أن الخارج لصاحب البذر فهو جائز وصاحب البذر معين له في العمل معير لأرضه لأنه ما شرط بآراء منافعه ومنافع أرضه عوضا فيكون متبرعا بذلك كله وإن قال ازرعه لي في أرضك على أن الخارج لك لم يجز لأنه نص على استئجار الأرض والعامل بجميع الخارج حين قال ازرعه لي في أرضك والخارج كله لصاحب البذر وعليه للعامل أجر مثل أرضه وعمله وإن قال ازرعه في أرضك لنفسك على أن الخارج لي لم يجز لأن قوله ازرعه لنفسك تنصيص على إقراض البذر منه ثم شرط جميع الخارج لنفسه عوضا عما أقرضه وهذا شرط فاسد لأن القرض مضمون بالمثل شرعا ولكن لقرض لا يبطل بالشرط الفاسد والخارج كله لرب الأرض وعليه مثل ذلك البذر لصاحبه.
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرع ببذره وبقره ويعمل فيها معه هذا الأجنبي لم يجز ذلك فيما بينهما وبين الأجنبي وهو فيما بينهما جائز وثلث الخارج لصاحب الأرض وثلثاه لصاحب البذر لأن صاحب البذر استأجر بثلث الخارج وذلك فاسد كما لو كانت الأرض مملوكة له وهذا فيما بينهما في معنى اشتراط عمل رب الأرض مع العامل ولكنهما عقدان مختلفان أحد العقدين على منفعة الأرض والآخر على منفعة العامل فالمفسد في أحدهما لا يفسد الآخر فلهذا كان لصاحب الأرض ثلث الخارج والباقي كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الرجل الذي عمل معه وقد أجاب بعد هذا في نظير هذه المسألة فقال يفسد العقد كله وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فإنه قال هناك على أن يعمل معه الرجل الآخر فبهذا اللفظ يصير العقد الفاسد مشروطا في العقد الذي جرى بين صاحب الأرض وبين صاحب البذر فيفسد كله وهنا قال ويعمل معه الرجل الآخر والواو للعطف لا للشرط فقد جعل العقد الفاسد معطوفا على العقد الصحيح لا مشروطا فيه فلهذا لم يفسد العقد بين صاحب الأرض وصاحب البذر ولو كان البذر من قبل رب الأرض كانت المزارعة جائزة والخارج أثلاثا كما اشترطوا لأن صاحب الأرض والبذر استأجر عاملين وشرط لكل واحد منهما ثلث الخارج وذلك صحيح والله أعلم بالصواب.

 

ج / 23 ص -23-       باب ما للمزارع أن يمنع منه بعد العقد
قال رحمه الله وإذا دفع إلى رجل أرضا مزارعة بالنصف يزرعها هذه السنة ببذره وبقره ولما تراضيا على ذلك قال الذي أخذ الأرض مزارعة قد بدا لى في ترك زرع هذه السنة أو قال أريد أن أزرع أرضا أخرى سوى هذه فله ذلك لأن المزارعة على قول من يجيزها إجارة والإجارة تنقض بالعذر وترك العمل الذي استأجر العين لأجله عذر له في فسخ العقد كمن استأجر حانوتا ليتجر فيه ثم بدا له ترك التجارة يكون ذلك عذرا له في الفسخ وكذلك لو استأجر أرضا بدراهم أو بدنانير ليزرعها ثم بدا له ترك الزراعة يكون ذلك عذرا له في الفسخ وهذا لأن الإجارة جوزت لحاجة المستأجر ففي الزام العقد إياه بعد ما بدا له ترك ذلك العمل إضرار به فيؤدي إلى أن يعود إلى موضوعه بالإبطال والضرر عذر في فسخ العقد للازم.
وكذلك أن قال أريد أن أزرع أرضا أخرى لأن البذر من قبله وفي القاء البذر في الأرض اتلاف البذر وقد يحصل الخارج وقد لا يحصل الخارج وفي إلزام العقد صاحب البذر قبل الإلقاء في الأرض إضرار به من حيث أنه يلزم إتلاف ملكه وذلك لا يجوز ثم له في ترك هذه الأرض وزرعه أرضا أخرى غرض صحيح فتلك الأرض مملوكة له أو يمنحه إياها صاحبها أو تكون أكثر ريعا من هذه الأرض فلا يجوز لنا أن نلزمه زراعة هذه الأرض شاء أو أبى وهكذا لو كان استأجرها بدراهم أو دنانير إلا أن هناك لا يفسخ العقد إذا أراد زراعة أرض أخرى لأن في إبقاء العقد بينهما مع اختياره أرضا أخرى للزراعة منفعة لصاحب الأرض وهو أنه استوجب الأجر دينا في ذمته بالتمكن من الإنتفاع وإن لم يزرع.
وفي المزارعة لا فائدة في إبقاء العقد مع امتناعه من زراعة هذه الأرض لأن حق صاحب الأرض في الغلة والغلة لا تحصل بدون الزراعة فلهذا قلنا يفسخ العقد بينهما ثم في الإستئجار بالدراهم إذا أراد ترك الزراعة أصلا يكون ذلك عذرا لأنه يتحرز عن اتلاف البذر بإلقائه في الأرض وإذا أراد أن يزرع أرضا أخرى لا يكون ذلك عذرا له وذلك لا يصير مستحقا له بمطلق العقد.
وإذا كان البذر من جهة رب الأرض أجبر العامل على أن يزرعها إن أراد ترك لزارعة سنته تلك أو لم يرد لأن العامل هنا أجير لرب الأرض وعلى الأجير الإيفاء بما التزم بعد صحة العقد وهذا لأنه ليس في إيفاء العقد إلحاق ضرر به سوى ما التزمه بالعقد لأنه التزم بالعقد إقامة العمل وهو قادر على إقامة العمل كما التزمه بالعقد وموجب العقود اللازمة وجوب تسليم المعقود عليه فأما في الفصل الأول ففي إلزام العقد إياه الحاق ضرر به فيما لم يتناوله العقد لأن البذر ليس بمعقود عليه وفي القائه في الأرض اتلافه وإن بدا لرب الأرض والبذر أن يترك الزراعة في تلك الأرض أو في غيرها فله ذلك لأنه في إلزام العقد إياه إتلاف بذره والبذر ليس بمعقود عليه فلا يجوز أن يلزمه إتلافه بالإلقاء في الأرض إنما هو موهوم عسى يحصل وعسى لا يحصل.
وإن كان البذر من العامل لم يكن لصاحب الأرض أن يمنع الزارع من الزراعة لأنه مؤجر

 

ج / 23 ص -24-       لأرضه ولا يلحقه بإيفاء العقد ضرر فيما لم يتناوله العقد وإنما الضرر عليه في إلزام تسليم الأرض وقد التزم ذلك بمطلق الزراعة إلا أن يكون له عذر والعذر دين لا يقدر على قضائه إلا من ثمن هذه الأرض فإن حبس فيه كان له أن يبيعها لقضاء الدين لأن في إيفاء العقد هنا إلحاق الضرر به فيما لم يتناوله العقد وهو تعينه وقد بينا في كتاب الإجارات أن مثل هذا عذر له في فسخ الإجارة وأنه يفسخ العقد بنفسه في إحدى الروايتين وفي الرواية الأخرى القاضي هو الذي يتولى ذلك ببيعه في الدين على ما فسره في الزيادات.
ولو دفع نخلا له معاملة بالنصف ثم بدا للعامل أن يترك العمل أو يسافر فإنه يجبر على العمل أما إذا بدا له ترك العمل فلأن في إيفاء العقد لا يلحقه ضرر لم يلتزمه بالعقد لأنه التزم بالعقد إقامة العمل ولا يلحقه سوى ذلك وأما في السفر فقد ذكر في غير هذا الموضع أن ذلك عذر له لأن بالإمتناع يلحقه ضرر لم يلتزمه بالعقد وفيما ذكر هنا لا يكون عذرا له لأنه يتعلل بالسفر ليمتنع من إقامة العمل الذي التزمه بالعقد وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فهناك وضع المسألة فيما إذا شرط عليه إقامة العمل بيده وبعد السفر لا يتمكن من ذلك ولا يجوز أن يحول بينه وبين سفر يبتلى به في المدة لما في ذلك من الضرر عليه وهنا وضع المسألة فيما إذا لم يشترط عليه العمل بيده فهو متمكن من إقامة العمل بإجرائه وأعوانه وغلمانه بعد السفر بنفسه فلا يكون ذلك عذرا له في الفسخ وكذلك إن بدا لصاحب النخيل أن يمنع العامل منه ويعمل بنفسه أو يدفعه إلى عامل آخر فذلك لا يكون عذرا له في الفسخ بخلاف من البذر من قبله في باب المزارعة لأن هناك هو يحتاج إلى إتلاف بذره بالإلقاء في الأرض وهنا رب النخيل لا يحتاج إلى ذلك فيكون العقد لازما من جانبه بنفسه كما في جانب العامل وإنما العذر من جانبه أن يلحقه دين فادح لا وفاء عنده إلا من ثمن النخل فإذا حبس فيه كان ذلك عذرا له في فسخ المعاملة للبيع في الدين كما بينا في الأرض والله أعلم.

باب الأرض بين رجلين يدفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة
قال رحمه الله: وإذا كانت الأرض بين رجلين فدفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة على أن يزرعها هذه السنة ببذره وبقره على أن الخارج بينهما نصفان فالمزارعة فاسدة لأن الدافع كأنه قال لصاحبه ازرع نصيبك من الأرض ببذرك على أن الخارج كله لك وهذه مشهورة صحيحة أو قال وازرع نصيبي ببذرك على أن الخارج كله لي وهذا فاسد لأنه دفع الأرض مزارعة بجميع الخارج وهي مطعونة عيسى رحمه الله وقد بيناها بالأمس.
 فإن قيل لماذا لم يجعل كأنه قال ازرع نصيبي ببذرك على أن الخارج بيننا نصفين وازرع نصيبك ببذرك على أن الخارج بيننا نصفين حتى تصح المزارعة في نصيب الدافع من الأرض؟
 قلنا لأنه يكون ذلك منه انتهاب المعدوم وطمعا في غير مطمع وهو أن يشترط لنفسه جزأ بما أخرجه نصيب صاحبه من غير أن يكون منه أرض أو بذر أو عمل والعاقل لا يقصد

 

ج / 23 ص -25-       ذلك بكلامه عادة فلذلك حملناه على الوجه الأول وأفسدنا المزارعة والخارج كله للزارع لأنه نماء بذره وعليه أجر مثل نصف الأرض لصاحبه لأنه استوفى منفعة نصيبه من الأرض بعقد فاسد ويطيب له نصف الخارج لأنه ربى نصف الزرع في أرض نفسه ولا فساد في ذلك النصف ويأخذ من النصف الآخر ما أنفق فيه وغرم ويتصدق بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض الغير بسبب فاسد فيتصدق بالفضل.
ولو كان البذر من الدافع فالعقد فاسد لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي من الأرض ببذري على أن الخارج كله لي وهذه استعانة صحيحة لو اقتصر عليها ولكنه قال وازرع نصيبك من الأرض ببذري على أن الخارج كله لك وهذا أيضا إقراض صحيح للبذر لو اقتصر عليه ولكن الجمع بينهما يظهر الفساد باعتبار أنه جعل بإزاء عمله في نصيب الدافع منفعة إقراض البذر إياه أو تمليك البذر منه هبة في مقدار ما يزرع به نصيب نفسه فلهذا فسد العقد والزرع كله للدافع لأن إقراض شيء من البذر غير منصوص عليه وإنما كنا نثبت التصحيح للعقد بينهما وليس فيه تصحيح العقد فلا يجعل مقرضا شيئا من البذر منه فلهذا كان الخارج كله لصاحب البذر وللعامل عليه أجر مثل عمله وأجر حصته من الأرض لأن منفعة حصته من الأرض ومنفعة عمله سلمت للدافع بعقد فاسد ويطيب له نصف الريع لأنه رباه في أرض نفسه ويأخذ من النصف الآخر نصف البذر وما غرم من أجر مثل نصف الأرض ونصف أجر مثل العامل ويتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بسبب فاسد.
 ولو كان البذر من العامل على أن ثلثي الخارج له وللدافع الثلث جاز لأن تقدير كلامه كأنه قال ازرع نصيبك ببذرك على أن الخارج كله لك وهي مشهورة صحيحة وازرع نصيبي ببذرك على أن ثلثي الخارج منه لي والثلث لك وهي مزارعة صحيحة ولا يتولد من الجمع بينهما فساد فكان الخارج بينهما على الشرط ولو كان البذر من الدافع كان العقد فاسدا لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي ببذري على أن لك ثلث الخارج وهذا صحيح ولكنه قال وازرع نصيبك ببذرك على أن الخارج كله لك وهذا إقراض للبذر لو اقتصر عليه إلا أنه باعتبار الجمع بينهما يظهر الفساد من حيث أنه جعل له بالعمل في نصيبه من الأرض ثلث الخارج ومنفعة إقراض نصف البذر وكذلك إن كان شرط الثلثين للدافع, لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي ببذرك على أن الخارج كله لي وهذه استعانة صحيحة ولكنه قال وازرع نصيبك ببذري على أن لي ثلث الخارج وهذا دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض فلهذا كان فاسدا ولو كان البذر بينهما نصفين على أن ثلثي الخارج للعامل وثلثه للآخر فهذا فاسد لأن الدافع شرط للعامل ثلث الخارج من نصيبه من البذر وذلك فاسد لأن عمله يلاقي بذرا أو زرعا مشتركا بينهما وأحد الشريكين بعمله فيما هو فيه شريك لا يستوجب الأجر على صاحبه فلهذا فسد العقد والخارج بينهما نصفان طيب لهما لأن البذر بينهما نصفان وكل واحد منهما إنما ربى زرعه في أرضه ولا أجر لواحد منهما على صاحبه لأن العامل إنما عمل فيما هو

 

ج / 23 ص -26-       فيه شريك وهو لعمله فيما هو فيه شريك لا يستوجب الأجر لأن شريكه في المعمول يمنع تسليم العمل إلى غيره وبدون التسليم لا يجب الأجر فاسدا كان العقد أو جائزا وكذلك لو شرط الثلثين للدافع ومعنى الفساد هنا أبين لأن الدافع شرط لنفسه جزأ مما يحصل في أرض العامل ببذره من غير أن يكون له في ذلك أرض ولا بذر ولا عمل.
 ولو اشترطا أن الخارج بينهما نصفان فهذا جائز لأن العامل معين للدافع هنا فإن المشروط لكل واحد منهما بقدر حصته من البذر فكأنه قال ازرع أرضك ببذرك على أن الخارج كله لك وازرع أرضي ببذري على أن الخارج كله لي وهذه استعانة صحيحة فيكون العامل معينا له في نصيبه ولو اشترطا ثلثي البذر على الدافع وثلثه على العامل والريع نصفان فهذا فاسد لأن الدافع يصير كأنه قال ازرع أرضي ببذري على أن الخارج كله لي وازرع أرضك ببذرك وبذري على أن الخارج كله لك وباعتبار الجمع بين هذين العقدين يفسد العقد لأنه جعل له بإزاء عمله في نصيبه منفعة إقراض ثلث البذر وذلك فاسد ولأنه أوجب له جزأ من الخارج من بذره بعمله فيما هو شريك فيه وذلك فاسد وما خرج فثلثاه لصاحب ثلثي البذر وثلثه لصاحب ثلث البذر على قدر بذرهما والأجر للعامل لأنه عمل في شيء هو شريك فيه ولا يتصدق صاحب الثلث بشيء منه لأنه رباه في أرض نفسه وصاحب الثلثين يغرم أجر مثل سدس الأرض للعامل لأنه استوفى منفعة ثلث نصيبه من الأرض بعقد فاسد والشركة في الأرض لا تمنع وجوب الأجر على الشريك كما لو استأجر أحد الشريكين من صاحبه بيتا ليحفظ فيه الطعام المشترك ثم يطيب له نصف الزرع لأنه رباه في أرضه ويبقى سدس الزرع فيستوفي منه ربع بذره وما غرم من أجر مثل سدس الأرض ويتصدق بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره في ذلك الجزء بسبب فاسد.
 ولو اشترطا أن ثلث البذر على الدافع وثلثيه على العامل والخارج نصفان فهو فاسد لأنه يصير كأنه قال ازرع ببذرك نصيبك على أن الخارج كله لك وازرع نصيبي ببذري وبذرك على أن الخارج كله لي وهذه مطعونة عيسى رحمه الله والعقد فيها فاسد على رواية الكتاب لأن في الجزء المشروط على العامل من البذر استئجار الأرض بجميع ما تخرجه وذلك فاسد فيكون للعامل ثلثا الريع وعليه سدس أجر مثل الأرض لأنه ربى زرعه في ثلث نصيب صاحبه وذلك سدس الأرض بعقد فاسد فيلزمه أجر مثل ذلك ويطيب له نصف الريع ويرفع من السدس الباقي ربع نصيبه من البذر وما غرم من الأجر ويتصدق بالفضل وثلث الريع طيب للدافع لأنه رباه في أرض نفسه.
 ولو اشترطا البقر على الدافع والبذر على العامل والخارج نصفان فهذا فاسد لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبك ببذرك وبقري على أن الخارج كله لك وازرع نصيبي ببذري وبذرك على أن الخارج كله لي وهذا فاسد من وجهين أحدهما ما بيننا والثاني أنه جعل له بإزاء عمله في نصيبه منفعة البقر ليعمل به في نصيب نفسه ولو كان البذر كله من العامل والبقر من

 

ج / 23 ص -27-       الدافع والشرط أن يكون الخارج بينهما نصفين فهو فاسد لأنه جعل بإزاء منفعة عمله في نصيب منفعة البقر له بزراعته نصيب نفسه وذلك مفسد للزراعة ثم الخارج كله لصاحب البذر وللآخر مثل أجر بقره وأجر مثل نصف الأرض يستوفي الزارع نصف الخارج فيطيب له ويأخذ من النصف الآخر نصف البذر ونصف أجر البقر ونصف أجر مثل الأرض ويتصدق بالفضل وكذلك لو اشترطا الثلثين لصاحب البذر لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي من الأرض ببذرك وبقري على أن لك ثلث الخارج وقد بينا أن البقر إذا كان مشروطا على صاحب الأرض ولا بذر من قبله أن المزارعة تكون فاسدة والله أعلم.

باب اجتماع صاحب الأرض مع الآخر على العمل والبذر مشروط عليهما
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا على أن يزرعها بنفسه وبقره والبذر بينهما نصفان والخارج بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لأن الدافع يصير كأنه قال ازرع نصف الأرض ببذري على أن الخارج كله لي وازرع نصف الأرض ببذرك على أن الخارج كله لك وكل واحد من هذين صحيح لو اقتصرا عليه لأن أحدهما استعان بالعامل والآخر أعاره الأرض ولكن عند الجمع بينهما يظهر المفسد بطريق المقابلة وهو أنه لما جعل للعامل بإزاء عمله في نصف الأرض منفعة نصف الأرض وذلك في المزارعة لا يجوز والخارج بينهما نصفان على قدر بذرهما ولا أجر للعامل لأنه عمل في شيء هو شريك فيه فإنه ألقى في الأرض بذرا مشتركا ثم عمل في زرع مشترك فلا يستوجب الأجر ولصاحب الأرض على العامل نصف أجر مثل الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بحكم عقد فاسد وقد بينا أن الشركة في الخارج لا تمنع وجوب أجر مثل الأرض لأنه يجب أجر مثل النصف الذي هو مشغول بزرع العامل ثم يطيب نصف الخارج لصاحب الأرض لأنه رباه في أرضه وأما العامل فيتصدق بالفضل فيما بينه وبين ربه لأنه رباه في أرض غيره بسبب فاسد.
 وكذلك لو اشترط للعامل ثلثي الخارج والفساد هنا أبين لأن الدافع شرط للعامل ثلث الخارج من نصيبه ومنفعة نصف الأرض بإزاء عمله وذلك مفسد للعقد وكذلك لو اشترط لصاحب الأرض ثلثي الخارج لأن العامل جعل له بمقابلة منفعة نصف الأرض ثلث الخارج منه وعمله في النصف الآخر من الأرض له وكذلك لو كان البذر ثلثاه من أحدهما بعينه واشترط الريع على قدر البذر فهو فاسد إن كان ثلثا البذر من العامل فلمقابلة منفعة ثلثي الأرض بمقابلة عمله في ثلث الأرض لصاحبه وإن كان ثلث البذر من قبل الدافع فلمقابلة منفعة ثلث الأرض بعمله في ثلثي الأرض لصاحبه وكذلك إن اشترطا أن الريع بينهما نصفان فهذا فاسد والفساد هنا أبين لأنه جعل الدافع للعامل ثلث منفعة الأرض وبعض الخارج من بذره بإزاء عمله في نصيبه أو على عكس ذلك فيكون العقد فاسدا في الوجوه كلها والخارج بينهما على قدر البذر.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا له على أن يعمل فيها رب الأرض والمدفوع إليه سنته هذه

 

ج / 23 ص -28-       ببذر بينهما نصفان على أن الخارج بينهما نصفان فهذا جائز لأنه أعاره نصف الأرض ليزرعه ببذر نفسه وزرع نصف الأرض بنفسه لنفسه وكل واحد منهما صحيح ولا يظهر فساد بالجمع بينهما ولو اشترط لرب الأرض ثلثي الخارج كان هذا فاسدا لأنه دفع إليه نصف الأرض مزارعة بثلث ما يخرج ولكن شرط عمل رب الأرض معه وهذا شرط يعدم التخلية بين المستأجر وبين ما استأجر فيفسد به العقد والخارج بينهما على قدر بذرهما ولا أجر لواحد منهما على صاحبه لأنه عمل فيما هو شريك فيه ولصاحب الأرض على الآخر أجر مثل نصف الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بعقد فاسد ويطيب لصاحب الأرض نصيبه ويتصدق العامل بما زاد على البذر والنفقة والأجر الذي غرمه لأنه رباه في أرض غيره بسبب فاسد.
ولو اشترطا الثلثين للعامل كان فاسدا أيضا لأن الدافع دفع إليه نصف الأرض مزارعة بثلث الخارج وشرط عمل نفسه معه ثم جعل له منفعة نصف الأرض بإزاء عمله مع ما شرط له من ثلث الخارج فهذا كان فاسدا والخارج بينهما نصفان ولا أجر لصاحب الأرض على العامل هنا لأنه ما ابتغى على منافع أرضه عوضا حين لم يشترط لنفسه فضلا بخلاف الأول فإن هناك شرط الفضل لنفسه فعرفنا أنه ابتغى على منافع الأرض عوضا ولم ينل فكان له أجر مثل نصف الأرض على صاحبه ثم يطيب لكل واحد منهما نصيبه من الزرع لأن العامل لما لم يجب عليه الأجر عرفنا أن نصف الأرض كان في يده بطريق العارية ولا فساد في ذلك فيطيب له الخارج.
ولو اشترطا العمل عليهما جميعا والخارج بينهما نصفان والبذر من المدفوع إليه خاصة فعملا أو عمل صاحب الأرض وحده جعل له منفعة نصف الأرض بمقابلة عمله في النصف الآخر معه من الأرض وشرط لنفسه مع ذلك منفعة إقراض نصف البذر منه وذلك مفسد للعقد ثم الخارج كله لصاحب البذر ولصاحب الأرض نصف أجر مثل أرضه وأجر مثل نفسه في عمله إن كان عمل لأنه لا شركة في الخارج هنا فصاحب البذر استوفى منفعة أرضه وعمله بعقد فاسد فيجب عليه أجر المثل والله أعلم.

باب اشتراط شيء بعينه من الريع لأحدهما
قال رحمه الله: وإذا اشترطا أن يرفع صاحب البذر بذره من الريع والباقي بينهما نصفان فهو فاسد أياما كان البذر لأن جواز المزارعة على قول من يجوزها لمتابعة الآثار فأما القياس فما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله فمتى كان العقد لا على الوجه الذي ورد به الأثر أخذ فيه بالقياس ثم المزارعة شركة في الخارج وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما مع حصول الخارج في بعضه أو في كله كان مفسدا للعقد وقدر البذر من جملة الريع فإن البذر بالإلقاء في الأرض يتلف فهذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في بعض الريع أو في جميعه إذا كان لا يحصل من الخارج إلا قدر البذر وهذا بخلاف المضاربة لأن رأس المال هنا

 

ج / 23 ص -29-       ليس من الربح فإن بالتصرف لا يتلف رأس المال فاشتراط دفع رأس المال لا يوجب قطع الشركة بينهما في شيء من الربح ثم اشتراطه دفع البذر هنا في كونه مخالفا لموجب العقد كاشتراط كون رأس المال بينهما في المضاربة.
ولو اشترطا أن الربح ورأس المال كله نصفان فسد العقد فهذا قياسه ولو اشترطا أن يرفع صاحب البذر عشر الخارج لنفسه والباقي بينهما نصفان جاز لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة في شيء من الريع بينهما مع حصول الخارج فإنه ما من قدر يخرج إلا ويبقى بعد رفع العشر منه تسعة أعشاره ثم هذا في المعنى اشتراط خمسة ونصف من عشرة لصاحب البذر وأربعة ونصف للآخر وذلك لا يؤدي إلى قطع الشركة في شيء من الريع وكذلك لو اشترط العشر لمن لا بذر من قبله والباقي بينهما نصفان جاز لما قلنا.
ولو اشترطا رفع الخراج من الريع والباقي بينهما نصفان كان فاسدا لأن الخراج على رب الأرض وهو دراهم مسماة أو حنطة مسماة فاشتراط رفع الخراج بمنزلة اشتراط ذلك القدر من الخارج لرب الأرض وهذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الريع مع حصوله لجواز أن لا يحصل إلا ذلك القدر أو دونه ولو كانت الأرض عشرية فاشترطا رفع العشر إن كانت الأرض تشرب سحا أو نصف العشر إن كانت تشرب بدلو والباقي بينهما نصفان فهذا جائز لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج فإنه ما من مقدار تخرجه الأرض إلا وإذا دفع منه العشر أو نصف العشر يبقى شيء ليكون مشتركا بينهما نصفين فإن حصل الخارج أخذ السلطان حقه من عشر أو نصف والباقي بينهما نصفان لأنهما شرطا كذلك والمؤمنون عند شروطهم وإن لم يأخذ السلطان منهم شيئا أو أخذوا بعض طعامهم سرا من السلطان فإن العشر الذي شرط من ذلك للسلطان يكون لصاحب الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله على قياس من أجاز المزارعة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يكون بينهما نصفين.
وأصل المسألة فيما تقدم بيانه في الزكاة أن من أجر أرضه العشرية فالعشر عند أبي حنيفة على رب الأرض وعندهما العشر في الخارج على المستأجر ففي المزارعة رب الأرض مؤجر للأرض أو مستأجر للعامل إن كان البذر من قبله فالعشر عليه عند أبي حنيفة في الوجهين فالمشروط للعبد مشروط لرب الأرض وعندهما العشر في الخارج فإذا لم يأخذ السلطان منهما العشر أو أخذا بعض الطعام سرا من السلطان فالخارج بينهما نصفان وكذلك المشروط للعشر يكون بينهما نصفين وكان ذلك مشروطا لهما ولو كان صاحبه قال للعامل لست أدري ما يأخذ السلطان منا العشر أو نصف العشر فإنما تلك على أن النصف لي مما تخرج الأرض بعد الذي يأخذ السلطان ولك النصف فهذا فاسد في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز بينهما على ما قالا.
ومعنى هذه المسألة أن الأرض قد تكون بحيث تكتفي بماء السماء عند كثرة الأمطار وقد تحتاج إلى أن تسقى بالدلاء عند قلة المطر وفي مثله السلطان يعتبر الأغلب فيما يأخذ من

 

ج / 23 ص -30-       العشر أو نصف العشر فكأنهما قالا لا ندري كيف يكون حال المطر في هذه السنة وماذا يأخذ السلطان من الخارج فتعاقدا على هذه الصفة ثم عند أبي حنيفة رحمه الله العشر أو نصف العشر يكون على رب الأرض فبهذا الشرط هما شرطا لرب الأرض جزءا مجهولا من الخارج أما العشر أو نصف العشر وذلك مفسد للعقد. وعند أبي يوسف ومحمد العشر أو نصف العشر يكون في الخارج والخارج بينهما نصفان فهذا في معنى اشتراط جميع الخارج بينهما نصفين وذلك غير مفسد للعقد.
وإذا دفع إلى رجل أرضا من أرض الخراج يزرعها بنفسه وبذره وبقره فما خرج منها دفع منه حظ السلطان وهو النصف مما تخرج وكان ما بقي بينهما لرب الأرض ثلثه وللعامل الثلثان فهو جائز على ما اشترطا وإنما يعني خراج المقاسمة وللإمام رأي في الخراج بين خراج المقاسمة وبين خراج الوظيفة وخراج المقاسمة جزء من الخارج حتى لا يجب إلا بوجود حقيقة الخارج بخلاف خراج الوظيفة فكان ذلك بمنزلة العشر عند أبي حنيفة وهو على رب الأرض فالمشروط لخراج المقاسمة كأنه مشروط لرب الأرض وهذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة وعندهما خراج المقاسمة في الخارج فيكون عليهما على قدر الخارج بينهما فكأنهما شرطا الثلث والثلثين في جميع الخارج فيصح العقد فإن أخذ السلطان من رب الأرض الخراج وترك المقاسمة فالنصف الذي شرطاه للسلطان هو لرب الأرض والباقي بينهما على ما اشترطا ومعنى هذا أن السلطان قد يفتح بلدة ويمن بها على أهلها ثم يتردد رأيه في توظيف خراج المقاسمة عليهم أو خراج الوظيفة فلا يعزم على شيء من ذلك حتى يحصل الخارج أو كان جعل عليهم خراج المقاسمة على أنه إن بدا له أن يجعل عليهم خراج الوظيفة فعل ذلك وقد يشترط ذلك حتى لا يعطلوا الأراضي فيكون هذا من الإمام نظرا لأرباب الخراج فإذا بدا له بعد حصول الخارج أن يأخذ خراج الوظيفة فإنه يأخذ ذلك من رب الأرض ثم النصف المشروط للسلطان يكون لرب الأرض. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يشكل لأن ذلك على رب الأرض وإن كان خراج المقاسمة فالمشروط له مشروط لرب الأرض وعندهما لأن بدل ذلك أخذه السلطان من رب الأرض والغنم مقابل بالغرم فما شرط لخراج المقاسمة يكون لرب الأرض بهذا الطريق.
وكذلك لو لم يأخذ السلطان خراجا ولا مقاسمة وترك ذلك أصلا أو أخذا شيئا من الطعام سرا ثم قاسمهم السلطان ما بقي فأخذ نصفه فإن ما أخذاه سرا لصاحب الأرض ثلثه وللمزارع ثلثاه فقد عطف أحد الفصلين على الآخر بقوله وكذلك وجوابهما يختلف فإنه يأخذ إذا لم يأخذ السلطان شيئا فعطف ذلك على المسألة الأولى دليل على أن المشروط لخراج المقاسمة يكون لرب الأرض وفيما إذا أخذا شيئا من الطعام سرا نص على أنه يكون أثلاثا بينهما ففيما ذكره في هذا النوع نوع من التشويش والحاصل أن على قول أبي حنيفة المشروط للخراج يكون مشروطا لرب الأرض ففي الفصلين يكون النصف المشروط لخراج المقاسمة يكون

 

ج / 23 ص -31-       لرب الأرض والباقي بينهم أثلاثا وعند أبي يوسف ومحمد خراج المقاسمة في الخارج إلا إذا أخذ السلطان الخراج من رب الأرض فحينئذ يكون ذلك له عوضا عما أخذه السلطان منه فإذا لم يأخذ منه شيئا أو أخذا شيئا من الطعام سرا فذلك مقسوم بينهما على أصل المشترط لصاحب الأرض ثلثه وللمزارع ثلثاه وقد ذكر في بعض النسخ في هذا الفصل الأخير أن ما أخذاه سرا يكون لصاحب الأرض ثلثاه وللمزارع ثلثه فعلى هذا يتفق الجواب في الفصول الثلاثة ويتحقق العطف فإن ذلك النصف لرب الأرض والثلث من النصف الباقي له فإذا أخذ ثلثي الخارج فقد وصل إليه جميع هذا ولكن هذا الجواب بناء على قول أبي حنيفة فأما عندهما فالتخريج ما ذكرنا وقيل بل هذا الجواب قولهم جميعا لأن المقاسمة واجبة باسم الخراج كالوظيفة والخراج مؤنة تجب على رب الأرض فالمشروط للخراج بمنزلة المشروط لرب الأرض عندهما جميعا.
وكذلك لو كان البذر من صاحب الأرض والذي قلناه أولا من أن المسألة على الخلاف هو الأصح وقد نص عليه في بعض نسخ الأصل ولو قال لا أدري ما يأخذ السلطان في هذه السنة المقاسمة أو الخراج فإنما تلك على أن أرفع مما تخرج الأرض حظ السلطان مقاسمة كان أو خراجا أو يكون ما بقي بيننا لي الثلث ولك الثلثان فرضي المزارع بذلك فهذه مزارعة فاسدة من أيهما كان البذر لأن هذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصول الخارج عشرا بأن يأخذ السلطان خراج الوظيفة ويكون الخارج بقدر ذلك أو دونه ثم الريع كله لصاحب البذر كما هو الحكم في المزارعة الفاسدة والخراج والمقاسمة أيهما كان على صاحب الأرض لما بينا أن الخراج مؤنة للأرض فيكون على صاحب الأرض ثم إن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل ولو عمل بنفسه كان الخراج عليه فكذلك إذا استأجر العامل فيه وإن كان البذر من قبل العامل فرب الأرض مؤجر للأرض ومنفعة الأرض تحصل له بهذه الإجارة كما يحصل إذا استوفاها بنفسه فيكون الخراج عليه والله أعلم.

باب ما يفسد المزارعة من الشروط وما لا يفسدها
قال رحمه الله: وإذا اشترط رب الأرض على العامل الحصاد فالمزارعة فاسدة من أيهما كان البذر والأصل أن العمل الذي به يحصل الخارج أو يتربى في المزارعة الصحيحة يكون على العامل وذلك بمنزلة الحفظ والسقي إلى أن يدرك الزرع لأن المزارعة على قول من يجيزها شركة في الخارج ورأس مال العامل فيها عمل مؤثر في تحصيل الخارج كما في المضاربة وما يكون من العمل بعد الإدراك التام إلى أن يقسم كالحصاد والدياس والتذرية يكون عليهما لأن الخارج ملكهما فالمؤنة فيه عليهما بقدر الملك وما يكون من العمل بعد القسمة كالحمل إلى البيت والطحن يكون على كل واحد منهما في نصيبه خاصة لأن بالمقاسمة تميز ملك أحدهما عن ملك الآخر فيكون التدبير في ملك كل واحد منهما إليه فإذا شرطا الحصاد على العامل فهذا لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين فيفسد به

 

ج / 23 ص -32-       العقد كما لو شرط رب الأرض الحمل والطحن عليه في نصيب نفسه ولأن المزارعة تنتهي باستحصاد الزرع.
الا ترى أن الزرع بعد ما استحصد لو دفعه معاملة إلى رجل ليقيم فيه هذه الأعمال بالثلث لم يجز بخلاف ما إذا كان الزرع بقلا فدفعه معاملة إلى من يحفظه ويسقيه بالثلث فإذا شرط الحصاد على العامل فهذا عمل شرط عليه بعد انتهاء العقد واستحقاق العمل عليه بالعقد وكل شرط يوجب عليه عملا بعد انتهاء العقد فهو فاسد يفسد به العقد.
وروى بشر وبن سماعة عن أبي يوسف أن العقد لا يفسد بهذا الشرط ولكن إن لم يشترطا فهو عليهما وإن شرطا فهو على المزارع لأن العرف الظاهر أن المزارع يباشر هذه الأعمال فهذا شرط يوافق المتعارف فلا يفسد به العقد ولكن بمطلق العقد لا يستحق عليه إلا ما يقتضيه العقد فإن شرط ذلك عليه صار مستحقا بالعرف كما لو اشترى حطبا في المصر بشرط أن يوفيه في منزله وفي المعاملة قال هذا الشرط يفسد المعاملة لأنه ليس فيه عرف ظاهر وكان نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة رحمهما الله يقولان هذا كله على العامل شرط عليه أو لم يشرط لأن فيه عرفا ظاهرا يتناوله والمعروف كالمشروط فقد جوزنا بعض العقود للعرف وإن كان القياس يأباه كالاستبضاع فهذا مثله وهذا هو الصحيح في ديارنا أيضا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله إذا استفتى في هذه المسألة قال فيها عرف ظاهر ومن أراد أن لا يتعطل فعليه أن لا يمتنع مما هو العرف وكذلك لو اشترطا شيئا من ذلك على صاحب الأرض كان العقد فاسدا لما بينا وفي جانب رب الأرض فساد العقد بهذا الشرط على الأقاويل كلها لأنه ليس فيه عرف ظاهر.
الا ترى أن رجلا لو جاء إلى رجل قد صار زرعه بقلا فعامله على أن يقوم عليه ويسقيه حتى يستحصد فما خرج فهو بينهما نصفان كان جائزا ولو عامله بعد ما استحصد على أن يحصده ويدوسه ويذريه وينقيه ويحمله إلى منزله أو إلى موضع كذا كان العقد فاسدا وهذا لأن المزارعة على قول من يجيزها إنما تكون باعتبار الأثر والأثر إنما جاء في مزارعة يكون للعمل فيها تأثير في تحصيل الخارج وذلك لا يوجد في الفصل الثاني وفي الفصل الأول يوجد ذلك لأن الزرع يزداد بعمل العامل بمنزلة الثمار تخرج بعمل العامل فلهذا صح العقد هناك ولم يصح هنا.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه على أن ما رزق الله تعالى من شيء فهو بيننا نصفان فصار قصيلا فأرادا أن يقصلاه ويبيعاه فحصاد القصيل وبيعه عليهما لأنهما أنهيا العقد بما عزما عليه والقصل في القصيل كالحصاد بعد الاستحصاد لأنه عمل في ملك مشترك وليس له تأثير في زيادة الخارج فكما أن الحصاد بعد الإدراك عليهما فكذلك حصاد القصيل عليهما ويستوي إن كان البذر من قبل رب الأرض أو المزارع ولو استحصد الزرع فمنعهم السلطان من حصاده أما ظلما أو لمصلحة رأى في ذلك أو استوفى منهم الخراج

 

ج / 23 ص -33-       فالحفظ عليهما لأن الحفظ بعد الاستحصاد بمنزلة الحصاد فإن عقد المزارعة ينتهي بالحصاد.
ولو دفع إلى رجل نخلا له معاملة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه على أن الخارج بينهما نصفان فهو جائز وعلى العامل حفظه بالليل والنهار حتى يصير تمرا لأن عقد المعاملة قائم بينهما ما لم يصر تمرا والحفظ من الأعمال التي تستحق على العامل بعقد المعاملة فإذا صار تمرا فقد انتهى العقد وبقي التمر مشتركا بينهما فكان الحفظ بعد ذلك والجداد عليهما بقدر ملكيهما فإن اشترط صاحب النخل على العامل في أصل المعاملة بعد ما يصير تمرا كانت المعاملة فاسدة لأنه شرط لنفسه منفعة عليه بعد انتهاء العقد ولو أراد في المعاملة الصحيحة أن يجداه بسرا فيبيعانه أو يلقطانه رطبا فيبيعانه فإن اللقاط والجذاذ عليها نصفين لما بينا أنهما أنهيا العقد بما عزما عليه فإن الجذاذ قبل الإدراك بمنزلته بعد الإدراك ولكن الحفظ على العامل ما دام في رؤوس النخيل حتى يصير تمرا لأن عقد المعاملة بينهما باق فإنه إنما ينتهي ضمنا للجذاذ واللقاط فلا يكون منتهيا قبله وحال قيام العقد الحفظ مستحق على العامل والله أعلم.

باب الشرط فيما تخرج الأرض وفي الكراب وغيره
قال رحمه الله: إذا دفع الرجل أرضا له مزارعة بالنصف سنته هذه على أن البذر من قبل العامل فقال صاحب الأرض أكريها ثم ازرعها فقال العامل أزرعها بغير كراب فإنه ينظر في ذلك فإن كانت تزرع بغير كراب ويحصل الريع إلا أن بالكراب أجود فإن شاء العامل كرب وإن شاء لم يكرب وإن كانت لا تخرج زرعا بغير كراب لم يكن له أن يزرع إلا بكراب لأن المقصود بالمزارعة تحصيل الخارج فإن العمل الذي لا بد منه لتحصيل الخارج يصير مستحقا عليه بمطلق العقد وما يحصل الخارج بدونه لا يصير مستحقا عليه إلا بالشرط لأن بمطلق العقد يستحق المعقود عليه بصفة السلامة ولا يستحق صفة الجودة إلا بالشرط فإذا كانت تلك الأرض بحيث لا يحصل ريعها إلا بكراب فهذا عمل لا بد منه فيصير مستحقا على العامل بمطلق العقد إلا إن شاء أن يدع الزرع لأن البذر من قبله فلا يكون العقد لازما في حقه قبل إلقاء البذر في الأرض.
وإن كان الريع يحصل بغير كراب ومع الكراب يكون أجود ولكن صفة الجودة لا تستحق بمطلق العقد وبدون الكراب صفة السلامة تحصل في الريع فيتخير العامل لذلك وإن كانت تخرج بعد الكراب شيئا قليلا نظرت فيه فإن كان مما يقصد الناس ذلك بالزراعة تخير المزارع في الكراب وإن كان ذلك شيئا لا يقصده الناس بالعمل يجبر على الكراب لأن مطلق العقد يتقيد بالمتعارف ولأن ما لا يقصد تحصيله بالزراعة عادة يكون معينا وقضية عقد المعاوضة صفة السلامة عن العيب فيصير الكراب مستحقا على العامل لتحصيل صفة السلامة لصاحب الأرض في نصيبه من الخارج.

 

ج / 23 ص -34-       وإذا كان يخرج بغير كراب ما يقصد بالزراعة فأدنى السلامة يحصل بغير كراب والأعلى لا يصير مستحقا إلا بالشرط وكذلك إن زرع ثم قال لا أسقي ولكن أدعها حتى تسقيها السماء فإن كانت تكتفي بماء السماء إلا أن السقي أجود للزرع لم يجبر على السقي وإن كانت مما لا يكفيه سقي السماء أجبر على السقي وكذلك لو كان البذر من قبل صاحب الأرض في جميع ذلك للمعنى الذي قلنا ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يكربها ويزرعها سنته هذه بالنصف فأراد أن يزرعها بغير كراب فليس له ذلك ويجبر على الكراب سواء كان البذر من قبل المزارع أو من قبل رب الأرض لأن أصل الريع وإن كان يحصل بغير كراب فمع الكراب أجود وصفة الجودة تصير مستحقة بالشرط كصفة الجودة في المسلم فيه وصفة الكتابة والحبر في العبد تصير مستحقة بالشرط وإن كان لا يستحق بمطلق العقد وكذلك لو شرط في المسلم فيه أن يوفيه في مصر كذا فله أن يوفيه في أي ناحية من نواحي المصر شاء وإن شرط عليه أن يوفيه في منزله في المصر فليس له أن يوفيه في موضع آخر إلا أن يكون الريع يحصل بالكراب وغير الكراب على صفة واحدة فحينئذ لا يعتبر هذا الشرط لأنه غير مفيد.
وكذلك إن كان الكراب بحيث يضر بالزرع وقد يكون ذلك عند قوة الأرض فإن الكراب يحرق الأرض والزرع وإذا كان بهذه الصفة فليس على المزارع أن يكربها لأن اعتبار الشرط للمنفعة لا للضرر واشتراط التثنية على المزارع في المزارعة يفسد العقد قال لأنه يبقى منفعتها في الأرض بعد مضي السنة بخلاف الكراب فإنه لا تبقى منفعته في الأرض بعد مضي السنة فاشتراطه لا يفسد المزارعة وتكلموا في تفسير التثنية فقيل المراد أن يكربها مرتين ثم يزرع فعلى هذا اشتراط التثنية في ديارنا لا يفسد المزارعة لأنه لا تبقى منفعتها بعد مضي السنة وفي الديار التي تبقى منفعتها في الأرض بعد سنة إن كانت المزارعة بينهما سنة واحدة يفسد بهذا العقد لأنه لا تبقى منفعتها في الأرض بعد المدة وقيل معنى التثنية أن يكربها بعد ما يحصد الزرع فيردها مكروبة وهذا الشرط مفسد للعقد لأن المزارعة تنتهي بإدراك الزرع فقد شرط عليه عملا بعد انتهاء العقد وفيه منفعة لرب الأرض وقيل معنى التثنية أن يجعلها جداول كما يفعل بالمبطخة فيزرع ناحية منها ويبقي ما بين الجداول مكروبا فينتفع رب الأرض بذلك بعد انتهاء المزارعة وهذا مفسد للعقد والحاصل أنه متى شرط على العامل ما تبقى منفعته لرب الأرض بعد مضي المدة فالمزارعة تفسد به كما لو شرط عليه أن يكرب أنهارها والمزارعة بينهما سنة واحدة فإن كرب الأنهار تبقي منفعتها بعد انقضاء السنة وكذلك لو شرط عليه إصلاح مشاربها أو بناء حائط فيها أو أن يسرجنها فهذا كله مما تبقى منفعته في الأرض بعد مضي مدة المزارعة فتكون مفسدة للمزارعة.
ولو دفع إليه الأرض والبذر على أن يعمل سنته هذه على أنه إن زرع بغير كراب فللمزارع ربع الخارج وإن كربها ثم زرعها فللمزارع ثلث الخارج وإن كرب وثنى ثم زرع فالخارج بينهما نصفان فهذه مزارعة جائزة على ما اشترطا لأنه ذكر أنواعا من العمل وأوجب له

 

ج / 23 ص -35-       بمقابلة كل نوع شيئا معلوما من الخارج فيصح العقد كما لو دفع ثوبا إلى خياط فقال إن خطته رومية فلك درهم وإن خطته فارسية فلك نصف درهم وهذا لأن أوان لزوم العقد من الجانبين وانعقاد الشركة بينهما في الخارج عند إلقاء البذر في الأرض والكراب والتثنية كل ذلك يسبق إلقاء البذر فعند لزوم العقد نوع العمل معلوم وبدله معلوم فيجوز العقد كما في مسألة الخياطة فإن وجوب الأجر عند إقامة العمل وذلك عند العمل معلوم والبدل معلوم وقال عيسى رحمه الله هذا الجواب غلط لأنه ذكر قبل هذا أن اشتراط التثنية على المزارع يفسد العقد وهنا قد شرط عليه التثنية وضم إليه نوعين آخرين من العمل فتمكنت الجهالة هنا في العمل ومقدار البدل عند العقد مع اشتراط التثنية فلأن يكون مفسدا للعقد كان أولى وإن كان لا يفسد العقد إذا كربها أو زرعها بغير كراب فينبغي أن يفسد العقد إذا ثنى لأنه تعين ذلك بعمله فكأنه شرط ذلك في الابتداء بعينه ولكن ما ذكره في الكتاب أصح, أما إذا جعلنا تفسير التثنية أن يردها مكروبة فلا حاجة إلى الفرق بين هذا وبين ما سبق وإن جعلنا تفسير التثنية أن يكربها مرتين فهناك تعين عليه التثنية بالشرط وهي مما تبقى منفعتها بعد مضي المدة فلا يجوز أن يجبر المزارع على إقامتها وهنا لا يتعين عليه التثنية بل يتخير هو في ذلك إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وهذا غير مفسد للعقد كما إذا أطلق العقد يصح ويتخير المزارع بين أن يثني الكراب وبين أن يكربها ويدع التثنية فإن زرع بعضها بكراب وبعضها بغير كراب وبعضها بكراب وثنيان فهو جائز وما زرعها بغير كراب فللخارج بينهما يكون أرباعا وما زرعها بكراب فهو بينهما أثلاثا وما زرع بكراب وثنيان فهو بينهما نصفان اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأنه لا يتعين على صاحب الأرض والبذر شرط عقده بهذا التبعيض وهو متعارف بين الناس أن يزرع بعض الأرض بكراب وثنيان وبعضها بكراب وبعضها بغير كراب وهذا بخلاف مسألة الخياطة فإن هناك ليس له أن يخيط بعض الثوب رومية وبعضه فارسية لأن ذلك يفوت المقصود على صاحب الثوب وهذا غير متعارف في الثوب الواحد أن يخاط بعضه رومية وبعضه فارسية بل يعد ذلك عيبا في الثوب.
وكذلك لو كان البذر من قبل المزارع في جميع ذلك وكذلك لو كان الشرط أن ما زرع بكراب وثنيان فهو بينهما نصفان فهذا والأول سواء وقد طعنوا في هذه المسألة فقالوا ينبغي أن لا يصح العقد هنا لأن كلمة من للتبعيض فقد شرط عليه أن يزرع البعض بكراب والبعض بثنيان والبعض بغير كراب وذلك البعض مجهول وهذه الجهالة تفضي إلى تمكن المنازعة لأن العقد لازم من جانب العامل أو من جانب رب الأرض إذا كان البذر من قبل العامل فينبغي أن يفسد العقد واستدلوا على هذا بما ذكره في آخر الباب من التخيير بين أجناس البذر بهذا اللفظ وأفسدوا العقد به لهذا المعنى إلا أنا نقول حرف من قد يكون للصلة خصوصا في موضع يكون الكلام بدونه مختلا قال الله تعالى:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 22] وإذا كان حرف من صلة كان له أن يزرع الكل بأي نوع من الأعمال الثلاثة شاء فهذه

 

ج / 23 ص -36-       المسألة والأولى سواء والفرق بين هذا وبين التخيير في جنس البذر بهذا اللفظ نذكره في آخر الباب.
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرعها ببذره سنته هذه على أن يزرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فلصاحب الأرض ثلثه وإن زرعها سمسما فلصاحب الأرض ربعه فهذا جائز على ما اشترطا لما بينا أن أوان لزوم العقد وانعقاد الشركة عند إلقاء البذر في الأرض وعند ذلك المعقود عليه معلوم والبذر معلوم والجهالة قبل ذلك لا تفضي إلى المنازعة وإن زرعها بعضها حنطة وبعضها شعيرا وبعضها سمسما فذلك جائز في كل نوع على ما اشترطا اعتبارا للبعض بالكل لأنه لما رضي رب الأرض بأن يزرع كلها على صفة يكون راضيا بأن يزرع بعضها على تلك الصفة وبذلك البذر كما في المسألة الأولى وكذلك لو دفع إليه أرضا ثلاثين سنة على أن ما زرع فيها من حنطة أو شعيرا أو شيء من غلة الصيف أو الشتاء فهو بينهما نصفان وما غرس فيها من نخل أو شجر أو كرم فهو بينهما أثلاثا فلصاحب الأرض الثلث وللعامل الثلثان فهو بينهما على ما اشترطا سواء زرع الكل على أحد النوعين أو زرع بعضها وجعل في بعضها كرما قال ولا يشبه البيوع في هذا الإجارات والإجارات في مثل هذا تجوز.
وذكر حماد عن إبراهيم رحمه الله قال سألته عن الأجير أقول له إن عملت في كذا كذا فبكذا وإن عملت كذا فبكذا فقال لا بأس به إنما يكره ذلك في البيوع قيل معنى هذا الفرق أن في البيوع إذا اشترى أحد شيئين وسمى لكل واحد منهما ثمنا ولم يشترط الخيار ثلاثة أيام لواحد منهما كان العقد فاسدا وفي الإجارات يكون العقد صحيحا بدون شرط الخيار كما في مسألة الخياطة والمزارعة لأن الثمن في البيع يجب بنفس العقد والعقد يلزم بنفسه فإذا لم يشترط الخيار فيه كان المعقود عليه مجهولا والثمن مجهولا عند لزوم العقد وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وفي باب المزارعة العقد لا يلزم من جانب من البذر من قبله قبل إلقاء البذر في الأرض وفي الإجارة العقد وإن كان يلزم بنفسه ولكن البدل لا يجب إلا بالعمل وعند ذلك العمل والبدل معلوم وجهالة صفة العمل قبل ذلك لا تفضي إلا المنازعة وقيل بل مراده من هذا الفرق أن في البيع إذا قال إلى شهر بكذا أو إلى شهرين بكذا فهذا يكون مفسدا للعقد لجهالة مقدار الثمن عند وجوبه بالعقد وفي الإجارة وجوب البدل عند إقامة العمل وكذلك في المزارعة انعقاد الشركة عند إلقاء البذر في الأرض وعند ذلك هو معلوم وفي بعض النسخ قال ولا يشبه هذا البيوع والإجارات فهو إشارة إلى الفرق بين المزارعة والبيع والإجارة إذ في المزارعة له أن يزرع بعضها حنطة وبعضها شعيرا وفي الإجارة في مسألة الخياطة ليس له مثل ذلك وكذلك في البيع إذا اشترى أحد الثوبين على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء وسمى لكل واحد منهما ثمنا ليس له أن يلتزم العقد في نصف كل واحد منهما لما في التبعيض في البيع والإجارة من الضرر على البائع وعلى صاحب الثوب,

 

ج / 23 ص -37-       وذلك لا يوجد في المزارعة لأنه ليس في زرعه البعض حنطة والبعض شعيرا معنى الإضرار بصاحب الأرض.
ثم فرق أبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله بين الإجارة والمزارعة فيما إذا استأجر بيتا على أنه إن قعد فيه طحانا فله عشرة دراهم وإن قعد يبيع الطعام فيه فأجره خمسة دراهم فالعقد فاسد في قولهما وهو قول أبي حنيفة الأول رحمه الله وقد بينا المسألة في الإجارات والفرق لهما بين هذه المسألة وبين مسألة المزارعة أن هناك يجب الأجر بالتخلية وإن لم يسكنها المستأجر وعند التخلية مقدار ما يجب عليه من الأجر مجهول وأما في المزارعة فالشركة لا تنعقد إلا بإلقاء البذر في الأرض وعند ذلك حصة كل واحد منهما معلومة فيكون هذا قياس مسألة الخياطة الرومية والفارسية على ما بينا.
 ولو دفع إليه أرضا مزارعة على أن يزرعها ببذره وبقره وعمله على أن يزرع بعضها حنطة وبعضها شعيرا وبعضها سمسما فما زرع منها حنطة بينهما نصفان وما زرع منها شعيرا فلرب الأرض ثلثه وما زرع منها سمسما فلرب الأرض منه ثلثاه وللعامل ثلثه فهذا فاسد كله لأنه نص على التبعيض هنا وذلك البعض مجهول في الحال وكذلك عند إلقاء البذر في الأرض لأنه إذا زرع بعضها حنطة فلا يعلم ماذا يزرع في ناحية أخرى منها فكان العقد فاسدا لهذا وعند فساد العقد الخارج كله لصاحب البذر وقد بينا حكم المزارعة الفاسدة وهذا بخلاف الأول فإن هناك حرف من صلة فله أن يزرع الكل شعيرا إن شاء وحنطة إن شاء وهنا نص على التبعيض فليس له أن يزرعها كلها أحد الأصناف وكذلك لو قال خذها على أن ما زرعت منها حنطة فالخارج بيننا نصفان وما زرعت منها شعيرا فلي ثلثه ولك ثلثاه، وما زرعت منها سمسما فلي ثلثاه ولك ثلثه فالعقد فاسد وهذه المسألة هي التي استشهد بها الطاعن.
قال علي القمي رحمه الله وجدت في بعض النسخ العتيقة في هذه المسألة زيادة أنه قال على أن يزرع كل ذلك فيها فعلى هذا لا حاجة إلى الفرق بينه وتبين من هذه الزيادة أن مراده من حرف من التبعيض فهو وما لو نص على التبعيض سواء وأما على ما ذكره في ظاهر الرواية فوجه الفرق بين هذا وبين ما سبق أن الجهالة هنا تتمكن في سلب العقد لأن الجهالة في البذر فلا بد من بيان جنس البذر في عقد المزارعة وكذلك الأجر لا يصير معلوما إلا ببيان جنس البذر فكانت الجهالة متمكنة في صلب العقد فيفسد به العقد فأما في مسألة الكراب والثنيان فالجهالة لم تتمكن في صلب العقد فالعقد بينهما صحيح بدون ذلك فلهذا لم تكن الجهالة المتمكنة بذكر حرف التبعيض مفسدة للعقد هناك يوضح الفرق أن الكراب والثنيان كل ذلك يسبق إلقاء البذر في الأرض وانعقاد الشركة عند إلقاء البذر وعند ذلك البعض الذي ثنى والبعض الذي كرب معلوم فيجوز العقد وأما هنا عند إلقاء أحد الأصناف من البذر في ناحية من الأرض العقد في الناحية الأخرى مجهول في حق جنس البذر وجنس البدل فلهذا فسد العقد بهذا الشرط.

 

ج / 23 ص -38-       ولو دفع الأرض إليه ليزرعها ببذره على أنه إن زرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فالخارج للعامل فهذا جائز لأنه خيره بين المزارعة والإعارة فاشتراط الخارج كله للعامل يكون إعارة للأرض منه وذلك صحيح واشتراط المناصفة بينهما في الخارج من الحنطة يكون مزارعة صحيحة ولا يتولد من ضم أحدهما إلى الآخر سبب مفسد وإن سمى الخارج من الشعير لنفسه جاز في الحنطة ولم يجز في الشعير وهي مطعونة عيسى رحمه الله على ما بينا.
وإذا دفع الأرض إلى صاحب البذر على أن الخارج كله لصاحب الأرض إلا أنه ما جعل أحد العقدين مشروطا في الآخر ولكنه عطف أحدهما على الآخر ففساد أحدهما لا يمنع صحة الآخر فإن زرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فالخارج لصاحب البذر كما هو الحكم في المزارعة الفاسدة ولو دفع إليه أرضا وكر حنطة وكر شعير على أنه إن زرع الحنطة فيها فالخارج بينهما نصفان والشعير مردود عليه وإن زرعها الشعير فالخارج لصاحب الأرض ويرد الحنطة كلها فهو كله جائز على ما اشترطا لأنه استعان بالعامل في أحد العقدين واستأجره بنصف الخارج في الآخر وخيره بينهما وكل واحد منهما صحيح عند الانفراد ولو اشترط الخارج من الشعير للعامل جاز أيضا لأن اشتراط جميع الخارج له يكون إقراضا منه وقد بينا هذا أنه بانفراده صحيح فكذلك عند التخيير بينه وبين المزارعة.
 ولو دفع إليه الأرض وحدها على أنه إن زرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فالخارج كله للعامل وإن زرعها سمسما فالخارج كله لصاحب الأرض فلهذا جاز في الحنطة والشعير على ما قالا لأن العقد في الحنطة مزارعة صحيحة بينهما في النصف وفي الشعير إعارة للأرض من العامل وهو صحيح أيضا وأما في السمسم فلا يجوز لأن في السمسم يكون دفعا للأرض مزارعة بجميع الخارج وهي مطعونة عيسى رحمه الله لما بينا ولو كان البذر من صاحب الأرض جاز في جميع ذلك على ما قالاه لأنه في الحنطة العقد مزارعة صحيحة وفي السمسم استعانة بالعامل وفي الشعير إقراض للبذر منه وإعارة للأرض وكل واحد صحيح عند الإنفراد فكذلك إذا خيره بين هذه الأنواع لأنه ما جعل البعض مشروطا في البعض إنما عطف البعض على البعض فلا يتولد من هذا العطف معنى يفسد به العقد والله أعلم.

باب العذر في المزارعة والاستحقاق
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضه سنته هذه على أن يزرعها ببذره ونفقته بالنصف فلما تراضيا على ذلك أراد صاحب الأرض أن يأخذ أرضه قبل أن يعمل فيها الذي قبضها شيئا وبعد ما كربها وحفر أنهارها وسوى مساقيها لم يكن له ذلك لأنه مؤاجر لأرضه ولا يحتاج في المضي على هذا العقد إلى إتلاف شيء من ملكه فيلزم العقد بنفسه في حقه كما لو أجرها بدراهم لم يكن له أن يفسخها إلا بعذر الدين فإن حبس في الدين ولا وفاء

 

ج / 23 ص -39-       عنده إلا من ثمن الأرض فحينئذ يكون هذا عذرا لصاحب الأرض في فسخ المزارعة وبيع الأرض في الدين لأن في المضي على أن هذا العقد يلحقه ضرر في نفسه وإذا كان الضرر الذي يلحقه في ماله يدفع صفة اللزوم فالضرر الذي يلحقه في النفس وهو الحبس في الدين أولى.
الا ترى أن العقد قد تمتنع صحته في الابتداء لدفع الضرر فإن من باع جذعا من سقف لا يمكنه تسليمه إلا بضرر لا يجوز البيع ولو أجر ما يلحقه ضرر في تسليمه لا يلزمه الإجارة فكذلك تنعدم صفة اللزوم بعذر الدين لدفع الضرر فإن باعها بعد الدين لم يكن عليه من نفقة العامل شيء لأنه لم يزد فيها مالا متقوما من عنده والذي أتى به مجرد المنفعة والمنفعة لا تتقوم إلا بالتسمية والعقد والمسمى بمقابلة المنفعة هنا جزء من الخارج فإن لم يحصل الخارج بأن لم يزرع أصلا لا يستوجب شيئا آخر ولأن المزارع عامل لنفسه لأنه استأجر الأرض ليقيم العمل فيها لنفسه والعامل لنفسه لا يستوجب الأجر على غيره وإن لم يأخذها حتى زرعها فنبت الزرع ولم يستحصد حتى حبس القاضي رب الأرض في الدين فأراد أن يأخذها ليبيعها فليس له ذلك لأن المزارعة تأكدت بإلقاء البذر في الأرض والشركة انعقدت بينهما في الخارج وفي البيع إضرار بالعامل في إبطال حقه في الزرع وفي التأخير إلى أن يستحصد الزرع ضرر بالغرماء فإن نصيب رب الأرض من الزرع يباع في دينهم أيضا وما فيه من النظر للكل يترجح على ما فيه إضرار بالبعض ولئن كان في التأخير إضرار بالغرماء فضرر التأخير دون ضرر الإبطال وإذا لم يكن بد من إلحاق الضرر بأحدهما ترجح أهون الضررين وإذا علم القاضي ذلك أخرجه من السجن لأنه إنما يحبسه ليقضي دينه إذا كان متمكنا منه فإذا لم يكن عنده وفاء إلا من ثمن الأرض وهو غير متمكن من بيعها شرعا لم يكن ظالما في تأخير قضاء الدين وإنما يحبس الظالم.
الا ترى أن المديون إذا ثبت إفلاسه عند القاضي أخرجه من السجن فهنا أيضا يخرجه حتى يستحصد الزرع ولا يحول بين صاحب الدين وبين ملازمته كما في المفلس لجواز أن يحصل في يده مال فإذا كان ملازما له أخذ ذلك المال بحقه والمال غاد ورائح فإذا استحصد الزرع رد في الحبس حتى يبيع الأرض ونصيبه من الزرع لأن المزارعة قد انتهت وتمكن من قضاء الدين ببيع ملكه فيحبسه لذلك.
 ولو كان دفع الأرض مزارعة ثلاث سنين فلما ثبت الزرع لم يستحصد حتى مات رب الأرض فأراد ورثته أخذ أرضهم فليس لهم ذلك استحسانا ولكن الأرض تترك في يد الزارع حتى يستحصد الزرع وفي القياس المزارعة تنتقض بموت رب الأرض لأنها إجارة وإنما يستحق على رب الأرض بعقده ما يحدث على ملكه من المنفعة فالمنفعة بعد الموت إنما تحدث على ملك الورثة ولم يوجد من جهتهم الرضا بذلك وفي الاستحسان العقد يبقى بينهما لدفع الضرر عن المزارع فإن في قلع الزرع من الضرر عليه ما لا يخفى وكما يجوز نقض الإجارة لدفع الضرر يجوز إبقاؤها بعد ظهور سبب النقض لدفع الضرر.

 

ج / 23 ص -40-       ألا ترى أن الإجارة تعقد ابتداء لدفع الضرر فإن المستعير للأرض إذا زرعها ثم بدا للمعير أن يستردها لم يكن له ذلك وتترك في يد المستعير بأجر المثل إلى وقت إدراك الزرع وكذلك إذا انتهت مدة إجارة الأرض والزرع بقل فإنها تترك إلى وقت الإدراك بأجر المثل وهذا لأنه كان محقا في المزارعة في الابتداء فلا يقلع زرعه ويعقد بينهما عقد الإجارة لدفع الضرر فكذلك هذا كان محقا في الابتداء فتبقى الإجارة لدفع الضرر وهو نظير ما تقدم فيما إذا مات المكاري في طريق الحج أو مات صاحب السفينة والسفينة في لجة البحر فإذا استحصد الزرع أخذوها وقد انتقضت الإجارة فيما بقي من السنين.
ولو مات قبل أن يزرع انتقضت المزارعة وأخذ الوارث الأرض لأنه لا حاجة إلى إيفاء العقد هنا فإن العقد ما تأكد بالزراعة وليس في أعمال سبب النقض إبطال حق العامل عن الزرع ثم لا شيء على الوارث من نفقة العامل لأن المنافع لا تتقوم إلا باعتبار التسمية والمسمي بمقابلة منفعة الأرض جزء الخارج ولم يحصل.
ولو كان الوقت سنة واحدة فأجر العامل الزرع حتى زرع في آخر السنة لم يمنع لأن المزارعة باقية بينهما ببقاء شيء من المدة فإن انقضت المدة والزرع بقل بعد فالزرع بين العامل ورب الأرض نصفان كما كان الشرط بينهما والعمل فيما بقي عليهما لأن العمل كان على المزارع في المدة وقد انتهت المدة والعمل بعد ذلك يكون باعتبار الشركة في الزرع وهما شريكان في الزرع فالعمل والمؤنة عليهما كنفقة العبد المشترك بينهما إذا كان عاجزا عن الكسب وعلى العامل أجر مثل نصف الأرض لأن المزارعة لما انتهت لم يبق للعامل حق في منفعة الأرض وهو يستوفي منفعة الأرض بتربية نصيبه من الزرع فيها إلى وقت الإدراك فلا يسلم له ذلك بل عليه أجر مثل نصف الأرض لصاحبها كما لو كان استأجرها بدراهم والزرع بقل كان عليه أجر مثلها إلى وقت الإدراك بخلاف ما تقدم من موت رب الأرض لأن هناك بقي العقد بينهما ببقاء المدة ومنفعة الأرض كانت مستحقة في المدة فإذا لم يعلم سبب التقضي بقي العقد كما كان فلا يلزمه أجر وهنا العقد ما تناول ما وراء المدة المذكورة فالمنفعة فيما وراء المدة لا تسلم له إلا بأجر المثل فإن أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك لما فيه من الإضرار بالعامل في إبطال حقه وهو كان محقا في الزراعة فيجب دفع الضرر عنه.
وإذا كان يسلم لرب الأرض أجر مثل نصف الأرض كان هو في المطالبة بالقلع متعنتا قاصدا للإضرار به فيرد عليه قصده وإن أراد العامل أن يأخذه بقلا فله ذلك لأنه إنما كان يترك لدفع الضرر عنه وقد رضي بالتزام الضرر ولأنه ناظر لنفسه من وجه فإنه يمتنع من التزام أجر مثل نصف الأرض مخافة أن لا يفي نصيبه بذلك ثم يقال لصاحب الأرض أقلعه فيكون بينكما أو أعطه قيمة حصته منه أو أنفق على الزرع كله وارجع بحصته مما ينفق في نصيبه لأنه زرع مشترك بينهما في أرض أحدهما فلصاحب الأرض أن يتملك على شريكه

 

ج / 23 ص -41-       نصيبه بقيمته كما في البناء والأشجار المشتركة بينهما في ملك أحدهما وهذا لأن المزارع لما رضي بالقلع فقد رضي بسقوط حقه عن حصته مجانا فيكون أرضى بذلك إذا وصل إليه قيمة حصته أو رضى بقيمة حصته بعد القلع لأن أكثر ما فيه أن يبيع نصيبه مقلوعا وقيمة حصته قبل القلع أكثر فلصاحب الأرض أن يعطيه ذلك إن شاء وإن شاء ساعده على القلع فيكون المقلوع بينهما وإن شاء أنفق على الزرع كله لأنه محتاج إلى إبقاء حقه في نصيبه من الزرع حتى يستحصد ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالإنفاق فيكون له أن ينفق على الزرع كله بمنزلة العبد المشترك إذا كان عاجزا عن الكسب لصغره وزمانة به وأحدهما غائب فللآخر أن ينفق عليه ولا يكون متبرعا في نصيب الآخر بل يرجع عليه بما ينفق في نصيبه فهذا مثله إلا أنه لا يرجع إلا بقدر نصيبه حتى إذا كان نصيبه من النفقة أكثر من نصيبه من الزرع لم يرجع عليه بالفضل لأن العامل ما كان مجبرا على الإنفاق فلا يكون له أن يلزمه الزيادة على نصيبه وإنما يرجع في نصيبه باعتبار أن سلامة ذلك له بما أنفق وهذا المعنى لا يوجد فيما زاد على قيمة نصيبه من النفقة ولأن حق الإنفاق إنما يثبت له باعتبار النظر منه لنفسه لا على سبيل الإضرار به وذلك يختص بمقدار نصيبه من الزرع.
ولو كان البذر من صاحب الأرض فبدا له أن لا يزرع بعد ما كربها العامل وحفر أنهارها كان له ذلك لأنه يتضرر بالمضي على العقد من حيث إتلاف البذر بإلقائه في الأرض ولا يعلم أيحصل الخارج أم لا ثم لا شيء عليه للعامل على ما بينا أن المنافع لا تتقوم إلا بالتسمية والمسمى للعامل بإزاء عمله بعض الخارج ولم يحصل الخارج قال مشايخنا رحمهم الله وهذا الجواب في الحكم فأما فيما بينه وبين ربه يعني بأن يعطي العامل أجر مثل عمله لأنه إنما اشتغل بإقامة العمل ليزرع فيحصل له الخارج فإذا أخذ الأرض بعد إقامة هذه الأعمال كان هو غارا للعامل ملحقا الضرر به والغرور والضرر مدفوع فبقي بأن يطلب رضاه وإن كان قد زرع وصار الزرع بقلا لم يكن لصاحب الأرض إخراج العامل منه وإن لحقه دين لا وفاء عنده إلا من ثمن هذه الأرض ولكنه يخرج من الحبس حتى يستحصد الزرع لأن العقد تأكد بإلقاء البذر في الأرض وانعقدت الشركة في الخارج وفي البيع إضرار بالمزارع من حيث إبطال حقه في نصيبه من الزرع وهذا نظير الفصل الأول كما بينا.
ولو مات رب الأرض عمل المزارع على حاله حتى يستحصد الزرع لما بينا من وجه الاستحسان في الفصل الأول ولو انقضت السنة والزرع لم يحصد ترك في الأرض على حاله حتى يستحصد لأنه كان محقا في المزارعة في الابتداء فلا يجوز أن يقلع زرعه قبل الاستحصاد والنفقة عليهما نصفان لأن الزرع بينهما نصفان واستحقاق العمل على العامل كان في المدة خاصة وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض لأنه يستوفي منفعة نصف الأرض لتربية حصته فيها إلى وقت الإدراك فإن أنفق أحدهما بغير أمر صاحبه ولا أمر قاض فهو متطوع في النفقة لأن كل واحد منهما غير مجبر على الإنفاق فكان المنفق منهما متطوعا

 

ج / 23 ص -42-       كالدار المشتركة بينهما إذا اشتريت فأنفق أحدهما في مرمتها بغير أمر صاحبه كان متطوعا في ذلك.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان فزرعها ولم يستحصد حتى هرب العامل فأنفق صاحب الأرض بأمر القاضي على الزرع حتى استحصد ثم قدم المزارع فلا سبيل له على الزرع حتى يوفي صاحب الأرض جميع نفقته أولا لقول القاضي لا نأمره بالإنفاق حتى يقيم البينة عنده على ما يقول لأنه يدعي ثبوت ولاية النظر للقاضي في الأمر بالإنفاق على هذا الزرع ولا يعرف القاضي بينته فيكلفه إقامة البينة عليه ويقبل هذه البينة منه ليكشف الحال بغير خصم أو يكون القاضي فيه خصمه كما يكون في الإنفاق على الوديعة واللقطة فإذا أقام البينة كان أمر القاضي إياه بالإنفاق كأمر المودع ولو كان حاضرا فيكون له أن يرجع عليه بجميع ما أنفق بخلاف ما سبق فرجوعه هناك بقدر حصته من الزرع لأن العمل والإنفاق هناك غير مستحق على العامل وأمر القاضي إنما ينفذ على الغائب باعتبار النظر له وذلك في مقدار حصته من الزرع لا في إيجاب الزيادة دينا في ذمته وهنا العمل مستحق على المزارع لو كان حاضرا أجبره القاضي عليه فيعتبر أمره في إثبات حق الرجوع عليه بجميع النفقة ولا سبيل له على الزرع حتى يوفيه نفقته لأن نصيبه من الزرع إنما هو بالإنفاق فيكون محبوسا بما أنفق كالآبق يحبس بالجعل ولأنه استفاد نصيبه من جهة رب الأرض بهذه النفقة فيكون بمنزلة المبيع محبوسا عنه بالثمن فإن اختلفا في النفقة فالقول قول المزارع مع يمينه كما لو كان هو الذي أمره بالإنفاق وهذا لأن رب الأرض يدعي عليه زيادة فيما استوجبه دينا في ذمته وهو منكر لذلك وإنما يحلف على العلم لأنه استحلاف على فعل باشره غيره وهو الإنفاق الذي كان من صاحب الأرض ولو لم يهرب ولكن انقضت مدة المزارعة قبل أن يستحصد الزرع والمزارع غائب فإن القاضي يقول لصاحب الأرض أنفق عليه إن شئت فإذا استحصد لم يصل العامل إلى الزرع حتى يعطيك نفقتك فإن أبى أن يعطيك نفقتك أبيع حصته عليه من الزرع وأعطيك من ثمنه حصته من النفقة فإن لم تف حصته بذلك فلا شيء لك عليه وهذا لأن بعد انقضاء مدة المزارعة المزارع لا يجبر على العمل لو كان حاضرا فأمر القاضي عليه لا ينفذ إلا بطريق النظر له وذلك في أن يقصر الرجوع على مقدار حصته من الزرع وفي الزيادة على ذلك يلحقه خسران وهو لم يرض به وبين ذلك لصاحب الأرض ليكون إقدامه على الإنفاق على بصيرة ولكن لا يكون القاضي غارا يحسب حصته من الزرع بحصته من النفقة لأنه حيى بتلك النفقة فإن أبى أن يعطي النفقة باع القاضي حصته قيل هذا بناء على قولهما فأما عند أبي حنيفة فلا يبيع القاضي حصته من ذلك لأنه لا يرى الحجر على الحر وبيع ماله عليه في دينه وقيل بل هو قولهم جميعا لأن الدين الذي لزمه تعلق بنصيبه من الزرع على معنى أن سلامته له متعلقة بوصول النفقة إلى صاحب الأرض فيباع فيه كما يباع المرهون والتركة في الدين ولا يتصدق واحد منهما بشيء في هذه المسائل

 

ج / 23 ص -43-       من الزرع الذي صار له لأنه لا يتمكن خبث ولا فساد في السبب الذي به سلم لكل واحد منهما نصيبه من الزرع.
ولو كان البذر من العامل فزرع الأرض ثم مات المزارع قبل أن يستحصد فقال ورثته نحن نعلمها على حالها فلهم ذلك لأنهم قائمون مقام المورث في ملك نصيبه من الزرع فيقومون مقامه في العمل إذا اختاروا ذلك وهذا لأن مقصود رب الأرض إقامة العمل لا عين العامل.
ألا ترى أنه كان للعامل أن يستعين بهم أو بغيرهم في حياته ليقيموا العمل فكذلك بعد وفاته إذا اختاروا العمل ولا أجر لهم في العمل لأنهم يعملون فيما لهم فيه شركة على سبيل الخلافة عن مورثهم ولا أجر عليهم في الأرض إن عملوها بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض لأنهم قائمون مقام مورثهم وعقد المزارعة لم يبطل بموت مورثهم إذا اختاروا العمل وإن قالوا لا نعملها لم يجبروا على العمل لأنهم إنما يخلفون الميت في أملاكه وحقوقه وليس عليهم إيفاء شيء مما كان مستحقا على مورثهم من ملكهم.
ألا ترى أنهم لا يجبرون على قضاء ديونه من ملكهم فكذلك لا يجبرون على إقامة العمل الذي كان مستحقا عليه بمنافعهم وقيل لصاحب الأرض اقلع الزرع فيكون بينك وبينهم نصفين أو اعطهم قيمة حصتهم من الزرع وأنفق على حصتهم فتكون نفقتك في حصتهم مما تخرج الأرض لأن المزارعة قد انقطعت بموت العامل إذا أبى الوارث إقامة العمل لفوات المعقود عليه لا إلى خلف وبقي الزرع مشتركا بينهما فهو بمنزلة ما لو انقضت مدة العمل والزرع بقل فأراد أن يقلع نصيبه وقد بينا هناك أن صاحب الأرض يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة فهو قياسه إلا أن هناك إذا أراد صاحب الأرض الإنفاق فإنه يرجع بنصف النفقة في نصيب العامل وهنا يرجع بجميع النفقة في نصيب الورثة لأن هناك استحقاق العمل على العامل بمقابلة حصته من الزرع في المدة لا بعدها وقد انتهت المدة فكانت النفقة عليهما نصفين وهنا المدة لم تنته وقد كان العمل مستحقا على المزارع بمقابلة ما يسلم له من نصف الزرع وما كان مستحقا عليه يجب إيفاؤه من تركته ولا يسلم التركة للورثة إلا بعد إيفاء ما كان مستحقا عليه فلهذا رجع بجميع ما أنفق في حصة الورثة من الزرع فيستوفيه ثم يعطيهم الفضل على ذلك وكذلك لو كان الذي مات رب الأرض وبقي العامل وكذلك لو كان البذر من قبل رب الأرض ثم مات أحدهما فالأمر فيه على ما بينا إن شاء المزارع إن كان حيا أو ورثته إن كان ميتا أن يمضوا على المزارعة فذلك لهم وإن أبوا خير رب الأرض وورثته بين القلع وإعطاء قيمة حصة العامل وبين الإنفاق على نحو ما ذكرنا.
ولو كان البذر من العامل فلما صار الزرع بقلا انقضى وقت المزارعة فأيهما أنفق والآخر غائب فهو متطوع في النفقة لأن الغائب لو كان حاضرا لم يكن مجبرا على الإنفاق فيكون صاحبه في الإنفاق على نصيبه متطوعا ولا أجر لصاحب الأرض على العامل لأن أجر مثل

 

ج / 23 ص -44-       نصف الأرض إنما يلزم بالتزامه وهو اختياره إمساك الأرض إلى وقت الاستحصاد بعد مطالبة صاحب الأرض بالتفريغ ولم يوجد ذلك.
وإن رفع العامل الأمر إلى القاضي وصاحب الأرض غائب فإنه يكلفه البينة على ما ادعى لأنه ادعى ثبوت ولاية القاضي في الأمر بالإنفاق فلا يقبل ذلك منه إلا ببينة فإن أتى بالبينة على الزرع أنه بينه وبين فلان الغائب أمره القاضي بالنفقة وإن تأخرت إقامة البينة وخيف على الزرع الفساد فإن القاضي يقول له أمرتك بالإنفاق إن كنت صادقا والنظر لهذا يحصل لأنه إن كان صادقا في مقالته فالأمر من القاضي في موضعه وإن كان كاذبا لم يثبت حكم الأمر لأنه علقه بالشرط فإن أنفق حتى يستحصد ثم حضر رب الأرض كان المزارع أحق بحصة رب الأرض حتى يستوفي نفقته فإن بقي شيء كان لرب الأرض وإن كانت نفقته أكثر لم يرجع على رب الأرض بشيء لأن أمر القاضي إنما نفذ في حق الغائب على وجه النظر منه له وكذلك يقول له القاضي أنفق على أن تكون نفقتك في حصته من الزرع لدفع الغرر ويجعل القاضي عليه أجر مثل نصف الأرض لأن القاضي قام مقام الغائب في ما يرجع إلى النظر له ولو كان حاضرا يلزمه أجر مثل نصف الأرض بتربية نصيبه من الزرع في الأرض إلى وقت الإدراك فكذلك القاضي يلزمه ذلك بخلاف ما لو أنفق بغير أمر القاضي. فإن هناك ليس عن الغائب نائب ليلزمه أجر مثل نصف الأرض.
ألا ترى أنه لا يثبت له حق الرجوع على الغائب بحصته فيما أنفق بغير أمر القاضي وثبت له حق الرجوع بحصته مما أنفق بأمر القاضي فكذلك في أجر مثل نصف الأرض يقع الفرق بين الفصلين لهذا المعنى.
ولو حضروا جميعا فقال المزارع يقلع الزرع وقال رب الأرض ينفق عليه وآخذ منك أجر مثل نصف الأرض لم يكن له ذلك لأنه لا بد أن يلزم المزارع دينا في ذمته وربما يتضرر به المزارع بأن لا يفي نصيبه من الزرع بذلك فيكون له أن يأبى ذلك ثم يقول القاضي لصاحب الزرع إن شئت فاقلع الزرع مع المزارع وإن شئت فأعطه نصف قيمة الزرع وإن شئت فأنفق على الزرع كله وتكون حصته إلى حصة العامل من النفقة في حصته من الخارج ولا يجبر المزارع على نفقة ولا أجر لأن فيه إتلاف ملكه وأحد لا يجبر على ذلك وإن كان ينتفع به غيره.
وإن قال المزارع ينفق على الزرع وأبى ذلك صاحب الأرض وقال يقلع الزرع أمر القاضي أن ينفق على الزرع فتكون نفقته على حصة صاحب الأرض في حصته من الزرع وعليه أجر مثل نصف الأرض لأنه في اختيار الإنفاق ناظر لنفسه ولصاحب الأرض فإنه يحيي به نصيبه من الزرع ويسلم له أجر مثل نصف الأرض وصاحب الأرض في الإباء متعنت قاصد إلى الإضرار به فلا يلتفت القاضي إلى تعنته بخلاف الأول فإن المزارع هناك يلزمه الأجر بما اختاره صاحب الأرض من الإنفاق ولو ساعده على ذلك فهو بالإباء يدفع الغرم عن نفسه

 

ج / 23 ص -45-       وهنا صاحب الأرض لا يلزمه شيء وكل شيء من هذا الباب أمر القاضي أحدهما بالنفقة كلها وصاحبه غائب لم يأمره بذلك حتى تقوم البينة على الشركة فإن خيف الهلاك عليه إلى أن تقوم البينة قال له القاضي أمرتك بالنفقة إن كان الأمر كما وصفت وقد بينا وجه هذا.
ولو كان البذر من صاحب الأرض فلما صار الزرع بقلا قال العامل لا أنفق عليه ولا أسقيه فإن القاضي يجبره على أن ينفق عليه ويسقيه لأنه التزم ذلك بمباشرة العقد طائعا فيجبر على إيفاء ما التزمه فلو أجبره ولم يكن عنده ما أنفق أمر صاحب الأرض والبذر أن ينفق عليه ويسقيه على أن يرجع بذلك كله على صاحبه وإن كان أكثر من نصيبه لأن ذلك شيء يجبره عليه وكل نفقة يجبر عليها صاحبها فلم ينفق فأمر القاضي صاحبه بالنفقة فأنفق رجع بكلها على شريكه هلكت الغلة أو بقيت وكل نفقة لا يجبر عليها صاحبها فأنفق شريكه بأمر القاضي فإنها تكون في حصة الآخر فإن لم تف بها لم يكن للمنفق غير ذلك.
 ولو أصاب الغلة آفة وتعذر عليه إيفاؤه للإفلاس فيستحق النظرة إلى الميسرة ولا يبطل أصل الاستحقاق فيكون الآخر كالفائت عنه شرعا فيما كان مستحقا عليه فيرجع بجميعه دينا في ذمته كما لو كان أمره بذلك وفيما لم يكن هو مجبرا عليه لم يؤخذ منه الالتزام بمباشرة سببه وإنما يلزم القاضي ذلك على سبيل النظر منه له ومعنى النظر إنما يتحقق إذا كان الإلزام بقدر نصيبه من الغلة على وجه يبقى ببقائه ولا يطالب بشيء بعد هلاكه فلهذا لا يعتبر أمر القاضي إلا في هذا المقدار.
ألا ترى أن عبدا صغيرا لو كان بين رجلين فقال أحدهما ليس عندي ما أنفق عليه ولا ما استرضع به أجبره القاضي على ذلك فإن لم يقدر على ذلك وأمر شريكه فاسترضع له رجع عليه بحصته من الأجر بالغا ما بلغ إذا كان رضاع مثله وإن كان أكثر من قيمة الصبي سواء بقي الصبي أو هلك لأنه لما كان مجبرا على الإنفاق كان أمر القاضي شريكه بالإنفاق كأمره لأن القاضي نائب عنه في إيفاء ما كان مستحقا عليه ودفع الظلم فيرجع عليه بنصيبه بالغا ما بلغ وبمثله في الدابة المشتركة لما لم يكن مجبرا على الإنفاق في القضاء فإذا أنفق الشريك لم يكن له أن يرجع عليه فيما زاد على قيمة نصيبه ولا بعد هلاك الدابة فبهذا يتضح الفرق بينهما.
ولو أوصى لرجل بنخل ولآخر بغلته فالنفقة على صاحب الغلة تسلم له بمقابلة ما ينفق والغرم مقابل بالغنم فإن أحاله فلم يخرج شيئا في سنته لم يجبر واحد منهما على النفقة أما صاحب النخل فلأن لا يسلم له شيء من الغلة ولأنه لا يجبر على الإنفاق على ملكه في غير بني آدم وصاحب الغلة إنما كان ينفق لتسلم له الغلة وفي هذه السنة لا يسلم له شيء من الغلة فلا يجبر على النفقة فإن أنفق عليه صاحب النخل حتى حمل لم يكن لصاحب الغلة شيء حتى يستوفي صاحب النخل النفقة من الغلة وإن لم يخرج من الغلة فيما يستقبل مثل ما أنفق لم يكن له على صاحب الغلة غرم نفقته وإنما نفقته فيما أخرجت النخل لأن الغلة إنما

 

ج / 23 ص -46-       حصلت بالنفقة فلا تسلم له الغلة حتى يعطيه ما أنفق ولكن صاحب الغلة لم يكن مجبرا على الإنفاق فلا يرجع بالفضل عليه فكذلك الزرع الذي وصفنا قبل هذا.
ولو أنفق عليه المزارع بأمر صاحبه رجع عليه بذلك بالغا ما بلغ لأنه استقرض منه ما أمره بأن ينفق عليه وقد أقرضه فيكون ذلك دينا عليه في ذمته ولا سبيل له على حصته من الزرع وهذا لأن أمره على نفسه نافذ مطلقا فلا يتقيد بما فيه نظر له وأمر القاضي عليه يتقيد بما فيه نظر له فيما لم يكن هو مجبرا عليه.
 وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا عشر سنين على أن يزرعها ما بدا له على أن ما أخرج الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فغرسها نخلا أو كرما أو شجرا فأثمر ولم يبلغ الثمر حتى مات المزارع أو رب الأرض فالثمر بمنزلة الزرع الذي لم يبلغ في جميع ما بينا لأن لإدراك الثمار نهاية معلومة كالزرع فيبقى العقد بعد موت أحدهما إلى وقت الإدراك لما فيه من النظر لهما وليس فيه كثير ضرر على صاحب الأرض.
ولو مات رب الأرض وليس فيه ثمر انتقضت المزارعة وصار الشجر بين ورثة الميت وبين المزارع نصفين فإن الشجر كالبناء ليس له نهاية معلومة في تفريغ الأرض منه وفي إبقاء العقد إضرار بصاحب الأرض وهو الوارث.
ألا ترى أن المستعير لو زرع الأرض ثم بدا للمعير أن يستردها يبقى زرع المستعير إلى وقت الإدراك بأجر ولا يفعل مثله في الشجر والبناء فهذا مثله.
وكذلك لو مات المزارع وبقي صاحب الأرض فإن قال المزارع أنا آخذ من الورثة نصف قيمة الغرس لم يكن له ذلك والخيار فيه إلى صاحب الأرض أو ورثته إن كان ميتا إن شاؤوا قلعوا ذلك وكان بينهم وإن شاؤوا أعطوا المزارع أو ورثته نصف قيمة ذلك لأن الأشجار مشتركة بينهما وهي في أرض صاحب الأرض فيكون بمنزلة البناء المشترك بينهما في أرض أحدهما والخيار في التملك بالقيمة إلى صاحب الأرض دون الآخر لأن البناء والشجر تبع للأرض حتى يدخل في البيع من غير ذكر بمنزلة الصبغ في الثوب.
ولو اتصل صبغ إنسان بثوب غيره كان الخيار في التملك إلى صاحب الثوب لا إلى صاحب الصبغ وهذا لأن الآخر لا يمكنه أن يتملك الأرض عليه لأن الأرض أصل فلا تصير تبعا لما هو تبع له وهو الشجر ولا في أن يتملك نصيبه من الأشجار لأنه لا يستحق حق قرار الأشجار بهذه الأرض ولكن يؤمر بالقلع وصاحب الأرض إن تملك عليه نصيبه من الأشجار كان ذلك مفيدا له لأنه يستحق حق قرار جميع هذه الأشجار في أرضه فلهذا كان الخيار لصاحب الأرض وكذلك لو كانا حيين فلحق رب الأرض دين ولا وفاء عنده إلا من ثمن الأرض ولا ثمر في الشجر فإن القاضي ينقض الإجارة ويجبر رب الأرض فإن شاء غرم نصف قيمة الشجر والنخل والكرم وإن شاء قلعه لأن سبب الدين الفادح بقدر إبقاء العقد بينهما فينقض القاضي الإجارة ليبيع الأرض في الدين ويكون ذلك بمنزلة انتقاض الإجارة

 

ج / 23 ص -47-       بموت أحدهما وكذلك لو انقضت المدة لأن العقد قد ارتفع بانقضاء المدة وبقيت الأشجار مشتركة بينهما في أرض أحدهما.
ولو كان العامل أخذ الأرض بدراهم مسماة لم يكن له في هذه الوجوه خيار ولا لصاحب الأرض ويقال له اقلع شجرك لأن الأشجار من وجه تبع للأرض ومن وجه أصل ولهذا جاز بيع الأشجار بدون الأرض فلا بد من اعتبار الشبهين فيقول لشبهه بالأصل من وجه لا يكون لصاحب الأرض أن يتملك عليه بغير رضاه إذا لم يكن له شركة في الأشجار بمنزلة صاحب السفل لا يتملك على صاحب العلو علوه بالقيمة بغير رضاه ولشبهة بالتبع من وجه كان له أن يتملك عليه نصيبه إذا كان شريكا له في الأشجار وهذا لأنه إذا كان شريكا له في الأشجار فله أن يمنع شريكه من قلع الأشجار لأنه يبقى نصيبه من الأشجار في أرض نفسه فلا يكون لأحد أن يبطل هذا الحق عليه بالقلع بغير رضاه ولا يتمكن من قلع نصيب نفسه خاصة لأن ذلك لا يكون إلا بعد القسمة ولا تتحقق القسمة بينهما ما لم تقلع الأشجار فأما إذا كانت الأشجار كلها لأحدهما والأرض للآخر فصاحب الأشجار متمكن من قلع أشجاره على وجه لا يكون فيه ضرر على صاحب الأرض فلهذا لا يكون لصاحب الأرض أن يتملك عليه الأشجار بقيمتها بغير رضاه إلا أن يكون قلع ذلك يضر بالأرض إضرارا شديدا ويكون استهلاكا وفسادا فحينئذ يكون للمؤاجر أن يغرم للمستأجر لأن صاحب الأشجار ليس له أن يلحق الضرر الفاحش بصاحب الأرض وإذا كان في القلع ضرر فاحش فقد بعد القلع واحتبست الأشجار في ملك صاحب الأرض فتحبس بالقيمة بمنزلة من غصب ساحة وأدخلها في بنائه فإنه يضمن القيمة وليس لصاحب الساحة أن يأخذ الساحة لما فيه من الإضرار بصاحب البناء.
ولو دفع إلى رجل أرضا مزارعة سنته هذه يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما نصفان فكربها العامل وبناها وحفر أنهارها ثم استحقها رجل أخذها ولا شيء للمزارع على الذي دفعها إليه من نفقته وعمله لأنه لم يزد فيها شيئا من عنده إنما أقام العمل وقد بينا أن المنفعة إنما تتقوم بالتسمية والمسمى بمقابلة عمله بعض الخارج وذلك لا يحصل قبل الزراعة ولأن المزارعة شركة في الخارج وابتداؤها من وقت إلقاء البذر في الأرض فهذه أعمال تسبق العقد فلا يستوجب بسببها شيئا على الدافع ولو استحقها بعد ما زرعها قبل أن يستحصد فإنه يأخذ الأرض ويأمر المزارع وصاحب الأرض أن يقلعا الزرع لأنه تبين أن الأرض كانت مغصوبة والغاصب لا يكون في الزراعة محقا فلا يستحق إبقاء زرعه ثم المزارع بالخيار إن شاء أخذ نصف الزرع على حاله ويكون النصف للآخر الذي دفع إليه الأرض مزارعة وإن شاء ضمن الذي دفع الأرض مزارعة نصف قيمة الزرع نابتا في الأرض وتسلم الزرع كله لأنه مغرور من جهته حين أعطاه الأرض على أنها ملكه والذي جرى بينهما عقد معاوضة فيثبت الغرور بسببه وقد استحق إبقاء نصيبه من الزرع إلى وقت الإدراك فإذا فات عليه ذلك كان له أن

 

ج / 23 ص -48-       يرجع عليه بقيمة حصته من الزرع نابتا في الأرض كالمشتري للأرض إذا زرعها ثم استحقت وقلع زرعه وإن أخذ نصف الزرع كان النصف الآخر للذي دفع إليه الأرض لأن الاستحقاق بعقده وهو الذي عقد وقد بينا أن الغاصب إذا أجر الدار أو الأرض فالأجر له فكذا هنا يكون نصف الزرع للدافع دون المستحق ثم المستحق في قول أبي حنيفة يضمن نقصان الأرض للزارع خاصه ويرجع به على الذي دفع إليه الأرض وهو قول أبي يوسف الآخر وفي قوله الأول وهو قول محمد المستحق بالخيار إن شاء ضمن نقصان الأرض الدافع وإن شاء الزارع ثم يرجع المزارع به على الدافع وهو بناء على مسألة غصب العقار فإن العقار يضمن بالإتلاف بالإنفاق وفي الغصب خلاف فالدافع غاصب والمزارع في مقدار النقصان متلف لأن ذلك حصل بمباشرته المزارعة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر الضمان للمستحق على المتلف دون الغاصب وعند محمد له الخيار ثم المزارع إذا ضمن يرجع بما ضمن على الدافع لأنه كان مغرورا من جهته فإنه ضمن له بعقد المعاوضة سلامة منفعة الأرض بعمل الزراعة له ولم يسلم فيرجع عليه بسبب الغرور كالمغرور في جارية اشتراها واستولدها يرجع بقيمة الولد الذي ضمن على البائع.
 ولو كان العامل غرسها نخلا وكرما وشجرا وقد كان أذن له الدافع في ذلك فلما بلغ وأثمر استحقها رجل فإنه يأخذ أرضه ويقلع من النخل والكرم والشجر ما فيها ويضمنان للمستحق نقصان القلع إذا قلعا ذلك بالإنفاق لأن النقصان إنما يتمكن بالقلع بمباشرتهما القلع فكان ضمانه عليهما ويضمن الغارس له أيضا نقصان الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف الآخر ويرجع العامل بما ضمن من نقصان القلع والغرس على الدافع وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله للمستحق أن يضمن الدافع جميع ذلك النقصان وهو بناء على ما بينا فإن في النقصان بالغرس الغارس هو المباشر للإتلاف والدافع غاصب في ذلك وعند محمد الغاصب ضامن كالمتلف وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ضمان ذلك للمستحق على المتلف دون الغاصب ثم الغارس يرجع على الدافع لأجل الغرور الذي تمكن في عقد المعاوضة بينهما.

باب العذر في المعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل نخلا له معاملة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما أخرج الله تعالى في شيء منه فهو بينهما نصفان فقام عليه ولقحه حتى إذا صار بسرا أخضر مات صاحب الأرض فقد انتقضت المعاملة بينهما في القياس وكان البسر بين ورثة صاحب الأرض وبين العامل نصفين لأن صاحب الأرض استأجر العامل ببعض الخارج ولو استأجره بدراهم انقضت الإجارة بموت أحدهما أيهما مات فكذلك إذا استأجره ببعض الخارج ثم انتقاضها بموت أحدهما بمنزلة اتفاقهما على نقضها في حياتهما ولو نقضاه والخارج بسر كان بينهما نصفين ولكنه استحسن فقال للعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم حتى يدرك

 

ج / 23 ص -49-       الثمر وإن كره ذلك الورثة لأن في انتقاض العقد بموت رب الأرض إضرارا بالعامل وإبطالا لما كان مستحقا له بعقد المعاملة وهو ترك الثمار في الأشجار إلى وقت الإدراك.
وإن انتقض العقد يكلف الجداد قبل الإدراك وفيه ضرر عليه وكما يجوز نقض الإجارة لدفع الضرر يجوز إبقاؤها لدفع الضرر وكما يجوز أن ينعقد العقد ابتداء لدفع الضرر يجوز إبقاؤه لدفع الضرر بطريق الأولى وإن قال العامل أنا آخذ نصف البسر له ذلك لأن إبقاء العقد لدفع الضرر عنه فإذا رضي بالتزام الضرر انتقض العقد بموت رب الأرض إلا أنه لا يملك إلحاق الضرر بورثة رب الأرض فيثبت الخيار للورثة فإن شاؤوا صرموا البسر فقسموه نصفين وإن شاؤوا أعطوه نصف قيمة البسر وصار البسر كله لهم وإن شاؤوا أنفقوا على البسر حتى يبلغ ويرجعوا بنصف نفقتهم في حصة العامل من الثمر لتحقق المساواة بينهما في ملك البسر واختصاص الورثة بملك النخل والأرض واتصال الثمر بالنخل كاتصال النخل بالأرض واتصال البناء بالأرض وقد بينا أن هناك عقد الشركة في النخل والبناء يكون الخيار لصاحب الأرض بين هذه الأشياء الثلاثة فهذا مثله.
ولو كان مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه وإن كرهه صاحب الأرض لأنهم قائمون مقامه وفي قيامهم على النخل تحصيل مقصود رب النخل وتوفير حقهم عليهم بترك نصيب مورثهم من الثمر في النخل إلى وقت الإدراك كما صار مستحقا له فلا يكون لرب النخل أن يأبى ذلك عليهم وإن قالت الورثة نحن نصرمه بسرا كان لصاحب الأرض من الخيار مثل ما وصفنا لورثته في الوجه الأول ولو ماتا جميعا كان الخيار في القيام عليه أو تركه إلى ورثة العامل لأنهم يقومون مقام العامل وقد كان له في حياته هذا الخيار بعد موت رب الأرض فكذلك يكون لورثته بعد موته وليس هذا من باب توريث الخيار بل من باب خلافة الوارث المورث فيما هو حق مالي مستحق له وهو ترك الثمار على النخيل إلى وقت الإدراك فإن أبوا أن يقوموا عليه كان الخيار إلى ورثة صاحب الأرض على ما وصفنا في الوجه الأول ولو لم يمت واحد منهما ولكن انقضت مدة المعاملة والبسر أخضر فهذا والأول سواء والخيار فيه إلى العامل فإن شاء عمل على ما كان يعمل حتى يبلغ الثمر ويكون بينهما نصفين فإن في الأمر بالجذاذ قبل الإدراك إضرارا بهما والضرر مدفوع وقد تقدم نظيره في الزرع إلا أن هناك العامل إذا اختار الترك فعليه نصف أجر مثل الأرض لأن استئجار الأرض صحيح فينعقد بينهما عقد الإجارة على نصف الأرض إلى وقت الإدراك وهنا لا أجر على العامل لأن استئجار النخيل لترك الثمار عليها إلى وقت الإدراك باطل.
ألا ترى أن من اشترى زرعا في أرض ثم استأجر الأرض مدة معلومة جاز ولو استأجرها إلى وقت الإدراك وجب أجر المثل.
ولو اشترى ثمارا على رؤوس الأشجار ثم استأجر الأشجار إلى وقت الإدراك لا يجب عليه أجر وإذا ظهر الفرق ابتنى على الفرق الآخر وهو أن هناك العمل عليهما بحسب ملكهما

 

ج / 23 ص -50-       في الزرع لأن رب الأرض لما استوجب الأجر على العامل لا يستوجب عليه العمل في نصيبه بعد انتهاء المدة وهنا العمل على العامل في الكل لأنه لا يستوجب رب النخيل عليه أجرا بعد انقضاء المدة كما كان لا يستوجب عليه ذلك قبل انقضاء المدة فيكون العمل كله على العامل إلى وقت الإدراك كما قبل انقضاء المدة وإن أبى ذلك العامل خير رب النخيل بين الوجوه الثلاثة كما بينا ولو لم ينقض المعاملة ولكنه لحق رب النخل دين فادح لا وفاء عنده إلا ببيع النخل وفي النخل بسرا وطلع لم يجبر على بيع النخل ويخرج من السجن حتى يبلغ الثمر وتنقضي المعاملة ثم يعاد في السجن حتى يقضي الدين لما بينا أن في البيع قبل الإدراك ضررا بالعامل في إبطال حقه وفي الترك إضرار بالغرماء في تأخير حقهم وبمقابلة هذا الضرر منفعة لهم وهو إدراك نصيب غريمهم من الثمر ليباع في دينهم فيكون مراعاة هذا الجانب أولى.
 ولو مات أحدهما أو انقضت المدة أو لحق صاحب الأرض دين فادح وقد سقى العامل النخل وقام عليه وحفظه إلا أنه لم يخرج شيئا انقضت المعاملة ولم يكن له من منفعته شيء على الذي دفع إليه معاملة لأن المعاملة شركة في الخارج فإذا لم يحصل الخارج بعد لم تنعقد الشركة بينهما في شيء فاعتراض هذه العوارض قبل انعقاد الشركة كاعتراضها في المزارعة قبل إلقاء البذر في الأرض وقد بينا أن هناك العقد ينتقض ولا شيء للعامل على رب الأرض لأن تقوم منافعة بالمسمى ولم يحصل شيء منه فهذا مثله.
ولو كان الطلع قد خرج وهو اسم لأول ما يبدو مما هو أصل التمر من النخل أو صار بسرا ثم استحقت الأرض كان النخل وما فيه للمستحق لأن النخل تبع للأرض كالبناء وكما أن باستحقاق الأرض يستحق البناء فكذلك يستحق النخل والتمر زيادة متولدة من النخل والاستحقاق بحجة البينة يثبت في الزيادة المتصلة والمنفصلة جميعا إذا كانت متولدة ثم يرجع العامل على الذي دفع إليه النخل معاملة بأجر مثله فيما عمل لأنه كان استأجره بنصف الخارج وقد حصل الخارج ثم لم يسلم له بالاستحقاق فيفسد العقد ويبقى عمله مستوفى بعمل فاسد فيستوجب أجر المثل كما لو استأجره للعمل بشيء بعينه فاستحق بعد ما أقام العمل.
ولو دفع إلى رجل زرعا له في أرض قد صار بقلا معاملة على أن يقوم عليه ويسقيه حتى يستحصد فما خرج منها فهو بينهما نصفان فهو جائز بالقياس على دفع النخيل معاملة لأن الحب يتولد من النبات بعمل العامل كالتمر من النخيل ولأن الريع يحصل بعمله هنا فهو بمنزلة دفع الأرض والبذر مزارعة بل هذا أقرب إلى الجواز من ذلك لأنه أبعد من الغرر فهناك لا يدرى أيكون الزرع أو لا وهنا الزرع ثابت فالظاهر أن يحصل الريع بعمله إلا أن يصيبه آفة وإذا جاز العقد ثمة فهنا أولى فإذا قام عليه حتى انعقد حبه ولم يستحصد حتى مات أحدهما فالعامل أو ورثته بالخيار إن شاء مضى على العمل حتى يستحصد فيكون الخارج بينهما على الشرط وإن شاء نقض المعاملة لأن العامل استحق بتربية نصيبه من الزرع إلى وقت الإدراك ووارثه يخلفه في ذلك وإن اختار نقض المعاملة فله ذلك لأن إبقاء العقد بعد موت

 

ج / 23 ص -51-       أحدهما كان لدفع الضرر عنه ثم يخير صاحب الزرع أو وارثه بين القلع وبين إعطاء قيمة نصيب العامل يومئذ وبين الإنفاق على الزرع حتى يستحصد ثم يرجع بنصف نفقته من حصة العامل لأنه شريك في التبع وهو مختص بملك الأصل وكذلك لو ماتا جميعا ولو لم يمت واحد منهما وكان دفعه إليه أشهرا معلومة فانقضت قبل أن يستحصد الزرع فالزرع بينهما والنفقة عليهما وعلى العامل أجر مثل نصف الأرض وقد بينا هذا في المزارعة, والفرق بينه وبين المعاملة في الأشجار أن العاملة في الفصل هذا على قياس المزارعة وفإن قال العامل: أريد قلعه خير صاحب الأرض بين الأشياء الثلاثة كما وصفنا ي المزارعة والمعاملة في النخيل, وإن أراد صاحب الأرض قلعه وقال العامل: أنا أنفق عليه, قال القاضي له: انفق عليه حتى يستحصد وعليك اجر مثل نصف الأرض, فإذا استصحد أخذت نصف النفقة من حصته لأنه مما يختار من الإنفاق بقصد دفع الضرر عن نفسه وعن صاحب الأرض, فصاحب الأرض إذا أبى ذلك عليه كان متعنتا فلا يلتفي القاضي إلى تعنته.
ولو لم تنقض المدة حتى استصحد الزرع ثم استق رجل الأرض بزرعها أخذها كلها ورجع العامل على الدافع باجر مثله فيما عمل,لأنه كان استأجره ببعض الخارج وقد حصل الخارج ثم لم يسلم له حين استحق فرجع عليه باجر مثله.
وإذا دفع إلى رجل نخلا فيه طلع كفري على أن يقوم عليه ويلقحه ويسقيه فما خرج فهو بينهما نصفان, ولم يضرب له وقتا معلوما فهو جائز, لأن بعد خروج الطلع لإدراك الثمار نهاية معلومة بطريق العادة, والمعلوم بالعادة كالمشروط بالنص, فلا يضرهما ترك التوقيت ثم الثمر هنا يحصل أو يزداد بعمل العامل, فباعتباره تجوز المعاملة قبل خروج الطلع. فغن قام عليه حتى صار بسرا ثم مات احدهما أو كلاهما وانقضى وقت المعاملة فالخيار في العمل إلى العامل أو وارثه, وإن ابى أن يعمل خير صاحب النخل بين إحدى الوجوه الثلاثة, ولم يفرق هنا في الجواب بين الموت وبين انقضاء الوقت, لأن الثمر خارج عند المعاملة, فالشركة بينهما تحصل عقيب العقد, ولا يستوجب صاحب النخل الأجر على العامل عند انقضاء المدة, كما لا يستوجب عند موت أحدهما في المدة, والعمل كله على العامل إذا اختار الترك إلى وقت الإدراك في الفصلين جميعا, ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن استحق الأرض والنخل كان على الدافع أجر مثل العمل, لأنه استأجره للعمل ببعض ما يحصل بعمله وقد حصل ثم استحق فيستوجب عليه أجر المثل.
ولو استحق المستحق بعدى ما سقاه العامل وقام عليه وانفق إلا انه لم يزدد شيئا حتى اخذه المستحق لم يكن للعامل على الدافع شيء, لأن اجر عمله نصف بعمله من زيادة أو أصل ثمرة ولم يوجد ذلك, فإن قيل: فأين ذهب قولكم: إن الشركة تحصل هنا عقيب العقد؟ قلنا: نعم ولكن فيما يحصل بعمله على أن يكون ما هو حاصل قبل العمله تابع له, فإما أن يستحق الشركة فيما هو حاصل قبل عمله مقصودا فلا, لأن جواز هذا العقد بينهما

 

ج / 23 ص -52-       بالقياس على المعاملة في النخيل, ولو شرطا هناك الشركة في النخيل الحاصل والثمر الذي لم يحصل لم يجز العقد. فعرفنا أن المقصود هنا الشركة فيما يحصل من الزيادة بعمله, فإذا لم يحصل شيء من ذلك حتى استحقه المستحق لم يستوجب عليه شيئا من الأجر لأنه لم يستحق شيئا مما صار مستحقا للعامل بعمله ولو لم يستحق ومات أحدهما انتقضت المعاملة لأنه لم يحصل بعمله شيء فهو نظير موت رب النخيل في المعاملة قبل خروج الثمار ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء فكان الكفرى كله لصاحب النخيل كما كان قبل العقد والله أعلم.

باب ما يجوز لأحد المزارعين أن يستثنيه لنفسه وما لا يجوز
قال رحمه الله: وإذا اشترطا في المزارعة والبذر من أحدهما أن للزارع ما أخرجت ناحية من الأرض معروفة ولرب الأرض ما أخرجت ناحية منها أخرى معروفة فهو فاسد لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الريع مع حصوله لجواز أن يحصل الريع في الناحية المشروطة لأحدهما دون الآخر لأن صاحب الأرض شرط على العامل العمل في ناحية من الأرض له على أن يكون له بمقابلته منفعة ناحية أخرى والخارج من ناحية أخرى فيكون هذا بمنزلة ما لو شرط ذلك في أرضين وفي الأرضين إذا شرط أن يزرع أحدهما ببذره على أن له أن يزرع الأخرى ببذره لنفسه كان العقد فاسدا فهذا مثله ثم الزرع كله لصاحب البذر وقد بينا هذا الحكم في المزارعة الفاسدة.
وكذلك لو اشترطا أن ما خرج من زرع على السواقي فهو للمزارع وما خرج من ذلك في الأتوار والأواعي فهو لرب الأرض فالعقد فاسد لما قلنا وكذلك لو اشترطا التبن لأحدهما والحب للآخر كان العقد فاسدا لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله فمن الجائز إن يحصل التبن دون الحب بأن يصيب الزرع آفة قبل انعقاد الحب وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله كان مفسدا للعقد.
ثم الكلام في التبن في مواضع:
أحدها: أنهما إذا شرطا المناصفة بينهما في الزرع أو الريع أو الخارج مطلقا فالحب والتبن كله بينهما نصفان لأن ذلك كله حاصل بعمل الزارع.
والثاني: أن يشترطا المناصفة بينهما في التبن والحب لأحدهما بعينه فهذا العقد فاسد لأن المقصود هو الحب دون التبن فهذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما فيما هو المقصود.
والثالث: أن يشترطا المناصفة في الحب ولم يتعرضا للتبن بشيء فهذا مزارعة صحيحة والحب بينهما نصفان لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود والتبن لصاحب البذر منهما لأن استحقاقه ليس بالشرط وإنما استحقاق الأجر بالشرط فإنما يستحق الأجر بالشرط والمسكوت عنه يكون لصاحب البذر وبعض أئمة بلخ رحمهم الله قالوا في هذا

 

ج / 23 ص -53-       الفصل التبن بينهما نصفان أيضا لأن فيما لم يتعرضا له يعتبر العرف والعرف الظاهر المناصفة بينهما في التبن والحب جميعا ولأن التبن في معنى التبع للحب واشتراط المناصفة في المقصود بمنزلة اشتراطه في التبع ما لم يفصل عنه بشرط آخر فيه مقصود.
والرابع: أن يشترطا المناصفة بينهما في الحب والتبن لأحدهما بعينه فإن شرطا التبن لصاحب البذر فهو جائز لأنهما لو سكتا عن ذكره كان لصاحب البذر فإذا نصا عليه فإنما صرحا بما هو موجب للعقد فلا يتغير به وصف العقد وإن شرطا التبن للآخر لم يجز لأن الآخر إنما يستحق بالشرط فلو صححنا هذا العقد أدى إلى أن يستحق أحدهما شيئا من الخارج بالشرط دون صاحبه بأن يحصل التبن دون الحب بخلاف الأول فاستحقاق رب البذر ليس بالشرط بل لأنه نماء بذره ثم التبن للحب قياس النخل للتمر ويجوز أن يكون النخل لصاحبه لا بشرط المزارعة والتمر بينهما نصفان ولكن لا يجوز أن يكون النخل للعامل بالشرط في المعاملة والتمر بينهما نصفان فكذلك في المزارعة ولو سميا لأحدهما أقفزة معلومة فسد العقد لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله بأن يكون الخارج الأقفزة المعلومة لأحدهما بعينه من غير زيادة.
ولو دفع إليه أرضا عشرين سنة على أن يزرعها ويغرسها ما بدا له على أن ما أخرج الله تعالى من ذلك فهو بينهما نصفان فهو جائز لأن التالة للأشجار بمنزلة البذر للخارج واشتراط ذلك على العامل في المزارعة صحيح فكذلك اشتراط الغرس على العامل بعد أن تكون المدة معلومة وما زرع وغرس بينهما نصفان حبه وتبنه وثمره ورطبه وأصول الرطب وعنبه وكرمه وأصول الكرم وحطبه وعيدانه لأن هذا كله حاصل بعمله وبقوة أرض صاحبه فإن الغروس تتبدل بالعلوق.
ألا ترى أن من غصب تالة فغرسها كان الشجر له بمنزلة ما لو غصب بذرا فزرعه فإن كان الكل حاصلا بعمله وقد اشترطا المناصفة في جميعه كان الكل بينهما نصفين.
ولو اشترطا أن الثمر بينهما جاز والثمر بينهما على ما اشترطا فأما الشجر والكرم وأصول الرطبة فهو للغارس يقلعه إذا انقضت المعاملة وهو نظير ما بينا إذا شرط المناصفة في الحب أن التبن كله لصاحب البذر فهذا أيضا الثمر بينهما نصفان كما شرطا والشجر وأصول الرطبة كله للغارس لأن استحقاقه باعتبار ملك الأصل لا بالشرط ويقلعه انقضت المعاملة لأن عليه تسليم الأرض إلى صاحبها فارغة ولا يتمكن من ذلك إلا بقلع الأشجار وكذلك لو كان شرطا ذلك للغارس وإن كانا شرطاه لرب الأرض كانت المعاملة فاسدة كما بينا في التبن لأن استحقاق رب الأرض بالشرط فلو جوزنا هذا الشرط أدى إلى أن يثبت له استحقاق الخارج قبل أن يثبت لصاحبه بالشروط وربما لا يثبت لصاحبه بأن لا تحصل الثمار.
ولو كان الغرس والبذر من قبل صاحب الأرض كان جائزا في جميع هذه الوجوه إلا أن يشترط الشجر والكرم وأصول الرطبة للعامل فحينئذ تفسد المعاملة لأن استحقاق العامل هنا

 

ج / 23 ص -54-       بالشرط فلا يجوز أن يسبق استحقاق صاحب الأرض في الخارج وإن شرطا الثمر لأحدهما بعينه والشجر بينهما نصفان لم يجز لأن المقصود بالمعاملة الشركة في الثمار فهذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما فيما هو المقصود فيفسد به العقد كما لو شرطا في المزارعة الحب لأحدهما بعينه والتبن بينهما نصفين وقد بينا هذا.
وإن اشترطا في المزارعة أن ما خرج منها من حنطة فهو بينهما نصفان وما خرج من شعير فهو لصاحب البذر كله يستوفيه فيأخذه فهذه مزارعة فاسدة وكذلك لو شرطا الشعير الذي سرق منها للذي ليس من قبله البذر فهو فاسد والمراد من هذا أنه قد يكون في الحنطة حبات شعير فتقلع وذلك إذا اشتد حبه قبل أن تدرك الحنطة وتجف فإذا شرطا ذلك لأحدهما بعينه فسد العقد لأن الحنطة والشعير كل واحد منهما ريع مقصود فهذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في ريع مقصود وذلك مفسد للعقد ومن الجائز أن يحصل الشعير ويصيب الحنطة آفة فيختص به أحدهما وذلك ينفي صحة المزارعة بينهما.
ولو دفع زرعا في أرض قد صار بقلا مزارعة واشترطا أن الحب بينهما نصفان والتبن لصاحب الأرض أو سكتا عنه فهو جائز والتبن لصاحب الأرض ولو شرطا التبن للعامل فهو فاسد لأن دفع الزرع الذي صار بقلا مزارعة كدفع الأرض والبذر مزارعة وقد بينا هذا الحكم فيما إذا دفع الأرض والبذر مزارعة فكذلك إذا دفع الفضل مزارعة والله أعلم.

باب عقد المزارعة على شرطين
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا يزرعها سنته هذه ببذره وعمله على أنه إن زرعها في أول يوم من جمادى الأولى فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها في أول يوم من جمادى الآخرة فالثلثان من الخارج لرب الأرض والثلث للمزارع فالشرط الأول جائز. والثاني فاسد في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز المزارعة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الشرطان جائزان وهذه المسألة تنبني على ما بينا في الإجارات إذا دفع ثوبا إلى خياط فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم ووجه البناء عليه أن صاحب الأرض مؤاجر أرضه من صاحب البذر وإن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل وقد شرط عليه إقامة العمل في أحد الوقتين وسمى بمقابلة العمل في كل وقت بدلا مخالفا للبدل الآخر فيكون بمنزلة الخياطة في اليوم وفي الغد عند أبي حنيفة رحمه الله الشرط الأول صحيح والثاني فاسد إما لأنه علقه بالأول أو لأنه اجتمع سببان في الوقت الثاني فإن زرعها في جمادى الأولى فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها في جمادى الآخرة فالخارج كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض إن كان البذر من قبل العامل وأجر مثل العامل إن كان البذر من قبل صاحب الأرض وعندهما الشرطان جميعا جائزان فإن زرعها في جمادى الآخرة فالخارج بينهما أثلاثا.
ولو قال على أن ما زرع من هذه الأرض في يوم كذا فالخارج منه بينهما نصفان وما

 

ج / 23 ص -55-       زرع منها في يوم كذا فللمزارع ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثاه فهذا فاسد كله لأنه أجرها على شيء غير معروف فإن مقدار ما يزرع منها في الوقت الأول على شرط النصف غير معلوم وكذلك مقدار ما يزرع في الوقت الثاني على شرط الثلث غير معلوم فيفسد العقد كله للجهالة كما لو دفع ثوبه إلى خياط على أن ما خاط منه اليوم فبحساب درهم وما خاط منه غدا فبحساب نصف درهم كان فاسدا كله ولو كان في المسألة الأولى زرع نصفها في أول يوم من جمادى الأولى ونصفها في أول يوم من جمادى الآخرة فما زرع في الوقت الأول فهو بينهما على مااشترطا وما زرع في الوقت فهو لصاحب البذر في القول الأول وفي القول الثاني كل واحد منهما على ما اشترطا لأن الشرط الأول في المسألة الأولى كان صحيحا في القول الأول وفي القول الثاني الشرطان صحيحان فزراعة البعض معتبرة بزراعة الكل إذ ليس في هذا التبعيض إضرار بأحد وهو نظير مسألة الخياطة إذا خاط نصف الثوب اليوم ونصفه غدا فله فيما خاطه اليوم نصف درهم اعتبارا للبعض بالكل وفيما خاطه غدا ربع درهم في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة أجر مثله لا ينقص عن ربع درهم ولا يزاد على نصف درهم اعتبارا للبعض بالكل بخلاف قوله على أن ما زرع منها لأن هناك صرح بالتبعيض والبعض الذي تناوله كل شرط مجهول في نفسه فكان العقد فاسدا وهنا أضاف كل شرط إلى جملة وهي معلومة والتبعيض عند إقامة العمل ولا جهالة في ذلك أيضا.
ولو قال: على أنه إن زرعها بدالية أو سانية فالثلثان للمزارع والثلث لرب الأرض وإن زرعها بماء سيح أو سقت السماء فالخارج بينهما نصفان فهو جائز على ما اشترطا وهذا بناء على قول أبي حنيفة الآخر فأما على قياس قوله الأول وهو قول زفر رحمه الله فيفسد الشرطان جميعا لأنه ذكر نوعين من العمل وجعل بمقابلة كل واحد منهما جزأ من الخارج معلوما فهو بمنزلة ما لو دفع ثوبا إلى خياط على أنه إن خاطه خياطة رومية فأجره درهم وإن خاطه خياطة فارسية فأجره نصف درهم وقد بينا هذا في الإجارات.
ولو قال: على أن ما زرع منها بدلو فللعامل ثلثاه ولرب الأرض ثلثه وإن زرع منها بماء سيح فللعامل نصفه فهذه مزارعة فاسدة لجهالة كل واحد من العملين فإنه صرح بالتبعيض وشرط أن يزرع بعضها بدلو على أن له ثلثي الخارج وذلك البعض مجهول وكذلك فيما شرط الزراعة بماء السيح وهو بمنزلة رجل دفع إلى خياط خمسة أثواب يقطعها قمصا على أن ما خاط منها روميا فله درهم في كل ثوب وما خاط منها فارسيا فله نصف درهم في كل ثوب وهناك يفسد العقد كله للجهالة فهذا قياسة.
ولو دفع إليه أرضا يزرعها خمس سنين ما بدا له على أن ما خرج منها من شيء في السنة الأولى فهو بينهما نصفان وفي السنة الثانية لرب الأرض الثلث وللمزارع الثلثان وسميا لكل سنة شيئا معلوما فهو جائز من أيهما شرط البذر لأن هذه عقود مختلفة بعضها معطوف على البعض ففي السنة الأولى عقد إجارة مطلق وفي السنة الثانية مضاف إلى وقت والإجارة

 

ج / 23 ص -56-       تحتمل الإضافة إلى وقت في المستقبل فيجعل في حق كل عقد من هذه العقود كأنهما أفردا ذلك العقد بخلاف الأول والعقد هناك واحد باتحاد المدة وإنما التغاير في شرط البدل ثم جواز المزارعة للحاجة وهما يحتاجان إلى هذا لأن الأرض في السنة الأولى يكون فيها من القوة ما لا يحتاج إلى زيادة عمل لتحصيل الريع وفي السنة الثانية يحتاج إلى زيادة العمل لنقصان تمكن في قوة الأرض بالزراعة في السنة الأولى فيشترط للمزارع زيادة في السنة الثانية باعتبار زيادة عمله.
وكذلك لو اشترطا أن البذر في السنة الأولى من قبل الزارع وفي السنة الثانية من قبل رب الأرض وبينا نحو ذلك في كل سنة فهو جائز لأنهما عقدان مختلفان أحدهما معطوف على الآخر ففي السنة الأولى العامل مستأجر للأرض بنصف الخارج وفي السنة الثانية رب الأرض مستأجر للعامل بنصف الخارج وكل واحد من العقدين صحيح عند الإنفراد فكذلك عند الجمع بينهما وهو بمنزلة رجل دفع عبده إلى حائك يقوم عليه في تعليم الحياكة خمسة أشهر على أن يعطيه في كل شهر خمسة دراهم وعلى أن يعطيه الحائك في خمسة أشهر أخرى في كل شهر عشرة دراهم فهو جائز على ما اشترطا للمعنى الذي بينا.
ولو دفع إليه أرضه ثلاث سنين على أن يزرعها في السنة الأولى ببذره ما بدا له على أن الخارج بينهما نصفان وعلى أن يزرعها في السنة الثانية ببذره وعمله على أن الخارج له وعليه أجر مائة درهم لرب الأرض وعلى أن يزرعها في الثالثة ببذر رب الأرض على أن الخارج لرب الأرض وللمزارع أجر مائة درهم فهذا جائز كله لأن العقد بينهما في السنة الأولى مزارعة صحيحة بنصف الخارج سواء كان البذر من قبل رب الأرض أو من قبل العامل وفي السنة الثانية العامل استأجر الأرض بأجرة معلومة لمنفعة معلومة وفي السنة الثالثة رب الأرض استأجر العامل ببدل معلوم لعمل معلوم وكل عقد من هذه العقود صحيح عند الإنفراد فكذلك عند الجمع لأن الإضافة إلى وقت في المستقبل لا تمنع صحة الإجارة.
وإذا دفع إلى رجل أرضا على أن يزرعها أرزا أو قال رزا كل ذلك لغة عشر سنين ويغرسها نوى ببذره وعمله وعلى أن يحول ذلك من موضعه إلى موضع آخر من الأرض ويسقيه ويقوم عليه على أن ما خرج منه فهو بينهما نصفان فهذا جائز سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض لأن العقد بينهما مزارعة بشرائطها وإنما في هذا العقد زيادة شرط الحوالة على العامل وهو من عمل الزراعة به يزكو الريع فيكون بمنزلة اشتراط عمل الكراب والسقي عليه ثم الحوالة تكون في بعض الأشياء الذي تزرع كالباذنجان والأرز والأشجار وذلك معلوم عند أهل الصنعة وربما يحتاج إليه في البعض دون البعض فلا يشترط إعلام ما يحوله بعينه إما لأنه معلوم بالعادة أو لأن في اشتراط إعلام ذلك بعض الحرج والحرج مدفوع.
ولو دفع إليه أرضين على أن يزرع هذه أرزا أو هذه أرزا ببذره وعلى أن يحول ما يزرع

 

ج / 23 ص -57-       في هذه في هذه الأخرى وما يزرع في هذه في هذه الأخرى ويسقيه ويقوم عليه فما خرج فهو بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لوجهين:
أحدهما: أنه اشترط عليه العمل في أرضين في إحداهما بالزراعة وفي الأخرى بالحوالة على أن تكون الشركة بينهما في الخارج من إحداهما وذلك مفسد للعقد.
والثاني: أنه شرط عليه شرطا لا يمكنه الوفاء به وهو تحويل جميع ما ينبت في كل واحدة من الأرضين إلى الأرض الأخرى وربما لا يتمكن من ذلك بأن لا تتسع له الأرض الأخرى.
يوضحه: أنه لا يحول جميع ما يزرع في هذه الأرض إلى الأرض الأخرى, إلا بعد أن يقلعه من الأرض التي زرع فيها وعقد المزارعة في كل واحد من الأرضين معقود على حدة فبالقلع ينتهي ويصير كأنه شرط عليه في كل عقد عملا بعد انتهاء عقد المزارعة وذلك مفسد للعقد بخلاف الأرض الواحدة فالعقد فيها واحد ولا ينتهي بتحويل بعض ما نبت فيها من موضع إلى موضع منها وكذلك في الأرضين لو شرطا الزرع في إحداهما والتحويل إلى الأخرى والغرس في إحداهما والتحويل إلى الأخرى أو كانت أرضا واحدة وشرطا أن يزرع أو يغرس ناحية منها معلومة على أن يحول ذلك في ناحية منها أخرى معلومة فهذا فاسد لأنه إذا ميز إحدى الناحيتين من الأخرى كانتا في معنى أرضين وكذلك هذا الجواب في كل ما يحول كالزعفران ونحوه.
وإذا دفع إلى رجل أرضه سنته هذه على أن يزرعها ببذره قرطما فما خرج منها من عصفر فهو للمزارع وما خرج من قرطم فهو لرب الأرض أو على عكس ذلك فالعقد فاسد سواء كان البذر من قبل رب الأرض أو من قبل المزارع لأن القرطم والعصفر كل واحد منهما ريع مقصود في هذه الزراعة فاشتراط أحد الجنسين لكل واحد منهما بعينه شرط يفوت المقصود بالمزارعة وهو الشركة بينهما في الريع وربما يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الريع مع حصوله بأن يحصل أحدهما دون الآخر وقد يجوز أن يحصل العصفر ثم تصيبه آفة فلا يحصل القرطم ويكون ذلك للذي شرط له العصفر فهو بمنزلة ما لو دفع إليه أرضا ليزرعها حنطة وشعيرا على أن الحنطة لأحدهما بعينه والشعير للآخر بعينه وكذلك هذا في كل شيء له نوعان من الريع كل واحد منهما مقصود كبزر الكتان إذا شرط لأحدهما بعينه الكتان وللآخر البزر والرطبة إذا شرطا لأحدهما بعينه بزر الرطوبة وللآخر العنب فالعقد فاسد.
ولو شرطا القرطم لأحدهما بعينه والعصفر بينهما نصفان أو العصفر لأحدهما بعينه والقرطم بينهما نصفان لم يجز ذلك من أيهما كان البذر لأن كل واحد منهما ريع مقصود ولا يجوز في المزارعة تخصيص أحدهما بشرط ريع مقصود له وكذلك هذا في الكتان وبزره والرطبة وبزرها بخلاف مسألة التبن فإنه إذا شرط لصاحبه البذر والحب بينهما نصفان كان جائزا لأن التبن ليس بريع مقصود.

 

ج / 23 ص -58-       ألا ترى أنه لا يشتغل بالزراعة لمقصود التبن خاصة بل المقصود هو الحب فإذا شرطا الشركة فيما هو المقصود جاز العقد إن شرطا تخصيص صاحب البذر بما ليس بمقصود فأما في هذه المسائل فكل واحد من النوعين مقصود فاشتراط تخصيص أحدهما بأحد النوعين يقطع الشركة بينهما فيما هو مقصود وذلك مفسد للعقد واشتراط بزر البطيخ أو القثاء لأحدهما بمنزلة اشتراط التبن لأن ذلك غير مقصود بل هو تبع للمقصود كالتين بخلاف بزر الرطبة فإنه مقصود وربما بلغ قيمة القت أو يزيد عليه فهو بمنزلة العصفر والكتان على ما بينا والله أعلم.

باب اشتراط عمل العبد والبقر من أحدهما
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا وبذرا على أن يزرعها هو وعبده هذا فما خرج فللمزارع ثلثه ولعبده ثلثه ولرب الأرض ثلثه فهذا جائز وما خرج فللمزارع ثلثاه نصيبه ونصيب عبده لأن العبد ليس من أهل الملك بل المولى يخلفه في ملك ما يكون من كسبه فاشتراط الثلث لعبد المزارع يكون اشتراطا للمزارع واشتراط عمل عبد المزارع معه كاشتراط البقر عليه لأن عمل الزراعة يتأتى له بالبقر وبمن يعينه على العمل ثم يجوز اشتراط العمل على المزارع إذا كان البذر من قبله أو لم يكن فكذلك اشتراط عمل عبده معه يجوز.
وكذلك لو لم يشترطا على العبد عملا ولكنه شرط لعبده ثلث الريع فالمشروط للعبد مشروط لمولاه فكأنه شرط الثلثين للمزارع وهو بمنزلة ما لو شرط الثلث لبقره فذلك اشتراط منه لصاحب البقر وسواء شرط العمل ببقره أو لم يشترط ولو شرط الثلث لمكاتبه أو لمكاتب رب الأرض فإن اشترط عمله عليه فهو جائز وهو مزارع معه له ثلث الريع لأن المكاتب أحق بمكاسبه وهو بمنزلة الحريدا فهذا في معنى دفع الأرض والبذر مزارعة إلى حرين على أن لكل واحد منهما ثلث الخارج وإن لم يشترط عليه عملا فالمزارعة جائزة بين المزارع ورب الأرض فاشتراط ثلث الخارج للمكاتب باطل لأن المشروط للمكاتب لا يكون مشروطا لمولاه فإن المولى لا يملك كسب مكاتبه ما بقيت الكتابة فالمشروط له كالمشروط لأجنبي آخر وبطلان هذا الشرط لأنه ليس من جهته بذر ولا أرض ولا عمل والخارج لا يستحق إلا بأحد هذه الأشياء ولكن هذا الشرط وراء عقد المزارعة بين المزارع ورب الأرض فلا يفسد به العقد بل يكون ثلث الريع للمزارع كما شرط له والثلثان لرب الأرض لأن رب الأرض والبذر لا يستحق بالشرط والمزارع هو الذي يستحق بالشرط فما وراء المشروط له يكون لرب البذر ويجعل ما بطل الشرط فيه كالمسكوت عنه.
وكذلك لو شرط الثلث لامرأته أو لابنه أو لأبيه فهو بمنزلة الشرط لأجنبي آخر إن شرط عليه العمل معه كان صحيحا وإن لم يشترط عليه العمل معه كان باطلا والمزارعة بين رب الأرض والمزارع صحيحة بالثلث.
ولو كان البذر من العامل فهو على هذا القياس ما شرط لعبد العامل فهو للعامل سواء شرط عليه العمل أو لم يشترط والمزارعة جائزة وما شرط لمكاتبه أو لابنه أو لامرأته فهو

 

ج / 23 ص -59-       كالمشروط لأجنبي آخر فإن لم يشترط عليه أن يعمل معه فهذا الشرط باطل وذلك الثلث للعامل لأنه نماء بذره وصاحب الأرض يستحق بالشرط فلا يستحق إلا ما شرط له ولو شرط عليه العمل وعمل معه فله أجر مثله على المزارع لأن المزارع استأجر الأرض بثلث الخارج ثم استأجر العامل بثلث الخارج ليعمل معه وقد بينا أن هذا العقد يفسد بينهما لانعدام التخلية حين شرط عمل صاحب البذر المستأجر للأرض مع العامل الآخر ولكنهما عقدان مختلفان جرى بينه وبين شخصين مختلفين فبفساد أحدهما لا يفسد الآخر فيكون للعامل الآخر أجر مثله على المزارع لأنه استوفى عمله بعقد فاسد ولصاحب الأرض ثلث الخارج لأنه شرط له ذلك بعقد صحيح وثلثا الزرع طيب للعامل لأنه لا يتمكن خبث من جانب الأرض حيث صح العقد بينه وبين رب الأرض فيطيب له ثلثا الريع.
وكذلك لو شرط عمل رب الأرض فهو كاشتراط بقر رب الأرض وذلك يفسد المزارعة بينهما وإن كان على العبد دين فعبد رب الأرض إذا كان مديونا بمنزلة مكاتبه لأن كسبه حق غرمائه والمشروط له لا يكون مشروطا لمولاه وكذلك لو شرط عليه من العمل فالمشروط عليه لا يكون مشروطا على مولاه فيكون له أجر مثله والعقد صحيح بين العامل الذي من قبله البذر وبين رب الأرض بثلث الخارج كما شرط لرب الأرض.
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرعها ببذره وعمله على أن له ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثه وعلى أن يكربها ويعالجها ببقر فلان على أن لفلان ثلث الخارج فرضي فلان بذلك فعلى العامل أجر مثل البقر بثلث الخارج وقد بينا أن البقر لا يكون مقصودا في المزارعة فكان العقد بينهما فاسدا وقد استوفى منفعة بقره فله أجر مثله عليه وثلث الخارج لرب الأرض وثلثاه للعامل طيب لأنه لا فساد في العقد بينه وبين رب الأرض وإذا كان البذر من قبل رب الأرض كان الثلثان له وعليه أجر مثل البقر لأنه استأجر العامل بثلث الخارج وهو جائز واستئجار البقر مقصود بثلث الخارج وهو فاسد ولو كانا اشترطا عليه أن يعمل بنفسه مع بقره بالثلث حتى استحصد الزرع جاز وهما مزارعان جميعا لأن عمل البقر هنا تبع لعمل صاحبه وقد بينا جواز اشتراط البقر على العامل في عقد المزارعة ولا فرق بين أن يشترط ذلك على العاملين أو على أحدهما كسائر الآلات إذا شرط على أحد العاملين في الإجارة.
ولو كان البذر والبقر من واحد والأرض من آخر والعمل من ثالث كان فاسدا لما فيه من دفع البذر والبقر مزارعة ودفع كل واحد منهما على الانفراد مقصودا يفسد عقد المزارعة فدفعهما أولى ثم الخارج كله لصاحب البذر وعليه للعامل أجر مثل عمله ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه يتصدق صاحب البذر بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بسبب فاسد ولو كان البذر من أحدهم والبقر من الآخر والأرض والعمل من الآخر كان فاسدا أيضا وفيه حديث مجاهد رحمه الله كما بينا.
ولو دفع إليه أرضا يزرعها سنته هذه ببذره وبقره وعمله على أن يستأجر فيها أجراء من

 

ج / 23 ص -60-       مال الزارع فهو جائز لأن هذا شرط يقتضيه العقد فإن العمل بمطلق العقد كله يصير مستحقا على الزارع وله أن يقيمها بنفسه وأعوانه وأجرائه وهو الذي يستأجرهم لذلك فيكون الأجر عليه في ماله وإن لم يذكره فالشرط لا يزيده إلا وكادة ولو اشترطا أن يستأجر الأجراء من مال رب الأرض فهذه مزارعة فاسدة لأن الأجير الذي يستوجب الأجر من مال رب الأرض يكون أجيرا له فإنه إنما يستوجب الأجر عليه إذا كان عاملا له واشتراط عمل أجير رب الأرض كاشتراط عمل رب الأرض مع المزارع وذلك مفسد للمزارعة.
وكذلك لو شرطا أن يستأجرا الأجراء من مال المزارع على أن يرجع به فيما أخرجت الأرض ثم يقتسمان ما بقي نصفين فهذا فاسد لأن القدر الذي شرطا فيه رجوع المزارع من الريع بمنزلة المشروط للمزارع فكأنه شرط له أقفزة معلومة من الخارج والباقي بينهما نصفان وذلك مفسد للعقد لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله.
وإن كان البذر من قبل رب الأرض فاشترط على الزارع أجر الأجراء من ماله جاز لما بينا أن العمل كله مستحق عليه وهو متمكن من إقامتها بنفسه وأجرائه ولو شرط أجر الأجراء على رب الأرض من ماله لم يجز وهو بمنزلة اشتراط عمل رب الأرض والبذر مع المزارع وكذلك لو اشترطاه على الزارع على أن يرجع به في الخارج فهو فاسد بمنزلة ما لو شرطا له ذلك العقد من الخارج فيفسد به العقد ويكون الريع كله لصاحب البذر وللعامل أجر مثله فيما عمل وأجر مثل أجرائه فيما عملوا ولا يشبه هذا المضاربة فإنه لو دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف على أن أجر الأجراء من المال كان جائزا لأن ذلك شرط يقتضيه العقد فإن أجر الأجراء بمنزلة نفقة المضارب إذا خرج للعمل في مال المضاربة وذلك يكون في المال بغير شرط فأجراء العمل في مال المضاربة كذلك فالشرط لا يزيده إلا وكادة وهذا لأن مقتضى المضاربة الشركة بينهما في الربح خاصة والربح لا يظهر إلا بعد أجر الأجراء كما لا يظهر إلا بعد رفع رأس المال فهذا الشرط لا يغير مقتضى العقد فأما عقد المضاربة فمقتضاه الشركة في جميع الريع فاشتراط أجر الأجراء من الريع أو على أن يرجع به العامل في الريع بمنزلة اشتراط رفع صاحب البذر بذره من الريع وذلك مفسد للعقد ولو كانا اشترطا أن أجر الأجراء على المضارب في ماله وعلى رب المال في ماله كان ذلك باطلا وتفسد المضاربة لأنه يغير مقتضى العقد فإن أجر الأجراء في مال المضاربة فإذا شرط على أحدهما خاصة كان هذا شرطا مخالفا لموجب العقد فيفسد به العقد والله أعلم.

باب التولية في المزارعة والشركة
قال رحمه الله: رجل دفع إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان ولم يقل له اعمل فيه برأيك فله أن يستأجر فيه الأجراء بماله لأنه التزم عمل الزراعة في ذمته فإن شاء أقامه بنفسه وإن شاء بأعوانه وأجرائه ولما استأجره رب الأرض والبذر مطلقا لعمل الزراعة مع علمه أنه قد يعجز عن إقامة جميع الأعمال بنفسه وقد يبتلى بسوء أو

 

ج / 23 ص -61-       مرض لا يمكنه إقامة العمل معه فقد صار راضيا بإقامته العمل بأعوانه وأجرائه وليس له أن يوليها أحدا فيدفعها إليه مع البذر يعملها على أن الخارج بينهما نصفان لأنه يوجب للغير شركة في الخارج من يد رب الأرض فإنما رضي رب الأرض بشركته لا بشركة غيره ولأنه لا يملك نصيبه قبل إقامة العمل فلا يتمكن من إيجابه لغيره بمطلق العقد ولا يتمكن من إيجاب نصيب رب الأرض لغيره لأن رب الأرض لم يرض به وإن فعل ذلك فعملها الرجل فالزرع بين الآخر والأوسط نصفان لأن الأول صار غاصبا للأرض والبذر بتولية العقد فيه إلى الثاني وإيجاب الشركة في الخارج.
ومن غصب أرضا وبذرا ودفعهما مزارعة كان الخارج بين الغاصب والمزارع على شرطهما لا شيء منه لرب الأرض ولرب الأرض أن يضمن بذره أيهما شاء لأن كل واحد منهما غاصب فتعدى في حقه الثاني بالإلقاء في الأرض لا على وجه رضي به رب الأرض والأول بالدفع إلى الثاني مع إيجاب الشركة في الخارج منه وكذلك نقصان الأرض في قول محمد وفي قياس قول أبي يوسف الأول يضمن أيهما شاء، فأما في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر فإنما يضمن نقصان الأرض الثاني خاصة لأنه هو المتلف بعمله والعقار يضمن بالإتلاف دون الغصب عندهما فإن ضمن الثاني فله أن يرجع بما ضمن على الأول لأنه مغرور من جهته وإن ضمن الأول لم يرجع على الثاني بشيء لأنه ملك البذر بالضمان فإنما دفع بذره مزارعة وكذلك نقصان الأرض عند محمد رحمه الله إذا ضمن الأول لم يرجع على الثاني لأنه لا فائدة فيه فإن الثاني يرجع على الأول بما يضمنه لأجل الغرور.
ولو قال له: اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها فالتولية جائزة ونصف الخارج للمزارع الآخر ونصفه لرب الأرض ولا شيء منه للمزارع الأول لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم والدفع إلى الغير مزارعة بالنصف من رأيه فيقوم هو مقام رب الأرض والبذر ثم هو يقيم غيره مقام نفسه في ثبوت حق الشركة له في الخارج بمقابلة عمله عند حصوله وقد رضي به صاحب الأرض حين أجاز صنعه على العموم فهو كالوكيل يوكل غيره فيما وكل به فيصح منه إذا قيل له اعمل فيه برأيك وإن ثبت أن الثاني قائم مقام الأول فإنما يستحق النصف الذي كان يستحقه الأول ولا يستحق شيئا من نصيب رب الأرض لأنه لم يرض بذلك فلهذا كان الخارج بين المزارع الآخر وبين رب الأرض نصفين.
ولو لم يقل له اعمل فيه برأيك فأشرك فيه رجلا ببذر من قبل ذلك الرجل واشتركا على أن يعملا بالبذرين جميعا على أن الخارج بينهما نصفان فعملا على هذا فجميع الخارج بينهما نصفان والمزارع الأول ضامن لبذر صاحب الأرض لأنه مخالف له بإلقائه في الأرض على وجه يثبت للغير شركة في الخارج منه وإن خلطه ببذر الآخر فهو ضامن له بالخلط لأنه اشتراك لم يرض به صاحب الأرض والبذر ثم هو بالضمان يملك بذر صاحب الأرض فظهر أنهما زرعا ببذر بينهما نصفين فيكون الخارج بينهما نصفين على قدر البذر وهما ضامنان

 

ج / 23 ص -62-       نقصان الأرض لأنهما باشرا عمل الزراعة فكانا مباشرين إتلاف الجزء الذي تمكن النقصان في الأرض بذهاب قوتها فعليهما ضمان ذلك ولا يرجع الثاني على الأول بشيء من النقصان لأن الثاني عامل لنفسه والأول كالمعير منه لنصف الأرض والمستعير لا يرجع بما يلحقه من الضمان على المعير ثم يأخذ كل واحد منهما من نصيبه ما غرم وما أنفق ويتصدق بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بغير رضاه.
ولو كان أمره أن يعمل فيها برأيه ويشارك فيها من أحب والمسألة بحالها جاز ونصف الخارج للآخر لأنه نماء بذره ونصفه بين الأول ورب الأرض نصفان لأنه نماء بذر رب الأرض والمزارع موافق له في عمل الزراعة فيه فالخارج بينهما على الشرط ولا شيء لرب الأرض على واحد منهما لأن نصف الأرض زرعه الأول ونصفه زرعه الثاني والأول كالمعير منه لذلك النصف وقد رضي به رب الأرض حين أمره أن يعمل في ذلك برأيه وأن يشارك من أحب ولو لم يكن شاركه ولكنه دفع إليه البذر على أن يعمل فيه ويبذر مثله من عنده في الأرض على أن الخارج بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لأن المزارع الأول قائم في الدفع مقام المالك حين فوض الأمر إلى رأيه على العموم وقد بينا أن المالك إذا دفع البذر والأرض إلى رجل على أن يزرعها مع مثل ذلك البذر من عنده على أن الخارج بينهما نصفان لم يجز لأنه يجعل منفعة نصف الأرض له بإزاء عمله لصاحب الأرض في النصف الآخر فهذا مثله ثم المزارع الآخر له نصف الخارج لأنه نماء بذره وعليه أجر نصف مثل نصف الأرض لرب الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بعقد فاسد والذي يلي قبضه منه المزارع الأول لأنه وجب بعقده ويكون نصف الزرع بين المزارع الأول ورب الأرض على الشرط لأنه نماء بذر رب الأرض والمزارع الأول لم يصر مخالفا له بالدفع إلى الثاني بحكم عقد فاسد لأن الأمر مفوض إلى رأيه فإنما يضمن بالخلاف لا بالفساد ويطيب لهما هذا النصف لأنه لا فساد في العقد الذي جرى بينهما وقد صار هذا النصف من الزرع مربى في أرض رب الأرض فلا يتمكن فيه الخبث وأما المزارع الآخر فيأخذ مما أخرج بذره ونفقته وما غرم من الأجر ويتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد.
ولو لم يكن رب الأرض أمره أن يعمل فيه برأيه أو يشارك في المزارعة والمسألة بحالها كان الخارج بين المزارع الأول والآخر نصفين لأن الأول صار ضامنا بذر رب الأرض بالخلاف فالخارج نماء بذرهما بسبب عقد فاسد جرى بينهما فيكون بينهما نصفين على قدر البذر وللمزارع الأول على الآخر أجر مثل نصف الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بحكم عقد فاسد جرى بينهما والأول وإن صار غاصبا للأرض ولكن وجوب أجر المثل باعتبار العقد وهو العاقد فيكون بمنزلة من غصب أرضا وأجرها ويضمنها رب الأرض نقصان الأرض في قول محمد رحمه الله وهو قول أبي يوسف الأول لأن الأول غاصب للأرض والثاني متلف في مقدار النقصان فيضمن أيهما شاء ويرجع به الآخر على الأول إذا ضمن لأنه

 

ج / 23 ص -63-       مغرور من جهته والغرور يتمكن بالعقد الفاسد كما يتمكن بالعقد الصحيح.
وظاهر ما نقل في الكتاب يدل على أنه يضمن كل واحد منهما نصف النقصان أيهما شاء فأما في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله فإن رب الأرض يضمن جميع النقصان المزارع الآخر لأنه هو المتلف وضمان النقصان في العقار يجب على المتلف دون الغاصب عنده ثم يرجع به المزارع الآخر على الأول بحكم الغرور.
ولو دفع إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه بالنصف ولم يقل له اعمل فيه برأيك فدفعها المزارع إلى رجل آخر على أن يزرعها سنته هذه بذلك البذر على أن للآخر ثلث الخارج وللأول ثلثاه فعملهما الثاني على هذا فالخارج بينهما أثلاث كما شرطاه في العقد الذي جرى بينهما والمزارع الأول صار مخالفا بإشراك الغير في الخارج بغير رضا رب المال فلرب الأرض أن يضمن بذره أيهما شاء وكذلك نقصان الأرض في قول محمد وأبي يوسف الأول فإن ضمنها الآخر رجع على الأول بذلك كله وإن ضمنها الأول لم يرجع على الآخر وفي قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله إنما يضمن نقصان الأرض للآجر ويرجع هو على الأول ثم يأخذ الأول من نصيبه بذره الذي ضمن وما غرم ويتصدق بالفضل لتمكن الخبث في تصرفه بخلافه ولا يتصدق الآخر بشيء قال لأنه كان أجيرا بنصف الخارج وهو سهو والصحيح أن يقال لأنه كان أجيرا بثلث الخارج ومعنى هذا التعليل أن العقد بين الأول والثاني صحيح وإن كان الأول غاصبا مخالفا فالثاني إنما استحق الأجر على عمله بعقد صحيح فلا يلزمه أن يتصدق بشيء بخلاف ما سبق فهناك الثاني إنما استحق الخارج بكونه نماء بذره وقد رباه في أرض غيره بغير رضا صاحب الأرض.
ولو كان رب الأرض قال له اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها كان ثلث الخارج للآخر ونصفه لرب الأرض وسدسه للمزارع الأول لأن الأول لم يصر مخالفا بالدفع إلى الثاني ولكنه أوجب له ثلث الخارج بعقد صحيح فينصرف ذلك إلى نصيبه خاصة وذلك ثلثا نصيبه ورب الأرض مستحق لنصف الخارج كما شرط لنفسه ويبقى ثلث نصيب المزارع الأول وذلك سدس جميع الخارج فيكون له بضمان العمل في ذمته وإن كان دفع إليه البذر والأرض على أن يزرعها سنته هذه فما رزقه الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان وقال له اعمل في ذلك برأيك فدفعها المزارع إلى رجل بالنصف فهو جائز وللآخر نصف الخارج لأن عقد المزارع الأول معه بعد تفويض الأمر إلى رأي الأول على العموم كعقد رب الأرض فيستحق هو نصف الخارج والنصف الآخر بين الأول وبين رب الأرض نصفين لأن رب الأرض ما شرط لنفسه هنا نصف جميع الخارج وإنما شرط لنفسه نصف ما رزقه الله تعالى للأول وذلك ما وراء نصيب الآخر فكان ذلك بينهما نصفان وفيما تقدم, إنما شرط رب الأرض لنفسه نصف جميع الخارج فلا ينتقض حقه بعقد الأول مع الثاني.

 

ج / 23 ص -64-       وكذلك لو قال على أن ما أخرج الله لك منها من شيء فهو بيننا نصفين أو قال ما أصبت من ذلك من شيء فهو بيننا نصفان فهذا وقوله وما رزقك الله سواء ولو لم يقل له اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها كان الأول مخالفا ضامنا حين زرعها الآخر لما قلنا والخارج بينهما نصفان ولا شيء منه لرب الأرض ويضمن رب الأرض بذره أيهما شاء وفي نقصان الأرض خلاف كما بينا.
ولو لم يزرع الآخر حتى ضاع البذر من يده أو غرقت الأرض ففسدت ودخلها عيب ينقصها فلا ضمان على واحد منهما في شيء من ذلك لأن الأول بمجرد الدفع إلى الثاني لا يصير مخالفا.
ألا ترى أنه لو دفع إليه البذر والأرض واستعان به في عمل الزراعة أو استأجره على ذلك بدراهم لم يكن مخالفا وإنما يصير مخالفا بإيجاب الشركة للغير في الخارج وذلك لا يحصل بمجرد العقد ولا بدفع الأرض والبذر إليه وإنما تكون حقيقة الشركة عند حصول الخارج وسببه إلقاء البذر في الأرض على طريق المزارعة فما لم يوجد هذا السبب لا يصير واحد منهما مخالفا فلهذا لا ضمان على واحد منهما لرب الأرض والدليل عليه أن الشركة بعقد المزارعة لا تكون في البذر بل تكون في النماء الحاصل من البذر وسببه ليس هو قبض المزارع البذر وإنما سببه إلقاء البذر في الأرض.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه بالنصف وقال له اعمل فيه برأيك فدفعها المزارع إلى آخر مزارعة على أن للمزارع الآخر الثلثين مما تخرج الأرض وللأول الثلث فهذا فاسد لأن إيجاب الأول للثاني إنما يصح في مقدار نصيبه من الخارج وقد أوجب له أكثر من نصيبه فالزيادة على مقدار نصيبه إنما يوجبها له في نصيب رب الأرض والبذر وهو غير راض بذلك أو قال له اعمل فيه برأيك لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم على أن يكون له نصف الخارج فلهذا فسد العقد وإذا حصل الخارج كان للآخر أجر مثله على الأول لأنه استوفى عمله بحكم عقد فاسد جرى بينهما والزرع بين رب الأرض والمزارع الأول نصفان لأن عمل أجيره إجارة فاسدة بمنزلة عمل أجيره أن لو استأجره بالدراهم إجارة صحيحة وذلك كعمله بنفسه فيكون الخارج بينهما على الشرط ويطيب لهما ذلك لأنه لا فساد في العقد الذي جرى بينهما وإنما الفساد في العقد المعقود على عمل المزارع الآخر ولسببه لا يتمكن الخبث في الخارج قال ولا يشبه هذا المضاربة يريد به ما بينا في كتاب المضاربة في هذه الصورة بعينها لأن للمضارب الآخر نصف الربح نصيب المضارب الأول ويرجع على الأول بسدس الربح لأن الربح دراهم أو دنانير فاستحقاق رب المال بعض ما شرطه الأول للثاني لا يبطل العقد بينهما ولكن يثبت للآخر حق الرجوع على الأول بمثله كما لو استأجره بدراهم أو دنانير بأعيانها فاستحقت وفي المزارعة الذي أوجبه الأول للآخر طعام بعينه وهو الخارج من الأرض واستحقاق رب الأرض والبذر بعض ما أوجبه له يبطل العقد الذي جرى بينهما.

 

ج / 23 ص -65-       يوضح الفرق أنه لا مجانسة بين الآخر وبين الخارج من الأرض فلا يمكن الجمع بينهما للمزارع الآخر بعقد واحد وفي المضاربة الأجر من جنس الربح فيجوز أن يجمع بينهما للمضارب الآخر على أن ما يأخذ مما شرط له من الربح مقدار ما تمكن الأول من تسليمه إليه ويرجع عليه بما زاد على ذلك إلى تمام حقه دراهم أو دنانير ولو لم يكن قال له اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها كان المزارع الأول مخالفا والخارج بينه وبين الآخر أثلاثا على شرطهما ويضمن رب الأرض بذره أيهما شاء وفي نقصان الأرض اختلاف كما بينا.
ولو كان رب الأرض قال للأول اعمل فيه برأيك على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بيننا نصفان والمسألة بحالها كان ثلثا الزرع للآخر والثلث بين الأول ورب الأرض نصفان لأن رب الأرض ما شرط هنا لنفسه نصف الخارج بل نصف ما يرزقه الله تعالى المزارع الأول وذلك ما وراء نصيب مزارع الآخر فكان للمزارع الآخر جميع ما شرط له والباقي بين الأول ورب الأرض نصفين على شرطهما.

باب تولية المزارع ومشاركته والبذر من قبله
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا يزرعها سنته هذه ببذره على أن الخارج بينهما نصفان وقال له اعمل في ذلك برأيك أو لم يقل فدفعها المزارع وبذرا معها إلى رجل مزارعة بالنصف فهو جائز لأن الأول هنا مستأجر للأرض بنصف الخارج وله أن يتصرف في الأرض التي استأجرها بالدفع مزارعة على الوجه الذي يتصرف في أرض نفسه.
ألا ترى أنه لو استأجرها بدراهم كان له أن يدفعها مع البذر مزارعة بالنصف فكذلك إذا استأجرها ببعض الخارج بخلاف ما سبق فهناك المزارع أجر رب الأرض بنصف الخارج وحقيقة المعنى أن المستأجر عامل لنفسه فإنما يوجب الشركة للأجير في حق نفسه وأما الأجير عامل المستأجر فإنما هو يوجب الشركة للآخر في الخارج من بذر رب الأرض فلهذا افترقا.
ثم إذا حصل الخارج هنا فنصفه للآخر بمقابلة عمله كما أوجبه له صاحب البذر ونصفه لرب الأرض بإزاء منفعة أرضه كما شرط له صاحب البذر ولا شيء لصاحب البذر لأنه أوجب لغيره جميع الخارج من بذره بعقد صحيح وكذلك لو كان البذر من قبل الآخر لأن الأول مستأجر للأرض بنصف الخارج ثم أجرها من الآخر بنصف الخارج وللمستأجر أن يؤاجر فيما يتفاوت الناس في استيفائه.
ولو كان الشرط للمزارع الآخر ثلث الخارج في المسألتين جميعا جاز وللآخر الثلث ولرب الأرض النصف وللأول السدس طيب له لأنه نماء بذره في المسألة الأولى وهو فاضل عما أوجبه لغيره ولأنه عاقد العقدين جميعا في المسألة الثانية فيسلم الفضل له باعتبار عقده.

 

ج / 23 ص -66-       فإن قيل في المسألة الثانية هو مستأجر للأرض وقد أجره بأكثر مما استأجره في العقد الثاني من غير إن زاد من عنده شيئا فينبغي أن لا تطيب له الزيادة.
قلنا هذا في أجر يكون مضمونا في الذمة فيقال إنه ربح حصل لا على ضمانه فأما في المزارعة فلا يتأتى هذا لأن الأجر في العقد جزء من الخارج ولا يكون مضمونا في ذمة أحد وسلامته لكل واحد منهما باعتبار الشركة لا باعتبار أنه عوض عن منفعة الأرض.
ولو كان رب الأرض دفعها إليه على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان أو قال ما أصبت أو ما خرج لك من ذلك ولم يقل اعمل فيه برأيك فدفعها المزارع وبذرا معها إلى رجل بالنصف فنصف الخارج للآخر والنصف الآخر بين الأول ورب الأرض نصفين لأن رب الأرض إنما شرط لنفسه هنا نصف ما يرزق الله المزارع الأول وهو ما وراء نصيب المزارع الآخر فيستوي إن كان البذر من قبل الأول أو الآخر.
ولو دفع أرضه إلى الأول على أن يعملها ببذره على أن الخارج بينهما نصفان فدفعها الأول إلى الآخر على أن يعملها ببذره على أن للآخر ثلثي الخارج وللأول الثلث فعملها على ذلك فثلثا الخارج للآخر لأن الخارج نماء بذره فلا يستحق الغير عليه شيئا منه إلا بالشرط وإنما شرط للأول ثلث الخارج ثم هذا الثلث يكون لرب الأرض ولرب الأرض على المزارع الأول أجر مثل ثلث أرضه لأنه استأجرها منه بنصف الخارج وقد حصل الخارج ولم يسلم له ثلث ذلك النصف بل استحقه المزارع للآجر واستحقاق بعض ما هو أجر للأرض إذا كان بعينه يوجب الرجوع بحصته من أجر المثل اعتبارا للبعض بالكل لأنه لو استحق جميعه رجع بأجر مثل جميع الأرض فكذلك إذا استحق ثلثه.
ولو كان البذر من قبل الأول كان ثلثا الخارج للأجير كما أوجبه له المزارع الأول والثلث لرب الأرض ولرب الأرض أجر مثل ثلث أرضه على المزارع الأول.
فإن قيل هنا كل واحد منهما إنما يستحق الخارج على الأول بالشرط وشرط النصف لرب الأرض كان أسبق فكان ينبغي أن لا يستحق الأجر بإيجاب الأول له شيئا من النصف الذي استحقه رب الأرض.
قلنا نعم ولكن الاستحقاق لا يثبت حقيقة قبل حصول الخارج وحكما قبل لزوم السبب والسبب في حق صاحب البذر لا يلزم قبل إلقاء البذر في الأرض فصح منه اشتراطه ثلثي الخارج للآخر.
يوضحه أنا لو أبطلنا استحقاق الأجر في بعض ما شرط له بطل استحقاقه في الكل لأنه لا يجوز الجمع له بين أجر المثل وشيء من الخارج فإنه يعمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر ولو أبطلنا حق رب الأرض فيما زاد على الثلث من الخارج استحق أجر المثل بمقابلة ذلك الجزء من الأرض فالضرر الذي يلحقه يعوض بعدله والضرر الذي يلحق الآخر بغير عوض فلهذا كان الحكم فيه على ما ذكرنا.

 

ج / 23 ص -67-       ولو كان الأول دفعها إلى الآخر منحة على أن يزرعها لنفسه فالخارج كله له لأنه نماء بذره ولم يوجب منه شيئا لغيره والمزارع الأول مستأجر للأرض وللمستأجر أن يغرم لصاحب الأرض على الأول أجر مثل أرضه لأنه استأجر الأرض منه بنصف الخارج وقد حصل الخارج واستحقه الآخر فيكون للأول عليه أجر مثله لفساد العقد بينهما باستحقاق البدل ولو كان البذر من قبل الأول فاستعان بإنسان أو استأجره يعمل له فيها فنصف الخارج للأول ونصفه لرب الأرض لأن عمل أجيره ومعينه كعمله بنفسه.
ولو دفع إلى رجل أرضا يزرعها ببذره بالنصف ولم يقل اعمل فيه برأيك فشارك فيها رجلا آخر فأخرجا جميعا بذرا على أن يعملا والخارج بينهما نصفان جاز لأن الأول استأجر الأرض فهو في التصرف فيها بمنزلة المالك للأرض والمالك للأرض لو شارك فيها رجلا على أن يزرعها ببذر بينهما والخارج نصفان جاز ويكون هو معيرا نصف الأرض من الآخر كذلك هنا ثم نصف الخارج للآخر لأنه نماء بذره ونصفه بين الأول ورب الأرض نصفان لأنه شرط له نصف الخارج من الأرض بإزاء منفعة الأرض وهذا الخارج الذي حصل له خارج من نصف الأرض فيستحق نصفه بالشرط وعلى الأول لرب الأرض أجر مثل نصف أرضه لأن الخارج من النصف الآخر قد استحقه المزارع الآخر وقد كان المزارع الأول أوجب لرب الأرض نصف ذلك فإذا لم يسلم له رجع عليه بأجر المثل في ذلك النصف ولو اشترطا العمل على الأجير خاصة فهو فاسد لما بينا أن الأول جعل للثاني منفعة نصف الأرض بمقابلة عمله في النصف الآخر من الأرض له والمزارعة لا تحتمل مثل هذه المقابلة ثم نصف الزرع للآخر لأنه نماء بذره وعليه نصف أجر مثل الأرض للمزارع الأول لأنه استوفى منفعة نصف الأرض التي كانت مستحقة له بعقد فاسد ويتصدق المزارع الآخر بالفضل لأنه ربح حصل له بسبب عقد فاسد تمكن في منفعة الأرض ونصف الزرع بين الأول ورب الأرض نصفان على شرطهما لأنه لا فساد في العقد الذي جرى بينهما فما سلم لهما يكون على الشرط بينهما طيبا لهما وعلى الأول لرب الأرض أجر مثل نصف أرضه لأنه شرط له النصف مما يخرج له جميع الأرض وإنما يسلم له النصف مما أخرجه نصف الأرض فأما ما أخرجه النصف الآخر فقد استحق المزارع الأجر كله فلهذا كان عليه أجر مثل نصف الأرض والله أعلم.

باب دفع المزارع الأرض إلى رب الأرض أو مملوكه مزارعة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان فقبضها ثم استعان برب الأرض على عملها لم يضر ذلك والخارج بينهما على الشرط في المزارعة والأجر له في عمله لأن استعانته برب الأرض بمنزلة استعانته بغيره وعمل المعين بمنزلة عمل المستعين به ثم رب الأرض والبذر ما أقام العمل على سبيل النقض منه للمزارعة وإنما أقام العمل على سبيل التبرع منه على عامله وإن كان استأجره على ذلك بدراهم معلومة كان الأجر باطلا لأن وجوب الأجر يعتمد تسليم العمل إلى المستأجر وهو

 

ج / 23 ص -68-       عامل في أرض نفسه ببذره فلا يكون مسلما عمله إلى غيره فلهذا لا يستوجب عليه شيئا من الأجر وإذا لم يستوجب الأجر كان هذا وما لو عمله على سبيل الإعانة سواء وهذا بخلاف ما إذا كان عمل رب الأرض مشروطا في عقد المزارعة لأن ذلك الشرط يعدم التخلية بين المزارع وبين رب الأرض والبذر وقد بينا أن التخلية شرط العقد فكل شرط يفوته يكون مفسدا للعقد فأما في هذا الموضع فلا ينعدم استحقاق التخلية بإعانة رب الأرض المزارع فهو قياس المرهون إذا أعاده المرتهن من الراهن أو غصبه منه الراهن لم يبطل به الرهن بخلاف ما إذا شرطا أن يكون في يد الراهن في بعض المدة وكذلك لو دفعها إليه يزرعها على أن له ثلث نصيبه فعملها على ذلك كان الأمر بينهما على المزارعة الأولى لا يفسدها ما صنعا والشرط باطل لأن رب الأرض لا يكون مسلما عمله إلى المزارع فكما لا يستوجب عليه بمقابلة عمله دراهم وإن شرط ذلك عليه فكذلك لا يستوجب جزأ من نصيبه من الخارج بل يكون هو متبرعا في العمل.
فإن قيل لماذا لم يجعل هذا من المزارع بمنزلة الحط لبعض نصيبه فقد شرط لنفسه نصف الخارج في العقد الأول ثم حط ثلثه بالعقد الثاني.
قلنا لأن عقد الإجارة تمليك منفعة بعوض فلا يمكن أن يجعل هذا كناية عن الحط كما لا يجعل بيع المبيع من البائع قبل القبض هبة ثم هذا الحط ليس بمطلق بل هو بمقابلة العمل وكما لا يستحق بمقابلة عمله في أرضه وبذره عوضا على الغير فكذلك لا يستحق حط شيء مما استحقه الغير عليه.
ولو كان استأجر على العمل أجراء كان أجر الأجراء على المزارع لأن العمل مستحق عليه فإنما استأجرهم لإيفاء ما هو مستحق عليه فيكون الأجر لهم بمقابلة دين في ذمته ولو كان استأجر على ذلك عبد رب الأرض بدراهم معلومة ولا دين عليه فالإجارة باطلة لأن كسب العبد الذي لا دين عليه لمولاه فكما لا يستحق المولى باعتبار عمله أجرا على المزارع وإن شرط ذلك عليه فكذلك لا يستحقه بعمل عبده وإن شرط ذلك عليه وإن كان على العبد دين فالإجارة جائزة والأجر واجب لأن كسب العبد المديون لغرمائه فاستئجار العبد على العمل في هذه الحالة كاستئجار بعض غرمائه.
وإن استأجر مكاتب رب الأرض أو ابنه جاز لأن المولى من كسب مكاتبه وابنه أبعد منه من كسب عبده المديون وكذلك لو كان البذر من قبل المزارع في جميع هذه الوجوه فهما في المعنى مستويان لأن رب الأرض إنما يعمل في الأرض وهو في عمله في أرضه لا يستوجب الأجر على غيره والمعاملة في جميع ذلك قياس المزارعة ولو دفع إليه أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه بالنصف فلما تراضيا على ذلك أخذ صاحب الأرض البذر فبذره بغير أمر المزارع فأخرجت زرعا كثيرا فذلك كله لرب الأرض وقد بطلت المزارعة لأن عقد المزارعة لا يتعلق به اللزوم من قبل صاحب البذر قبل إلقاء البذر في الأرض فينفرد صاحب الأرض بفسخ العقد.

 

ج / 23 ص -69-       وقد صار فاسخا حين أخذه بغير أمر المزارع وزرعه لأنه لا يمكن أن يجعل معينا له لأنه استعان به وليس لأحد أن يعين غيره بغير رضاه فكان فاسخا للعقد بخلاف الأول فإن هناك يمكن أن يجعل معينا له لأنه استعان به فلا يجعل فاسخا للعقد لأنه امتنع من العمل حتى استعان به فعرفنا أن قصده إعانته لا فسخه العقد بينهما.
ولو كان البذر من قبل المزارع والمسألة بحالها كان الزرع لرب الأرض لأنه غاصب للبذر حين أخذه بغير أمر المزارع فالعقد لم يكن لازما في جانب المزارع قبل إلقاء البذر في الأرض وصاحب الأرض لا يملك أن يلزمه العقد بغير رضاه فيصير هو غاصبا للبذر ومن غصب بذرا فزرعه في أرض نفسه أو غيره كان الخارج كله له وعليه بذر مثل ذلك البذر ولا شيء له على المزارع لأنه لم يسلم للمزارع شيء من منفعة الأرض ولكن رب الأرض فوتها عليه ولو فوتها غاصب آخر لم يكن لرب الأرض على المزارع شيء فهذا أولى والله أعلم.

باب الشروط التي تفسد المزارعة
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا له مزارعة على أن يزرعها سنته هذه ببذره وعمله بالنصف وعلى أن يكري العامل أنهارها فالمزارعة فاسدة لأن رب الأرض مؤاجر أرضه بنصف الخارج وكري الأنهار على المؤاجركما لو أجرها بدراهم وهذا لأن بكري الأنهار يأتيها الماء ويتمكن المستأجر من الانتفاع بها وما لم يتمكن المستأجر من الانتفاع لا يستوجب الأجر فإذا ثبت أن كري الأنهار على المستأجر قلنا إذا شرط على المستأجر فكأنه شرط لنفسه مع نصف الخارج مؤنة كري الأنهار بمقابلة منفعة الأرض وذلك مفسد للعقد ثم منفعة كري الأنهار تبقى بعد مضي مدة المزارعة وشرط ما تبقى منفعته بعد مضي المدة على المزارع مفسد للعقد فإن عمل على هذا وكرى الأنهار كان الخارج للعامل لأن البذر من قبله ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد فاسد وللعامل على صاحب الأرض أجر مثل عمله في كري الأنهار لأنه استوفى منفعة عمله بعقد فاسد فيتقاصان ويترادان الفضل.
ولو لم يكن كري الأنهار مشروطا على العامل في العقد ولكن العامل كرى الأنهار بنفسه فالمزارعة جائزة ولا أجر له في كريها لأنه تبرع بإيفاء ما ليس بمستحق عليه فهو بمنزلة ما لو حوطها وكذلك إصلاح المسناة فإن ذلك على رب الأرض بمنزلة كري الأنهار فإن شرط على المزارع في العقد فسد به العقد وإن باشره من غير شرط فالعقد جائز ولا أجر له فيما عمل ولو كان البذر من رب الأرض وقد شرط على العامل لنفسه شيئا وراء ما يقتضيه المزارعة ومنفعة هذا تبقى بعد مضي مدة المزارعة فيفسد به العقد ويكون الخارج كله لصاحب الأرض وللعامل أجر مثل عمله في جميع ذلك لأن صاحب الأرض استوفى جميع عمله بعقد فاسد.
ولو اشترطا على رب الأرض كري الأنهار وإصلاح المسناة حتى يأتيه الشرب كانت

 

ج / 23 ص -70-       المزارعة جائزة على شرطهما سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض لأن هذا العمل على رب الأرض بدون الشرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة وليس شيء منها على العامل فاشتراطهما عليه اشتراط عوض مجهول وهو خلاف ما يقتضيه العقد فيفسد به العقد ونظيره ما لو استأجر دارا بدراهم مسماة على أن يطين رب الدار سطوحها وعلى أن يصلح مساربها لمسيل الماء جاز ذلك لأن هذا على رب الدار بدون الشرط فإنه إذا لم يفعله رب الدار فوكفت البيوت وجاء من ذلك ضرر بين كان للمستأجر أن يخرج من الدار فاشتراطه عليه لا يزيده إلا وكادة ولو اشترط رب الدار ذلك على المستأجر كانت الإجارة فاسدة لأن اشتراطه هذه الأعمال عليه كاشتراط مؤنتها لنفسه بمقابلة منفعة الدار وهي مجهولة.
ولو اشترط على رب الأرض كرابها أو الكراب والثنيان فإن كان البذر من العامل فالمزارعة فاسدة لأن العقد في جانب الأرض يلزم بنفسه وموجبه التخلية بين الأرض والمزارع واشتراط الكراب والثنيان عليه يفوت موجب العقد فيفسد به العقد ثم الكراب والثنيان من عمل الزراعة واشتراط بعض عمل الزراعة على رب الأرض مفسد للعقد كاشتراط الحفظ ثم الخارج كله لصاحب البذر ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه وعمله في الكراب والثنيان ولم يرد به إن عمله في الكراب والثنيان يتقوم على العامل وإنما مراده أنه يغرم أجر مثل الأرض مكروبة أو مكروبة مسناة لأنه استوفى منفعتها في وقت إلقاء البذر فيها وهي بهذه الصفة وإن كان البذر من رب الأرض فالمزارعة جائزة لأن لزوم العقد من جهة صاحب البذر لا يكون قبل إلقاء البذر في الأرض والكراب والثنيان يسبق ذلك فاشتراطه على رب الأرض لا يضر ولأن الكراب في الثنيان بالبقر يكون واشتراط البقر على رب الأرض جائز إذا كان البذر من قبله ولا يجوز إذا كان البذر من قبل المزارع فكذلك اشتراط الكراب والثنيان.
ولو اشترط على أحدهما بعينه أن يسرقنها أو يعذرها والبذر من قبل العامل فالمزارعة فاسدة لأنه إن شرط ذلك على العامل فقد شرط عليه ما تبقى منفعته في الأرض بعد مضي مدة المزارعة وشرط عليه إتلاف عين مال لا يقتضيه عقد المزارعة وذلك مفسد للعقد وإن شرط على رب الأرض فذلك بمنزلة شرط الكراب والثنيان عليه لأن هذا من عمل الزراعة فاشتراطه على رب الأرض يكون مفسدا للعقد ويكون الخارج كله للعامل ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه وأجر مثل عمله فيما عمل من ذلك وقيمة سرقينه إن كان ذلك من قبله وإن كان من قبل العامل لم يكن له على رب الأرض من قبل ذلك شيء وإن كان فيه منفعة لرب الأرض فيما بقي لأن العامل إنما عمل لنفسه وما بقي لرب الأرض أثر عمله وإن لم يتقوم أصل عمله على رب الأرض فكذلك أثر عمله وإن كان البذر من رب الأرض فإن كان اشترط عليه ذلك فالمزارعة جائزة بمنزلة اشتراط الكراب والثنيان وهذا لأن إلقاء السرقين والعذرة في الأرض يكون قبل الزراعة وقبل الكراب أيضا وأن لزوم العقد في جانب صاحب البذر عند إلقاء البذر في الأرض فكأنه استأجره للعمل بنصف الخارج بعد ما فرغ من إلقاء العذرة

 

ج / 23 ص -71-       والسرقين وإن شرطاه على العامل فالمزارعة فاسدة لأنهما شرطا على العامل ما تبقى منفعته بعد مضي مدة المزارعة وللعامل أجر مثله فيما عمل وقيمة ما طرح من السرقين لأن صاحب الأرض استوفى ذلك كله بعقد فاسد فهو نظير من استأجر صباغا إجارة فاسدة ليصبغ ثوبه بصبغ من عنده ففعل ذلك فإنه يكون له أجر مثل عمله وقيمة صبغه لو اشترط على العامل أن لا يعذرها ولا يسرقنها والبذر منه أو من صاحب الأرض فالمزارعة جائزة والشرط باطل لأن هذا شرط لا طالب به فإن في إلقاء العذرة والسرقين في الأرض منفعة للأرض وليس فيه مضرة.
والمطالبة بالوفاء بالشرط يكون لتوفر المنفعة أو لدفع الضرر فإذا انعدم ذلك في هذا الشرط عرفنا أنه لا مطالب به فلا يفسد العقد به واستدل في الكتاب بحديث بن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أجر أرضه اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ولا يعذرها وقد بينا أنه إنما كان يشترط ذلك لمعنى التقذر ولو كان هذا من الشروط التي تفسد الإجارة ما اشترطه بن عمر رضي الله عنه على من استأجر منه أرأيت لو اشترط عليه أن لا يدخلها كلبا كما اشترطه بن عمر رضي الله عنه كان هذا مفسدا للمزارعة وليس يفسدها هذا ويتخير المزارع إن شاء أدخلها كلبا وإن شاء لم يدخلها فكذلك إذا شرط عليه أن لا يعذرها ولا يسرقنها يتخير المزارع في ذلك.
فلو اشترط العامل على رب الأرض دولابا أو دالية بأداتها وذلك بعينه عند رب الأرض أو لم يكن عنده فاشتراه فأعطاه إياه فعمل على هذا والبذر من العامل فالمزارعة فاسدة وإن شرط ذلك لرب الأرض على العامل جاز وكان ذلك على العامل وإن لم يشترط رب الأرض لأنه مما يسقي به الأرض والسقي على العامل فاشتراطه ما يتأتى به السقي عليه يكون مقررا لمقتضى العقد وليس السقي على رب الأرض فاشتراط ما يتأتى به السقي على رب الأرض بمنزلة اشتراط السقي عليه وذلك مفسد للعقد وكذلك الدواب التي يسقى عليها بالدولاب إن اشترطها على رب الأرض فالمزارعة فاسدة وإن اشترطها على العامل جاز لأن اشتراط الدولاب للسقي كاشتراط البقر للكراب وقد بينا أن اشتراط البقر على رب الأرض مفسد للعقد إذا كان البذر من قبل العامل واشتراطها على العامل لا يفسد العقد فكذلك اشتراط الدواب للسقي.
وكذلك لو اشترط الدولاب والدواب على العامل وشرط علف الدواب كذا مختوما شعيرا وسطا كل شهر وكذا من القت وكذا من التبن بشيء معروف من ذلك على رب الأرض فالمزارعة فاسدة لأن ما يشترط على رب الأرض لعلف دواب المزارع يكون مشروطا للمزارع واشتراط شيء له من غير ما تخرجه الأرض يكون مفسدا للمزارعة فإنها شركة في الخارج فلا يجوز أن يستحق بها مال آخر فإن حصل الخارج فهو كله لصاحب البذر ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه ومثل ما أخذ منه المزارع من الشعير والقت والتبن لأنه استوفى ذلك بعقد فاسد.

 

ج / 23 ص -72-       ولو كان اشتراط ذلك كله على العامل جاز لأن علف دوابه عليه بغير شرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة ولو كان البذر من رب الأرض فاشترط ذلك كله على صاحب العمل جاز بمنزلة اشتراط البقر للكراب عليه وكذلك إن اشترط على رب الأرض لأنه لو اشترط عليه البقر للكراب في هذه الحالة يجوز فكذلك إذا شرط عليه الدولاب والدواب للسقي وهذا لأن المزارع أجيره فإنما استأجره ليقيم العمل بأداة المستأجر وذلك صحيح وإذا اشترطا الدواب والدولاب على رب الأرض وعلف الدواب شيئا معروفا على المزارع فسدت المزارعة لأنه شرط على المزارع علف دواب غيره وذلك بمنزلة اشتراط رب الأرض على المزارع طعام غلامه وذلك مفسد للمزارعة سواء سمى طعاما معروفا أو لم يسم لأن ذلك بمنزلة الاشتراط منه لنفسه وكذلك لو اشترطا الدواب والدولاب على المزارع وعلف الدواب على رب الأرض ولو اشترطا الدابة وعلفها على أحدهما والدولاب على الآخر جاز لأن علف الدابة مشروط على صاحب الدابة وهو عليه بغير شرط ثم في هذا الفصل اشتراط الدواب والدولاب على أحدهما صحيح أيهما كان فكذلك اشتراط كل واحد منهما على أحدهما بعينه يكون صحيحا والله أعلم.

باب المزارعة يشترط فيها المعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا بيضاء مزارعة وفيها نخيل على أن يزرعها ببذره وعمله على أن ما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان واشترطا ذلك سنين معلومة فهذا فاسد لأن في حق الأرض العامل مستأجر لها بنصف الخارج على أن يزرعها ببذره وفي حق النخيل رب النخيل مستأجر للعامل ليعمل فيها بنصف الخارج فهما عقدان مختلفان لاختلاف المعقود عليه في كل واحد بينهما وقد جعل أحد العقدين شرطا في الآخر وذلك مفسد للعقد لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة ثم الخارج من الأرض كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض لصاحب الأرض ويتصدق المزارع بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بعقد فاسد والخارج من النخل كله لصاحب النخل وللعامل أجر مثل عمله فيما عمل في النخيل ويطيب الخارج كله لصاحب النخل وكذلك لو كان الشرط بينهما في النخل على الثلث والثلثين أو في الزرع على الثلث والثلثين فالجواب واحد وهذا أبين للمعنى الذي بينا أن العقد مختلف فيها.
ولو كان البذر من صاحب الأرض والمسألة بحالها جاز العقد لأنه استأجر العامل ليعمل في أرضه ونخله فيكون العقد بينهما واحدا لاتحاد المعقود عليه وهو منفعة العامل فهو بمنزلة ما لو دفع إليه أرضين مزارعة ليزرعها ببذر صاحب الأرض وكذلك لو اشترطا على العامل في النخيل تسعة أعشار الثمار وفي الزرع النصف لأن العقد لا يختلف باختلاف مقدار البذر المشروط كما لو استأجره لعمل معلوم بمائة درهم وبدينار يكون العقد واحدا وإنما يختلف العقد باختلاف المعقود عليه والمعقود عليه واحد وهو عمل العامل.

 

ج / 23 ص -73-       ولو دفع إليه أرضا وكرما على نحو هذا كان الجواب كالجواب في النخل لاتفاقهما في المعنى ولو دفع إليه أرضا بيضاء فيها نخيل فقال أدفع إليك هذه الأرض تزرعها ببذرك وعملك على أن الخارج من ذلك بيني وبينك نصفان وأدفع إليك ما فيها من النخيل معاملة على أن تقوم عليه وتسقيه وتلقحه فما خرج من ذلك فهو بيني وبينك نصفان أو قال لك منه الثلث ولي الثلثان وقد وقتا لذلك سنين معلومة فهو جائز لأنه لم يجعل أحد العقدين هنا شرطا في الآخر وإنما جعله معطوفا على الآخر لأن الواو للعطف لا للشرط بخلاف الأول فهناك جعل أحد العقدين شرطا في الآخر لأن حرف على للشرط.
ألا ترى أنه لو قال أبيعك هذه الدار بألف درهم على أن تستأجر مني هذه الدار الأخرى شهرا بخمسة دراهم كان هذا فاسدا لأن هذا بيع شرطت فيه إجارة ولو قال أبيعك هذه الدار بألف وأؤجرك هذه الدار الأخرى شهرا بخمسة دراهم كان جائزا لأنه لم يجعل أحدهما شرطا في صاحبه وكذلك لو قال أبيعك هذه الدار بألف درهم على أن أبيعك هذه الأمة بمائة دينار كان العقد فاسدا بخلاف ما لو قال وأبيعك هذه الأمة وقد أجاب في الزيادات في مسألة البيع بخلاف هذا وقد بينا وجه الروايات والتوفيق فيما أملينا من شرح الزيادات وكذلك لو دفع إليه أرضا وكرما وقال ازرع هذه الأرض ببذرك وقم على هذا الكرم فاكسحه واسقه فهذا صحيح لأنه ما شرط أحد العقدين في الآخر فلا يفسد واحد منهما والله أعلم.

باب الخلاف في المزارعة
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا مزارعة بالنصف سنته هذه فهو فاسد لأنهما لم يسميا البذر من أحدهما بعينه والمعقود عليه يختلف باختلاف من البذر من قبله لأنه إن كان البذر من قبل رب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل وإن كان من قبل العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض وجهالة المعقود عليه مفسدة للعقد ثم هذه جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما لأن كل واحد منهما يقول لصاحبه البذر من قبلك وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الرجوع إلى قول الآخر ويحكى عن الهندواني رحمه الله أنه قال هذا في موضع ليس فيه عرف ظاهر يكون البذر من أحدهما بعينه أو كان العرف مشتركا فأما في موضع يكون فيه عرف ظاهر يكون البذر من أحدهما بعينه فإن العقد يكون صحيحا والبذر من قبله لأن الثابت بالعرف كالثابت بالشرط كما لو اشترى بدراهم مطلقة تنصرف إلى نقد البلد للعرف فتنقطع المنازعة بينهما بالرجوع إلى الظاهر المتعارف.
وكذلك لو قال للمزارع على أن تزرعها سنتك هذه لأن من البذر من قبله لا يتعين بهذا اللفظ فالمزارع هو الذي يزرع البذر سواء كان البذر من رب الأرض أو من قبله ولو قال على أن تزرعها سنتك هذه لنفسك بالنصف فهو جائز استحسانا والبذر من قبل المزارع لأنه إنما يكون عاملا لنفسه إذا كان البذر من قبله فيكون هو مستأجرا للأرض فأما إذا كان البذر من قبل رب الأرض فيكون هو أجيرا عاملا لرب الأرض ففي لفظه ما يدل على اشتراط البذر

 

ج / 23 ص -74-       على المزارع فيكون ذلك كالتصريح به وكان القياس أن لا يجوز حتى يسمى ما يزرعها لأن بعض الزرع أضر على الأرض من بعض فما لم يبين جنس البذر لا يصير مقدار ما يستوفيه من منفعة الأرض معلوما وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة لأن رب الأرض يطالبه بأن يزرع فيها أقل ما يكون ضررا على الأرض والمزارع يأبى إلا أن يزرع فيها أضر الأشياء بالأرض.
وكذلك في جهالة جنس البذر جهالة جنس الأجر لأن الأجر جزء من الخارج وذلك لا يصير معلوما إلا بتسمية جنس البذر ولكنا نستحسن أن نجيز العقد ونجعل له أن يزرعها ما بدا له من غلة الشتاء والصيف من الحنطة والرطبة والسمسم والشعير ونحو ذلك أما لأن بطريق العرف يحصل تعيين جنس البذر بتعيين الأرض فإن أهل الصنعة يعلمون كل أرض صالحة لزراعة شيء معلوم فيها أو لأنه لا تجري المنازعة بين رب الأرض والمزارع فيها لما لكل واحد منهما من الحظ في ذلك أو لأن المزارع مستأجر للأرض ومنفعة الأرض معلومة بتعين الأرض والضرر في أنواع ما يزرعها فيها يتفاوت فلا يفسد العقد كما لو استأجر دارا للسكنى ولم يبين من يسكنها وليس له أن يغرس فيها كرما ولا شجرا لأنه قال في العقد ازرعها لنفسك وعمل الغرس غير عمل الزراعة والتفاوت بينهما في الضرر على الأرض فاحش فلا يستفيد أعظم الضررين عند التصريح بأدناهما كما لو استأجر حانوتا ليسكنها لم يكن له أن يقعد فيها قصارا ولا حدادا.
ولو كان دفعها إليه على أن يزرعها سنته هذه لصاحب الأرض بالنصف فهو جائز والبذر من رب الأرض لأنه إنما يكون زارعا لصاحب الأرض إذا كان هو أجيرا له في العمل ولرب الأرض أن يستعمل الزارع في زراعة ما بدا له فيها من غلة الشتاء والصيف استحسانا وكان القياس أن لا يجوز حتى يبين ما يزرع أو يشترط التعميم فيقول على أن يزرع لي ما بدا لي من غلة الشتاء والصيف لأن العمل يتفاضل في ذلك والعمل في بعض أنواع الزرع يكون أشد على العامل من بعض فأما أن يبين جنس البذر ليصير مقدار العمل به معلوما أو يصرح باشتراط الخيار لنفسه في ذلك ولكن في الاستحسان لا يشترط هذا لما قلنا.
ولو دفعها إليه على أن يزرعها سنته هذه ما بدا للمزارع من غلة الشتاء والصيف فهو جائز والبذر من قبل العامل لأن تفويض الأمر إلى رأيه على العموم دليل أن يكون عاملا لنفسه في الزراعة ولو قال ما بدا لرب الأرض كان البذر من رب الأرض لأن التنصيص على كون الرأي فيه إليه دليل على أن المزارع عامل له وذلك إذا كان البذر من قبل رب الأرض وكذلك لو قال رب الأرض تزرعها ما أحببت أنا أو ما شئت أنا أو ما أردت أنا فهذا كله دليل على أن البذر من قبل رب الأرض ولو قال ما شئت أنت أو ما أحببت أنت أو ما أردت أنت فهو دليل على أن البذر من العامل والعقد جائز في الفصلين استحسانا وفي القياس لا يجوز حتى يبينا من البذر من قبله أيهما هو لأن مع اشتراط الرأي لأحدهما يجوز أن يكون البذر من قبل الآخر.

 

ج / 23 ص -75-       ألا ترى أنهما لو صرحا بذلك كان البذر من قبله فإذا سكتا عن ذكره كان من البذر من قبله مجهولا منهما ولكنه استحسن فقال الظاهر أنه إنما شرط المشيئة والمحبة والإرادة في البذر على العموم لمن البذر من قبله وهذا الظاهر يسقط اعتباره عند التصريح بخلافه وعند عدم التصريح بخلافه يبقى معتبرا كتقديم المائدة بين يدي إنسان يكون إذنا في التناول بدليل العرف وإن صرح بخلافه فقال لا تأكل لم يكن ذلك إذنا في التناول.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه بالربع ولم يسميا غير ذلك فالمزارعة جائزة والربع للزارع إن اختلفا فيه قبل العمل أو بعده لأن حرف الباء للإلصاق وإنما يصحب الأعواض فيكون هذا اشتراط الربع لمن يستحق الخارج عوضا وهو المزارع فإنه يستحقه عوضا عن عمله فأما صاحب الأرض والبذر فإنما يستحقه لأنه نماء بذره.
يوضحه أن المزارع هو المحتاج إلى بيان نصيبه بالشرط فاشتراط الربع مطلقا إنما ينصرف إلى بيان نصيب من يحتاج إلى الشرط.
ولو قال دفعت إليك هذه الأرض على أن تزرعها ببذرك وعملك بالربع كان الربع لرب الأرض لأنه هو الذي يستحق الخارج هنا عوضا عن منفعة الأرض وهو المحتاج إلى الشرط للاستحقاق ولو دفعها إليه على أن يزرعها حنطة من عنده بالنصف لم يكن له أن يزرعها غير الحنطة وإن كان أقل ضررا على الأرض لأنهما شرطا زراعة الحنطة في عقد لازم وهذا شرط مفيد فيجب الوفاء به بخلاف ما إذا استأجرها بدراهم ليزرعها حنطة فزرعها شيئا هو أقل ضررا على الأرض لم يضمن وعليه الأجر لأن تعيين الحنطة هناك غير مفيد في حق رب الأرض فإن حقه في الأجر وهو دراهم يستوجبها بالتمكن من الزراعة وإن لم يزرعها فلا يعتبر تعيينها بالحنطة إلا في معرفة مقدار الضرر على الأرض فإذا زرع فيها ما هو أقل ضررا لم يكن مخالفا أما في المزارعة فتعيين الحنطة شرط مفيد في حق رب الأرض لأن حق رب الأرض في نصف الخارج فإنما جعل له الأجر من الحنطة فلا يكون له أن يحول حقه إلى شيء آخر بزراعته فيها وإن كان ذلك أقل ضررا لم يكن مخالفا وكذلك لو قال خذ هذه الأرض لتزرعها حنطة فهذا شرط بمنزلة قوله على أن تزرعها الحنطة وقد بينا هذه الفصول في المضاربة.
ولو دفع إليه الأرض والبذر على أن يكون للمزارع ربع الخارج ولرب الأرض نصفه فهو جائز وثلاثة أرباع الزرع لرب الأرض والبذر لأن المزارع هو الذي يستحق بالشرط فلا يستحق غير ما شرط له وما وراء ذلك مما هو مسكوت عنه يكون لصاحب البذر لأن استحقاقه يكون نماء بذره لا بالشرط ولو دفع إليه أرضا فقال قد أجرتك هذه الأرض هذه السنة مزارعة بالنصف فهو جائز والبذر من العامل لأن رب الأرض نص على أنه مؤاجر للأرض وإنما يكون كذلك إذا كان البذر من قبل العامل وكذلك لو قال أجرتك هذه الأرض هذه السنة على أن تزرعها بالنصف أو لتزرعها بالنصف فهو جائز والبذر من قبل

 

ج / 23 ص -76-       العامل ولو قال أجرتك هذه الأرض هذه السنة بالنصف كان فاسدا لأنه لم يسم زرعا ولا غرسا والتفاوت بينهما في الضرر على الأرض فاحش ورب الأرض هو المؤاجر لأرضه لكل واحد منهما فإذا لم يبينا ذلك كان العقد فاسدا فإن لم يتفاسخا حتى زرعها أو غرسها وقد أجرها إياه سنين مسماة كان الخارج بينهما نصفين استحسانا لأنه تعين المعقود عليه في الانتهاء قبل وجوب البدل فيجعل كتعينه في الابتداء وهو نظير ما تقدم في الإجارات إذا استأجر دابة للركوب أو ثوبا للبس ولم يبين من يركبها ولا من يلبسها.
ولو قال له استأجرتك هذه السنة تزرع في هذه الأرض بالنصف جاز والبذر من رب الأرض فما أعطاه من حبوب أو رطبة فعليه أن يزرعها لأنه صرح باستئجاره للزراعة وإنما يكون رب الأرض مستأجرا للزارع إذا كان البذر من قبله ولو أراد رب الأرض أن يدفع إليه شجرا أو كرما يغرسه فيها فللعامل أن يمتنع من ذلك لأنه استأجره للزراعة وهذا العمل لا يقع عليه اسم الزراعة مطلقا إنما يسمى غراسة وما شرط عليه في العقد عمل الغراسة فليس له أن يكلفه ذلك ولو قال استأجرتك تعمل في هذه الأرض عشر سنين بالنصف فهذا فاسد لأن العمل المشروط عليه مجهول وبين عمل الزراعة والغراسة تفاوت عظيم فإن لم يتفاسخا حتى أعطاه رب الأرض بذرا فبذره أو غرسا فغرسه وعمله كان الخارج منهما على شرطهما استحسانا وجعل التعيين في الانتهاء بتراضيهما كالتعيين في الابتداء وهو نظير الأول على ما بينا والله أعلم.

باب اختلافهما في المزارعة فيما شرط كل واحد منهما لصاحبه
قال رحمه الله وإذا كان البذر من رب الأرض فأخرجت الأرض زرعا كثيرا فقال رب الأرض شرطت لك الثلث وقال المزارع شرطت لي النصف فالقول قول رب الأرض مع يمينه لأن المزارع يستحق عليه الخارج بمقابلة عمله بالشرط فهو يدعي زيادة فيما شرط له ورب الأرض ينكر تلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه وعلى المزارع البينة على ما ادعى وتترجح بينته عند المعارضة لما فيها من إثبات الزيادة ولا يصار إلى التحالف عند أصحابنا جميعا رحمهم الله بعد استيفاء المنفعة لخلوه عن الفائدة وقد بينا ذلك في الإجارات وإن اختلفا قبل أن يزرع شيئا تحالفا وترد اليمين عليه أيضا وهنا أول المزارعة لأن المزارعة عقد محتمل للفسخ فإذا اختلفا في مقدار البدل فيه حال قيام المعقود عليه تحالفا وترادا ويبدأ بالمزارع في اليمين وهذا قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله وقد بينا ذلك في البيوع أن البداءة في البيع بيمين المشتري لأن أول التسليمين عليه فأول التسليمين على المزارع ثم العقد لازم في جانبه حتى لا يتمكن من الفسخ من غير عذر وصاحب البذر يتمكن من ذلك فكانت اليمين في جانبه ألزم وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله كإقراره وإن أقاما البينة قبل التحالف أو بعده فالبينة بينة المزارع لأنها مثبتة للزيادة واليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة.

 

ج / 23 ص -77-       ولو اختلفا والبذر من العامل وقد أخرجت الأرض الزرع فالقول قول العامل لأن رب الأرض هو الذي يستحق الخارج عليه بالشرط فإذا ادعى زيادة فيما شرط له كان عليه أن يثبت تلك الزيادة بالبينة وعلى الآخر اليمين لإنكاره وإن اختلفا قبل أن يزرع تحالفا ويبدأ بيمين صاحب الأرض لأن أول التسليمين عليه ولأن لزوم العقد هنا في جانبه وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه على أن للمزارع ثلث الخارج ثلثه من نصيب أحدهما بعينه والثلثان من نصيب الآخر فهذا جائز وله ستة من ثمانية عشر سهما والباقي بين صاحبي الأرض خمسة أسهم منه للذي شرط للمزارع الثلثين من نصيبه وسبعة للآخر لأن المزارع أجيرهما في العمل وقد استأجراه بجزء معلوم من الخارج وبينا مقدار ما له من نصيب كل واحد منهما من ذلك الجزء وذلك مستقيم فالأجير قد تسامح مع أحد المستأجرين دون الآخر وقد تعينت مع أحدهما وطلب الأجر من الآخر فإذا صح هذا الشرط احتجنا في التخريج إلى حساب له ثلث ينقسم أثلاثا وذلك تسعة إلا أن أصل الخارج بينهما نصفان فليس لتسعة نصف صحيح فيضعف الحساب ويجعل الخارج على ثمانية عشر سهما نصيب كل واحد منهما تسعة وقد شرطا للمزارع ثلث الخارج وهو ستة ثلثا ذلك وهو أربعة من نصيب أحدهما ونصيبه كان تسعة فإذا استحق المزارع من ذلك أربعة بقي له خمسة وثلث ذلك وهو سهمان من نصيب الآخر وقد كان نصيبه تسعة فلما استحق المزارع من ذلك أربعة بقي له خمسة وثلث ذلك هو سهمان من نصيب الآخر وقد كان نصيبه تسعة فلما استحق المزارع من ذلك سهمين بقي له سبعة.
ولو كانا اشترطا للمزارع الثلث ولم يزد على هذا كان الزرع بينهما أثلاثا لأن المشروط للمزارع مطلقا يكون من النصيبين على السواء فإذا استحق المزارع ثلث الخارج بقي الباقي بينهما على ما كان أصل الخارج فيكون بينهم أثلاثا ولو كانا اشترطا الثلث للزارع ثلثه من نصيب هذا بعينه والثلث من نصيب الآخر وما بقي بين صاحبي الأرض نصفين فللمزارع الثلث ستة من ثمانية عشر والباقي بينهما لأحدهما خمسة وللآخر سبعة كما خرجنا واشتراط المناصفة فيما بينهما فيما بقي باطل لأن الذي شرط للمزارع ثلثي الثلث من نصيبه باشتراط المناصفة في الباقي يستوهب من نصيب صاحبه سهما واحدا ليكون ستة له من الباقي ولصاحبه ستة واستيهاب المعدوم باطل وهو طمع منه في غير مطمع ولأنه طمع في شيء من نصيب صاحبه من الخارج من غير أن يكون له أرض ولا بذر ولا عمل وعقد المزارعة إنما كان بينهما وبين المزارع والشرط الباطل فيما بينهما لا يؤثر في العقد الذي بينهما وبين المزارع.
ولو دفع رجل إلى رجلين أرضا بينهما نصفين ليزرعاها ببذرهما وعملهما على أن لصاحب الأرض ثلث الخارج ثلثه من نصيب أحدهما بعينه وثلثاه من نصيب الآخر فهو جائز لأنه أجر الأرض منهما بجزء معلوم من الخارج وفاوت بينهما ذلك الأجر وذلك مستقيم فإنه لا تتفرق الصفقة في حقه بهذا التفاوت فإذا حصل الخارج كان له الثلث ستة من ثمانية عشر والباقي بين العاملين على اثني عشر سهما خمسة للذي شرط لرب الأرض ثلثي الثلث من نصيبه لأن نصيبه كان تسعة وقد أوجب للمزارع من ذلك أربعة فبقي له خمسة والآخر إنما

 

ج / 23 ص -78-       أوجب لرب الأرض سهمين من نصيبه فبقي له سبعة فإذا كانا اشترطا أن الباقي بعد الثلث بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لأن الذي شرط ثلثي الثلث من نصيبه لرب الأرض شرط لنفسه سهما من نصيب صاحبه ليستوي به وكان صاحبه عاقده عقد المزارعة في نصيبه بهذا السهم الذي شرط له وشرط عمله معه وذلك مفسد لعقد المزارعة بخلاف الأول فهناك ليس بين صاحبي الأرض شبهة عقد فاشتراط أحدهما لنفسه سهما من نصيب صاحبه استيهاب للمعدوم وإذا فسد العقد كان الخارج بين المزارعين نصفين ولرب الأرض أجر مثل أرضه أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج.
فإن قيل كان ينبغي أن لا يفسد العقد بينهما وبين رب الأرض لأن المفسد ممكن فيما بينها ولم يتمكن في العقد الذي فيما بينهما وبين رب الأرض.
قلنا العقد كله صفقة واحدة بعضه مشروط في البعض فيتمكن المفسد منه وفي جانب منه يفسد الكل ثم قد يمكن المفسد بينهما وبين رب الأرض من وجه وهو أن الذي شرط الثلثين لرب الأرض من نصيبه كأنه شرط ربع ذلك على صاحبه ليستوي به فيما بقي واشتراط شيء من الأجر في الإجارة على غير المستأجر يكون مفسدا للإجارة.
ولودفع رجلان أرضا وبذرا إلى رجل ليزرعها على أن للعامل ثلث الخارج والثلثان من ذلك لأحد صاحبي الأرض ثلاثة أرباعه وللآخر ربعه فعمل على ذلك فللعامل ثلث الخارج والباقي بين صاحبي الأرض نصفين لأن البذر بينهما نصفان والعامل أجيرهما بالثلث فاستحق الثلث بمطلق الشرط من نصيبهما سهمين وكان الباقي بينهما نصفين فالذي شرط له ثلاثة أرباع ما بقي يكون شرطها له نصف ما بقي من صاحبه لنفسه وهذا منه استيهاب المعدوم أو طمع في غير مطمع فيلغو ولو كان البذر من قبل العامل والمسألة بحالها جاز وكان الباقي بينهما على الشرط ثلاثة أرباعه للذي شرط ذلك له وربعه للآخر لأن العامل هنا مستأجر للأرض منهما وإنما استحقاق الخارج عليه بالشرط فيكون لكل واحد منهما مقدار ما شرط لأحدهما ثلاثة أرباع الثلثين وللآخر الربع بخلاف الأول فاستحقاقهما هناك يكون من الخارج نماء بذرهما لا بالشرط.
فإن قيل هنا العامل يكون مستأجرا نصيب أحدهما من الأرض بجميع الخارج لأن الخارج من نصف الأرض ثلاثة أرباع الثلثين مثل ما شرط له واستئجار الأرض في المزارعة بجميع الخارج لا يجوز.
قلنا نعم ولكن لا يميز نصيب أحدهما من نصيب الآخر لما في ذلك من تمكن الشيوع في العقد في نصيب كل واحد منهما وإذا لم يميز لم يتحقق هذا المعنى فبقي العقد بينهما على جميع الأرض بثلثي الخارج وذلك صحيح بينهما وبين صاحب البذر ثم جعلا ثلاثة أرباع الثلثين بمقابلة نصيب أحدهما من منفعة الأرض والربع بمقابلة نصيب الآخر وذلك مستقيم فيما بينهما أيضا.

 

ج / 23 ص -79-       ولو دفع رجل إلى رجلين أرضا يزرعها ببذرهما وعملهما على أن لصاحب الأرض ثلث الخارج وللعاملين الثلثين الربع من ذلك لأحدهما بعينه وثلاثة أرباعه للآخر فهذا فاسد لأنهما استأجرا الأرض على أن يكون جميع الأجر على أحدهما وهو الذي شرط له الربع من الباقي لأن الذي شرط لنفسه ثلاثة أرباع ما بقي قد شرط لنفسه جميع ما يخرجه بذره فعرفنا أنه شرط نصيبه من الأجر على صاحبه وذلك مفسد للعقد.
ويوضحه أنهما شرطا لرب الأرض الثلث وذلك من نصيبهما نصفين فلما شرطا لأحدهما ثلاثة أرباع ما بقي فكان الآخر عقد عقد المزارعة بنصف الباقي من نصيبه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للمزارعة وإذا فسدت كان الخارج كله للمزارعين ولرب الأرض أجر مثل أرضه أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج وهو الحكم في المزارعة الفاسدة.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما نصفان فلما حصل الخارج قال صاحب البذر شرطت لك عشرين قفيزا من الخارج وقال رب الأرض شرطت لي النصف منه فالقول قول صاحب البذر لأن صاحب البذر يدعي عليه استحقاق نصف الخارج بالشرط وهو منكر لذلك فالقول قول المنكر مع يمينه والبينة بينة رب الأرض لأنها تثبت الاستحقاق له ولا يقال الظاهر يشهد لرب الأرض فإن العقد الذي يجري بين المسلمين الأصل فيه الصحة لأن هذا الظاهر يصلح لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق به وحاجة رب الأرض إلى ابتداء الاستحقاق فإذا حلف صاحب البذر أعطاه أجر مثل أرضه لأنه مقر له بذلك القدر وإن لم تخرج الأرض شيئا فقال المزارع شرطت لك النصف وقال رب الأرض شرطت لي عشرين قفيزا فالقول قول المزارع لأن رب الأرض يدعي لنفسه أجر المثل دينا في ذمة المزارع والمزارع منكر لذلك ثم الظاهر يشهد للمزارع فإن الأصل في العقود الصحة وحاجة المزارع إلى دفع استحقاق رب الأرض والظاهر يكفي لذلك وإن أقاما البينة فالبينة بينة المزارع أيضا لأنه يثبت ببينته اشتراط نصف الخارج ورب الأرض ليس يثبت ببينته ما شهد به الشهود لأنهم شهدوا باشتراط عشرين قفيزا وذلك لا يستحق بالشرط بل يفسد به العقد فيجب أجر المثل فتترجح بينه من تثبت بينته صحة العقد وصحة الشرط.
ولو لم يزرع حتى اختلفا كان القول قول رب الأرض إن ادعى أنه دفعها بأقفزة معلومة لأن المزارع يدعي عليه استحقاق منفعة الأرض ووجوب تسليمها إليه ورب الأرض منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإن ادعى رب الأرض أنه دفعها بالنصف فالقول قول المزارع أنه أخذها بعشرين قفيزا مع يمينه على ما ادعى رب الأرض لأن رب الأرض يدعي استحقاق بعض الخارج عليه والمزارع منكر لذلك وقيل لا معنى ليمين المزارع هنا لأنه متمكن من فسخ العقد قبل إلقاء البذر في الأرض وقد ادعى ما يفسد العقد فكان ذلك بمنزلة الفسخ منه ثم اليمين إنما تنبني على دعوى ملزمة ودعوى رب الأرض لا تلزمه شيئا قبل الزراعة فلا معنى لاستحلافه.

 

ج / 23 ص -80-       فإن كان البذر من صاحب الأرض فلما أدرك الزرع قال العامل شرطت لي النصف وقال رب الأرض شرطت لك عشرين قفيزا من الخارج فالقول قول رب الأرض والبينة بينة العامل لأن العامل يدعي استحقاق جزء من الخارج على رب الأرض بالشرط ورب الأرض منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه والبينة بينة العامل لأنها تثبت الاستحقاق له وإن لم تخرج الأرض شيئا فقال العامل شرطت لي عشرين قفيزا وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض لأن العامل يدعي أجر العمل دينا في ذمته وهو منكر لذلك والبينة بينة رب الأرض أيضا لأنه يثبت ببينته صحة العقد ويشهد شهوده باشتراط ما يثبت بالشرط في المزارعة والآخر إنما يشهد شهوده باشتراط ما لا يثبت بالشرط في المزارعة فكان الإثبات في بينة رب الأرض أظهر ولو لم يزرع حتى اختلفا فالقول قول الذي يدعي الفساد منهما مع يمينه لأنه ينكر وجوب تسليم شيء عليه ولو أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي المزارعة بالنصف أيهما كان لأنه يثبت ببينته صحة العقد وكونه سببا للاستحقاق فتترجح بينته بذلك.
ولو أخرج زرعا كثيرا فقال لصاحب الأرض والبذر شرطت لك النصف وزيادة عشرة أقفزة وقال العامل شرطت لي النصف فالقول قول العامل لأنهما اتفقا على اشتراط النصف ثم ادعى رب الأرض زيادة على ذلك والعامل منكر لتلك الزيادة ثم رب الأرض متعنت في كلامه لأنه يقر له بزيادة ليبطل به أصل استحقاقه لا ليثبت حقه فيما أقر له به وقول المتعنت غير مقبول وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة رب الأرض لأنه يثبت ببينته زيادة الشرط ولأنه يثبت ببينته فساد العقد بعد ما ظهر باتفاقهما ما هو شرط الصحة وهو اشتراط نصف الخارج فالزيادة ها هنا في بينته.
ولو ادعى رب الأرض انه اشترط له نصف ما تخرج الأرض إلا خمسة أقفزة وقال العامل لم يستثن شيئا فالقول قول رب الأرض لأن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثني فالمزارع يدعي عليه استحقاق نصف كامل بالشرط ورب الأرض ينكر الشرط في بعض ذلك النصف معنى فالقول قوله لإنكاره والبينة بينة المزارع لأنه يثبت صحة المزارعة والفضل فيما يدعيه لنفسه إن لم تخرج الأرض شيئا وقال المزارع شرطت لي النصف وزيادة عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض لاتفاقهما على اشتراط النصف وتفرد المزارع بدعوى الزيادة لا ليستحقها بل ليبطل العقد بها والبينة بينة المزارع لأنه يثبت زيادة شرط ببينته ويثبت لنفسه أجر المثل دينا في ذمة رب الأرض.
ولو قال المزارع شرطت لي النصف إلا عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف ولم تخرج الأرض شيئا فالقول قول رب الأرض لأن المزارع يدعي الأجر دينا في ذمة رب الأرض ورب الأرض منكر لذلك وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض أيضا لأنه يثبت ببينته شرط صحة العقد وإن اختلفا قبل العمل فقال المزارع شرطت لي النصف وزيادة عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من يرى جواز المزارعة وفي قول أبي يوسف ومحمد:

 

ج / 23 ص -81-       القول قول المزارع وهذا لأن رب الأرض يدعي صحة العقد ومن أصل أبي حنيفة أن القول قول من يدعي الصحة بيانه فيما تقدم في السلم إذا ادعى أحد المتعاقدين الأجل في السلم وأنكره الآخر أن عند أبي حنيفة القول قول من يدعي الأجل أيهما كان لأنه يدعي صحة العقد وعندهما القول قول رب السلم لأن المسلم إليه إذا كان يدعي الأجل ورب السلم منكر لدعواه فالقول قوله وإن كان في إنكاره إفساد العقد وإن كان المسلم إليه منكرا للأجل فهو متعنت في هذا الإنكار لأن رب السلم يقر له بالأجل وهو ينكر ذلك تعنتا ليفسد به العقد فهنا كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله يجعل القول قول رب الأرض لأنه يدعي صحة العقد وعندهما يجعل القول قول المزارع لأن كلامهما خرج مخرج الدعوى والإنكار فرب الأرض يدعي على المزارع استحقاق تسليم النفس لإقامة العمل وهو منكر فالقول قوله مع يمينه وإن كان في إنكاره إفساد العقد وإن أقاما البينة فالبينة بينة المزارع في قولهم جميعا لأنه يثبت السبب المفسد بعد تصادقهما على ما هو شرط الصحة ولا يثبت الفضل فيما شرط له.
ولو قال المزارع شرطت لي النصف إلا عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض عندهم جميعا أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه يدعي الصحة وأما عندهما فلأن المزارع متعنت لأن رب الأرض يقر له بزيادة فيما شرط له والمزارع يكذبه فيما أقر له به ليفسد به العقد فكان متعنتا فإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض لأنه يثبت شرط صحة العقد واستحقاق العمل على المزارع ببينته ولو قال المزارع قبل العمل شرطت لي النصف وقال رب الأرض والبذر شرطت لك النصف وزيادة عشرة أقفزة فالقول قول المزارع لأنهما اتفقا على شرط صحة العقد وهو اشتراط النصف ثم رب الأرض يدعي شرط زيادة على ذلك ليفسد به العقد والمزارع منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه والبينة بينة رب الأرض لإثباته الشرط المفسد مع تصادقهما على ما هو شرط صحة العقد.
ولو قال رب الأرض شرطت لك النصف إلا عشرة أقفزة وقال المزارع شرطت لي النصف فالقول قول رب الأرض لأن المزارع يدعي زيادة أقفزة فيما شرط ورب الأرض منكر لما قلنا أن الكلام المصدر بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثني والبينة بينة المزارع لأنه يثبت الفضل في المشروط له ببينته ولو كان البذر من قبل العامل كان حاله في جميع هذه الوجوه بمنزلة حال رب الأرض حتى كان البذر من قبله للمعنى الذي أشرنا إليه وإذا دفع الرجل إلى رجلين أرضا وبذرا على أن يزرعاها سنتهما هذه فما أخرج الله تعالى من ذلك فلأحدهما بعينه الثلث منه ولرب الأرض الثلثان وللآخر على رب الأرض أجر مائة درهم فهو جائز على ما اشترطوا لأنه استأجر أحدهما ببدل معلوم لعمل مدة معلومة واستأجر الآخر بجزء من الخارج مدة معلومة وكل واحد من هذين العقدين جائز عند الانفراد فكذا عند الجمع بينهما.
فإن أخرجت الأرض زرعا كثيرا فاختلف العاملان فقال كل واحد منهما أنا صاحب الثلث فالقول قول رب الأرض في ذلك لأن كل واحد منهما يدعي استحقاق الثلث عليه

 

ج / 23 ص -82-       بالشرط فإذا صدق أحدهما فقد أقر له بالثلث وأنكر استحقاق الآخر فالقول قوله ثم لما كان كل واحد منهما يستحق عليه كان القول قوله في بيان ما يستحقه كل واحد منهما عليه من الأجر أو ثلث الخارج وإن أقام كل واحد منهما البينة أنه صاحب الثلث أخذ الذي أقر له رب الأرض الثلث بإقراره وأخذ الآخر الثلث ببينته لأنه أثبت ما ادعاه بالبينة ولا شيء له من الأجر لأن من ضرورة استحقاقه ثلث الخارج ابتغاء الأجر الذي به أقر له رب الأرض.
ولو لم تخرج الأرض شيئا فقال كل واحد منهما أنا صاحب الأجر فالقول قول رب الأرض لما قلنا وإن أقاما البينة فلكل واحد منهما على رب الأرض مائة درهم لأحدهما بإقرار رب الأرض له وللآخر بإثباته بالبينة ولا يلتفت إلى بينة رب الأرض في هذا الوجه ولا في الوجه الأول مع بينتهما لأنهما المدعيان للحق قبله والبينة على المدعي دون المنكر ولو كان دفع الأرض إليهما على أن يزرعاها ببذرهما على أن ما خرج منه فلأحدهما بعينه نصفه ولرب الأرض عليه أجر مائة درهم وللآخر ثلث الزرع ولرب الأرض سدس الزرع فهذا جائز لأنه أجر الأرض منهما نصفها من أحدهما بمائة درهم ونصفها من الآخر بثلث ما يخرجه ذلك النصف وكل واحد من هذين العقدين صحيح عند الإنفراد وقد بينا أن باختلاف البدل لا تتفرق الصفقة في حق صاحب الأرض فإن زرعها فلم تخرج الأرض شيئا فقال كل واحد منهما لرب الأرض أنا شرطت لك سدس الزرع فالقول قول كل واحد منهما فيما زعم أنه شرط له لأن رب الأرض يصدق أحدهما في ذلك ويدعي على الآخر وجوب الأجر دينا في ذمته وهذا منكر لذلك فالقول قوله لإنكاره مع يمينه وإن أقاما البينة أخذ ببينة رب الأرض لأنه يثبت للآخر ببينته دينا في ذمته.
ولو أخرجت زرعا كثيرا فادعى كل واحد منهما أنه هو الذي شرط له الأجر وادعى صاحب الأرض على أحدهما الأجر وعلى الآخر سدس الزرع فإنه يأخذ الأجر من الذي ادعاه عليه لتصادقهما على ذلك وفي حق رب الأرض يدعي عليه استحقاق بعض الخارج وهو منكر فالقول قوله ويقال لرب الأرض أقم البينة على السدس الذي ادعيته عليه وإن أقام البينة أخذ ببينة رب الأرض لأنه هو المدعي المثبت لحقه ببينته.
ولو دفع رجل إلى رجل أرضا على أن يزرعها ببذره وعمله فما خرج منه فثلثاه للعامل والثلث لأحد صاحبي الأرض بعينه وللآخر مائة درهم أجر نصيبه فهو جائز لأنه استأجر من أحدهما نصيبه بأجر مسمى واستأجر من الآخر نصيبه بثلث ما يخرجه نصيبه وكل واحد منهما مستقيم فإن أخرجت زرعا كثيرا فادعى كل واحد من صاحبي الأرض أنه صاحب الثلث فالقول قول الزارع لأن كل واحد منهما يدعي استحقاق الخارج عليه وإن أقام كل واحد من صاحبي الأرض البينة كان لكل واحد منهما ثلث الخارج لأنه أقر لأحدهما بثلث الخارج والآخر أثبت ببينته استحقاق ثلث الخارج ولا يلتفت إلى بينة المزارع مع بينتهما لأنهما المدعيان والبينة في جانب المدعي دون المنكر.

 

ج / 23 ص -83-       وإذا دفع الرجل إلى رجلين أرضا وبذرا على أن لأحدهما بعينه ثلث الخارج وللآخر عشرين قفيزا من الخارج ولرب الأرض ما بقي فزرعاها فأخرجت الأرض زرعا كثيرا فالثلث للذي سمي له الثلث والثلثان لصاحب الأرض وللآخر أجر مثله أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن عقد المزارعة بينه وبين الذي شرط له الثلث صحيح وبينه وبين الآخر فاسد لأنه شرط له شرطا يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله والمزارعة بمثل هذا الشرط تفسد ولكن عقده مع أحدهما معطوف على العقد مع الآخر بحرف العطف وليس بمشروط فيه ففساد العقد بينه وبين أحدهما لا يفسد العقد بينه وبين الآخر فإن اختلفا في الذي شرط له الثلث منهما فالقول قول رب الأرض لأن كل واحد منهما يدعي الاستحقاق عليه بالشرط وإن أقاما البينة كان لكل واحد منهما ثلث الخارج لأحدهما بإقرار رب الأرض له به وللآخر بإثباته بالبينة.
ولو لم تخرج الأرض شيئا كان القول قول رب الأرض في الذي له أجر مثله منهما فإن أقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى فالبينة بينة رب الأرض لأن رب الأرض صدق أحدهما فيما ادعى عليه من أجر المثل وإنما بقيت الدعوى بينه وبين الآخر ورب الأرض ببينة تثبت شرط صحة العقد بينه وبين الآخر والآخر ينفي ذلك ببينته وقد بينا أن البينة التي تثبت شرط صحة العقد تترجح بخلاف ما سبق فهناك كل واحد من العقدين صحيح فلا يكون رب الأرض ببينته مثبتا شرط صحة العقد ولو كان صاحب الأرض اثنين على مثل هذا الشرط دفعاه إلى واحد والبذر من قبل المزارع كان في جميع هذه الوجوه مثل ما بينا من حكم صاحب الأرض حين كان البذر من قبله لاستوائهما في المعنى وذلك يتضح لك إذا تأملت والله أعلم.

باب العشر في الزراعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا سنته هذه على أن يزرعها ببذره وعمله بالنصف فأخرجت الأرض زرعا كثيرا والأرض أرض عشر ففي قياس قول أبي حنيفة على قول من أجاز المزارعة يكون للمزارع نصف الخارج كاملا ويأخذ السلطان عشر جميع الخارج من نصيب صاحب الأرض إن كانت تشرب سحا أو تسقيها السماء وإن كانت تسقى بدلو أو دالية فنصف عشر جميع الخارج على صاحب الأرض لأنه مؤاجر لأرضه بجزء من الخارج ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن من أجر أرضه العشرية فالعشر يكون على الآخر وعندهما العشر في الخارج على المستأجر فهنا أيضا عندهما العشر على كل واحد منهما في الخارج نصفان وإن سرق الخارج قبل القسمة أو بعد القسمة فلا عشر عليهما لفوات محل الحق وعند أبي حنيفة رحمه الله عشر جميع الخارج على رب الأرض فإن سرق الطعام بعد ما حصد أو حرق قبل أن يأخذ السلطان العشر يبطل عن رب الأرض نصفه ولزمه في ماله نصفه لأن حصة النصف الذي صار للمزارع من العشر صار دينا في ذمة رب الأرض فلا يسقط ذلك عنه بهلاك الخارج وفي النصف الذي هو ملك رب الأرض العشر باق في عينه فإذا هلك سقط عشر ذلك عنه لفوات المحل وكذلك لو كان البذر من قبل رب الأرض فإنه

 

ج / 23 ص -84-       مستأجر للعامل بنصف الخارج فيكون عشر الكل عليه عند أبي حنيفة لأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج وهو المالك للأرض فإذا سرق الطعام بعد الحصاد سقط عنه النصف حصة نصيبه من الخراج وأما حصة نصيب المزارع فصارت دينا في ذمته بتمليكه إياه من المزارع فلا يسقط ذلك عنه بهلاك الخارج.
ولو أجر أرضه من رجل بمائة درهم يزرعها هذه السنة فأخرجت زرعا كثيرا ثم توى الأجر على المستأجر فعشر جميع الطعام على رب الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله وقد صار ذلك دينا في ذمته وللآخر دين له على المستأجر فإن توى دينه على المستأجر فإن سرق طعام المستأجر لا يسقط عن المؤاجر العشر الذي صار دينا عليه ولو استحصد الزرع فلم يحصد حتى هلك فالأجر واجب لأن وجوب الأجر بالتمكن من استيفاء المعقود عليه وقد تمكن المستأجر من ذلك وقد استوفاه حقيقة ولا عشر على واحد منهما لأن وجوب العشر عند الحصاد قال الله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وإنما يصير دينا في ذمة الآجر بعد وجوبه فإذا هلك الخارج قبل الحصاد لم يكن عليه شيء بخلاف ما إذا هلك بعد الحصاد لأن العشر قد تقرر وجوبه هنا وصار دينا في ذمة الآجر وكذلك في المزارعة إذا هلك الزرع بعد ما استحصد قبل أن يحصد فلا عشر على واحد منهما في القولين جميعا سواء كان البذر من قبل رب الأرض أو من قبل المزارع لأن المحل فات قبل أن يأتي وقت وجوب العشر فهو بمنزلة ما لو استهلك النصاب قبل تمام الحول والهلاك هنا في حق المؤاجر بمنزلة الاستهلاك في مال الزكاة حتى إذا استهلك بعد تمام الحول فالزكاة دين عليه فإذا هلك هنا بعد الحصاد يكون العشر دينا عليه وكذلك الجواب في معاملة النخيل والكروم وهو مثل الجواب في المزارعة أنه إذا هلك قبل الجذاذ فلا عشر على رب النخيل وإن هلك بعد الجذاذ فعشر نصيب العامل دين عليه في قول أبي حنيفة فإن الجذاذ في الثمار بمنزلة الحصاد في الزرع وإن استهلكه رجل فليس على رب النخيل في حصته شيء من العشر إلا أن يستوفي بدله من المستهلك فحينئذ يؤدي عشره لأن المحل فات وأخلف بدلا وإن استوفى منه بعض البدل يؤدي العشر بقدر ذلك اعتبارا للجزء بالكل.
ولو صالح الإمام قوما من أهل الحرب على أن صاروا ذمة له ووضع على رؤوسهم شيئا معلوما وجعل خراج أراضيهم ونخيلهم وأشجارهم المناصفة فذلك جائز لأنه نصب ناظرا للمسلمين وربما يكون خراج المقاسمة أنفع للفريقين من خراج الوظيفة فإذا دفع رجل أرضا مزارعة والبذر منه أو من العامل أو أجرها بدراهم أو أعارها رجلا ليزرعها لنفسه أو دفع الأشجار معاملة كان الجواب في جميع ذلك على نحو ما بينا في العشر لأن الخراج هنا جزء من الخارج لا يجب إلا بعد حصول الخارج حقيقة فيكون بمنزلة العشر في التخريج على القولين كما بينا بخلاف خراج الوظيفة فإنه يجب بالتمكن من الانتفاع وإن لم يزرع كان على رب الأرض في الوجوه كلها.

 

ج / 23 ص -85-       وإذا دفع أرضا من أرض العشر وبذرا إلى رجل على أن يزرعها سنته هذه على أن للمزارع عشرين قفيزا من الخارج فأخرجت الأرض زرعا كثيرا فللعامل أجر مثله وعلى رب الأرض عشر جميع الخارج لأنه استأجر العامل إجارة فاسدة ولو استأجره إجارة صحيحة بدراهم مسماة للعمل كان عشر جميع الخارج على رب الأرض فكذلك هنا ولا يرفع مما أخرجت الأرض نفقة ولا أجر عامل لأن بإزاء ما غرم من الأجر دخل في ملكه العوض وهو منفعة العامل وصار إقامة العمل بأجيره كإقامته بنفسه ولو زرع الأرض كان عليه عشر جميع الخارج من غير أن يرفع من ذلك بذرا أو نفقة أنفقها فكذلك أجر العامل ولو كان البذر من العامل كان الخارج له وعليه أجر مثل الأرض ثم في قول أبي حنيفة رحمه الله عشر جميع الخارج على رب الأرض وعندهما العشر في الخارج اعتبارا للإجارة الفاسدة بالإجارة الصحيحة في القولين.
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرعها ببذر منهما فما خرج فهو بينهما نصفان فالمزارعة فاسدة لأنه جعل منفعة نصف الأرض للعامل مقابلة عمله في النصف الآخر لرب الأرض ثم الخارج بينهما نصفان لأن البذر بينهما نصفان والخارج نماء البذر وعشر الطعام كله على رب الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه صار مؤاجرا نصف الأرض بما شرط بمقابلته من عمله في النصف الآخر فهو بمنزلة ما لو أجرها بدراهم وعندهما العشر في الخارج ولرب الأرض نصف أجر مثل أرضه لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بحكم عقد فاسد ولهذا المعنى يكون العشر في نصيب العامل على رب الأرض في قول أبي حنيفة لأنه قد حصل له منفعة ذلك النصف من الأرض وهو أجر المثل ولا أجر للعامل لأنه عمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر على غيره.
ولو دفع إلى رجل أرض عشر على أن يزرعها ببذره وعمله بالنصف فاستحصد الزرع ولم يحصد حتى استهلكه رجل أو سرقه وهو مقر به فلا عشر على واحد منهما حتى يؤدي المستهلك ما عليه وما أدى من شيء كان على رب الأرض عشره في قول أبي حنيفة رحمه الله سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض لأن حكم البدل حكم المبدل وسلامته بأن يستوفي ممن عليه فأما ما كان دينا في ذمته فهو كالتاوي وفي قولهما ما خرج من شيء أخذ السلطان عشر ذلك والباقي بينهما نصفان وكذلك لو كانت الأرض مما صالح الإمام أهلها على أن جعل خراجها نصف الخارج فإن خراج المقاسمة بمنزلة العشر وكذلك لو كان أجر أرضه العشرية بدراهم فزرعها المستأجر فاستحصد زرعها ثم استهلكها مستهلك فلا عشر على واحد منهما حتى يؤدي المستهلك ما عليه من البدل فإذا أدى شيئا منه فعند أبي حنيفة عشر مقدار ما وصل إلى المستأجر على رب الأرض وعندهما عشر ذلك القدر في الخارج لأن رب الأرض في حكم العشر بمنزلة ما لو كان زرعها بنفسه عند أبي حنيفة رحمه الله.
وإذا غصب الرجل أرض عشر أو خراج فزرعها فأخرجت زرعا كثيرا ولم تنقصها لزراعة

 

ج / 23 ص -86-       شيئا فالخارج على الزارع والعشر عليه في الخارج لأن رب الأرض لم يسلم له شيء من منفعة الأرض ولا كان متمكنا من الانتفاع بها مع منع الغاصب إياه من ذلك فلا يلزمه عشر ولا خراج فإذا تعذر إيجاب ذلك عليه وجب على الغاصب لأن المنفعة سلمت له من غير عوض فكما التحق هو بالمالك في سلامة منفعة الأرض له بغير عوض فكذلك في وجوب العشر والخراج عليه ولو كانت المزارعة نقصت الأرض فعلى الزارع غرم النقصان لأن ذلك الجزء تلف بفعله فيجب عليه ضمانه ثم في قول أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكره أبو يوسف عشر جميع ما أخرجت الأرض على رب الأرض وكذلك إن كانت له أرض خراج فعليه خراجها لأن ما استوفى هو من قيمة النقصان منفعة سلمت له باعتبار عمل الزراعة فكان بمنزلة ما لو أجر الأرض بذلك القدر فعليه العشر والخراج سواء كان ما وصل إليه مثل العشر أو الخراج الواجب أو أقل أو أكثر وهذا يقوي قول من يقول من أصحابنا رحمهم الله أن نقصان الأرض عوض عن منفعتها وأن الطريق في معرفة النقصان أن ينظر بكم تؤجر الأرض قبل المزارعة وبعدها فمقدار التفاوت هو نقصان الأرض وفي هذا اختلاف بين أئمة بلخ فإن بعضهم يقولون إن المنفعة عندنا لا تضمن بالإتلاف ولكن النقصان في حكم بدل جزء فائت من العين وطريق معرفته أن ينظر بكم كانت تشترى تلك الأرض قبل الزراعة وبكم تشترى بعدها فتفاوت ما بينهما هو النقصان والقول الأول أقرب إلى الصواب بناء على الجواب الذي ذكره هنا فإنه جعل النقصان بمنزلة الأجرة عند أبي حنيفة وأما في قول محمد فإن كان نقصان الأرض مثل الخراج أو أكثر فلرب الأرض قيمة النقصان على الغاصب والخراج على رب الأرض يعطيه بما يستوفي وإن كانت قيمة النقصان أقل من الخراج فالخراج على الغاصب وليس عليه شيء من النقصان لرب الأرض فكأنه استحسن ذلك لدفع الضرر عن رب الأرض فإنه لا يمكن إيجاب موجبين على الغاصب بسبب زراعة واحدة فيجعل كأنه لم يتمكن نقصان في الأرض حتى يجب الخراج على الغاصب ولا يتضرر به رب الأرض, وأما العشر على قوله وعلى قول أبي يوسف ففي الخارج والخارج للغاصب فيؤدى عشر الخارج ويغرم لصاحب الأرض النقصان مع ذلك كما يغرم الأجر لو كان استأجرها منه وقع في بعض نسخ الأصل الجمع بين الخراج والعشر في تخريج قول محمد رحمه الله وهو سهو إنما الصحيح ما ذكرناه والله أعلم.

باب المعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل نخلا معاملة سنين معلومة بالنصف فهو جائز على قول من يرى جواز المزارعة وكذلك معاملة الشجر والكرم والرطاب في قول علمائنا رحمهم الله وقال الشافعي لا تجوز المعاملة إلا في النخيل والكروم خاصة لأن جواز ذلك بالأثر وإنما ورد الأثر في النخيل والكروم وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ولكن هذا فاسد فقد كان أهل خيبر يعملون في الأشجار والرطاب أيضا كما يعملون في النخيل والكروم.

 

ج / 23 ص -87-       ثم هذا الكلام إنما يستقيم ممن لا يرى تعليل النصوص فإذا كان الشافعي يرى تعليل النصوص فلا يستقيم منه معنى فيصير حكم المعاملة على النخيل والكروم باعتبار أن الأثر ورد فيها فإن أراد صاحب النخيل أن يخرج العامل لم يكن له ذلك إلا من عذر بخلاف ما لو دفع الأرض والبذر مزارعة لأن صاحب البذر يحتاج إلى أن يلقي بذره في الأرض وفيه إتلاف ملكه فله أن لا يرضى به وهنا صاحب النخيل لا يحتاج في إيفاء العقد إلى إتلاف شيء من ماله فيلزم العقد في الجانبين بنفسه ولا ينفرد أحدهما بفسخه إلا بعذر كسائر الإجارات والعذر هنا أن يلحقه دين فادح لا وفاء عنده إلا ببيع النخيل أو يكون العامل سارقا معروفا بالسرقة فخاف منه على أخذ سعف النخل وسرقته أو على سرقة الثمار قبل الإدراك وقد بينا أن هذا عذر في سائر الإجارات نحو إجارة الظئر لما يلحقه فيه من ضرر لم يلزمه بالعقد فكذلك في المعاملة.
وإن كان الثمر قد خرج ولم يبلغ ثم لحقه دين لا وفاء عنده إلا ببيع النخيل لم يكن له أن ينقض المعاملة ولا يبيعه حتى يبلغ الثمر فيباع نصيب صاحب النخل من النخل من الثمر في الدين وتنتقض المعاملة فيما بقي وقد تقدم نظيره في المزارعة والمعنى فيهما سواء فإن الشركة انعقدت بينهما في الثمر ولإدراكه نهاية معلومة ففي الانتظار توفير المنفعة ودفع الضرر من الجانبين وفي نقض المعاملة في الحال إضرار بالعامل من حيث أن فيه إبطال حقه من نصيب الثمر فلدفع الضرر قلنا يخرج رب النخيل من الشجر وتبقى المعاملة بينهما إلى أن يدرك ما خرج من الثمر.
ولو أراد العامل ترك العمل قبل خروج الثمر لم يكن له ذلك إلا أن يمرض مرضا يضعف عن العمل معه فيكون هذا عذرا ولا يقال ينبغي أن يؤمر في المرض أن يستأجر عاملا ليقيم العمل لأن في ذلك إلحاق ضرر به لم يلتزمه بعقد المعاملة وإذا كان عليه في إيفاء العقد ضرر فوق ما التزمه يصير ذلك عذرا في فسخ المعاملة قال في الأصل أو يريد سفرا أو يترك ذلك العمل فيكون هذا عذرا له وقد بينا في أول الكتاب أن في هذا الفصل روايتين وتأويل ما ذكر هنا أن العمل كان مشروطا بيده.
ولو دفع إلى رجل نخلا أو شجرا أو كرما معاملة بالنصف ولم يسم الوقت جاز استحسانا على أول ثمرة تخرج في أول سنته وفي القياس لا يجوز لأن هذا استئجار للعامل وبهذا لا يصير المعقود عليه معلوما إلا ببيان المدة فإذا لم يبينا لا يجوز العقد كما في المزارعة ووجه الاستحسان أن لإدراك الثمر أوانا معلوما في العادة ونحن نتيقن أن إيفاء العقد مقصود هنا إلى إدراك الثمار والثابت بالعادة كالثابت بالشرط فصارت المدة معلومة وإن تقدم أو تأخر فذلك يسير لا يقع بسببه منازعة بينهما في العادة بخلاف المزارعة فإن آخر المدة هناك مجهول لجهالة أولها لأن ما يزرع في الخريف يدرك في آخر الربيع وما يزرع في الربيع يدرك في آخر الصيف وما يزرع في الصيف يدرك في آخر الخريف فلجهالة وقت ابتداء عمل المزارعة يصير وقت النهاية مجهولا وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة بينهما فلهذا لا يجوز العقد إلا

 

ج / 23 ص -88-       ببيان المدة ثم في المعاملة يتيقن أن العقد تناول أول ثمره وفيما وراء ذلك شك فلا يثبت إلا المتيقن وإذا لم يخرج ثمره في تلك السنة انتقضت المعاملة لأن العقد لا يتناول إلا ذلك القدر من المدة فكأنهما نصا على ذلك.
ولو دفع إليه أصول رطبة ثابتة في الأرض معاملة ولم يسم الوقت فهو فاسد لأن الرطبة ليست لها غاية ينتهي إليها نموها ولكنها تنمو ما تركت في الأرض بخلاف الثمار فإن لها غاية تنتهي إليها فإذا تركت بعد ذلك تفسد فإن كانت للرطبة غاية معلومة تنتهي إليها في نباتها حتى تقطع ثم تخرج بعد ذلك فهذه معاملة جائزة والمعاملة في ذلك على أول جزة كما في الثمار وكل شيء من هذا أخرنا فليس لواحد منهما أن ينقض المعاملة إلا من عذر لأن المعلوم بالعادة من المدة لما جعل كالمشروط لها في جواز العقد فكذلك في لزومه.
ولو دفع إليه نخلا فيه طلع معاملة بالنصف أو لم يسم الوقت أو دفعه إليه بعد ما صار بسرا أخضر أو أحمر غير أنه لم ينته عظمه فهو جائز لأنه بحيث ينمو بعمل العامل وله نهاية معلومة فيجوز العقد باعتباره ولو دفع إليه بعد ما تناهى عظمه وليس يزيد بعد ذلك قليلا ولا كثيرا إلا أنه لم يرطب فالمعاملة فاسدة لأنه لا يزداد بعمله والشركة بعقد المعاملة إنما تصح فيما يحدث بعمل العامل أو يزداد بعمله فإذا لم يكن بهذه الصفة كان العقد فاسدا وإن عمل فيه العامل فله أجر مثله.
ولو اشترى من رجل طلعا في نخل أو بسرا أخضر فتركه في النخل بغير أمر صاحبه حتى صار تمرا تصدق المشتري بالزيادة لتمكن الخبث في المشتري بالزيادة الحاصلة فيه من نخل صاحب النخل بغير رضاه ولو اشتراه وهو بسر أحمر قد انتهى عظمه لم يتصدق بشيء لأنه لم يزد فيه من النخل شيء وإنما النضج واللون والطعم يحدث فيه بتقدير الله تعالى وسبب ذلك على ما جعله الله تعالى سببا الشمس والقمر والكواكب فلا يتمكن فيه خبث وإنما أورد هذا لإيضاح الفصل الأول وقد بينا تمام هذا الفصل في البيوع ولو دفع إليه رطبة له في أرض قد صارت بلحا ولم تنته إلى أن تجذ فدفعها إليه معاملة على أن يسقيها ويقوم عليها بالنصف ولم يسم وقتا معلوما فهو فاسد إلا أن يكون للرطبة غاية معلومة تنتهي إليها فحينئذ يجوز.
ولو دفع إليه رطبة قد انتهى إحرازها على أن يقوم عليها ويسقيها حتى تخرج بذرها على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من بذر فهو بينهما نصفان ولم يسميا وقتا فهو جائز استحسانا لأن لإدراك البذر أوانا معلوما عند المزارعين والبذر إنما يحصل بعمل العامل فاشتراط المناصفة فيه يكون صحيحا والرطبة لصاحبها ولو اشترطا أن الرطبة بينهما نصفان فسدت المعاملة لأنهما شرطا الشركة فيما لا ينمو بعمل العامل والرطبة للبذر بمنزلة الأشجار للثمار فكما أن شرط الشركة في الأشجار المدفوعة إليه مع الثمار يكون مفسدا للعقد فكذلك هنا ولو كان دفعها إليه وهي قداح لم تتناه والمسألة بحالها جاز العقد لأن الرطبة هنا تنمو بعمله فيجوز اشتراط المناصفة فيه ولإدراك البذر أوان معلوم فلا يضرهما ترك التوقيت.

 

ج / 23 ص -89-       ولو دفع إلى رجل غراس شجرا أو كرم أو نخل قد علق في الأرض ولم يبلغ الثمر على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقح نخله فما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان فهذه معاملة فاسدة إلا أن يسمي سنين معلومة لأنه لا يدري في كم تحمل النخل والشجر والكرم والأشجار تتفاوت في ذلك بتفاوت مواضعها من الأرض بالقوة والضعف فإن بينا مدة معلومة صار مقدار المعقود عليه من عمل العامل معلوما فيجوز وإن لم يبينا ذلك لا يجوز ولو دفع إليه نخلا أو كرما أو شجرا قد أطعم وبلغ سنين معلومة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقح نخله ويكسح كرمه على أن النخل والكرم والشجر والخارج كله بينهما نصفان فهذا فاسد لاشتراطهما الشركة فيما هو حاصل لا بعمل العامل وهو الأشجار بمنزلة ما لو دفع الأرض مزارعة على أن تكون الأرض والزرع بينهما نصفين ولو دفع إليه أصول رطبه على أن يقوم عليها ويسقيها حتى تذهب أصولها وينقطع نبتها على أن الخارج بينهما نصفان فهو فاسد وكذلك النخل والشجر لأنه ليس لذلك نهاية معلومة بالعادة وجهالة المدة في المعاملة تفسد المعاملة.
ولو دفع إليه نخلا أو شجرا أو كرما معاملة أشهرا معلومة يعلم أنها لا تخرج ثمرة في تلك المدة بأن دفعها أول الشتاء إلى أول الربيع فهذا فاسد لأن المقصود بالمعاملة الشركة في الخارج وهذا الشرط يمنع ما هو المقصود فيكون مفسدا للعقد ولو اشترطا وقتا قد يبلغ الثمر في تلك المدة وقد يتأخر عنها جاز لأنا لا نعلم تفويت موجب العقد فهذا الشرط إنما يوهم ذلك وهذا التوهم في كل معاملة ومزارعة فقد يصيب الزرع والثمار آفة سماوية فإن خرج الثمر في تلك المدة فهو بينهما على ما اشترطا وإن تأخر عن تلك المدة فللعامل أجر مثله فيما عمل إن كان تأخير ذلك ليس من ذهاب في تلك السنة لأنه تبين أنهما سميا من المدة ما لا تخرج الثمار فيها ولو كان ذلك معلوما عند ابتداء العقد كان العقد فاسدا فكذلك إذا تبين في الانتهاء وبهذا يستدل على جواب مسألة السلم أنه إذا انقطع المسلم فيه من أيدي الناس في خلال المدة بآفة فإنه يتبين به فساد العقد بمنزلة ما لو كان منقطعا عند ابتداء العقد وإن كان قد أحال في تلك السنة فلم يخرج شيئا فهذه معاملة جائزة ولا أجر للعامل في عمله ولا شيء له لأنه بما حصل من الآفة لا يتبين أن الثمار كانت لا تخرج في المدة المذكورة وإذا لم يتبين المفسد بقي العقد صحيحا وموجبه الشركة في الخارج فإذا لم يحصل الخارج لم يكن لواحد منهما على صاحبه شيء وإن كان قد خرج في تلك السنة ولم يحل إلا أن الوقت قد انقضى قبل أن يطلع الثمر فللعامل أجر مثله فيما عمل لأنه تبين المفسد للعقد وهو أنهما ذكرا مدة كانت الثمار لا تخرج فيها ولو كان هذا معلوما في الابتداء كان العقد فاسدا فكذلك إذا تبين في الانتهاء في المعاملة الفاسدة للعامل أجر مثله فيما عمل لأن رب النخيل استوفى عمله بعقد فاسد والله أعلم.

باب من المعاملة أيضا
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا بيضاء سنين مسماة على أن يغرسها نخلا وشجرا

 

ج / 23 ص -90-       وكرما على أن ما أخرج الله تعالى من ذلك من نخل أو شجر أو كرم فهو بينهما نصفان وعلى أن الأرض بينهما نصفان فهذا كله فاسد لاشتراطهما الشركة فيما كان حاصلا لا بعمله وهو الأرض فإن قبضها وغرسها فأخرجت ثمرا كثيرا فجميع الثمر والغرس لرب الأرض وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل وقد بينا في المسألة طريقين لمشايخنا رحمهم الله في كتاب الإجارات إحداهما أنه اشترى منه نصف الغرس بنصف الأرض والأخرى أنه اشترى منه جميع الغرس بنصف الأرض والأصح فيه أنه استأجره ليجعل أرضه بستانا بآلات نفسه على أن يكون أجره نصف البستان الذي يظهر بعمله وآلاته وذلك في معنى قفيز الطحان فيكون فاسدا ثم الغراس عين مال قائمة كانت للعامل وقد تعذر ردها عليه للاتصال بالأرض فيلزمه قيمتها مع أجر مثل عمله فيما عمل بمنزلة ما لو دفع إلى خياط ظهارة على أن يبطنها أو يحشوها ويخيطها جبة بنصف الجبة كان العقد فاسدا وكانت له قيمة البطانة والحشو وأجر مثل عمله فيما عمل وكذلك لو لم يشترط له من الأرض شيئا ولكنه قال على أن يكون لك على مائة درهم أو شرط عليه كر حنطة أو شرط له نصف أرض أخرى معروفة فالعقد فاسد في هذا كله لجهالة الغراس الذي شرطه عليه وكذلك هذا في الزرع.
ولو دفع إليه أرضا على أن يزرعها سنته هذه كرا من حنطة بالنصف وعلى أن للمزارع على رب الأرض مائة درهم كان العقد فاسدا لاشتراط الأجر المسمى للمزارع مع نصف الخارج ثم الخارج كله لرب الأرض وعليه كر حنطة مثل الكر الذي بذره المزارع وأجر مثل عمله فيما عمل أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن عمل المزارع في ذلك لرب الأرض بأمره فيكون كعمل رب الأرض بنفسه وكذلك لو كان الغرس عند رب الأرض واشترط ما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان وعلى أن للعامل على رب الأرض مائة درهم فهو فاسد لاشتراط أجر المسمى للعامل مع الشركة في الخارج فإنه لو صح هذا كان شريكا في الخارج فلا يستوجب الأجر بعمله فيما هو شريك فيه وإذا عمل على هذا فالخارج كله لرب الأرض وللعامل أجر مثله وكذلك لو شرط كر حنطة وسط أو شرط أن الأرض بينهما نصفان.
ولو كان الغرس من قبل العامل وقد اشترط أن الخارج بينهما نصفان على أن لرب الأرض على المزارع مائة درهم فهذا فاسد لاشتراط الأجر المسمى لصاحب الأرض مع الشركة في الخارج فإنه لو صح ذلك كان هو يستوجب أجر الأرض للعامل فيما هو مشغول من الأرض بنصيب رب الأرض من الغراس وذلك لا يجوز ثم الخارج كله للعامل ولرب الأرض أجر مثل أرضه لأن العامل هنا استأجر الأرض وعمل فيها لنفسه حين شرط لرب الأرض على نفسه أجرا مائة درهم مع بعض الخارج فيكون عاملا لنفسه وقد استوفى منفعة الأرض بحكم عقد فاسد فعليه أجر مثل الأرض بخلاف ما تقدم.
ولو كان الغرس والبذر من رب الأرض على أن الخارج بينهما نصفان وعلى أن لرب الأرض على الزارع مائة درهم فهو فاسد أيضا ثم الخارج كله للعامل ولرب الأرض أجر

 

ج / 23 ص -91-       مثل أرضه وقيمة غرسه وبذر مثل بذره على الزارع لأنه كالمشتري للبذر والغرس ببعض المائة التي شرطها له على نفسه فيه وظهر أنه عامل لنفسه وأنه مستأجر للأرض مشتر للغرس والبذر بالمائة وبنصف الخارج ففسد العقد لجهالة الغرس ثم صار قابضا للغرس والبذر بحكم عقد فاسد وقد تعذر عليه رده فيلزمه القيمة فيما لا مثل له والمثل فيما له مثل ويلزمه أجر مثل الأرض وعليه أن يتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد وكذلك لو شرط له الغارس مكان المائة حنطة أو شيئا من الحيوان بعينه أو بغير عينه فالكل في المعنى الذي يفسد به العقد سواء.
ولو دفع إليه الأرض على أن يغرسها المدفوع إليه لنفسه ما بدا له من الغرس ويزرعها ما بدا له على أن الخارج بينهما نصفان وعلى أن للغارس على رب الأرض مائة درهم أو سمى شيئا غير المائة فهو فاسد والخارج كله للغارس ولرب الأرض أجر مثل أرضه لأن رب الأرض وإن صار كالمشتري للغراس والبذر بما شرط له على نفسه من المال المسمى ولكنه لم يملكه لفساد العقد وانعدام القبض من جهته فيكون الغارس عاملا لنفسه فكان الكل له بخلاف ما سبق فهناك الغارس يصير قابضا لما اشتراه شراء فاسدا.
فإن قيل هنا ينبغي أن يصير رب الأرض قابضا أيضا باتصاله بأرضه.
قلنا ابتداء عمله في الغرس والزرع يكون لنفسه لأنه ملك له قبل أن يتصل بالأرض ثم هو في يد الغارس حقيقة والمشتري شراء فاسدا وإن كان يملك المشتري بالقبض فرده مستحق شرعا لفساد العقد فلا يجوز جعله في يد المشتري حكما مع كونه في يد البائع حقيقة لأن يد البائع فيه يد بحق ويد المشتري محرم شرعا فأما فيما سبق فبنقض العامل يخرج من يد رب الأرض ويصير العامل قابضا له حقيقة وكذلك لو لم يشترط المائة واشترط أن الأرض بينهما نصفان.
ولو كان البذر والغرس من رب الأرض على أن يغرسه ويبذره العامل لرب الأرض على أن ما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان وعلى أن لرب الأرض على العامل أجرا مائة درهم فهو فاسد والخارج كله لرب الأرض وللعامل أجر مثل عمله لأنه صرح في كلامه بما ينفي بيع الغرس والبذر منه فإنه شرط أن يعمل فيها لرب الأرض وإنما يكون عاملا لرب الأرض إذا كان الغرس والبذر من جهته فعرفنا أنه ما باع شيئا من ذلك من العامل ولكنه استأجره للعمل بنصف الخارج وشرط عليه بإزاء نصف الخارج لنفسه أيضا مائة درهم فكان فساد العقد من قبل أن العامل اشترى منه بعض الخارج الذي هو معدوم بالمسمى من المائة فكان الخارج لرب الأرض وللعامل أجر مثل عمله.
ولو دفع إليه نخلا معاملة سنين مسماة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما أخرج الله تعالى من ذلك من شيء فهو بينهما نصفان وعلى أن لرب الأرض على العامل مائة درهم أو اشترط العامل على رب الأرض مائة درهم فهو فاسد لاشتراط الأرض المسماة مع بعض

 

ج / 23 ص -92-       الخارج لأحدهما والخارج كله لصاحب النخل لأنه تولد من نخيله وكذلك لو كان قال للعامل اعمل ذلك لنفسك أو قال اعمل لي أو قال اعمل ولم يقل لي ولا لك فهو سواء لأن النخيل مملوكة لصاحبها فيكون العامل في الوجوه كلها عاملا له سواء صرح بذلك أو بخلافه والله أعلم.

باب الأرض بين الرجلين يعملان فيها أو أحدهما
قال رحمه الله: وإذا كانت الأرض بين رجلين فاشترطا على أن يعملا فيها جميعا سنتهما هذه ببذرهما وبقرهما فما خرج فهو بينهما نصفان فهو جائز لأن كل واحد منهما عامل في نصيبه من الأرض ببذره وبقره غير موجب لصاحبه شيئا من الخارج منه فإن اشترطا أن الخارج بينهما أثلاثا كان فاسدا لأن الذي شرط لنفسه الثلث كأنه دفع نصيبه من الأرض والبذر إلى صاحبه مزارعة بثلث الخارج منه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للعقد ولأن ما شرط من الزيادة على النصف لصاحب الثلثين يكون أجره له على عمله وإنما يعمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر فيما هو شريك فيه على غيره.
ولو كان البذر منهما أثلاثا والخارج كذلك كان جائزا لأن الذي شرط لنفسه ثلث الخارج كأنه أعار شريكه ثلث نصيبه من الأرض وأعانه ببعض العمل وذلك جائز ولو اشترطا أن الخارج نصفان كان فاسدا لأن الذي كان منه ثلث البذر شرط لنفسه بعض الخارج من بذر شريكه وإنما يستحق ذلك بعمله والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر على غيره إذ هو يصير دافعا سدس الأرض من شريكه مزارعة بجميع الخارج منه وذلك فاسد ثم الخارج بينهما على قدر بذرهما وعلى صاحب ثلثي البذر أجر مثل سدس الأرض لشريكه لأنه استوفى منفعة ذلك القدر من نصيبه من الأرض بعقد فاسد ويكون له نصف الزرع طيبا لا يتصدق بشيء منه لأنه رباه في أرض نفسه وأما سدس الزرع فإنه يدفع منه ربع بذره الذي بذره وما غرم من الأجر والنفقة فيه يتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد ويكون له نصف الزرع طيبا لا يتصدق بشيء منه لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد.
ولو كان الخارج والبذر بينهما نصفين والعمل عليهما جميعا إلا البقر فإنهما اشترطاه على أحدهما بعينه خاصة جاز والخارج بينهما نصفان لأن صاحب البقر معين لصاحبه ببقره حين لم يشترط لنفسه شيئا من الخارج من بذر صاحبه ولو اشترطا لصاحب البقر ثلثي الخارج كانت المزارعة فاسدة لأن الذي شرط لنفسه الثلث كأنه استأجر البقر من صاحبه بثلث الخارج من نصيبه واستئجار البقر في المزارعة مقصودا لا يجوز والخارج بينهما نصفان على قدر بذرهما ولصاحب البقر أجر مثل بقره فيما كربت لأنها كربت الأرض قبل أن تقع الشركة بينهما في الزرع فكان مستوفيا هذه المنفعة من بقره بحكم عقد فاسد.
ولو اشترطا البذر من عند أحدهما بعينه والبقر من الآخر والخارج بينهما نصفان لم يجز لأن صاحب البقر يصير دافعا أرضه وبقره مزارعة بنصف الخارج وقد شرط في ذلك عمل

 

ج / 23 ص -93-       رب الأرض والبقر مع صاحب البذر وكل واحد من هذين بانفراده مفسد للعقد فإذا حصل الخارج فهو كله لصاحب البذر ولصاحب البقر أجر مثل بقره وأجر مثل عمله وأجر مثل حصته من الأرض على صاحب البذر ثم يطيب نصف الزرع لصاحب البذر لأنه رباه في أرض نفسه ويأخذ من النصف الآخر نصف ما غرم لصاحب البقر من أجر مثل بقره وأجر عمله وجميع ما غرم له من أجر مثل الأرض ونصف البذر مع نصف ما أنفق فيه ويتصدق بالفضل لأنه ربى هذا النصف في أرض غيره بعقد فاسد وكذلك لو اشترطا لصاحب البذر ثلثي الخارج وللآخر ثلث الخارج فهذا وما سبق في التخريج سواء لاستوائهما في المعنى.
وإذا دفع الرجلان أرضا لهما وبذرا إلى رجل على أن يزرعها سنته هذه فما خرج فنصفه لأحد صاحبي الأرض وللآخر الثلث وللعامل السدس فهذه مزارعة فاسدة لأن أحد الدافعين صار مستأجرا للعامل أن يعمل في نصيبه بجزء مما يخرجه نصيب صاحبه فإنه شرط لنفسه نصف الخارج وذلك جميع ما تخرجه أرضه وبذره فعرفنا أنه جعل أجر العامل في نصيبه جزءا من الخارج من نصيب صاحبه وذلك لا يجوز والخارج بينهما نصفان على قدر بذرهما وللعامل أجر مثل عمله فيما عمل ولو كان العامل حين اشترط السدس سمى أن ذلك السدس من حصة أحدهما خاصة وهو الذي شرط لنفسه السدس فهذا تصريح بالمعنى المفسد للعقد فلا يزداد العقد به إلا فسادا.
ولو دفع رجل إلى رجل أرضا مزارعة بالنصف واشترط حفظ الزرع حتى يستحصد على رب الأرض والبذر من قبله أو من قبل العامل فالمزارعة فاسدة لأن هذا شرط يعدم التخلية بين الأرض وبين العامل في مدة المزارعة فيفسد به العقد ولو شرط الكراب على رب الأرض فإن كان البذر من قبل العامل فالعقد فاسد وإن كان من قبل رب الأرض فالعقد جائز لأنه إذا كان البذر من قبل العامل فالعقد في جانب رب الأرض يلزم بنفسه وهذا الشرط يعدم التخلية بعد لزوم العقد وإن كان من جانب رب الأرض فلزوم العقد في جانبه إنما يكون بعد إلقاء البذر في الأرض والكراب يسبق ذلك فكأنه استأجره لعمل الزراعة في أرض مكروبة وإذا كان النخيل بين رجلين فدفعه أحدهما إلى صاحبه سنته هذه على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما خرج من ذلك فهو بينهما للعامل ثلثاه وللآخر ثلثه فهذا فاسد لأن الذي شرط الثلث لنفسه استأجر صاحبه للعمل في نصيبه بثلث الخارج من نصيبه وهو إنما يعمل فيما هو شريك لنفسه فيه واستئجار أحد الشريكين صاحبه للعمل فيما هو فيه شريك باطل والخارج بينهما نصفان لا يتصدق واحد منهما بشيء منه ولا أجر للعامل على شريكه لأن قيام الشركة بينهما فيما يلاقيه عمله يمنع تسليم عمله إلى صاحبه.
ولو كان اشترطا أن الخارج نصفان جاز وكان العامل معينا لشريكه بعمله في نصيبه فإن كان الذي لم يعمل أمر العامل أن يشتري ما يلقح به النخل فاشتراه رجع عليه بنصف ثمن ذلك في المسألتين جميعا لأنه وكيل في شراء نصف ما يلقح به النخل له وقد أدى الثمن من عنده

 

ج / 23 ص -94-       فيرجع عليه بذلك بخلاف العمل فإنه لا قيمة للعمل إلا بتسمية العوض وتسليم تام إلى من يكون العمل له والشركة تمنع من ذلك وهو نظير عبد بين اثنين أمر أحدهما صاحبه بأن يشتري له نفقة فينفق عليه بنصف الثمن ولو استأجره ليحلق رأسه بأجر لم يستوجب الأجر على شريكه لهذا المعنى.
ثم ما يذكر من التلقيح في النخل أنواع معلومة عند أرباب النخيل منها ما يشتري فيدق ويذر على مواضع معلومة من النخيل ومنها ما يوجد من فحولة النخل مما يشبه الذكر من بني آدم ثم يشق النخلة التي تحمل فيغرز ذلك فيها على صورة الوطء بين الذكور والإناث ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من أهل المدينة فاستقبحه ونهاهم عن ذلك فأحشفت النخل في تلك السنة فقال عهدي بثمار نخيلكم على غير هذه الصفة قالوا نعم وإنما كانت تجيد الثمار بالتلقيح فانتهينا إذ منعتنا فأحشفت، فقال عليه الصلاة والسلام:
"إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فاعملوا به وإذا أتيتكم بشيء من أمور دنياكم فأنتم أبصر بدنياكم".
وقيل أن النخيل على طبع الآدمي فإن النخلة خلقت من فضل طينة آدم عليه الصلاة والسلام على ما قال عليه الصلاة والسلام:
"أكرموا النخلة فإنها عمتكم" ولهذا لا تثمر إلا بالتلقيح كما لا تحمل الأنثى من بنات آدم إلا بالوطء وإذا قطعت رأسها يبست من ساعتها كالآدمي إذا جز رأسه.
ولو اشترطا على أن يعملا جميعا فيه ويسقياه ويلقحاه بتلقيح من عندهما هذه السنة فما خرج من ذلك فلأحدهما بعينه الثلثان وللآخر الثلث فهذا فاسد لأن أحدهما شرط لنفسه جزءا من الخارج من نصيب صاحبه من غير أن يكون له فيه نخل ولا عمل أو استأجره صاحبه للعمل فيما هو شريك فيه إن كان عمله أكثر من عمل صاحبه.
ولو دفع نخلا إلى رجلين يقومان عليه ويلقحانه بتلقيح من عندهما على أن لأحد العاملين بعينه نصف الخارج وللآخر سدسه ولرب النخل ثلثه فهو جائز لأن رب النخل استأجرهما للعمل في نخيله وفاوت بينهما في الأجر وذلك جائز كما لو استأجر أحدهما للعمل بمائة درهم وللآخر بمائة دينار وكذلك لو اشترطوا أن لأحد العاملين بعينه أجر مائة درهم على رب النخيل وللآخر ثلث الخارج ولرب النخيل ثلثاه أو على عكس ذلك كان جائزا لأنه استأجر أحدهما بعينه بأجر مسمى وللآخر بعينه بجزء من الخارج وكل واحد من هذين العقدين يصح عند الإنفراد بهذه الصفة فكذا إذا جمع بينهما ولو اشترطوا لصاحب النخل الثلث ولأحد العاقدين بعينه الثلثين وللآخر أجرا مائة درهم على العامل الذي شرط له الثلثين كان هذا فاسدا لأن هذا بمنزلة رجل دفع إلى رجل نخلا له معاملة هذه السنة على أن لصاحب النخل الثلث وللعامل الثلثين وعلى أن يستأجر العامل فلانا يعمل معه بمائة درهم فهذا شرط فاسد والمعاملة تفسد به لأنه اشترط إجارة في إجارة.
ألا ترى أنه لو استأجر رجلا هذه السنة بمائة درهم يقوم على العمل في نخيله على أن

 

ج / 23 ص -95-       يستأجر فلانا يعمل معه بخمسين درهما كان العقد فاسدا لأنه اشترط إجارة في إجارة واشتراط أحد العقدين في الآخر يكون مفسدا لهما.
ولو دفع إلى رجل أرضا سنته هذه يزرعها ببذره وبقره بالنصف على أن يستأجر فلانا يعمل معه بمائة درهم كان فاسدا ولو كان البذر من قبل صاحب الأرض والشرط كما وصفنا كان العقد فاسدا أيضا هكذا ذكرنا هنا وقد تقدم قبل هذا أنه إذا كان البذر من قبل المزارع وشرطا أن يعمل فلان معه بثلث الخارج أن العقد جائز بين رب الأرض والمزارع وهو فاسد بين المزارع وبين فلان ولو كان البذر من قبل رب الأرض جاز بينه وبين العاملين جميعا وهنا أجاب في الفصلين جميعا بفساد العقد فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع لأنه قال هناك ويعمل معه فلان بثلث الخارج وحرف الواو للعطف فيكون هذا عطف عقد فاسد على عقد جائز لاشتراط أحد العقدين في الآخر وهناك قال وعلى أن يستأجر فلانا يعمل معه بمائة درهم وحرف على للشرط فيكون أحد العقدين مشروطا في الآخر والأصح أن يقول هناك المشروط للآخر على صاحب البذر بثلث الخارج فيكون العقد شركة من حيث الصورة وإنما يأخذ حكم الإجارة إذا فسدت والشركة لا تفسد بالشروط الفاسدة فلما غلب هناك معنى الشركة صححنا العقد بين رب الأرض والمزارع وإن فسد العقد بين المزارع والعامل الآخر لاشتراط عمله معه في المزارعة وهنا إنما شرطا للعامل أجرا مائة درهم فيكون المغلب هنا معنى الإجارة والذي كان بين رب الأرض والعامل إجارة في الحقيقة لأنه إما أن يكون إجارة للأرض أو استئجارا للعامل فيكون ذلك إجارة مشروطة في إجارة وذلك مفسد للعقد كما في المعاملة فإن العقد إجارة على كل حال لأن رب النخيل استأجر العامل ولهذا يلزم العقد بنفسه من الجانبين فيفسد العقد بينهما باشتراط إجارة في إجارة ثم الخارج كله لصاحب البذر فإن كان هو صاحب الأرض فعليه أجر مثل الزارع وأجر مثل الذي عمل معه لأنه كان أجيرا له فعمله كعمل المزارع بنفسه وعلى الزارع أجر مثل الذي عمل معه فيما عمل لا يزاد على مائة درهم لأنه قد رضي بمقدار المائة وإن كان البذر من قبل الزارع فعليه أجر مثل الأرض بالغا ما بلغ وأجر مثل الذي عمل معه لا يزاد على مائة درهم وهذا يتأتى على قول محمد رحمه الله فأما على قول أبي يوسف رحمه الله فلا يزاد بأجر مثل الأرض على نصف الخارج على قياس شركة الاحتطاب وكذلك الشجر يدفعه الرجل إلى رجلين معاملة على هذه السنة على أن نصف الخارج لصاحبه والنصف الباقي لأحد العاملين بعينه وللعامل الثاني على شريكه أجر مائة درهم في عمله فهو فاسد لاشتراط إجارة في إجارة.
يوضح جميع ما قلنا أن اشتراط عمل قيمته مائة درهم على العامل في جميع هذه المسائل سوى عمله بمنزلة اشتراط مائة درهم عليه لرب الأرض والنخل والشجر وذلك مفسد للعقد.

 

ج / 23 ص -96-       ولو كان نخل بين رجلين فدفعاه إلى رجل سنة يقوم عليه فما خرج فنصفه للعامل ثلثا ذلك النصف من نصيب أحدهما بعينه وثلثه من نصيب الآخر والباقي بين صاحبي النخل ثلثاه للذي شرط الثلث من نصيبه للعامل وثلثه للآخر فهو على ما اشترطوا لأن كل واحد منهما استأجر العامل بجزء معلوم من نصيبه أحدهما بثلثي نصيبه والآخر بثلث نصيبه وذلك مستقيم كما لو استأجره كل واحد منهما بأجر مسمى وكان المشروط على أحدهما أكثر من المشروط على الآخر ثم ما شرط على كل واحد منهما لنفسه إلا قدر الباقي من نصيبه فلا يتمكن فساد في هذا الشرط.
ولو اشترطوا أن نصف الخارج لأحد صاحبي النخل بعينه نصيبه الذي هو له والنصف الآخر للعامل ثلثاه ولصاحب النخل ثلثه فهذه معاملة فاسدة لأنهما استأجراه للعمل على أن يكون الأجر على أحدهما بعينه خاصة ثم الخارج بينهما نصفان لا يتصدقان بشيء منه وعليهما أجر مثل العامل في عمله لهما ولا يقال ينبغي أن لا يجب الأجر على الذي شرط النصف لنفسه لأنه ما أوجب للعامل شيئا من نصيبه وهذا لأنه استأجره للعمل ولكن شرط أن يكون الأجر على غيره وبهذا الشرط لا يبقى أصل الإجارة فعليه أجر مثله فيما عمل له.
ولو اشترطوا أن للعامل نصف الخارج ثلثه من نصيب أحدهما بعينه وثلثاه من نصيب الآخر وعلى أن النصف الباقي بين صاحبي النخل نصفين فهو فاسد لأن الذي شرط ثلثي نصيبه للعامل لا يبقى له من نصيبه إلا الثلث فاشتراط نصف ما بقي لنفسه يكون طمعا في غير مطمع وهو بهذا الشرط يصير كأنه جعل بعض ما جعله أجرة للعامل من نصيب صاحبه لأنه لا يتصور بقاء نصف النصف له مع استحقاق ثلثي النصف عليه فكأنه شرط للعامل ما زاد على نصف النصف أجرة له من نصيب صاحبه وقد ذكر قبل هذا في المزارعة نظير هذه المسألة وهو أن يكون الأرض والبذر منهما وقال اشتراط المناصفة في النصف الباقي باطل ويقسم النصف الباقي بينهما على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما وهنا أفسد العقد فأما أن يقال في الفصلين جميعا روايتان إذ لا فرق بينهما أو يقال هناك موضوع المسألة أن أصل البذر غير مشترك بينهما قبل الإلقاء في الأرض فالشرط الفاسد بينهما لا يفسد المزارعة بينهما وبين المزارع وهنا أصل النخل كان مشتركا بينهما قبل المعاملة وقد جعلا الشرط الفاسد بينهما مشروطا في المعاملة فيفسد به العقد.
ولو اشترطوا أن يقوم عليه العامل وأحد صاحبي النخل بعينه والخارج بينهم أثلاثا فهو فاسد لأنها معاملة تنعدم فيها التخلية والعامل من ربى النخيل استأجر العامل ببعض نصيبه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للعقد ولو اشترطوا للذي يعمل من صاحبي النخيل نصف الخارج والباقي بين الآخر والعامل نصفين كان جائزا لأن العامل من ربى النخيل عامل في نخيل نفسه إذ لا عقد بينه وبين العامل ولكن العامل أجر الآخر بنصف نصيبه ليعمل له وذلك جائز ولو اشترطوا أن يعملا جميعا مع العامل على أن الخارج بينهم أثلاث فهو فاسد،

 

ج / 23 ص -97-       لأن كل واحد منهما استأجر العامل ببعض نصيبه وشرط عمله معه فهذه معاملة لا يوجد فيها التخلية بين النخيل وبين العامل.
ولو كانا شرطا العمل على العامل وحده في سنة بعد هذه السنة أو بعد ثلاث سنين فهو جائز لأن المعاملة بمنزلة الإجارة وإضافة الإجارة إلى وقت معلوم في المستقبل جائز وعطف العقد الجائز على العقد الفاسد لا يفسد المعطوف لأنهما لا يجتمعان في وقت واحد وكذلك المزارعة على هذا من أيهما كان البذر لأن في المزارعة استئجار الأرض واستئجار العامل إن كان البذر من رب الأرض.
وإذا دفع الرجلان إلى الرجلين نخلا لهما معاملة هذه السنة على أن يقوما عليه فما خرج فللعاملين نصفه لواحد منهما بعينه ثلثا ذلك النصف وللآخر ثلثه والباقي بين صاحبي النخل نصفان فهو جائز على ما اشترطوا لأنهما استأجرا كل واحد منهما بجزء معلوم من نصيبهما وفاوتا بين العاملين في مقدار الأجر وذلك لا يمنع جواز العقد لأنهما يستحقانه بعملهما وقد يتفاوتان في العمل من حيث الحذاقة أو الكثرة ولو اشترطوا أن النصف بين العاملين نصفان وما بقي من صاحبي النخل ثلثه لأحدهما بعينه وثلثاه للآخر فالمعاملة فاسدة لأنه لم يبق لكل واحد منهما بعد ما اشترطا للعاملين إلا ربع الخارج فاشتراط أحدهما الزيادة على ذلك لنفسه من نصيب صاحبه طمع في غير مطمع إذ هو اشتراط أجرة بعض أجره عملها له على شريكه وذلك مفسد لعقد المعاملة ولو اشترطوا أن النصف للعاملين من نصيب أحدهما بعينه ثلثا ذلك النصف ومن نصيب الآخر ثلثه والباقي بين صاحبي النخيل ثلثاه للذي شرط الثلث وثلثه للذي شرط الثلثين فهو جائز على ما اشترطوا لأن كل واحد منهما استأجر العاملين للعمل في نصيبه بجزء معلوم من نصيبه وما شرط لنفسه إلا مقدار الباقي من نصيبه بعد ما شرط للعاملين وهذا ثابت بدون الشرط فلا يزيده الشرط إلا وكادة.
ولو اشترطوا أن النصف الباقي بين صاحبي النخل ثلثاه للذي شرط الثلثين وثلثه للذي شرط الثلث كانت المعاملة فاسدة لأن أحدهما شرط لنفسه زيادة على الباقي من نصيبه وذلك منه طمع في غير مطمع وهو بالشرط الثاني كأنه جعل بعض ما استوجبه للعاملين أجرة مشروطة على صاحبه ولو اشترطوا ثلث الخارج لأحد العاملين بعينه وثلثاه لصاحبي النخل وللعامل الآخر أجر مائة درهم على صاحبي النخل جاز لأنهما استأجرا أحد العاملين بثلث الخارج وهي معاملة صحيحة واستأجر الخارج الآخر للعمل بأجر مسمى وهي إجارة صحيحة ولو كانوا اشترطوا المائة على أحد صاحبي النخل بعينه كانت المعاملة فاسدة لأن الذي استأجره أحدهما بالدراهم إن كان استأجره لنفسه فعمل أجيره كعمله بنفسه واشتراط عمله في المعاملة يفسدها وإن كان استأجره ليعمل لهما فاشتراط أجر أجيرهما على أحدهما خاصة يكون مفسدا للعقد وقد جعلا ذلك مشروطا في المعاملة فالخارج لصاحبي النخل وللعامل على الذي شرط له الثلث أجر مثله بالغا ما بلغ على صاحبي النخل لأنهما استوفيا

 

ج / 23 ص -98-       عمله بعقد فاسد وتسمية الثلث له بعد فساد العقد لا يكون معتبرا عند محمد رحمه الله فكان له أجر مثله بالغا ما بلغ وللعامل الآخر أجر مثله لا يجاوز به مائة درهم على الذي شرط له المائة لأنه هو الذي عاقده عقد الإجارة والتزم البدل له بالتسمية ثم يرجع هو على شريكه بنصف ما لزمه من ذلك لأنه عمل لهما جميعا بحكم عقد فاسد وهو في نصيب صاحبه بمنزلة النائب عنه في الاستئجار فيرجع عليه بما يلحقه من الغرم في نصيبه.
ولو كانوا اشترطوا أن المائة على العامل الذي شرطوا له الثلث كانت المعاملة فاسدة وقد بينا هذا فيما إذا كان العامل واحدا أنه يفسد العقد لاشتراط الإجارة في الإجارة فكذلك إذا كان العامل اثنين والخارج لصاحبي النخل وعليهما للذي شرط له الثلث أجر مثله وأجر مثل صاحبه بالغا ما بلغ لأن صاحبه أجره وعمل أجيره يقع له فيكون كعمله بنفسه ولصاحبه عليه أجر مثله لا يجاوز به مائة درهم لأنه استوفى عمله بعقد فاسد وقد صح رضاه بقدر المائة فلا يستحق الزيادة على ذلك.
وإذا دفع رجل إلى رجلين أرضا له هذه السنة يزرعانها ببذرهما وعملهما فما أخرج الله تعالى منها فنصفه لأحد العاملين بعينه وثلثه للآخر والسدس لرب الأرض فهو فاسد لأنهما استأجرا الأرض وشرطا أن يكون جميع الأجر من نصيب أحدهما خاصة فإن الآخر شرط لنفسه جميع الخارج من بذره ولو اشترطوا لأحدهما أربعة أعشار الخارج وللآخر الثلث ولرب الأرض ما بقي فهو جائز لأن كل واحد منهما استأجر الأرض بجزء معلوم من نصيبه من الخارج أحدهما بخمسي نصيبه والآخر بثلث نصيبه وكما يجوز التفاوت في أجرة العاملين بالشرط فكذلك في إجارة الأرض منهما ولو اشترطوا أن نصف الخارج لأحدهما بعينه ولرب الأرض عليه مائة درهم وللآخر الثلث ولرب الأرض السدس جاز على ما اشترطوا لأن أحدهما استأجر نصف الأرض بأجر مسمى والآخر بجزء من الخارج وكل واحد منهما صحيح وبسبب اختلاف جنس الأجر أو منفعة العقد لا تتفرق الصفقة في حق صاحب الأرض ولا يتمكن الشيوع.
ولو اشترطوا على أن ما أخرجت الأرض بينهما أثلاث ولرب الأرض على أحدهما بعينه مائة درهم كان فاسدا لأن الذي التزم المائة جمع لصاحب الأرض من نصيبه بين أجر المسمى وبعض الخارج وذلك مفسد للعقد وكذلك لو اشترطوا المائة على رب الأرض لهما كان فاسدا لأن رب الأرض التزم لهما مع منفعة الأرض مائة درهم بمقابلة نصف الخارج ففيما يخص المائة من الخارج هو مشتري منهما وشراء المعدوم باطل ففسد العقد لذلك وإن اشترطا المائة على رب الأرض لأحدهما بعينه وقد اشترطوا أن الخارج بينهم أثلاث ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز المزارعة هذه مزارعة فاسدة والخارج لصاحبي البذر ولرب الأرض عليهما أجر مثل الأرض وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المزارعة بين رب الأرض والمزارع الذي لم يشرط عليه المال جائزة

 

ج / 23 ص -99-       فيأخذ هو الثلث ورب الأرض السدس ويكون نصف الخارج للمزارع الآخر وعليه لرب الأرض أجر مثل نصف أرضه لأن رب الأرض هنا إنما صار مشتريا بعض نصيب أحدهما بما شرط له من المائة فإنما تمكن المفسد فيما بينهما إلا أن من أصل أبي حنيفة رحمه الله أن الصفقة الواحدة إذا فسد بعضها فسد كلها ومن أصلهما أن الفساد يقتصر على ما وجدت فيه العلة المفسدة وقد بينا نظائره في البيوع وقيل بل هذا ينبني على إجارة المشاع فإن العقد لما فسد بين رب الأرض وبين الذي شرط عليه المائة فلو صح في حق العامل الآخر كان أجاره نصف الأرض مشاعا وذلك لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما والأول أصح لأن العقد مع الفساد منعقد عندنا فلا يتمكن بهذا المعنى الشيوع في أصل العقد والله أعلم.

باب مشاركة العامل مع آخر
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل لرجل نخلا له معاملة هذه السنة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما خرج منه فهو نصفان ولم يأمره أن يعمل في ذلك برأيه فدفعه العامل إلى رجل آخر معاملة على أن للآخر ثلث الخارج فعمل على ذلك فالخارج كله لصاحب النخل وللعامل الآخر على الأول أجر مثله ولا أجر للأول على رب النخل لأن العامل الأول خالف أمر رب النخل حين دفعه إلى غيره معاملة فإن رب النخيل إنما رضي بشركته في الخارج لا بشركة الثاني فهو حين أوجب الشركة في الخارج للعامل الثاني صار مخالفا لرب النخل فيما أمره به بمنزلة الغاصب فلا يستوجب عليه الأجر بعد ماصار غاصبا سواء أقام العمل بنفسه أو بنائبه ثم العامل الأول استأجر الثاني بثلث الخارج وقد حصل الخارج ولم يسلم له لاستحقاق رب النخل ذلك عليه فإنه متولد من نخله فلا يستوجب عليه بدون رضاه وهو ما رضى بأن يستحق الثاني شيئا من الخارج ففسد العقد بينهما لاستحقاق الأجرة فيرجع على العامل الأول بأجر مثله فإن هلك الثمر في يد العامل الآخر من غير عمله وهو في رؤوس النخل بآفة أصابته فلا ضمان عليه ولا على الأول لأنهما بمنزلة الغاصبين والزيادة المتولدة من عين المغصوب إذا تلفت من غير صنع أحد لا تكون مضمونة وإن هلك من عمل الأجير شيء فإن كان ذلك عملا خالف فيه ما أمره به العامل الأول فالضمان فيه لصاحب النخل على العامل الآخر دون الأول لأنه مباشر للإتلاف وإنما أتلفه بفعل أنشأه من عنده ولم يكن مأمورا به من جهة العامل الأول فيقتصر حكم ذلك الفعل عليه كولد المغصوبة إذا أتلفه متلف في يد الغاصب كان الضمان على المتلف دون الغاصب وإن هلك في يدي من عمل في شيء لم يخالف فيه ما أمره به الأول فلصاحب النخل أن يضمن أي العاملين شاء لأن الثاني وإن باشر الإتلاف ولكن كان عاملا ذلك العمل للأول حين استوجب بمعاملته الأجر عليه فيكون عمله كعمل الأول بنفسه فلصاحب العمل أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن الآخر رجع على الأول بما ضمن لأنه مغرور من جهته حين عمل له بأمره وإن ضمن الأول لم يرجع على الآخر لأنه حين ضمن صار كالمالك.

 

ج / 23 ص -100-    ولو كان رب النخل أمر الأول أن يعمل فيه برأيه والمسألة بحالها فدفعه إلى الآخر جاز لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم والإشراك والدفع إلى الغير معاملة من رأيه ثم نصف الخارج لرب النخل وثلثه للآخر كما أوجبه له الأول من نصيبه وبقي السدس للأول وهو طيب له لأنه استحق ذلك بالتزام العمل بالعقد ولو قال رب النخل للأول ما رزقك الله فيه من شيء فهو بيننا نصفان أو ما أخرج الله لك أو قال له اعمل فيه برأيك فدفعه إلى آخر معاملة بالثلث أو النصف كان جائزا والباقي بعد المشروط للآخر بين الأول وصاحب النخل نصفين كما شرطا لأن الذي رزق الله العامل الأول هو الباقي وقد شرطا المناصفة فيه.
ولو دفع إلى رجل أرضا وبذرا مزارعة على أن للمزارع من الخارج عشرين قفيزا ولرب الأرض ما بقي وقال له اعمل برأيك فيه أو لم يقل فدفع المزارع الأرض والبذر إلى رجل بالنصف مزارعة فعمل فالخارج لرب الأرض لأنه نماء بذره وقد كان العقد بينه وبين الأول فاسدا باشتراط مقدار معلوم له من الخارج بالعقدين فلا يصح منه إيجاب الشركة للثاني في الخارج سواء قال له اعمل فيه برأيك أو لم يقل لأنه أجيره لا شريكه في الخارج وإذا لم يصح منه إشراك الثاني في الخارج لم يصر مخالفا لصاحب الأرض والبذر فيما فعله فيكون الخارج كله لرب الأرض وللآخر على الأول أجر مثله لأنه استأجره بثلث الخارج وقد حصل الخارج ثم استحقه رب الأرض وللأول على رب الأرض أجر مثل ذلك العمل لأنه لما لم يصر مخالفا لرب الأرض كان عمل أجيره كعمله بنفسه وقد سلم ذلك لرب الأرض بعقد فاسد وكذلك إن لم تخرج الأرض شيئا لأن بفساد العقد الأول يفسد العقد الثاني فالثاني إنما أقام العمل بحكم إجارة فاسدة فيستوجب أجر المثل على من استأجره وإن لم تخرج الأرض شيئا كما لو استأجره رب الأرض إجارة فاسدة.
ولو دفع إليه الأرض والبذر مزارعة بالنصف وقال اعمل فيه برأيك أو لم يقل فدفعها إلى آخر مزارعة على أن للآخر منه عشرين قفيزا فالمزارعة بين الأول والثاني فاسدة وللثاني على الأول أجر مثل عمله والخارج بين الأول ورب الأرض نصفان لأن العقد بينهما صحيح وعمل أجيره كعمله بنفسه والأول لا يصير مخالفا وإن لم يكن رب الأرض قال له اعمل فيه برأيك لأنه إنما يصير مخالفا بإيجاب الشركة للغير في الخارج ولم يوجد ذلك.
ولو دفع إليه أرضا على أن يزرعها ببذره وعمله بعشرين قفيزا من الخارج والباقي للمزارع أو كان شرط أقفزة للمزارع والباقي لرب الأرض فدفعها المزارع إلى آخر مزارعة بالنصف والبذر من عند الأول أو من عند الآخر فعمل فالخارج بين المزارعين نصفان لأن الأول مستأجر للأرض إجارة فاسدة فيصح منه استئجار العامل للعمل فيه أو إجارتها من غيره بالنصف إذا كان البذر من عند الآخر لأن الفاسد من العقد معتبر بالجائز في حكم التصرف فالخارج بين المزارعين نصفان ولرب الأرض أجر مثل أرضه على الأول ولو لم يعمل الآخر في الأرض بعد ما تعاقدا المزارعة حتى أراد رب الأرض أخذ الأرض وبعض ما

 

 

ج / 23 ص -101-    تعاقدا عليه كان له ذلك لأن العقد بينه وبين الأول إجارة فاسدة والإجارة تنقض بالعذر فإن كان البذر في العقد الثاني من عند الآخر ينقض العقد الثاني بينه وبين الآخر لاستحقاق نقض العقد الأول بسبب الفساد وإن كان البذر من عند الأول ينقض استئجار الأول للثاني لفساد العقد أيضا فإن كان الآخر قد زرع لم يكن لرب الأرض أخذ أرضه حتى يستحصد الزرع لأن المزارع الآخر محق في إلقاء البذر في الأرض وفي القلع إضرار به من حيث إبطال حقه فيتأخر ذلك إلى أن يستحصد.
ولو كان رب الأرض دفعها إلى الأول مزارعة بالنصف وقال له اعمل فيها برأيك أو لم يقل فدفعها الأول وبذرا معها إلى الثاني مزارعة بعشرين قفيزا من الخارج شرطاه للثاني أو للأول فالعقد الثاني فاسد وللآخر على الأول أجر عمله والخارج بين رب الأرض وبين الأول نصفان لأن إقامته العمل بأجيره كإقامته بنفسه واستئجار الأرض بنصف الخارج كان صحيحا بينهما ولو كان البذر من الآخر كان الخارج كله له لأن العقد بينه وبين الأول فاسد والخارج نماء بذره وعليه للأول أجر مثل الأرض لأن الأول أجر الأرض منه إجارة فاسدة وقد استوفى منافعها وعلى الأول لرب الأرض أجر مثل الأرض لأنه أجر الأرض بنصف الخارج وقد حصل الخارج ثم استحقه الآخر فيرجع رب الأرض على الأول بأجر مثل أرضه.
ولو دفع إلى رجل نخلا له معاملة بالنصف وقال له اعمل فيه برأيك أو لم يقل فدفعه العامل إلى آخر معاملة بعشرين قفيزا من الخارج فالخارج بين الأول وصاحب النخل نصفان وللآخر على الأول أجر مثله لفساد العقد الذي جرى بينه وبين الآخر ثم الأول هنا لم يصر مخالفا لرب النخل بالدفع إلى الثاني وإنما يصير مخالفا بإيجاب الشركة للغير في الخارج ولم يوجد حين وجد العقد الثاني وكان عمل أجيره كعمله بنفسه فلهذا كان الخارج بينه وبين صاحب النخل نصفين.
ولو كان الشرط في المعاملة الأولى عشرين قفيزا لأحدهما بعينه وفي الثانية النصف فالخارج لصاحب النخل لأن العقد الأول فاسد فيفسد به العقد الثاني إذ الأول ليس بشريك في الخارج فلا يكون له أن يوجب الشركة لغيره في الخارج وإذا لم تجز الشركة للثاني لم يصر الأول مخالفا فيكون الخارج كله لصاحب النخل وللآخر على الأول أجر عمله وللأول على صاحب النخل أجر ما عمل الآخر ولا ضمان عليهما في ذلك لانعدام سبب الضمان وهو الخلاف والله أعلم.

باب مزارعة المرتد
قال رحمه الله: وإذا دفع المرتد أرضه وبذره إلى رجل مزارعة بالنصف فعمل على ذلك وخرج الزرع فإن أسلم فهو على ما اشترطا وإن قتل على ردته فالخارج للعامل وعليه ضمان البذر ونقصان الأرض للدافع في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز

 

ج / 23 ص -102-    المزارعة أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج وعلى قولهما هذه المزارعة صحيحة والخارج بينهما على الشرط وهو بناء على اختلافهم في تصرفات المرتد عندهما تنفذ تصرفاته كما تنفذ من المسلم وعند أبي حنيفة يوقف لحق ورثته فإن أسلم نفذ عقد المزارعة بينهما فكان الخارج على الشرط وإن قتل على ردته بطل العقد وبطل أيضا إذنه للعامل في إلقاء البذر في الأرض لأن الحق في ماله لورثته ولم يوجد منهم الرضا بذلك فيصير العامل بمنزلة الغاصب للأرض والبذر فيكون عليه ضمان البذر ونقصان الأرض أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج والخارج كله له لأنه ملك البذر بالضمان وإن كان البذر على العامل وقتل المرتد على ردته فإن كان في الأرض نقصان غرم العامل نقصان الأرض لأن إجارة الأرض بطلت حين قتل على ردته وكذلك الإذن الثابت في ضمنه فيكون صاحب الأرض كالغاصب للأرض والزرع كله له وإن لم يكن في الأرض نقصان فالقياس أن يكون الخارج له ولا شيء عليه لأنه بمنزلة الغاصب والغاصب للأرض لا يضمن شيئا إلا إذا لم يتمكن فيها نقصان.
وفي الاستحسان: يكون الخارج على الشرط بين العامل وورثة المرتد لأن إبطال عقده كان لحق ورثته في ماله والنظر للورثة هنا في تنفيذ العقد لأنه إذا نفذ العقد سلم لهم نصف الخارج وإذا بطل العقد لم يكن لهم شيء فنفذ عقده استحسانا بخلاف الأول فهناك لو نفذ العقد لم يجب لهم نقصان الأرض وربما كان نقصان الأرض أنفع لهم من نصف الخارج وهو نظير العبد المحجور عليه إذا أجر نفسه للعمل فإن هلك في العمل كان المستأجر ضامنا قيمته ولا أجر عليه وإن سلم وجب الأجر استحسانا لأن ذلك أنفع للمولى وهذا القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة رحمه الله وأما عندهما فالمزارعة صحيحة فإن كان المرتد هو المزارع والبذر منه فالخارج له ولا شيء لرب الأرض من نقصان الأرض والبذر وغيره إذا قتل المرتد في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن رب الأرض سلطه على عمل الزراعة وهو تسليط صحيح وشرط لنفسه عليه عوضا بمقابلته وقد بطل التزامه للعوض حين قتل على ردته لحق ورثته فلهذا كان الخارج لورثة المرتد لأنه نماء بذر المرتد ولا شيء عليهم لرب الأرض وإن كان البذر من قبل الدافع فالخارج على الشرط في قولهم جميعا لأن صاحب الأرض مستأجر للمرتد بنصف الخارج وحق ورثته لا يتعلق بمنافعه.
ألا ترى أنه لو أعان غيره لم يكن لورثته عليه سبيل ولأن المنفعة للورثة في تصحيح العقد هنا فإنه لو لم تصح إجارته نفسه لم يكن لورثته من الخارج شيء والحجر بسبب الردة لا يكون فوق الحجر بسبب الرق.
ولو كانا جميعا مرتدين والبذر من الدافع فالخارج للعامل وعليه غرم البذر ونقصان الأرض لأن العامل صار كالغاصب للأرض والبذر حين لم يصح أمر الدافع إياه بالزراعة فيكون الخارج له وعليه غرم البذر ونقصان الأرض لورثة الدافع ولو أسلما أو أسلم صاحب البذر كان الخارج بينهما على الشرط كما لو كان مسلما عند العقد وهذا لأن العامل أجير

 

ج / 23 ص -103-    له فإسلام من استأجره يكفي لفساد العقد سواء أسلم هو أو لم يسلم وإن كان البذر من العامل وقد قتل على الردة كان الخارج له وعليه نقصان الأرض لأن إذن الدافع له في عمل الزراعة غير صحيح في حق ورثته فيغرم لهم نقصان الأرض وإن لم يكن فيها نقصان فلا شيء لورثة رب الأرض لأن استئجار العامل الأرض بنصف الخارج من بذره باطل لحق ورثته وكذلك إذا أسلم رب الأرض فهو بمنزلة ما لو كان مسلما في الابتداء.
وإن أسلما أو أسلم المزارع وقتل الآخر على الردة ضمن المزارع نقصان الأرض لورثة المقتول على الردة لأن أمره إياه بالمزارعة غير صحيح في حق الورثة وإن لم ينقصها شيئا فالقياس فيه أن الخارج للمزارع ولا شيء لرب الأرض ولا لورثته لبطلان العقد حين قتل رب الأرض على ردته وفي الاستحسان الخارج بينهما على الشرط لأن معنى النظر لورثة المقتول في تنفيذ العقد هنا كما بينا وعند أبي يوسف ومحمد الخارج بينهما على الشرط إن قتلا أو أسلما أو لحقا بدار الحرب أو ماتا وكذلك قول أبي حنيفة رحمه الله في مزارعة المرتدة ومعاملتها لأن تصرفها بعد الردة ينفذ كما ينفذ من المسلمة بخلاف المرتد وإذا دفع المرتد إلى مرتد أو مسلم نخيلا له معاملة بالنصف فعمل على ذلك ثم قتل صاحب النخيل على ردته فالخارج لورثته لأنه تولد من نخل هم أحق به ولا شيء للعامل لأن المرتد كان استأجره ببعض الخارج وقد بطل استئجاره حين قتل على ردته لحق ورثته.
ولو كان صاحب النخيل مسلما والعامل مرتدا فقتل على ردته بعد ما عمل أو مات أو لحق بدار الحرب أو أسلم فهو سواء والخارج بينهما على الشرط لأن المرتد أجر نفسه ببعض الخارج ولا حق لورثته في منافعه وفي تنفيذ هذا العقد منفعة ورثته. ولو كانا عقدا المزارعة والمعاملة في جميع هذه الوجوه وهما مسلمان والبذر من الدافع أو العامل ثم ارتد أحدهما أيهما كان ثم عمل العامل وأدرك الزرع ثم قتل على الردة كان الخارج بينهما على الشرط عندهم جميعا لأن ردته إنما توجب التوقف في التصرفات التي ينشئها بعد الردة فأما ما نفذ من تصرفاته قبل الردة فلا يتغير حكمه بردته فوجود الردة في حكم تلك التصرفات كعدمها.

باب مزارعة الحربي
قال رحمه الله: وإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان فدفع إليه رجل أرضا له وبذرا مزارعة هذه السنة بالنصف فهو جائز والخارج بينهما على ما اشترطا لأنه التزم أحكامنا في المعاملات ما دام في ديارنا والمزارعة إجازة أو شركة وكل واحدة منهما معاملة تصح بين المسلم والحربي في هذه المدة لأن الحول كامل لاستيفاء الجزية والكافر لا يمكن من المقام في دارنا تمام مدة استيفاء الجزية بغير جزية فيتقدم إليه في الخروج فإن أقام سنة بعد ما تقدم إليه وضع عليه الخراج وجعله ذميا ولم يدعه يرجع إلى دار الحرب.
ولو اشترى الحربي المستأمن أرضا عشرية أو خراجية فدفعها إلى مسلم مزارعة جاز والخارج بينهما على ما اشترطا ويوضع عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله في أرضه

 

ج / 23 ص -104-    الخراج ولا يترك أن يخرج إلى دار الحرب بل يجعله ذميا لأن خراج الرءوس تبع لخراج الأراضي فإذا التزم خراج الأرض كان ملتزما خراج الرأس أيضا والاختلاف بينه وبين صاحبيه رحمهم الله فيما إذا كانت الأرض عشرية وقد تقدم بيانه في كتاب الزكاة فيما إذا كان المشتري ذميا فكذلك إذا كان المشتري مستأمنا ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فاشترى أرضا من أهل الحرب فدفعها إلى حربي مزارعة أو أخذ المسلم أرض الحربي مزارعة بالنصف جاز لأنه يعاملهم ما دام في دار الحرب بالشركة والإجارة والمزارعة لا يخرج منها.
ولو كان اشترط لأحدهما عشرون قفيزا من الخارج جاز في قول أبي حنيفة ومحمد يأخذها من سميت له من الخارج والباقي للآخر إن بقي شيء وفي قول أبي يوسف المزارعة فاسدة والخارج لصاحب البذر وللآخر الأجر إذا أسلم وخرج إلينا وهو بناء على أن العقود التي تفسد بين المسلمين كعقد الربا هل يجري بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد بيناه في كتاب الصرف والمزارعة بين المسلمين التاجرين في دار الحرب بمنزلتها في دار الإسلام لأنهما مخاطبان بأحكام الإسلام ومعنى الإحراز في مالهما قائم ومباشرتهما المزارعة في دار الحرب وفي دار الإسلام سواء فيما يصح ويفسد والمزارعة بين مسلم تاجر في دار الحرب وبين رجل أسلم هناك جائزة بالنصف وكذا بعشرين قفيزا من الخارج لأحدهما في قول أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف ومحمد بمنزلة عقد الربا بين التاجر في دار الحرب والذي أسلم هناك وبين اللذين أسلما ولم يهاجرا.
وإذا اشترى المسلم أو التاجر أرضا في دار الحرب فدفعها إلى حربي مزارعة بالنصف فلما استحصد الزرع ظهر المسلمون على تلك الدار فالزرع والأرض كلهما لمن افتتحها لأن الأرض وإن كانت مملوكة للمسلم فهي بقعة من بقاع دار الحرب فتصير غنيمة لظهور المسلمين على الدار والزرع قبل الحصاد تبع للأرض لاتصاله بها ولهذا يستحق بالشفعة.
ولو كان الزرع حصد ولم يحمل من الأرض حتى ظهروا على الدار كانت الأرض ونصيب الحربي من الزرع فيئا للمسلم نصيبه من الزرع لأن التبعية زالت بالحصاد وصارت كسائر المنقولات فنصيب الحربي من ذلك يصير غنيمة كسائر أمواله ونصيب المسلم لا يصير غنيمة كسائر أمواله من المنقولات والدليل على زوال التبعية حكم الشفعة فإن الزرع المحصود لا يستحق بالشفعة وإن لم يحمل من الأرض ومن أيهما كان البذر فالجواب سواء وكذلك لو كان صاحب الأرض هو الحربي والزارع هو المسلم فإن كان الزرع لم يحصد فترك الإمام أهلها وتركه في أيديهم يؤدون الخراج كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل السواد كانت الأرض لصاحبها أيهما كان والزرع بينهما على ما اشترطا لأن الإمام قرر ملكهما فيه بالمن وإذا جاز ذلك في حصة الحربي ففي حصة المسلم أولى.
ولو دخل مسلمان دار الحرب بأمان فاشترى أحدهما أرضا فدفعها إلى صاحبه مزارعة بالنصف فاستحصد الزرع ولم يحصد حتى ظهر المسلمون على الدار فالأرض والزرع فيء لما

 

ج / 23 ص -105-    قلنا وإن ظهروا علينا بعد ما حصد الزرع فالأرض فيء والزرع بينهما على ما اشترطا لأنه منقول مشترك بين مسلمين في دار الحرب فلا يصير غنيمة بالظهور على الدار وإن دفعها المسلم إلى حربي مزارعة بالنصف والبذر من أحدهما بعينه والعمل عليهما جميعا فأخرجت الأرض الزرع ثم أسلم أهل الدار وقد استحصد الزرع أو لم يحصد جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله والخارج بينهما على الشرط وفي قول أبي يوسف رحمه الله الخراج لصاحب البذر وللآخر الأجر وهذا لأن اشتراط عمل صاحب الأرض مع المزارع في المزارعة إنما يفسد العقد في دار الإسلام فأما في دار الحرب بين المسلم والحربي فهو على الخلاف الذي بينا ولو لم يسلم أهل الدار ولكن ظهر المسلمون على الدار كانت الأرض وما فيها فيئا ولا شيء على صاحبه لأحدهما من أجر ولا غيره لأن هذه المعاملة كانت في دار الحرب فلا يطالب أحدهما صاحبه بشيء منه بعد ما ظهر المسلمون على الدار لأن الأرض إن كانت للحربي فقد صارت غنيمة وكذلك إن كانت للمسلم فلا يكون له أن يطالب صاحبه بأجرها ونفس الحربي تبدلت بالرق فلا تتوجه له المطالبة بالأجر على المسلم ولا للمسلم عليه.
وإن تركهم الإمام في أرضهم كما ترك عمر رضي الله عنه أهل السواد فهذا بمنزلة إسلامهم عليها لأنه يقرر ملكهم في أراضيهم وحريتهم في رقابهم بالمن كما يتقرر ذلك بالإسلام لو أسلموا والمعاملة كالمزارعة في جميع ما ذكرنا وإن كانت المزارعة في دار الحرب بين الحربيين بالنصف أو بأقفزة مسماة من الخارج فأسلم أهل الدار قبل أن يحصد الزرع وقد استحصد أو بعد ما حصد جاز على ما اشترطا لأنهما باشرا العقد حين لم يكونا ملتزمين لأحكام الإسلام وقد كان الخارج بينهما على ما اشترطا قبل إسلامهما فيتأكد ملكهما بالإسلام.
ولو أسلم أهل الدار قبل أن يزرع ثم زرع كانت المزارعة فاسدة على شرط الأقفزة المسماة والخارج لصاحب البذر لأن العقد لا يتم من الجانبين قبل إلقاء البذر في الأرض فالإسلام الطارئ قبل تمام العقد كالمقترن بأصل العقد ولو كان زرع ثم أسلموا وهو بقل لم يسبل ثم عمل فيه بعد ذلك حتى استحصد كان فاسدا أيضا لأن المقصود هو الحب والإسلام حصل قبل حصول ما هو المقصود وهو الشركة بينهما في الحب الذي هو مقصود بخلاف ما إذا أسلموا بعد الاستحصاد وهذا لأن كل حال يجوز ابتداء عقد المزارعة فيها فإسلامهم في تلك الحالة يفسد المزارعة بشرط عشرين قفيزا وكل حالة لا يجوز ابتداء عقد المزارعة فيها فإسلامهم في تلك الحالة لا يؤثر في العقد اعتبارا لحالة البقاء بحالة الابتداء وما دام الزرع بقلا فابتداء المزارعة فيه يصح فإذا أسلموا وكان العقد بشرط عشرين قفيزا فسد بخلاف ما بعد الاستحصاد والله أعلم.

باب مزارعة الصبي والعبد
قال رحمه الله: والعبد المأذون له في التجارة بمنزلة الحر في المزارعة وكذلك الصبي الحر المأذون له في التجارة لأن عقد المزارعة من عقود التجارة فإنه استئجار للأرض أو

 

ج / 23 ص -106-    للعامل أو هو عقد شركة في الخارج والتجار يتعاملون به فالمأذون فيه كالحر البالغ فإن زارع العبد إنسانا فلم يزرع حتى حجر عليه مولاه فحيث كان للحر أن يمتنع عن المضي في المزارعة فلمولى العبد أن يمتنع منه ويحجر عليه وحيث لم يكن للمولى منع العبد منه ولا يبطل العقد بحجر المولى عليه لأن منع المولى إياه بالحجر كامتناعه بنفسه وله أن يمتنع إذا كان البذر من قبله وليس له أن يمتنع إذا كان البذر من قبل الآخر فكذلك منع المولى إياه بالحجر عليه وهذا لأن الحجر لا يبطل العقد اللازم في حالة الإذن ولا يمكن المولى من إبطاله وما لم يكن لازما فللمولى أن يمتنع من التزامه بعد الحجر إلا أنه إذا كان البذر والأرض من العبد فحجر المولى عليه قبل الزراعة فله أن يمنع الزارع من الزراعة.
وإذا أخذ العبد أرض الغير مزارعة ليزرعها ببذره ثم حجر المولى عليه فنفس الحجر منع منه للمزارعة وينفسخ العقد به لأن صاحب الأرض والبذر إذا كان هو العبد ففي إلقاء البذر في الأرض إتلاف له وللمولى أن لا يرضى بذلك فما لم يمتنع المزارع من إلقاء البذر في الأرض لا ينفسخ العقد وإذا كان العبد هو المزارع ببذره فبنفس الحجر فات المعقود عليه فإن العبد لا يملك البذر بعد ذلك بإلقائه في الأرض ولا في منافعه بإقامة عمل الزراعة بدون إذن المولى فلهذا جعل نفس الحجر عليه فسخا للزراعة وكذلك الصبي الحر يحجر عليه أبوه أو وصيه وكذلك المعاملة في الاستئجار إلا أن في المعاملة الحجر بعد العقد لا يبطل العقد أيهما كان العامل لأن المعاملة تلزم بنفسها من الجانبين ولو لم يحجر عليه ولكنه نهاه أو نهى مزارعه عن العمل بعد العقد أو نهاه عن العقد قبل أن يعقد كان نهيه باطلا وله أن يعقد ويعمل وكذلك الصبي لأن هذا حجر خاص في إذن عام وهو باطل.
ألا ترى: أن عند ابتداء الإذن لو استثنى المزارعة لم يصح استثناؤه فكذلك بعد الإذن إذا نهاه عن العقد أو المضي عليه من غير أن يحجر عليه.
فإذا اشترى الصبي التاجر أرضا ثم حجر عليه أبوه فدفعها مزارعة إلى رجل بالنصف يزرعها ببذره وعمله فالخارج للعامل وعليه نقصان الأرض لأن إذن الصبي في زراعة الأرض بعد الحجر باطل فكان العامل بمنزلة الغاصب فعليه نقصان الأرض والخارج له وإن لم يتمكن في الأرض نقصان كان الخارج بينهما على الشرط استحسانا لأن منفعة الصبي في تصحيح العقد هنا فإنه لو بطل لم يسلم له شيء ولا يحجر الصبي عما يتمحض منفعته من العقود كقبول الهبة ولا يتصدق واحد منهما بشيء لأن العقد لما صح منه كان هو في ذلك كالبالغ أو المأذون.
ولو كان البذر من قبل الدافع كان الخارج للعامل وعليه غرم البذر في الوجهين جميعا أو نقصان الأرض إن كان فيها نقصان سواء أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن إذن الصبي في الزراعة وإلقاء بذره في الأرض باطل فيكون المزارع كالغاصب للأرض والبذر منه فعليه غرم البذر ونقصان الأرض والخارج له ويتصدق بالفضل لأنه حصل له بسبب حرام

 

ج / 23 ص -107-    شرعا وإذا دفع الحر إلى العبد المحجور عليه أرضا وبذرا مزارعة بالنصف سنته هذه فزرعها فحصل الخارج وسلم العامل فالخارج بينهما على الشرط لأنه استأجر العبد للعمل بالنصف الخارج وقد بينا أن العبد المحجور عليه إذا أجر نفسه وسلم من العمل وجب له الأجر استحسانا وإن مات في العمل فصاحب الأرض والبذر ضامن لقيمته لأنه غاصب له بالاستعمال والزرع كله له سواء مات قبل الاستحصاد أو بعده لأنه يملك العبد بالضمان من حين دخل في ضمانه فإنما أقام عمل الزراعة بعبد نفسه فالخارج كله له ويطيب له ذلك لأنه ربى زرعه في أرض نفسه ولكونه غاصبا للعبد لا يتمكن الخبث في الزرع.
وإن مات الصبي الحر من عمل الزراعة بعد ما استحصد الزرع فالزرع بينهما على ما اشترطا طيب لهما كما لو أسلم الصبي لأن باستحصاد الزرع تأكدت الشركة بينهما في الخارج والصبي لا يملك بالضمان فإن مات وجب على عاقلة صاحب الأرض دية الصبي لكونه سببا لإتلافه على وجه هو متعد فيه لا يتغير حكم الشركة بينهما في الخارج بخلاف العبد وكذلك الحكم في المعاملة في النخيل والأشجار.
ولو كان البذر من العامل وهو حر كان الخارج كله للعامل لأنه نماء بذره اكتسبه بعمله والعبد في الاكتساب كالحر وإن كان محجورا فلا شيء لرب الأرض من نقصان ولا غيره ما لم يعتق لأنه شرط بعض الخارج لصاحب الأرض بعقده وذلك لا يصح من المحجور عليه حال رقه وإنما زرع الأرض بتسليط صاحب الأرض إياه على ذلك فلا يغرم نقصان الأرض ما لم يعتق العبد فإذا عتق رجع عليه رب الأرض بأجر مثل أرضه لأنه كان شرط له نصف الخارج بمقابلة منفعة الأرض وقد استوفى المنفعة وحصل الخارج ثم استحقه المولى فيكون عليه أجر مثل أرضه بعد العتق ولا يرجع على الصبي بشيء وإن كثر لأن التزامه بالعقد غير صحيح في حقه في الحال ولا بعد البلوغ وإن مات العبد أو الصبي في عمل الأرض لم يضمنه رب الأرض لأنهما عملا لأنفسهما فلا يكون صاحب الأرض مستعملا للعبد ولا متسببا لإتلاف الصبي وإن كانت الأرض لم تخرج شيئا فلا شيء على رب الأرض من ضمان بذرهما ولا غيره لأنهما عملا لأنفسهما في إلقاء البذر في الأرض ولم يكن من صاحب الأرض عمل في بذرهما تسببا ولا مباشرة.
وإذا حجر الرجل على عبده أو ابنه وفي يده نخل فدفعه إلى رجل معاملة بالنصف فالخارج كله لصاحب النخل ولا شيء للعامل لأنهما شرطا للعامل نصف الخارج بمقابلة عمله وذلك باطل من الصبي ومن العبد المحجور ما لم يعتق فإذا عتق العبد كان عليه أجر مثل العامل لأن التزام العبد في حق نفسه صحيح وقد استحق المولى الخارج بعد ما حصل الخارج وإذا دفع العبد المحجور عليه أرضا مما كان في يده أو أرضا أخذها من أراضي مولاه إلى رجل يزرعها ببذره وعمله هذه السنة بالنصف فزرعها العامل فأخرجت زرعا كثيرا ونقص الزرع الأرض فالخارج للعامل وعليه نقصان الأرض لرب الأرض لأنه في حق المولى بمنزلة

 

ج / 23 ص -108-    الغاصب للأرض فإن عقد المزارعة من المحجور عليه صحيح في حق المولى فإن عتق العبد رجع العامل عليه بما أدى إلى مولاه من نقصان الأرض لأنه صار مغرورا من جهة العبد بمباشرته عقد الضمان والعبد يؤاخذ بضمان الغرور بعد العتق بمنزلة الكفالة ثم يأخذ العبد من المزارع نصف ما أخرجت الأرض لأن العقد صح بينهما في حقهما فيكون الخارج بينهما على الشرط فإذا أخذ نصف الخارج باعه واستوفى من ثمنه ما غرمه للمزارع فإن كان فيه فضل كان لمولاه لأن ذلك كسب اكتسبه في حال رقه وما اكتسب العبد في حال رقه يقضي دينه منه فإن فضل منه شيء فهو للمولى.
وإن قال المولى قبل أن يعتق العبد أنا آخذ نصف ما أخرجت الأرض ولا أضمن العامل نقصان الأرض كان له ذلك إن عتق العبد أو لم يعتق لأن العقد كان صحيحا بين العبد والمزارع وإنما امتنع بعوده في حق المولى لدفع الضرر عنه أو لانعدام الرضا منه به فيكون رضاه به في الانتهاء بمنزلة الرضا به في الابتداء وإن كانت الأرض لم تنقصها الزراعة شيئا فالخارج بين المولى والمزارع نصفان لأن في تصحيح هذا العقد منفعة للمولى وهو سلامة نصف الخارج له وإنما كان يمتنع صحته في حقه لدفع الضرر ولا ضرر هنا.
وإذا دفع العبد المحجور عليه إلى رجل أرضا من أرض مولاه وبذرا من بذر مولاه أو ما كان من تجارته قبل أن يحجر عليه مزارعة بالنصف فزرعها المزارع فأخرجت زرعا أو لم تخرج وقد نقص الأرض الزرع أو لم ينقصها فللمولى أن يضمن المزارع بذره ونقصانه أرضه لأن الزارع غاصب لذلك في حق المولى فإن أذن العبد المحجور عليه بإلقاء البذر في الأرض في حق المولى باطل فإن ضمنه ذلك ثم عتق العبد رجع عليه المزارع بما ضمن من ذلك لأجل الغرور وكان نصف الخارج للعبد يستوفي منه ما ضمن ويكون الفضل لمولاه وإن شاء المولى أخذ نصف الزرع فكان له ولم يضمن الزارع من البذر والنقصان شيئا لأن العقد صحيح فيما بين العبد والمزارع وإنما كان لا ينفذ في حق المولى لانعدام رضاه به فإذا رضى به تم العقد والله أعلم.

باب الكفالة في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا له يزرعها هذه السنة بالنصف وضمن له رجل الزراعة من الزارع فالضمان باطل لأن المزارع مستأجر للأرض عامل والمزارعة لنفسه إلا أن يكون العمل مستحقا لرب الأرض عليه وإنما يصح الضمان بما هو مستحق على الأصيل للمضمون له فإذا كان الضمان شرطا في المزارعة فالمزارعة فاسدة لأنها استئجار للأرض فتبطل بالشرط الفاسد وإن لم يجعلاه شرطا في المزارعة صحت المزارعة والضمان باطل وإن كان البذر من رب الأرض جاز الضمان والمزارعة في الوجهين جميعا لأن رب الأرض مستأجر للعامل وقد صارت إقامة العمل مستحقة عليه لرب الأرض وهو مما تجري فيه النيابة في تسليمه فيصح التزامه بالكفالة شرطا في العقد أو مقصودا بعد عقد المزارعة

 

ج / 23 ص -109-    بمنزلة الكفالة بالأجرة والثمن في البيع وإن تعنت الزارع أخذ الكفيل بالعمل لأنه التزم المطالبة بإيفاء ما كان على الأصيل وهو عمل الزراعة فإذا عمل وبلغ الزرع ثم ظهر المزارع كان الخارج بينهما على ما اشترطا لأن الكفيل كان نائبا عنه في إقامة العمل وللكفيل أجر مثل عمله إن كان كفل بأمره لأنه التزم العمل بأمره وأوفاه فيرجع عليه بمثله ومثله أجر المثل كالكفيل بالدين إذا أدى.
وإن كان الشرط على الزارع أن يعمل بنفسه لم يجز الضمان لأن ما التزمه العامل هنا لا تجري النيابة في إيفائه وهو عمل المزارع بنفسه إذ ليس في وسع الكفيل إبقاء ذلك فيبطل الضمان وتبطل المزارعة أيضا إن كان الضمان شرطا فيها والمعاملة في جميع ذلك بمنزلة المزارعة.
ولو كان الكفيل كفل لرب الأرض بحصته مما تخرج الأرض والبذر من صاحب الأرض أو من العامل فالكفالة باطلة لأن نصيب رب الأرض من الزرع أمانة في يد المزارع سواء كان البذر من قبله أو من قبل رب الأرض حتى لا يضمن ما يهلك منه بغير صنعه والكفالة بالأمانة لا تصح بمنزلة الكفالة بالوديعة إنما تصح الكفالة بما هو مضمون التسليم على الأصل ثم تبطل المزارعة إن كانت الكفالة شرطا فيها والمعاملة في هذا كالمزارعة ولو كفل رجل لأحدهما عن صاحبه بحصته مما تخرج الأرض إن استهلكها صاحبها فإن كان ذلك شرطا في أصل المزارعة فالمزارعة فاسدة وإن لم يكن شرطا فيها فالمزارعة جائزة والكفالة جائزة لأنها أضيفت إلى سبب وجوب الضمان وهو الاستهلاك وإضافة الكفالة إلى سبب وجوب الضمان صحيحة إلا أن هذا دين يجب لأحدهما على صاحبه لا بسبب عقد المزارعة وعقد المزارعة بين اثنين بشرط أن يعطي أحدهما صاحبه كفيلا بدين آخر وجب له عليه يكون صحيحا كعقد البيع على هذا الشرط فإذا شرطا الكفالة في المزارعة فسدت المزارعة لهذا وإن لم يكن شرطا فيها جازت المزارعة والكفالة فإن استهلك المضمون منه شيئا ضمنه الكفيل ويأخذ به الطالب أيهما شاء.
وإذا كانت المزارعة فاسدة والبذر من قبل العامل وضمن رجل لصاحب الأرض حصته مما تخرج الأرض فالضمان باطل لأنه مع فساد المزارعة لا يستحق صاحب الأرض شيئا من الخارج والكفالة بما ليس بمضمون على الأصل باطل ولا يؤخذ الكفيل بأجر مثل الأرض لأنه لم يضمنه وإنما ضمن الطعام وأجر مثل الأرض دراهم فلا يجوز أن يجب عليه بالكفالة غير ما التزمه وإذا كان الأجر للعامل أو لرب الأرض كر حنطة بعينها لم يكن لصاحبه أن يبيعه قبل القبض لأن الأجرة في الإجارة بمنزلة العوض في البيع وما كان بعينه من العروض المستحق بالمبيع لا يجوز بيعه قبل القبض فإن هلك بعد العمل أو استهلكه الذي في يديه كان عليه أجر المثل لأن بهلاكه قبل التسليم فات القبض المستحق بالعقد فيفسد العقد ولزمه رد ما استوفى في تحكمه من المنفعة وقد تعذر عليه رده فيلزمه أجر مثله.

 

ج / 23 ص -110-    وإذا كان الشرط بعض الخارج في المزارعة والمعاملة فاستحصد الزرع ولم يحصد أو بلغ التمر ولم يحرز ثم باع أحدهما حصته قبل أن يقبضها جاز بيعه لأن حصته أمانة في يد الآخر كالوديعة فينفذ تصرفه فيها قبل القبض وإن هلك فلا ضمان على واحد منهما لأن هلاك الأمانة في يد الأمين كهلاكها في يد صاحبها وإن استهلكها أحدهما ضمن نصيب صاحبه لأنه استهلك ملكا تاما مشتركا بينهما فيضمن نصيب صاحبه جبرانا لما أتلف من ملكه والله أعلم.

باب مزارعة المريض ومعاملته
قال رحمه الله: وإذا دفع المريض أرضه إلى رجل مزارعة يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما على كذا فزرعها فأخرجت زرعا كثيرا وأجر مثل الأرض أكثر من نصيب صاحبه أضعافا وعليه دين يحيط بماله وأجر الأرض ثم مات والمزارع أجنبي أو أحد ورثته ونقصان الأرض أكثر من أجر مثلها فالخارج بينهما على ما اشترطا ولا شيء للعامل من الأجر والنقصان لأن تصرف المريض حصل فيما لا حق فيه لغرمائه ولا لورثته وهي منفعة الأرض التي توجد في حياته فإن حق الورثة إنما يتعلق بما يتصور بقاؤه بعد موته وحق الغرماء إنما يتعلق بما يمكن إيفاء الدين منه.
ألا ترى: أنه لو أعار المريض من صاحب البذر أرضه ولم يشترط عليه عوضا بمقابلة منافعها لم يعتبر ذلك من ثلثه وكان ذلك منه في مرضه وفي صحته سواء فكذلك إذا دفعها مزارعة بجزء يسير من الخارج وفي تصرفه محض منفعة للغرماء والورثة وهو سلامة مقدار المشروط بمقابلة الأرض من الزرع لهم ولولا عقد المزارعة ما سلم لهم ذلك وإذا ثبت صحة تصرفه وكان عمل العامل في الأرض بإذن صحيح فلا يلزمه شيء من نقصان الأرض.
ولو كان البذر من صاحب الأرض وسمى للعامل تسعة أعشار الخارج ولا دين على المريض ولا مال غير الأرض والطعام فإنه ينظر إلى الزرع يوم خرج من الأرض وصار له قيمة كم يساوي تسعة أعشاره فإن كان مثل أجر الأرض أو أقل منه فلما قام عليه وسقاه حتى استحصد صار أكثر من أجر مثله وأكثر من ثلث مال رب الأرض فللمزارع تسعة أعشار الخارج فإن كانت قيمة تسعة أعشاره حين خرج أكثر من أجر مثل المزارع فقام عليه وسقاه حتى استحصد صار أكثر من أجر مثله وأكثر من ثلث ما ترك الميت فأبى الورثة أن يجيزوا أخذ الزارع من حصته من الخارج أجر مثله وثلث ما ترك وصية له إن لم يكن من ورثته والباقي لورثة صاحب الأرض لأن صاحب الأرض استأجر العامل بما جعل له من الخارج وإنما يصير المزارع بإيجابه شريكا في الخارج حين ثبت الخارج فإذا كانت قيمة ما نبت مثل أجر مثله أو أقل لم تمكن في تصرفه محاباة فيقدر ثم ملك المزارع في نصيبه بعقد صحيح ثم الزيادة بعد ذلك إنما حدثت على ملك صحيح له فلا يعتبر ذلك من ثلث مال الميت فأما إذا كانت قيمته حين نبت أكثر من أجر مثله فالزيادة على مقدار أجر المثل محاباة له والمحاباة لا تسلم إلا من الثلث بعد الدين فبقي الثابت كله موقوفا على حق المريض فيثبت حقه في

 

ج / 23 ص -111-    الزيادة الحادثة فيه فلا يسلم للمزارع من جميع ذلك بعد ما استحصد الزرع إلا مقدار أجر مثله وما زاد على ذلك إلى تمام المشروط له يكون وصية فيعتبر من ثلث ماله فيحتاج هنا إلى معرفة شيئين:
أحدهما: أن عمل المزارع وإن لم يكن مالا متقوما فبالعقد يتقوم بمقدار أجر المثل ولا وصية في ذلك القدر من المشروط له كما لو استأجر المريض أجير العمل آخر له بل أولى لأن هناك استأجره بما كان حاصلا له لا بعمله وهنا استأجره بمال يحصل أو يزداد بعمله.
والثاني: أنه يعتبر قيمة حصته حين يصير للزرع قيمة لا حين نبت لأنه يكون مملكا منه نصيبه بعوض والتمليك إنما يجوز في الزرع بعد ما يصير متقوما كالتمليك بالبيع وهو وإن صار شريكا فيما نبت ولكنه يحتاج إلى قيمة نصيبه ليقابل ذلك بأجر مثله وما ليس بمتقوم لا يمكن معرفة قيمته فيعتبر أول أحوال إمكان التقوم فيه كأحد الشريكين في الجنين إذا أعتق نصيبه وهو موسر يضمن لصاحبه قيمة نصيبه معتبرا بما بعد الإنفصال قال وإنما هذا مثل رجل استأجر في مرضه رجلا ليخدمه سنته بجارية له بعينها لا مال له غيرها فدفعها إليه وخدمة الرجل السنة كلها وولدت الجارية وزادت في بدنها ثم صارت تساوي أكثر من أجر مثل الرجل ثم مات المريض فإن كانت قيمتها يوم وقعت الإجارة وقبضها الأجير مثل أجر مثله أو أقل كانت له بزيادتها لأنه لا محاباة فيها ولا وصية وإنما اعتبرت قيمتها وقت القبض لأن الأجرة قبل استيفاء المنفعة لا تملك بنفس العقد وإنما تملك بالقبض.
وإن كانت قيمتها يومئذ أكثر من أجر مثله فإنه يعطي الآخر منها مقدار أجر مثله وثلث ما ترك الميت بعد ذلك من الجارية وولدها وصية له ويرد قيمة البقية على الورثة لأنه يمكن فيها معنى الوصية بطريق المحاباة فلا تكون سالمة للأجير وتبقى موقوفة على حق المريض فيثبت حقه في الزيادة متصلة كانت أو منفصلة فلا يسلم للأجير منها إلا مقدار أجر مثله وثلث التركة بعد ذلك منها ومن ولدها بطريق الوصية وفيما زاد على ذلك يلزمه رده إلا أنه تعذر الرد لمكان الزيادة الحاصلة في يده بعد ما يملكها فرد قيمة الزيادة.
فإن قيل إنما يملكها بالقبض بحكم سبب فاسد فينبغي أن يرد عينها مع الزيادة.
قلنا لا كذلك بل كان السبب صحيحا يومئذ لأن تصرف المريض فيما يحتمل النقص بعد نفوذه يكون محكوما بصحته ثم ينقض بعد موته ما يتعذر تنفيذه والمقصود من هذا النقص دفع الضرر عن الورثة وذلك يحصل برد قيمة الزيادة عليهم ولو لم يكن في رد العين إلا ضرر التبعيض على الأجير لكان ذلك كافيا في تحول حقهم إلى القيمة.
وإن كان المزارع وارث المريض كان الجواب كذلك إلا أنه لا وصية له لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا وصية لوارث" فإن كانت قيمة نصيبه أجر مثل المزارع أو أقل حين نبت الزرع وصارت له قيمة فجميع المشروط سالم له وإن كان أكثر من أجر مثله فإنما يسلم له من الخارج مقدار أجر مثله حين استحصد الزرع والباقي كله ميراث عن الميت وإن كان المزارع

 

ج / 23 ص -112-    أجنبيا وعلى الميت دين يحيط بماله كان المزارع أسوة الغرماء فإنما يثبت له من الحصة في الزرع على ما تقدم ذكره حتى إذا لم يكن من قيمة حصته حين صار متقوما زيادة على أجر مثله فقد صح تسمية حصته له في الكل والزيادة الحادثة بعد ذلك تكون زيادة على ملكه إلا أن عين ذلك لا تسلم له لأن المريض لا يملك تخصيص بعض الغرماء بقضاء الدين إلا بائعا اشترى منه ما تكون ماليته مثل ما أعطاه من الثمن لأنه يدخل في ملكه ما يقوم مقام ما يخرجه في تعلق حق الغرماء به وذلك لا يوجد به فلهذا لا يختص العامل به ولكن لما ثبت حقه بسبب لا محاباة فيه ولا تهمة كان هو أسوة الغرماء في تركته وإن كانت حصته أكثر من أجر مثل عمله فإنما يضرب مع الغرماء في الخارج بمقدار أجر مثل عمله حين استحصد الزرع لأن ما زاد على ذلك كان وصية له ولا وصية مع الدين.
وكذلك مسألة الجارية هو أسوة الغرماء فيما ثبت له فيها على الوجه الذي بينا من الفرق بينما إذا كانت قيمتها حين قبضها مثل أجر مثله في خدمته أو أكثر من ذلك ولا تشبه المزارعة في هذا المضاربة فإن المريض لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن للمضارب تسعة أعشار الربح وربح عشرة آلاف ثم مات المريض وأجر مثل المضارب في عمله مائة درهم فإن الورثة يأخذون رأس المال والباقي بينهم وبين المضارب على الشرط ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله لأن هناك رأس المال قد رجع إلى ورثته والربح بمال لم يكن لرب المال ولا يتعلق به حق ورثته وغرمائه.
ألا ترى: أنه لو لم يشترط شيئامن الربح لنفسه بأن أقرض المال منه كان صحيحا ففي اشتراطه بعض الربح لنفسه منفعة غرمائه وورثته والبذر في المزارعة ليس يرجع إلى رب الأرض وإنما يكون جميع الخارج بينهما فيكون تصرف المريض فيما تعلق به حق غرمائه وورثته.
ولو كان يرجع إلى صاحب البذر رأس ماله ويكون ما بقي بينهما لكنا نجوز ذلك أيضا كما نجوزه في المضاربة.
فإن قيل ينبغي أن ينظر إلى قيمة البذر ويقابل ذلك بأجر مثله ولا ينظر إلى قيمة الخارج.
قلنا إنما ينظر إلى قيمة ما يوجبه للمزارع بمقابلة عمله وهو لا يوجب له شيئا من البذر إنما يوجب له حصته من الخارج فلهذا ينظر إلى قيمة ما يوجبه له وإلى أجر مثله.
وإذا دفع الصحيح إلى مريض أرضا له على أن يزرعها هذه السنة ببذره فما خرج منها فهو بينهما نصفان فزرعها المريض ببذر من قبله ليس له مال غيره فأخرجت زرعا كثيرا ثم مات من مرضه فإنه ينظر إلى حصة رب الأرض مما أخرجت الأرض يوم صار الزرع متقوما كم قيمته لأن المريض استأجر الأرض هنا بما أوجب لصاحبها من الحصة فإن كانت حصته يومئذ مثل أجر مثل الأرض أو أقل فإن الخارج بينهما على الشرط لأنه لا وصية فيها ولا

 

ج / 23 ص -113-    محاباة وقد تم ملك رب الأرض في نصيبه ثم الزيادة حادثة بعد ذلك على ملكه وهذا لأنه قابض لنصيبه باتصاله بأرضه أو بكونه في يد أمينة لأن المزارع أمين في نصيب رب الأرض ولهذا لو أصاب الزرع آفة لم يغرم له شيئا وإن كانت حصته يومئذ أكثر من أجر مثل الأرض نظر إلى حصته يوم تقع القسمة لأنه تمكن معنى الوصية هنا بطريق المحاباة فيثبت حق المريض فيما يحدث من الزيادة فإنما يعطي رب الأرض منها مقدار أجر مثل أرضه وثلث تركة الميت مما بقي بطريق الوصية وكذلك إن كان رب الأرض أحد ورثته إلا أنه لا وصية له فلا يأخذ إلا قدر أجر مثله من الخارج يوم تقع القسمة في الموضع الذي تتمكن فيه الوصية ولو كان غير وارث وعلى الميت دين يحيط بماله كان الجواب كذلك إلا أنه أسوة الغرماء بما ثبت له من ذلك فإن المريض لم يدخل في ملكه ما يقوم مقام ما أوجبه له في تعلق حق الغرماء به فيبطل تخصيصه إياه بذلك ويكون هو أسوة الغرماء بما ثبت له.
ولو كان الذي عليه دين أقر في مرضه بدئ بحق رب الأرض لأن حقه ثبت بسبب لا تهمة فيه فيكون هو بمنزلة غريم الصحة يقدم حقه على المقر له في المرض إلا أنه لا وصية له ما لم يقض الدين لأن الدين مقدم على الوصية وإن كان واجبا بإقراره في المرض لكونه أقوى من الوصية.
ألا ترى: أن الدين يعتبر من جميع المال والوصية من الثلث وإذا دفع المريض نخلا له معاملة بالنصف فقام عليه العامل ولقحه وسقاه حتى أثمر ثم مات رب النخيل ولا مال له غير النخيل وثمره فإنه ينظر إلى الثمر يوم طلع من النخل وصار كفري وصارت له قيمة فإن كان نصف قيمته مثل أجر العامل أو أقل فللعامل نصف الثمر وإن كان أكثر من أجر مثله نظر إلى مقدار أجر مثل العامل يوم تقع القسمة فيعطي العامل ذلك وثلث تركة الميت مما بقي من حصته وصية له إلا أن يكون وارثا فلا وصية له وهذا لأن المريض استأجر العامل بما شرط له من الثمر وإنما يصير شريكا في الثمر بعد طلوعه وإنما يمكن تقويمها حين تصير لها قيمة فلهذا يعتبر قيمة حصته عند ذلك.
وإذا كان على المريض دين يحيط بماله فإن كانت قيمة النصف من الكفرى حين طلعت مثل أجره ضرب مع الغرماء بنصف جميع التمر لأنه لا محاباة هنا ولا وصية فتكون الزيادة حادثة على ملك تام له إلا أن تخصيصه إياه بقضاء حقه يبطل فيكون هو أسوة الغرماء بنصف جميع التمر وإن كانت قيمة نصفه أكثر من أجر مثله ضرب معهم في التركة بمقدار أجر مثله لتمكن الوصية هنا بطريق المحاباة.
ولو دفع الصحيح إلى المريض نخلا له معاملة على أن للعامل جزءا من مائة جزء ومما يخرج منه فقام عليه المريض بأجرائه وأعوانه وسقاه ولقحه حتى صار تمرا ثم مات ولا مال له غيره وعليه دين ورب النخل من ورثته وأجر مثل ذلك العمل أكثر من حصته فليس له إلا ما شرط له لأن المريض إنما تصرف هنا فيما لا حق فيه لغرمائه ولورثته وهو منافع بدنه.

 

ج / 23 ص -114-    ألا ترى: أنه لو أعانه بهذه الأعمال ولم يشرط لنفسه شيئا من الخارج كان ذلك صحيحا منه ففي اشتراطه جزءا من الخارج بمقابلة عمله وإن قل منفعة غرمائه وورثته.
ولو دفع المريض إلى رجل زرعا له في أرض لم يستحصد أو كفري في رؤوس النخيل أو ثمرا في شجر حين طلع ولكنه أخضر ولم يبلغ بعد على أن يقوم عليه حتى يبلغ بالنصف فقام عليه العامل حتى بلغ ثم مات صاحب الشجر والزرع ولم يدع مالا غيره فإنه ينظر إلى حصة العامل يوم قام عليه فزاد في يده لأنه إنما يصير شريكا عند ذلك فإن المعاملة إيجاب الشركة فيما يحصل بعمله وأول أحوال ذلك حين تظهر زيادة من عمله فإن كانت قيمته أكثر من أجر مثله كان له من حصته مقدار أجر مثله وقت القسمة وثلث التركة بطريق الوصية وكذلك إن كان أحد ورثته إلا أنه لا وصية له وإن لم يكن من ورثته وكان على الميت دين يحيط بماله ضرب العامل بما ثبت له من ذلك على ما وصفنا مع الغرماء ولا وصية له وهذا في التخريج وما تقدم ذكره سواء.
وإذا استأجر المريض رجلا يخدمه هذه السنة بجارية بعينها فلما وقعت الإجارة لم يخدمه حتى زادت الأمة وكانت قيمتها يوم وقعت الإجارة مثل أجر مثل الأجير فخدمه السنة كلها ودفع إليه الجارية فولدت عند الأجير ثم مات المريض ولا مال له غيرها فللأجير من الجارية وأولادها مقدار أجر مثله والثلث مما يبقى بطريق الوصية لأنه لم يملكها بنفس العقد قبل استيفاء المنفعة فما زاد يكون على ملك المريض وتجعل هذه الزيادة كالموجودة عند العقد فيتمكن معنى الوصية بهذا الطريق حين سلم الجارية إليه بعد استيفاء الخدمة وحدوث الزيادة فإنما السالم له منها ومن أولادها مقدار أجر مثله عوضا عن الخدمة والثلث مما يبقى بطريق الوصية أعطى وصية من الجارية فإن بقي شيء كان له من أولادها في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن في تنفيذ الوصية الجارية أصل والأولاد تبع على ما نبينه في الوصايا إن شاء الله تعالى ويقال له أد قيمة ما بقي دراهم أو دنانير ورد الجارية وولدها ويكون لك أجر مثلك في مال الميت لأنه يلحقه عيب التبعيض ولم يكن هو راضيا بذلك فيكون له أن يردها بالعيب ولكن إذا ردها بطلت الوصية بالمحاباة له لأن ذلك كان في ضمن العقد وقد بطل العقد بالرد وإن أبى أن يردها أعطى الورثة قيمة ما بقي لإزالة المحاباة ودفع الضرر عن الورثة وبرد القيمة يندفع الضرر عنهم وثبوت الخيار له في الرد لهذا المعنى أيضا وهو أنه يلزمه زيادة لم يرض بالتزامها فيكون له أن يردها لذلك.
ولو كانت الجارية حين وقعت الإجارة دفعها المريض إلى الأجير فلم يخدم الأجير حتى زادت في يده وصارت قيمتها أكثر من أجر مثله ثم خدمه بعد ذلك حتى تمت السنة ومات المريض ولم يدع مالا غيرها وقد ولدت الجارية أولادا فالجارية وجميع أولادها للأجير لأنه بالقبض قد ملكها وليس فيها فضل فتم ملكه في جميعها لانعدام المحاباة ثم الزيادة حدثت على ملك تام له فيكون سالما له وكذلك إن كان الأجير أحد ورثته إلا أن يكون ولدا أو زوجة

 

ج / 23 ص -115-    فرد الجارية وولدها فيكون بينهم ميراثا لأن استئجار الولد والزوجة على الخدمة لا يجوز ولا يستوجبون الأجر بهذا العقد فتثبت هي في يد الأجير بسبب باطل فعليه أن يردها مع الزيادة بخلاف المزارعة والمعاملة لأن الولد والزوجة في ذلك العمل كسائر الورثة فإنه غير مستحق عليهما دينا بخلاف الخدمة وإن لم يكن من ورثته وكان على الميت دين يحيط بماله فإن كانت الجارية لا فضل فيها عن أجر مثله يوم قبضها الأجير قسمت هي وولدها بين الغرماء وبينه ويضرب في ذلك الأجير بقيمتها وقيمة ولدها لأنه لا محاباة في تصرفه هنا ولكن فيه تخصيص الأجير بقضاء حقه من ماله وذلك يرد لحق الغرماء إلا أن الولد حدث على ملك صحيح له فلهذا ضرب مع الغرماء بقيمتها وقيمة ولدها فما أصابه كان له في الجارية وما أصاب الغرماء قيل له أد قيمة ذلك إلى الغرماء دراهم أو دنانير لأن حقهم في المالية لا في العين وبأداء القيمة يصل إليهم كمال حقهم ويندفع عنه ضرر التبعيض فإن أبى ذلك بيعت الجارية وولدها فقسم الثمن بينه وبين الغرماء يضرب الغرماء بدينهم ويضرب الأجير بأجر مثله لأنه حين أبى ذلك تعذر ردها بسبب عيب التبعيض أو بما لحقه من زيادة مال لم يرض بالتزامه بعقد المعاوضة والأجرة إذا كانت بعينها فردت بالعيب ينفسخ العقد وتبقى المنفعة مستوفاة بحكم عقد قد انفسخ فيكون رجوعه بأجر مثله فلهذا يضرب بأجر مثله وفي هذا نوع إشكال فإن الزيادة المنفصلة المتولدة بعد تمام الملك تمنع الرد بالعيب فيبقى أن لا يكون له أن لا يردها ولكن يغرم للغرماء قيمة الزيادة دراهم أو دنانير ويمكن أن يقال الزيادة إنما تمنع الرد إذا لم يجب ردها مع الأصل فإنه لا يجوز أن يسلم بغير عوض بعد رد الأصل وهذا لا يوجد هنا فإن حق الغرماء ثابت في الزيادة كما هو ثابت في الأم لأنه إن لم يثبت حقهم فيه باعتبار صحة السبب وخلوه عن المحاباة فقد ثبت حقهم فيه ببطلان تخصيص الأجير بإيفاء حقه مراعاة لحقهم.
وإن كان في قيمة الجارية يوم قبضها الأجير فضل عن أجر مثله وكانت قيمتها يوم وقعت الإجارة مثل أجر الأجير إلا أن الأجير لم يخدم المريض حين قبض الجارية يضرب الأجير في الجارية وولدها بمقدار أجر مثله فما أصابه كان له في الجارية وولدها وقيل له أد قيمة ما أصاب الغرماء فأن أبى بيعت الجارية وولدها واقتسموا الثمن يضرب فيه الأجير بأجر مثله لأنه لم يملكها بنفس العقد وإنما يملكها بالقبض وعند القبض لما كانت قيمتها أكثر من أجر مثله بقيت موقوفة على حق المريض لتمكن الوصية فيها بطريق المحاباة فلهذا كان التخريج على ما قال.
وإذا استأجر الرجل في مرضه رجلا يخدمه بجارية قيمتها ثلاثمائة درهم وأجر مثل الأجير في خدمته مائة درهم فخدمه الأجير حتى أتم الخدمة وقبض الجارية ثم مات المريض ولا مال له غيرها فالأجير بالخيار إن شاء أخذ الجارية كلها وأعطى الورثة أربعة أتساع قيمتها وإن شاء نقض الإجارة وردها على الورثة لأن المريض حابى بقدر ثلثيها حين كان أجر مثله مثل

 

ج / 23 ص -116-    قيمة ثلثها والمحاباة وصية فلا تنفذ إلا في مقدار الثلث فاحتجنا إلى حساب لثلثيه ثلث وذلك تسعة فثلثها وهو ثلاثة يسلم له ومن الثلثين يسلم له الثلث بينهما وعليه إزالة المحاباة فيما وراء الثلث وذلك في أربعة أتساع قيمتها فإذا اختار ذلك فقد وصل إلى الورثة كمال حقهم وثبوت الخيار له في العقد لما لحقه من الزيادة وإن نقض الإجارة وردها كان له في مال الميت أجر مثله مائة درهم وتباع الجارية حتى يستوفي دينه والباقي للورثة وقد بطلت الوصية بالمحاباة حين اختار نقض العقد ولا يشبه هذا ما وصفت لك قبله من المزارعة والمعاملة إذا كان فيها محاباة فإن هناك إنما يسلم له مقدار أجر مثله والثلث مما يبقى بطريق الوصية ويرد الفضل وإذا قال أعطي قيمة الفضل لم يكن له ذلك لأن الخارج من الزرع والثمار يحتمل التبعيض فلا يتضرر هو برد الفضل على الورثة فلهذا لا يكون له أن ينقل حق الورثة من العين إلى القيمة.
ولو كان أجر مثل الأجير يوم وقعت الإجارة ثلاثمائة درهم فدفع إليه المريض الجارية وخدمة الأجير جميع السنة ثم مات المريض وقد زادت الجارية في بدنها أو في السعر أو ولدت في يد الأجير قبل موت المريض بعد ما كملت السنة أو قبل أن تكمل وعلى المريض دين كثير فإن الجارية بزيادتها وولدها بينهم يضرب الأجير في ذلك بقيمتها وقيمة ولدها يختصمون وتضرب الغرماء بدينهم لأنه لا محاباة هنا فكانت الجارية وولدها للأجير إلا أن تخصيص المريض إياه بقضاء حقه من ماله يرد بعد موته فلهذا ضرب هو بقيمتها وقيمة ولدها يوم يختصمون فما أصاب الأجير كان له من الجارية وولدها لأن حقه في عينها وما أصاب الغرماء قيل للأجير أد قيمته دراهم أو دنانير إلى الغرماء لأن حقهم في المالية فإن أبى أخذت الجارية وولدها وبيعا فضرب الأجير في الثمن بأجر مثله والغرماء بدينهم لأن العقد قد انفسخ حين أخذت من يده وانتقض قبضه فيها بسبب سابق على قبضه.
ولو كانت الجارية لم تزد ولم تلد ولكنها نقصت في السعر عند الأجير حتى صارت تساوي مائة والمسألة بحالها فلا ضمان على الأجير في نقصانها لأن نقصان السعر فتور رغائب الناس فيها ولا معتبر بذلك في شيء من عقود المعاوضات ويضرب الغرماء في الجارية بدينهم والأجير بقيمتها وهي مائة درهم لأن تخصيصه الأجير بقضاء حقه مردود بعد موته ثم ما أصاب الأجير فهو له من عينها وما أصاب الغرماء قيل للأجير أعطهم قيمة ذلك لأن حقهم في المالية فإن أبى بيعت الجارية وضرب الأجير في ثمنها بأجر مثله ثلاثمائة درهم لأن العقد قد انفسخ بانتقاض قبضه فيها فإنما يضرب هو بأجر مثله والغرماء بدينهم بخلاف الأول فهناك لم ينتقض قبضه فيها فإنما يضرب بقيمتها لذلك وإن نقصت في البدن حتى صارت تساوي مائة درهم فإن قيمة الجارية يوم قبضها الأجير وهي ثلاثمائة بين الأجير وبين الغرماء فما أصاب الغرماء ضمنه لهم الأجير في ماله وتسلم له الجارية وليس له أن يردها لأنها دخلت في ضمانه يوم قبضها على وجه التملك بعقد المعاوضة وقد تعيبت في يده بالنقصان الحاصل

 

ج / 23 ص -117-    في بدنها فلا يملك أن يردها للعيب الحادث ولكن يغرم للغرماء حصتهم من ماليتها يوم دخلت في ضمانه.
ولو دفع المريض نخلا له معاملة إلى رجل بالنصف فأخرج النخل كفري يكون نصفه مثل أجر العامل أو أقل فقام عليه وسقاه حتى صار تمرا يساوي مالا عظيما ثم صار حشفا قيمته أقل من قيمة الكفري يوم خرج ثم مات المريض وعليه دين فإن ماله يقسم بين الغرماء والعامل يضرب فيه العامل بقيمة نصف الحشف فقط فما أصابه كان له في حصته من الحشف وما أصاب الغرماء بيع لهم في دينهم ولا ضمان على العامل بالنقصان هنا لأنه كان أمينا في الخارج فالزيادة إنما حصلت في عين هي أمانة بغير صنعه وتلفت بغير صنعه فلا يضمن شيئا منها لأحد بخلاف ما سبق وإنما هذا بمنزلة ولد الجارية في المسألة الأولى التي ولدت في يد الأجير أو مات أو حدث به عيب لم يضمنه الأجير لأن الزيادة حدثت من غير صنعه وهلكت كذلك فلا تكون مضمونة عليه وإن كان هو ضامنا للأصل.
ولو كان الميت لا دين عليه والمسألة بحالها كان للعامل نصف الحشف وللورثة نصفه ولا ضمان على العامل فيما صار من ذلك حشفا لأنه لو تلف الكل من غير صنع العامل لم يضمن لهم شيئا فإذا صار حشفا أولى أن لا يضمن لهم النقصان والله أعلم بالصواب.

باب الوكالة في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا وكل الرجل الرجل بأرض له على أن يدفعها مزارعة هذه السنة فدفعها مزارعة بالثلث أو أقل أو بأكثر فهو جائز لأن الموكل حين لم ينص على مقدار من الخارج فقد فوض الأمر فيه إلى رأيه فبأي مقدار دفعها مزارعة كان ممتثلا لأمره محصلا لمقصوده إلا أن يدفعها بشيء يعلم أنه حابى فيه بما لا يتغابن الناس في مثله فحينئذ لا يجوز ذلك في قول من يجيز المزارعة لأن مطلق التوكيل عندهم يتقيد بالمتعارف فإن زرعها المزارع فخرج الزرع فهو بين المزارع والوكيل على ما اشترطا لا شيء منه لرب الأرض لأنه صار غاصبا مخالفا وغاصب الأرض إذا دفعها مزارعة كان الزرع بينه وبين المدفوع إليه على الشرط ولرب الأرض أن يضمن نقصان الأرض في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله إن شاء الوكيل وإن شاء المزارع فإن ضمن المزارع رجع على الوكيل به لأنه مغرور من جهته وفي قول أبي يوسف الآخر يضمن المزارع خاصة لأنه هو المتلف فأما الوكيل فغاصب والعقار عنده لا يضمن بالغصب ثم يرجع المزارع على الوكيل للغرور فإن كان حابى فيه بما يتغابن الناس في مثله فالخارج بين المزارع ورب الأرض على الشرط والوكيل هو الذي قبض نصيب الموكل لأنه هو الذي أجر الأرض وإنما وجب نصيب رب الأرض بعقده فهو الذي يلي قبضه وليس لرب الأرض أن يقبضه إلا بوكالة من الوكيل.
فإن كان رب الأرض أمر الوكيل أن يدفعها مزارعة ولم يسم سنة ولا غيرها جاز للوكيل أن يدفعها مزارعة سنته الأولى فإن دفعها أكثر من ذلك أو بعد هذه السنة ولم يدفع هذه السنة

 

ج / 23 ص -118-    لم يجز في الاستحسان وفي القياس يجوز لأن التوكيل مطلق عن الوقت ففي أي سنة دفعها وفي أي مدة دفعها لم يكن فعله مخالفا لما أمره الموكل به فجاز كالوكيل بإجارة الدور والرقيق ولكنه استحسن وقال دفع الأرض مزارعة يكون في وقت مخصوص من السنة عادة والتقييد الثابت بالعرف في الوكالة كالثابت بالنص فإذا دخله التقييد من هذا الوجه يحمل على أخص الخصوص وهو وقت الزراعة من السنة الأولى كالوكيل يشتري الأضحية يتقيد بأيام الأضحية من السنة الأولى بخلاف إجارة الدور والرقيق فإنها لا تختص بوقت عرفا فراعى فيها مطلق الوكالة إنما المزارعة نظير التوكيل بإكراء الإبل إلى مكة للحج عليها فإنها تختص بأيام الموسم في السنة الأولى لأن هذا يكون في وقت مخصوص من كل سنة عرفا فيحمل على أخص الخصوص وهو وقت خروج القافلة من السنة الأولى خاصة.
ولو كان البذر من رب الأرض كان هذا أيضا على أن يدفعه بما يتغابن الناس فيه لأن هذا توكيل بالاستئجار فإن صاحب الأرض يكون مستأجرا للعامل والتوكيل بالاستئجار كالتوكيل بالشراء فإنما ينفذ على الموكل إذا كان بغبن يسير ورب الأرض هو الذي يلي قبض حصته وليس للوكيل قبضها إلا بإذنه لأن رب الأرض هنا ما استحق نصيبه بعقد الوكيل بل بكونه نماء بذره فإن دفعه الوكيل بما لا يتغابن الناس فيه كان الخارج بين الوكيل والمزارع على الشرط لأنه بالخلاف صار غاصبا للأرض والبذر فيكون عليه ضمان مثل ذلك البذر للموكل فإن تمكن في الأرض نقصان بالزراعة فلرب الأرض أن يضمن النقصان أيهما شاء في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد لأن المزارع متلف والوكيل غاصب فإن ضمن المزارع رجع به على الوكيل للغرور ولا يتصدق الزارع بشيء مما صار له في هذه المسألة ولا في المسألة الأولى ولكن الوكيل يأخذ مثل ما غرم من نقصان الأرض وبذرا مثل الذي غرم ويتصدق بالفضل لأن الخبث تمكن في تصرف الوكيل حين صار كالغاصب فعليه أن يتصدق بالفضل وإنما يدفعها الوكيل مزارعة هنا أيضا في المسألة الأولى خاصة استحسانا فإن دفعها بعد مضي تلك السنة فهو مخالف غاصب للأرض والبذر والحكم فيه ما بينا في الفصل الأول وإذا وكل رجلا بأن يأخذ له هذه الأرض مزارعة هذه السنة على أن يكون له البذر من قبل الموكل فللوكيل أن يأخذها بما يتغابن الناس فيه وإن أخذها بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز على الموكل إلا أن يرضا به ويزرعها عليه لأنه وكيل بالاستئجار فهو بمنزلة الوكيل بالشراء فلا ينفذ تصرفه بالغبن الفاحش على الموكل إلا أن يرضا به.
وزراعة الموكل بعد العلم بما صنع الوكيل دليل الرضا به فهو كصريح الرضا فإن زرعها الموكل فحصل الخارج كان الوكيل هو المأخوذ بحصة رب الأرض يستوفيه منه الموكل فيسلمه إليه لأن رب الأرض استحق ذلك بالشرط والوكيل هو الذي شرط له ذلك فإن أخذ ذلك رب الأرض من الموكل بغير محضر من الوكيل بريء الوكيل لوصول الحق إلى مستحقه وإن كان الوكيل أخذها بما لا يتغابن الناس فيه وهو لم يخبره بذلك حتى زرعها الموكل وقد أمره

 

ج / 23 ص -119-    الوكيل بزراعتها كان الخارج للمزارع على الوكيل ولرب الأرض أجر مثل أرضه مما أخرجت الأرض لأن الوكيل استأجرها بما سمى من الخارج وقد حصل الخارج ثم استحق الموكل فيكون لرب الأرض على الوكيل أجر مثل الأرض مما أخرجت الأرض لأن ذلك من ذوات الأمثال ولا شيء للوكيل على الموكل لأنه هو الذي أمره بزراعتها وقد كان استئجاره نافذا عليه فالتحقت هذه بأرض مملوكة له دفعها إلى غيره وأمره أن يزرعها من غير أن يشترط عليه شيئا وإن كان الوكيل دفع إليه الأرض ولم يأمره بزراعتها ولم يخبره بما أخذها به فالخارج للمزارع لأنه نماء بذره وتصرف الوكيل بما لا يتغابن الناس فيه لم ينفذ عليه ولا شيء لرب الأرض على الوكيل هنا لأن الزارع بمنزلة الغاصب حين زرعها بغير أمر الوكيل.
ومن استأجر أرضا فغصبها غاصب وزرعها لم يكن لرب الأرض على المستأجر أجرها بخلاف الأول فإن هناك الوكيل أمر الزارع بزرعها فيجعل بمنزلة ما لو زرعها بنفسه فيلزمه أجر مثلها لصاحبها ثم على الزارع هنا نقصان الأرض لرب الأرض لأنه زرعها بغير إذن صاحب الأرض على وجه الغصب ولا يرجع به على الوكيل لأن الوكيل لم يغره بل هو الذي اغتر حين لم يسأل الوكيل ولم يستكشف حقيقة الحال ويتصدق الزارع بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بسبب خبيث وإذا لم يبين الوقت للوكيل هنا فهو على أول سنة وأول زراعة استحسانا.
ولو كان وكله بأن يأخذ له أرض فلان وبذرا مزارعة فإن أخذها بما يتغابن الناس فيه جاز ورب الأرض هو الذي يقبض نصيبه من الزرع لأنه يملك نصيبه بكونه نماء بذره لا بشرط الوكيل له ذلك بالعقد وإن أخذ بما يتغابن الناس فيه لم يجز على الموكل إلا أن يرضى به لأنه وكله بأن يؤاجره وذلك يتقيد بما يتغابن الناس فيه عند من يجيز المزارعة فإن عمل المزارع في جميع ما ذكرنا فحصل الخارج فهو بينهما على الشرط وإن كان الوكيل أخذه بما لا يتغابن الناس فيه من قلة حصة المزارع وأمر المزارع فعمل ولم يبين ذلك له فالمزارع متطوع في عمله في القياس والخارج كله لرب الأرض.
وفي الاستحسان الخارج بينهما على الشرط وجه القياس إن تصرف الوكيل بالغبن الفاحش لم ينفذ على الموكل معينا في إقامة العمل وجه الاستحسان أنه إنما لا ينفذ تصرف الوكيل على الموكل فبقي الموكل بالغبن لدفع الضرر عن الموكل والضرر هنا في امتناع نفوذ التصرف عليه لأنه إذا نفذ تصرفه عليه استحق ما شرط له من الخارج وإن قل ذلك وإذا لم ينفذ لم يستحق شيئا على أحد بمقابلة عمله وهو نظير القياس والاستحسان في العبد إذا أجر نفسه في عمل وسلم من ذلك العمل فإن كان الموكل لم يسم للوكيل الوقت فهو على أول سنة وزراعه استحسانا فإن مضت السنة قبل أن يأخذ ثم أخذ لم يجبر الموكل على العمل فإن رضي به وعمل كان بينهما على الشرط بمنزلة ما لو أخذ أرضا وبذرا ليزرعها.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل نخلا ووكله بأن يدفعها معامله هذه السنة أو لم يسم له وقتا فهذا على أول سنة للعرف فإن دفعه بما يتغابن الناس فيه جاز وصاحب النخل هو الذي يلي

 

ج / 23 ص -120-    قبض نصيبه لأنه يملك التمر بملكه النخل لا بالعقد الذي باشره الوكيل فإن دفعه بما لا يتغابن الناس فيه فالخارج لصاحب النخل لأنه وكله باستئجار العامل فلا ينفذ تصرفه بالغبن الفاحش على الموكل وللعامل أجر مثله على الوكيل لأنه استأجره ببعض الخارج وقد حصل الخارج واستحقه رب النخل فيستوجب الرجوع بأجر مثله.
ولو وكله بأن يأخذ نخلا بعينه فأخذه بما يتغابن الناس فيه جاز على الشرط وصاحب النخل هو الذي يلي قبض نصيبه لأنه يملكه بسبب تولده من نخله وإن أخذه بما لا يتغابن الناس فيه من قلة نصيب العامل لم يلزم العامل ذلك إلا أن يشاء فإن عمله وقد علم نصيبه منه أو لم يعلم كان له نصيبه الذي سمى له أما إذا علم به فلوجود دلالة الرضا منه بالإقدام على العمل بعد العلم بحقيقة الحال وأما إذا لم يعلم به فهو استحسان لما فيه من المنفعة للعامل فإنه لو لم ينفذ تصرفه عليه لم يستوجب شيئا وإذا أمره أن يأخذ له نخلا معاملة أو أرضا مزارعة أو أرضا وبذرا مزارعة ولم يعين شيئا من ذلك لم يجز لأن الوكيل عاجز عن تحصيل مقصود الموكل مع هذه الجهالة المستتمة فإن العمل يختلف باختلاف النخل والأراضي على وجه لا يمكن أن يوقف فيه على شيء معلوم.
وإذا أمره بأن يدفع أرضه مزارعة أو أن يدفع نخله معاملة إلى رجل ولم يعين الرجل جاز لأن دفع الأرض مزارعة بمنزلة إجارتها ومن وكل غيره بأن يؤاجر أرضه مدة معلومة جاز وإن لم يبين من يؤاجرها منه لأن المعقود عليه منفعة الأراضي وهي معلومة لا تختلف باختلاف المستوفى وكذلك في المعاملة مقدار العمل قد صار معلوما ببيان النخل على وجه لا يختلف باختلاف العامل.
ولو أمره بأن يدفع أرضه هذه مزارعة فأعطاها رجلا وشرط عليه أن يزرعها حنطة أو شعيرا أو سمسما أو أرزا فهو جائز لأن دفع الأرض مزارعة لهذه الأشياء متعارف فمطلق التوكيل ينصرف إلى هذه الأشياء كلها والوكيل يكون ممتثلا أمره في جميع ذلك وكذلك لو وكله أن يأخذ له هذه الأرض وبذرا معها مزارعة فأخذها مع بذر حنطة أو شعيرا أو غير ذلك من الحبوب جاز ذلك على الموكل لأنه وكله ليؤاجره في عمل الزراعة وهو في جميع ذلك متعارف فمطلق التوكيل ينصرف إلى جميع ذلك.
ولو وكله أن يأخذ له هذه الأرض مزارعة فأخذها من صاحبها للموكل على أن يزرعها حنطة أو شرط عليه شعيرا أو غيره لم يكن له أن يزرع إلا ما شرط عليه رب الأرض لأن الوكيل إذا امتثل أمره كان عقده كعقد الموكل بنفسه وهو لو أخذ أرضا مزارعة ليزرعها حنطة لم يكن له أن يزرعها غير الحنطة لأن صاحب الأرض إنما رضى بأن يكون أجر أرضه الحنطة فلا يملك المستأجر أن يحولها إلى غيره.
ولو وكله بأن يدفع أرضا له مزارعة هذه السنة فأجرها ليزرع حنطة أو شعيرا بكر من حنطة وسط أو بكر من شعير وسط أو سمسم أو أرز أو غير ذلك مما تخرجه الأرض فذلك

 

ج / 23 ص -121-    جائز استحسانا وفي القياس هو مخالف لأن الموكل إنما رضى بالمزارعة ليكون شريكا في الخارج وقد أتى بغير ذلك حين أجرها بأجرة مسماة ولكنه استحسن فقال قد حصل مقصود الآمر على وجه يكون أنفع له لأنه لو دفعها مزارعة فلم يزرعها أو أصاب الزرع إن لم يكن لرب الأرض شيء وهنا تقرر حق رب الأرض دينا في ذمة المستأجر إذا تمكن من زراعتها وإن لم يزرع أو أصاب الأرض آفة ومتى أتى الوكيل بجنس ما أمر به وهو أنفع للآمر مما نص عليه لم يكن مخالفا وإذا لم يكن مخالفا كان عقده كعقد الموكل بنفسه فللمستأجر أن يزرع ما بدا له والتقييد بالحنطة أو الشعير غير مفيد هنا في حق رب الأرض فإنه لا شركة له في الخارج بخلاف الدفع مزارعة.
وإن أجرها بدراهم أو ثياب أو نحوها مما لا يزرع لم يجز ذلك على الموكل لأنه خالف في الجنس فرب الأرض نص على أن يدفعها مزارعة وذلك إجارة الأرض بشيء تخرجه الأرض فإذا أجرها الوكيل بشيء لا تخرجه الأرض كان مخالفا في جنس ما نص عليه الموكل فهو بمنزلة الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لا ينفذ على الموكل بخلاف ما إذا باعه بألفي درهم وكذلك إن أمره أن يدفعها هذه السنة مزارعة في الحنطة خاصة فأجرها بكر حنطة وسط جاز ويزرعها المزارع ما بدا له من الزراعات مما يكون ضرره على الأرض مثل ضرر الحنطة أو أقل منها لأن تسمية رب الأرض الحنطة معتبرة في معرفة مقدار الضرر على الأرض به وهو لم يخالفه في الجنس حين سمى الآخر كر حنطة وسط وإن أجر بغير الحنطة صار مخالفا للموكل في جنس ما سمى له من أجر الأرض فلا ينفذ تصرفه عليه.
ولو وكله أن يدفعها مزارعة بالثلث فدفعها على أن لرب الأرض الثلث جاز لأن حرف الباء يصحب الأعواض ورب الأرض هو الذي يستحق الخارج عوضا عن منفعة أرضه فكان هذا بمنزلة التنصيص على اشتراط الثلث له فإن قال رب الأرض إنما عنيت أن للمزارع الثلث لم يصدق لأن ما يدعيه يخالف الظاهر إلا أن يكون البذر من قبله فيكون القول قوله حينئذ لأن المزارع هو الذي يستوجب الخارج عوضا عن عمله بالشرط.
ولو وكله أن يدفعها مزارعة بالثلث فأجرها من رجل بكر حنطة وسط مخالف لأن رب الأرض هنا نص على ما هو منافع أرض وهو ثلث الخارج وقد أجرها بغير ذلك ثم هنا نص على الشركة في الخارج والإجارة بكر من حنطة ليس فيها معنى الشركة فكان هذا مخالفة في الجنس في العقد الذي أمره به فإن زرعها المستأجر كان الخارج للمزارع وعليه كر حنطة وسط للمؤاجر لأن المؤاجر صار غاصبا للأرض ولرب الأرض أن يضمن نقصان الأرض إن شاء المزارع وإن شاء الوكيل في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله لأن الوكيل غاصب والمزارع متلف فإن ضمنها المزارع رجع بها على الوكيل لأجل الغرور ويأخذ المؤاجر من الكر الذي أخرجته الأرض ما ضمن ويتصدق بالفضل لأنه كسب خبيث.

 

ج / 23 ص -122-    وإن وكله بأن يؤجرها بكر حنطة وسط فدفعها مزارعة بالنصف على أن يزرعها حنطة فزرعها فهو مخالف لأن ما أتى به أضر على الموكل مما أمره به لأنه أمره بعقد يتقرر به حقه في الأجر إذا تمكن المستأجر من الانتفاع بها وإن لم ينتفع ولأنه نص على إجارة محضة وقد أتى بعقد الشركة فكان مخالفا وتفريع هذه كتفريع الأولى.
ولو وكله أن يأخذ هذه الأرض مزارعة فاستأجرها الوكيل بكر حنطة لم يجز على الآمر لأن ما أتى به أضر عليه لأنه ألزمه الكر دينا في ذمته عند تمكنه من الزراعة وإن لم يزرع وهو ما أمره بذلك فلا ينفذ تصرفه عليه إلا أن يرضى به ولو وكله بأن يأخذها له مزارعة بالثلث فأخذها الوكيل على أن يزرعها المزارع ويكون للمزارع ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثاه لم يجز هذا على المزارع لأن الكلام الذي قاله المزارع إنما يقع على أن لرب الأرض الثلث لما بينا أن رب الأرض هو الذي يستحق الخارج عوضا عن منفعة الأرض فما يصحبه حرف الباء يكون حصته من الخارج وقد أتى بضده ولو كان أمره أن يأخذ الأرض والبذر والمسألة بحالها جاز ذلك على المزارع لأن المعقود عليه هنا هو عمل العامل وهو الذي يستحق الخارج بمقابلة عمله فإذا شرط الثلث له كان ممتثلا أمره.
ولو وكله أن يدفع نخله هذا معاملة بالثلث فدفعها على أن الثلثين للعامل لم يجز ذلك على رب النخيل لأن العامل هو الذي يستحق الخارج بالشرط فإنما ينصرف أمر رب النخل بهذا اللفظ إلى اشتراط الثلث له ولو وكله أن يأخذ له نخل فلان هذه السنة معاملة بالثلث فأخذه على أن الثلثين لرب النخل جاز عليه لما قلنا ولو وكله أن يأخذ هذه الأرض هذه السنة وبذرا معها مزارعة فأخذ الوكيل البذر والأرض على أن الخارج كله لرب الأرض وعليه للمزارع كر حنطة وسط فهذا جائز كان البذر من حنطة أو من غيرها لأن ما باشره من العقد أنفع للموكل فإنه يستوجب الأجر بتسليم النفس وإن لم يستعمله أو أصاب الزرع آفة وإن شرط الآخر دراهم أو متاعا بعينه لم يجز وإنما استحسن إذا شرط له شيئا مما تخرجه الأرض إن أجره لما بينا في الفصل الأول ولو أمره أن يأخذها له بالثلث والمسألة بحالها لم يجز في شيء من ذلك لأنه نص على عقد الشركة في الخارج هنا ولأنه لا يدري أن ثلث الخارج يكون مثل ما شرط له من الأجر أو أقل أو أكثر.
ولو وكله أن يأخذ هذا النخل معاملة فأخذه على أن الخارج لصاحب النخل وللعامل كر من تمر فارسي عليه جاز لأنه اشترط له أفضل ما يخرج من النخل وهذا العقد أنفع له من الوجه الذي قلنا وإن كان شرط له كرا من دقل جيد نظر في النخل فإن كان ذلك دقلا جاز وإن كان فارسيا لم يجز ذلك على العامل بمنزلة ما لو شرط له كرا من حنطة أو شعير أو درهما وذلك لا ينفذ عليه إلا أن يرضى به لأن تعيينه النخل في المعاملة يكون تنصيصا على أن يكون أجره من جنس ما يخرج ذلك النخل.
ولو وكله بأن يأخذ له نخل فلان معاملة بالثلث فأخذه بكر تمر فارسي جيد لم يلزم

 

ج / 23 ص -123-    العامل إلا أن يشاء لأنه لا يدري لعل الثلث أكثر مما شرط له فإن كان يعلم أن الثلث يكون أقل من ذلك فهو جائز لأنه متيقن بتحصيل مقصوده فإن قيل قد قلتم أنه أمر بعقد الشركة بهذا اللفظ وما أتى به من الإجارة غير الشركة قلنا نعم ولكن الأسباب غير مطلوبة بعينها بل بمقاصدها فإنما يعتبر اختلاف السبب إذا لم يعلم بأنه حصل مقصوده الذي نص عليه على وجه هو أنفع له فأما إذا علمنا ذلك يقينا فلا معنى لاعتبار الاختلاف في السبب فلهذا ينفذ تصرفه عليه والله أعلم.

باب الزيادة والحط في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: الأصل أن عقد المزارعة والمعاملة في حكم الزيادة في البدل والحط نظير البيع والأجارة وقد بينا أن الزيادة هناك تصح حال قيام المعقود عليه على وجه يبطل ابتداء العقد ولا يصح بعد هلاك المعقود عليه والحط صحيح بعد هلاك المعقود عليه لأن الحط إسقاط محض وفي الزيادة معنى التمليك فكذلك في المزارعة والمعاملة.
وإذا تعاقد الرجلان مزارعة أو معاملة بالنصف وعمل فيها العامل حتى حصل الخارج ثم زاد أحدهما الآخر من نصيبه السدس وحصل له الثلثين ورضي بذلك الآخر فإن كان ذلك قبل استحصاد الزرع ولم يتناهى عظم البسر جاز لأن ابتداء العقد بينهما في هذه الحالة يصح ما دام المعقود عليه بحيث يزداد بعمل العامل فتصح الزيادة أيضا من أيهما كان لصاحبه وإن كان بعد استحصاد الزرع وتناهى عظم البسر فإن كان الزائد صاحب النخل وصاحب البذر في المعاملة فهو باطل لأن ابتداء العقد بينهما في هذه الحالة لا يصح فكان بمعنى الزيادة في الثمن بعد هلاك المعقود عليه وهذا لأن العقد قد انتهى فلا يمكن إسناد الزيادة على سبيل الالتحاق بأصل العقد وهي في الحال هبة غير مقسوم فلا يكون صحيحا وإن كان الآخر هو الزائد فهو جائز لأنه يستوجب بالشرط فيكون هذا منه حطا لا زيادة فإن كان شرط بمقابلة عمله نصف الخارج ثم حط ثلث هذا النصف واكتفى بثلث الخارج والحط بعد هلاك المعقود عليه صحيح وكذلك إن كان صاحب الأرض الذي لا بذر من قبله هو الذي زاد صاحب البذر لأنه يستوجب بالشرط بمقابلة منفعة أرضه فيكون هذا منه حطا لا زيادة.
وإذا اشترطا الخارج في المعاملة والزراعة نصفين واشترطا لأحدهما على صاحبه عشرين درهما فسدت المزارعة والمعاملة من أيهما كان البذر أو الشرط لتضمن هذا العقد شراء المعدوم أو الجمع بين الشركة في الخارج والأجرة دينا في الذمة بمقابلة عمل العامل أو منفعة الأرض ثم الخارج كله لصاحب البذر في المزارعة ولصاحب النخل في المعاملة هذا هو حكم فاسد المزارعة والمعاملة وكذلك لو زاد أحدهما صاحبه عشرين قفيزا إلا أن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الخارج مع حصول الخارج وهو مفسد للعقد والله أعلم.

 

ج / 23 ص -124-    باب النكاح والصلح من الجناية والخلع والعتق والمكاتبة في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا تزوج الرجل امرأة بمزارعة أرضه هذه السنة على أن يزرعها ببذرها وعملها فما خرج فهو بينهما نصفان فالنكاح جائز والمزارعة فاسدة لاشتراط أحد العقدين في الأجر والمزارعة كالبيع تبطل بالشروط الفاسدة والنكاح لا يبطل هكذا قال إبراهيم النكاح يهدم الشرط والشرط يهدم البيع وعلى قول أبي يوسف التسمية صحيحة وصداقها أجر مثل نصف الأرض وعلى قول محمد رحمه الله التسمية فاسدة ولها مهر مثلها إلا أن يجاوز ذلك بأجر مثل جميع الأرض فحينئذ لها أجر مثل جميع الأرض لأن التزوج بذل منفعة الأرض بمقابلة نصف الخارج وبمقابلة نصفها فإن المشروط لها على الزوج ملك النكاح ونصف الخارج لأن البذر من قبلها فإنما تتوزع منفعة الأرض عليهما باعتبار القيمة كما هو قضية المقابلة ونصف الخارج مجهول أصلا وجنسا وقدرا فكان ما يقابل البضع من منفعة الأرض مجهولا أيضا جهالة التسمية ومثل هذه الجهالة تمنع صحة التسمية فيكون لها مهر مثلها كما لو تزوجها بثوب إلا أن يتيقن بوجود الرضا منها يكون صداقها منفعة جميع الأرض لأنها لما رضيت به بمقابلة سنين كانت بمقابلة أحدهما أرضا فلهذا لا يجاوز بالصداق أجر مثل جميع الأرض وأبو يوسف يقول الانقسام بين البضع ونصف الخارج باعتبار التسمية لا باعتبار القيمة فيتوزع نصفين كما هو قضية المقاسمة بين المجهول والمعلوم بمنزلة ما لو أوصى بثلث ماله لفلان وللمساكين كان لفلان نصف الثلث فهنا أيضا يكون الصداق منفعة نصف الأرض والمنفعة مال متقوم في حكم الصداق فتصح التسمية ويلزم تسليم منفعة نصف الأرض إليها وقد عجز عن ذلك لفساد المزارعة فيكون لها أجر مثل نصف الأرض فإن طلقها قبل الدخول بها كان لها في قول أبي يوسف رحمه الله نصف المسمى وهو ربع أجر مثل الأرض وفي قول محمد رحمه الله لها المنفعة لفساد التسمية وإن زرعت المرأة زرعا فأخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج فجميع الخارج للمرأة لأنه نماء بذرها وعليها في قياس قول أبي يوسف نصف أجر مثل الأرض ولا صداق لها على الزواج لأنها استوفت منفعة جميع الأرض ونصف ذلك صداقها والنصف الآخر استوفته بحكم مزارعة فاسدة فعليها أجر مثل نصف الأرض وعند محمد رحمه الله عليها أجر مثل جميع الأرض فيتقاصان ويترادان فضلا إن كان وإن كان البذر من قبل الزوج فتزوجها على أن دفع أرضا وبذرا مزارعة بالنصف والمسألة بحالها فالنكاح صحيح والمزارعة فاسدة وللمرأة مهر مثلها بالغا ما بلغ عندهم جميعا لأن الزوج شرط لها نصف الخارج بمقابلة البضع وبمقابلة العمل والخارج مجهول الجنس والقدر ووجود أصله على خطر فلم يصح تسميته صداقا فكان لها مهر مثلها بالغا ما بلغ وهو الأصل في هذا الجنس أنه متى كان المشروط بمقابلة البضع بعض الخارج فالتسمية فاسدة عندهم جميعا ومتى كان المشروط منفعة الأرض أو

 

ج / 23 ص -125-    منفعة العامل بمقابلة البضع ففي صحة التسمية اختلاف كما بينا حتى لو تزوجها على أن يأخذ أرضها ليزرعها ببذره وعمله بالنصف فللمرأة مهر المثل بالاتفاق لأن الزوج شرط لها نصف الخارج بمقابلة بضعها ومنفعة الأرض.
ولو تزوجها على أن يأخذ أرضها وبذرا معها مزارعة بالنصف فالمسألة على الاختلاف لأنها شرطت عمل الزوج بمقابلة بضعها ونصف الخارج فيكون الصداق نصف عمل الزوج في قول أبي يوسف كما بينا ولو تزوجها على أن دفع إليها نخلا معاملة بالنصف فلها مهر مثلها لأن الزوج شرط لها نصف الخارج بمقابلة بضعها وعملها ولو تزوجها على أن دفعت إليه نخلا معاملة بالنصف فالمسألة على الخلاف لأن الزوج التزم العمل بمقابلة بضعها ونصف الخارج فهذه ست مسائل في النكاح وست أخرى في الخلع على هذه الصورة فالمرأة في الخلع بمنزلة الزوج في النكاح لأن بذل الخلع عليها له ففي كل موضع ذكرنا في النكاح أنه يكون لها صداق مثلها ففي الخلع يجب عليها رد المقبوض لأن البضع لا يتقوم عند خروجه من ملك الزوج وإنما يقوم باعتبار رد المقبوض وكذلك هذه المسائل الست في الصلح من جناية العهد إلا أن في كل موضع كان الواجب في النكاح صداق مثلها ففي الصلح من دم العمد الواجب الدية لأن بذل النفس هو الدية عند فساد التسمية في الصلح بمنزلة مهر المثل في النكاح.
وأما كل جناية ليس فيها قصاص أو جناية خطأ وقعت على الصلح عنها عقدة مزارعة أو معاملة نحو ما وصفنا فإن العقد في جميع ذلك فاسد بالاتفاق وأرش الجناية واجب لأن هذا صلح عن مال على مال فيكون بمنزلة البيع يبطل بالشرط الفاسد كما تبطل المزارعة فاشتراط كل واحد من العقدين في الآخر يفسد كل واحد منهما فأما العتق على شرط المزارعة في جميع هذه الوجوه فعلى العبد فيه قيمة نفسه بالغا ما بلغت لأن المولى إنما يزيل عن ملكه في العتق مالا متقوما فعند فساد التسمية يكون رجوعه بقيمة العبد كما لو أعتق عبده على خمر ولا يدخل هنا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على قياس جعل العتق إذا كان شيئا بعينه فاستحق أو هلك قبل القبض لأن هناك التسمية كانت صحيحة وهنا أصل التسمية فاسد فيكون هذا نظير العتق على الخمر.
وأما الكتابة على نحو ذلك فالكتابة فاسدة مع المزارعة والمعاملة لأن الكتابة لا تصح إلا بتسمية البدل وهو عقد محتمل للفسخ بمنزلة البيع فاشتراط كل واحد من العقدين في الآخر يفسدهما جميعا فإن عملها المكاتب عتق إن خرج شيء أو لم يخرج إذا كان محله محل آخر بأن كان المولى صاحب النخل أو صاحب الأرض والبذر لأنه أوفى العمل المشروط عليه بمقابلة رقبته ومع فساد التسمية يترك العتق بإيفاء المشروط كما لو كاتبه على خمر فأدى الخمر ثم للمكاتب على مولاه أجر مثله وللمولى عليه رقبته فإن كانت قيمة رقبته أكثر من أجر المثل فعليه أن يؤدي الفضل وإن كان أجر مثله أكثر من قيمة رقبته لم يكن على

 

ج / 23 ص -126-    مولاه شيء لأنه نال العتق بمقابلة ما أوفى من العمل فلا يتمكن استرداد شيء منه واسترداد بدله كاسترداده ثم في الكتابة الفاسدة المولى أحق بمنافعه فلا يتقوم عليه منافعه إلا بقدر ما يحتاج إليه المكاتب وذلك مقدار قيمة رقبته.
وإذا كان محل المكاتب محل المستأجر بأن كان البذر من قبل المكاتب لم يعتق وإن زرع الأرض وحصل الخارج لأن الجعل هنا بعض الخارج وهو مجهول اللون والجنس والقدر ومثل هذه الجهالة تمنع العتق وإن أدى كما لو كاتبه على ثوب ثم الخارج كله في يد العبد هنا إلى أن يرده المولى رقيقا وإذا رده المولى رقيقا كان الخارج للمولى باعتبار أنه كسب عبده لا باعتبار أنه مشروط في الكتابة فلهذا لا يعتق العبد به والله أعلم.

باب عمل صاحب الأرض والنخل فيها بأمر العامل أو بغير أمره
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا وبذرا على أن يزرعها هذه السنة بالنصف فبذره العامل وسقاه فلما نبت قام عليه رب الأرض بنفسه وأجرائه وسقاه حتى استحصد بغير أمر المزارع فالخارج بينهما نصفان ورب الأرض متطوع فيما صنع لأن الشركة بينهما قد انعقدت في الخارج حين بذره العامل وسقاه وصار العقد بحيث لا يملك رب الأرض فسخه فإقامة العمل بعد ذلك كإقامة أجنبي آخر ولو عمل أجنبي آخر فيها كان متطوعا فيما صنع والخارج بين رب الأرض والمزارع على الشرط فكذلك إذا فعل رب الأرض ذلك فإن كان استأجر لذلك فعمل أجيره كعمله وأجر الأجير عليه لأنه هو الذي استأجره ثم رب الأرض إنما عمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر على غيره.
ولو كان المزارع بذر البذر فلم ينبت ولم يسقه حتى سقاه رب الأرض بغير أمره فنبت فلم يزل يقوم عليه ويسقيه حتى استحصد فالخارج لرب الأرض والمزارع متطوع في عمله ولا أجر له وهو القياس ولكنا نستحسن أن يجعل بينهما على ما اشترطا ويجعل رب الأرض متطوعا فيما عمل وجه القياس أن رب الأرض استرد الأرض والبذر قبل انعقاد الشركة بينهما لأن الشركة بينهما في الخارج لا في البذر وبمجرد إلقاء البذر في الأرض وكونه في الجوالق سواء.
ولو أخذ رب الأرض البذر وزرع بنفسه كان الخارج كله إليه لأنه صار مستردا في حال هو يملك فسخ المزارعة في تلك الحالة فكذلك إذا استرده بعد الإلقاء في الأرض قبل السقي وجه الاستحسان أن سبب الشركة في الخارج إلقاء البذر فيقام هذا السبب مقام حقيقة الشركة ببيان الزرع.
ألا ترى: أنه يقام مقامه في لزوم العقد حتى لا يملك رب الأرض فسخه بعد ذلك قصدا ومنع المزارع من العمل فيكون هذا منه إعانة للمزارع أو عمله فيما هو شريك فيه فيكون الخارج بينهما على الشرط كما في الفصل الأول وهو نظير ما استشهد به لو أن رجلا بذر أرضا له فلم ينبت حتى سقاه رجل فنبت كان الزرع الذي سقاه في القياس بمنزلة من غصب بذرا وزرعه

 

ج / 23 ص -127-    وفي الاستحسان الزرع لصاحب الأرض والذي سقاه معين له وهذا لأنه بعد الزراعة يكون إذنا لكل واحد منهما في سقيه والقيام عليه مستعينا به دلالة فينزل ذلك منزلة أمره إياه بذلك نصا بخلاف ما قبل الزراعة فله تدبير في تقديم عمل الزراعة وتأخيره واختيار ما يزرعه في كل أرض فلا يكون هو آمرا للغاصب بأن يزرع بذره في أرضه فيكون الغاصب عاملا لنفسه فكذلك في مسألة المزارعة بعد ما بذره المزارع هو كالمستعين بصاحب الأرض في سقيه والقيام عليه فكأنه أمره بذلك نصا فيكون رب الأرض عاملا له لا لنفسه.
ولو بذره رب الأرض ولم يسقه ولم ينبت حتى سقاه المزارع وقام عليه حتى استحصد فالخارج بينهما على ما اشترطا أما إذا كان ذلك بأمر المزارع فهو غير مشكل لأنه لو بذره وسقاه كان معينا للمزارع فإذا بذره ولم يسقه أولى وأما إذا كان بغير أمره فلان بمجرد إلقاء البذر في الأرض لم يحصل الخارج وإنما حصل بالسقي والعمل بعد وقد باشره المزارع فيكون الخارج بينهماعلى الشرط وهذا الفعل من رب الأرض محتمل يجوز أن يكون على طريق الفسخ منه لعقد المزارعة ويجوز أن يكون على وجه النظر لنفسه وللعامل كيلا يفوت الوقت لاشتغال المزارع بعمل آخر أو لمرض حل به وبالاحتمال لا ينفسخ العقد فلهذا كان الخارج بينهما على الشرط.
ولو أخذه رب الأرض فبذره في الأرض وسقاه فنبت ثم أن المزارع يقوم عليه ويسقيه حتى استحصد فالخارج لرب الأرض والمزارع متطوع في عمله ولا أجر له لأنه قد استحكم استرداد رب الأرض حين بذره وسقاه حتى نبت من حيث أن بالنبات تحصل الشركة في الخارج ولم يوجد من جهة المزارع ليكون شريكا في الخارج فإنما نبت الخارج كله على ملك رب الأرض وانفسخ به عقد المزارعة فصار كأن لم يكن ثم المزارع بالعمل بعد ذلك بغير أمره متطوع فلا يستوجب عليه الأجر وإن كان البذر من قبل المزارع فبذره ولم يسقه حتى سقاه رب الأرض وقام عليه حتى استحصد فالخارج بينهما على الشرط استحسانا وكذلك لو بذره رب الأرض ولم يسقه حتى سقاه المزارع وقام عليه حتى استحصد فالخارج بينهما على الشرط.
ولو بذره رب الأرض وسقاه حتى نبت ثم قام عليه المزارع وسقاه فالخارج كله لرب الأرض وهو ضامن لمثل ما أخذ من البذر والمزارع متطوع في عمله لأنه كان غاصبا لما أخذ من البذر وقد استحكم ذلك بنبات الخارج على ملكه فكانت زراعته في هذه الأرض وفي أرض له أخرى سواء فيكون الخارج كله له والمزارع متطوع لأنه عمل في زرع غيره بغير أمره وإذا دفع إلى رجل نخلا له معاملة بالنصف فقام عليه العامل وسقاه وحفظه فلما خرج طلعه أخذه صاحب النخل بغير أمر العامل وقام عليه وسقاه ولقحه حتى أدرك الخارج فهو بينهما على ما اشترطا لأن الشركة قد تأكدت بخروج الطلع فيكون رب النخل بعد ذلك معينا للعامل في النخل بمنزلة أجنبي آخر بعينه ولا أجر لصاحب النخل في تلقيحه وعمله لأنه متبرع فيه لم يأمره العامل به.

 

ج / 23 ص -128-    ولو كان العامل حين قبض النخل أخذه صاحبه بغير أمره فسقاه وقام عليه حتى طلع طلعه ثم قبض منه العامل فلقحه وسقاه وقام عليه حتى صار تمرا فجميع ما خرج لصاحب النخل ولا شيء للعامل منه لأن الشركة إنما تنعقد بينهما بخروج الطلع وحين خرج لم يكن وجد من العامل عمل فيه لا حقيقة ولا حكما فيكون الخارج كله على ملك صاحب النخل ثم لا يتغير ذلك بعمل العامل بل هو فيما عمل كأجنبي آخر.
ولو كان صاحب النخل قبضه وسقاه وقام عليه فلم يخرج طلعه حتى قبضه العامل بغير أمر صاحبه فسقاه وقام عليه حتى خرج طلعه ثم لقحه وقام عليه حتى صار تمرا فالخارج بينهما على الشرط لما بينا أن الشركة إنما تنعقد عند حصول الطلع وقد وجد العمل من العامل عند ذلك على الوجه الذي اقتضته المعاملة فيصير الخارج مشتركا بينهما كما في مسألة المزارعة بل أولى لأن هناك رب الأرض والبذر يملك فسخ العقد قصدا قبل إلقاء البذر في الأرض وهنا لا يملك ثم هناك لا يجعل رب الأرض مستردا فيما أقام من العمل ويجعل الخارج بينهما على الشرط فهنا أولى وفي جميع هذه المسائل لو كان رب الأرض والنخل فعل ما فعل بأمر العامل والمزارع كان الخارج بينهما على الشرط لأن المزارع استعان به في العمل وهو قصد إعانته لا إقامة العمل لنفسه فتكون الاستعانة به بمنزلة الاستعانة بغيره.
ولو كان استأجر رب الأرض والبذر أو رب النخل على ذلك بأجر معلوم فالخارج بينهما على الشرط ولا أجر له على المزارع لأنه عمل فيما هو شريك فيه ولو أمره أن يستأجر لذلك أجراء ففعل فالخارج بينهما على الشرط وأجر الأجراء عليه ولو كانت المزارعة والمعاملة الأولى بالنصف ثم دفعها العامل إلى رب الأرض والنخل ليعمل على أن له الثلثان من الخارج والثلث للعامل فالخارج بينهما نصفان على المزارعة الأولى لأن العامل استأجر رب الأرض والنخل للعمل بجزء من نصيبه ولو استأجره بدراهم لم يستوجب الأجر فكذلك إذا استأجره بجزء من نصيبه ولا يجعل هذا حطا منه لبعض نصيبه من الخارج لأن هذا الحط في ضمن العقد الثاني لا مقصودا بنفسه وقد بطل العقد الثاني فيبطل ما في ضمنه والله أعلم.

باب اشتراط بعض العمل على العامل
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل نخلا له معاملة على أن يلقحه فما خرج منه فهو بينهما نصفان ولم يشترط صاحب النخل على العامل من السقي والحفظ والعمل شيئا غير التلقيح نظرت فيه فإن كان النخل يحتاج إلى الحفظ والسقي فالمعاملة فاسدة لأن العمل إنما يستحق على العامل بالشرط ولا يستحق عليه إلا المشروط.
وإذا كان الثمن لا يحصل بالعمل المشروط عليه فما سواه من الأعمال يكون على رب النخل ولو شرط عليه ذلك فسد العقد لأن موجب المعاملة التخلية بين العامل وبين النخيل فاشتراط بعض العمل على رب النخل بعدم التخلية يفسد به العقد فكذلك استحقاق ذلك عليه وإنما قلنا أن ذلك استحق عليه لأن المقصود هو على الشركة في الخارج فلا بد من

 

ج / 23 ص -129-    إقامة العمل الذي به يحصل الخارج ولا يمكن إيجاب ذلك على العامل من غير شرط فيكون على رب النخل ذلك ليتمكن من تسليم نصيب العامل من الخارج إليه كما شرطه له فإن لقحه العامل فله أجر مثله فيما عمل وقيمة ما لقحه به لأنه صرف عين ماله ومنافعه إلى إصلاح ملك الغير بعقد فاسد فيستحق عليه أجر مثله بإزاء منافعه وقيمة ما لقحه به بإزاء العين الذي صرفه إلى ملك الغير فإن ابتغى العوض عن جميع ذلك ولم ينل حين كان الخارج كله لصاحب النخل فكان له أجر مثله وقيمة ما لقحه به وإن كان لا يحتاج إلى حفظ ولا إلى سقي ولا عمل غير التلقيح فالمعاملة جائزة لأن العمل الذي يحصل به الخارج مستحق على العامل بالشرط وما وراء ذلك غير محتاج إليه فلا يكون مستحقا على رب النخل ما لا يحتاج إليه فذكره والسكوت عنه سواء وإن كان لا يحتاج إلى سقي ولكن لو سقى كان أجود لثمرته إلا أن تركه لا يضره فالمعاملة جائزة لأن المستحق بعقد المعاوضة صفة السلامة في العوض فأما صفة الجودة لا تستحق بمطلق العقد فلا يكون على رب النخل شيء من العمل هنا وإن كان ترك السقي يضره ويفسد بعضه إلا أنه لا يفسد كله فالمعاملة فاسدة لأن بمطلق المعاوضة يستحق صفة السلامة عن العيب وذلك لا يحصل بالعمل المشروط على العامل فلا بد من القول باستحقاق بعض العمل على رب النخل وهو ما يحصل به صفة السلامة وذلك مفسد للعقد وإن كان ترك اشتراط التلقيح عليه وقد اشترط ما سواه لم يجز لأن ترك التلقيح يضره على ما بينا أن النخيل إذا لم يلقح أحشفت التمر فقد بقي بعض العمل على صاحب النخل وهو ما يحصل به صفة السلامة وكذلك كل عمل لا يصلح النخل إلا به ولم يشترطه على العامل.
ولو كان النخل نخلا لا يحتاج إلى التلقيح وكان بحيث يحصل ثمره بغير تلقيح إلا أن التلقيح أجود له فالمعاملة جائزة لأن بمطلق العقد يستحق صفة السلامة لا صفة الجودة ولو دفع إليه النخل ملقحا واشترط عليه الحفظ والسقي جاز لأن التخلية بين النخل والعامل إنما تشترط بعد العقد وقد وجد بخلاف ما إذا دفع إليه غير ملقح واشترط التلقيح على رب النخل فإن ذلك لا يجوز لأن التخلية تنعدم عقيب العقد وما يلقحه صاحب النخل والمعاملة يلزم بنفسها من الجانبين فاشتراط ما يفوت موجبه يفسد العقد وفي الأول التلقيح من رب النخل كان قبل العقد فما هو موجب العقد وهو التخلية بين العامل والنخل عقيب العقد موجود.
وإن اشترطا أن يلقحه صاحبه ثم يحفظه العامل ويسقيه لم يجز لأن العقد انعقد بينهما في الحال فالشرط مفوت موجب العقد وإن كان مضافا إلى ما بعد فراغ صاحب النخل من التلقيح فذلك مجهول لا يدري يعجله صاحب النخل أو يؤخره والجهالة في ابتداء مدة المعاملة مفسدة للمعاملة إلا أن يشترط أن يلقحه في هذا الشهر صاحب النخل على أن يحفظه العامل ويسقيه من غرة الشهر الداخل فيجوز لأن ابتداء مدة المعاملة هنا في غرة الشهر الداخل وهو معلوم والمعاملة عقد إجارة فتجوز إضافتها إلى وقت في المستقبل.

 

ج / 23 ص -130-    ولو دفعه إليه واشترط التلقيح والسقي على العامل والحفظ على رب النخل لم يجز لأن هذا الشرط يعدم التخلية في جميع مدة المعاملة فالحفظ محتاج إليها الآن لدرك الثمار إلا أن يكون في موضع لا يحتاج إلى الحفظ فتجوز المعاملة والشرط باطل لأنه إنما يعتبر من الشروط ما يكون مفيدا فأما ما لا يفيد فالذكر والسكوت عنه سواء ولو اشترط التلقيح والحفظ على العامل والسقي على رب النخل لم يجز أيضا لأن هذا الشرط يعدم التخلية فإن كان قد يصلح بغير سقي إلا أن السقي أفضل له لم يجز أيضا لأن صفة الجودة تستحق بالشرط فإذا كانت هذه تحصل بما شرط على رب النخل لم يكن بد من اعتباره وإن كان السقي لا يزيد فيه شيئا ولا يضره تركه فالمعاملة جائزة والشرط باطل لأنه ليس في هذا الشرط فائدة فذكره والسكوت عنه سواء.
ولو دفع إلى رجل أرضا وبذرا على أن يزرعها هذه السنة فما خرج منه فهو بينهما نصفان ولم يشترط عليه سقيا ولا حفظا فإن كانت أرضا يسقيها السماء لا يحتاج فيها إلى سقي ولا حفظ مثل أرض الجزيرة ونحوها فالمزارعة جائزة على شرطهما لأن ما يحصل به الخارج قد شرط على المزارع وما سواه من العمل غير محتاج إليه فلا يكون مستحقا على واحد وإن كان لا يستغني عن الحفظ والسقي فالمزارعة فاسدة لأنه لا يستحق على العامل إلا العمل المشروط فما وراء ذلك مما يحصل به الخارج يكون على رب الأرض فكأنه شرط ذلك عليه وهو مفسد للعقد لانعدام التخلية.
وإن كان الزرع لا يحتاج إلى سقي ولكنه لو سقى كان أجود له فهو جائز على شرطهما لأن بمطلق العقد يستحق صفة السلامة لا نهاية الجودة بخلاف ما إذا شرط ذلك على رب الأرض في هذه الصورة لأن صفة الجودة تستحق بالشرط وإن كان إذا ترك السقي هلك بعضه وخرج بعضه حيا عامرا عطشانا فالمزارعة فاسدة لأن بمطلق العقد يستحق صفة السلامة وذلك لا يكون إلا بما لم يشترط على العامل فيكون ذلك مستحقا على رب الأرض ولو اشترط جميع العمل على العامل لا الحفظ فإنه اشترطه على رب الأرض فالمزارعة فاسدة لأن بهذا الشرط تنعدم التخلية وكذلك لو اشترط السقي على رب الأرض ولو اشترط على رب الأرض أن يبذره كان هذا فاسدا لأن العقد ينعقد بينهما في الحال فالتخلية تنعدم إلى أن يفرع رب الأرض من البذر فإن كان اشترط على رب الأرض السقي والسقي لو ترك لم يضره ولكنه أجود للزرع إن سقى فالمزارعة فاسدة لأن صفة الجودة تستحق بالشرط وإن كان السقي لا يزيده خيرا فالمزارعة جائزة والشرط باطل لأنه غير مفيد وإن كان المطر ربما قل فزاد الزرع وربما كثر فلم يزده السقي خيرا لم تجز المزارعة لأن هذا الشرط معتبر مقيد من وجه والأصل في الشرائط في العقد أنه يجب اعتبارها إلا عند التيقن بخلوها عن الفائدة ويبقى هنا موجب اعتبار الشرط وباعتباره يفسد العقد لانعدام التخلية.
 وإذا بذر الرجل فلم ينبت شيء حتى دفعها إلى رجل على أن يسقيه ويحفظه فما خرج

 

ج / 23 ص -131-    منه فهو بينهما نصفان فهو جائز لوجود التخلية بين الأرض والمزارع عقيب العقد ولو دفعها إليه قبل أن يبذرها على أن يبذرها رب الأرض ويسقيها المزارع ويحفظها فهذا فاسد لأن العقد انعقد بينهما في الحال والتخلية تنعدم إلى أن يبذرها رب الأرض وإن كان رب الأرض اشترط له أن يبذر على أن يحفظ الزرع بعد ذلك ويسقيه لم يجز أيضا لما بينا أنهما أضافا العقد إلى وقت فراغ رب الأرض من البذر وذلك غير معلوم فقد يعجل رب الأرض البذر وقد يؤخر ذلك وجهالة مدة المزارعة تفسد العقد إلا أن يشترط أن يزرع في هذا الشهر على أن يحفظه العامل ويسقيه من غرة الشهر الداخل فيجوز حينئذ لأنهما أضافا العقد إلى وقت معلوم فإنما ينعقد العقد بعد مجيء ذلك الوقت والتخلية توجد عقيب انعقاد العقد.
ولو أن البذر من المزارع على أن الذي يلي طرح البذر في الأرض رب الأرض واشترطا لذلك وقتا يكون السقي والحفظ بعده أو لم يشترطا فالمزارعة فاسدة لأن رب الأرض مؤاجر لأرضه والعقد يلزم من جانبه بنفسه فيلزمه تسليم الأرض فإذا شرط عليه طرح البذر في الأرض فهذا شرط يعدم التخلية بخلاف الأول فهناك إنما يلزم العقد من جهة صاحب البذر بعد إلقاء البذر في الأرض فيكون إضافة المزارعة إلى وقت معلوم ولكن يدخل على هذا الحرف المعاملة فإنها تلزم بنفسها وقد بينا أن الجواب فيها وفي المزارعة إذا كان البذر من قبل رب الأرض سواء فالوجه أن يقول اشتراط طرح البذر على رب الأرض بمنزلة اشتراط البقر عليه إذا كان البذر من قبله غير مفسد للعقد.
وإذا كان البذر من العامل مفسدا للعقد فكذلك إذا اشترطا طرح البذر في الأرض عليه وكذلك لو اشترط الحفظ والسقي على رب الأرض فهذا شرط يعدم التخلية ولو لم يشترط الحفظ والسقي على واحد منهما ودفعها إليه على أن يزرعها بالنصف جاز وكان السقي والحفظ على المزارع لأن رب الأرض إنما أجر أرضه وليس عليه من العمل قليل ولا كثير وإنما العمل الذي يحصل به الخارج على المزارع فالسكوت عنه بمنزلة الاشتراط على المزارع وذلك غير مفسد للعقد.
وإذا دفع إلى رجل أرضا على أن يزرعها ببذره وعمله بالنصف فزرعها فلما صار الزرع بقلا باع رب الأرض الأرض بما فيها من الزرع أو لم يسم زرعها فالبيع موقوف لأن المزارع مستأجر للأرض ومع المؤاجر العين المستأجرة في مدة الإجارة تتوقف على إجارة المستأجر لأن في نفوذ العقد ضرر عليه لأن المؤاجر لا يقدر على التسليم إلا بإجارة المستأجر فيتوقف البيع على إجارته كالراهن إذا باع المرهون فإن أجازه المزارع جاز لأن إجازته في الانتهاء كالإذن في الابتداء والمانع من نفوذ العقد حقه وقد زال بإجازته ثم للشفيع أن يأخذ الأرض بما فيها من الزرع أو يدع إذا كان باعها بزرعها لأن الزرع تبع الأرض ما دام متصلا بها فيثبت للشفيع حق الشفعة فيه.
ولو أراد أخذ الأرض دون الزرع أو الزرع دون الأرض أو أخذ الأرض وحصة رب

 

ج / 23 ص -132-    الأرض من الزرع دون حصة المزارع لم يكن له ذلك لأنه تمكن من أخذ الكل فليس له أن يأخذ البعض لما فيه من تفريق الصفقة على المشتري ثم يقسم الثمن على قيمة الأرض والزرع فحصة الأرض لرب الأرض وحصة الزرع بينهما نصفان لأن الملك في الزرع بينهما نصفان وكذلك لو كان البذر من رب الأرض لأن بعد إلقاء البذر في الأرض العقد لازم من جهته فلا ينفذ بيعه إلا بإجازة المزارع وإن لم يجزه حتى استحصد الزرع ومضت السنة وقد باعها مع الزرع فللمشتري أن يأخذ الأرض ونصف الزرع بحصته من الثمن إذا قسم على قيمة الأرض وقيمة الزرع يوم وقع البيع لأن المزارعة قد انتهت باستحصاد الزرع فزال المانع من التسليم فيتم العقد فيما هو ملك البائع.
ألا ترى أنه لو كان ابتداء البيع منه بعد استحصاد الزرع كان جائزا في الأرض وحصته من الزرع فهذا مثله وهو بمنزلة ما لو باع الراهن المرهون ثم أفتكه الراهن قبل أن يفسخ البيع.
ثم للشفيع أن يأخذ ما تم فيه العقد وهو الأرض وحصة رب الأرض من الزرع ما لم يحصد وليس له أن يأخذ بعض ذلك دون بعض والجواب في المعاملة قياس الجواب في المزارعة في جميع ما ذكرنا أن البيع قبل الإدراك لا يجوز إلا بإجازة العامل وبعد الإدراك يجوز في حصة رب النخل في التمر مع النخل وفي حصة العامل لا يجوز إلا بإجازته فإن جد النخل وحصد الزرع في هذه المسائل قبل أن يأخذ الشفيع ذلك لم يكن للشفيع على الزرع ولا على التمر سبيل لزوال الاتصال ولكنه يأخذ الأرض والنخل بحصتهما من الثمن ولو لم يذكر البائع التمر والزرع في البيع لم يدخل شيء من ذلك فيه سواء ذكر في البيع كل حق هو لها أو مرافقها أو لم يذكر إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول بذكر الحقوق والمرافق يدخل التمر والزرع وإن قال بكل قليل أو كثير هو فيها أو منها دخل الزرع والتمر إلا أن يكون قال من حقوقها وقد بينا هذا في كتاب الشفعة.
ولو اختصم البائع والمشتري في ذلك قبل أن يستحصد الزرع وتكمل السنة وأراد أحدهما نقض البيع وقد أبى المزارع أن يجيز البيع فالأمر في نقض البيع إلى المشتري لأن البائع عاجز عن التسليم إليه لما أبى المزارع الإجازة وفيه ضرر على المشتري فيكون له أن يفسخ البيع إلا أن يسلم له البائع ما باعه وإن كان البائع هو الذي أراد نقض البيع فليس له ذلك لأن البيع نافذ من جهته لمصادفته ملكه ولا ضرر عليه في إبقائه فليس له أن ينقضه وهكذا في المرهون إذا أبى المرتهن أن يسلم فإن أراد المشتري فسخ العقد فله ذلك وإن أراد البائع ذلك ليس له ذلك إذا أبى المشتري ولم يذكر أن المزارع أو المرتهن إذا أراد نقض البيع هل له ذلك أم لا والصحيح أنه ليس له ذلك لأنه لا ضرر عليه في بقاء العقد بينهما إنما الضرر عليه في الإخراج من يده وله أن يستديم اليد إلى أن تنتهي المدة وذلك لا ينافي بقاء العقد فلهذا لا يكون لواحد منهما فسخ العقد فإن لم يرد واحد منهما نقض البيع وحضر الشفيع فأراد أخذ ذلك بالشفعة فله ذلك لأن وجوب الشفعة يعتمد لزوم العقد وتمامه من جهة البائع وقد

 

ج / 23 ص -133-    وجد ذلك ثم يكون هو بمنزلة المشتري إن سلم له المبيع وإلا نقضه فإن قال البائع والمشتري لا يسلم لك البيع حتى يسلم للمشتري لم يكن لهما ذلك لأن حق الشفيع سابق على ملك المشتري شرعا ولكن الأمر فيه إلى الشفيع وهو بمنزلة المشتري في جميع ذلك حين قدمه الشرع عليه بعد ما طلب الشفعة وإن علم الشفيع بهذا الشراء فلم يطلبه بطلت شفعته وإن سلم الشراء بعد ذلك للمشتري فأراد الشفيع أن يطلب الشفعة فليس له ذلك لأن سبب وجوب حقه قد تقرر فتركه الطلب بعد تقرر السبب يبطل شفعته وإن لم يكن متمكنا من أخذه وإن طلب الشفعة حين علم فقال له البائع هات الثمن وخذها بالشفعة وإلا فلا شفعة لك فإن سلم البائع الأرض للشفيع فعليه أن يعطيه الثمن وإن لم يسلم الأرض فللشفيع أن يمنع الثمن حتى يعطيه الأرض لأنه قام مقام المشتري في ذلك ولا حق للبائع في استيفاء الثمن ما لم يتمكن من تسليم المعقود عليه ولا يبطل ذلك شفعته لأنه قد طلبها حين علم وكذلك لو كان البذر من رب الأرض وكذلك هذا في معاملة النخيل في جميع ما ذكرنا والله أعلم.

باب موت المزارع ولا يدري ما صنع في الزرع واختلافهما في البذر والشرط
قال رحمه الله: وإذا مات المزارع بعد ما استحصد الزرع ولم يوجد في الأرض زرع ولا يدري ما فعل فضمان حصة رب الأرض في مال المزارع من أيهما كان البذر لأن نصيب رب الأرض كان أمانة في يد المزارع فإذا مات مجهلا له كان دينا في تركته كالوديعة يصير دينا بموت المودع في تركته إذا كان لا يعلم ما صنع بها وكذلك إذا مات العامل بعد ما طلع التمر فبلغ أو لم يبلغ فلم يوجد في النخيل شيء لأن نصيب رب النخل كان أمانة في يد العامل وإذا مات رب الأرض أو المزارع أو ماتا جميعا فاختلف ورثتهما أو اختلف الحي منهما مع ورثة الميت في شرط الأنصباء فالقول قول صاحب البذر أو ورثته مع اليمين لأن الأجر يستحق عليه بالشرط فإذا ادعى عليه زيادة في المشروط أنكره هو كان القول قوله مع يمينه إن كان حيا وإن كان ميتا فورثته يخلفونه فالقول قولهم مع أيمانهم بالله على علمهم والبينة بينة الآجر لأنه يثبت الزيادة ببينته فإن اختلفوا في صاحب البذر أيضا كان القول قول المزارع مع يمينه على الثبات إن كان حيا وإن كان ميتا فالقول قول ورثته مع أيمانهم على العلم لأن الخارج في يد المزارع أو في يد ورثته فالقول قول ذي اليد عند عدم البينة والبينة بينة رب الأرض لأنه خارج محتاج إلى الإثبات بالبينة.
ولو كانا حيين فاختلفا فأقام صاحب الأرض البينة أنه صاحب البذر وأنه شرط للمزارع الثلث وأقام المزارع البينة أنه صاحب البذر وأنه شرط لرب الأرض الثلث فالبينة بينة رب الأرض لأنه هو الخارج المحتاج إلى الإثبات بالبينة. وإن علم أن البذر من قبل رب الأرض وأقاما البينة على الثلث والثلثين فالبينة بينة المزارع لأنه يثبت الزيادة ببينته وإذا مرض رجل وفي يده أرض لرجل قد أخذها مزارعة وعليه دين في الصحة والبذر من قبله فأقر أنه شرط لصاحب الأرض الثلثين ثم مات وأنكر ذلك الغرماء فإن كان أقر بعد ما استحصد الزرع بدئ

 

ج / 23 ص -134-    بدين الغرماء لأن هذا بمنزلة الإقرار بالعين والمريض إذا أقر بدين أو عين لم يصدق في حق غرماء الصحة فيبدأ بدينهم فيقضى فإن بقي شيء كان لصاحب الأرض مقدار أجر مثلها من الثلثين الذي أقر له به ولأن في مقدار أجر المثل أقر بسبب موجب للاستحقاق وهو يملك مباشرة ذلك السبب في حق ورثته فيصح إقراره بذلك القدر من جميع ماله فإن بقي من الثلثين بعد ذلك شيء كان له من الثلث لأن الزيادة على مقدار أجر المثل محاباة منه والمريض لو أنشأ المحاباة في مرض موته اعتبرت من ثلثه فكذلك إذا أقر به وإن كان أقر بذلك حين طلع الزرع وفي ثلثي الزرع فضل عن أجر المثل يوم أقر بذلك فلم يثبت حتى استحصد الزرع ثم مات فإن صاحب الأرض يضرب مع غرماء الصحة بمقدار أجر مثل الأرض من الثلثين فيتحاصون في ذلك لأنه أقر بما يملك إنشاءه فإن ابتداء عقد المزارعة قبل إدراك الزرع صحيح فتنفى التهمة عن إقراره في مقدار أجر المثل ويجعل كما لو أنشأ العقد ابتداء فتثبت المزاحمة بين غرماء الصحة وبين صاحب الأرض في ذلك بخلاف الأول فإن بعد استحصاد الزرع لا يجوز ابتداء عقد المزارعة بينهما فيتمكن في إقراره تهمة في حق غرماء الصحة.
وإن كان الدين عليه بإقراره في المرض ففي الفصل الأول يتحاصون في ذلك لأنه أقر بدين ثم تعين وقد جمع بين الإقرارين حالة المرض فكأنهما وجدا معا وفي الفصل الثاني بدى ء بأجر المثل لأنه لا تهمة في إقراره في حال يتمكن من إنشاء العقد ولهذا كان مزاحما لغرماء الصحة ومن يزاحم غرماء الصحة يكون مقدما على المقرله في المرض ولو كان البذر من قبل رب الأرض كان المريض مصدقا فيما أقرله به لأن القول قول رب البذر هنا في مقدار ما شرط له ولو أن المريض أقر أنه كان معينا له كان القول قوله في ذلك فإذا أقر أنه كان مزارعة بجزء يسير أولى أن يقبل قوله في ذلك وإن كان عليه دين الصحة لأن إقراره هنا تصرف منه في منافعه ولا حق للغرماء والورثة في ذلك.
ولو كان المريض رب الأرض وعليه دين الصحة فأقر في مرضه بعد ما استحصد الزرع أنه شرط للمزارع الثلثين ثم مات بدى ء بدين الصحة لأن هذا إقرار منه بالعين في مرضه فإن بقي شيء كان للمزارع مقدار أجر مثله من ثلثي الزرع لأن إقراره بذلك القدر صحيح في حق الورثة فإنه يقر بالعين بسبب لا محاباة فيه ولو أقر بالدين بعد إقراره في حق الورثة ثم الباقي من الثلثين وصية له من الثلث لأن الباقي محاباة فيكون وصية تعتبر من الثلث أقر بها أو أنشأها وإن كان أقر بذلك حين زرع المزارع وفي ثلثي الزرع يومئذ فضل عن أجر مثله ثم مات بعد ما استحصد الزرع يحاص المزارع غرماء الصحة بمقدار أجر مثله من ثلثي ما أخرجت الأرض بمنزلة ما لو أنشأ العقد لأن وجوب هذا القدر بسبب لا تهمة فيه ثم الباقي وصية له.
وإن كان الدين على المريض بإقراره في مرضه ففي الوجه الأول يتحاصون وفي الوجه الثاني بدى ء بأجر مثل المزارع وحال رب الأرض في هذه المسألة كحال المزارع في المسألة

 

ج / 23 ص -135-    الأولى وكذلك الحكم في المعاملة إذا مرض صاحب النخل وأقر بشيء من ذلك فهو نظير الفصل الأول فيما ذكرنا من التخريج وإن كان المريض هو العامل فقال شرط لي صاحب النخل السدس فالقول قوله إذا صدقه صاحب النخل لأن الذي من جهته مجرد العمل ولو قال كنت معينا له كان القول قوله فهنا أولى ولا يقبل بينة غرماء العامل وورثته على دعوى الزيادة لأنه مكذب لهم في ذلك والشهود إنما يثبتون الحق له فبعد ما أكذبهم لا تقبل شهادتهم له والورثة يقومون مقامه.
ولو ادعى هو ذلك قبل موته وأقام البينة لا تقبل بينته فكذلك غرماؤه وورثته بعد موته ولا يمين على رب النخل أيضا لأن اليمين ينبني على دعوى صحيحة وإن كان المريض صاحب النخل والعامل أحد ورثته فأقر له بشرط النصف بعد ما بلغ التمر فإقراره باطل لأنه أقر بالعين له وإقرار المريض لوارثه بالعين باطل وإن كان أقر حين بدأ بالعمل وطلع الكفري ثم مات بعد مابلغ التمر أخذ العامل مقدار أجر مثله من نصف التمر لأن إقراره هنا بمنزلة إنشاء العقد فلا تتمكن فيه التهمة بقدر أجر المثل ويحاص أصحاب دين الصحة به ويبدأ به قبل الدين الذي أقر به في مرضه ولا حق له في الزيادة على ذلك لأن الزيادة على ذلك وصية للوارث ولا وصية لوارث.
وإن أراد الوارث العامل أن يستحلف بقية الورثة على ما بقي له مما أقر له به المريض بعد ما أخذ أجر مثله فإن إقرار المعاملة كان في المرض فلا يمين عليهم لأنهم لو أقروا بما ادعى لم يلزمهم شيء وإن ادعى أنها كانت في الصحة وأنه أقر له بها في المرض استحلفوا على عملهم لأنهم لو أقروا بما ادعى لزمهم فإن أنكروا استحلفوا على عملهم لرجاء نكولهم وإن كان المريض هو العامل ورب النخل من ورثته صدق فيما أقر به من قلة نصيبه كما لو زعم أنه كان معينا له وهذا لأن تصرفه في منافعه وللمريض أن يتبرع بمنافعه على وارثه إلا أن بينة غرمائه وورثته على الزيادة مقبولة في هذا الوجه ولهم أن يستحلفوه إن لم يكن لهم بينة لأن إقرار المريض فيما يكون فيه منفعة للورثة باطل ولو لم يقر بذلك كانت البينة منهم على دعوى الزيادة مقبولة ويستحلف الخصم إذا أنكر فكذلك إذا طلب إقراره بما أقر به والله أعلم.

باب المزارعة والمعاملة في الرهن
قال رحمه الله: رجل رهن عند رجل أرضا ونخلا بدين عليه له فلما قبضه المرتهن قال له الراهن احفظه واسقه ولقحه على أن الخارج بيننا نصفان ففعل ذلك فالخارج والأرض والنخيل كله رهن والمعاملة فاسدة لأن حفظ المرهون مستحق على المرتهن فلا يجوز أن يستوجب شيئا بمقابلته على الراهن.
ألا ترى: أنه لو استأجر على الحفظ لم يجز الاستئجار فكان هذا بمنزلة ما لو شرط عليه ما سوى الحفظ من الأعمال فتكون المعاملة فاسدة والخارج كله لرب النخل إلا أنه مرهون,

 

ج / 23 ص -136-    لأنه تولد من عين رهن وللمرتهن أجر مثله في التلقيح والسقي دون الحفظ لأن الحفظ مستحق عليه بحكم الرهن فأما التلقيح والسقي فقد أوفاه بعقد فاسد ولا يقال ينبغي أن يبطل عقد الرهن بعقد المعاملة لأن المرهون هو النخل والأرض وعقد المعاملة يتناول منفعة العامل والعقد في محل لا يرفع عقدا آخر في محل آخر وكذلك لو كان الرهن أرضا مزروعة وقد صار الزرع فيها بقلا.
ولو كان الرهن أرضا بيضاء فزارعه الراهن عليها بالنصف والبذر من المرتهن جاز والخارج على الشرط لأن صاحب البذر مستأجر للأرض والمرتهن إذا استأجر المرهون من الراهن يبطل عقد الرهن لأن الإجارة ألزم من الرهن وقد طرأ العقدان في محل واحد فكان الثاني رافعا للأول فلهذا كان الخارج على الشرط وليس للمرتهن أن يعيدها رهنا وإن مات الراهن وعليه دين لم يكن المرتهن أحق بها من غرمائه لبطلان عقد الرهن وإن كان البذر من الراهن كانت المزارعة جائزة وللمرتهن أن يعيد الأرض في الرهن بعد الفراغ من الزرع لأن العقد هنا يرد على عمل المزارع فلا يبطل به عقد الرهن إلا أن المرتهن صار كالمعير للأرض من رب الأرض.
ألا ترى: أنه لو دفعها إلى غيره مزارعة برضا المرتهن والبذر من قبل الراهن كان المرتهن كالمعير للأرض لأنه رضي بأن ينتفع هو بالأرض وذلك بإعارة فيخرج به من ضمان الرهن ولكن لا يبطل به عقد الرهن لأن الإعارة أضعف من الرهن فيكون له أن يعيد الأرض في الرهن.
وإن كان الرهن أرضا بيضاء وفيها محل فأمره الراهن بأن يزرع الأرض ببذره وعمله بالنصف ويقوم على النخل ويسقيه ويلقحه ويحفظه بالنصف أيضا ففعل ذلك كله فقد خرجت الأرض من الرهن وليس للمرتهن أن يعيدها فيه والخارج بينهما على الشرط لأن المرتهن صار مستأجرا للأرض وأما النخل والتمر فلا تصح المعاملة فيها لأن العقد في النخل يرد على منفعة العامل فلا يبطل به عقد الرهن وببقاء عقد الرهن الحفظ مستحق عليه ثم النخل والتمر لا يفتكهما إلا بأداء جميع الدين وإن هلك النخل والتمر هلك بحصة قيمة النخل من الدين مع قيمة الأرض لأنه صار مضمونا بذلك القدر حين رهنه والتمر الذي هلك صار كأن لم يكن وللعامل أجر مثل عمله في النخل لا في الحفظ وكذلك إن كان البذر من رب الأرض إلا أن الأرض تعود رهنا هنا إذا انقضت المزارعة لأن المرتهن هنا في معنى المعير لها من الراهن فإن مات الراهن كان المرتهن أحق بها من غرمائه سواء مات بعد ما انقضت المزارعة أو قبلها لبقاء عقد الرهن واختصاص المرتهن بالمرهون بحكم عقد الرهن وإن نقصها الزرع شيئا ذهب من مال الراهن لما بينا أنه من ضمان الرهن حين كان المرتهن معيرا من الراهن والله أعلم.

 

ج / 23 ص -137-    باب الشروط الفاسدة التي تبطل وتجوز المزارعة
قال رحمه الله: وإذا شرط المزارع على رب الأرض مع حصته من الزرع دراهم معلومة أو شيئا من العمل فسدت المزارعة لأن باشتراط شيء من العمل عليه تنعدم التخلية وباشتراط الدراهم عليه يجتمع الإجارة مع الشركة في الخارج وذلك مفسد للمزارعة فإن قال أبطل الشرط لتجوز المزارعة لم يجز ولم يبطل بإبطاله لأن هذا شرط تمكن فيما هو من صلب العقد ومن موجباته فبإسقاطه لا ينقلب العقد صحيحا كاشتراط الخمر مع الألف في ثمن المبيع وكذلك لو اشترط أحدهما على صاحبه الحصاد أو الدياس أو التنقية وقد بينا فساد العقد في هذا الشرط وما فيه من اختلاف الروايات ثم هذا الشرط من صلب العقد فلا ينقلب العقد صحيحا إذا أسقطه من شرط له.
ولو اشترطا لأحدهما خيارا معلوما في المزارعة جاز على ما اشترطا لأن عقد المزارعة يتعلق به اللزوم فيجوز اشتراط الخيار فيه مدة معلومة كالبيع والإجارة وإن كان خيارا غير مؤقت أو إلى وقت مجهول فالمزارعة فاسدة فإن أبطل صاحب الخيار خياره وأجاز المزارعة جازت كما في البيع والإجارة وهذا لأن هذا الشرط زائد على ما تم به العقد فهو غير متمكن فيما هو موجب العقد والمعاملة قياس المزارعة في ذلك وإن اشترط أحدهما على صاحبه أن ما صار له لم يبعه ولم يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل لأنه لا منفعة فيه لواحد منهما والشرط الذي لا منفعة فيه ليس له مطالب فيلغوا ويبقى العقد صحيحا وذكر في بعض نسخ الأصل أن على قول أبي يوسف الآخر تبطل المزارعة بهذا الشرط لأن فيه ضررا على أحدهما والشرط الذي فيه الضرر كالشرط الذي فيه المنفعة لأحدهما فكما أن ذلك مفسد للعقد فكذا هذا قال لو شرط عليه أن يبيع نصيبه فيه بمائة درهم فسدت المزارعة لأن في هذا الشرط منفعة ولكن الفرق بينهما بما ذكرنا أن الشرط الذي فيه منفعة يطالب به المنتفع والشرط الذي فيه الضرر لا تتوجه المطالبة من أحد فإن أبطل صاحب الشرط شرطه في الفصل الثاني لم تجز المزارعة أيضا لأن في البيع منفعة لكل واحد منهما فلا يبطل الشرط بإبطال أحدهما إلا أن يجتمعا على إبطاله فحينئذ يجوز العقد وإن كان اشترط عليه أن يهب له نصيبه فسدت المزارعة للمنفعة في هذا الشرط لأحدهما فإن أبطله صاحبه جازت المزارعة لأن المنفعة في هذا الشرط للموهوب له خاصة فتسقط بإسقاطه وهو شرط وراء ما تم به العقد فإذا سقط صار كأن لم يكن فبقي العقد صحيحا والله أعلم.