المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 24 ص -3-         كتاب الأشربة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم أن الخمر حرام بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى أن قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91] وسبب نزول هذه الآية سؤال عمر رضي الله عنه على ما روي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر مهلكة للمال مذهبة للعقل فادع الله تعالى يبينها لنا فجعل يقول: "اللهم بين لنا بيانا شافيا" فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219], فامتنع منها بعض الناس وقال بعضهم نصيب من منافعها وندع المأثم فقال عمر رضي الله عنه اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43], فامتنع بعضهم وقالوا لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة وقال بعضهم بل نصيب منها في غير وقت الصلاة فقال عمر اللهم زدنا في البيان فنزل قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] فقال عمر رضي الله عنه انتهينا ربنا.
والخمر هو النيء من ماء العنب المشتد بعد ما غلى وقذف بالزبد اتفق العلماء رحمهم الله على هذا ودل عليه قوله تعالى:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36]  أي عنبا يصير خمرا بعد العصر والميسر القمار والأنصاب ذبائحهم باسم آلهتهم في أعيادهم والأزلام القداح وأحدها زلم كقولك قلم وأقلام وهذا شيء كانوا يعتادونه في الجاهلية إذا أراد أحدهم أمرا أخذ سهمين مكتوب على أحدهما أمرني ربي والآخر نهاني ربي فجعلهما في وعاء ثم أخرج أحدهما فإن خرج الأمر وجب عليه مباشرة ذلك الأمر وإن خرج النهي حرم عليه مباشرته وبين الله تعالى أن كل ذلك رجس والرجس ما هو محرم العين وأنه من عمل الشيطان يعني أن من لا ينتهي عنه متابع للشيطان مجانب لما فيه رضا الرحمن وفي قوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] أمر بالاجتناب منه وهو نص في التحريم ثم بين المعنى فيه بقوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91], وكان هذا إشارة إلى الإثم الذي بينه الله تعالى في الآية الأولى بقوله عز وجل: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]  وفي قوله:

 

ج / 24 ص -4-         {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]  أبلغ ما يكون من الأمر بالاجتناب عنه وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} [لأعراف: من الآية33] والإثم من أسماء الخمر قال القائل:

شربت الإثم حتى ضل عقلي                         كذاك الإثم يذهب بالعقول


وقيل هذا إشارة إلى قوله:
{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
والسنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لعن الله في الخمر عشرا" الحديث وذلك دليل نهاية التحريم وقال عليه الصلاة والسلام: "شارب الخمر كعابد الوثن" وقال عليه الصلاة والسلام: "الخمر أم الخبائث" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا وضع الرجل قدحا في خمر على يده لعنته ملائكة السماوات والأرض فإن شربها لم تقبل صلاته أربعين ليلة وإن داوم عليها فهو كعابد الوثن", وكان جعفر الطيار رحمه الله يتحرز عن هذا في الجاهلية والإسلام ويقول العاقل يتكلف ليزيد في عقله فأنا لا أكتسب شيئا يزيل عقلي والأمة أجمعت على تحريمها وكفى بالإجماع حجة هذه حرمة قوية باتة حتى يكفر مستحلها ويفسق شاربها ويجب الحد بشرب القليل والكثير منها وهي نجسة نجاسة غليظة لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم منها, ولا يجوز بيعها بين المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها", وبعض المعتزلة يفصلون بين القليل والكثير منها في حكم الحرمة ويقولون المحرم ما هو سبب لوقوع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وذلك الكثير دون القليل وعند أهل السنة والجماعة القليل منها والكثير في الحرمة.
وجميع ما ذكرنا من الأحكام سواء لقوله عليه الصلاة والسلام:
"حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب" ثم في تناول القليل منها معنى العداوة والصد عن ذكر الله تعالى فالقليل يدعو إلى الكثير على ما قيل ما من طعام وشراب إلا ولذته في الابتداء تزيد على اللذة في الانتهاء إلا الخمر فإن اللذة لشاربها تزداد بالاستكثار منها ولهذا يزداد حرصه على شربها إذا أصاب منها شيئا فكان القليل منها داعيا إلى الكثير منها فيكون محرما كالكثير.
ألا ترى  أن الربا لما حرم شرعا حرم دواعيه أيضا وإن المشي على قصد المعصية معصية وأما السكر فهو النيء من ماء التمر المشتد وهو حرام عندنا وقال شريك بن عبد الله هو حلال لقوله تعالى:
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67]  والرزق الحسن شرعا ما هو حلال وحكم المعطوف والمعطوف عليه سواء ولأن هذه الأشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على ما كان من قبل.
 ألا ترى  أن في الآيات بيان حكم الخمر وما كان يكثر وجود الخمر فيهم بالمدينة فإنها كانت تحمل من الشام وإنما كان شرابهم من التمر وفي ذلك ورد الحديث نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ منها شيء فلو كان تحريم سائر الأشربة مرادا بالآية لكان الأولى التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم لأن حاجتهم إلى معرفة ذلك.

 

ج / 24 ص -5-         وحجتنا في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخمر من هاتين الشجرتين الكرم النخل" ولم يرد به بيان الاسم لغة لأنه ما بعث مبينا لذلك وبين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتي من ماء العنب وواضع اللغة خص كل عين باسم هو حقيقة فيه وإن كان قد يسمى الغير به مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفلة الواضع والضرورة الداعية إلى ذلك وذلك غير متوهم هنا فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة ولما سئل بن مسعود رضي الله عنه عن شرب المسكر لأجل الصفر قال إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم فأما قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فقد قيل كان هذا قبل نزول آية التحريم وقيل في الآية إضمار وهو مذكور على سبيل التوبيخ أي تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا, فإن طبخ من العنب أدنى طبخه أو ذهب منه بالطبخ أقل من الثلثين ثم اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو حرام عندنا.
وقال حماد بن أبي سليمان رحمه الله إذا طبخ حتى نضج حل شربه, وكان بشر المريسي يقول إذا طبخ أدنى طبخه فلا بأس بشربه, وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا إذا طبخ حتى ذهب منه النصف فلا بأس بشربه ثم رجع فقال ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله, وعن محمد رحمه الله أنه كره الثلث أيضا, وعنه أنه توقف فيه, وعنه أنه حرم ذلك كله إذا كان مسكرا وهو قول مالك والشافعي وطريق من توسع في هذه الأشربة ما ذكرنا أن قبل نزول التحريم كان الكل مباحا ثم نزل تحريم الخمر وما عرفنا هذه الحرمة إلا بالنص فبقي سائر الأشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله, ومن أثبت التحريم في الكل قال نص التحريم بصفة الخمرية والخمر ما خامر العقل وكل ما يكون مسكرا فهو مخامر للعقل فيكون النص متناولا له ولكنا نقول الاسم للتي من ماء العنب حقيقة ولسائر الأشربة مجازا ومتى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز وهبك أن الخمر يسمى لمعنى مخامرة العقل فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا.
ألا ترى  أن الفرس الذي يكون أحد شقيه أبيض والآخر أسود يسمى أبلق ثم الثوب الذي يجتمع فيه لون السواد والبياض لا يسمى بهذا الاسم وكذلك النجم يسمى نجما لظهوره قالوا نجم أي ظهر ثم لا يدل ذلك على أن كل ما يظهر يسمى نجما.
وأمامنا فيما ذكرناه من إباحة شرب المثلث عمر رضي الله عنه فقد روي عن جابر بن الحصين الأسدي رحمه الله أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أتاه بكتاب عمر رضي الله عنه يأمره أن يتخذ الشراب المثلث لاستمراء الطعام. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول لا أدع شربها بعد ما رأيت عمر رضي الله عنه يشربها ويسقيها الناس وقد كان عمر رضي الله عنه هو الذي سأل تحريم الخمر فلا يظن به أنه كان يشرب أو يسقي الناس ما تناوله نص التحريم بوجه ولا يجوز أن يقال إنما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد ذهب

 

ج / 24 ص -6-         بالطبخ نصيب الشيطان وربح جنونه وهذا لأنه إنما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام وإنما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو, وقد دل على هذه الجملة الآثار التي بدأ محمد رحمه الله بها الكتاب فمن ذلك حديث زياد قال سقاني بن عمر رضي الله عنه شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت عليه من الغد فأخبرته بذلك فقال ما زدناك على عجوة وزبيب وبن عمر رضي الله عنه كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يظن به أنه كان يسقي غيره ما لا يشربه ولا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم وقد ذكرنا أن ما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله وإنما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فإن ذلك لا يحل وفي قوله ما زدناك على عجوة وزبيب دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب والتمر وإن كان مشتدا وأنه لا بأس بشراب الخليطين بخلاف ما يقوله المتقشفة أنه لا يحل شراب الخليطين وإن كان حلوا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن شراب الخليطين", وتأويل ذلك عندنا أن ذلك كان في زمان الجدب كره للأغنياء الجمع بين النعمتين وفي الحديث زيادة فإنه قال: "وعن القران بين النعمتين وعن الجمع بين نعمتين".
والدليل على أنه لا بأس بذلك في غير زمان القحط حديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا فلم يستمرئه فأمرني فألقيت فيه زبيبا ولما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر والفانيد وعن بن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن المسكر فقال الخمر ليس لها كنية وفيه دليل تحريم السكر فإن مراده من هذا الجواب أن السكر في الحرمة كالخمر وإن كان اسمه غير اسم الخمر فكأنه أشار إلى قوله عليه الصلاة والسلام
: "الخمر من هاتين الشجرتين".
قال وسئل عن الفضيخ قال مراده بذلك الفضوح والفضيخ الشراب المتخذ من التمر بأن يفضخ التمر أي يشدخ ثم ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ثم يترك حتى يشتد وفيه دليل على أن التي من شراب التمر إذا اشتد فهو حرام سكرا كان أو فضيخا فإن السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا, وفي قوله بذلك الفضوح بيان أنه يفضح شاربه في الدنيا والآخرة لارتكابه ما هو محرم.
قال وسئل عن النبيذ والزبيب يعتق شهرا أو عشرا قال الخمر اخبتها وفي رواية اجتنبها أي هي في الحرمة كالخمر فاجتنبها فظاهر هذا اللفظ دليل لما روي عن أبي يوسف قال لا يحل ماء الزبيب ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان فإن قوله الخمر اجتنبها إشارة إلى ذلك أي الزبيب إذا نقع في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل أن يتزبب فكما أنه لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب منه الثلثان فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر ولكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر وماء التمر سواء إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه ومراد بن عمر رضي الله عنه تشبيهه النيء منه بالخمر في حكم الحرمة.

 

ج / 24 ص -7-         وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن قال: "انههم عن نبيذ السكر" والمراد النيء من ماء التمر المشتد وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عادة أهل اليمن في شرب ذلك فلهذا خصه بالأمر بالنهي عنه وسماه نبيذ الحمرة في لونه. وعن حصين بن عبد الرحمن قال كان لأبي عبيدة كرم بزبالة كان يبيعه عنبا وإذا أدرك العصير باعه عصيرا وفي هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير والعنب مطلقا ما دام حلوا كما لا بأس ببيع العنب وأخذ أبو حنيفة رحمه الله بظاهره فقال لا بأس ببيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا وهو قول إبراهيم رحمه الله لأنه لا فساد في قصد البائع فإن قصده التجارة بالتصرف فيما هو حلال لاكتساب الربح وإنما المحرم قصد المشتري اتخاذ الخمر منه وهو كبيع الجارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها في غير المأتي وكبيع الغلام ممن يصنع به ما لا يحل.
وعن الضحاك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" معناه فهو من الظالمين المجاوزين لحدود الله تعالى قال الله تعالى  {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وفيه دليل أنه لا يجوز أن يبلغ بالتعزير الحد الكامل لأن الحدود ثبتت شرعا جزاء على أفعال معلومة فتعديتها إلى غير تلك الأفعال يكون بالرأي ولا مدخل للرأي في الحدود لا في إثبات أصلها ولا في تعدية أحكامها عن مواضعها وعن إبراهيم رحمه الله قال لا بأس إذا كان للمسلم خمر أن يجعلها خلا وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا تخليل الخمر جائز خلافا لما قاله الشافعي رحمه الله وهذا لأن الآثار جاءت بإباحة خل الخمر على ما قال عليه الصلاة والسلام: "خير خلكم خل خمركم". وعن علي رضي الله عنه أنه كان يصطبغ الخبز بخل خمر ويأكله وإذا كان بالاتفاق يحل تناول خل الخمر فالتخليل بالعلاج يكون إصلاحا للجوهر الفاسد وذلك من الحكمة فلا يكون موجبا للحرمة ويأتي بيان المسألة في موضعه.
وعن محمد بن الزبير رضي الله عنه قال استشار الناس عمر رضي الله عنه في شراب مرقق فقال رجل من النصارى إنا نصنع شرابا في صومنا فقال عمر رضي الله عنه إئتني بشيء منه قال فأتاه بشيء منه قال ما أشبه هذا بطلاء الإبل كيف تصنعونه قال نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فصب عليه عمر رضي الله عنه ماء وشرب منه ثم ناوله عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو عن يمينه فقال عبادة ما أرى النار تحل شيئا فقال عمر يا أحمق أليس يكون خمرا ثم يصير خلا فنأكله وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان مشتدا فإن عمر رضي الله عنه استشارهم في المشتد دون الحلو وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام وكان عمر رضي الله عنه حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين. وفيه دليل أنه لا بأس بإحضار بعض أهل الكتاب مجلس الشورى فإن النصراني الذي قال ما قاله. قد كان حضر مجلس عمر رضي الله عنه للشورى ولم ينكر عليه وفيه دليل أن خبر النصراني لا بأس بأن

 

ج / 24 ص -8-         يعتمد عليه في المعاملات إذا وقع في قلب السامع أنه صادق فيه وقد استوصفه عمر رضي الله عنه فوصفه له واعتمد خبره حتى شرب منه. وفيه دليل أن دلالة الإذن من حيث العرف كالتصريح بالإذن وأنه لا بأس بتناول طعامهم وشرابهم فإن عمر رضي الله عنه لم يستأذنه في الشرب منه وإنما كان أمره أن يأني به لينظروا إليه ثم جوز الشرب منه بناء على الظاهر ومن يستقصي في هذا الباب يقول تأويله أنه أخذه منه جزية لبيت المال ثم شرب منه وفيه دليل أن المثلث إن كان غليظا لا بأس بأن يرقق بالماء ثم يشرب منه كما فعله عمر رضي الله عنه والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى العباس في حجة الوداع فأتاه بشراب فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شربه وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رابكم شيء من هذه الأشربة فاكسروا متونها بالماء".
وعن عمر رضي الله عنه أنه أتى بنبيذ الزبيب فدعا بماء وصبه عليه ثم شرب وقال إن لنبيذ زبيب الطائف غراما وفي مناولته عبادة بن الصامت وكان عن يمينه دليل على أن من يكون من الجانب الأيمن فهو أحق بالتقديم. والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعس من لبن فشرب بعضه وكان عن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه فقال للأعرابي أنت على يميني وهذا أبو بكر فقال الأعرابي ما أنا بالذي أوثر غيري على سؤرك فثله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الأيمنون الأيمنون" ومنه قول القائل:

ثلاثة يمنة تدور                          الكأس والطست والبخور

ثم أشكل على عبادة رضي الله عنه فقال ما أرى النار تحل شيئا يعني أن المشتد من هذا الشراب قبل أن يطبخ بالنار حرام فبعد الطبخ كذلك إذ النار لا تحل الحرام فقال له عمر رضي الله عنه يا أحمق أي يا قليل النظر والتأمل أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فنأكله يعني أن صفة الخمرية تزول بالتخليل فكذلك صفة الخمرية بالطبخ حتى يذهب منه الثلثان تزول. ومعنى هذا الكلام أن النار لا تحل ولكن بالطبخ تنعدم صفة الخمرية كالذبح في الشاة عينه لا يكون محللا ولكنه منهر للدم والمحرم هو الدم المسفوح فتسييل الدم المسفوح يكون محللا لانعدام ما لأجله كان محرما وبهذا أخذنا وقلنا يجوز التخليل لأنه إتلاف لصفة الخمرية وإتلاف صفة الخمرية لا يكون محرما.
وعن بن عباس رضي الله عنه قال كل نبيذ يفسد عند إبانه فهو نبيذ ولا بأس به وكل نبيذ يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وإنما أراد به النيء من ماء الزبيب أو التمر أنه ما دام حلوا ولم يصر معتقا فهو بحيث يفسد عند إبانه فلا بأس بشربه وإذا صار معتقا بأن غلا واشتد وقذف بالزبد فهو يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله في الابتداء في المطبوخ من ماء الزبيب والتمر أنه إذا صار معتقا لا يحل شربه وإن كان بحيث يفسد إذا ترك عشرة فلا بأس بشربه ثم رجع عن ذلك فقال قول بن عباس رضي الله عنه في النيء خاصة فهو النبيذ حقيقة مشتق من النبذ وهو الطرح أي ينبذ الزبيب والتمر في

 

ج / 24 ص -9-         الماء ليستخرج حلاوته فأما إذا طبخ فالطبخ يغيره عن حاله فلا يتناوله اسم النبيذ حقيقة وإن كان قد يسمى به مجازا.
وعن بن عباس رضي الله عنه قال حرمت الخمرة لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب وفيه دليل أن المحرم هو الأخير الذي يكون منه السكر كالمؤلم اسم لما يتولد الألم منه وأن الخمر حرام لعينها والقليل والكثير في الحكم سواء وفي المثلث والمطبوخ من الزبيب والتمر يفصل بين القليل والكثير فلا بأس بشرب القليل منه وإنما يحرم منه ما يتعقبه السكر وهو القدح الأخير قال بن عباس رضي الله عنه الكأس المسكرة هي الحرام. قال أبو يوسف رحمه الله وأما مثل ذلك دم في ثوب فلا بأس بالصلاة فيه إن كان قليلا فإذا كثر لم تحل الصلاة فيه ومثله رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا بأس بذلك فإذا أسرف في النفقة لم يصلح له ذلك ولا ينبغي وكذلك النبيذ لا بأس بأن يشربه على طعام ولا خير في المسكر منه لأنه إسراف فإذا جاء السكر فليدع الشرب.
 ألا ترى أن اللبن وما أشبهه من الشراب حلال ولا ينبغي له إن كان يسكر أن يستكثر منه؟
 ألا ترى  أن البنج لا بأس بأن يتداوى به الإنسان فإذا كاد أن يذهب عقله منه فلا ينبغي أن يفعل ذلك وفي هذا كله بيان أن المحرم هو السكر إلا أن في الخمر القليل يدعو إلى الكثير كما قررنا فيحرم شرب القليل منها لأنها داعية إلى الكثير وذلك في المثلث لا يوجد فإنه غليظ لا يدعو قليله إلى كثيره بل بالقليل يستمرى ء طعامه ويتقوى على الطاعة والكثير يصدع رأسه.
 ألا ترى  أن الذين يعتادون شرب المسكر لا يرغبون في المثلث أصلا؟ ولا يقال: القدح الأخير مسكر بما تقدمه لأن المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه ويقوي بدنه حلال وما يتخمه وهو الأكل فوق الشبع حرام ثم المحرم منه المتخم وهو ما زاد على الشبع وإن كان هذا لا يكون متخما إلا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب.
وعن بن مسعود رضي الله عنه أن إنسانا أتاه وفي بطنه صفراء فقال وصف لي السكر فقال عبد الله إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وبه نأخذ فنقول كل شراب محرم فلا يباح شربه للتداوي حتى روي عن محمد أن رجلا أتى يستأذنه في شرب الخمر للتداوي قال إن كان في بطنك صفراء فعليك بماء السكر وإن كان بك رطوبة فعليك بماء العسل فهو أنفع لك ففي هذا إشارة إلى أنه لا تتحقق الضرورة في الإصابة من الحرام فإنه يوجد من جنسه ما يكون حلالا والمقصود يحصل به وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله لم يجعل في رجس شفاء" ولم يرد به نفي الشفاء أصلا فقد يشاهد ذلك ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشرع عليه الصلاة والسلام ولكن المراد أنه لم يعين رجسا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله أو يكون أقوى منه.

 

ج / 24 ص -10-       وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور فزوروها فقد أذن لمحمد في زيادة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فأمسكوه ما بدا لكم وتزودوا فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في كل ظرف فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا مسكرا" وفي رواية بن مسعود رضي الله عنه قال وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا وهذا اللفظ رواه أبو بردة بن نيار أيضا وفي الحديث دليل نسخ السنة بالسنة فقد أذن في هذه الأشياء الثلاثة بعد ما كان نهى عنها وبالإذن ينسخ حكم النهي وقيل المراد النهي عن زيارة قبور المشركين فإنهم ما منعوا عن زيارة قبور المسلمين قط.
ألا ترى  أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه" وكانت قد ماتت مشركة وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه وقيل إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يندبون الموتى عند قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "ولا تقولوا هجرا" أي: لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع هو التكلم باللغو فذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا ومن العلماء من يقول الإذن للرجال دون النساء والنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روي أن فاطمة رضي الله عنها خرجت في تعزية لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك أتيت المقابر" قالت لا فقال عليه الصلاة والسلام: "لو أتيت ما فارقت جدتك يوم القيامة" أي: كنت معها في النار والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة في حق الرجال والنساء جميعا فقد روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأنشدت عند القبر قول القائل:

وكنا كندماني جذيمة حقبة                    من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا                        لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام قد انتسخ بقوله عليه الصلاة والسلام: فأمسكوا ما بدا لكم وتزودوا فإن القربة تنادي بإراقة الدم والتدبير في اللحم بعد ذلك من الأكل والإمساك والإطعام إلى صاحبه إلا أنه للضيق والشدة في الابتداء نهاهم عن الإمساك على وجه النظر والشفقة ليتبع موسرهم على معسرهم ولما انعدم ذلك التضييق أذن لهم في الإمساك فأما النهي عن الشرب في الأواني فقد كان في الابتداء نهاهم عن الشرب في الأواني المتثلمة تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الروايا فلما تم

 

ج / 24 ص -11-       انزجارهم عن ذلك أذن لهم في الشرب في الأواني وبين لهم أن المحرم شرب المسكر وأن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه وقد بينا أن المسكر ما يتعقبه السكر وهو الكأس الأخير.
وعن إبراهيم رحمه الله قال أتى عمر رضي الله عنه بأعرابي سكران معه إداوة من نبيذ مثلث فأراد عمر رضي الله عنه أن يجعل له مخرجا فما أعياه إلا ذهاب عقله فأمر به فحبس حتى صحا ثم ضربه الحد ودعا بإداوته وبها نبيذ فذاقه فقال أوه هذا فعل به هذا الفعل فصب منه في إناء ثم صب عليه الماء فشرب وسقى أصحابه وقال إذا رابكم شرابكم فاكسروه بالماء, وفيه دليل أنه ينبغي للإمام أن يحتال لإسقاط الحد بشبهة يظهرها كما قال عليه الصلاة والسلام:
"ادرءوا الحدود بالشبهات" وقد كانوا يفعلون ذلك في الحدود كلها.
وفي حديث الشرب على الخصوص لضعف في سببه على ما روي عن علي رضي الله عنه قال ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فآخذ في نفسي من ذلك شيئا إلا حد الخمر فإنه يثبت بآرائنا فلهذا طلب عمر رضي الله عنه مخرجا له وفيه دليل على أن السكران يحبس حتى يصحو ثم يقام عليه الحد لأن المقصود هو الزجر وذلك لا يتم بالإقامة عليه في حال سكره فإنه لاختلاط عقله ربما يتوهم أن الضارب يمازحه بما يضربه والمقصود إيصال الألم إليه ولا يتم ذلك ما لم يصح وتأخير إقامة الحد بعذر جائز كالمرأة إذا لزمها حد الزنى بالرجم وهي حبلى لا يقام عليها حتى تضع وفيه دليل أنه لا بأس بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا وإن كان مشتدا فإن عمر رضي الله عنه قد شرب منه بعد ما صب عليه الماء وسقى أصحابه ثم لم يبين أن الأعرابي أذن له في الشرب من إداوته ولكن الظاهر أنه شرب ذلك بإذنه حتى روي أنه قال أتضربني فيما شربته فقال عمر رضي الله عنه إنما حددتك لسكرك فهو دليل أنه إذا سكر من النبيذ الذي يجوز شرب القليل منه يلزمه الحد.
وعن حماد رضي الله عنه قال دخلت على إبراهيم رحمه الله وهو يتغدى فدعا بنبيذ فشرب وسقاني فرأى في الكراهة فحدثني عن علقمة رحمه الله أنه كان يدخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيتغدى عنده ويشرب عنده النبيذ يعني نبيذ الجر. وقد روي أن بن مسعود رضي الله عنه كان يعتاد شربه حتى ذكر عن أبي عبيدة أنه أراهم الجر الأخضر الذي كان ينبذ فيه لابن مسعود رضي الله عنه وعن نعيم بن حماد رضي الله عنه قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان رحمه الله وكان يحدثنا بحرمة النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش رحمه الله فقال أسكت يا صبي حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة رحمه الله أنه شرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نبيذا مشتدا صلبا وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه نبيذا مشتدا كان يعتاد شربه. وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سقاني علي رضي الله عنه نبيذا فلما رأى ما بي من التغير بعث معي قنبرا يهديني. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه قال إن القوم ليجتمعون على الشراب وهو لهم حلال فلا يزالون يشربون حتى يحرم عليهم يعني إذا بلغوا حد السكر وكذلك عمر رضي الله عنه كان يشرب

 

ج / 24 ص -12-       المثلث ويأمر باتخاذه للناس حتى روي عن داود بن أبي هند قال قلت لسعيد بن المسيب الطلاء الذي يأمر عمر رضي الله عنه باتخاذه للناس ويسقيهم منه كيف كان قال كان يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه والمراد أنه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر رضي الله عنه قال إنا ننحر جزورا للمسلمين والعنق منها لآل عمر ثم يشرب عليه من هذا النبيذ فيقطعه في بطوننا.
ولكثرة ما روي من الآثار في إباحة شرب المثلث ذكر أبو حنيفة رحمه الله فيما عد من خصال مذهب أهل السنة. وأن لا يحرم نبيذ الجر. وعن بعض السلف قال لأن أخر من السماء فانقطع نصفين أحب إلي من أن أحرم نبيذ الجر وإنما قال ذلك لما في التحريم من رد الآثار المشهورة وإساءة القول في الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وذلك لا يحل فأما مع الإباحة فقد لا يعجب المرء الإصابة من بعض المباحات للاحتياط أو لأنه لا يوافق طبعه وهذه الرخصة تثبت بعد التحريم فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا روي عن بن مسعود رضي الله عنه قال شهدت تحريمه كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ذلك ونسيتم فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة.
وعن إبراهيم رحمه الله قال إنما كره التمر والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم والتمر وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين فأما اليوم فلا بأس به وهذا منه بيان تأويل النهي عن شراب الخليطين وإنه لا بأس به اليوم وعن إبراهيم قال قول الناس ما أسكر كثيره فقليله حرام خطأ منهم إنما أراد السكر حرام فأخطئوا وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك فمر بقوم يزفتون فقال:
"ما هؤلاء" فقيل أصابوا من شراب لهم: "فنهاهم أن يشربوا في الدباء والحنتم والمزفت" فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة فأذن لهم أن يشربوا منها ونهاهم عن المسكر وفيه دليل أن الرخصة كانت بعد النهي وأنه عليه الصلاة والسلام نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد أن لا يبلغوا حد المسكر والزبيب المعتق إذا لم يطبخ فلا بأس بشربه ما لم يغل فإذا غلا واشتد فلا خير فيه. والكلام هنا في فصول أحدها في الخمر وقد بيناه وإنما بقي الكلام فيه في فصل واحد وهو أن عند أبي حنيفة العصير وإن اشتد فلا بأس بشربه ما لم يغل ويقذف بالزبد فإذا غلا وقذف بالزبد فهو خمر حينئذ.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا اشتد فهو خمر لأن صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل وذلك باعتبار صفة الشدة فيه يوضحه أن حرمة الخمر لما في شربها من إيقاع العداوة والصد عن ذكر الله تعالى وذلك باعتبار اللذة المطربة والقوة المسكرة فيها فأما بالغليان والقذف بالزبد فيرق ويصفو ولا تأثير لذلك في إحداث السكر فبعد ما صار مشتدا فهو خمر سواء غلا وقذف بالزبد أو لم يغل. يوضحه أنه قد يحتال بإلقاء شيء عليه

 

ج / 24 ص -13-       ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ولا قذف بالزبد أصلا ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا فعرفنا أن المعتبر فيه الشدة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المسكر صفة العصير وهو أصل لما يعصر من العنب وما بقي أثر من آثار الأصل فالحكم له.
 ألا ترى  أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان ثم حكم الصحة والحد لا يمكن إثباته بالرأي ولكن طريق معرفته النص والنص إنما ورد بتحريم الخمر والخمر مغاير للعصير ولا تتم المغايرة مع بقاء شيء من آثار العصير وقد كان الحل ثابتا فيه وما عرف ثبوته بيقين لا يزال إلا بيقين مثله وذلك بعد الغليان والقذف بالزبد والأصل في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنى والسرقة لا يجب إلا بعد كمال الفعل اسما وصورة ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم والحدود تندرى ء بالشبهات فلهذا استقصى أبو حنيفة رحمه الله وقال لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشدة إلا بعد الغليان والقذف بالزبد فأما نبيذ التمر ونبيذ الزبيب, فإن لم يطبخ حتى غلا واشتد وقذف بالزبد فهو حرام لما روينا من الآثار فيه وبعد الطبخ يحل شربه وإن اشتد واتفقت الروايات في التمر أن المعتبر فيه أدنى الطبخ وهو أن ينضج وفي الزبيب المعتق كذلك وهو أن يكسر بشيء ثم تستخرج حلاوته بالماء كما في التمر وأما إذا نقع في الماء فقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يعتبر فيه الطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه كما في العصير. والوجه فيه ما حكي عن السلف رحمهم الله أن ما يكون منه العصير ابتداء إذا أعيد إلى ما كان عليه في الابتداء فحكم ما يعصر منه حكم العصير وما لا يكون منه العصير في الابتداء لا يثبت فيه حكم العصير في الانتهاء فما يسيل من الرطب في الابتداء يحل بأدنى الطبخ فكذلك في الانتهاء وما يسيل من العنب في الابتداء لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه فكذلك في الانتهاء, فأما في ظاهر المذهب فالزبيب والتمر سواء وإذا طبخ أدنى طبخه فإنه يحل شرب القليل منه وإن اشتد لأن العصير الذي كان في العنب قد ذهب حين زبب والزبيب عين آخر سوى العنب.
 ألا ترى  إن غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق المغصوب منه في الاسترداد فإذا تعتبر حاله على هذه الصفة وعلى هذه الصفة هو والتمر سواء في الحكم ثم التي من نبيذ التمر والزبيب وإن كان لا يحل شربه فهو ليس نظير الخمر في الحكم حتى يجوز بيعه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز بيعه ولا يجب الحد بالشرب منه ما لم يسكر.
وإذا أصاب الثوب منه أكثر من قدر الدرهم تجوز الصلاة فيه وكذلك المنصف وهو الذي ذهب بالطبخ نصفه إذا غلا واشتد لا يحل شربه ولكن يجوز بيعه عند أبي حنيفة ولا يجب الحد على من شرب منه ما لم يسكر وتجوز الصلاة فيه إذا أصاب الثوب منه ما لم يكن كثيرا فاحشا وفي النادق وهو ما طبخ أدنى طبخه وكان دون النصف فأظهر الروايتين عن أبي

 

ج / 24 ص -14-       حنيفة رحمه الله أنه بمنزلة المنصف في حكم البيع والحد وعنه في رواية أخرى أنه ألحق بالخمر في أنه لا يجوز بيعه وأما حكم النجاسة فيه فلأنه مختلف بين العلماء رحمهم الله في حرمته ويتحقق فيه معنى البلوى أيضا وباعتبار هذين المعنيين يخف حكم النجاسة كما في بول ما يؤكل لحمه وأما في حكم الحد فلأن العلماء رحمهم الله لما اختلفوا في حرمته فالاختلاف المعتبر يورث شبهة والحد مما يندرى ء بالشبهات وأما حكم البيع فهما يقولان أن عينه محرمة التناول فلا يجوز بيعه كالخمر وهذا لأن البيع باعتبار صفة المالية والتقوم باعتبار كونه منتفعا به شرعا ولا منفعة في هذا المشروب سوى الشرب وإذا كان محرم الشرب شرعا كان فاسدا لماليته والتقوم شرعا فلا يجوز بيعه كالخمر ولأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم سوى في الخمر بين البيع والشرب حين لعن بائعها ومشتريها كما لعن شاربها وهذا لأن البيع يكون تسليطا للمشتري على الشرب عادة فإذا كان الشرب حراما حرم البيع أيضا وهذا المعنى موجود في هذه الأشربة، وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا شراب مختلف في إباحة شربه بين العلماء رحمهم الله فيجوز بيعه كالمثلث وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع فإن الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه وكذلك بيع السرقين جائز وإن كان تناوله حراما والسرقين محرم العين ومع ذلك كان بيعه جائزا فكذلك المنصف وما أشبهه وبطلان بيع الخمر عرفناه بالنص الوارد فيه وما عرف بالنص لا يلحق به إلا ما يكون في معناه من كل وجه وهذه الأشربة ليست في معنى الخمر من كل وجه بدليل حكم الحد وحكم النجاسة فجاز بيعها باعتبار الأصل.
فأما المثلث على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فلا بأس بشربه والمسكر منه حرام وهو رواية عن محمد رحمه الله أيضا وعنه أنه كره شربه. وعنه أنه حرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله احتجوا في ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام" وفي رواية قال:
"ما أسكر كثيره فقليله حرام" وفي رواية: "ما أسكرت الجرعة منه فالجرعة منه حرام" وفي رواية: "فملء الكف منه حرام" ولأن المثلث بعد ما اشتد خمر لأن الخمر إنما يسمى بهذا الاسم لا لكونه ماء.
ألا ترى أن العصير الحلو لا يسمى خمرا وإنما تسميته بالخمر لمعنى مخامرته العقل وذلك موجود في سائر الأشربة المسكرة.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
كل مسكر خمر ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على إثبات هذا الاسم له فإذا سماه صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام به وهو أفصح العرب أولى. يوضحه أن الكثير من هذه الأشربة مساو للكثير من الخمر في حكم الحرمة ووجوب الحد فكذلك القليل, وبهذا تبين أن القليل في الحرمة كالكثير لأن شرب القليل منه لو كان مباحا لما وجب الحد وإن سكر منه لأن السكر إنما حصل بشرب الحلال والحرام جميعا فباعتبار جانب الحلال يمنع وجوب الحد عليه, وإذا

 

ج / 24 ص -15-       اجتمع الموجب للحد والمسقط له ترجح المسقط على الموجب. وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا بما روينا من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم وأقوى ما يستدل به قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها والمسكر من كل شراب" وبهذا تبين أن اسم الخمر لا يتناول سائر الأشربة حقيقة لأن عطف الشيء على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم وقد بينا أنه كان يسمى خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة وما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كل مسكر خمر" لا يكاد يصح فقد قال يحيى بن معين رحمه الله ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر في جملتها "كل مسكر خمر" ثم مراد النبي عليه الصلاة والسلام تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي ونحن نقول أن المسكر وهو القدح الأخير مشبه للخمر في أنه يجب الحد بشربه.
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"استسقى يوم النحر عام حجة الوداع فأتى بنبيذ من السقاية فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ورده" قال العباس رضي الله عنه أحرام هذا يا رسول الله فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بماء وصب عليه ثم شرب وقال: إنه إذا استلبث عليكم شيء من الأشربة فاكسروا متونها بالماء فقد كان مشتدا" ولهذا قطب وجهه ورده ثم لما خاف أن يظن الناس أنه حرام أخذه وشربه فدل أن المشتد من المثلث لا بأس بشربه. ولا يقال إنما قطب وجهه لحموضته لأن شرب السقاية إنما كان يتخذ لشرب الحاج ولا يسقى الخل العطشان فعرفنا أنه قطب وجهه للشدة والمعنى فيه أن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعلم بالإصابة منه تلك اللذة فيتم الترغيب فيه وما هو مباح في الدنيا يصير كالأنموذج لما هو موعود في دار الآخرة.
ألا ترى أنه لما وعد الله المؤمنين الشرب في الكأس في الذهب والفضة في الآخرة أحل من جنسه في الدنيا وهو الشرب من الكأس المتخذ من الزجاج والبلور وغير ذلك لهذا المعنى ولهذا الماء وعد المؤمنين الحلية في الآخرة أحل لهم ما هو من جنس ذلك في ذلك.
ونقرر هذا الحرف من وجه آخر فنقول إن الشرع حرم الخمر ولا شك أن هذه الحرمة لمعنى الابتلاء وإنما يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذة ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس وتعاطيها للأمر وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق والإصابة فلا بد من أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة فيتحقق معنى الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا وغيره إلا أن في الخمر القليل والكثير منه حرام لأن قليله يدعو إلى كثيره فأما هذه الأشربة ففيها من الغلظ والكثافة ما لا يدعو قليلها إلى كثيرها فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة والمسكر منها حرام.

 

ج / 24 ص -16-       وقد بينا أن المسكر هو الكأس الأخير وأنه مباين في الحكم لما ليس بمسكر منه وهو كمن شرب أقداحا من ماء ثم شرب قدحا من الخمر فالمحرم عليه هو الخمر وبها يلزمه الحد دون ما سبق من الأقداح فهذا مثله. فإن كان يسكر بشرب الكثير منه فذاك لا يدل على أنه يحرم تناول القليل منه كالبنج ولبن الفرس. وأما الحديث فنحن نقول به وكل مسكر عندنا حرام وذلك القدح الأخير وروي عن أبي يوسف أنه قال في تأويله إذا كان يشرب على قصد السكر فإن القليل والكثير على هذا القصد حرام فأما إذا كان يشرب لاستمراء الطعام فلا فهو نظير المشي على قصد الزنى يكون حراما وعلى قصد الطاعة يكون طاعة. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" هو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والقدح الأخير الذي هو مسكر قليله وكثيره حرام" ثم هذا عند التحقيق دليلنا فبهذا يتبين أن ما هو الكثير منه يكون مسكرا فالمحرم عليه قليل من ذلك الكثير وإنما يكون ذلك إذا جعلنا المحرم هو القدح الأخير فأما إذا جعلنا الكل محرما فلا يكون المحرم قليلا من ذلك الكثير كما اقتضاه ظاهر الحديث.
ثم قد بينا أن هذا كان في الابتداء لتحقيق الزجر ثم جاءت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه ومهما أمكن الجمع بين الآثار فذلك أولى من الأخذ ببعضها والإعراض عن بعضها ولا بأس بنبيذ التمر والبسر جميعا أو أحدهما وحده إذا طبخ لأن البسر من نوع التمر فإنه يابس العصب. وقد بينا أن المطبوخ من نبيذ التمر شربه حلال والمسكر منه حرام وكذلك التمر والزبيب أو البسر والزبيب وهو شراب الخليطين وقد بينا الكلام فيه وبعد ما طبخ معتقه وغير معتقه سواء في إباحة الشرب يعني المشتد منه وغير المشتد منه والمحرم المسكر منه وذلك بغير المشتد لا يحصل ولو حصل كان محرما أيضا بمنزلة الأكل فوق الشبع ولا بأس بهذه الأنبذة كلها من العسل والذرة والحنطة والشعير والزبيب والتمر وكل شيء من ذلك أو غيره من النبيذ عتق أو لم يعتق خلط بعضها ببعض أو لم يخلط بعد أن يطبخ أما الكلام في نبيذ التمر والزبيب فقد بيناه وأما في سائر الأنبذة ففي ظاهر الجواب لا بأس بالشرب منه مطبوخا كان أو غير مطبوخ.
وفي النوادر روى هشام عن محمد رحمهما الله أن شرب النيء منه بعد ما اشتد لا يحل لقوله عليه الصلاة والسلام:
"الخمر من خمسة من النخل والكرم والحنطة والشعير والذرة" وليس المراد به أنه خمر حقيقة وإنما المراد التشبيه بالخمر في أنه لا يحل شربه وقد ثبت بالدليل أن النيء من نقيع الزبيب والتمر إذا كان مشتدا لا يحل شربه فكذلك من سائر الأشربة لأن معنى الشدة يجمع الكل. وجه ظاهر الرواية أن العسل والذرة والشعير حلال التناول متغيرا كان أو غير متغير فكذلك ما يتخذ منها من الأشربة لأن هذا في معنى الطعام والتغير في الطعام لا يؤثر في الحرمة فكذلك نفس الشدة لا توجب الحرمة فقد يوجد ذلك في بعض الأدوية كالبنج وفي بعض الأشربة كاللبن والحديث فيه شاذ والشاذ فيما تعم به

 

ج / 24 ص -17-       البلوى لا يكون مقبولا وهو محمول على التحريم الذي كان قبل الرخصة لتحقق المبالغة في الزجر ولا حد على شارب ما يتخذ من العسل والحنطة والشعير والذرة. وكذلك ما يتخذ من الفانيد والتوت والكمثري وغير ذلك أسكر أو لم يسكر لأن النص ورد بالحد في الخمر وهذا ليس في معناه فلو أوجبنا فيه الحد كان بطريق القياس ثم الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه ودعاء الطبع إلى هذه الأشربة لا يكون كدعاء الطبع إلى المتخذ من الزبيب والعنب والتمر فلا يشرع فيه الزجر أيضا وإن اشتد عصير العنب وغلا وقذف بالزبد ثم طبخ بعد ذلك لم يحل بالطبخ لأن الطبخ لاقى عينا حراما فلا يفيد الحل فيه كطبخ لحم الخنزير وهذا لأنه ليس للنار تأثير في الحل ولا في تغيير طبع الجوهر بخلاف العصير الحلو إذا طبخ فالطبخ هناك حصل في عين حلال.
وللطبخ تأثير في منع ثبوت صفة الحرمة فيه كما بينا أن الخمر هي التي من ماء العنب إذا اشتد. فإذا طبخ العصير ثم اشتد فهو حين اشتد ما كان نيأ فلا يكون خمرا فأما الأول فحين اشتد كان نيأ وصار خمرا ثم الطبخ في الخمر لا يوجب تبديل عينه ولهذا يحد من شرب منه قليلا كان أو كثيرا. ولا بأس بنبيذ الفضيخ يعني إذا صب عليه الماء ثم طبخ وترك حتى اشتد فهذا لا بأس به لأن الطبخ لاقى عينا حلالا ولأنه إن رق فرقته باعتبار ما فيه من أجزاء الماء والماء حلال الشرب وحده والفضيخ كذلك فكذلك بعد الجمع بينهما. قلت فهل يرخص في شيء من المطبوخ على النصف أو أقل من ذلك وهو حلو. قال لا أرخص في شيء من ذلك إلا ما قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. قيل هذا غلط والصحيح وهو غير حلو فالحلو حلال وإن كان نيأ كيف لا يحل بعد الطبخ. وقيل المراد به أنه طبخ وهو حلو لم يتغير حين ذهب منه النصف أو أقل ثم ترك حتى اشتد فهذا هو المنصف والقاذف وقد بينا الكلام فيهما في حكم الشراء والبيع.
وإذا وقعت قطرة من خمر أو مسكر أو نقيع زبيب قد اشتد في قدح من ماء أمرت بإراقته وكرهت شربه والتوضؤ به لأنه تنجس بما وقع فيه والتوضؤ بالماء النجس لا يجوز. وإذا شربه فلا بد أن يكون شاربا للقطرة الواقعة فيه وذلك حرام ولأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحل والموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة على الموجب للحل. فإن شرب رجل ماء فيه خمر فإن كان الماء غالبا بحيث لا يوجد فيه طعم الخمر ولا ريحه ولا لونه لم يحد لأن المغلوب مستهلك بالغالب والغالب ماء نجس ولأن الحد للزجر والطباع السليمة لا تدعو إلى شرب مثله على قصد التلهي فأما إذا كان الخمر غالبا حتى كان يوجد فيه طعمه وريحه وتبين لونه حددته لأن الحكم للغالب والغالب هو الخمر ولأن الطباع تميل إلى شرب مثله للتلهي وقد يؤثر المرء الممزوج على الصرف وقد يشرب بنفسه صرفا ويمزج لجلسائه وهو وإن مزجه بالماء لم يخرج من أن يكون خمرا اسما وحكما ومقصودا ولو لم يجد فيه ريحها ووجد طعمها حد لأن الرغبة في شربها لطعمها لا لريحها.

 

ج / 24 ص -18-       ألا ترى أنه يتكلف لإذهاب ريحها ولزيادة القوة في طبعها. ولو ملأ فاه خمرا ثم مجه ولم يدخل جوفه منها شيء فلا حد عليه لأنه ذاق الخمر وما شرب.
ألا ترى أنه لا يحنث في اليمين المعقودة على الشرب بهذه وأن الصائم لو فعله مع ذكره للصوم لا يفسد صومه. وكذلك الطبع لا يميل إلى هذا الفعل فلا يشرع فيه الزجر بخلاف شرب القليل فإنه من جنس الشرب والطبع مائل إلى شرب الخمر.
قلت والتمر المطبوخ يمرس فيه العنب فيغليان جميعا والعنب غير مطبوخ. قال أكره ذلك وأنهي عنه ولا أحد من شرب منه إلا أن يسكر والكلام في فصلين أحدهما في طبخ العنب قبل أن يعصر فإن الحسن روى عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه بمنزلة الزبيب والتمر يكفي أدنى الطبخ فيه. ولكن الحسن بن أبي مالك رحمه الله أنكر هذه الرواية وقال سمعت أبا يوسف عن أبي حنيفة يقول إنه لا يحل ما لم يذهب ثلثا ما فيه بالطبخ وهو الأصح لأن الذي في العنب هو العصير والعصر مميز له عن الثفل والقشر وكما لا يحل العصير بالطبخ ما لم يذهب منه ثلثاه فكذلك العنب فإن جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين الزبيب والتمر لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه بخلاف ما لو خلط عصير العنب بنقيع التمر والزبيب وهذا لأن العصر لا يحل بالطبخ ما لم يذهب ثلثاه إذا كان وحده فكذلك إذا كان مع غيره لأنه اجتمع فيه الموجب للحل والحرمة وفي مثله يغلب الموجب للحرمة احتياطا.
وذكر المعلى في نوادره أن نقيع التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخه ثم نقع فيه تمر أو زبيب فإن كان ما نقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله فهو معتبر ولا بأس بشربه. وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل شربه ما لم يطبخ قبل أن يشتد لأنه في معنى نقيع مطبوخ. ولو صب في المطبوخ قدح من نقيع لم يحل شربه إذا اشتد ويغلب الموجب للحرمة على الموجب للحل فهذا مثله. ولا يحد في شرب شيء من ذلك ما لم يسكر إما لاختلاف العلماء رحمهم الله في إباحة شربه أو لأن ثبوت الحرمة للاحتياط وفي الحدود يحتال للدرء وللإسقاط فلا يجب به الحد ما لم يسكر.
وإن خلط الخمر بالنبيذ وشربه رجل ولم يسكر فإن كانت الخمر هي الغالبة حددته وإن كان النبيذ هو الغالب لم نحده لما بينا أن المغلوب يصير مستهلكا بالغالب ويكون الحكم للغالب وهذا في الجنسين مجمع عليه والنبيذ والخمر جنسان مختلفان فإن أحكامهما مختلفة فإن طبخ الزبيب وحده أو التمر ثم مرس العنب فيه فلا بأس به ما دام حلوا فإذا اشتد فلا خير فيه. وكذلك إن مرس العنب في نبيذ العسل فهو بمنزلة عصير خلط بنبيذ واشتد فإن طبخا جميعا حتى ذهب ثلثا العصير ثم اشتد فلا بأس به لأن ما هو الشرط في العصير وهو ذهاب الثلثين بالطبخ قد وجد والعنب الأبيض والأسود يعصران لا بأس بعصيرهما ما دام حلوا فإذا اشتد فهو خمر وإنما أورد هذا لأنه وقع عند بعض العوام أن الخمر من العنب

 

ج / 24 ص -19-       الأسود دون الأبيض هذا وإن كان لا يشكل على الفقهاء فلرد ما وقع عند العوام كما ذكر في الاصطياد بالكلب الكردي في كتاب الصيد وقد بيناه. وما طبخ من التمر والزبيب وعتق فلا بأس به.
وقال أبو يوسف رحمه الله أكره المعتق من الزبيب والتمر وأنهي عنه وهذا قوله الأول على ما بينا أنه كان يقول أولا كل نبيذ يزداد جودة عند إبانه فلا خيار فيه وقد رجع عن هذا إلى قول أبي حنيفة وقد ذكر رجوعه في روايات أبي حفص رحمه الله. وكذلك نبيذ التمر المعتق يجعل فيه الراذي وهو شيء يجعلونه في نبيذ التمر عند الطبخ لتقوى به شدته وينتقص من النفخ الذي هو فيه والشدة بعد الطبخ لا تمنع شربه فكذلك إذا جعل فيه ما تتقوى به الشدة فذلك يمنع شربه ويكره شرب دردي الخمر والانتفاع به لأن الدردي من كل شيء بمنزلة صافيه والانتفاع بالخمر حرام فكذلك بدرديه وهذا لأن في الدردي أجزاء الخمر.
ولو وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به فالدردي أولى. والذي روي أن سمرة بن جندب رضي الله عنه كان يتدلك بدردي الخمر في الحمام فقد أنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك حتى لعنه على المنبر لما بلغه ذلك عنه وليس لأحد أن يأخذ بذلك بعد ما أنكره عمر رضي الله عنه, ولو شرب منه ولم يسكر فلا حد عليه عندنا. وقال الشافعي رحمه الله يلزمه الحد لأن الحد يجب بشرب قطرة من الخمر وفي الدردي قطرات من الخمر. ولكنا نقول وجوب الحد للزجر وإنما يشرع الزجر فيما تميل إليه الطباع السليمة والطباع لا تميل إلى شرب الدردي بل من يعتاد شرب الخمر يعاف الدردي فيكون شربه كشرب الدم والبول ثم الغالب على الدردي أجزاء ثفل العنب من القشر وغيره ولو كان الغالب هو الماء لم يجب الحد بشربه كما بينا فكذلك إذا كان الغالب ثفل العنب ولا بأس بأن يجعل ذلك في خل لأنه يصير خلا فإن من طبع الخمر يصير خلا إذا ترك كذلك فإذا غلب عليه الخل أولى أن يصير خلا وخل الخمر حلال.
وإذا طبخ في الخمر ريحان يقال له سوسن حتى يأخذ ريحها ثم يباع لا يحل لأحد أن يدهن أو يتطيب به لأنه عين الخمر وإن تكلفوا لإذهاب رائحته برائحة شيء آخر غلب عليها, والانتفاع بالخمر حرام قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرا بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لعن الله في الخمر عشرا" وقال في الجملة من ينتفع بها ولا تمتشط المرأة بالخمر في الحمام لأنها في خطاب تحريم الشرب كالرجل وكذلك في وجوب الحد عليها عند الشرب فكذلك في الانتفاع بها من حيث الامتشاط وذلك شيء يصنعه بعض النساء لأنه يزيد في ترنيق الشعر وقد صح عنعائشة رضي الله عنها أنها كانت تنهي النساء عن ذلك أشد النهي.
وكذلك لا يحل أن يسقى الصبيان الخمر للدواء وغير ذلك والإثم على من يسقيهم لأن الإثم ينبني على الخطاب والصبي غير مخاطب ولكن من يسقيه مخاطب فهو الآثم

 

ج / 24 ص -20-       والأصل فيه حديث بن مسعود رضي الله عنه قال إن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تداووهم بالخمر ولا تغذوهم بها فإن الله تعالى لم يجعل في رجس شفاء وإنما الإثم على من سقاهم.
ويكره للرجل أن يداوي بها جرحا في بدنه أو يداوي بها دابته لأنه نوع انتفاع بالخمر والانتفاع بالخمر محرم شرعا من كل وجه ثم الضرورة لا تتحقق لما بينا أنه لا بد أن يوجد غير ذلك من الحلال ما يعمل عمله في المداواة, وإن غسل الظرف الذي كان فيه الخمر فلا بأس بالانتفاع به ولا بأس أن يجعل فيه النبيذ والمربى لأن الظرف كان تنجس بما جعل فيه من الخمر فهو كما لو تنجس يجعل البول والدم فيه فيطهر بالغسل وإذا صار طاهرا بالغسل حل الانتفاع به والدليل على أنه يطهر بالغسل قوله عليه الصلاة والسلام:
"وإنما يغسل الثوب من خمس" وذكر فيها الخمر فعرفنا أنه يطهر الثوب بعد ما يصيبه الخمر بالغسل فكذلك الظروف.
والذي روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بكسر الدنان وشق الروايا قد بينا أنه كان في الابتداء للمبالغة في الزجر عن العادة المألوفة ثم قيل في تأويله المراد ما يشرب فيه الخمر حتى لا يمكن استخراجه بالغسل وتوجد رائحة الخمر من كل ما يجعل فيه فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فهو يطهر بالغسل فلا يحل كثيره لأنه عين منتفع به بطريق حلال شرعا قلت فالخمر يطرح فيها السمك والملح فيصنع مربى قال لا بأس بذلك إذا تحولت عن حال الخمر. وأصل المسألة أن تحليل الخمر بالعلاج جائز عندنا ويحل تناول الخل بعد التخليل. وعند الشافعي التخليل حرام بإلقاء شيء في الخمر من ملح أو خل ولا يحل ذلك الخل, قولا واحدا, والتخليل من غير إلقاء شيء فيه بالنقل من الظل إلى الشمس أو ايقاد النار بالقرب منه لا يحل عنده أيضا ولكن إذا تخلل فله قولان في إباحة تناول ذلك الخل, واحتج في ذلك بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام:
"نهى عن تخليل الخمر" وفي رواية: "نهى أن تتخذ الخمر خلا" وفي حديث أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان في حجره خمور ليتامى فلما نزل تحريم الخمر, قال ماذا أصنع بها يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: "أرقها" قال أفلا أخللها قال عليه الصلاة والسلام: "لا" فقد أمره بالإراقة. ولو كان التخلل جائزا لأرشده إلى ذلك لما فيه من الإصلاح في حق اليتامى فلما سأله عن التخلل نهاه عن ذلك فلو كان جائزا لكان الأولى أن يرخص فيه في خمور اليتامى.
وإذا ثبت بهذه الأخبار أن التخليل حرام فالفعل المحرم شرعا لا يكون مؤثرا في الحل كذبح الشاة في غير مذبحها ولأن الخمر عين محرم الانتفاع بها من كل وجه والتخليل تصرف فيها على قصد التمول فيكون حراما كالبيع والشراء وكما لو ألقى في الخمر شيئا حلوا كالسكر والفانيد حتى صار حلوا وهذا لأن نجاسة العين توجب الاجتناب وفي التخليل اقتراب منه وذلك ضد المأمور به نصا في قوله عز وجل
{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: من الآية90] بخلاف الخمر للإراقة فإنه مبالغة في الاجتناب عنه ثم ما يلقى في الخمر نجس بملاقاة الخمر إياه وما

 

ج / 24 ص -21-       يكون نجسا في نفسه لا يفيد الطهارة في غيره وعلى هذا الحرف تفصيل بين ما إذا ألقي فيه شيء وبين ما إذا لم يجعل فيه شيء وهذا بخلاف ما إذا تخلل بنفسه لأنه لم يوجد هناك تنجيس شيء بإلقائه فيه ولا مباشرة فعل حرام في الخمر فهو نظير الصيد إذا خرج من الحرم بنفسه حل اصطياده ولو أخرجه إنسان لم يحل ووجب رده إلى الحرم.
ومن قتل مورثه يحرم عن الميراث بمباشرته فعلا حراما بخلاف ما إذا مات بنفسه وحقيقة المعنى فيه أن من طبع الخمر أن يتخلل بمضي الزمان فإذا تخللت فقد تحولت بطبعها وصارت في حكم شيء آخر، فأما التخليل فليس بتقليب للعين لأنه ليس للعباد تقليب الطباع وإنما الذي إليهم إحداث المجاورة بين الأشياء فيكون هذا تنجيسا لما يلقى في الخمر لا تقليبا لطبع الخمر وهو نظير الشاب يصير شيخا بمضي الزمان وبتكليفه لا يصير شيخا فإذا لم يتبدل طبعه بهذا التخليل بقي صفة الخمرية فيه وإن كان لم يطهر كما إذا ألقي فيه شيئا من الحلاوة وهذا بخلاف جلد الميتة إذا دبغ فإن نجاسة الجلد بما اتصل به من الدسومات النجسة والدبغ إزالة لتلك الدسومة وإلى العباد الفصل والتمييز بين الأشياء فكان فعله إصلاحا من حيث إنه يميز به الطاهر من النجس فأما نجاسة الخمر فلعينها لا لغير اتصل بها وإنما تنعدم هذه الصفة بتحولها بطبعها ولا أثر للتخليل في ذلك.
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر كالخمر يخلل فيحل" ولا يقال قد روي كالخمر تخلل فحل لأن الروايتين كالخبرين فيعمل بهما ثم ما رويناه أقرب إلى الصحة لأنه شبه دبغ الجلد به والدبغ يكون بصنع العباد لا بطبعه فعرفنا أن المراد التخليل الذي يكون بصنع العباد. والمعنى فيه أن هذا صلاح لجوهر فاسد فيكون من الحكمة والشرع أن لا ينهي عما هو حكمة وبيان الوصف أن الخمر جوهر فاسد فإصلاحه بإزالة صفة الخمرية عنه والتخليل إزالة لصفة الخمرية فعرفنا أنه اصلاح له وهو كدبغ الجلد فإن عين الجلد نجس ولهذا لا يجوز بيعه.
ولو كانت النجاسة بما اتصل به من الدسومات لجوز بيعه, كالدسومات النجسة ولكن الدبغ إصلاح له من حيث أنه يعصمه عن النتن والفساد فكان جائزا شرعا ولا معنى لما قال إن هذا إفساد في الحال لما يلقى فيه لأن هذا موجود في دبغ الجلد فإنه إفساد لما يجعل فيه من الشب والقرظ وهذا إصلاح باعتبار مآله والعبرة للمآل لا للحال فإن إلقاء البذر في الأرض يكون إتلافا للبذر في الحال ولكنه إصلاح باعتبار مآله وبهذا يتبين أن التخليل ليس بتصرف في الخمر على قصد تمول الخمر بل هو إتلاف لصفة الخمرية وبين تمول الخمر وإتلاف صفة الخمرية منافاة فما كان الاقتراب من العين لإتلاف صفة الخمرية إلا نظير الاقتراب منها لإراقة العين وذلك جائز شرعا ونحن نسلم أن تقليب الطباع ليس إلى العباد وإنما إليهم إحداث المجاورة ولكن إحداث المجاورة بين الخل والخمر بهذه الصفة يقوى على إتلاف صفة الخمرية بتحولها إلى طبع الحل في أسرع الأوقات فكان هذا أقرب إلى

 

ج / 24 ص -22-       الجواز من الإمساك وإذا جاز الإمساك إلى أن يتخلل فالتخليل أولى بالجواز وأما إذا ألقى فيه شيئا من الحلاوة فذلك ليس بإتلاف لصفة الخمرية لأنه ليس من طبع الخمر أن يصير حلوا فعرفنا أن معنى الشدة والمرارة قائم فيه وإن كان لا يظهر لغلبة الحلاوة عليه فأما من طبع الخمر أن يصير خلا فيكون التخليل إتلافا لصفة الخمرية كما بينا.
يوضحه أن من وجه فعليه إحداث المجاورة ومن وجه إتلاف لصفة الخمرية كما قلنا فيوفر حظه عليهما فيقول لاعتبار جانب إحداث المجاورة لا يحل بإلقاء شيء من الحلاوات فيه ولاعتبار جانب إتلاف صفة الخمرية يحل التخليل فأما ما روي من النهي عن التخليل فالمراد أن يستعمل الخمر استعمال الخل بأن يؤتدم به ويصطبغ به وهو نظير ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تحليل الحرام وتحريم الحلال وأن تتخذ الدواب كراسي والمراد الاستعمال ولما نزل قوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31], قال عدي بن حاتم رضي الله عنه ما عبدناهم قط قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس كانوا يأمرون وينهون فيطيعونهم" قال نعم فقال عليه الصلاة والسلام: "هو ذاك قد فسر الاتخاذ بالاستعمال" وفي حديث أبي طلحة ذكر بعض الرواة أفلا أخللها قال: "نعم" وإن صح ما روي فإنما نهى عن التخليل في الابتداء للزجر عن العادة المألوفة فقد كان يشق عليهم الانزجار عن العادة في شرب الخمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمور ونهى عن التخليل لذلك كما أمر بقتل الكلاب للمبالغة في الزجر عن العادة المألوفة في اقتناء الكلاب ثم كان لا يأمن عليهم أن يعفوا في خمور اليتامى إذ لم يبق بأيديهم شيء من الخمر فأمر في خمور اليتامى أيضا بالإراقة للزجر والواجب على الوصي المنع من إفساد مال اليتيم لا إصلاح ما فسد منه.
ألا ترى أن شاة اليتيم إذا ماتت لا يجب على الوصي دبغ جلدها وإن كان لو فعله جاز فكذلك لا يجب عليه التخليل وإن كان لو فعله كان جائزا إذا ثبت جواز التخليل فكذلك جواز اتخاذ المربى من الخمر بإلقاء الملح والسمك فيه لأنه إتلاف لصفة الخمرية كما في التخليل والذي روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن ذلك يعارضه ما روي أن بن عباس رضي الله عنه سئل عن ذلك فقال لا بأس به ثم تأويل حديث عمر رضي الله عنه مثل ما بينا من تأويل الحديث المرفوع أنه نهى عن ذلك على طريق السياسة للزجر.
ولا يحل للمسلم بيع الخمر ولا أكل ثمنها لأن الله تعالى سماها رجسا فيقضي ذلك بنجاسة العين وفساد المالية والتقوم كما في الميتة والدم ولحم الخنزير وقد أمر بالاجتناب عنها فاقتضى ذلك أن لا يجوز للمسلم الاقتراب منها على جهة التمول بحال وفي الحديث أن أبا عامر كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر كل عام فأهدى له في العام التي حرمت فيه فقال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله قد حرم الخمر فلا حاجة لي في خمرك" قال خذها وبعها وانتفع بثمنها في حاجتك فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا عامر إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها".

 

ج / 24 ص -23-       وسئل بن عمر رضي الله عنه عن بيع الخمر وأكل ثمنها. فقال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها وإن الذي حرم الشرب حرم بيعها وأكل ثمنها وممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر بائعها ومشتريها. فإن صنع الخمر في مرقه ثم طبخ لم يحل أكله ولا يحل هذا الصنع لأن فيه استعمال الخمر كاستعمال الخل وقد بينا أن هذا منهى عنه ثم الطبخ في الخمر لا يحلها ولا يغير الحكم الثابت فيها كما لو طبخها لا في مرقه ولكن لا يحد من شرب تلك المرقة لأن الغالب عليها غير الخمر.
وقد بينا أن المعتبر هو الغالب في حكم الحد ولأن وجوب الحد بشرب الخمر والمرقة تؤكل مع الطعام والأكل غير الشرب ولهذا لا نوجب الحد في الدردي لأنه إلى الأكل أقرب منه إلى الشرب ويكره الاحتقان بالخمر والاقطار منها في الإحليل ولا حد في ذلك. أما الاستشفاء بعين الخمر فقد بينا أنه لا يحل عندنا. والشافعي يجوز ذلك إذا أخبره عدلان أن شفاءه في ذلك ولا حد عليه لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله في إباحة هذا الفعل ولحاجته إلى التداوي ثم ما يقطر في إحليله لا يصل إلى جوفه ولهذا لا يفطره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله والحقنة وإن كانت مفطرة فالحد لا يلزمه فيما يصل إلى جوفه من أسافل البدن لأن الحد للزجر والطبع لا يميل إلى ذلك والتمر يطبخ ويطبخ معه الكشوثا فنبذ فلا بأس به لأن ما يطبخ معه يزيد في شدته وقد بينا أن الشدة لا توجب الحرمة في المطبوخ من التمر.
ولو عجن الدقيق بالخمر ثم خبز كرهت أكله لأن الدقيق تنجس بالخمر والعجين النجس لا يطهر بالخبز فلا يحل أكله. ولو صب الخمر في حنطة لم يؤكل حتى تغسل لأنها تنجست بالخمر فإن غسل الحنطة وطحنها ولم يوجد فيها طعم الخمر ولا ريحها فلا بأس بأكلها لأن النجاسة كانت على ظاهرها وقد زالت بالغسل بحيث لم يبق شيء من آثارها فهو وما لو تنجست ببول أو دم سواء. فإن تشربت الخمر في الحنطة فقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف تغسل ثلاث مرات وتجفف في كل مرة فتطهر. وعند محمد رحمه الله لا تطهر بحال لأن الغسل إنما يزيل ما على ظاهرها فأما ما تشرب فيها فلا يستخرج إلا بالعصر والعصر في الحنطة لا يتأتى وهو إلى القياس أقرب. وما قاله أبو يوسف أرفق بالناس لأجل البلوى والضرورة في جنس هذا فإن هذا الخلاف في فصول منها التروي إذا تشرب البول فيه واللوح والآجر والخزف الجديد والنعل في الحمام وما أشبه ذلك فإن للتجفيف أثرا في استخراج ما تشرب منه فيقام التجفيف في كل مرة مقام العصر فيما يتأتى فيه العصر فيحكم بطهارته. ويكره أن يسقى الدواب الخمر لأنه نوع انتفاع بالخمر واقتراب منها على قصد التمول ولذلك يكره للمسلم أن يسقيها أو المسكر الذمي كما لا يحل له أن يشربها وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر ساقيها كما لعن شاربها وإن كان لرجل دين على رجل فقضاه من ثمن خمر أو خنزير لم يحل له أن يأخذه إلا أن يكون الذي عليه الدين كافرا فلا بأس حينئذ

 

ج / 24 ص -24-       أن يأخذها منه لأنها مال متقوم في حق الكافر فيجوز بيعه ويستحق البائع ثمنه ثم المسلم يأخذ ملك مديونه بسبب صحيح وما يأخذه عوض عن دينه في حقه لا ثمن الخمر فأما بيع الخمر من المسلم فباطل والثمن غير مستحق له بل هو واجب الرد على من أخذ منه وصاحب الدين ليس يأخذ ملك مديونه بل ملك الغير الحاصل عنده بسبب فاسد شرعا فيكون هو بهذا الأخذ مقررا الحرمة والفساد وذلك لا يحل.
ولا بأس ببيع العصير ممن يجعله خمرا لأن العصير مشروب طاهر حلال فيجوز بيعه وأكل ثمنه ولا فساد في قصد البائع إنما الفساد في قصد المشتري:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام: 164].
 ألا ترى أن بيع الكرم ممن يتخذ الخمر من عينه جائز لا بأس به وكذلك بيع الأرض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من عنبه الخمر وهذا قول أبي حنيفة وهو القياس, وكره ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله استحسانا لأن بيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا أعانة على المعصية وتمكين منها وذلك حرام.
وإذا امتنع البائع من البيع يتعذر على المشتري اتخاذ الخمر فكان في البيع منه تهييج الفتنة وفي الامتناع تسكينها ومن أهراق خمر مسلم فلا ضمان عليه لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وإتلاف ما ليس بمال متقوم لا يوجب الضمان كإتلاف الميتة وهذا لأن الضمان إنما يجب جبرا لما دخل على المتلف عليه من نقصان المالية. وإن كان سكر أو طلاء قد طبخ حتى ذهب ثلثه أو ربعه فأهراقه رجل فعليه قيمته عند أبي حنيفة ولا شيء عليه في قول أبي يوسف ومحمد وهذا بناء على اختلافهم في جواز البيع فإن أبا حنيفة لما جوز البيع في هذه الأشربة كانت المالية والتقوم فيها ثابتة فقال إنها مضمونة على المتلف ولكن بالقيمة لا بالمثل لأنه ممنوع من تمليك عينها وإن كان لو فعل ذلك جاز. وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشربة كما لا يجوز بيع الخمر فلا يجب الضمان على متلفها أيضا.
وفي الكتاب قال قلت من أين اختلفا قال الخمر حرام وهذا ليس كالخمر إنما هو شيء نكرهه نحن ومعنى هذا أن حرمة الخمر ثبتت بالنص فتعمل في إسقاط المالية والتقوم وحرمة هذه الأشربة لم تكن بنص مقطوع به فلا تسقط المالية والتقوم فيه. فإن غصب من مسلم خمرا فصارت في يده خلا ثم وجدها صاحبها فهو أحق بها لأن العين كانت مملوكة له والعين باقية بعد التخلل والكلام في هذا وفي جلد الميتة إذا دبغه الغاصب قد بيناه في كتاب الغصب. ولا بأس بطعام المجوس وأهل الشرك ما خلا الذبائح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل ذبائح المشركين وكان يأكل ما سوى ذلك من طعامهم فإنه كان يجيب دعوة بعضهم تأليفا لهم على الإسلام فأما ذبائح أهل الكتاب فلا بأس بها لقوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5].
ولا بأس بالأكل في أواني المجوس ولكن غسلها أحب إلي وأنظف لما روي أن

 

ج / 24 ص -25-       النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن طبخ المرقة في أواني المشركين فقال عليه الصلاة والسلام: "اغسلوها ثم اطبخوا فيها" ولأن الآنية تتخذ مما هو طاهر والأصل فيها الطهارة إلا أن الظاهر أنهم يجعلون فيها ما يصنعونه من ذبائحهم فيستحب غسلها لذلك وإن ترك ذلك وتمسك بالأصل لم يضره وهو نظير الصلاة في سراويل المجوس وقد بيناه في كتاب الصلاة ولا بأس بالجبن وإن كان من صنعة المجوس لما روي أن غلاما لسلمان رضي الله عنه أتاه يوم القادسية بسلة فيها جبن وخبز وسكين فجعل يقطع من ذلك الجبن لأصحابه فيأكلونه ويخبرهم كيف يصنع الجبن ولأن الجبن بمنزلة اللبن ولا بأس بما يجلبه المجوس من اللبن إنما لا يحل ما يشترط فيه الذكاة إذا كان المباشر له مجوسيا أو مشركا والزكاة ليست بشرط لتناول اللبن والجبن فهو نظير سائر الأطعمة والأشربة بخلاف الذبائح وهذا لأن الذكاة إنما تشترط فيما فيه الحياة ولا حياة في اللبن وقد بينا ذلك في النكاح. وعلى هذا الأصل الشاة إذا ماتت وفي ضرعها لبن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يتنجس اللبن بموتها. وعلى قول الشافعي يتنجس لأن اللبن عنده حياة. وعند أبي يوسف ومحمد يتنجس بتنجس الوعاء بمنزلة لبن صب في قصعة نجسة وأبو حنيفة رحمه الله يقول لو كان اللبن يتنجس بالموت لتنجس بالحلب أيضا فإن ما أبين من الحي ميت فإذا جاز أن يحلب اللبن فيشرب عرفنا أنه لا حياة فيه فلا يتنجس بالموت ولا بنجاسة وعائه لأنه في معدنه ولا يعطى الشيء في معدنه حكم النجاسة.
 ألا ترى أن في الأصل اللبن إنما يخرج من موضع النجاسة قال الله تعالى:
{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
وعلى هذا أنفحة الميتة عند أبي حنيفة رحمه الله طاهرة مائعة كانت أو جامدة بمنزلة اللبن. وعند الشافعي نجسة العين. وعند أبي يوسف ومحمد إن كانت مائعة فهي نجسة بنجاسة الوعاء كاللبن وإن كانت جامدة فلا بأس بالانتفاع بها بعد الغسل لأن بنجاسة الوعاء لا يتنجس باطنها وما على ظاهرها يزول بالغسل وأشار لأبي حنيفة رحمه الله في الكتاب إلى حرف فقال لأنها لم تكن أنفحة ولا لبنا وهي ميتة ولا يضرها موت الشاة يعني أن اللبن والأنفحة تنفصل من الشاة بصفة واحدة حية. كانت الشاة أو ميتة ذبحت أو لم تذبح فلا يكون لموت الشاة تأثير في اللبن والأنفحة. وعلى هذا لو ماتت دجاجة فوجد في بطنها بيضة فلا بأس بأكل البيضة عندنا وعنده إن كانت صلبة فكذلك وإن كانت لينة لم يجز الانتفاع بها كاللبن والأنفحة على أصله.
ولو سقي شاة خمرا ثم ذبحت ساعتئذ فلا بأس بلحمها وكذلك لو حلب منها اللبن فلا بأس بشربه لأن الخمر صارت مستهلكة بالوصول إلى جوفها ولم تؤثر في لحمها ولا في لبنها وهي على صفة الخمرية بحالها فلهذا لا بأس بأكل لحمها وشرب لبنها ولو صب رجل خابية من خمر في نهر مثل الفرات أو أصغر منه ورجل أسفل منه فمرت به الخمر في الماء فلا بأس بأن يشرب من ذلك الماء إلا أن يكون يوجد فيه طعمها أو ريحها فلا يحل له حينئذ,

 

ج / 24 ص -26-       بخلاف ما لو وقعت قطرة من خمر في إناء فيه ماء لأن ماء الإناء قد تنجس فلا يحل شربه وإن كان لا يوجد فيه طعم الخمر وأما الفرات فلا يتنجس إذ لم يتغير طعمه ولا رائحته بما صب فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" والمراد الماء الجاري ثم ما صب في الفرات يصير مغلوبا مستهلكا بالماء فما يشربه الرجل ماء الفرات ولا بأس بشرب ماء الفرات إلا إذا كان يوجد فيه ريح الخمر أو طعمها فيستدل بذلك على وجود عين الخمر فيما شربه، والصحيح من المذهب في الجيفة الواقعة في نهر يجري فيه الماء أنه إن كان جميع الماء أو أكثره يجري على الجيفة فذلك الماء نجس وإن كان أكثره لا يجري على الجيفة فهو طاهر لأن الأقل يجعل تبعا للأكثر فيما تعم به البلوى. وإذا خاف المضطر الموت من العطش فلا بأس بأن يشرب من الخمر ما يرد عطشه عندنا. وقال الشافعي لا يحل شرب الخمر للعطش لأن الخمر لا ترد العطش بل تزيد في عطشه لما فيها من الحرارة. ولكنا نقول لا بأس بذلك لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فإن كانت في الميتة ففيها بيان أن موضع الضرورة مستثنى من الحرمة الثابتة بالشرع وحرمة الخمر ثابتة بالشرع كحرمة الميتة ولحم الخنزير ولا بأس بالإصابة منها عند تحقق الضرورة بقدر ما يدفع الهلاك به عن نفسه وشرب الخمر يرد عطشه في الحال لأن في الخمر رطوبة وحرارة فالرطوبة التي فيها ترد عطشه في الحال ثم بالحرارة التي فيها يزداد العطش في الثاني وإلى أن يهيج ذلك به ربما يصل إلى الماء فعرفنا أنه يدفع الهلاك به عن نفسه, ولا يحل له أن يشرب منها إلى السكر لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدر الضرورة. فإن سكر نظرنا فإن لم يزد على ما يسكن عطشه فلا حد عليه لأن شرب هذا المقدار حلال وهو وإن سكر من شرب الحلال لا يلزمه الحد كما لو سكر من اللبن أو البنج. وإن استكثر منه بعد ما سكن عطشه حتى سكر فعليه الحد لأن بعد ما سكن عطشه وهو غير مضطر فالقليل والكثير منها سواء في حكمه فمقدار ما شرب بعد تسكين العطش حرام عليه وذلك يكفي في إيجاب الحد عليه. وكذلك النبيذ إذا شرب منه فوق ما يجزئه حتى سكر لما بينا أن السكر من النبيذ موجب للحد كشرب الخمر ولا ضرورة له في شرب القدح المسكر فعليه الحد لذلك.
وإذا كان مع رقيق له ماء كثير فأبى أن يسقيه حل له أن يقاتله عليه بما دون السلاح لأن الماء محرز مملوك لصاحبه بمنزلة الطعام إلا أن الماء في الأصل كان مباحا مشتركا وذلك الأصل بقي معتبرا بعد الإحراز حتى لا يتعلق القطع بسرقته فلاعتبار إباحة الأصل قلنا يقاتله بما دون السلاح ولكونه مالا مملوكا له في الحال له أن يقاتله عليه بالسلاح لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من قتل دون ماله فهو شهيد" فكيف يقاتل بالسلاح من إذا قتله كان شهيدا وفي الماء المباح إذا منعه منة قاتله بالسلاح وقد بينا ذلك في كتاب الشرب فأما في الطعام فلا يحل له أن يقاتله ولكنه يغصبه إياه إن استطاع فيأكله ثم يعطيه ثمنه بعد ذلك لأنه ما كان للمضطر حق في هذا الطعام قط ولكن الطعام ملك لصاحبه فهو يمنع الغير من ملكه وذلك مطلق له

 

ج / 24 ص -27-       شرعا فلا يجوز لأحد أن يقاتله على ذلك ولكن المضطر يخاف الهلاك على نفسه وذلك مبيح له التناول من طعام الغير بشرط الضمان وهو إنما يتأتى بفعل مقصور على الطعام غير متعد إلى صاحبه والمقصور على الطعام الأخذ فأما القتال فيكون مع صاحب الطعام لا مع الطعام فلهذا لا يقاتله بالسلاح ولا بغيره، فإن كان الرقيق الذي معه الماء يخاف على نفسه الموت إن لم يحرز ماءه فإنه يأخذ منه بعضه ويترك بعضه لأن الشرع ينظر للكل وإنما يحل للمضطر شرعا دفع الهلاك عن نفسه بطريق لا يكون فيه هلاك غيره وفي أخذ جميع الماء منه هلاك صاحب الماء لقلته بحيث لا يدفع الهلاك إلا عن أحدهما فليس له أن يأخذه من صاحب الماء لأن حقه في ملكه مقدم على حق غيره.
ثم ذكر بعد هذا مسائل قد بينا أكثرها في الحدود فقال يضرب الشارب الحد بالسوط في إزار وسراويل ليس عليه غيرها لأن جنايته مغلظة كجناية الزاني فينزع عنه ثيابه عند إقامة الحد عليه ليخلص الألم إلى بدنه والمرأة في حد الشرب كالرجل على قياس حد الزنى ويفرق الضرب على أعضائها كما في حق الرجل إلا أنها لا تجرد عن ثيابها لأن بدنها عورة وكشف العورة حرام ولكن ينزع عنها الحشو والفر ولكي يخلص الألم إلى بدنها. فإن لم يكن عليها غير جبة محشوة لم ينزع ذلك عنها لأن كشف العورة لا يحل بحال. وكذلك لا يطرح عنها خمارها وتضرب قاعدة ليكون أستر لها هكذا قال علي رضي الله عنه يضرب الرجال قياما والنساء قعودا.
والأصل في حد الشرب ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر وعنده أربعون رجلا فأمرهم أن يضربوه فضربوه كل رجل منهم بنعليه فلما كان زمان عمر رضي الله عنه جعل ذلك ثمانين سوطا والخبر وإن كان من أخبار الآحاد فهو مشهور وقد تأكد باتفاق الصحابة رضي الله عنهم إنما العمل به في زمن عمر رضي الله عنه فإنه جعل حد الشرب ثمانين سوطا من هذا الحديث لأنه لما ضربه كل رجل منهم بنعليه كان الكل في معنى ثمانين جلدة والإجماع حجة موجبة للعلم فيجوز إثبات الحد به وفيما يجب عليه الحد بالسكر فحد السكر الذي يتعلق به الحد عند أبي حنيفة أن لا يعرف الأرض من السماء ولا الأنثى من الذكر ولا نفسه من حمار وعند أبي يوسف ومحمد أن يختلط كلامه فلا يستقر في خطاب ولا جواب واعتبرا العرف في ذلك فإن من اختلط كلامه بالشرب يسمى سكران في الناس وتأيد ذلك بقوله تعالى:
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر النهاية فقال في الأسباب الموجبة للحد تعتبر النهاية كما في السرقة والزنا ونهاية السكر هذا أن يغلب السرور على عقله حتى لا يميز شيئا عن شيء. وإذا كان يميز بين الأشياء عرفنا أنه مستعمل لعقله مع ما به من السرور ولا يكون ذلك نهاية السكر وفي النقصان شبهة العدم والحدود تندرى ء بالشبهات ولهذا وافقهما في السكر الذي يحرم عنده الشرب إذ المعتبر اختلاط الكلام لأن اعتبار النهاية فيه يندرى ء بالشبهات والحل والحرمة

 

ج / 24 ص -28-       يؤخذ فيهما بالاحتياط وأيد هذا ما روي عن بن عباس رضي الله عنهما قال من بات سكران بات عروس الشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح وهذا إشارة إلى أن السكران من لا يحس بشيء مما يصنع به، وأكثر مشايخنا رحمهم الله على قولهما.
وحكي أن أئمة بلخ رحمهم الله اتفقوا على أنه يستقرأ سورة من القرآن فإن أمكنه أن يقرأها فليس بسكران حتى حكي أن أميرا ببلخ أتاه بعض الشرط بسكران فأمره الأمير أن يقرأ:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1], فقال السكران للأمير اقرأ أنت سورة الفاتحة أولا فلما قال الأمير الحمد لله رب العالمين فقال قف فقد أخطأت من وجهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية وهي آية من الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي الذي جاء به ويقول له أمرتك أن تأتيني بسكران فجئتني بمقرى ء بلخ.
وإذا شهد عليه الشهود بالشرب وهو سكران حبسه حتى يصحو لأن ما هو المقصود لا يتم بإقامة الحد عليه في حال سكره وقد بينا هذا والمملوك فيما يلزمه من الحد بالشرب كالحر إلا أن على المملوك نصف ما على الحر لقوله تعالى:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ولا حد على الذمي في شيء من الشراب لأنه يعتقد إباحة الشرب واعتقاد الحرمة شرط في السبب الموجب للحد وهذا لأن الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه وبدون اعتقاد الحرمة لا يتحقق هذا ثم قد بينا أن حكم الخطاب قاصر عنهم في أحكام الدنيا لأنا أمرنا أن نتركهم وما يعتقدون ولهذا بقي الخمر مالا متقوما في حقهم. ولهذا قلنا المجوسي إذا تزوج أمه ودخل بها لم يلزمه الحد وإن كان يقام عليه الحد بالزنى ولا يحد المسلم بوجود ريح الخمر منه حتى يشهد الشهود عليه بشربها أو يقر لأن ريح الخمر شاهد زور فقد يوجد ريح الخمر من غير الخمر فإن من استكثر من أكل السفرجل يوجد منه ريح الخمر ومنه قول قول القائل:

يقولون لي أنت شربت مدامة                   فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا

وقد توجد رائحة الخمر ممن شربها مكرها أو مضطرا لدفع العطش فلا يجوز أن يعتمد ربحها في إقامة الحد عليه. ولو شهد عليه واحد أنه شربها وآخر أنه قاءها لم يحد لأن من شربها مكرها أو مضطرا قد يقى ء الخمر فسقط اعتبار شهادة الشاهد وإنما بقي على الشرب شاهد واحد وكذلك لو شهد على الشرب والريح منه موجود فاختلفا في الوقت لأن الشرب فعل فعند اختلافهما في الوقت يكون كل واحد منهما شاهدا بفعل آخر, وكذلك لو شهد أحدهما أنه شربها وشهد الآخر أنه أقر بشربها فإنه لا معتبر بالشهادة على الإقرار بالشرب لأنه لو أقر ثم رجع لا يقام عليه الحد ولأن الشهادة قد اختلفت فأحدهما يشهد بالفعل والآخر بالقول, وكذلك لو شهد أحدهما أنه سكران من الخمر وشهد الآخر أنه سكران من السكر فإنما شهد كل واحد منهما بفعل آخر. ولا يقال ينبغي أن يقام عليه الحد لما يرى من سكره لأنه قد يكون سكران من غير الشرب أو من الشرب بالإيجار أو الإكراه على الشرب, أو كان

 

 

ج / 24 ص -29-       شرب على قصد التداوي وقد بينا أن ذلك غير موجب للحد عليه ولا يحد بإقراره في حال سكره من الخمر لأن السكران لا يثبت على كلام واحد ولكنه يتكلم بالشيء وبضده والإصرار على الإقرار بالسبب لا بد منه لإيجاب حد الخمر.
ولو أقر عند القاضي أنه شرب أمس خمرا لم يحد أيضا وإنما يحد إذا أتاه ساعة شرب والريح يوجد منه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وفي قول محمد يؤخذ بإقراره متى جاء مثل حد الزنى وقد بينا هذه المسألة في كتاب الحدود بالبينة والإقرار جميعا, وإذا أكره على شرب الخمر لا يحد لأن الشرب في حال الإكراه مباح له على ما بينا أن موضع الضرورة مستثنى من الحرمة ولأن الحد مشروع للزجر وقد كان منزجرا حين لم يقدم على الشرب ما لم تتحقق الضرورة بالإكراه.
وإذا أسلم الحربي وجاء إلى دار الإسلام ثم شرب الخمر قبل أن يعلم أنها محرمة عليه لم يحد لأن الخطاب لم يبلغه فلا يثبت حكم الخطاب في حقه وهذا بخلاف المسلم المولود في دار الإسلام إذا شرب الخمر ثم قال لم أعلم أنها حرام لأن حرمة الخمر قد اشتهرت بين المسلمين في دار الإسلام فالظاهر يكذب المولود في دار الإسلام فيما يقول والظاهر لا يكذب الذي جاء من دار الحرب فيما يقول فيعذر بجهله ولا يقام عليه الحد بخلاف ما إذا زنى أو شرب أو سرق فإنه يقام عليه الحد. ولا يعذر بقوله لم أعلم لأن حرمة الزنى والسرقة في الأديان كلها فالظاهر يكذبه إذا قال لم أعلم بحرمتها ولأن حد السرقة والزنا مما تجوز إقامته على الكافر في حال كفره وهو الذمي فبعد الإسلام أولى أن يقام بخلاف حد الخمر ولأن حد الزنى والسرقة ثبت بنص يتلى وحد الخمر بخبر يروى فكان أقرب إلى الدرء من حد الزنى والسرقة، ويستوي في حد الزنى إن طاوعته المرأة على ذلك في دار الإسلام أو أكرهها لأن حرمة الزنى في حقهما جميعا قد اشتهرت.
وإذا شرب قوم نبيذا فسكر بعضهم دون بعض حد من سكر لأن مشروب بعضهم غير مشروب البعض فيعتبر في حق كل واحد منهم حاله كأنه ليس معه غيره.
 ألا ترى أن القوم إذا سقوا خمرا على مائدة فمن علم أنه خمر لزمه الحد ومن لم يعلم ذلك منهم لم يلزمه الحد والمحرم في حد الخمر كالحلال لأنه لا تأثير للمحرم والإحرام في إباحة الشرب ولا في المنع من إقامة هذا الحد.
وإذا قذف السكران رجلا حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ويحبس حتى يخف عنه الضرب ثم يحد للسكر لأن حد القذف في معنى حق العباد وسكره لا يمنع وجوب الحد عليه بقذفه لأنه مع سكره مخاطب.
 ألا ترى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذ حد الشرب من القذف على ما روي عن علي رضي الله عنه قال إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة.
وإذا شرب الخمر في نهار رمضان حد حد الخمر ثم يحبس حتى يخف عنه الضرب

 

ج / 24 ص -30-       ثم يعزر لإفطاره في شهر رمضان لأن شرب الخمر ملزم للحد ومهتك حرمة الشهر والصوم يستوجب التعزير ولكن الحد أقوى من التعزير فيبتدأ بإقامة الحد عليه ثم لا يوالي بينه وبين التعزير لكي يؤدي إلى الإتلاف والأصل فيه حديث علي رضي الله عنه أنه أتى بالنجاشي الحارثي قد شرب الخمر فحده ثم حبسه حتى إذا كان الغد أخرجه فضربه عشرين سوطا وقال هذا لجراءتك على الله وإفطارك في شهر رمضان.
رجل ارتد عن الإسلام ثم أتي به الإمام وقد شرب خمرا أو سكر من غير الخمر أو سرق أو زنا ثم تاب وأسلم فإنه يحد في جميع ذلك ما خلا الخمر والسكر فإنه لا يحد فيهما لأن المرتد كافر وحد الخمر والسكر لا يقام على أحد من الكفار لما بينا أنه يعتقد إباحة سببه فإذا كان ارتكابه سببه في حال يعتقد إباحته لا يقام ذلك عليه فأما حد الزنى والسرقة فيقام على الكافر لاعتقاده حرمة سببه فيقام على المرتد بعد إسلامه أيضا كالذمي إذا باشر ذلك ثم أسلم. وإن لم يتب فلا حد عليه في شيء من ذلك غير حد القذف لأن حد الزنى والسرقة خالص حق الله تعالى وقد صارت مستحقة لله تعالى فإنه يقتل على ردته ومتى اجتمع في حق الله تعالى النفس وما دونها يقتل ويلغي ما سوى ذلك. وأما حد السرقة ففيه معنى حق العبد فيقام عليه ويضمن السرقة لحق المسروق منه فإن شرب وهو مسلم فلما وقع في يد الإمام ارتد ثم تاب لم يحد. وإن كان زنا أو سرق أقيم عليه الحد لأن ما اعترض من الردة يمنع وجوب حد الخمر والسكر عليه فيمنع بقاؤه ولا يمنع وجوب حد الزنى والسرقة فكذلك لا يمنع البقاء. وقد قال في آخر الكتاب إذا ارتد عن الإسلام ثم سرق أو زنا أو شرب الخمر أو سكر من غير الخمر ثم تاب وأسلم لم يحد في شيء من ذلك إلا في القذف فإن لم يتب لم يقم عليه أيضا شيء من الحدود غير حد القذف ويقتل وإن أخذته وهو مسلم شاربا خمرا أو زانيا أو سارقا فلما وقع في يدك ارتد عن الإسلام فاستتبته فتاب أقيم عليه الحدود إلا حد الخمر وهذه الرواية تخالف الرواية الأولى في فصل واحد وهو أنه إذا زنا أو سرق في حال ردته لا يقام عليه الحد بعد توبته كما لا يقام قبل توبته لأن المرتد بمنزلة الحربي فإنه اعتقد محاربته لو تمكن منها والحربي إذا ارتكب شيئا من الأسباب الموجبة للحد ثم أسلم لا يقام عليه الحد فكذلك المرتد, وفرق على هذه الرواية بين هذا وبين ما إذا زنا أو سرق وهو مسلم ثم ارتد ثم أسلم فقال هناك حين ارتكب السبب ما كان حربيا للمسلمين فيكون مستوجبا للحد ولم يزل تمكن الإمام من إقامته عليه بنفس الردة إلا أنه كان لا يشتغل به قبل توبته لاستحقاق نفسه بالردةو وقد انعدم بالإسلام فلهذا يقام عليه وتزويج السكران ولده الصغير وهبته وما أشبه ذلك من تصرفاته قولا أو فعلا صحيح لأنه مخاطب كالصاحي وبالسكر لا ينعدم عقله إنما يغلب عليه السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يؤثر في تصرفه سواء كان شرب مكرها أو طائعا فأما إذا شرب البنج أو شيئا حلوا فذهب عقله لم يقع طلاقه في تلك الحالة لأنه بمنزلة المعتوه في التصرفات.

 

ج / 24 ص -31-       وإن شهد رجلان على شهادة سكران أو شهد السكران على شهادة رجلين لم يصح ذلك من قبل أنه رجل فاسق وأنه سكران لا يستقر على شيء واحد فيما يخبر به ولهذا لو ارتد في حال سكره لا تبين منه امرأته استحسانا. قال لا أظن سكرانا ينفلت من هذا وأشباهه وقد بينا هذا في السير. وإذا أتى الإمام برجل شرب خمرا وشهد به عليه شاهدان فقال إنما أكرهت عليها أو قال شربتها ولم أعرفها أقيم عليه الحد لأن السبب الموجب للحد قد ظهر وهو يدعي عذرا مسقطا فلا يصدق على ذلك  ببينة إذ لو صدق عليه من غير بينة لانسد باب إقامة حد الخمر أصلا وهذا بخلاف الزاني إذا ادعى النكاح لأنه هناك ينكر السبب الموجب للحد فبالنكاح يخرج الفعل من أن يكون زنا محضا وهنا بعد الإكراه والجهل لا ينعدم السبب وهو حقيقة شرب الخمر إنما هذا عذر مسقط فلا يثبت إلا ببينة يقيمها على ذلك.
ويكره للرجل أن يأكل على مائدة يشرب عليها الخمر هكذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يأكل المسلم على مائدة يشرب عليها الخمر ولأن في ذلك تكثير جمع الفسقة وإظهار الرضا بصنيعهم وذلك لا يحل للمسلم, في عشر دواريق عصير عنب في قدر ثم يطبخ فيغلي فيقذف بالزبد فجعل يأخذ ذلك الزبد حتى جمع قدر دورق فإنه يطبخ حتى يبقي ثلاثة دواريق ثلث الباقي لأن ما أخذه من الزبد انتقص من أصل العصير فيسقط اعتباره في الحساب فظهر أن الباقي من العصير تسعة دواريق فإنما يصير مثلثا إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثلاثة دواريق وإن نقص منه دورق آخر في ذلك الغليان فكذلك الجواب لأن ما نقص بالغليان في معنى الداخل فيما بقى فلا يصير ذلك كأن لم يكن وإنما يلزمه الطبخ إلى أن يذهب ثلثا العصير.
ولو صب رجل في قدر عشرة دواريق عصير وعشرين دورقا ماء فإن كان الماء يذهب بالطبخ قبل العصير فإنه يطبخه حتى يذهب ثمانية اتساعه ويبقى التسع لأنه إذا ذهب ثلثاه بالغليان فالذاهب هو الماء فقط فعليه أن يطبخه بعد ذلك حتى يذهب ثلثا العصير ويبقى ثلثه وهو سبع الجملة وإن كانا يذهبان بالغليان معا طبخه حتى يذهب ثلثاه لأنه ذهب بالغليان ثلثا العصير وثلثا الماء والباقي ثلث العصير وثلث الماء فهو وما لو صب الماء في العصير بعد ما طبخه على الثلث والثلثين سواء وإذا طبخ عصير حتى ذهب ثلثه ثم صنع منه مليقا فإن كان ذلك قبل أن يتغير عن حاله فلا بأس به وإن صنعه بعد ما غلى فتغير عن حال العصير فلا خير فيه لأنه لما غلى واشتد صار محرما والمليق المتخذ من عين المحرم لا يكون حلالا كالمتخذ من الخمر فأما قبل أن يشتد فهو حلال الشرب فأما صنيع المليق من عصير فحلال.
وإذا طبخ الرجل عصيرا حتى ذهب ثلثه ثم تركه حتى برد ثم أعاد عليه الطبخ حتى ذهب نصف ما بقي فإن كان أعاد عليه الطبخ قبل أن يغلي أو يتغير عن حال العصير فلا بأس به لأن الطبخ في دفعتين إلى ذهاب الثلثين منه وفي دفعة سواء, وإن صنعه بعد ما غلى وتغير عن حال العصير فلا خير فيه لأن الطبخ في المرة الثانية لاقى شيئا محرما فهو بمنزلة خمر طبخ حتى ذهب ثلثاه به وإذا طبخ الرجل عصيرا حتى ذهب ثلاثة أخماسه ثم قطع عنه النار فلم

 

ج / 24 ص -32-       يزل حتى ذهب منه تمام الثلثين فلا بأس به لأنه صار مثلثا بقوة النار فإن الذي بقي منه من الحرارة بعد ما قطع عن النار أثر تلك النار فهو وما لو صار مثلثا والنار تحته سواء وهذا بخلاف ما لو برد قبل أن يصير مثلثا لأن الغليان بعد ما انقطع عنه أثر النار لا يكون إلا بعد الشدة وحين اشتد فقد صار محرما بنفسه ولأن الغليان بقوة لا ينقص منه شيئا بل يزيد في رقته بخلاف الغليان بقوة النار. فإن شرب الطلاء الذي قد طبخ حتى ذهب عشره فلا حد عليه إلا أن يسكر لما بينا أنه ذهب بالطبخ شيء فيخرج من أن يكون خمرا وفي غير الخمر من الأشربة لا يجب الحد إلا بالسكر.
وإذا استعط الرجل بالخمر أو اكتحل بها أو اقتطرها في أذنه أو داوى بها جائفة أو آمة فوصل إلى دماغه فلا حد عليه لأن وجوب الحد يعتمد شرب الخمر وهو بهذه الأفعال لا يصير شاربا وليس في طبعه ما يدعوه إلى هذه الأفعال لتقع الحاجة إلى شرع الزاجر عنه. ولو عجن دواء بخمر ولته أو جعلها أحد أخلاط الدواء, ثم شربها والدواء هو الغالب فلا حد عليه وإن كانت الخمر هي الغالبة فإنه يحد لأن المغلوب يصير مستهلكا بالغالب إذا كان من خلاف جنسه والحكم للغالب والله أعلم بالصواب.

باب التعزير
 قال رحمه الله ذكر عن الشعبي رحمه الله قال لا يبلغ بالتعزير أربعون سوطا وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا لأن الأربعين سوطا أدنى ما يكون من الحد وهو حد العبيد في القذف والشرب وقال عليه الصلاة والسلام:
"من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" وهذا قول أبي يوسف الأول, ثم رجع وقال يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا لأن أدنى الحد ثمانون سوطا وحد العبد نصف الحر وليس بحد كامل وهذا مروي عن محمد أيضا. وعن أبي يوسف أنه يجوز أن يبلغ بالتعزير تسعة وسبعين سوطا وهذا ظاهر على الأصل الذي بينا وأما تقدير النقصان بالخمسة على الرواية الأولى فهو بناء على ما كان من عادته أنه كان يجمع في إقامة الحد والتعزير بين خمسة أسواط ويضرب دفعة فإنما نقص في التعزير ضربة واحدة وذلك خمسة أسواط.
وإذا أخذ الرجل مع المرأة وقد أصاب منها كل محرم غير الجماع عزر بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا في كتاب الحدود أن كل من ارتكب محرما ليس فيه حد مقدر فإنه يعزر ثم الرأي في مقدار ذلك إلى الإمام ويبني ذلك على قدر جريمته وهذه جريمة متكاملة فلهذا قدر التعزير فيها بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا أن الضرب في التعزير أشد منه في الحدود لأنه دخله تخفيف من حيث نقصان العدد وأنه ينزع ثيابه عند الضرر ويضرب على ظهره ولا يفرق على أعضائه إنما ذلك في الحدود.
وإذا نقب السارق النقب وأخذ المتاع فأخذ في البيت أو أخذ وقد خرج بمتاع لا يساوي عشرة دراهم فإنه يعزر لارتكابه محرما والمرأة في التعزير كالرجل لأنها تشاركه في السبب

 

ج / 24 ص -33-       الموجب للتعزير وإذا كان الرجل فاسقا متهما بالشر كله فأخذ عزر لفسقه وحبس حتى يحدث توبة لأنه متهم وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في تهمة والذي يزني في شهر رمضان نهارا فيدعي شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه يعزر لإفطاره لأنه مرتكب للحرام بإفطاره وإن خرج من أن يكون زانيا بما ادعى من الشبهة ولا يحبس هنا لأن الحبس للتهمة فأما جزاء الفعل الذي باشره فالتعزير وقد أقيم عليه.
والمسلم الذي يأكل الربا أو يبيع الخمر ولا ينزع عن ذلك إذا رفع إلى الإمام يعزره. وكذلك المخنث والنائحة والمغنية فإن هؤلاء يعزرون بما ارتكبوا من المحرم ويحبسون حتى يحدثوا التوبة لأنهم بعد إقامة التعزير عليهم مصرون على سوء صنيعهم وذلك فوق التهمة في إيجاب حبسهم إلى أن يحدثوا التوبة. وإذا شتم المسلم امرأة ذمية أو قذفها بالزنى عزر لأن الذمية غير محصنة فلا يجب الحد على قاذفها ولكن قاذفها مرتكب ما هو محرم فيعزر. وكذلك إذا قذف مسلمة قد زنت أو مسلما قد زنا أو أمة مسلمة لأن المقذوف من هؤلاء غير محصن ولكن القاذف مرتكب ما هو حرام وهو إشاعة الفاحشة وهتك للستر على المسلم من غير حاجة وذلك موجب للتعزير عليه.
وإذا قطع اللصوص الطريق على قوم فلهم أن يقاتلوهم دفعا عن أنفسهم وأموالهم قال عليه الصلاة والسلام: "
من قتل دون ماله فهو شهيد" وإذا استعانوا بقوم من المسلمين لم يحل لهم أن يعينوهم ويقاتلوهم معهم وإن أتوا على أنفسهم لأن النهي عن المنكر فرض وبذلك وصف الله تعالى هذه الأمة بأنهم خير أمة فلا يحل لهم أن يتركوا ذلك إذا قدروا عليه.
قلت والرجل يخترط السيف على الرجل ويريد أن يضربه ولم يفعل أو شد عليه بسكين أو عصا ثم لم يضربه بشيء من ذلك هل يعزر قال نعم لأنه ارتكب ما لا يحل من تخويف المسلم والقصد إلى قتله.
قلت والرجل يوجد في بيته الخمر بالكوفة وهو فاسق أو يوجد القوم مجتمعين عليها ولم يرهم أحد يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها هل يعزرون قال نعم لأن الظاهر أن الفاسق يستعد الخمر للشرب وإن القوم يجتمعون عليها لإرادة الشرب ولكن بمجرد الظاهر لا يتقرر السبب على وجه لا شبهة فيه فلا يمكن إقامة الحد عليهم والتعزير مما يثبت مع الشبهات فلهذا يعزرون.
وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من الخمر بالكوفة أو قال ركوة وقد كان بعض العلماء في عهد أبي حنيفة رحمه الله يقول يقام عليه الحد كما يقام على الشارب لأن الذي يسبق إلى وهم كل أحد أنه يشرب بعضها ويقصد الشرب فيما بقي معه منها إلا أنه حكي أن أبا حنيفة رحمه الله قال لهذا القائل لم تحده قال لأن معه آلة الشرب والفساد. قال رحمه الله فارجمه إذا فإن معه آلة الزنى فهذا بيان أنه لا يجوز إقامة الحد بمثل هذا الظاهر والتهمة والله أعلم.

 

ج / 24 ص -34-       باب من طبخ العصير
قال رحمه الله رجل طبخ عشرة أرطال عصير حتى ذهب منه رطل ثم اهراق ثلاثة أرطال منه ثم أراد أن يطبخ البقية حتى يذهب ثلثاها كم يطبخها قال يطبخها حتى يبقى منها رطلان وتسعا رطل لأن الرطل الذاهب بالغليان في المعنى داخل فيما بقي وكان الباقي قبل أن ينصب منه شيء تسعة أرطال فعرفنا أن كل رطل من ذلك في معنى رطل وتسع لأن الذاهب بالغليان اقتسم على ما بقي أتساعا فإن انصب منه ثلاثة أرطال وثلاثة أتساع رطل يكون الباقي ستة أرطال وستة اتساع رطل فيطبخه حتى يبقى منه الثلث وهو رطلان وتسعا رطل.
ولو كان ذهب بالغليان رطلان ثم اهراق منه رطلان قال يطبخه حتى يبقى منه رطلان ونصف لأنه لما ذهب بالغليان رطلان فالباقي ثمانية أرطال كل رطل في معنى رطل وربع فلما انصب منه رطلان فالذي انصب في المعنى رطلان ونصف والباقي من العصير سبعة أرطال ونصف وإن ذهب بالغليان خمسة أرطال ثم انصب رطل واحد منه أو أخذ رجل منه رطلا قال يطبخ الباقي حتى يبقى منه رطلان وثلثا رطل, لأنه لما ذهب بالغليان خمسة أرطال فما ذهب في المعنى داخل فيما بقي وصار كل رطل بمعنى رطلين فلما انصب من الباقي رطل كان الباقي بعده من العصير ثمانية أرطال فيطبخه إلى أن يبقى ثلث ثمانية أرطال وذلك رطلان وثلثا رطل.
وفي الكتاب أشار إلى طريق آخر في تخريج جنس هذه المسائل. فقال السبيل أن يأخذ ثلث الجميع فيضربه فيما بقي بعد ما انصب منه ثم يقسمه على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما خرج بالقسمة فهو حلال ما بقي منه.
وبيان هذا أما في المسألة الأولى فتأخذ ثلث العصير ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد ما انصب منه وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء وذلك تسعه وإذا قسمت عشرين على تسعة فكل جزء من ذلك اثنان وتسعان فعرفنا أن حلال ما بقي رطلان وتسعا رطل.
وفي المسألة الثانية تأخذ أيضا ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد الانصباب وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم ذلك على ما بقي بعد الطبخ قبل الانصباب وهو ثمانية فكل قسم من ذلك اثنان ونصف فعرفنا أن حلال ما بقي منه رطلان ونصف.
وفي المسألة الثالثة تأخذ ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد الانصباب وهو أربعة فيكون ثلاثة عشر وثلثا ثم تقسمه على ما بقي قبل الانصباب بعد الطبخ وذلك خمسة فيكون كل قسم اثنين وثلثين فلهذا قلنا يطبخه حتى يبقى رطلان وثلثا رطل وفي الأصل. قال حتى يبقى رطلان وثلاثة أخماس وثلث خمس وذلك عبارة عن ثلثي رطل إذا تأملت وربما يتكلف بعض مشايخنا رحمهم الله لتخريج هذه المسائل على طريق الحساب من الجبر والمقابلة وغير ذلك ولكن ليس في الاشتغال بها كثير فائدة هنا والله أعلم.