المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 24 ص -35-       كتاب الإكراه
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب لأن المكره مبتلي والابتلاء يقرر الخطاب ولا شك أنه مخاطب في غير ما أكره عليه وكذلك فيما أكره عليه حتى يتنوع الأمر عليه فتارة يلزمه الإقدام على ما طلب منه وتارة يباح له ذلك وتارة يرخص له في ذلك وتارة يحرم عليه ذلك فذلك آية الخطاب ولذلك لا ينعدم أصل القصد والاختيار بالإكراه كيف ينعدم ذلك وإنما طلب منه أن يختار أهون الأمرين عليه.
وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن أثر الإكراه التام في الأفعال في نقل الفعل من المكره إلى المكره وهذا ليس بصحيح فإنه لا يتصور نقل الفعل الموجود من شخص إلى غيره والمسائل تشهد بخلاف هذا أيضا فإن البالغ إذا أكره صبيا على القتل يجب القود على المكره وهذا الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر. ولكن الأصح أن تأثير الإكراه في جعل المكره آلة للمكره فيصير الفعل منسوبا إلى المكره بهذا الطريق وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالإكراه ينعدم الاختيار منه أصلا ولكن لأنه يفسد اختياره به لتحقق الإلجاء فالمرء مجبول على حب حياته وذا يحمله على الإقدام على ما أكره عليه فيفسد به اختياره من هذا الوجه والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح منه والمكره يصير كالآلة للمكره لانعدام اختياره حكما في معارضة الاختيار الصحيح ولهذا اقتصر على ما يصلح أن يكون آلة له فيه دون ما لا يصلح كالتصرفات قولا فإنه لا يتصور تكلم المرء بلسان غيره وتأثير الإكراه في هذه التصرفات في انعدام الرضا من المكره بحكم الشبه، وشبهه بعض أصحابنا رحمهم الله بالهزل فإن الهزل عدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد والاختيار في نفس السبب فالإكراه كذلك إلا أن الهازل غير محمول على التكلم والمكره محمول على ذلك وبذلك لا ينعدم اختياره كما بينا وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فإن شرط الخيار يعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب.
ثم في الإكراه يعتبر معنى في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره به فالمعتبر في المكره تمكنه من إيقاع ما هدده به فإنه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان وفي المكره المعتبر أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا لأنه لا يصير ملجأ محمولا طبعا إلا بذلك وفيما أكره به بأن يكون متلفا أو

 

ج / 24 ص -36-       مزمنا أو متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الإكراه إما لحقه أو لحق آدمي آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الأحوال يختلف الحكم فالكتاب لتفصيل هذه الجملة. وقد ابتلى محمد رحمه الله بسبب تصنيف هذا الكتاب على ما حكي عن بن سماعة رحمه الله قال لما صنف محمد رحمه الله هذا الكتاب سعى به بعض حساده إلى الخليفة فقال إنه صنف كتابا سماك فيه لصا غاليا فاغتاظ لذلك وأمر بإحضاره وأتاه الشخص وأنا معه فأدخله على الوزير أولا في حجرته فجعل الوزير يعاتبه على ذلك فأنكره محمد أصلا فلما علمت السبب أسرعت الرجوع إلى داره وتسورت حائط بعض الجيران لأنهم كانوا سمروا على بابه فدخلت داره وفتشت الكتب حتى وجدت كتاب الإكراه فألقيته في جب في الدار لأن الشرط أحاطوا بالدار قبل خروجي منها فلم يمكني أن أخرج واختفيت في موضع حتى دخلوا وحملوا جميع كتبه إلى دار الخليفة بأمر الوزير وفتشوها فلم يجدوا شيئا مما ذكره الساعي لهم فندم الخليفة على ما صنع به واعتذر إليه ورده بجميل فلما كان بعد أيام أراد محمد رحمه الله أن يعيد تصنيف الكتاب فلم يجبه خاطره إلى مراده فجعل يتأسف على ما فاته من هذا الكتاب ثم أمر بعض وكلائه أن يأتي بعامل ينقي البئر لأن ماءها قد تغير فلما نزل العامل في البئر وجد الكتاب في آجرة أو حجر بناء من طي البئر لم يبتل فسر محمد رحمه الله بذلك وكان يخفي الكتاب زمانا ثم أظهره فعد هذا من مناقب محمد وما يستدل به على صحة تفريعه لمسائل هذا الكتاب. ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن إبراهيم رحمه الله قال في الرجل يجبره السلطان على الطلاق والعتاق فيطلق أو يعتق وهو كاره أنه جائز واقع ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا وهو يقع كيفما كان وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا أو غيره أكرهه بوعيد متلف أو غير متلف والخلاف في هذا الفصل كان مشهورا بين السلف من علماء التابعين رحمهم الله ولهذا استكثر من أقاويل السلف على موافقة قول إبراهيم وفي قوله ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا إشاره إلى ما ذكرنا من بقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه وأنه غير راض في ذلك ولكن عدم الرضا بحكم الطلاق لا يمنع الوقوع, ولهذا وقع مع اشتراط الخيار عند الإيقاع ومع الهزل من الموقع وإن كان معلوما وكأنه أخذ هذا اللفظ مما ذكره علي رضي الله عنه في امرأة المفقود أنها ابتليت فلتصبر ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه أجاز طلاق المكره وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه ذكر له أن رجلا ضرب غلامه حتى طلق امرأته فقال بئس ما صنع وإنما فهموا منه بهذا الفتوى بوقوع الطلاق حتى قال يحيى بن سعيد راوي الحديث أي هو جائر عليه في معنى قوله بئس ما صنع أي حين فرق بينه وبين امرأته بغير رضاه وإنما يكون ذلك إذا وقعت الفرقة ومن قال لا يقع طلاق المكره يقول مراد سعيد رضي الله عنه بئس ما صنع

 

ج / 24 ص -37-       في اكتسابه بالإكراه وتضييعه وقت نفسه وقد رد عليه الشرع قصده وجعل طلاق المكره لغوا ولكن الأول أظهر. وأصل هذا فيما إذا باع رجلا عينا من مال غيره بغير أمره ثم أخبر المالك به فقال بئس ما صنعت وهذا اللفظ في رواية هشام عن محمد لا يكون إجازة للبيع بخلاف قوله نعم ما صنعت أو أحسنت أو أصبت فإن في اللفظ الأول إظهار الكراهة لصنعه وفي اللفظ الثاني إظهار الرضا به.
وروى بن سماعة رحمه الله على عكس هذا أن قوله نعم ما صنعت يكون على سبيل الاستهزاء به في العادة فيكون ردا لا إجازة وقوله بئس ما صنعت يكون إجازة لأنه إظهار للتأسف على ما فاته وذلك إنما يتحقق إذا نفذ البيع وزال ملكه فجعلناه إجازة لذلك وعن صفوان بن عمرو الطائي أن رجلا كان مع امرأته نائما فأخذت سكينا وجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه وقالت لتطلقني ثلاثا ألبتة أو لأذبحنك فناشدها الله فأبت عليه فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:
"لا قيلولة في الطلاق" وفيه دليل وقوع طلاق المكره لأن لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا قيلولة في الطلاق" تأويلين أحدهما أنها بمعنى الإقالة والفسخ أي لا يحتمل الطلاق الفسخ بعد وقوعه وإنما لا يلزمه عند الإكراه ما يحتمل الإقالة أو يعتمد تمام الرضا والثاني أن المراد إنما ابتليت بهذا لأجل يوم القيلولة وذلك لا يمنع وقوع الطلاق.
وبطريق آخر يروي هذا الحديث أن رجلا خرج مع امرأته إلى الجبل ليمتار العسل فلما تدلى من الجبل بحبل وضعت السكين على الحبل فقالت لتطلقني ثلاثا أو لأقطعنه فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستفتي فقال عليه الصلاة والسلام
لا قيلولة في الطلاق وأمضى طلاقه.
وذكر نظير هذا عن عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه أن امرأة كانت مبغضة لزوجها فراودته على الطلاق فأبى فلما رأته نائما قامت إلى سيفه فأخذته ثم وضعته على بطنه ثم حركته برجلها فلما استيقظ قالت له والله لأنفذنك به أو لتطلقني ثلاثا فطلقها فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستغاث به فشتمها وقال ويحك ما حملك على ما صنعت فقالت بغضي إياه فأمضى طلاقه.
وهو دليل لنا على أن طلاق المكره واقع ولا يقال في هذا كله أن هذا الإكراه كان من غير السلطان لأن الإكراه بهذه الصفة يتحقق بالاتفاق فإنه صار خائفا على نفسه لما كانت متمكنة من إيقاع ما خوفته به وإن كان ذلك يعارض قوله فشتمها أي نسبها إلى سوء العشرة والصحبة وإلى الظلم كما يليق بفعلها لا أن يكون ذكر ما ليس بموجود فيها لأن ذلك بهتان لا يظن به.
وعن أبي قلابة قال طلاق المكره جائز وعن عمر رضي الله عنه قال أربع واجبات على من تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر يعني النذر المرسل إذ اليمين بالنذر

 

ج / 24 ص -38-       يمين وبه نأخذ فنقول هذا كله جائز لازم إن كان جادا فيه أو هازلا أكره عليه أو لم يكره لأنه لا يعتمد تمام الرضا ولا يحتمل الفسخ بعد وقوعه وعن علي رضي الله عنه قال ثلاث لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والصدقة يعني النذر بالصدقة ومراده أن الهزل والجد في هذه الثلاثة سواء فالهازل لاعب من حيث أنه يريد بالكلام غير ما وضع له الكلام. وذكر نظيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ثلاث لا لعب بهن واللعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق, وعن بن المسيب رضي الله عنه قال ثلاث ليس فيهن لعب الطلاق والنكاح والعتاق.
وأيد هذا كله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والرجعة والنكاح" وإنما أورد هذه الآثار ليستدل بها على صحة هذه التصرفات من المكره فللوقوع حكم الجد من الكلام والهزل ضد الجد ثم لما لم يمتنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد فلأن لا يمتنع الوقوع بسبب الإكراه أولى لأن الإكراه لا يضاد الجد فإنه أكره على الجد وأجاب إلى ذلك وإنما ضد الاكراه الرضا فيثبت بطريق البينة لزوم هذه التصرفات مع الاكراه لأنه لما لم يمتنع لزومها بما هو ضد الجد فلأن لا يمتنع لزومها مع جد أقدم عليه عن إكراه أولى.
وعن عمر رضي الله عنه أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رد يدي الطلاق والعتاق والنكاح والنذر. وقوله مبهمات أي واقعات على صفة واحدة في اللزوم مكرها كان الموقع أو طائعا يقال فرس بهيم إذا كان على لون واحد وقوله مقفلات أي لازمات لا تحتمل الرد بسب العذر وقد بين ذلك بقوله ليس فيهن رد يدي.
وعن الشعبي رضي الله عنه قال إذا أجبر السلطان على الطلاق فهو جائز وإن كان لصا فلا شيء وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله قال الإكراه يتحقق من السلطان ولا يتحقق من غيره ثم ظاهر هذا اللفظ يدل على أنه كان من مذهب الشعبي. أن المكره على الطلاق إذا كان سلطانا يقع ولا يقع طلاق المكره إذا كان المكره لصا. ولكنا نقول مراده بيان الوقوع بطريق التشبيه يعني أن المكره على الطلاق وإن كان سلطانا فالطلاق واقع جائز فإذا كان لصا أولى أن يكون واقعا لأن إكراه اللص ليس بشيء.
وعن علي وبن عباس رضي الله عنهم قالا كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وإنما استدل بقولهما على وقوع طلاق المكره لأنهما حكما بلزوم كل طلاق إلا طلاق الصبي والمعتوه والمكره ليس بصبي ولا معتوه ولا هو في معناهما لبقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه.
وعن الزهري رحمه الله أن فتى أسود كان مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان يقرأ القرآن فبعث أبو بكر رضي الله عنه رجلا يسعى على الصدقة وقال له اذهب بهذا الغلام معك يرع غنمك ويعنك فتعطيه من سهمك فذهب بالفتى فرجع وقد قطعت يده فقال ويحك

 

ج / 24 ص -39-       مالك قال زعموا أني سرقت فريضة من فرائض الإبل فقطعني قال أبو بكر رضي الله عنه والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه قال فلبثوا ما لبثوا ثم أن متاعا لامرأة أبي بكر سرق وذلك الأسود قائم يصلي فرفع يده إلى السماء وقال اللهم أظهر على السارق اللهم أظهر على السارق فوجدوا ذلك المتاع عنده فقال أبو بكر رضي الله عنه ويحك ما أجهلك بالله ثم أمر به فقطعت رجله فكان أول من قطعت رجله وقد بينا فوائد هذا الحديث في كتاب السرقة واختلاف الروايات أنه ذكر هناك أن الفتى كان أقطع اليد والرجل فقطعت يده اليسرى وهنا ذكر أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر رضي الله عنه رجله وإنما أورد الحديث هنا لحرف وهو قوله والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه وبه نأخذ فنقول إذا بعث الخليفة عاملا فأمر رجلا بقطع يد غيره أو قتله بغير حق فعله أن القصاص على العامل الذي أمر به لأن أمر مثله إكراه فإن من عادة العمال أنهم يأمرون بشيء ثم يعاقبون من امتنع من ذلك بالقتل وغيره والفعل يصير منسوبا إليه بمثل هذا الأمر قال الله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] إنه كان من المفسدين واللعين ما كان يباشر حقيقته ولكنه كان مطاعا بأمره والأمر من مثله إكراه والكلام في الإكراه على القتل يأتي في موضعه.
وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال أخذ المشركون عمار بن ياسر رضي الله عنه فلم يتركوه حتى سب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام:
"ما وراءك" قال شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال عليه الصلاة والسلام: "فكيف تجد قلبك" قال أجده مطمئنا بالإيمان قال عليه الصلاة والسلام: "إن عادوا فعد" ففيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الشرك على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان وأن ذلك لا يخرجه من الإيمان لأنه لم يترك اعتقاده بما أجراه على لسانه.
 ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمار بن ياسر رضي الله عنه عن حال قلبه فلما أخبر أنه مطمئن بالإيمان لم يعاتبه على ما كان منه وبعض العلماء رحمهم الله يحملون قوله عليه الصلاة والسلام:
"فإن عادوا فعد" على ظاهره يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير وهو غلط فإنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك ولكن مراده عليه الصلاة والسلام فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان وهذا لأن التكلم وإن كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل.
 ألا ترى أن حبيب بن عدي رضي الله عنه لما امتنع حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء وقال هو رفيقي في الجنة؟
وقصته أن المشركين أخذوه وباعوه من أهل مكة فجعلوا يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يسب ألهتهم ويذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير فأجمعوا على قتله فلما أيقن أنهم قاتلوه سألهم أن يدعوه ليصلي ركعتين فأوجز صلاته ثم قال إنما أوجزت لكيلا

 

ج / 24 ص -40-       تظنوا أني أخاف القتل ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليكون هو ساجدا لله حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني لا أرى هنا إلا وجه عدو فأقرى ء رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام اللهم احص هؤلاء عددا واجعلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلما                   على أي جنب كان لله مصرعي

فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئه سلام حبيب رضي الله عنه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقال: "هو أفضل الشهداء وهو رفيقي في الجنة" فبهذا تبين أن الامتناع أفضل.
وعن أبي عبيدة أيضا في قوله تعالى:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] قال ذلك عمار بن ياسر رضي الله عنه: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] عبيد الله بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخذه المشركون وأكرهوه على ما أكرهوا عليه عمار بن ياسر رضي الله عنه أجابهم إلى ذلك معتقدا فأكرموه وكان معهم إلى أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فجاء به عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يبايعه وفيه قصة وهو المراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] فعرفنا أنه إذا بدل الاعتقاد يحكم بكفره مكرها كان أو طائعا وهذا لأنه لا ضرورة إلى تبديل الاعتقاد فإنه لا اطلاع لأحد من العباد على اعتقاده وهو المراد أيضا من قوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] فأما قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] فهو عمار بن ياسر رضي الله عنه وقد ذكرنا قصته.
وعن جابر الجعفي أنه سأل الشعبي رحمه الله عن الرجل يأمر عبده أن يقتل رجلا قال فيها ثلاثة أقاويل قائل يقتل العبد وآخر قال يقتل المولى والعبد وآخر قال يقتل المولى والمراد بيان حكم القصاص عند القتل مكرها أنه على من يجب فإن أمر المولى عبده بمنزلة الإكراه لأنه يخاف على نفسه إن خالف أمره كأمر السلطان في حق رعيته ثم لم يذكر القول الرابع وهو الذي ذهب إليه أبو يوسف أنه لا يقتل واحد منهما وكأن هذا القول لم يكن في السلف وإنما سبق به أبو يوسف رحمه الله واستحسنه وبيان المسألة يأتي في موضعه.
وفي الحديث دليل أن المفتي لا يقطع الجواب على شيء ولكن يذكر أقاويل العلماء في الحادثة كما فعلها الشعبي رحمه الله ولكن هذا إذا كان المستفتي ممن يمكنه التمييز بين الأقاويل ويرجح بعضها على البعض فإن كان بحيث لا يمكنه ذلك فلا يحصل مقصوده ببيان أقاويل العلماء رحمهم الله فلا بد للمفتي من أن يبين له أصح الأقاويل عنده للأخذ به.
وعن الحسن البصري رحمه الله التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية وبه نأخذ والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنه من النفاق والصحيح أن ذلك جائز لقوله

 

ج / 24 ص -41-       تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية. وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيه لعمار بن ياسر رضي الله عنه إلا أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق وقد جوزه بعض الروافض لعنهم الله ولكن تجويز ذلك محال لأنه يؤدي إلى أن لا يقطع القول بما هو شريعة لاحتمال أن يكون قال ذلك أو فعله تقية والقول بهذا محال وقوله إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية يعني إذا أكره على قتل مسلم ليس له أن يقتله لما فيه من طاعة المخلوق في معصية الخالق وإيثار روحه على روح من هو مثله في الحرمة وذلك لا يجوز وبهذا يتبين عظم حرمة المؤمن لأن الشرك بالله أعظم الأشياء وزرا وأشدها تحريما قال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] إلى قوله عز وجل: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:91] 91 ثم يباح له إجراء كلمة الكفر في حالة الإكراه ولا يباح الإقدام على القتل في حالة الإكراه فيه يتبين عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى وهو مراد بن عباس رضي الله عنه إنما التقية باللسان ليس باليد يعني القتل والتقية باللسان هو إجراء كلمة الكفر مكرها.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف قالوا له وكيف ذلك قال إن الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشب يعني الذي يراد صلبه يضرب بالسوط حتى يصعد السلم وإن كان يعلم ما يراد به إذا صعد وفيه دليل أن الإكراه كما يتحقق بالتهديد بالقتل يتحقق بالتهديد بالضرب الذي يخاف منه التلف والمراد بالفتنة العذاب قال الله تعالى:
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات: 14] وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] أي عذبوهم فمعناه عذاب السوط أشد من عذاب السيف لأن الألم في القتل بالسيف يكون في ساعته وتوالي الألم في الضرب بالسوط إلى أن يكون آخره الموت. وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلا فقيل له إنك منافق فقال لا ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وقد ابتلى ببعض ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أن المشركين أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله في غزوة فلما تخلص منهم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم".
وذكر عن مسروق رحمه الله قال بعث معاوية رضي الله عنه بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها على مسروق رحمه الله قال والله لو أني أعلم أنه يقتلني لغرقتها ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني والله لا أدري أي الرجلين معاوية رجل قد زين له سوء عمله أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا وقيل هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة فأمر معاوية رضي الله عنه ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الأسلحة والكراع للغزاة فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في جواز بيع الصنم, والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس.

 

ج / 24 ص -42-       وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك ومسروق من علماء التابعين وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى وقد رجع بن عباس إلى قوله في مسألة النذر بذبح الولد ولكن مع هذا قول معاوية رضي الله عنه مقدم على قوله.
وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض كما قال علي رضي الله عنه من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد يعني بقول زيد رضي الله عنه. وإنما قلنا هذا لأنه لا يظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية رضي الله عنه ما قال عن اعتقاد وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملك بعده فقال له عليه السلام يوما إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم إلا أن نوبته كانت بعد انتهاء نوبة علي رضي الله عنه ومضي مدة الخلافة فكان هو مخطئا في مزاحمة علي رضي الله عنه تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا, ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل رحمه الله كان ينال منه في الابتداء فرأى في منامه كأن شعرة تدلت من لسانه إلى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك ويقطر الدم من لسانه فسأل المعبر عن ذلك فقال إنك تنال من واحد من كبار الصحابة رضي الله عنه فإياك ثم إياك
وقد قيل في تأويل الحديث أيضا إن تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روي أنه وجد خاتم دانيال عليه السلام في زمن عمر رضي الله عنه كان عليه نقش رجل بين أسدين يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان فعرفنا أنه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك ولكن مسروقا رحمه الله كان يبالغ في الاحتياط فلا يجوز اتخاذ شيء من ذلك ولا بيعه ثم كان تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده وقد ترك ذلك مخافة على نفسه وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ومقصوده من إيراد الحديث أن يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الإكراه كما يتحقق في القتل لأنه قال لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني فيفتنني فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال لا جناح علي في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها وإنما أراد بيان جواز التقية في إجراء كلمة الكفر إذا أكرهه المشرك عليها فالظالم هو الكافر قال الله تعالى:
{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ولم يرد به طاعة الظالم في القتل لأن الإثم على المكره في القتل لا يندفع بعذر الإكراه بل إذا قدم على القتل كان آثما إثم القتل على ما بينه والله أعلم.

باب ما يكره عليه اللصوص غير المتأولين
 قال رحمه الله ولو أن لصوصا من المسلمين غير المتأولين أو من أهل الذمة تجمعوا فغلبوا على مصر من أمصار المسلمين وأمروا عليهم أميرا فأخذوا رجلا فقالوا لنقتلنك أو

 

ج / 24 ص -43-       لتشربن هذا الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لحم هذا الخنزير ففعل شيئا من ذلك كان عندنا في سعة لأن حرمة هذه الأشياء ثابتة بالشرع وهي مفسدة بحالة الاختيار فإن الله تعالى استثنى حالة الضرورة من التحريم بقوله عز وجل: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فظهر أن التحريم مخصوص بحالة الاختيار وقد تحققت الضرورة هنا لخوف التلف على نفسه بسبب الإكراه فالتحقت هذه الأعيان في حالة الضرورة بسائر الأطعمة والأشربة فكان في سعة من التناول منها وإن لم يفعل ذلك حتى يقتل كان آثما.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يكون آثما وكذلك هذا فيمن أصابته مخمصة فلم يتناول من الميتة حتى مات فعلى ظاهر الرواية يكون آثما وعلى رواية أبي يوسف لا يكون آثما فالأصل عند أبي يوسف أن الإثم ينتفي عن المضطر ولا تنكشف الحرمة بالضرورة قال الله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] وهذا لأن الحرمة بصفة أنها ميتة أو خمر وبالضرورة لا ينعدم ذلك فإذا امتنع كان امتناعه من الحرام فلا يكون آثما فيه وجه ظاهر الرواية أن الحرمة لا تتناول حالة الضرورة لأنها مستثناة بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فأما أن يقال يصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى وقد كان مباحا قبل التحريم فبقي على ما كان في حالة الضرورة أو يقال الاستثناء من التحريم إباحة.
وإذا ثبتت الإباحة في حالة الضرورة فامتناعه من التناول حتى تلف كامتناعه من تناول الطعام الحلال حتى تلفت نفسه فيكون آثما في ذلك وصفة الخمرية توجب الحرمة لمعنى الرفق بالمتناول وهو أن يمنعه من استعمال عقله ويصده عن ذكر الله وعن الصلاة وكذلك لحم الخنزير لما في طبع الخنزير من الانتهاب وللغذاء أثر في الخلق والرفق هنا في الإباحة عند الضرورة لأن إتلاف البعض أهون من إتلاف الكل وفي الامتناع من التناول هلاك الكل فتثبت الإباحة في هذه الحالة لهذا المعنى وكذلك لو أوعد بقطع عضو أو بضرب مائة سوط, أو أقل منها مما يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس.
ألا ترى أن المضطر كما لا يباح له قتل الإنسان ليأكل من لحمه لا يباح له قطع عضو من أعضائه والضرب الذي يخاف منه التلف بمنزلة القتل على ما بينا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف والأعضاء في هذا سواء حتى لو أوعده بقطع أصبع أو أنملة يتحقق به الإلجاء فكل ذلك محرم باحترام النفس تبعا لها.
ولو أوعده بضرب سوط أو سوطين لم يسعه تناول ذلك لأنه لا يخاف على نفسه ولا على عضو من أعضائه بما هدده به إنما يغمه ذلك أو يؤلمه ألما يسيرا والإلجاء لا يتحقق به.
ألا ترى أن بالإكراه بالحبس والقيد لا يتحقق الإلجاء حتى لا يباح له تناول هذه الأشياء والغم الذي يصيبه بالحبس ربما يزيد على ما يصيبه بضرب سوط أو سوطين.

 

ج / 24 ص -44-       ألا ترى أن الجهال يتهازلون فيما بينهم بهذا المقدار وكذلك كل ضرب لا يخاف منه تلف نفس أو ذهاب عضو في أكثر الرأي وما يقع في القلب لأن غالب الرأي يقام مقام الحقيقة فيما لا طريق إلى معرفته حقيقة.
قال وقد وقت بعضهم في ذلك أدنى الحدود أربعين سوطا فإن هدد بأقل منها لم يسعه الإقدام على ذلك لأن ما دون الأربعين مشروع بطريق التعزير والتعزير يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا ولكنا نقول نصب المقدار بالرأي لا يكون ولا نص في التقدير هنا وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب وخلافه فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه فإن وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ وإن خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ وإن كان التهديد بعشرة أسواط وهكذا نقول في التعزير للإمام أن يبلغ بالتعزير تسعة وثلاثين سوطا إذا كان في أكثر رأيه أنه لا يتلف به نفسه ولا عضوا من أعضائه وكذلك إن تغلب هؤلاء اللصوص على بلد ولكنهم أخذوا رجلا في طريق أو مصر لا يقدر فيها على غوث لأن المعتبر خوفه التلف على نفسه وذلك بتمكنهم من إيقاع ما هددوه به قبل أن يحضر الغوث ولو توعدوه على شيء من ذلك بحبس سنة أو بقيد ذلك من غير أن يمنعوه طعاما ولا شرابا لم يسعه الإقدام على شيء من ذلك لأن الحبس والقيد يوجب الهم والحزن ولا يخاف منه على نفس ولا عضو ولدفع الحزن لا يسعه تناول الحرام.
ألا ترى أن شارب الخمر في العادة إنما يقصد بشربها دفع الهم والحزن عن نفسه ولو تحقق الإلجاء بالحبس لتحقق بحبس يوم أو نحوه وذلك بعيد. وإن قالوا لنجيعنك أو لتفعلن بعض ما ذكرنا لم ينبغ له أن يفعل ذلك حتى يجيء من الجوع ما يخاف منه التلف لأن الجوع شيء يهيج من طبعه وبادي الجوع لا يخاف منه التلف إنما يخاف التلف عند نهاية الجوع بأن تخلو المعدة عن مواد الطعام فتحترق وشيء منه لا يوجد عند أدنى الجوع.
 ألا ترى أن الإكراه في هذا معتبر بالضرورة والمضطر الذي يخاف على نفسه من العطش والجوع يباح له تناول الميتة وشرب الخمر ولا يباح له ذلك عند أدنى الجوع ما لم يخف التلف على نفسه وهذا بخلاف ما تقدم إذا هددوه بضرب سوط فإن هناك يباح له التناول ولا يلزمه أن يصبر إلى أن يبلغ الضرب حدا يخاف منه التلف على نفسه لأن الضرب فعل الغير به فينظر إلى ما هدده به فإذا كان يخاف منه التلف يباح الإقدام عليه باعتبار أن تمكنه من إيقاع ما هدده به يجعل كحقيقة الإيقاع والجوع هنا يهيج من طبعه وليس هو فعل الغير به فإنما يعتبر القدر الموجود منه وقد قيل إنما يعتبر إذا كان يعلم أن الجوع صار بحيث يخاف منه التلف وأراد أن يتناول مكنوه من ذلك فأما إذا كان يعلم أنه لو صبر إلى تلك الحالة ثم أراد أن يتناول لم يمكنوه من ذلك فليس له أن يتناول إلا إذا كان بحيث يلحقه الغوث إلى أن ينتهي حاله إلى ذلك فحينئذ لا يسعه الإقدام عليه بأدنى الجوع.

 

ج / 24 ص -45-       قال وكل شيء جاز له فيه تناول هذه المحرمات من الإكراه فكذلك يجوز عندنا الكفر بالله إذا أكره عليه وقلبه مطمئن بالإيمان وهذا يجوز في العبادة فإن حرمة الكفر حرمة ثابتة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن مراده أنه يجوز له إجراء كلمة الشرك على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان لأن الإلجاء قد تحقق والرخصة في إجراء كلمة الشرك ثابتة في حق الملجأ بشرط طمأنينة القلب بالإيمان إلا أن هنا إن امتنع كان مثابا على ذلك لأن الحرمة باقية فهو في الامتناع متمسك بالعزيمة والمتمسك بالعزيمة أفضل من المترخص بالرخصة.
قال وقد بلغنا عن بن مسعود رضي الله عنه قال ما من كلام أتكلم به يدرأ عني ضربتين بسوط غير ذي سلطان إلا كنت متكلما به وإنما نضع هذا على الرخصة فيما فيه الألم الشديد وإن كان من سوطين فإما أن نقول السوطان اللذان لا يخاف منهما تلف يوجبان الرخصة له في إجراء كلمة الشرك فهذا مما لا يجوز أن يظن بعبد الله رضي الله عنه وأما تصرف هذا اللفظ منه على سبيل المثل فلبيان الرخصة عند خوف التلف وقيل السوطان في حقه كان يخاف منهما التلف لضعف نفسه فقد كان بهذه الصفة على ما روي أنه صعد شجرة يوما فضحكت الصحابة رضي الله عنهم من دقة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تضحكوا فهما ثقيلان في الميزان".
ولو أن هؤلاء اللصوص قالوا شيئا من ذلك للرجل والرجل لا يرى أنهم يقدمون عليه لم يسعه الإقدام على المحرم لأن المعتبر خوف التلف ولا يصير خائفا التلف إذا كان يعلم أنهم لا يقدمون عليه وإن هددوه به وقد بينا أن ما لا طريق إلى معرفته حقيقة يعتبر فيه غالب الرأي فإن كان لا يخاف أن يقدموا عليه في أول مرة حتى يعاودوه لم ينبغ له أن يقدم على ذلك حتى يعاودوه وهذا على ما يقع في القلب.
ألا ترى: أنك لو رأيت رجلا ينقب عليك دارك من خارج أو دخل عليك ليلا من الثقب بالسيف وخفت إن أنذرته يضربك وكان على أكثر رأيك ذلك وسعك أن تقتله قبل أن تعلمه إذا خفت أن يسبقك إن أعلمته وفي هذا إتلاف نفس ثم أجاز الاعتماد على غالب الرأي لتعذر الوقوع على حقيقته فكذلك فيما سبق.
ولو هددوه بقتل أو إتلاف عضو أو بحبس أو قيد ليقر لهذا الرجل بألف درهم فأقر له به فالإقرار باطل أما إذا هددوه بما يخاف منه التلف فهو ملجأ إلى الإقرار محمول عليه والإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب فإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق وذلك ينعدم بالإلجاء. وكذلك إن هددوه بحبس أو قيد لأن الرضا ينعدم بالحبس والقيد بما يلحقه من الهم والحزن به وانعدام الرضا يمنع ترجيح جانب الصدق في إقراره ثم قد بينا أن الإكراه نظير الهزل ومن هزل بإقراره لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه.
فإن قيل لماذا لم يجعل هذا بمنزلة شرط الخيار وشرط الخيار يمنع صحة الإقرار؟.

 

ج / 24 ص -46-       قلنا لا كذلك بل متى صح شرط الخيار مع الإقرار بالمال لا يجب المال حتى لو قال كفلت لفلان عن فلان بألف درهم على أني بالخيار لا يلزمه المال فأما إذا أطلق الإقرار بالمال وهو خبر عن الماضي فلا يصح معه شرط الخيار والإكراه هنا متحقق فإنما يعتبر بموضع يصح فيه اشتراط الخيار وهذا بخلاف ما تقدم من تناول الحرام لأن المؤثر هناك الإلجاء وذلك ما يخاف منه التلف وهنا المانع من وجوب المال انعدام الرضا بالالتزام وقد انعدم الرضا بالإكراه وإن كان بحبس أو قيد.
قال شريح رحمه الله القيد كره والوعيد كره والضرب كره والسجن كره. وقال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضربت أو بغت أو جوعت أي هو ليس بطائع عند خوف هذه الأشياء، وإذا لم يكن طائعا كان مكرها ولو توعدوه بضرب سوط واحد أو حبس يوم أو قيد يوم على الإقرار بألف فأقر به كان الإقرار جائزا لأنه لا يصير مكرها بهذا القدر من الحبس والقيد فالجهال قد يتهازلون به فيما بينهم فيحبس الرجل صاحبه يوما أو بعض يوم أو يقيده من غير أن يغمه ذلك وقد يفعل المرء ذلك بنفسه فيجعل القيد في رجله ثم يمشي تشبيها بالمقيد أرأيت لو قالوا له لنطرقنك طرقة أو لنسمنك أو لتقرن به أما كان إقراره جائزا والحد في الحبس الذي هو إكراه في هذا ما يجيء منه الاغتمام البين وفي الضرب الذي هو إكراه ما يجد منه الألم الشديد وليس في ذلك حد لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولكن ذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه فما رأى أنه إكراه أبطل الإقرار به لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس فالوجيه الذي يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس والقيد يوما في حقه فوق تأثير حبس شهر في حق غيره فلهذا لم نقدر فيه بشيء وجعلناه موكولا إلى رأي القاضي ليبني ذلك على حال من ابتلي به.
ولو أكرهوه على أن يقر لرجل بألف درهم فأقر له بخمسمائة كان باطلا لأنهم حين أكرهوه على ألف فقد أكرهوه على أقل منها فالخمسمائة بعض الألف ومن ضرورة امتناع صحة الإقرار بالألف إذا كان مكرها امتناع صحة إقراره بما هو دونه ولأن هذا من عادات الظلمة أنهم يكرهون المرء على الإقرار وبدل الحط بألف ويقنعون منه ببعضه فبهذا الطريق جعل مكرها على ما دون الألف ولو أقر بألفين لزمه ألف درهم لأنه طائع في الإقرار في أحد الألفين وليس من عادات الظلمة أن يتحكموا على المرء بمال ومرادهم أكثر من ذلك. وفرق أبو حنيفة بين هذا وبين ما إذا شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألفين فإن هناك لا تقبل الشهادة على شيء وقال هناك لا يصح إقراره بقدر ألف وتصح الزيادة لأن في الشهادة تعتبر الموافقة من الشاهدين لفظا ومعنى وقد انعدمت الموافقة لفظا فالألف غير الألفين وهنا المكره مضار متعنت فإنما يعتبر في حقه المعنى دون اللفظ وقد قصد الإضرار به بإلزام الألف إياه بإقراه فيرد عليه قصده ولا يلزمه الألف بما أقر به ويلزمه ما زاد عليه.
ولو أقر بألف دينار لزمته لأن الدراهم والدنانير جنسان حقيقة فيكون هو طائعا في

 

ج / 24 ص -47-       جميع ما أقر به من الجنس الآخر ولا يقال الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد في الأحكام لأن هذا في الإنشاآت فأما في الإخبارات فهما جنسان كما في الدعوى والشهادة فإنه إذا ادعى الدراهم وشهد له الشهود بالدنانير لا تقبل والإقرار إخبار هنا فالدراهم والدنانير فيه جنسان. وكذلك إن أقر له بنصف غير ما أكرهوه عليه من المكيل أو الموزون فهو طائع متى أقر به.
ولو أكرهوه على أنه يقر له بألف فأقر له ولفلان الغائب بألف فالإقرار كله باطل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف سواء أقر الغائب بالشركة أو أنكرها. وقال محمد إن صدقه الغائب فيما أقر به بطل الإقرار كله وإن قال لي عليه نصف هذا المال ولا شركة بيني وبين هذا الذي أكرهوه على الإقرار له جاز الإقرار للغائب بنصف المال, وأصل المسألة ما بيناه في الإقرار أن المريض إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين عند أبي حنيفة وأبي يوسف الإقرار باطل على كل حال لأنه أقر بأن المال مشترك بينهما ولا وجه لإثبات الشركة للوارث فيبطل الإقرار كله وهنا أقر بالمال مشتركا بينهما ولا وجه لإثبات الشركة لمن أكره على الإقرار له فكان الإقرار باطلا. وكذلك عند محمد إن صدقه الأجنبي بالشركة وإن كذبه فله نصف المال لأنه أقر له بنصف المال وادعى عليه شركة الوارث معه وهنا أيضا أقر للغائب بنصف المال طائعا وادعى عليه شركة الحاضر معه فكان إقراره للغائب بنصف المال صحيحا ودعواه الشركة باطلة.
ولو أكرهوه على هبة جاريته لعبد الله, فوهبها لعبد الله وزيد وقبضاها بأمره جازت في حصة زيد لأنه ملكه نصف الجارية طائعا والشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع صحة الهبة وبطلت في حصة عبد الله بالإكراه ثم الهبة إنشاء التصرف فبطلانه في نصيب من أكره عليه لا يمنع من صحته في نصيب الآخر كالوصية فإن من أوصى لوارثه ولأجنبي جازت الوصية في نصيب الأجنبي بخلاف الإقرار. ولو كان ذلك في ألف درهم بطلت الهبة كلها أما عند أبي حنيفة فلأنه لا يجوز هبة ما يحتمل القسمة من رجلين إذا كان طائعا في حقهما فإذا كان مكرها في حق أحدهما كان أولى. وأما عند أبي يوسف ومحمد فإنما لا يجوز هنا لأن الهبة بطلت في نصيب عبد الله من الأصل.
فلو صحت في نصيب زيد كانت في مشاع يحتمل القسمة وذلك يمنع صحة الهبة.
 ألا ترى أنه لو وهب داره من رجل فاستحق نصفها بطلت الهبة في الثاني واستشهد لهذا بما لو اشترى دارا وهو شفيعها مع رجل غائب فقبضها ووهبها وسلمها ثم حضر الغائب فأخذ نصفها بالشفعة بطلت الهبة في النصف الآخر لأن في النصف المأخوذ بالشفعة الهبة تبطل من الأصل.
وكذلك لو وهب لرجل دارا على أن يعوضه من نصفها خمرا فالهبة تبطل في النصف الباقي لبطلانها في النصف الذي شرط فيه الخمر عوضا وهذا بخلاف المريض إذا وهب داره من إنسان ولا مال له غيرها ثم مات فإن الهبة تنتقض في الثلثين لحق الورثة وتبقى في الثلث صحيحة لأن الهبة في الكل صحيحة في الابتداء وإنما تنتقض في الثلثين لحق الورثة بعد

 

ج / 24 ص -48-       موت الواهب فكان الشيوع في الثلث طارئا وذلك لا يبطل الهبة كما لو وهب داره من إنسان ثم رجع في نصفها وفيما تقدم من المسائل المبطل للهبة في النصف مقترن بالسبب فبطلت الهبة في ذلك النصف من الأصل فالشيوع في النصف الباقي يكون مقارنا لا طارئا.
ولو أكرهوه على هبة جاريته لرجل ودفعها إليه فوهب ودفع فأعتقها الموهوب له جاز عتقه وغرم المعتق قيمتها أما قوله ولو دفعها إليه فهو فصل من الكلام فإن الإكراه على الهبة يكون إكراها على الدفع بخلاف الإكراه على البيع فإنه لا يكون إكراها على التسليم والفرق أن المكره مضار متعنت والهبة لا توجب الملك بنفسها ما لم يتصل بها القبض فإذا كان الضرر الذي قصده المكره وهو إزالة ملكه لا يحصل إلا بالقبض تعدي الإكراه إليه وإن لم ينص عليه فأما البيع فموجب الملك بنفسه والإضرار به يتحقق متى صح فلا يتعدى الإكراه عن البيع إلى شيء آخر وإذا سلم بعد ذلك بغير أمره كان طائعا في التسليم.
يوضحه أن القبض في باب البيع يوجب ملك التصرف وذلك حكم آخر غير ما هو الموجب الأصلي بالبيع وهو ملك الغير فلا يتعدى الإكراه إليه بدون التنصيص عليه وأما القبض في باب الهبة فيوجب الملك الذي هو حكم الهبة وهو ملك الغير فلهذا كان الإكراه على الهبة إكراها على التسليم ثم بسبب الإكراه تفسد الهبة ولكن الهبة الفاسدة توجب الملك بعد القبض كالهبة الصحيحة بناء على أصلنا أن فساد السبب لا يمنع وقوع الملك بالقبض فإذا أعتقها أو دبرها أو استولدها فقد لاقى هذه التصرفات منه ملك نفسه فكانت نافذة وعليه ضمان قيمتها لأن رد العين كان مستحقا عليه وقد تعذر بنفوذ تصرفه فيه فعليه قيمتها كالمشتراة شراء فاسدا وإذا شاء المكره في هذا كله رجع على الذين أكرهوه بقيمتها لأنهم أتلفوا عليه ملكه فإن الإكراه بوعيد متلف يجعل المكره ملجأ وذلك يوجب كون المكره آلة للمكره ونسبة الفعل إليه فيما يصلح أن يكون آلة وهو في التسليم والإتلاف الحاصل به يصلح أن يكون آلة للمكره فإذا صار الإتلاف منسوبا إلى المكره كان ضامنا للقيمة فإن ضمنهم القيمة رجعوا بها على الموهوب له لأنهم قاموا في الرجوع عليه مقام من صحبهم ولأنهم ملكوها بالصحبة ولو كانت قائمة من هذا الموهوب له كان لهم أن يأخذوها منه وإذا أتلفوها بالإعتاق كان لهم أن يضمنوه قيمتها.
فإن قيل لماذا لا تنفذ الهبة من جهتهم؟.
قلنا لأنهم ما وهبوها له وإنما قصدوا الإضرار بالمكره لا التبرع من جهتهم بخلاف الغاصب إذا وهب المغصوب ثم ضمن القيمة فإن هناك قصد تنفيذ الهبة من جهته فإذا ملكه بالضمان نفذت الهبة من جهته كما قصدها ولذلك لو أكرهوه على البيع والتسليم ففعل فأعتقه المشتري أو دبره أو كانت أمة فاستولدها نفذ ذلك كله عندنا. وقال زفر لا ينفذ شيء من ذلك, وأصل المسألة أن المشتري من المكره بالقبض يصير مالكا عندنا خلافا لزفر رحمه الله وحجته في ذلك أن بيع المكره دون البيع بشرط الخيار للبائع فالبائع هناك راض بأصل

 

ج / 24 ص -49-       السبب والبيع هناك يتم بموت البائع وهنا لا يتم ثم هناك المشتري لا يملكه بالقبض فهنا أولى إذ بيع المكره كبيع الهازل.
ولو تصادقا أنه كان البيع بينهما هزلا لم يملك المشتري المبيع بالقبض فكذلك إذا كان البائع مكرها وكلامه في الإكراه بالقتل أوضح لأن الفعل ينعدم في جانب المكره بالإلجاء فيصير كأن المكره باشر ذلك بنفسه فلا يملكه المشتري بالقبض وإن كان لو أجازه المالك طوعا صح.
وحجتنا في ذلك أن بيع المكره فاسد والمشتري بالقبض بحكم البيع الفاسد يصير مالكا وبيان الوصف أن ما هو ركن العقد لم ينعدم بالإكراه وهو الإيجاب والقبول في محله وإنما انعدم ما هو شرط الجواز وهو الرضى قال الله تعالى:
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وتأثير انعدام شرط الجواز في إفساد العقد كما هو في الربا فإن المساواة في أموال الربا شرط جواز العقد فإذا انعدمت المساواة كان العقد فاسدا وكان الملك ثابتا للمشتري بالقبض فهذا مثله بخلاف البيع بشرط الخيار فإن شرط الخيار يجعل العقد في حق حكمه كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وهذا لأن قوله على أنى بالخيار شرط ولكن لا يمكن إدخاله على أصل السبب لأن البيع لا يحتمل التعليق بالشرط فيكون داخلا على حكم السبب لأن الحكم يحتمل التأخر عن السبب وبهذا تبين أن البائع هناك غير راض بالسبب في الحال لأنه علقه بالشرط فلا يتم رضاه به قبل الشرط فكان أضعف من بيع المكره لأن المكره راض بالسبب لدفع الشر عن نفسه غير راض بحكم السبب والخيار الثابت للمكره من طريق الحكم فيكون نظير خيار الرؤية وخيار العيب وذلك لا يمنع انعقاد السبب في الحكم مقيدا لحكمه فكذلك بيع المكره, وكذلك الهازل فإنه غير راض بأصل البيع لأن البيع اسم للجد الذي له في الشرع حكم والهزل ضد الجد فإذا تصادقا على أنهما لم يباشرا ما هو سبب الملك لا ينعقد البيع بينهما موجبا للملك وهنا المكره دعي إلى الجد وقد أجاب إلى ذلك لأنه لو أتى بغيره كان طائعا فكان بيع المكره أقوى من بيع الهازل من هذا الوجه وإنما ينعدم الفعل في جانب المكره إذا صار منسوبا إلى المكره وذلك يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره وفي البيع لا يصلح أن يكون هو آلة للمكره لأن التكلم بلسان الغير لا يتحقق فيه المكره مباشرا للبيع.
فإن قيل هو في التسليم يصلح أن يكون آلة للمكره فينتقل ذلك إلى المكره ويصير كأنه سلم بنفسه فلا يملكه المشتري.
قلت هو في التسليم متمم للعقد فلا يصلح أن يكون آلة للمكره وإنما يصلح أن يكون آلة للمكره في تسليم ابتداء غصب وثبوت الملك في البيع الفاسد لا ينبني على ذلك وإنما ينبني على تسليم هو حكم العقد وذلك متصور على المكره أيضا يوضحه أنه لا تأثير للإكراه في تبديل محل الفعل

 

ج / 24 ص -50-       ولو أخرجنا هذا التسليم من أن يكون متمما للعقد جعلناه غصبا ابتداء بنسبته إلى المكره فيتبدل بسبب الإكراه ذات الفعل وإذا كان لا يجوز أن يتبدل محل الفعل بسبب الإكراه فكيف يجوز أن تتبدل ذاته, ومن أصحابنا رحمهم الله من علل لتنفيذ عتق المشتري من غير تعرض للملك, فنقول إيجاب البيع مطلقا تسليط للمشتري على العتق والإكراه لا يمنع صحة التسليط على العتق ونفوذ العتق بحكمه كما لا يمنع الإكراه صحة الإعتاق.
 ألا ترى أنه لو أكره على أن يوكل في عتق عبده ففعل وأعتقه الوكيل نفذ عتقه فهذا مثله؟.
 وإذا ثبت نفوذ العتق والتدبير والاستيلاد فقد تعذر على المشتري رد عينها فيضمن قيمتها للبائع فإن شاء البائع ضمن الذين أكرهوه لأن العقد وما يتممه وإن لم يصر مضافا إليهم فلإتلاف الحاصل به يصير مضافا إليهم في حق البائع لأن المكره يصلح أن يكون آلة لهم في الإتلاف فكان له أن يضمنهم قيمتها ثم يرجعون بها على المشتري لأنهم قاموا مقام البائع أو لأنهم ملكوها بالضمان ولا يمكن تنفيذ البيع من جهتهم فيرجعون على المشتري بقيمتها لأنه أتلفها عليهم طوعا بالإعتاق.
ولو أن المشتري أتلفها والموهوب له لم يفعل بها ذلك ولكنه باعها أو وهبها وسلمها أو كاتبها كان لمولاها المكره أن ينقض جميع ذلك لأن هذه التصرفات تحتمل النقض فينقض لحق المكره بخلاف العتق.
 ألا ترى أن العتق لا ينتقض لحق المرتهن والبيع والهبة والكتابة تنقض لحقه؟.
فإن قيل فأين ذهب قولكم أن بيع المكره فاسد والمشتري شراء فاسدا لا ينقض منه هذه التصرفات بعد القبض لحق البائع؟
قلنا لأن هناك البائع سلم المبيع راضيا به فيصير بالتسليم مسلطا للمشتري على هذه التصرفات وهنا المكره غير راض بالتسليم ولو رضي بالتسليم تم البيع فوزانه المشتري شراء فاسدا إذا أكره البائع على التسليم فسلمه مكرها وهذا لأن الفاسد معتبر بالصحيح.
وفي البيع الصحيح إذا قبضه المشتري بغير إذن البائع وتصرف فيه ينقض من تصرفاته ما يحتمل النقض لإبقاء حق البائع في الحبس دون ما لا يحتمل النقض. قال وليس في شيء يكره عليه الإنسان إلا وهو يرد إلا ما جرى فيه عتق أو تدبير أو ولادة أو طلاق أو نكاح أو نذر أو رجعة في العدة أو في الإيلاء ممن لا يقدر على الجماع فإن هذه الأشياء تجوز في الإكراه ولا ترد.
وأصل المسألة أن تصرفات المكره قولا منعقد عندنا إلا أن ما يحتمل الفسخ منه كالبيع والإجارة يفسخ وما لا يحتمل الفسخ منه كالطلاق والنكاح والعتاق وجميع ما سمينا فهو لازم. وقال الشافعي تصرفات المكره قولا يكون لغوا إذا كان الإكراه بغير حق بمنزلة تصرفات الصبي والمجنون ويستوي إن كان الإكراه بحبس أو قتل.
وحجته في ذلك قوله تعالى:
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والمراد نفي الحكم لما يكره عليه المرء في الدين قال عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما

 

ج / 24 ص -51-       استكرهوا عليه" فهذا يدل على أن ما يكره عليه يكون مرفوعا عنه حكمه وإثمه وعينه إلا بدليل والمعنى فيه أن هذا قول موجب للحرمة فالإكراه الباطل عليه يمنع حصول الفرقة كالردة وتأثيره أن انعقاد التصرفات شرعا بكلام يصدر عن قصد واختيار معتبر شرعا ولهذا لا ينعقد شيء من ذلك بكلام الصبي والمجنون والنائم وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعا فيما تكلم به بل هو مكره عليه والإكراه يضاد الاختيار فوجب اعتبار هذا الإكراه في انعدام اختياره به لكونه إكراها بالباطل ولكونه معذورا في ذلك فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعا التحق بالمجنون بخلاف العنين إذا أكرهه القاضي على الفرقة بعد مضي المدة أو المولى بعدها لأن ذلك إكراه بحق لانعدام اختياره شرعا.
 ألا ترى أن المديون إذا أكرهه القاضي على بيع ماله نفذ بيعه والذمي إذا أسلم عبده فأجبر على بيعه نفذ بيعه بخلاف ما إذا أكرهه على البيع بغير حق. قال وعلى هذا قلت وإذا أكره الحربي على الإسلام صح إسلامه.
ولو أكره المستأمن أو الذمي على الإسلام لا يصح إسلامه لأنه إكراه بالباطل ولا يدخل فيه السكران فإنه غير معذور شرعا فهو في المعنى كالمكره بحق فيكون قصده واختياره معتبرا شرعا ولهذا نفذ منه جميع التصرفات ولهذا صح إقراره بالطلاق هناك ولا يصح هنا إقراره بالطلاق بالاتفاق فكذلك إنشاؤه وهذا بخلاف الهازل لأنه قاصدا لي التكلم بالطلاق مختار له فإن باب الهزل واسع فلما اختار عند الهزل التكلم بالطلاق من بين سائر الكلمات عرفنا أنه مختار للفظ وإن لم يكن مريدا لحكمه فأما المكره فغير مختار في التكلم بالطلاق هنا لأنه لا يحصل له النجاة إذا تكلم بشيء آخر وهذا بخلاف ما إذا أكره على أن يجامع امرأة وهي أم امرأته فإنها تحرم عليه لأنا ادعينا هذا في الأقوال التي يكون ثبوتها شرعا بناء على اختيار صحيح فأما الأفعال فتحققها بوجودها حسا.
 ألا ترى أنه إذا تحقق ذلك من المجنون كان موجبا للفرقة أيضا فكذلك من المكره بخلاف ما نحن فيه.
ولأن سبب الإكراه محافظة قدر الملك على المكره حتى قلتم في الإكراه على العتق المكره يضمن القيمة للمكره وكما تجب محافظة قدر ملكه عليه تجب محافظة عين ملكه عليه ولا طريق لذلك سوى أن يجعل الفعل عدما في جانب المكره ويجعل هو آلة للمكره وإذا صار آلة له امتنع وقوع الطلاق والعتاق, ولا معنى لقولكم أنه في التكلم لا يصلح آلة فإنكم جعلتموه آلة حيث أوجبتم ضمان القيمة على المكره في العتاق وضمان نصف الصداق على المكره في الطلاق قبل الدخول ثم إن لم يمكن أن يجعل آلة حتى يصير الفعل موجودا من المكره يجعل آلة حتى ينعدم الفعل في جانب المكره فيلغو طلاقه وعتاقه.
وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار في أول الكتاب والمعنى فيه أنه تصرف من أهله في محله فلا يلغى كما لو كان طائعا وبيانه أن هذا التصرف كلام والأهلية للكلام يكون مميزا

 

ج / 24 ص -52-       ومخاطبا وبالإكراه لا ينعدم ذلك وقد بينا أنه مخاطب في غير ما أكره عليه. وكذلك فيما أكره عليه حتى ينوع عليه الأمر. كما قررنا وهذا لأن الخطاب ينبني على اعتدال الحال وذلك لا يختلف فيه أحوال الناس فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام اعتدال الحال في توجه الخطاب واعتبار كلامه شرعا تيسيرا للأمر على الناس وبسبب الإكراه لا ينعدم هذا المعنى والسبب الظاهر متى قام مقام المعنى الخفي دار الحكم معه وجودا وعدما. وبيان المحلية أنه ملكه ولو لم يكن مكرها لكان تصرفه مصادفا محله وليس للطواعية تأثير في جعل ما ليس بمحل محلا فعرفنا أن التصرف صادف محله إلا أن بسبب الإكراه ينعدم الرضا منه بحكم السبب. ولا ينعدم أصل القصد والاختيار لأن المكره عرف الشرين فاختار أهونهما. وهذا دليل حسن اختياره فكيف يكون مفسدا لاختياره وهو قاصد إليه أيضا لأنه قصد دفع الشر عن نفسه ولا يتوصل إليه إلا بإيقاع الطلاق وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودا فعرفنا أنه قاصد مختار ولكن لا لعينه بل لدفع الشر عنه فيكون بمنزلة الهازل من حيث إنه قاصد إلى التكلم مختار له لا لحكمه بل لغيره وهو الهزل ثم طلاق الهازل واقع فبه يتبين أن الرضا بالحكم بعد القصد إلى السبب والاختيار له غير معتبر وقد بينا أن حال المكره في اعتبار كلامه فوق حال الهازل لأن الحكم للجد من الكلام والهزل ضد الجد والمكره يتكلم بالجد لأنه يجيب إلى ما دعي إليه ولكنه غير راض بحكمه.
وهذا بخلاف الردة فإنها تنبني على الاعتقاد وهو التكلم بخبر عن اعتقاده وقيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه غير معتقد وأنه في إخباره كاذب وكذلك الإقرار بالطلاق والإقرار متميل بين الصدق والكذب وإنما يصح من الطائع لترجح جانب الصدق فإن دينه وعقله يدعوانه إلى ذلك وفي حق المكره قيام السيف على رأسه دليل على أنه كذب والمخبر عنه إذا كان كاذبا فالإخبار به لا يصير صدقا فإن أقر به المقر باختياره لا يصير كائنا حقيقة وهذا بخلاف ما إذا هزل بالردة لأن هناك إنما يحكم بكفره لاستخفافه بالدين فإن الهازل مستخف لا محالة إذ الاستخفاف بالدين كفر.
فأما المكره فغير مستخف ولا معتقد لما يخبر به مكرها ثم إن وجب محافظة قدر الملك على المكره فذلك لا يدل على أنه يجب محافظة عين الملك عليه. كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو موسر فإنه يجب محافظة قدر الملك على الساكت بإيجاب الضمان له على المعتق ولا يجب محافظة عين ملكه بإبطال عتق المعتق وهذا لأنه مكره على شيئين التكلم بالعتاق والإتلاف وهو في التكلم لا يصلح آلة للمكره لأن تكلمه بلسان الغير لا يتحقق وفي الإتلاف يصلح آلة له فجعلنا الإتلاف مضافا إلى المكره فأوجبنا الضمان عليه وجعلنا التكلم بالطلاق والعتاق مقصورا على المكره فحكمنا بنفوذ قوله بأن المكره ينبغي أن يجعل آلة حتى ينعدم التكلم في جانبه حكما.
قلنا هذا شيء لا يمكن تحقيقه هنا فإن الخلاف في الإكراه بالقتل والإكراه بالحبس

 

ج / 24 ص -53-       سواء وعند الإكراه بالحبس لا ينعدم الفعل في جانب المكره بحال ثم نقول ليس للإكراه تأثير في الإهدار والإلغاء.
ألا ترى أن المكره على إتلاف المال لا يجعل فعله لغوا بمنزلة فعل التهمة ولكن يجعل موجبا للضمان على المكره فعرفنا أن تأثير الإكراه في تبديل النسبة حتى يكون الفعل منسوبا إلى المكره وهذا يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره آلة للمكره فلو اعتبرنا ذلك لاعدم الفعل في جانب المكره من غير أن يصير منسوبا إلى المكره كأن تأثير الإكراه في الإلغاء وذلك لا يجوز.
والمراد بالآية والحديث نفي الإثم لا رفع الحكم وبه نقول أن الإثم يرتفع بالإكراه حتى لو أكرهه على إيقاع الطلاق الثلاث أو الطلاق حالة الحيض لا يكون آثما إذا ثبت أن تصرفاته تنعقد شرعا فما لا يكون محتملا للفسخ بعد وقوعه يلزم من المكره وما لا يعتمد تمام الرضا يكون لازما منه والطلاق والعتاق لا يعتمد تمام الرضا حتى أن شرط الخيار لا يمنع وقوعهما وما يحتمل الفسخ ويعتمد لزومه تمام الرضا. قلنا لا يكون لازما إذا صدر من المكره إلا أن يرضى به بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة فحينئذ يلزم لوجود الرضا منه به. فإن باع المشتري من المكره العبد من غيره وأعتقه المشتري الآخر نفذ عتقه لأن المشتري من المكره ملك بالشراء وإن كان للمكره حق الفسخ كما كان المشتري منه مالكا بالشراء وإن كان له حق الفسخ إلا أن عتق المشتري من المكره قبل القبض لا ينفذ وعتق المشتري من المشتري من المكره نافذ قبضه أو لم يقبضه, لأن بيع المكره فاسد فالمشتري منه لا يصير مالكا إلا بالقبض. فأما بيع المشتري منه فصحيح وإن كان للمكره حق الفسخ كالمشتري إذا قبض المبيع بغير إذن البائع وباعه صح بيعه وإن كان للبائع حق الفسخ فإذا صح البيع ملكه بنفس العقد وينفذ عتقه فيه ويصير بالعتق قابضا له.
يوضحه أن المشتري بإيجاب البيع لغيره يصير مسلطا له على العتق وهو لو أعتق بنفسه نفذ عتقه فينفذ عتق المشتري منه بتسليطه أيضا ثم كان للمولى الخيار إن شاء ضمن المكره قيمته إذا كان الوعيد بقتل لأن الإتلاف صار منسوبا إليه وإن شاء ضمن الذي أخذه منه لأنه قبضه بشراء فاسد وقد تعذر رده، وإن شاء ضمن الذي أعتقه لأنه أتلف المالية فيه بالإعتاق والعتق ينفذ من جهته حتى يثبت الولاء له فإن ضمن المكره رجع المكره بالقيمة إن شاء على المشتري الأول وإن شاء على المشتري الثاني لأنه قام مقام المكره بعد ما ضمن له ولأنه ملكه بالضمان وكل واحد منهما متعد في حقه فيضمن أيهما شاء، فإن ضمن المشتري الآخر المكره أو المكره رجع على المشتري الأول لأن استرداد قيمته منه كاسترداد عينه وذلك مبطل للبيعين جميعا فيرجع هو بالثمن على المشتري الأول ويرجع المشتري الأول بالثمن على مولاه, وإن ضمن المكره المشتري الأول أو ضمنه المكره نفذ البيع بين المشتري الأول والمشتري الآخر وكان الثمن له لأنه كان باع ملك نفسه وكان البيع صحيحا فيما بينهما إلا أنه كان للمكره حق الفسخ فإذا سقط حقه بوصول القيمة إليه وقد تقرر الملك للمشتري الأول

 

ج / 24 ص -54-       نفذ البيع بينه وبين المشتري الآخر, ولو كان الإكراه بقيد أو حبس أو قتل على أن يبيعها منه بألف درهم وقيمتها عشرة آلاف فباعها منه بأقل من ألف درهم. ففي القياس هذا البيع جائز لأنه أتى بعقد آخر سوى ما أكره عليه فالبيع بخمسمائة غير البيع بألف بدليل الدعوى والشهادة وإذا أتى بعقد آخر كان طائعا فيه كما لو أكره على البيع فوهب له. وفي الاستحسان البيع باطل لأنه إذا أكرهه على البيع بألف فقد أكرهه على البيع بأقل من ألف لأن قصد المكره الإضرار بالمكره وفي معنى الإضرار هذا البيع فوق البيع بألف فكان هو محصلا مقصود المكره فلهذا كان مكرها.
 ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف إذا باع بألفين ينفذ على الموكل والوكيل بشراء عين بألف إذا اشتراها بخمسمائة ينفذ على الموكل لأن في هذا تحصيل مقصود الموكل فوق ما أمره به فلا يعد خلافا ولو باعه بأكثر من ألف كان البيع جائزا لأن هذا في معنى الإضرار دون ما أمره به المكره فلم يكن هو محصلا مقصود المكره فيما باشره وهذا لأن الممتنع من البيع بألف لا يكون ممتنعا من البيع بألفين والممتنع من البيع بألف يكون ممتنعا من البيع بخمسمائة, ولو أكرهوه على البيع فوهبه نفذ ذلك لأن الممتنع من البيع قد لا يكون ممتنعا من الهبة للقصد إلى الإنعام ثم هو مخالف للمكره في جنس ما أمره به فلا يكون محصلا مقصود المكره بل يكون طائعا مخالفا له كالوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار بخلاف البيع بخمسمائة فهناك ما خالف المكره في جنس ما أمره به وتحصيل مقصود المكره فيما باشره أتم فكان مكرها. وكذلك لو أكرهوه على أن يقر له بألف درهم فوهب له ألف درهم جاز لأن الهبة غير الإقرار الإقرار من التجارة والهبة تبرع والممتنع من الإقرار قد لا يكون ممتنعا من الهبة فكان هو في الهبة طائعا.
ولو أكرهوه على بيع جاريته ولم يسموا أحدا فباعها من إنسان كان البيع باطلا لأن قصد المكره الإضرار بالمكره لا منفعة المشتري. وإن لم يبين المشتري لا يتمكن الخلل في مقصود المكره فكان هو مكرها في البيع ممن باعه.
ولو أخذوه بمال ليؤديه وذلك المال أصله باطل فأكرهوه على أدائه ولم يذكروا له بيع جاريته فباعها ليؤدي ذلك المال فالبيع جائز لأنه طائع في البيع وإنما أكره على أداء المال. ووجهه أن بيع الجارية غير متعين لأداء المال فقد يتحقق أداء المال بطريق الاستقراض والاستيهاب من غير بيع الجارية وهذا هو عادة الظلمة إذا أرادوا أن يصادروا رجلا يحكمون عليه بالمال ولا يذكرون له بيع شيء من ملكه حتى إذا باعه ينفذ بيعه, فالحيلة لمن ابتلى بذلك أن يقول من أين أؤدي ولا مال لي فإذا قال له الظالم بع جاريتك فالآن يصير مكرها على بيعها فلا ينفذ بيعها.
ولو أكرهوه على أن يبيع جاريته من فلان بألف درهم فباعها منه بقيمة ألف درهم دنانير جاز البيع في القياس لأن الدراهم والدنانير جنسان حقيقة, وهو في الاستحسان باطل لأنهما في

 

ج / 24 ص -55-       المعنى والمقصود جنس واحد وقد بينا فيما تقدم أن في الإنشاءات جعلا كجنس واحد كما في شراء ما باع بأقل مما باع وفي شراء المضارب بأحد النقدين ورأس المال من النقد الآخر وفي الإخبارات هما جنسان مختلفان وبهذا يتضح الفرق بين هذا وبين الإقرار الذي سبق فالإقرار إخبار والدراهم والدنانير في ذلك جنسان مختلفان وهنا إنما أكره على إنشاء البيع والدراهم والدنانير في ذلك جنس واحد فكان البيع باطلا.
ولو أكرهوه على أن يبيعها بألف درهم فباعها بعرض أو حنطة أو شعير جاز البيع بكل حال لأن البيع يختلف باختلاف العرض وهو آت بعقد آخر سوى ما أكره عليه حقيقة وحكما وقد يمتنع الإنسان من البيع بالنقد ولا يمتنع من البيع بالعرض لما له من الغرض في ذلك العرض وقد يمتنع من البيع بالعرض ولا يمتنع من البيع بالنقد فالمكره على أحد النوعين يكون طائعا في العقد الآخر إذا باشره والله أعلم بالصواب.

باب الإكراه على العتق والطلاق والنكاح
 قال رحمه الله ولو أن رجلا أكره بوعيد قتل على عتق عبده فأعتقه نفذ العتق عندنا لما بينا أنه في التكلم بالعتق لا يمكن أن يجعل آلة للمكره فيبقى تكلمه مقصورا عليه ويصير به معتقا لأن الإكراه وإن كان يفسد اختياره لكن لا يخرجه من أن يكون مخاطبا وفيما يمكن نسبته إلى المكره يجعل المكره آلة له فرجح الاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد وفيما لا يمكن نسبته إلى المكرة يبقى مضافا إلى المكره بما له من الاختيار الفاسد وعلى المكره ضمان قيمته لأن في حكم الإتلاف المكره يصلح آلة للمكره فيصير الإتلاف مضافا إلى المكره ترجيحا للاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد, ويستوي إن كان المكره موسرا أو معسرا لأن وجوب هذا الضمان باعتبار مباشرة الإتلاف فيكون جبرانا لحق المتلف عليه وذلك لا يختلف باليسارة والعسرة ولا سعاية على العبد لأنه نفذ العتق فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله بخلاف المريض يعتق عبده وعليه دين فهناك يجب السعاية لحق الغرماء, وكذلك إذا أعتق المرهون وهو معسر فإنه يجب السعاية على العبد لحق المرتهن.
والمحجور عليه للسفه إذا أعتق عبده تجب السعاية على العبد في قول محمد. وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله لأن بالحجر عليه صار هو في حكم التصرف ناقص الملك لوجوب النظر له شرعا وهنا بعذر الإكراه لم يصر ناقص الملك ومعنى النظر يتم بإيجاب الضمان على المكره ثم الولاء يكون للمكره لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق وثبوت الولاء له يبطل حقه في تضمين المكره كما لو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا بعد القضاء ضمنا قيمته. والولاء ثابت للمولى وهذا لأن الولاء كالنسب ليس بمال متقوم وليس للمكره أن يرجع على العبد بشيء لأنه قام مقام المولى ولا سبيل للمولى على العبد في الاستسعاء ولأن المكره لم يصر مالكا للعبد بالضمان.
 ألا ترى أن الولاء للمكره فإن كان العبد بين رجلين فأكره أحدهما حتى أعتقه جاز

 

ج / 24 ص -56-       عتقه. ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله العتق لا يتجزأ فيعتق العبد كله والولاء للمعتق.
وعلى المكره إن كان موسرا ضمان جميع القيمة بينهما نصفين لأنه صار متلفا الملك عليهما. وإن كان معسرا ضمن نصيب المكره لأنه باشر إتلاف نصيبه ويستسعى العبد في قيمة نصيب الشريك الآخر لأنه لم يوجد من المكره إتلاف نصيب الشريك قصدا ولكنه تعدى إليه التلف حكما فيكون هو بمنزلة شريك المعتق, والمعتق إذا كان معسرا لا يجب عليه ضمان نصيب شريكه ولكن يجب على العبد السعاية في نصيب شريكه لأنه قد سلم له ذلك القدر من رقبته ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء أما على العبد فلأنه سعى في بدل ما سلم له وأما المكره فلأنه ضمن بمباشرة الإتلاف.
وأما في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فالمكره ضامن لنصيب المكره موسرا كان أو معسرا وفي نصيب الساكت إن كان المكره موسرا فالساكت بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعاه في نصيبه وإن شاء ضمن المكره قيمة نصيبه فإن ضمنه يرجع المكره بهذا النصف من القيمة على العبد فاستسعاه فيه لأنه قام مقام الساكت في ذلك وصار متملكا لنصيبه بأداء الضمان والولاء بين المكره والمكره نصفان، وإن كان المكره معسرا فللساكت حق الاستسعاء والإعتاق والولاء بينه وبين المكره نصفان لأنه عتق نصيب كل واحد منهما على ملكه.
 ولو أكره بوعيد تلف على أن يطلق امرأته ثلاثا ففعل ولم يدخل بها بانت منه لما قلنا وعلى الزوج نصف الصداق إن كان سمى لها مهرا والمتعة إن لم يكن سمى لها مهرا ويرجع بذلك على المكره لأنه هو الذي ألزمه ذلك المال حكما فإن وقوع الفرقة قبل الدخول في حال الحياة مسقط لجميع الصداق إلا إذا كان بسبب مضاف إلى الزوج فحينئذ يجب نصف الصداق بالنص والمكره هو الذي جعل الفرقة مضافة إلى الزوج بإكراهه فكأنه ألزم الزوج ذلك المال أو فوت يده من ذلك المال فيلزمه ضمانه كالغاصب وبهذا الطريق يضمن شاهدا الطلاق قبل الدخول.
ولو كان الزوج قد دخل بها لم يرجع على المكره بشيء لأن الصداق كله تقرر على الزوج بالدخول والمكره إنما أتلف عليه ملك النكاح وملك النكاح لا يتقوم بالإتلاف على الزوج عندنا ولهذا لا نوجب على شاهدي الطلاق بعد الدخول ضمانا عند الرجوع ولا على المرأة إن ارتدت بعد الدخول ولا على القاتل لمنكوحة الغير, خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يجعل البضع مضمونا بمهر المثل عند الإتلاف على الزوج كما هو مضمون بمهر المثل عند دخوله في ملك الزوج ولكنا نقول البضع ليس بمال متقوم فلا يجوز أن يكون مضمونا بالمال لأنه لا مماثلة بين ما هو مال وبين ما ليس بمال وتقومه عند النكاح لإظهار خطر المملوك وهذا الخطر للمملوك لا للملك الوارد عليه.

 

ج / 24 ص -57-       ألا ترى أن إزالة الملك بغير شهود وبغير ولي صحيح فلا حاجة إلى إظهار الخطر عند الإتلاف فلهذا لا يضمن المتلف شيئا.
ولو أن رجلا أكره امرأة أبيه فجامعها يريد به الفساد على أبيه ولم يدخل بها أبوه كان لها على الزوج نصف المهر لأن الفرقة وقعت بسبب مضاف إلى الأب وهو حرمة المصاهرة ويرجع بذلك على ابنه لأنه هو الذي ألزمه ذلك حكما. وإن كان الأب قد دخل بها لم يرجع على الابن بشيء لما قلنا وهذا الفصل أورده لإيضاح ما سبق وقوله بريد به الفساد أي يكون قصده إفساد النكاح فأما الزنى فلا يكون إفسادا.
ولو أكره بوعيد قتل أو حبس حتى تزوج امرأة على عشرة آلاف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز النكاح لما بينا أن الجد والهزل في النكاح والطلاق والعتاق سواء فكذلك الإكراه والطواعية وللمرأة مقدار مهر مثلها لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا ويختلف بالجد والهزل فيختلف أيضا بالإكراه والطوع فلا يصح من الزوج التزام المال مكرها إلا أن مقدار مهر المثل يجب لصحة النكاح لا محالة.
 ألا ترى أن بدون التسمية يجب فعند قبول التسمية فيه مكرها أولى أن يجب وما زاد على ذلك يبطل لانعدام الرضا من الزوج بالتزامه.
ولو أن المرأة هي التي أكرهت ببعض ما ذكرنا على أن تزوج نفسها منه بألف ومهر مثلها عشرة ألاف فزوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا ضمان على المكره فيه لأن البضع ليس بمال متقوم وتقومه على المتملك باعتبار ثبوت الملك فيما هو مصون عن الابتذال وهذا المعنى لا يوجد في حق المكره ثم يقول القاضي للزوج إن شئت فأتمم لها مهر مثلها وهي امرأتك إن كان كفؤا لها فإن أبى فرق بينهما ولا شيء لها.
والحاصل أن الزوج إن كان كفؤا لها ثبت لها الخيار لما يلحقها من الضرر بنقصان حقها عن صداق مثلها والزوج متمكن من إزالة هذا الضرر بأن يلتزم لها كمال مهر مثلها فإن التزم ذلك فالنكاح بينهما لازم وإن أبى فرق بينهما ولا شيء لها إن لم يكن دخل بها, وإن كان دخل بها مكرهة فلها تمام مهر مثلها لانعدام الرضا منها بالنقصان ولا خيار لها بعد ذلك لأن الضرر اندفع حين استحقت كمال مهر مثلها، وإن دخل بها وهي طائعة أو رضيت بما سمي لها فعند أبي حنيفة للأولياء حق الاعتراض, وعندهما ليس لهم ذلك وأصله فيما إذا زوجت المرأة نفسها من كفؤ بدون صداق مثلها وقد بيناه في كتاب النكاح, وإن لم يكن الزوج كفؤا لها فلها أن لا ترضى بالمقام معه سواء التزم الزوج لها كمال مهر المثل أو لم يلتزم دخل بها أو لم يدخل بها لما يلحقها من الضرر من استفراش من لا يكافئها فإن دخل بها وهي طائعة أو رضيت فللأولياء أن يفرقوا بينهما لأن للأولياء حق طلب الكفاءة.
ألا ترى أنها لو زوجت نفسها طائعة من غير كفؤ كان للأولياء حق الاعتراض فهنا أيضا

 

ج / 24 ص -58-       لم يوجد من الأولياء الرضا بسقوط حقهم في الكفاءة والزوج لا يتمكن من إزالة عدم الكفاءة فيكون للأولياء أن يفرقوا بينهما سواء رضي بأن يتم لها مهر مثلها أو لم يرض بذلك.
ولو أن رجلا وجب له على رجل قصاص في نفس أو فيما دونها فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى عفا فالعفو جائز لأن العفو عن القصاص نظير الطلاق في أن الهزل والجد فيه سواء فإنه إبطال ملك الاستيفاء وليس فيه من معنى الملك شيء ولا ضمان له على الجاني لأن الجاني لم يلتزم له عوضا ولم يتملك عليه شيئا وتقوم النفس بالمال عند الخطأ لصيانة النفس عن الإهدار وهذا لا يوجد عند الإسقاط بالعفو لأنه مندوب إليه في الشرع والبدل فيه صحيح ولا ضمان على المكره لأنه لم يستهلك عليه مالا متقوما فإن التمكن من استيفاء القصاص ليس بمال متقوم ولهذا لا يضمن شهود العفو إذا رجعوا ومن عليه القصاص إذا قتله إنسان لا يضمن لمن له القصاص شيئا وكذلك إذا مات من عليه القصاص لا يكون ضامنا لمن له القصاص شيئا فكذلك المكره.
ولو وجب لرجل على رجل حق من مال أو كفالة بنفس أو غير ذلك فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى أبرأ من ذلك الحق كان باطلا لأن صحة الإبراء تعتمد تمام الرضا وبسبب الاكراه ينعدم الرضا وهذا لأن الإبراء عن الدين وإن كان إسقاطا ولكن فيه معنى التمليك ولهذا يرتد برد المديون وإبراء الكفيل فرع لإبراء الأصيل والكفالة بالنفس من حقوق المال لأن صحتها باعتبار دعوى المال فلهذا لا تصح البراءة في هذه الفصول مع الإكراه كما لا تصح مع الهزل. وكذلك لو أكره على تسليم الشفعة بعد ما طلبها لأن تسليم الشفعة من باب التجارة كالأخذ بالشفعة ولهذا ملكه الأب والوصي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والتجارة تعتمد تمام الرضا وذلك يعتمد بالإكراه.
ولو كان الشفيع حين علم بها أراد أن يتكلم بطلبها فأكره حتى سد فمه ولم يتركه ينطق يوما أو أكثر من ذلك كان على شفعته إذا خلى عنه فإن طلب عند ذلك وإلا بطلت شفعته لأن المسقط للشفعة ترك الطلب بعد التمكن منه.
ألا ترى أن ترك الطلب قبل العلم بالبيع لا يبطل الشفعة لانعدام تمكنه من الطلب وهو لم يكن متمكنا من الطلب هنا حين سد فمه أو قيل له لئن تكلمت بطلب شفعتك لنقتلنك أو لنحبسنك فهذا لا يبطل شفعته فأما بعد زوال الإكراه إذا لم يطلب بطلت شفعته لترك الطلب بعد التمكن.
فإن قيل أليس أن الإكراه بمنزلة الهزل والهازل بتسليم الشفعة تبطل شفعته فكذلك المكره على تسليم الشفعة.
قلنا: إذا هزل بتسليم الشفعة قبل الطلب بطلت شفعته لترك الطلب مع الإمكان لا بالهزل بالتسليم فأما إذا طلب الشفعة ثم سلمها هازلا واتفقا أنه كان هازلا في التسليم لم تبطل شفعته لما بينا أنه بمنزلة التجارة يعتمد تمام الرضا. فإن قال المشتري أنه لم يكف عن الطلب

 

ج / 24 ص -59-       للإكراه ولكنه لم يرد أخذها بالشفعة وقال الشفيع ما كففت إلا للإكراه فالقول قول الشفيع لأن قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه إنما كف عن الطلب للإكراه ولكنه يحلف بالله ما منعه من طلب الشفعة إلا الإكراه لأن المشتري ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكره استحلف عليه.
ولو أن رجلا أكرهه أهل الشرك على أن يكفر بالله وله امرأة مسلمة ففعل ثم خلى سبيله فقالت قد كفرت بالله تعالى وبنت منك وقال الرجل إنما أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان ففي القياس القول قولها ويفرق بينهما لأنه لا طريق لنا إلى معرفة سره فوجب بناء الحكم على ظاهر ما نسمعه منه وهذا لأن الشرع أقام الظاهر الذي يوقف عليه مقام الخفي الذي لا يمكن الوقوف عليه للتيسير على الناس فباعتبار الظاهر قد سمع منه كلمة الردة فتبين منه امرأته, ولكنه استحسن فقال القول قوله مع يمينه لأن النبي عليه الصلاة والسلام قبل قول عمار رضي الله عنه ولم يجدد النكاح بينه وبين امرأته ولأن الظاهر شاهد له فإن امتناعه من إجراء كلمة الشرك حتى تحقق الإكراه دليل على أنه مطمئن القلب بالإيمان وأنه ما قصد بالتكلم إلا دفع الشر عن نفسه وهذا بخلاف ما إذا أكره على الإسلام فإنه يحكم بإسلامه لأن الإسلام مما يجب اعتقاده فذلك دليل على أنه قال ما قال معتقدا وهو معارض للإكراه فعند تعارض الدليلين يصار إلى ظاهر ما سمع منه فأما الشرك مما لا يجوز اعتقاده والإكراه فدليل على أنه معتقد فلهذا لا يحكم بردته إذا أجرى كلمة الشرك مكرها والله أعلم.

باب ما يكره أن يفعله بنفسه أو ماله
 قال رحمه الله ولو أن رجلا أكرهه لص بالقتل على قطع يد نفسه فهو إن شاء الله في سعة من ذلك لأنه ابتلي ببليتين فله أن يختار أهونهما عليه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ثم حرمة الطرف تابعة لحرمة النفس والتابع لا يعارض الأصل ولكن يترجح جانب الأصل ففي إقدامه على قطع اليد مراعاة حرمة نفسه وفي امتناعه من ذلك تعريض النفس وتلف النفس يوجب تلف الأطراف لا محالة ولا شك أن إتلاف البعض لإبقاء الكل يكون أولى من إتلاف الكل.
 ألا ترى أن من وقعت في يده أكلة يباح له أن يقطع يده ليدفع به الهلاك عن نفسه وقد فعله عروة بن الزبير رضي الله عنه فهذا المكره في معنى ذلك من وجه لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بقطع طرفه إلا أنه قيده بالمشيئة هنا لأن هذا ليس في معنى الأكلة من كل وجه وحرمة الطرف كحرمة النفس من وجه فلهذا تحرز عن الإثبات في الجواب وقال إن شاء الله في سعة من ذلك.
فإن قطع يد نفسه ثم خاصم المكره فيه قضى القاضي له على المكره بالقود لأن القطع صار منسوبا إلى المكره لما تحقق الإكراه على ما بينه في مسألة المكره على القتل فكأن المكره باشر قطع يده وهذا ظاهر على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنما الإشكال

 

ج / 24 ص -60-       على قول أبي يوسف رحمه الله فإنه لا يوجب القود على المكره, فقيل في هذا الفصل لا قود عليه عند أبي يوسف أيضا ولكن يلزمه أرش اليد في ماله. وقيل هنا يجب القود عنده لأنه إنما يجعل المكره آلة في قتل الغير لكونه آثما لا يحل له الإقدام على القتل وهنا يحل للمكره الإقدام على قطع يده فكان هو آلة بمنزلة المكره على إتلاف المال فيجب القود على المكره.
ولو أكرهه على أن يطرح نفسه في النار بوعيد قتل فهو إن شاء الله في سعة من ذلك أما إن كان يرجو النجاة من النار فإنه يلقي نفسه على قصد النجاة وإن كان لا يرجو النجاة فكذلك الجواب لأن من الناس من يختار ألم النار على ألم السيف ومنهم من يختار ألم السيف وربما يكون في النار بعض الراحة له وإن كان يأتي على نفسه. وقيل على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يسعه أن يلقي نفسه إذا كان لا يرجو النجاة فيه لأنه لو ألقى نفسه صار مقتولا بفعل نفسه ولو امتنع من ذلك صار مقتولا بفعل المكره وحيث يسعه الإلقاء فلوليه القود على المكره وهذا لا يشكل عند أبي حنيفة ومحمد وكذلك عند أبي يوسف في الصحيح من الجواب لأنه لما أبيح له الإقدام صار آلة للمكره. وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه من فوق بيت إلا أن في هذا الموضع عند أبي حنيفة لا يجب القود كما لو ألقاه المكره بنفسه وعندهما إذا كان ذلك مما يقتل غالبا فهو وإلقاء النفس في النار سواء.
وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه في ماء وهنا القود لا يجب على المكره عند أبي حنيفة كما لو ألقاه بنفسه. وكذلك عندهما إذا كان يرجى النجاة منه وإن كان مما يقتل غالبا يجب القود على المكره واستدل بحديث زيد بن وهب قال استعمل عمر بن الخطاب رجلا على جيش فخرج نحو الجبل فانتهى إلى نهر ليس عليه جسر في يوم بارد فقال أمير ذلك الجيش لرجل أنزل فابغ لنا مخاضة نجوز فيها فقال الرجل إني أخاف أن دخلت الماء أن أموت قال فأكرهه فدخل الماء قال يا عمراه يا عمراه ثم لم يلبث أن هلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وهو في سوق المدينة قال يا ليتكاه يا ليتكاه فبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال لولا أن يكون سنة لأقدته منك ثم غرمه الدية وقال لا تعمل لي عملا أبدأ قال وإنما أمره الأمير بهذا على غير إرادة قتله بل ليدخل الماء فينظر لهم مخاضة الماء فضمنه عمر رضي الله عنه ديته فكيف بمن أمره وهو يريد قتله بذلك وفيه دليل على أنه يجب القود على المكره وأنه يجب بغير السلاح. ومعنى قوله أن يكون سنة يعني في حق من لا يقصد القتل ويكون مخطئا في ذلك فهو تنصيص على أنه إذا كان قاصدا إلى قتله بما لا يلجئه فإنه يستوجب القود. وأبو حنيفة يقول إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد وقد يهدد الإمام بما لا يتحقق ويتحرز فيه عن الكذب ببعض معاريض الكلام.
ولو قال لتقطعن يد نفسك أو لأقطعنها أنه لم يسعه قطعها لأنه ليس بمكره فالمكره من ينجو عما هدد به بالإقدام على ما طلب منه وهنا في الجانبين عليه ضرر قطع اليد, وإذا

 

ج / 24 ص -61-       امتنع صارت يده مقطوعة بفعل المكره وإذا أقدم عليه صارت مقطوعة بفعل نفسه وهو يتيقن بما يفعله بنفسه ولا يتيقن بما هدده به المكره فربما يخوفه بما لا يحققه فلهذا لا يسعه قطعها ولو قطعها لم يكن على الذي أكرهه شيء لأن نسبة الفعل إلى المكره عند تحقق الإكراه والإكراه أن يدفع عن نفسه ما هو أعظم مما يقدم عليه وذلك لا يوجد هنا فإذا لم يكن مكرها اقتصر حكم فعله عليه.
وكذلك لو قال له لتقتلن نفسك بهذا السيف أو لأقتلنك به لم يكن هذا إكراها لما قلنا. ولو قال له لنقتلنك بالسياط أو لتقتلن نفسك بهذا السيف أو ذكر له نوعا من القتل هو أشد عليه مما أمره أن يفعل بنفسه فقتل نفسه قتل به الذي أكرهه لأن الإكراه هنا تحقق فإنه قصد بالإقدام على ما طلب منه دفع ما هو أشد عليه فالقتل بالسياط أفحش وأشد على البدن من القتل بالسيف لأن القتل بالسيف يكون في لحظة وبالسياط يطول ويتوالى الألم وإليه أشار حذيفة رضي الله عنه حيث قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف. وكذلك ما دون النفس لو قيل له لتحرقن يدك بالنار أو لتقطعنها بهذا الحديد فقطعها قطعت يد الذي أكرهه إن كان واحدا لتحقق الإكراه منه وإن كان عددا لم يكن عليهم في يده قود وعليهم دية اليد في أموالهم بخلاف النفس. وأصل هذا الفرق في المباشرة حقيقة فإنه لو قطع جماعة يد رجل لم يلزمهم القود عندنا. ولو قتلوا رجلا كان عليهم القود ويأتي هذا الفرق في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.
ولو أكره بوعيد قتل على أن يطرح ماله في البحر أو على أن يحرق ثيابه أو يكسر متاعه. ففعل ذلك فالمكره ضامن لذلك كله لأن إتلاف المال مما يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فعند تحقق الإلجاء يصير الفعل منسوبا للمكره فكأنه باشر الإتلاف بيده, والشافعي في هذا لا يخالفنا لأن المكره يباح له الإقدام على إتلاف المال سواء كان له أو لغيره وإذا صار الإقدام مباحا له كان هو آلة للمكره فالضمان على المكره خاصة, وأصحابه خرجوا له قولين سوى هذا أحدهما أن الضمان يجب على المكره لصاحب المال لأنه هو المتلف حقيقة ثم يرجع هو على المكره لأنه هو الذي أوقعه في هذه الورطة. والثاني أن الضمان عليهما نصفان لأن حقيقة الإتلاف وجد من المكره والقصد إلى الإضرار وجد من المكره فكانا بمنزلة الشريكين في الإتلاف ولكن الأول أصح لما قلنا. وإن أكرهه على ذلك بحبس أو قيد ففعله لم يكن على المكره ضمان ولا قود لأن المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الإلجاء وهو ما إذا خاف التلف على نفسه وليس في التهديد بالحبس والقيد معنى خوف التلف على نفسه فيبقى الفعل مقصورا على المكره فيؤاخذ بحكمه وهذا لأنه ليس في الحبس والقيد إلا هم يلحقه.
ومن يتلف مال الغير اختيارا فإنما يقصد بذلك دفع الغم الذي يلحقه بحسده إياه على ما آتاه الله تعالى من المال فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطا للضمان عنه.

 

ج / 24 ص -62-       ولو أكرهه بتلف على أن يأكل طعاما له أو يلبس ثوبا له فلبسه مكرها حتى تخرق لم يضمن المكره شيئا لأنه ليس بفساد بل أمره أن يصرف مال نفسه إلى حاجته وذلك لا يكون فسادا.
ألا ترى أن الأب والوصي يفعلان ذلك للصبي ولا يكون فسادا منهما ثم هذا من وجه أمر بالمعروف فإن التقتير وترك الإنفاق على نفسه بعد وجود السعة منهي عنه وفي الأمر بالمعروف دفع الفساد فعرفنا أن ما أمره به ليس بفساد فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المكره بخلاف إحراق المال بالنار أو طرحه في الماء فإن ذلك فساد لا انتفاع بالمال.
ولو أكرهه بوعيد قتل على أن يقتل عبده بالسيف أو على أن يقطع يده لم يسعه أن يفعل ذلك لأن العبد في حكم نفسه باق على أصل الحرية على ما بينا أن ذمته لا تدخل تحت القهر والملك فكما لا يسعه الإقدام على أن يفعل شيئا من ذلك بحر لو أكره عليه فكذلك العبد بخلاف سائر الأموال.
 ألا ترى أن عند ضرورة المخمصة يجوز له أن يصرف ماله إلى حاجته وليس له أن يقتل عبده ليأكل من لحمه فإن فعله كان له أن يأخذ الذي أكرهه بقتله قودا بعبده إن كان مثله ويأخذ دية يده إن كان قطع يده بمنزلة, ما لو باشر المكره ذلك بنفسه بناء على أصلنا أن القود يجري بين الأحرار والمماليك في النفس ولا يجري فيما دون النفس.
وإن كان الإكراه بحبس لم يكن على المكره شيء وإنما عليه الأدب بالضرب والحبس والإلجاء لم يتحقق فكان فعل القتل مقصورا على المولى فلا يرجع على المكره بشيء وليس على المولى سوى الإثم لأن الحق في بدل نفس العبد للمولى ولا يستوجب هو على نفسه عقوبة ولا مالا فأما الإثم فهو حق الشرع فكما يصير آثما بالإقدام على قتل الحر مكرها لأنه يؤثر روحه على روح من هو مثله في الحرمة ويطيع المخلوق في معصية الخالق وقد نهاه الشرع عن ذلك فكذلك المولى يكون آثما بهذا الطريق.
ولو أن قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب أو حبس أو قيد حتى يقر على نفسه بحد أو قصاص كان الإقرار باطلا لأن الإقرار متمثل بين الصدق والكذب وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب والتهديد بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمير إذا ضربت أو أوثقت ولم ينقل عن أحد من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد بالضرب والحبس في حق السارق وغيره إلا شيء.
روي عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن بعض الأمراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال فلما رأى المال موضوعا بين يدي الأمير قال ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا فإن خلى سبيله بعد ما أقر

 

ج / 24 ص -63-       مكرها ثم أخذ بعد ذلك فجيء به فأقر بما كان تهدد عليه بغير إكراه مستقل أخذ بذلك كله لأن إقراره الأول كان باطلا ولما خلى سبيله فقد انتهى حكم ذلك الأخذ والتهديد فصار كأن لم يوجد أصلا حتى أخذ الآن فأقر بغير إكراه. وإن كان لم يخل سبيله ولكنه قال له وهو في يده بعد ما أقر أني لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض لك فإن شئت فأقر وإن شئت فلا تقر وهو في يد القاضي على حاله لم يجز هذا الإقرار لأن كينونته في يده حبس منه له وإنما كان هدده بالحبس فما دام حابسا له كان أثر ذلك الإكراه باقيا وقوله لا أحبسك نوع غرور وخداع منه فلا ينعدم به أثر ذلك الإكراه ولأن الظاهر أنه إنما أقر لأجل إقراره المتقدم فإنه علم أنه لا ينفعه الإنكار وأنه إذا تناقض كلامه يزداد التشديد عليه بخلاف الأول فهناك قد خلى سبيله وصار بحيث يتمكن من الذهاب إن شاء فينقطع به أثر ذلك الإكراه . وإن خلى سبيله ولم يتوار عن بصر القاضي حتى بعث من أخذه ورده إليه فأقر بالذي أقر به أول مرة من غير إكراه جديد فإن هذا ليس بشيء لأنه ما لم يتوار عن بصره فهو متمكن من أخذه وحبسه فيجعل ذلك بمنزلة ما لو كان في يده على حاله. وإن كان حين رده أول مرة لم يحبسه ولكنه هدده فلما أقر قال إني لست أصنع بك شيئا فإن شئت فأقر وإن شئت فدع فأقر لم يأخذه بشيء من ذلك لأنه ما دام في يده فكأنه محبوس في سجنه فكان أثر التهديد الأول قائما أرأيت لو خلى سبيله ثم بعث معه من يحفظه ثم رده إليه بعد ذلك فأقر أكان يؤخذ بشيء من ذلك أو لا يؤخذ به لأن يد من يحفظه له كيده في ذلك؟.
ولو أكرهه قاض بضرب أو حبس حتى يقر بسرقة أو زنا أو شرب خمر أو قتل فأقر بذلك فأقامه عليه فإن كان رجلا معروفا بما أقر له به إلا أنه لا بينة عليه فالقياس أن يقتص من المكره فيما أمكن القصاص فيه ويضمن من ماله ما لا يستطاع القصاص فيه لأن إقراره كان باطلا والإقرار الباطل وجوده كعدمه فبقي هو مباشرا للجناية بغير حق فيلزمه القصاص فيما يستطاع فيه القصاص ولكن يستحسن أن يلزمه ضمان جميع ذلك في ماله ويدرأ القصاص لأن الرجل إذا كان معروفا بما أقر به على نفسه فالذي يقع في قلب كل سامع أنه صادق في إقراره لما أقر به وذلك يورث شبهة والقصاص مما يندرى ء بالشبهات ولأن على قول أهل المدينة رحمهم الله للإمام أن يجبر المعروف بذلك الفعل على الإقرار بالضرب والحبس فإن مرتكب الكبيرة قل ما يقر على نفسه طائعا وإذا أقر به مكرها عندهم يصح إقراره وتقام عليه العقوبة فيصير اختلاف العلماء رحمهم الله شبهة والقاضي مجتهد في ما صنع فهذا اجتهاد في موضعه من وجه فيكون مسقطا للقود عنه ولكن يلزمه المال لأن المال مما يثبت مع الشبهات وبالإقرار الباطل لم تسقط حرمة نفسه وأطرافه فيصير ضامنا له مراعاة لحرمة نفسه وطرفة. وإن كان المكره غير معروف بشيء مما رمي به أخذت فيه بالقياس وأوجبت القصاص على القاضي في ما يستطاع فيه القصاص لأنه إذا كان معروفا بالصلاح فالذي يسبق إليه أوهام الناس أنه بريء الساحة مما رمي به وإنما أقر على نفسه كاذبا بسبب الإكراه, ونظير

 

ج / 24 ص -64-       هذا ما قيل فيمن دخل على إنسان بيته شاهرا سيفه مادا رمحه فقتله صاحب البيت ثم اختصم أولياؤه مع صاحب البيت فقال أولياؤه كان هاربا من اللصوص ملتجئا إليك وقال صاحب البيت بل كان لصا قصد قتلي فإن كان المقتول رجلا معروفا بالصلاح فالقول قول الأولياء. ويجب القصاص على صاحب البيت وإن كان متهما بالدعارة ففي القياس كذلك. وفي الاستحسان القول قول صاحب البيت ولا قصاص ولكن عليه الدية في ماله وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة لا شيء عليه لأن الظاهر شاهد عليه أنه كان دخل عليه مكابرا وأنه قد أهدر دمه عليه بذلك. ولكن في ظاهر الرواية يقول مجرد الظاهر لا يسقط حرمة النفوس المحترمة ولا يجوز إهدار الدماء المحقونة ولكن يصير الظاهر شبهة في إسقاط القود عنه فيجب عليه الدية في ماله صيانة لدم المقتول عن الهدر فكذلك ما سبق والله أعلم.

 باب تعدي العامل
 قال رحمه الله وإذا بعث الخليفة عاملا على كورة فقال لرجل لتقتلن هذا الرجل عمدا بالسيف أو لأقتلنك فقتله المأمور فالقود على الآمر المكره في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا قود على المكره وقال زفر رحمه الله القود على المكره دون المكره. وقال الشافعي رحمه الله يجب القود على المكره قولا واحدا وله في إيجاب القود على المكره قولان. وقال أهل المدينة رحمهم الله عليهما القود وزادوا على هذا فأوجبوا القود على الممسك حتى إذا أمسك رجلا فقتله عدوه قالوا يجب القود على الممسك. وقال أبو يوسف أستحسن أن لا يجب القود على واحد منهما ولكن تجب الدية على المكره في ماله في ثلاث سنين. أما زفر رحمه الله فاستدل بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الاسراء: 33] والمراد سلطان استيفاء القود من القاتل والقاتل هو المكره حقيقة, والمعنى فيه أن من قتل من يكافئه لإحياء نفسه يعتمد بحق مضمون فيلزمه القود كما لو أصابته مخمصة فقتل إنسانا وأكل من لحمه، والدليل على أن القاتل هو المكره أن القتل فعل محسوس وهو يتحقق من المكره والطائع بصفة واحدة فيعرف به أنه قاتل حقيقة ومن حيث الحكم أنه يأثم إثم القتل وإثم القتل على من باشر القتل, والدليل عليه أن المقصود بالقتل إذا قدر على قتل المكره كان له أن يقتله كما لو كان طائعا وبه نعلل فنقول كل حكم يتعلق بالقتل فإنه لا يسقط عن المكره بالإكراه, كالإثم والتفسيق ورد الشهادة وإباحة قتله للمقصود بالقتل بل أولى لأن تأثير الضرورة في إسقاط الإثم دون الحكم حتى أن من أصابته مخمصة يباح له تناول مال الغير ويكون ضامنا ثم هنا لا يسقط إثم الفعل عن المكره فلأن لا يسقط عنه حكم القتل أولى ولما جعل هذا نظير الإكراه بالحبس في إثم الفعل فكذلك في حكمه, ولا يقال إنما يأثم إثم سوء الاختيار أو إثم جعل المخلوق في معصية الخالق لأنه مكره على هذا كله كما هو مكره على القتل والشافعي يستدل بهذا أيضا إلا أنه يوجب القود على المكره أيضا للسبب القوي لأن القصد إلى القتل بهذا الطريق ظاهر من المتخيرين.

 

ج / 24 ص -65-       والقصاص مشروع بطريق الزجر فيقام السبب القوي مقام المباشرة في حق المكره لتغليظ أمر الدم وتحقيق معنى الزجر كما قال في شهود القصاص يلزمهم القود. قال وعلى أصلكم حد قطاع الطريق يجب على الردى بالسبب القوي. والدليل عليه أن الجماعة يقتلون بالواحد قصاصا لتحقيق معنى الزجر ومن أوجب القود على الممسك يستدل بها أيضا, فنقول الممسك قاصد إلى قتله مسبب له فإذا كان التسبيب يقام مقام المباشرة في أخذ بدل الدم وهو الدية يعني حافر البئر في الطريق فكذلك في حكم القصاص إلا أن المتسبب إذا قصد شخصا بعينه يكون عامدا فيلزمه القود وإذا لم يقصد بتسببه شخصا بعينه فهو بمنزلة المخطى ء فتلزمه الدية, وللشافعي رحمه الله طريق آخر أن المكره مع المكره بمنزلة الشريكين في القتل لأن القصد وجد من المكره وما هو المقصود به وهو الانتقام يحصل له والمباشرة وجدت من المكره فكانا بمنزلة الشريكين ثم وجب القود على أحدهما وهو المكره فكذلك على الآخر. والدليل على أنهما كشريكين أنهما مشتركان في إثم الفعل وأن المقصود بالقتل أن يقتلهما جميعا. وحجة أبي حنيفة ومحمد أن المكره ملجأ إلى هذا الفعل والإلجاء بأبلغ الجهات يجعل الملجأ آلة للملجى ء فلا يصلح أن يكون آلة له كما في إتلاف المال فإن الضمان يجب على المكره ويصير المكره آلة له حتى لا يكون عليه شيء من حكم الإتلاف ومعلوم أن المباشر والمتسبب إذا اجتمعا في الإتلاف فالضمان على المباشر دون المتسبب.
ولما وجب ضمان المال على المكره علم أن الإتلاف منسوب إلى المكره ولا طريق للنسبة إليه سوى جعل المكره آلة للمكره فكذلك في القتل لأن المكره يصلح أن يكون آلة للمكره فيه بأن يأخذ بيده مع السكين فيقتل به غيره وتفسير الإلجاء أنه صار محمولا على ذلك الفعل بالتهديد بالقتل فالإنسان مجبول على حب الحياة ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالإقدام على القتل فيفسد اختياره بهذا الطريق ثم يصير محمولا على هذا الفعل.
وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التي لا اختيار لها فيكون الفعل منسوبا إلى من فسد اختياره وحمله على هذا الفعل لا على الآلة فلا يكون على المكره شيء من حكم القتل من قصاص ولا دية ولا كفارة.
ألا ترى أن شيئا من المقصود لا يحصل للمكره فلعل المقتول من أخص أصدقائه فعرفنا أنه بمنزلة الآلة فأما الآثم فبقاء الإثم عليه لا يدل على بقاء الحكم كما إذا قال لغيره اقطع يدي فقطعها كان آثما ولا شيء عليه من حكم القطع بل في الحكم يجعل كأن الآمر فعله بنفسه وقد بينا أنه مع فساد الاختيار يبقى مخاطبا فلبقائه مخاطبا كان عليه إثم القتل ولفساد اختياره لم يكن عليه شيء من حكم القتل. ثم حقيقة المعنى في العذر عن فعل الإثم من وجهين:
أحدهما: أن تأثير الإلجاء في تبديل النسبة لا في تبديل محل الجناية ولو جعلنا المكره هو الفاعل في حكم الضمان لم يتبدل به محل الجناية ولو أخر جناية المكره من أن يكون

 

ج / 24 ص -66-       فاعلا في حق الآثم تبدل به محل الجناية لأن الإثم من حيث إنه جناية على حد الدين وإذا جعلنا المكره في هذا آلة كانت الجناية على حددين المكره دون المكره. وإذا قلنا المكره آثم ويكون الفعل منسوبا إليه في حق الآثم كانت جناية على دينه بارتكاب ما هو حرام محض وبسبب الإكراه لا يتبدل محل الجناية فأما في حق الضمان فمحل الجناية نفس المقتول سواء كان الفعل منسوبا إلى المكره أو إلى المكره وبهذا تبين أن في حق الإثم لا يصلح أن يكون آلة لأن الإنسان في الجناية على حد دين نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره.
والثاني: أنا لو جعلنا المكره آلة في حق الإثم كان ذلك إهدارا وليس تأثير الإلجاء في الإهدار.
 ألا ترى أن في المال لا يجعل فعل المكره كفعل بهيمة ليس لها اختيار صحيح والمكره آثم بإكراهه فإذا لم يجعل المكره آثما كان هذا إهدارا للآثم في حقه أصلا ولا تأثير للإلجاء في ذلك بخلاف حكم الفعل فإنه إذا جعل المكره آلة فيه كان المكره مؤاخذا به إلا أن يكون هدرا, ولا يقال الحربي إذا أكره مسلما على قتل مسلم فإن الفعل يصير منسوبا إلى المكره عندكم وفي هذا إهدار لأنه ليس على المكره شيء من الضمان وهذا لأنه ليس بإهدار بل هو بمنزلة ما لو باشر الحربي قتله فيكون المقتول شهيدا ولا يكون قتل الحربي إياه هدرا.
وإن كان لا يؤاخذ بشيء من الضمان إذا أسلم وبه فارق المضطر لأنه غير ملجأ إلى ذلك الفعل من جهة غيره ليصير هو آلة للملجىء.
ألا ترى أن في المال الضمان واجب عليه فعرفنا به أن حكم الفعل مقصور عليه, والدليل على أن الفاعل هو المكره أن القصاص يلزمه عند الشافعي رحمه الله والقصاص عقوبة تندرى ء بالشبهات فيعتمد المساواة حتى أن بدون المساواة لا يجب القصاص كما بين المسلم والمستأمن وكما في كسر العظام ولا مساواة بين المباشرة والتسبب ولا طريق لجعل المكره شريكا إلا بنسبة بعض الفعل إليه.
وإذا كان للإلجاء تأثير في نسبة بعض الفعل إلى الملجى ء فكذلك في نسبة جميع الفعل إليه ولا معنى لإيجاب القود على الممسك لأن القصاص جزاء مباشرة الفعل فإنه عقوبة تندرى ء بالشبهات وفي التسبب نقصان فيجوز أن يثبت به ما يثبت مع الشبهات وهو المال ولا يجوز أن يثبت ما يندرىء بالشبهات بخلاف حد قطاع الطريق فإن ذلك جزاء المحاربة والردء مباشر للمحاربة كالقاتل وقد بينا هذا في السرقة, والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
"يصبر الصابر ويقتل القاتل" أي يحبس الممسك ويقتل القاتل. فأما أبو يوسف رحمه الله فقال أستحسن أن لا يجب القود على واحد منهما لأن بقاء الإثم في حق المكره دليل على أن الفعل كله لم يصر منسوبا إلى المكره والقصاص لا يجب إلا بمباشرة تامة وقد انعدم ذلك من المكره حقيقة وحكما فلا يلزمه القود وإن كان هو المؤاخذ بحكم القتل فيما يثبت مع الشبهات والدليل عليه أن وجوب القصاص يعتمد المساواة ولا مساواة بين

 

ج / 24 ص -67-       المباشرة والإكراه فلا يمكن إيجاب القود على المكره إلا بطريق المساواة, ولكنا نقول المكره مباشر شرعا بدليل أن سائر الأحكام سوى القصاص نحو حرمان الميراث والكفارة في الموضع الذي يجب والدية يختص بها المكره فكذلك القود والأصل فيه قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فقد نسب الله الفعل إلى المعين وهو ما كان يباشر صورة ولكنه كان مطاعا فأمر به وأمره إكراه. إذا عرفنا هذا فنقول سواء كان المكره بالغا عاقلا أو كان معتوها أو غلاما غير يافع فالقود على المكره لأن المكره صار كالآلة والبلوغ والعقل لا معتبر به في حق الآلة وإنما المعتبر تحقق الإلجاء لخوف التلف على نفسه.
وكذلك حكم حرمان الميراث فإنه يثبت في حق المكره دون المكره. وإن كان الآمر غير بالغ ولكنه مطاع بتحقق الإكراه منه أو كان رجلا مختلط العقل ولكن يتحقق الإكراه منه فإن الفعل يصير منسوبا إليه وذلك يكون بمنزلة جنايته بيده في أحكام القتل, واستدل بقول الحسن البصري رحمه الله في أربعة شهدوا على رجل بالزنى ورجمه الناس فقتلوه ثم رجع بعض الشهود أن على الراجع القتل وهذا شيء لا يؤاخذ به ولكن قصد بهذا الاستشهاد دفع النسبة عمن تمسك بالصورة ويقول كيف أوجبتم القتل على المكره ولم يباشر القتل حسا, واستدل عليه بقول أهل المدينة في الممسك ويقتل الرديء في قطع الطريق وإن لم يباشروا قتل أحد حسا.
وكذلك لو قال العامل له لتقطعن يده أو لأقتلنك لم ينبغ له أن يفعل ذلك لأن لأطراف المؤمن من الحرمة مثل ما لنفسه.
 ألا ترى أن المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله وكذلك لو أمره بقطع أصبع أو نحوه فإن حرمة هذا الجزء بمنزلة حرمة النفس فإن القتل من المظالم والمكره مظلوم فليس له أن يظلم أحدا ولو ظلم وإن أقدم على القتل فليس عليه إلا الإثم فأما الفعل في حق الحكم فقد صار منسوبا إلى المكره لوجود الإلجاء بالتهديد بالقتل.
وإن رأى الخليفة أن يعزر المكره ويحبسه فعل لإقدامه على ما لا يحل له الإقدام عليه وإن أمره أن يضربه سوطا واحدا أو أمره أن يحلق رأسه أو لحيته أو أن يحبسه أو أن يقيده وهدده على ذلك بالقتل رجوت أن لا يكون آثما في فعله ولا في تركه أما في تركه فلأنه من المظالم والكف عن المظالم هو العزيمة والمتمسك بالعزيمة لا يكون آثما وأما إذا قدم عليه فلأنه يدفع القتل عن نفسه بهم وحزن يدخل على غيره فإن بالحبس والقيد وبحلق اللحية وضرب سوط يدخله هم وحزن ولا يخاف على نفسه ولا على شيء من أعضائه ولدفع الهلاك عن نفسه قد رخص له الشرع في إدخال الهم والحزن على غيره.
 ألا ترى أن المضطر يأخذ طعام الغير بغير رضاه ولا شك أن صاحب الطعام يلحقه حزن بذلك إلا أنه علق الجواب بالإلجاء لأنه لم يجد في هذا بعينه نصا والفتوى بالرخصة فيما هو من مظالم العباد بالرأي لا يجوز مطلقا فلهذا قال رجوت. وإن كان يهدده على ذلك

 

ج / 24 ص -68-       بحبس أو قيد أو ضرب سوط أو حلق رأسه ولحيته لم ينبغ له أن يقدم على شيء من الظلم قل ذلك أو كثر لأن الرخصة عند تحقق الضرورة وذلك إذا خاف التلف على نفسه وهو بما هدده هنا لا يخاف التلف على نفسه.
ولو أكرهه بالحبس على أن يقتل رجلا فقتله كان القود فيه على القاتل لأن بالتهديد بالحبس لا يتحقق الإلجاء ولهذا كان الضمان في المال عند الإكراه بالحبس على المكره دون المكره ولو أمره بقتله ولم يكرهه على ذلك إلا أنه يخاف إن لم يفعل أن يقتله ففعل ما أمر به كان ذلك بمنزلة الإكراه لأن الإلجاء باعتبار خوفه التلف على نفسه أن لو امتنع من الإقدام على الفعل وقد تحقق ذلك هنا ومن عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ولكنهم يأمرون ثم لا يعاقبون من خالف أمرهم إلا بالقتل فباعتبار هذه العادة كان الأمر من مثله بمنزلة التهديد بالقتل.
ولو أكرهه بوعيد تلف حتى يفتري على مسلم رجوت أن يكون في سعة منه.
 ألا ترى أنه لو أكرهه بذلك على الكفر بالله تعالى كان في سعة من إجراء كلمة الكفر على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان فكذلك إذا أكرهه بالافتراء على مسلم لأن الافتراء على الله تعالى والشتم له يكون أعظم من شتم المخلوق إلا أنه علقه بالرجاء لأن هذا من مظالم العباد وليس هذا في معنى الافتراء على الله تعالى من كل وجه فإن الله تعالى مطلع على ما في ضميره ولا اطلاع للمقذوف على ما في ضميره ولأن الله تعالى يتعالى أن يدخله نقصان بافتراء المفترين وفي الافتراء على هذا المسلم هتك عرضه وذلك ينقص من جاهه ويلحق الحزن به فلهذا علق الجواب بالرجاء قال:
ألا ترى أنه لو أكرهه على شتم محمد صلى الله عليه وسلم بقتل كان في سعة إن شاء الله فهذا أعظم من قذف امرئ مسلم ولو تهدده بقتل حتى يشتم محمدا صلى الله عليه وسلم أو يقذف مسلما فلم يفعل حتى قتل كان ذلك أفضل له لما بينا أن في الامتناع تمسك بما هو العزيمة ولما امتنع خبيب رضي الله عنه حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء.
ولو تهدده بقتل حتى يشرب الخمر فلم يفعل حتى قتل خفت أن يكون آثما وقد بينا هذا الفصل إلا أنه ذكره هنا بلفظ يستدل به على أنه كان من مذهبه أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الحرمة بالنهي عنها شرعا فإنه قال لأن شرب الخمر وأكل الميتة لم يحرم إلا بالنهي عنهما وبين أهل الأصول في هذا كلام ليس هذا موضع بيانه.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال فلان فيدفعه إليه رجوت أن يكون في سعة من أخذه ودفعه إليه لأنه بمنزلة المضطر وقد بينا أنه يباح للمضطر أخذ مال الغير ليدفع به الضرورة عن نفسه ولكنه علق الجواب بالرجاء لأن هذا ليس في معنى المضطر من وجه فالعذر هناك وهو الجوع ما كان بصنع مضاف إلى العباد والخوف هنا باعتبار صنع مضاف إلى العبد وبينهما فرق.
 ألا ترى أن المقيد إذا صلى قاعدا يلزمه الإعادة إذا أطلق عنه القيد بخلاف المريض؟

 

ج / 24 ص -69-       قال والضمان فيه على الآمر لأن الإلجاء قد تحقق فيصير الأخذ والدفع كله منسوبا إلى الآمر والمكره بمنزلة الآلة له وإنما يسعه هذا ما دام حاضرا عند الآمر فإن كان أرسله ليفعل فخاف أن يقتله إن ظفر به ولم يقل إن لم يفعل ما هدد به لم يحل الإقدام على ذلك لأن الإلجاء إنما يتحقق ما دام في يد المكره بحيث يقدر على إيقاع ما هدده به عاجلا وقد انعدم ذلك حين بعد عنه ولا يدري أيقدر عليه بعد ذلك أو لا يقدر وبهذا الفصل تبين أنه لا عذر لأعوان الظلمة في أخذ الأموال من الناس فإن الظالم يبعث عاملا إلى موضع ليأخذ مالا فيتعلل العامل بأمره وإنه يخاف العقوبة من جهته إن لم يفعل وليس ذلك بعذر له إلا أن يكون بمحضر من الآمر فأما بعد ما بعد من الظالم فلا إلا أن يكون رسول الآمر معه على أن يرده عليه إن لم يفعل فيكون هذا بمنزلة الذي كان حاضرا عنده لأن كونه تحت يد رسوله ككونه في يده ويتمكن الرسول من رده إليه ليعاقبه بتحقق الإلجاء ولو لم يفعل ذلك حتى قتله كان في سعة إن شاء الله لأنه تحرز عما هو من مظالم العباد وذلك عزيمة.
 ألا ترى أن للمضطر أن يأخذ طعام صاحبه بقدر ما تندفع عنه الضرورة به ولو لم يأخذه حتى تلف لم يكن مؤاخذا به فهذا مثله, ولو كان المكره هدده بالحبس أو القيد لم يسعه الإقدام على ذلك لأن الإلجاء والضرورة بهذا التهديد لا يتحقق.
ولو أكره رجلا على قتل أبيه أو أخيه بوعيد قتل فقتله فقد بينا حكم المسألة أن الفعل يصير منسوبا إلى المكره فيما هو من أحكام القتل فكأنه هو المباشر بيده وعلى هذا الحرف ينبني ما بعده من المسائل حتى قالوا لو أن لصين أكرها رجلا بوعيد تلف على أن يقطع يد رجل عمدا كان ذلك كقطعهما بأيديهما فعليهما أرش اليد في مالهما في سنتين ولا قود عليهما لأن اليدين لا يقطعان بيد واحدة, وإن مات فيهما فعلى المكرهين القود لأن القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا من أصله, ولو باشرا قتله لزمهما القود ولو كان الآمر واحدا والمأمور اثنين كان على الآمر القصاص في اليد إن عاش وفي البدن إن مات من ذلك لأن الفعل منسوب إلى المكره وهو واحد لو باشر قطع يده أو قتله يجب القود عليه فكذلك إذا أكرهه على ذلك رجلان والله أعلم بالصواب.

باب الإكراه على دفع المال وآخذه
 قال رحمه الله ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف حتى أعطى رجلا ماله وأكره الآخر بمثل ذلك حتى قبضه منه ودفعه فهلك المال عنده فالضمان على الذي أكرههما دون القابض لأن الدافع والقابض كل واحد منهما ملجأ من جهة المكره فيصير الفعل في الدفع والقبض منسوبا إلى المكره والقابض مكره على قبضه بوعيد تلف فلا يبقى في جانبه فعل موجب للضمان عليه ولأنه قبضه ليرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يوجب الضمان على القابض, وإن كان قبضه بغير أمر صاحبه كمن أخذ آبقا أو وجد لقطة وأشهد أنه أخذه ليرده على صاحبه لم يكن عليه ضمان إن هلك عنده.

 

ج / 24 ص -70-       وكذلك لو كان أكره القابض على قبضه ليدفعه إلى الذي أكرهه فقبضه وضاع عنده قبل أن يدفعه إليه فلا ضمان على القابض إذا حلف بالله ما أخذه إلا ليدفعه إليه طائعا وما أخذه إلا ليرده على صاحبه إلا أن يكره على دفعه لأن الظاهر يشهد له في ذلك فإن فعل المسلم محمول على ما يحل, ويحل له الأخذ مكرها على قصد الرد على صاحبه ولا يحل له الأخذ على قصد الدفع إلى المكره طائعا ودينه وعقله يدعوانه إلى ما يحل دون ما لا يحل إلا أن في اللقطة لا يقبل قوله على هذا إذا لم يشهد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه متمكن من الإشهاد على ذلك وهنا هو غير متمكن من الإشهاد على ما في ضميره من قصد الرد على المالك لأنه إن أظهر ذلك عاقبه المكره فلهذا قبلنا قوله في ذلك مع اليمين.
ولو كان أكره صاحب المال على أن يهبه لصاحبه وأكره الآخر على أن يقبل الهبة منه ويقبضها بوعيد تلف فقبضها فضاعت عنده, فإن قال القابض أخذتها على أن تكون في يدي مثل الوديعة حتى أردها على صاحبها فالقول قوله مع يمينه لأن الإكراه شاهد له على أنه غير راغب في تمليكها فيكون الضمان على المكره خاصة وإن قال أخذتها على وجه الهبة لتسلم لي كان لرب المال أن يضمنه إن شاء وإن شاء المكره لأن الموهوب له قبض مال الغير على وجه التملك بغير رضا صاحبه وهو طائع في ذلك القبض على هذا القصد فيكون ضامنا للمال وأما المكره فلأن الدافع ملجأ من جهته فيجعل كأنه قبضه بنفسه ودفعه إليه, فإن ضمن المكره رجع على الموهوب له لأنه قائم مقام من ضمنه لأن المكره ما قصد مباشرة الهبة من جهته فلا يمكن تنفيذ الهبة من جهته بملكه إياه وفي الأصل أشار إلى حرف آخر. فقال لأنه إنما ضمن المال بقبض الموهوب له وقد كانت الهبة قبل القبض فلا يجعل الذي أكرههما بمنزلة الواهب وما قلناه أوضح لأنا إذا جعلنا القابض مكرها وكان المكره ضامنا باعتبار نسبة القبض إليه لا يبقى في جانب القابض سبب موجب للضمان عليه والدليل عليه أنه قال فإن ضمن الموهوب له لم يكن على الذي أكرهه شيء لأنه أخذه على أنه له.
ولو كان القبض منسوبا إلى المكره كان للقابض أن يرجع على المكره بما يلحقه من الضمان بسببه، فإن كان الموهوب له بحيث يتمكن من الإشهاد عند الهبة أن يقبضه للرد فلم يفعل كان ضامنا بترك الإشهاد لأن القبض بحكم الهبة عمل منه لنفسه فلا يقبل قوله بخلاف ما صرح به إلا عند الضرورة وهو ما إذا لم يكن متمكنا من الإشهاد لأنا رأينا أن في موضع الضرورة يجعل القول قوله فيما في ضميره كالمكره على الكفر إذا قال بعد ما تكلم بالكفر كنت مطمئن القلب بالإيمان قبل قوله ولم تبن منه امرأته فأما عند تمكنه من الإشهاد بلا ضرورة فلا يقبل قوله بمنزلة من وجد عبدا آبقا لرجل في يد غيره فلم يقدر على استرداده منه إلا بشراء أو هبة فطلب ذلك منه حتى وهب له أو اشتراه كان ضامنا له إلا أن يشهد عند ذلك أنه يأخذه ليرده على مولاه فإذا أشهد لم يضمن. وكذلك إن لم يكن متمكنا من الإشهاد يقبل قوله في ذلك

 

ج / 24 ص -71-       ولو أكرهه على بيع عبده وأكره المشتري على شرائه وأكرههما على التقابض فهلك الثمن والعبد ثم اختصموا فضمان العبد للبائع وضمان الثمن للمشتري على الذي أكرههما لأن كل واحد منهما ملجأ على دفع ماله إلى الآخر من جهته. فإن أراد أحدهما أن يضمن صاحبه سئل كل واحد منهما عما قبضه على وجه قبضه فإن قال قبضته على البيع الذي أكرهنا عليه ليكون لي وقالا ذلك جميعا فالبيع جائز ولا ضمان على المكره فيه لأن قبض كل واحد منهما على هذا القصد دليل الرضا منه بالبيع ودليل الرضا كصريح الرضا.
 ألا ترى أنهما لو أكرها على البيع ثم تقابضا بغير إكراه تم البيع بينهما فكذلك إذا أقر كل واحد منهما أنه قبضه على وجه التملك.
وإن قال قبضته مكرها لأرده على صاحبه وآخذ منه ما أعطيت وحلف كل واحد منهما لصاحبه على ذلك لم يكن لواحد منهما على صاحبه ضمان لأن الإكراه دليل ظاهر لكل واحد منهما على ما يخبر به عن ضميره إلا أن صاحبه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه الضمان. فإذا أنكر يحلف على ذلك فإن حلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف لم يضمن الذي حلف لأن يمينه قد انتفى عنه بسبب الضمان إلا أن يثبته صاحبه بالحجة ويضمن الذي لم يحلف ما قبض لأن نكوله كإقراره وذلك يثبت عليه سبب الضمان عند قضاء القاضي. فإن كان الذي أبى اليمين هو الذي قبض العبد ضمن البائع قيمة العبد أيهما شاء لأن فعله بالدفع صار منسوبا إلى المكره والقابض كان طائعا حين قبضه لنفسه على وجه التملك. فإن ضمنها المكره رجع بها على المشتري لأنه ملك بالضمان وما قصد تنفيذ البيع من جهته ولأنه إنما ضمنها بالإكراه على القبض وقد كان البيع قبل ذلك فلا يكون بمنزلة البائع وقد بينا أن الوجه الأول أصح، وإن ضمنها المشتري لم يرجع بها على المكره لأنه أقر أنه لم يقبضه على وجه الإكراه وإنما قبضه على وجه الشراء ولم يرجع على البائع بالثمن أيضا لأن البائع قد حلف أنه قبض الثمن للرد عليه وقد هلك في يده فلا يضمن له شيئا من ذلك ولا يرجع بالثمن على المكره أيضا لأنه أقر أنه دفع الثمن طوعا وأنه كان راضيا بالبيع.
وإن كان المشتري حلف وأبى البائع اليمين فلا ضمان في العبد على من أخذه وأما الثمن فإن شاء المشتري ضمنه المكره وإن شاء ضمنه البائع لأن البائع بنكوله أقر أنه قبض الثمن لنفسه طائعا وفعل الدافع منسوب إلى المكره للإلجاء. فإن ضمن البائع لم يرجع به على المكره لأنه ضمن بفعل كان عاملا فيه لنفسه طائعا وإن ضمنه المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملكه بالضمان والقابض كان طائعا في قبضه لنفسه فيضمن له ذلك.
ولو أكرههما على البيع والشراء ولم يذكر لهما قبضا فلما تبايعا لم يتقابضا حتى فارقا الذي أكرههما ثم تقابضا على ذلك البيع فهذا رضا منهما بالبيع وإجازة له لأن البيع مع الإكراه كان منعقدا ولم يكن نافذا جائزا لانعدام الرضا منهما فإذا وجد دليل الرضا نزل ذلك

 

ج / 24 ص -72-       منزلة التصريح بالرضا بالإجارة طوعا وقد بينا الفرق بين الهبة وبين البيع لأن الإكراه على البيع لا يكون إكراها على التسليم والإكراه على الهبة يكون إكراها على التسليم.
ولو كان الإكراه في الوجه الأول على البيع والقبض بغير تلف بل بحبس أو قيد وتقابضا على ذلك مكرهين لم يجز البيع لأن نفوذ البيع يعتمد تمام الرضا وبالتهديد بالحبس ينعدم تمام الرضا, فإن ضاع ذلك عندهما فلا ضمان لواحد منهما على المكره لأن فعلهما لم يصر منسوبا إلى المكره فإن نسبة الفعل إليه بالإلجاء والتهديد بالحبس لا يتحقق الإلجاء ولكن كل واحد منهما ضامن لما قبض من مال صاحبه لأنه قبضه بحكم عقد فاسد وفعل كل واحد منهما في القبض مقصور عليه وقد قبضه بغير رضا صاحبه.
ولو قبضه بحكم العقد الفاسد برضا صاحبه كان مضمونا عليه فهنا أولى أن يكون مضمونا عليه. ولو أكرهه بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل وأكره الآخر بالحبس على قبوله وديعة فقبله وضاع عنده فلا ضمان على المكره ولا على القابض أما على المكره فلانعدام الإلجاء من جهته وأما على القابض فلأنه ما قبض لنفسه وإنما قبضه ليحفظه وديعة ويرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يكون موجبا للضمان عليه وإن انعدم الرضا من صاحبه كما لو هبت الريح بثوب إنسان وألقته في حجر غيره فأخذه ليرده على صاحبه فهلك لم يكن ضامنا شيئا.
ولو أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا أو يدفعه إليه وأكره الآخر بالحبس على قبوله وقبضه فهلك فالضمان على القابض لأنه قبضه على وجه التملك وفعله في القبض مقصور عليه فإنه غير ملجأ من جهة المكره فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ولو كان أكره القابض بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ولا المكره شيئا أما القابض فلأنه ملجأ إلى القبض وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه وأما المكره فلأن الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال إليه لأنه كان مكرها بالحبس فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قاله أبو حازم رحمه الله. وهذا غلط لأن فعل الدافع إن لم يكن منسوبا إلى المكره ففعل القابض صار منسوبا إليه وإنما قبضه بغير رضا المالك فكأن المكره قبضه بنفسه فينبغي أن يكون المكره ضامنا من هذا الوجه. وما قاله في الكتاب أصح لأن هذا القبض متمم للهبة وفي مثله لا يصلح المكره آلة للمكره.
 ألا ترى أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم الهبة به ثم الموجب للضمان على المكره تفويت اليد على المالك وذلك بالدفع والإخراج من يدهما لا بالقبض لأن الأموال محفوظة بالأيدي وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره.
ولو أكره الواهب بتلف وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن إن شاء المكره وإن شاء القابض لأن فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته فيكون المكره ضامنا له وفعل القابض مقصور عليه لأنه كان مكرها على القبض بالحبس وقد

 

ج / 24 ص -73-       قبضه على وجه التملك فكان للدافع أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا، وكذلك في البيع إذا أكره البائع بوعيد تلف على البيع والتقابض وأكره المشتري على ذلك بالحبس فتقابضا وضاع المال فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد أن يحلف ما قبضه إلا ليرده على صاحبه لأنه ملجأ قبل القبض فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه وللبائع أن يضمن المكره قيمة عبده لأنه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ثم يرجع بها المكره على المشتري لما بينا أن البيع لم ينفذ من جهة المكره وقد ملكه بالضمان فإن شاء البائع ضمنها المشتري لأن فعله في القبض مقصور عليه وقد قبضه على وجه التملك وإن لم يكن راضيا بسببه. ثم لا يرجع المشتري على المكره بالقيمة ولا بالثمن أما القيمة فلأنه إنما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا لنفسه وأما الثمن فلأنه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره في حكم الضمان وفي هذا طعن أبو حازم رحمه الله أيضا كما في الهبة.
ولو كان أكره البائع بالحبس وأكره المشتري بالقتل فلا ضمان للبائع في العبد على المشتري ولا على المكره لأن المشتري ملجأ إلى القبض فلا يكون ضامنا شيئا والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره فيقتصر حكم الدفع عليه فلهذا لا ضمان على المكره وللمشتري أن يضمن الثمن إن شاء البائع وإن شاء المكره لأنه كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه فاقتصر حكم فعله بالقبض عليه وللمشتري الخيار. فإن ضمن المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملك المضمون بالضمان ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن فرجع على البائع بالثمن والله أعلم بالصواب.

باب من الإكراه على الإقرار
قال رحمه الله وإذا أكره الرجل بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بعتق أو طلاق أو نكاح وهو يقول لم أفعله فأقر به مكرها فإقراره باطل والعبد عبده كما كان والمرأة زوجته كما كانت لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والإكراه الظاهر دليل على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقا.
 ألا ترى أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا بإخبارهم به والدليل عليه أنه لو أقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب في ذلك فإنه يسعه إمساكها فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن القاضي لا يصدقه على ذلك لأنه مأمور باتباع الظاهر والظاهر أن الإنسان لا يكذب فيما يلحق الضرر به فإذا كان مكرها وجب تصديقه في ذلك لوجود الإكراه فلهذا لا يقع به شيء والإكراه بالحبس والقتل في هذا سواء لأن الإقرار تصرف من حيث القول ويعتمد تمام الرضا وبسبب الإكراه بالحبس ينعدم ذلك وكذلك الإقرار بالرجعة أو الفيء في الإيلاء أو

 

ج / 24 ص -74-       العفو عن دم العمد فإنه لا يصح مع الإكراه لما قلنا وكذلك الإقرار في عبده أنه ابنه أو جاريته أنها أم ولده لأن هذا إخبار عن أمر سابق خفي فالإكراه دليل على أنه كاذب فيما يخبر به.
فإن قيل أليس عند أبي حنيفة رحمه الله إذا قال لمن هو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الإقرار مكرها فإذا نفذ العتق ثمة ينبغي أن ينفذ هنا بطريق الأولى.
قلنا أبو حنيفة رحمه الله يجعل ذلك الكلام مجازا عن الإقرار بالعتق كأنه قال عتق على من حين ملكته وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في إقراره فأما عند الإكراه فأكثر ما فيه أن يجعل هذا مجازا عن الإقرار بالعتق ولكن الإكراه يمنع صحة الإقرار بالعتق كما يمنع صحة الإقرار بالنسب.
ولو أكره نصراني على الإسلام فأسلم كان مسلما لوجود حقيقة الإسلام مع الإكراه فإن ذلك بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد سمعنا إقراره بلسانه وإنما يعبر عما في قلبه لسانه فلهذا يحكم بإسلامه والأصل فيه قوله تعالى:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83] وقال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وقد قبل من المنافقين ما أظهروا من الإسلام مع علمه أنهم أظهروا ذلك خوفا من السيف وهذا في أحكام الدنيا فأما فيما بينه وبين ربه إذا لم يكن يعتقد فيما يقول لا يكون مسلما, والذمي في هذا والحربي سواء عندنا, والشافعي رحمه الله يفرق بينهما باعتبار أن إكراه الحربي على الإسلام إكراه بحق وقد قررناه فيما سبق وفرق بين الإكراه على الإسلام وبين الإكراه على الردة وقال الردة إنما تحصل بتبديل الاعتقاد والإكراه دليل ظاهر على أنه غير مبدل لاعتقاده فأما الإسلام في أحكام الدنيا فإنما يثبت بالإقرار باللسان مع التصديق بالقلب ولا طريق لنا إلى الوقوف على ما في قلبه وقد سمعنا إقراره مع الإكراه فلذلك حكمنا بإسلامه, فإن رجع عنه إلى النصرانية أجبر على الإسلام ولم يقتل استحسانا وفي القياس يقتل لأنه بدل الدين وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" وهذا لأن الإكراه لما لم يمنع صحة الإسلام كان المكره كالطائع فيه ولكنه استحسن إسقاط القتل عنه للشبهة التي فعلت لأنا لا نعلم سره حقيقة والأدلة قد تعارضت فكون الإسلام مما يجب اعتقاده دليل على أنه معتقد والإكراه دليل على أنه غير معتقد بما يقول وتعارض الأدلة شبهة في درء ما يندرى ء بالشبهات وهذا نظير القياس, والاستحسان في المولود بين المسلمين إذا بلغ مرتدا يجبر على الإسلام ولا يقتل استحسانا والذي أسلم بنفسه في صغره إذا بلغ مرتدا يجبر على الإسلام ولا يقتل للشبهة المتمكنة فيه بسبب اختلاف العلماء رحمهم الله.
ولو كان أكرهه على الإقرار بإسلام ماض منه فالإقرار باطل لأن الإكراه دليل على أنه كاذب فيما أخبر به من الإقرار بالإسلام ماضيا وكذلك لو أكره بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بأنه لا قود له قبل هذا الرجل ولا بينة له عليه به فالإقرار باطل لأن الإكراه دليل

 

ج / 24 ص -75-       على أنه كاذب فيما يقر به بخلاف ما إذا أكره على إنشاء العفو, فإن أعاده بعد ذلك وأقام البينة عليه به حكم له بالقود لأن ما سبق منه من الإقرار بالعفو قد بطل فكان وجوده كعدمه.
وكذلك لو أكرهه على أن يقر بأنه لم يتزوج هذه المرأة وأنه لا بينة له عليها بذلك أو على أن هذا ليس بعبده وأنه حر الأصل فإقراره بذلك باطل لأن الإكراه دليل على أنه كاذب فيما أقر به فلا يمنع ذلك قبول بينته على ما يدعيه من النكاح والرق بعد ذلك.
 ألا ترى أنه لو أقر بشيء من هذا هازلا لا يلزمه شيء فيما بينه وبين ربه ولو أقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب فيما قال وسعه إمساك المرأة والعبد فيما بينه وبين ربه بخلاف الإنشاء فمن هذا الوجه يقع الفرق بين هذه الفصول والله أعلم بالصواب.

باب من الإكراه على النكاح والخلع والعتق والصلح عن دم العمد
 قال رحمه الله ولو أن رجلا أكره بوعيد تلف حتى خلع امرأته على ألف درهم ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف وقد دخل بها والمرأة غير مكرهة فالخلع واقع لأن الخلع من جانب الزوج طلاق والإكراه لا يمنع وقوع الطلاق بغير جعل فكذلك بالجعل وللزوج على امرأته ألف درهم لأنها قد التزمت الألف طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة ولا شيء على المكره للزوج لأنه أتلف عليه ملك النكاح وقد بينا أنه لا قيمة لملك النكاح عند الخروج من ملك الزوج وأنه ليس بمال فلا يكون مضمونا بالمال أصلا بل عند الحاجة إلى الصيانة والمضمون المحل المملوك لا الملك الوارد عليه ولهذا جاز إزالة الملك بغير شهود ولا عوض.
وكذلك لو أكره ولي العمد على أن يصالح منه على ألف درهم فالإكراه لا يمنع إسقاط القود بالعفو فكذلك لا يمنع إسقاطه بالصلح ولا شيء له سوى الألف على الذي كان قبله الدم ولا شيء لصاحب الدم على الذي أكرهه لأن القاتل ما التزم الزيادة على الألف والمكره أتلف عليه ما ليس بمال متقوم وهو ملك استيفاء القود وهذا ملك غير مضمون بالعفو مندوب إليه شرعا وبه فارق النفس فإنها مضمونة بالمال عند الإتلاف خطأ صيانة لها عن الإهدار.
ولو أكره على أن يعتق عبده على مائة درهم وقبله العبد وقيمته ألف والعبد غير مكره فالعتق جائز على المائة لأن الإكراه لا يمنع صحة إسقاط الرق بالعتق والعبد التزم المائة طوعا ثم يتخير مولى العبد فإن شاء ضمن الذي أكرهه قيمة العبد لأنه أتلف عليه ملكه في العبد بالإكراه الملجى ء وملكه في العبد ملك مال متقوم فيكون مضمونا على المتلف بخلاف ما سبق ثم يرجع المكره على العبد بمائة لأن المولى أقامه مقام نفسه حين ضمنه القيمة في الرجوع على العبد بالمسمى, وإن شاء المولى أخذ العبد بالمائة ورجع على المكره بتسعمائة تمام القيمة لأن ما زاد على قدر المسمى من المالية أتلفه المكره عليه بغير عوض.
فإن قيل لماذا كان له أن يرجع بجميع الألف على المكره وقد أتلف عليه مقدار المائة بعوض؟

 

ج / 24 ص -76-       قلنا لأن هذا العوض في ذمة مفلسه فإن العبد يخرج من ملك المولى ولا شيء له فهو كالتاوي.
فإن قيل لماذا لم يجعل اختياره للمسمى إبراء منه للمكره.
قلنا في مقدار المائة يجعل هكذا لأن له أن يرجع بها على أيهما شاء فأما في الزيادة على ذلك فحقه متعين في ذمة المكره.
ولو كان أكرهه على العتق بألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده لأنه أتلف عليه ماليته ببدل لا يصل إليه إلا بعد مضي الأجل. وإن شاء اتبع العبد بالألفين بعد مضي السنة لأنه التزم ذلك طوعا فإن اختار تضمين المكره قام المكره مقام المولى في الرجوع على العبد بالمسمى عند حلول الأجل فإذا أخذ ذلك منه أمسك ألفا مقدار ما غرم وتصدق بالفضل لأنه حصل له بكسب خبيث. وإن اختار اتباع العبد فلا شيء له على المكره بعد ذلك لأنه صار راضيا بما صنع حين اختار اتباع العبد فإن كان الألفان نجوما فحل نجم منها فطلب المولى العبد بذلك النجم بغير إكراه فهذا منه اختيار لاتباع العبد ولا ضمان له على المكره بعد ذلك لأن مطالبته إياه بذلك النجم دليل الرضا منه بما سبق فيكون كالتصريح بالرضا وذلك يسقط حقه في تضمين المكره.
ولو أكرهت امرأة بوعيد تلف أو حبس حتى تقبل من زوجها تطليقة على ألف درهم فقبلت ذلك منه وقد دخل بها ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف أو خمسمائة فالطلاق رجعي ولا شيء عليه من المال لأن التزام البدل يعتمد تمام الرضا وبالإكراه ينعدم الرضا سواء كان الإكراه بحبس أو بقتل ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود المقبول.
 ألا ترى أنه لو طلق امرأته الصغيرة على مال فقبلت وقع الطلاق ولم يجب المال وبسبب الإكراه لا ينعدم القبول فلهذا كان الطلاق واقعا ثم الواقع بصريح اللفظ يكون رجعيا إذا لم يجب العوض بمقابلته وهنا لا عوض عليه فكان الطلاق رجعيا, وقد ذكر في الجامع الصغير إذا شرطت الخيار لنفسها ثلاثة أيام في الطلاق بمال عند أبي حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يسقط الخيار. وعندهما الطلاق واقع والمال لازم.
وكذلك لو هزلت بقبول الطلاق بمال واتفقا على ذلك عند أبي حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يرض بالتزام المال. وعندهما الطلاق واقع والمال واجب فبالكل حاجة إلى الفرق بين مسألة الإكراه ومسألة الخيار والهزل, فأما أبو حنيفة رحمه الله فقال الإكراه لا يعدم الاختيار في السبب والحكم وإنما يعدم الرضا بالحكم فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق ولانعدام الرضا لا يجب المال فكان المال لم يذكر أصلا فأما خيار الشرط فلانعدام الاختيار والرضا بالسبب وبعدم الاختيار والرضا بالحكم يتوقف الحكم وهو وقوع الطلاق ووجوب المال على وجود الاختيار والرضا به. وكذلك الهزل لا ينافي الاختيار والرضا بالسبب وإنما يعدم الرضا والاختيار بالحكم فتوقف الحكم لانعدام الاختيار

 

ج / 24 ص -77-       في حقه وصح التزام المال به موقوفا على أن يلزمه عند تمام الرضا به. وهما يقولان الإكراه يعدم الرضا بالحكم ولا يعدم الاختيار في السبب والحكم جميعا فيثبت الحكم وهو الطلاق ولا يجب المال لانعدام الرضا به فكأنه لم يذكر فأما الهزل وشرط الخيار فلا يعدم الرضا بالسبب والحكم لا ينفصل عن السبب فالرضا بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ويجب المال لأن المال صار تبعا للطلاق في الحكم وفي الإكراه انعدم الرضا بالسبب فلا يثبت ما يعتمد ثبوته الرضا وهو المال ويثبت من المال ما لا يعتمد ثبوته الرضا وهو الطلاق, فإن قالت بعد ذلك قد رضيت بتلك التطليقة بذلك المال جاز ولزمها المال وتكون التطليقة بائنة في قول أبي حنيفة وقال محمد إجازتها باطلة وهي تطليقة رجعية ولم يذكر قول أبي يوسف فقيل قوله كقول محمد رحمهما الله, والأصح أن قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله فمن جعل قوله كقول محمد قال المسألة فرع لما بينا في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته أنت طالق كيف شئت عند أبي حنيفة تقع تطليقة رجعية ولها الخيار في جعلها بائنة. وعندهما لا يقع عليها شيء ما لم تشأ فمن أصله أنه يقع أصل الطلاق ويبقى لها المشيئة في الصفة فهنا أيضا وقع أصل الطلاق بقبولها وبقي لها المشيئة في صفته فإذا التزمت المال طوعا صارت تطليقة بائنة. وعندهما لا يجوز أن يبقى لها مشيئة بعد وقوع أصل الطلاق بقبولها فلا رأى لها بعد ذلك في التزام المال لتغير صفة تلك التطليقة. ومن قال إن قول أبي يوسف كقول أبي حنيفة جعل المسألة فرعا لما بيناه في كتاب الدعوى أن من طلق امرأته تطليقة رجعية ثم قال جعلتها بائنة عند أبي حنيفة وأبي يوسف تصير بائنا, وعند محمد لا تصير بائنا فلما كان من أصلهما أن للزوج أن يجعل الواقع بصفة الرجعية بائنا فكذلك للمرأة ذلك بالتزام المال. وعند محمد لما لم يكن للزوج ولاية جعل التطليقة الرجعية بائنة فكذلك لا يكون لها ذلك بالتزام المال ولو كان مكان التطليقة خلع بألف درهم كان الطلاق بائنا ولا شيء عليها لأن الواقع بلفظ الخلع بائن من غير اعتبار وجوب المال فإن الخلع مشتق من الخلع والانتزاع ففي اللفظ ما يوجب البينونة, ولهذا لو خلع الصغيرة على مال وقبلت كان الواقع بائنا بخلاف لفظ صريح الطلاق. وكذلك الصلح عن دم العمد إذا أكره القاتل بقتل أو حبس على أن يصالح الولي على أكثر من الدية أو أقل منها فصالحه بطل الدم لوجود القبول مع الإكراه وليس على القاتل من المال شيء لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا وينعدم بالإكراه.
ولو خلع امرأته قبل أن يبلغ وقد دخل بها على ألف درهم فقبلت وقع الخلع لوجود القبول منها ولم يجب المال لأن الصغر لا ينافي التكلم بالقبول ولكن ينافي صحة التزام المال.
 ألا ترى أن التزام المال منه عوضا عن مال لا يكون صحيحا فعن غير مال أولى ولذلك لو كان لرجل على رجل دم عمد فصالحه عنه غلام لم يبلغ على مال ضمنه له الغلام على أن عفا جاز العفو لوجود القبول ممن شرط عليه الضمان ولا شيء عليه لأن الصغر ينافي التزام المال بجهة الضمان وإنما أورد هذا لإيضاح مسألة الإكراه.

 

ج / 24 ص -78-       وكذلك لو أكره العبد على أن يقبل العتق من مولاه بمال قليل أو كثير عتق لوجود القبول ولا شيء عليه من المال لانعدام الرضا من العبد بالتزام المال. ولو أكره الزوج على أن يطلق امرأته بألف درهم وأكرهت المرأة على أن تقبل ذلك ففعلا وقع الطلاق بغير مال لأن الإكراه لا ينافي الاختيار في الإيجاب والقبول وإنما يعدم الرضا به والمال لا يجب بدون الرضا به وكذلك هذا في الصلح من القود والعتق على مال لأن للمولى أن يضمن المكره قيمة عبده إن كان أكرهه بوعيد قتل. وإن كان أكرهه بحبس لم يضمن شيئا لما بينا أن الإتلاف إنما يصير منسوبا إلى المكره عند الإلجاء التام وذلك الإكراه بالقتل دون الإكراه بالحبس.

باب الإكراه على الزنى والقطع
قال رحمه الله كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا لو أن سلطانا أو غيره أكره رجلا حتى زنا فعليه الحد وهو قول زفر رحمه الله ثم رجع فقال لا حد عليه إذا كان المكره سلطانا وهو قولهما وجه قوله الأول أن الزنى من الرجل لا يتصور إلا بانتشار الآلة ولا تنتشر آلته إلا بلذة وذلك دليل الطواعية فمع الخوف لا يحصل انتشار الآلة وفرق على هذا القول بين الرجل والمرأة قال المرأة في الزنى محل الفعل ومع الخوف يتحقق التمكين منها.
ألا ترى أن فعل الزنى يتحقق وهي نائمة أو مغمى عليها لا تشعر بذلك بخلاف جانب الرجل وفرق على هذا القول بين الإكراه على الزنى وبين الإكراه على القتل. قال لا قود على المكره وعليه الحد ففي كل واحد من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالإكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فبسبب الإلجاء يصير الفعل منسوبا إلى المكره ولهذا لزمه القصاص وإذا صار منسوبا إلى المكره صار المكره آلة فأما الزنى ففعل لا يتصور أن يكون المكره فيه آلة للمكره لأن الزنى بآلة الغير لا يتحقق ولهذا لا يجب الحد على المكره فبقي الفعل مقصورا على المكره فيلزمه الحد. ووجه قوله الآخر أن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى ذلك في حالة الإكراه لأنه منزجر إلى أن يتحقق الإلجاء وخوف التلف على نفسه فإنما كان قصده بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف فقد تنتشر الآلة طبعا بالفحولة التي ركبها الله تعالى في الرجال وقد يكون ذلك طوعا.
ألا ترى أن النائم تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له في ذلك ولا قصد, ثم على القول الآخر قال أبو حنيفة رحمه الله إن كان المكره غير السلطان يجب الحد على المكره وقال أبو يوسف ومحمد إذا كان قادرا على إيقاع ما هدده به فلا حد على المكره سواء كان المكره سلطانا أو غيره, قيل هذا اختلاف عصر فقد كان السلطان مطاعا في عهد أبي حنيفة ولم يكن لغير السلطان من القوة ما يقدر على الإكراه فأجاب بناء على ما شاهد في زمانه ثم تغير حال الناس في عهدهما وظهر كل متغلب في موضع فأجابا بناء على ما عاينا وقيل بل هو اختلاف حكم فوجه قولهما أن المعتبر في إسقاط الحد هو الإلجاء وذلك بأن

 

ج / 24 ص -79-       يكون المكره قادرا على إيقاع ما هدد به لأن خوف التلف للمكره بذلك يحصل.
ألا ترى أن السلطان لو هدده وهو يعلم أنه لا يفعل ذلك به لا يكون مكرها وخوف التلف يتحقق عند قدرة المكره على إيقاع ما هدده به بل خوف التلف بإكراه غير السلطان أظهر منه بإكراه السلطان فالسلطان ذو أناة في الأمور لعلمه أنه لا يفوته وغير السلطان ذو عجلة في ذلك لعلمه أنه يفوته ذلك بقوة السلطان ساعة فساعة. وأبو حنيفة لا يقول الإلجاء لا يتحقق بإكراه غير السلطان وإنما يتحقق بإكراه السلطان لأنه لا يتمكن من دفع السلطان عن نفسه بالالتجاء إلى من هو أقوى منه ويتمكن من دفع اللص عن نفسه بالالتجاء بقوة السلطان فإن اتفق في موضع لا يتمكن من ذلك فهو نادر والحكم إنما ينبني على أصل السبب لا على الأحوال وباعتبار الأصل يمكن دفع إكراه غير السلطان بقوة السلطان ولا يمكن دفع إكراه السلطان بشيء ثم ما يكون مغيرا للحكم يعتبر فيه السلطان كتغيير الفرائض من الأربع إلى الركعتين يوم الجمعة وإقامة الخطبة مقام الركعتين يعتبر فيه السلطان ولا يقوم في ذلك غيره مقامه وفي كل موضع وجب الحد على المكره لا يجب المهر لها وقد بينا هذا في الحدود إذ الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافا للشافعي رحمه الله وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر لأن الواطى ء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر فإذا سقط الحد وجب المهر لإظهار خطر المحل فإنه مصون عن الابتذال محترم كاحترام النفوس ويستوي إن كانت أذنت له في ذلك أو استكرهها, أما إذا استكرهها فغير مشكل لأن المهر يجب عوضا عما أتلف عليه ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها وأما إذا أذنت له في ذلك فلأنه لا يحل لها شرعا أن تأذن في ذلك فيكون إذنها لغوا لكونها محجورة عن ذلك شرعا بمنزلة إذن الصبي والمجنون في إتلاف ماله أو هي متهمة في هذا الإذن لما لها في هذا الإذن من الحظ فجعل الشرع إذنها غير معتبر للتهمة ووجوب الضمان لصيانة المحل عن الابتذال والحاجة إلى الصيانة لا تنعدم بالإذن.
 ألا ترى أنها لو زوجت نفسها بغير مهر وجب المهر ولو مكنت نفسها بعقد فاسد حتى وطئها الزوج ولم يكن سمى لها مالا وجب المال فهذا مثله وهو واجب في الوجهين. أما إذا استكرهها فإنه ظالم وحرمة الظلم حرمة باتة وكذلك إذا أذنت له في ذلك لأن إذنها لغو غير معتبر.
ثم حرمة الزنى حرمة باتة لا استثناء فيها ولم يحل في شيء من الأديان بخلاف حرمة الميتة ولحم الخنزير فتلك الحرمة مقيدة بحالة الاختيار لوجود التنصيص على استثناء حالة الضرورة في قوله تعالى:
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وإن امتنع من الزنى حتى قتل كان مأجورا في ذلك لأنه امتنع من ارتكاب الحرام وبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في الوقوف على حد الدين بالتحرز عن مجاوزته وفيما يرخص له فيه وهو إجراء كلمة الشرك وقد بينا أنه إذا امتنع حتى قتل كان مأجورا فما لا رخصة فيه أولى. وإن كان الإكراه على الزنى

 

ج / 24 ص -80-       بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد لأن تمكن الشبهة باعتبار الإلجاء وبسبب الإكراه بالحبس لا يتحقق الإلجاء فوجوده وعدمه في حق الحكم سواء.
ولو قال له لأقتلنك أو لتقطعن يد هذا الرجل فقال له ذلك الرجل قد أذنت لك في القطع فاقطعه وهو غير مكره لا يسع المكره أن يقطع يده لأن هذا من المظالم وليس المقصود بالفعل أن يأذن في ذلك شرعا لأنه يبذل طرفه لدفع الهلاك عن غيره وذلك لا يسعه كما لو رأى مضطرا فأراد أن يقطع يد نفسه ليدفعها إليه حتى يأكلها ولا يسعه ذلك فهذا مثله. ولو لم يوجد الإذن لم يسعه الإقدام على القطع فكذلك بعد الإذن وإن قطعها فلا شيء عليه ولا على الذي أكرهه لأن القاطع لو لم يكن مكرها وقال له إنسان اقطع يدي فقطعه لم يلزمه شيء فإذا كان القاطع مكرها أولى وهذا لأن الحق في الطرف لصاحب الطرف وقد أسقطه بالإذن في الابتداء.
ولو أسقطه بالعفو في الانتهاء لا يجب شيء فكذلك بالإذن في الابتداء والدليل عليه أن الطرف يسلك به مسلك الأموال من وجه وفى الأموال البدل مفيد عامل في الإباحة والبدل الذي هو سعته عامل في إسقاط الضمان حتى إذا قال له احرق ثوبي هذا لا يباح له أن يفعله ولكن لا يلزمه شيء إن فعله فكذلك في الطرف البدل المفيد عامل في الإباحة وهو إذا وقع في يده أكلة فأمر إنسانا أن يقطع يده فالبدل الذي هو سعته يكون مسقطا للضمان فيه أيضا فلهذا لا يجب على القاطع ولا على المكره شيء.
وإن كان صاحب اليد مكرها أيضا من ذلك المكره أو من غيره على الإذن في القطع بوعيد تلف فالقصاص على المكره لأن بسبب الإلجاء يلغو إذنه وفعل القطع منسوب إلى المكره لأن المكره يصلح أن يكون آلة في ذلك فلهذا كان عليه القود.
ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلنه فقال له المقصود اقتلني فأنت في حل من ذلك وهو غير مكره فقتله بالسيف فعلى الآمر الدية في ماله لأن المباشر ملجأ إلى القتل فيصير الفعل منسوبا إلى الملجى ء وصار هذا بمنزلة ما لو قتل إنسانا بإذنه وفي هذا تجب الدية عليه دون القصاص في ظاهر الرواية. وعلى قول زفر رحمه الله عليه القصاص. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا شيء عليه أورده في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله ألا أن هذا إنما يتحقق في حق من باشر القتل بنفسه لا في حق المكره فإن زفر لا يرى القود على المكره, وأورد على هذا أيضا أنه إذا قال اقتل أبي أو ابني فقتله فعليه القصاص في قول زفر رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله أستحسن أن يكون عليه الدية في ماله إذا كان هو الوارث.
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في قوله اقتل ابني كقول زفر وفي قوله اقتلني كقول أبي يوسف أنه لا شيء عليه وجه تلك الرواية أن الإذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء وبعد ما جرحه لو عفى عن الجناية ومات لم يجب شيء,

 

ج / 24 ص -81-       فكذلك إذا أذن في الابتداء وهذا لأن الحق في بدل نفسه له حتى يقضي منه ديونه فيسقط بإسقاطه كما في الطرف. وجه قول زفر أن بدل النفس إنما يجب بعد زهوق الروح والحق عند ذلك للوارث فإذنه في القتل صادف محلا هو حق الغير فكان لغوا وعليه القصاص بخلاف بدل الطرف فإن الحق له بعد تمام الفعل فيعتبر إسقاطه وهذا بخلاف العفو فإن العفو إسقاط بعد وجود السبب والإسقاط بعد وجود السبب وقبل الوجوب يصح فأما الإذن فلا يمكن أن يجعل إسقاطا لأن السبب لم يوجد بعد وباعتبار عينه الإذن لاقى حق الغير فلا يصح.
ووجه ظاهر الرواية أن إذنه في القتل باعتبار ابتدائه صادف حقه وباعتبار مآله صادف حق الوارث فلاعتبار الابتداء يمكن شبهة والقصاص يسقط بالشبهة ولاعتبار المال تجب عليه الدية في ماله ولهذا قال أبو يوسف في الآذن في قتل أبيه أو ابنه أنه باعتبار الابتداء لاقى حق الغير, وباعتبار المآل لاقى حقه فيصير المال شبهة في إسقاط القود ويجب عليه الدية.
ولو قطع يده بإذنه فمات منه لم يكن على القاطع ولا على الآمر في ذلك شيء لأن أصل الفعل صار هدرا فلو سرى إلى النفس كان كذلك كما لو قطع يد مرتد فأسلم ثم سرى إلى النفس, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تجب الدية هنا لأن القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا فإذا لم يتناوله الإذن فلا شك أنه يجب الضمان به وإن تناوله الإذن فهو بمنزلة قوله اقتلني فيكون موجبا للدية.
ولو أكرهه على أن يصنع به شيئا لا يخاف منه تلف من ضرب سوط أو نحوه ففعل ذلك به رجوت أن لا يأثم فيه لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بما يلحق الهم والحزن بغيره وقد رخص له الشرع في ذلك فإن المضطر يباح له أن يأخذ مال الغير فيتناوله بغير رضاه. فإن أبى عليه ذلك فمات منه كانت ديته على عاقلة المكره لأن فعل المكره صار منسوبا إلى المكره فكأنه فعل ذلك بنفسه وهذا بمنزلة الخطأ وهو يوجب الدية على عاقلته وهذا إذا لم يكن المقتول أذن له في ذلك فإن كان أذن له في ذلك طوعا فلا ضمان فيه على أحد لأن فعل الغير به بإذنه كفعله بنفسه.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال رجل فيرمي به في مهلكة فأذن له صاحبه فيه ففعله فلا شيء على واحد منهما لأن صاحب الحق أسقط حقه بالإذن له في الإتلاف طوعا. ولو كان أكره صاحب المال بوعيد تلف أيضا على أن أمره بذلك فإذنه مع الإكراه لغو والضمان على المكره لأن المكره آلة في ذلك الفعل والفعل صار منسوبا إلى المكره ولا ضمان على الفاعل إن علم أن صاحب المال مكره على الإذن أو لم يعلم لأنه بالإلجاء يصير كالآلة ولا يختلف ذلك باختلاف صاحب المال في الإذن طوعا أو كرها.
ولو كان الفاعل أكره على ذلك بحبس أو قيد لم يحل له أن يستهلك مالا لأن هذا من مظالم العباد فلا يرخص له في الإقدام عليه بدون الإلجاء وبالحبس والقيد لا يتحقق الإلجاء

 

ج / 24 ص -82-       إلا أن يأمره به صاحبه بغير إكراه فحينئذ لا شيء عليه من إثم ولا ضمان لأن صاحب المال صار باذلا ماله بالإذن والمال مبتذل وإنما كان ممنوعا من إتلافه لمراعاة حق صاحب المال. فإذا رضي به طوعا كان له الإقدام عليه والعبد والأمة فيما يأذن فيه مولاهما في جميع ما وصفنا بمنزلة الحر والحرة إلا في خصلة واحدة أن القاتل لا يغرم نفس المملوك إذا أذن المولى في قتله بغير إكراه لأن الحق في بدل نفسه له باعتبار الحال والمآل فيعتبر إذنه في إسقاط الضمان كما يعتبر إذن صاحب اليد في إسقاطه حقه في بدله عن القاطع والله أعلم بالصواب.

باب الإكراه على البيع ثم يبيعه المشتري من آخر أو يعتقه
 قال رحمه الله وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على بيع عبد له يساوي عشرة آلاف درهم من هذا الرجل بألف درهم ويدفعه إليه ويقبض الثمن ففعل ذلك وتقابضا والمشتري غير مكره فلما تفرقوا عن ذلك المجلس قال البائع قد أجزت البيع كان جائزا لأن الإكراه لا يمنع انعقاد أصل البيع فقد وجد ما به ينعقد البيع من الإيجاب والقبول من أهله في محل قابل له ولكن امتنع نفوذه لانعدام تمام الرضا بسبب الإكراه فإذا أجاز البيع غير مكره فقد تم رضاه به.
ولو أجاز بيعا باشره غيره نفذ بإجازته فإذا أجاز بيعا باشره هو كان أولى به ولأن بيع المكره فاسد والفساد بمعنى وراء ما يتم به العقد فبإجازته يزول المعنى المفسد وذلك موجب صحة البيع كالبيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد إذا أسقط من له الأجل أو الخيار ما شرط له قبل تقرره كان البيع جائزا، وكذلك لو لم يكن البائع قبض الثمن فقبضه من المشتري بعد ذلك كان هذا إجازة للبيع لوجود دليل الرضا منه بقبض الثمن طائعا فإنه قبضه لتملكه ملكا حلالا ولا يكون ذلك إلا بعد إجازة البيع ودليل الرضا كصريح الرضا وفي البيع بشرط الخيار للبائع إذا قبض البائع الثمن روايتان في إسقاط خيار البائع في إحدى الروايتين يسقط به خياره لوجود دليل الرضا منه بتمام البيع. وفي الرواية الأخرى لا يسقط خياره على ما ذكر في الزيادات وهو الأصح والفرق على تلك الرواية أن يقول هناك انعدام الرضا باعتبار خيار مشروط نصا وقبض الثمن لا ينافي شرط الخيار ابتداء فلا ينافي بقاءه بطريق الأولى وهنا الخيار ثبت حكما لانعدام الرضا بسبب الإكراه وبين قبض الثمن الذي هو دليل الرضا وبين الإكراه منافاة وبقبض الثمن طوعا ينعدم معنى الإكراه.
ويوضحه أن هناك العقد في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وبقبض الثمن لا يصير الشرط موجودا وهنا العقد في حق الحكم منعقد غير متعلق بالشرط ولكنه غير نافذ لانعدام الرضا وقبض الثمن دليل الرضا فيتم به البيع. ولو لم يفعل ذلك حتى أعتق المشتري العبد فعتقه جائز عندنا لأنه ملكه بالقبض وإنما أعتق ملك نفسه فإن قال المكره بعد ذلك قد أجزت البيع كانت إجازته باطلة لأن الإجازة إنما تعمل في حال بقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ابتداء وبعد العتق أو التدبير أو الاستيلاد لم يبق محلا لذلك فلا تصح إجازته، كما في

 

ج / 24 ص -83-       البيع الموقوف إذا أجازه المالك بعد هلاك المعقود عليه في يد المشتري ولأن الفساد قد تقرر حين وجب على المشتري قيمة العبد للبائع دينا في ذمته فإن ذلك حكم العقد الفاسد وبعد ما تقرر المفسد لا ينقلب العقد صحيحا ولأن العبد قد وجب للمشتري بالقيمة فبعد ما تقرر ملكه فيه بضمان القيمة وانتهى لا يمكن أن يجعل مملوكا له بالثمن.
ولو لم يقبض المشتري ولم يحدث فيه شيئا ولم يجز البائع البيع حتى التقيا فقال المشتري قد نقضت البيع فيما بيني وبينك وقال البائع لا أجيز نقضك وقد أجزت البيع فقد انتقض البيع لأن في البيع الفاسد قبل القبض كل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخه فإن فسخه لأجل الفساد مستحسن شرعا على كل واحد منهما وما يكون مستحقا عليه شرعا يتم بمباشرته فإذا انفسخ العقد بفسخ المشتري لا تلحقه الإجازة بعد ذلك من جهة البائع لأن الإجازة تلحق الموقوف لا المفسوخ.
والحاصل أن بيع المكره بمنزلة البيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد وهنا لكل واحد من المتعاقدين أن ينفرد بفسخه قبل القبض وبعد القبض من له الخيار أو الأجل الفاسد ينفرد بفسخه وصاحبه لا ينفرد بفسخه على ما فسره في آخر الباب لأن قبل القبض العقد ضعيف جدا وكل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخ العقد الضعيف. فأما بعد القبض فقد تأكد العقد بثبوت حكمه وانضمام ما يقويه إليه وهو القبض فالمنفرد به من ليس له خيار ولا أجل لأن رضاه بالعقد مطلقا قد تم وإنما ينفرد بفسخه من شرط الخيار والأجل له لأنه لا يتم منه الرضا بالعقد مطلقا فكذلك في مسألة الإكراه قبل القبض ينفرد كل واحد منهما بالفسخ وبعد القبض المكره ينفرد بالفسخ لانعدام الرضا من جهته والآخر لا ينفرد بفسخه ما لم يساعده المكره عليه أو يقض القاضي به وهذا بخلاف البيع بالخمر فهناك كل واحد منهما ينفرد بفسخه قبل القبض وبعده لأن المفسد هناك متمكن في صلب العقد ولهذا لا يحتمل التصحيح إلا بالاستقبال فلتمكن المفسد في صلب العقد كان ضعيفا قبل القبض وبعده فينفرد كل واحد منهما بفسخه والذي شرط الخمر لا إشكال أنه ينفرد بفسخه وصاحبه كذلك لأنه ما رضي بوجود بدل آخر عليه سوى المسمى فكان له أن ينفرد بفسخه. فأما في هذه الفصول فالمفسد غير متمكن في صلب العقد ولكنه لمعنى وراء ما يتم به العقد ولهذا أمكن تصحيحه بالإجازة فمن ليس في جانبه المعنى المفسد قد تم الرضا منه بملك المعقود عليه بالبدل المسمى وبإجازة صاحبه لا يثبت إلا ذلك فلهذا لا ينفرد بفسخه بعد تأكد العقد بالقبض.
ولو باعه المشتري من المكره من آخر وقد كان قبضه بتسليم البائع مكرها فالبائع على خياره إن شاء نقض البيع الأول والثاني وأخذ عبده وإن شاء أجاز البيع الأول لأن البيع الثاني في كونه محتملا للفسخ كالأول والبائع غير راض بواحد من البيعين فيكون متمكنا من استرداده وباسترداده ينفسخ البيعان جميعا كما لو اشترى عبدا بألف درهم حالة وقبضه

 

ج / 24 ص -84-       المشتري بغير أمر البائع فباعه كان جائزا لمصادفته ملكه وللبائع الأول أن يسترده لأنه غير راض بالعقد الثاني حين كان ممتنعا من تسليمه إلى المشتري فإذا استرده انتقض البيع الثاني. وكذلك في حق المكره بخلاف البيع الفاسد بشرط أجل أو خيار لمجهول فالمشتري هناك إذا باعه من غيره ونفذ بيعه لا يكون للبائع أن يسترده لأن البيع الثاني حصل برضا البائع الأول وتسليطه عليه فتسليمه المبيع إلى المشتري طائعا يكون تسليطا له على التصرف وهنا البيع الثاني كان بغير رضا المكره لأنه كان مكرها على التسليم فيتمكن من نقض البيعين واسترداد العبد. فإن أجاز البيع الأول فقد أسقط حقه في استرداد العبد فينفذ البيع الثاني لأنه حصل من المشتري في ملكه ويده كما لو قبض المبيع بغير إذن البائع وباعه ثم سلم البائع الأول للمشتري الأول فقبضه جاز البيع الثاني لهذا المعنى وكذلك في الفصلين يجوز كل بيع جرى فيه وإن تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض إذا نفذ البيع الأول بإجازة البائع كذلك البيع بقبض المشتري لأن كل واحد منهم باع ملكه بعد ما قبضه بحكم عقد صحيح إلا أنه كان للبائع الأول حق الفسخ فإذا سقط حقه بالإجازة نفذت البيوع كلها.
وكذلك في مسألة المكره لو تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض كان للمكره أن ينقض البيوع كلها ويأخذ عبده فإن سلم بيع من هذه البيوع الأول أو الثاني أو الآخر جازت البيوع كلها لأن تسليمه إسقاط منه لحقه في استرداد المبيع فأما البيع من كل مشتر فكان في ملكه لنفسه ولكن يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الفسخ وبالإجازة سقط حقه فتنفذ البيوع كلها كالراهن إذا باع المرهون وأجاز المرتهن البيع أو الآخر باع المستأجر فأجازه المستأجر بعد البيع من جهة المباشر والمجيز يكون مسقطا حقه في الفسخ إلا أن يكون مملكا بإجازته وإذا جازت البيوع كلها كان الثمن للمكره على المشتري الأول ولكل بائع الثمن على المشتري لأن العقد الأول نفذ بين المكره والمشتري الأول بهذه الإجازة فله أن يطالبه بالثمن وكل عقد بعد ذلك إنما نفذ بين البائع والمشتري منه فيكون الثمن له وهذا بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب وسلمه ثم باعه المشتري من غيره حتى تناسخته بيوع ثم أجاز المالك بيعا من تلك البيوع فإنه ينفذ ما أجازه خاصة لأن الغصب لا يزيل ملكه فكل بيع من هذه البيوع يوقف على إجازته لمصادفته ملكه فتكون إجازته لأحد البيوع تمليكا للعين من المشتري بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه.
وهنا المشتري من المكره كان مالكا فالبيع من كل مشتر صادف ملكه وإنما يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الاسترداد وعلى هذا لا يفترق الحال بين إجازة البيع الأول أو الآخر فلهذا نفذت البيوع كلها بإجازته عقدا منها فإن أعتقه المشتري الآخر قبل إجازة البائع وقد تناسخ العبد عشرة كان العتق جائزا من الذي أعتقه إن لم يقبضه لأن كل بائع صار مسلطا المشتري منه على إعتاقه بإيجابه البيع له مطلقا وصح هذا التسليط لأنه يملك الإعتاق بنفسه فيملك أن يسلط الغير عليه ويستوي إن الآخر قبضه أو لم يقبضه لأن شراءه من بائعه

 

ج / 24 ص -85-       صحيح وإن كان للمكره حق الفسخ بالاسترداد وفي الشراء الصحيح المشتري تملك المعقود عليه بنفس العقد وينفذ العتق فيه قبضه أو لم يقبضه بخلاف المشتري من المكره فإن شراءه فاسد لانعدام شرط الجواز وهو رضا البائع به فلا يكون مالكا قبل القبض فلهذا لا ينفذ عتقه فيه إلا بعد قبضه, فإذا سلم المكره بعد ذلك لم يجز تسليمه لما بينا أن حقه تقرر في ضمان القيمة فلا يتحول إلى ضمان الثمن وأن المحل بعد العتق لم يبق قابلا لحكم العقد ابتداء فلا تعمل إجازته أيضا وكان له أن يضمن قيمة عبده أيهم شاء لأن كل واحد منهم متعد في حقه بقبض العين على وجه التملك لنفسه بغير رضاه فله أن يضمن قيمته أيهم شاء وإن شاء ضمن المكره لأنه في التسليم كان مكرها من قبله بوعيد تلف فيصير الإتلاف الحاصل به منسوبا إلى المكره فله أن يضمنه قيمته.
فإن ضمن الذي أكرهه رجع بها على المشتري الأول لأنه قام مقام المكره في الرجوع عليه بعد ما ضمنه القيمة وقد بينا أن البيع لا ينفذ من جهة المكره حين ضمن القيمة لأنه ما قصد البيع من جهته فإذا رجع بالقيمة على المشتري الأول جازت البيوع كلها. وكذلك إن ضمن البائع المشتري الأول بريء الذي أكرهه وتمت البيوع الباقية كلها لأن الملك قد تقرر للمشتري الأول من حين قبضه وهو إنما باع ملك نفسه فينفذ بيعه وكذلك كل بائع بعده ولأنه في هذا لا يكون دون الغاصب والغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة ينفذ بيعه فهنا كذلك. فإن ضمنها أحد الباعة الباقين سلم كل بيع كان بعد ذلك البيع وبطل كل بيع كان قبل ذلك لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين وإن القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين ولو استرد العين منه بطل كل بيع كان قبله للاستحقاق فكذلك إذا استرد القيمة وجاز كل بيع كان بعده لأن الملك قد تقرر للضامن حين ضمن القيمة فتبين أنه باع ملك نفسه فيكون بيعه جائزا حتى إذا ضمن المشتري الآخر بطلت البيوع لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العبد ويرجع هو على بائعه بالثمن الذي أعطاه. وكذلك كل مشتر يرجع على بائعه حتى ينتهوا إلى البائع المكره لأن البيوع كلها قد انقضت وكل واحد منهم قبض الثمن بحكم بيعه فبعد الانتقاض يلزمه رده على من قبضه منه.
ولو أكره بوعيد تلف على أن يشتري من رجل عبدا له يساوي ألف درهم بعشرة آلاف درهم والبائع غير مكره فأكره على الشراء والقبض ودفع الثمن فلما قبضه المشتري أعتقه أو دبره أو كاتب أمة فوطئها أو قبلها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة وأقر بذلك أو قال قد رضيتها فهذا كله جائز عليه لأن البيع تام من جهة البائع وإنما امتنع لزومه في حق المشتري لانعدام الرضا منه بحكمه حين كان مكرها فإذا أجازه فقد تم رضاه به وكذلك دليل الإجازة منه كصريح الإجازة ومباشرته هذه التصرفات المختصة بالملك حالا أو منقودا دليل الرضا منه بالحكم وهو الملك فلهذا يتم به البيع وهو بمنزلة ما لو اشترى جارية على أنه بالخيار أبدا وقبضها فالبيع فاسد. فإن تصرف فيها بشيء من هذه التصرفات نفذ تصرفه وجاز البيع لأنه بتصرفه صار مسقطا لخياره مزيلا للمفسد وهو بمنزلة ما لو اشترى عبدا بألف درهم إلى

 

ج / 24 ص -86-       الحصاد أو الدياس فالبيع فاسد. فإن أبطل المشتري الأجل وأعطى الثمن حالا جاز شراؤه إلا أن في هذه المسألة بالإعتاق والوطء لا ينقلب العقد صحيحا لأن المفسد شرط الأجل ولم ينعدم ذلك بمباشرته هذه التصرفات وفي مسألة الخيار والإكراه المفسد انعدام الرضا منه بالحكم وهذه التصرفات منه دليل الرضا بالحكم وهو الملك فلهذا نفذ به البيع.
ولو كان أكره البائع ولم يكره المشتري فلم يقبض المشتري العبد حتى أعتقه كان عتقه باطلا لما بينا أن بيع المكره فاسد والبيع الفاسد لا يملك به إلا بعد القبض فإعتاقه قبل القبض لم يصادف ملكه. فإن أجازه البائع بعد عتق المشتري جاز البيع لبقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ولم يجز ذلك العتق الذي كان من المشتري لأنه سبق ملكه فلا ينفذ لحدوث الملك له في المحل كمن أعتق عبد الغير ثم اشتراه ولو أعتقا جميعا العبد جاز عتق البائع لأنه صادف ملكه وانتقض به البيع لأنه فوت بإعتاقه محل البيع وهو نظير ما لو كان البائع بالخيار في البيع ثلاثة أيام فأعتقه هو والمشتري جاز عتق البائع وبطل عتق المشتري.
ولو كان المشتري قبضه ثم أعتقاه جميعا عتق العبد من المشتري لأن البيع فاسد والمشتري بالقبض صار مالكا فعتقه صادف ملكه وعتق البائع صادف ملك الغير فلهذا نفذ العتق من المشتري دون البائع. ولو كانا مكرهين جميعا على العقد والتقابض ففعلا ذلك فقال أحدهما بعد ذلك قد أجزت البيع كان البيع جائزا من قبله وبقي الآخر على حاله لأن الذي أجاز صار راضيا به فكأنه كان في الابتداء راضيا وذلك يوجب نفوذ البيع من قبله لا من قبل صاحبه المكره وهو نظير ما لو شرط في البيع الخيار ثم أسقط أحدهما خياره نفذ العقد من جهته وكان الآخر على خياره. فإن أجازا جميعا بغير إكراه جاز البيع لوجود تمام الرضى بينهما بالبيع ولو لم يجيزا حتى أعتق المشتري العبد جاز عتقه لأنه ملكه بالقبض مع فساد العقد فكان ضامنا لقيمته فإن أجاز الآخر بعد ذلك لم يلتفت إلى إجازته لتقرر ضمان القيمة على المشتري وفوات محل حكم العقد ابتداء. وإن لم يتقابضا فأجاز أحدهما البيع بغير إكراه فالبيع فاسد على حاله لأن بقاء الإكراه في جانب صاحبه كاف لفساد البيع فإن أعتقاه جميعا معا وقد أجاز أحدهما البيع، فإن كان العبد غير مقبوض فعتق البائع فيه جائز وعتق المشتري باطل لأنه قبل القبض باق على ملك البايع لفساد البيع فإعتاقه صادف ملكه.
وإن أعتقه أحدهما ثم أعتقه الآخر فإن كان البائع هو الذي أجاز البيع وقد أعتقه المشتري قبله فهذا إجازة منهما للبيع لأن إقدام المشتري على الإعتاق رضا منه بحكم البيع وذلك يوجب نفوذ العتق من قبله وإنما يوقف نفوذه لعدم الرضى من البائع فإذا أجاز البيع ثم بتراضيهما والثمن المسمى للبائع على المشتري والعتق لا ينفذ من المشتري لأنه سبق ملكه وإن كان البائع أعتق أولا فهو بإعتاقه قد نقض البيع ونفذ العتق من قبله فلا يعمل فيه إجازة واحد منهما ولا إعتاق المشتري بعد ذلك. وإن كان الذي أجازه أول مرة من المشتري ولم يجزه البائع فعتق البائع جائز فيه وقد انتقض البيع به إن أعتقه قبل المشتري أو بعده لأنه باق

 

ج / 24 ص -87-       على ملك البائع بعد إجازة المشتري فإعتاق البائع يصادف ملكه فينفذ وينتقض به البيع, وإنما مثل هذا مثل رجل اشترى عبدا بألف درهم على أن المشتري بالخيار أبدا فلم يقبضه حتى أعتقاه فعتق البائع جائز, لأن شرط الخيار بهذه الصفة يفسد البيع, وفي البيع الفاسد المبيع على ملك البائع قبل تسليمه إلى المشتري فينفذ عتقه فيه, وكذلك لو سبق البائع بالمعتق.
فإن أعتقه المشتري أولا فالقياس فيه أن عتقه باطال لأن البيع فاسد, فلا يملكه المشتري بالبيع, لأن الخيار الفاسد لا يكون أقوى من الخيار الصحيح.
ولو كان المشتري شرط لنفسه خيار ثلاثة أيام ثم أعتقه كان إعتاقه إسقاطا منه الخيار, وبإسقاط الخيار يزول المعنى الفاسد, وهذا الفاسد لانعدام الرضا منه بحكم البيع, وإقدامه على العتق يتضمن الرضا منه بالحكم وهو المالك, فيقدم الرضى وثبوت الملك له هلى العتق لتنفيذ العتق كما قصده, فإن من قصد تنفيذه تصرف في محل لا يمكنه ذلك إلا باعتبار بتقدسيم ضرط في محل بعدم ذلك ليصح, كمن يقول لغيره: أعتق عبدك عني على ألف درهم فيقول: قد أعتقت, أو يقول أعتقت عبدي عبك على ألف درهم, وقال الآخر قد رضيت عتق العبد عن المعتق عنه ووقع العتق والملك معا برضاه بذلك أو تقدم في المحل على العتق فكذلك فيما سبق.
ولو كان المشتري قبض العبد في للإكراه وفثي الخيار الفاسد ثم أجاز أجاز أحدهما البيع في الإكراه لم يجز عتق البائع فيه على حال, لأن ملك البائع زال بتسليمه إلى المشتري ويكون البيع مطلقا من جهته, وجاز عتق المشتري فيه لمصادفته ملكه, فإن كان الذي أجاز البيع في الإكراه البائع جاز العتق والبيع بالثمن لأن المشتري بالإعتبار صار مجيزاو وإن كان الذي أجاز البيع المشتري جاز عتقه وغرم القيمة للبائع, لأن البيع فاسد لإنعدام الرضى من البائع به, فإن كان قبض منه الثمن حاسبه به وأعطاه فضلا إن كان له.
ولو أن المشتري أكره على الشراء والقبض ودفع الثمن ولم يكره البائع على ذلك وتقابضل ثم التقيا فقال البائع: قد تقضت البيع لم يلتفت إلي قوله, وكان ذلك إلى المشتري, وما بعد هذا إلى آخر الباب مبني على ما قررنا في أول الباب أن بعد القبض أنما ينفرد بالفسخ من كان مكرها منهما دون صا حبه الذي لم يكن مكرها, وقبل القبض كل واحدة منهما متمكن من القبض بعد صحة النقض عاد إلى ملك البائع, فلا ينفذ عتق المشتري فيع بعد ذلك, لأن ملك البائع مضمون في يده كالمغضوب, وينفذ عتق البائع فيه لمصادفته ملكهه.

باب الإكراه على ما يجب به عتق أو طلاق
 قال رحمه الله وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يشتري من رجل عبدا بعشرة آلاف درهم وقيمته ألف وعلى دفع الثمن وقبض العبد وقد كان المشتري حلف أن كل عبد يملكه فيما يستقبل فهو حر أو حلف على ذلك العبد بعينه فقد عتق العبد لأنه ملكه بالقبض بعد

 

ج / 24 ص -88-       الشراء لما بينا أن شراء المكره فاسد وبالملك يتم شرط العتق فاسدا كان السبب أو صحيحا والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه أعتقه بعد ما قبضه فيعتق وعلى المشتري قيمته للبائع ولا يرجع على المكره بشيء لأنه ألزمه بالإكراه على الشراء والقبض مقدار القيمة وقد أدخل في ملكه بمقابلة ما يعد له ثم دخل في ملكه تلف بالعتق ولم يوجد من المكره إكراه على هذا الإتلاف لأن الملك شرط العتق فأما السبب وهو الثمن السابق فلأن كلمة الإعتاق وهي قوله أنت حر, وجدت في اليمين دون الشرط وإنما يحال بالإتلاف على السبب دون الشرط وهو ما كان مكرها عليه من جهة أحد.
ألا ترى أنه لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر فشهد شاهدان أنه قد دخلها وقضى القاضي بالعتق ثم رجعا لم يضمنا شيئا.
 وفي قياس قول زفر رحمه الله يجب الضمان على المكره لأنه يقول الحكم مضافا إلى الشرط وجودا عندي ولهذا أوجب الضمان على شهود الشرط فكذا في الإكراه يوجب الضمان على المكره على الشرط لحصول تلف المالية عنده. ولكنا نقول المكره إنما يضمن إذا صار الإتلاف منسوبا إليه ولا يكون ذلك إلا بالإكراه على ما يحصل به التلف بعينه وكذا لو أكرهه على شراء ذي رحم محرم منه وعلى قبضه بأكثر من قيمته فاشتراه وقبضه عتق عليه لأنه ملكه ومن ملك ذا رحم محرم منه فهو حر وعليه قيمته لأن الشراء فاسد وقد تعذر رد المشتري لنفوذ العتق فيه فيلزمه قيمته ويبطل عنه ما زاد على قدر القيمة من الثمن لأنه التزمه مكرها والتزام المال مع الإكراه لا يصح ولا يرجع على المكره بشيء لأنه عتق بقرابته ولم يوجد من المكره إكراه على تحصيل السبب الذي به حصل العتق, فإن قيل لا كذلك فالملك هنا متمم عليه العتق لأن القريب إنما يعتق على القريب بالقرابة والملك جميعا والحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين يحال به على آخر الوصفين وجودا ولهذا لو اشترى قريبه ناويا عن كفارته جاز لأن بالشراء يصير معتقا متمما لعلة العتق فهنا المكره يكون متمما عليه العتق فيضمن قيمته كما لو كان أكرهه على الإعتاق بعينه. قلنا نعم الملك متمم عليه العتق ولكن بين المشتري والعبد لأن القرابة وجدت في حقهما فأما في حق المكره فالشراء ليس بمتمم عليه العتق لأن أحد الوصفين وهو القرابة غير موجود في جانب المكره إذ لا صنع له في ذلك أصلا والإضافة إليه باعتبار صنعه فإذا انعدم ذلك الوصف في حقه لم يكن الشراء إتلافا في حقه وما لم يصر الإتلاف منسوبا إليه لا يجب الضمان عليه فأما في الكفارة فالشراء متمم للعلة في حق المشتري والقريب فيصير به معتقا. والثاني أن عتق القريب بطريق المجازاة مستحق عليه عند دخوله في ملكه إلا أنه إذا نوى به الكفارة وقع عما نوى ولم يكن مجازاة للقرابة فتتأدى به الكفارة فأما هنا فالمكره ما نوى شيئا آخر سوى المجازاة لأنه إذا نوى شيئا آخر يصير طائعا والمكره إنما أكرهه على المجازاة فيكون هذا إكراها على إقامة ما هو مستحق عليه وذلك لا يوجب الضمان على المكره كما لو أكرهه على أن يؤدي زكاة ماله أو يكفر

 

ج / 24 ص -89-       يمينه وكذلك لو أكرهه على شراء أمة قد ولدت منه أو أمة مدبرة إن ملكها لأن التدبير والاستيلاد إنما يحصل عند وجود الشرط بالسبب المتقدم وهو لم يكن مكرها على ذلك السبب وثبوت حق العتق بها عند وجود الشرط لا يكون أقوى من ثبوت حقيقة الحرية.
وقد بينا أن الإكراه على إيجاد الشرط في حقيقة الحرية لا يوجب الضمان على المكره فكذلك في حق الحرية واستوضح بفصل الشهادة إذا شهد شاهدان على رجل أنه اشترى هذا العبد بألف درهم هي قيمته والبائع يدعي البيع وقد كان المشتري قال إن ملكته فهو حر فقضى القاضي بذلك وأعتقه ثم رجعا فلا ضمان عليهما لأنه إنما أعتقه بقوله فهو حر لا بشرائه والشهود ما أثبتوا تلك الكلمة بشهادتهم.
وكذلك لو قال عبده حر إن دخل هذه الدار فأكرهه بوعيد تلف حتى دخل فإنه يعتق لأنه هو الداخل بنفسه وإن كان مكرها بخلاف ما إذا حمل فأدخل لأنه الآن مدخل لا داخل فلا يصير الشرط به موجودا إلا أن يكون قال إن صرت في هذه الدار فعبدي هذا حر فحمله المكره حتى أدخله الدار وهو لا يملك من نفسه شيئا فإنه يعتق لوجود الشرط, ولا ضمان على المكره في الوجهين لأن العتق إنما حصل بقوله هو حر لا بحصوله في الدار فإن الحرية من موجبات قوله هو حر لا من موجبات دخول الدار فالإتلاف الحاصل به لا يكون مضافا إلى من أدخله الدار, ولذلك لو قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فأكره على تزوجها بمهر مثلها طلقت ولزمه نصف الصداق لها بسبب الطلاق قبل الدخول ولم يرجع على المكره بشيء لأنه ما أكرهه على الطلاق إنما أكرهه على التزوج وقد دخل في ملكه بالتزوج ما يعادل ما لزمه من المهر لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم.
قال ألا ترى أنه لو قال لامرأته ولم يدخل بها إن شجني اليوم أحد فأنت طالق أو قال ذلك لعبده فشج أن العبد يعتق والمرأة تطلق وعلى الشاج أرش الشجة وليس عليه من قيمة العبد ولا من نصف الصداق شيء للمعنى الذي قلنا وزفر رحمه الله في الكل مخالف ولكن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام.
 ولو أكره بوعيد تلف حتى يحصل عتق عبده في يد هذا الرجل أو طلاق امرأته ولم يدخل بها ففعله فطلق ذلك الرجل المرأة أو أعتق العبد وقع الطلاق والعتاق لأن الإكراه لا يمنع صحة الإعتاق والطلاق فكذلك لا يمنع صحة التسليم بها عليه وصحة تمليكه من غيره تجعله في يده.
ألا ترى أن الإكراه في هذا كشرط الخيار وشرط الخيار كما لا يؤثر في الإعتاق لا يؤثر في تفويض العتق إلى الغير ثم القياس فيه أن لا يغرم المكره شيئا لأنه ما أكرهه على السبب المتلف فإن السبب قول المجعول إليه للعبد أنت حر وللمرأة أنت طالق إلا أنه يشترط لحصول التلف بهذا تقدم التفويض من المالك فالمكره على ذلك التفويض بمنزلة المكره على شرط العتق والدليل عليه فصل الشهادة. فإن شاهدين لو شهدا على رجل أنه جعل أمر عبده

 

ج / 24 ص -90-       في العتق في يد فلان أو أمر امرأته في الطلاق ثم أعتق فلان العبد وطلق المرأة ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا شيئا فلما جعل التفويض بمنزلة الشرط في حكم الشهادة فكذلك في حكم الإكراه. ولكنه استحسن فقال على المكره ضمان قيمة العبد ونصف المهر الذي غرم لامرأته لأن هذا إكراه على الأمر بالعتق بعينه أو بالطلاق بعينه فيصير به متلفا عند وجود الإيقاع من المفوض إليه.
ألا ترى أنه لو أكرهه على أن يجعل ذلك في يد المكره ففعل ذلك وأوقعه كان ضامنا ولا يكون ضامنا بإيقاعه إنما يكون ضامنا بإكراهه على جعل ذلك في يده. والأخذ بالقياس في هذا الفصل قبيح لأنه لو أكرهه على إعتاقه كان المكره متلفا فإذا أكرهه على جعل العتق في يد المكره فأعتقه المكره كان أولى أن يكون متلفا والفرق بين الإكراه والشهادة من حيث إن المكره مضار متعنت فيتعدى الإكراه إلى ما يتحقق فيه الضرر والشاهد محتسب في أداء الأمانة فلا تتعدى شهادته عما شهد به إلى غيره.
 ألا ترى أن الإكراه على الهبة يجعل إكراها على التسليم لأن الضرر به يتحقق والشهادة على الهبة لا تكون شهادة على التسليم؟.
يوضحه أن الشاهد مخبر عن تفويض قد كان منه والإيقاع من المفوض إليه ليس من جنس الخبر بل هو إنشاء فلا يصح أن يكون متمما لما ثبت بإخبار الشاهد فأما المكره فإنما ألجأه إلى إنشاء التفويض فيمكن جعل إيقاع المفوض إليه متمما لما أكرهه المكره عليه حتى يصير هو متلفا وفي الكتاب استشهد لإيضاح هذا الفرق فقال:
ألا ترى أن شهود الإحصان إذا رجعوا بعد الرجم وقالوا شهدنا بالباطل ونحن نعلم أنه باطل لم يكن عليهما غرم ولو لم يشهدوا بالإحصان وقال القاضي علمت أنه غير محصن وأنه لا رجم ولكني أرجمه وأكره الناس حتى رجموه كان ضامنا وبهذا تبين الفرق بين الشهادة والإكراه.
ثم في هذه المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله الإشكال أن القاضي يضمن الدية لأنه لا يرى القود في القتل رجما على من باشره فكذلك على من أكره عليه وكذلك عند أبي يوسف رحمه الله لأنه لا يرى القود على المكره إذا أكره على القتل بالسيف فبالحجارة أولى فإن عند محمد رحمه الله في القياس يجب القصاص على القاضي لأنه يوجب القود على المكره والقتل بالحجر عنده كالقتل بالسيف في حكم القصاص وهذا قتل بغير حق فكان موجبا للقصاص عليه ولكنه استحسن فجعل عليه الدية في ماله للشبهة التي دخلت من حيث إن السبب المبيح لدمه موجود وهو الزنى فإن عند ظهور إحصانه إنما يرجم لزناه لا لإحصانه فيصير هذا السبب شبهة في إسقاط القود عن القاضي ولأن بعض الرجم قائم مقام إقامة الحد المستحق عليه.
 ألا ترى أنه بعد ما رجمه القاضي بعض الرجم لو بدا له في ذلك لم يكن له أن يقيم عليه

 

ج / 24 ص -91-       الحد فيصير ذلك شبهة في إسقاط القود عن القاضي وتلزمه الدية في ماله لأن المال ثبت مع الشبهات.
ولو أكره على أن يجعل كل مملوك يملكه فيما يستقبل حرا ففعل ثم ملك مملوكا بوجه من الوجوه عتق ولا ضمان على المكره فيه لأن العتق إنما حصل باعتبار صنع من جهته وهو مختار فيه وهو قبول الشراء والهبة أو الصدقة أو الوصية وذلك منه دليل الرضا بالعتق فيكون مانعا من وجوب الضمان على المكره وإن ورث مملوكا فالقياس فيه أن لا يضمن المكره شيئا لأنه أكرهه على اليمين واليمين تصرف لا يحصل الإتلاف به.
ألا ترى أن العتق لا يحصل إلا بعد انحلال اليمين بوجود الشرط فلم يكن الإكراه على اليمين أو تعلق العتق بالملك إكراها على ما يحصل به التلف بعينه. ولكنه استحسن فقال المكره ضامن قيمة المملوك الذي ورثه لأن الميراث يدخل في ملكه شاء أو أبى بغير اختيار ولا يرتد برده وعند وجود الشرط إنما ينزل العتق بتكلمه بكلام العتق وقد كان مكرها على ذلك فإذا لم يوجد منه ما يدل على الرضا بعد ذلك كان المكره ضامنا.
 ألا ترى أنه لو أكرهه على أن يقول كل مملوك أرثه فهو حر فقال ذلك ثم ورث مملوكا يعتق ويصح أن يقال لا يضمن المكره هنا لأن بذلك الإكراه قصد إتلاف هذا الملك عليه ولا بد من إيجاب الضمان عليه فكذلك فيما سبق.
ولو أكرهه في هذا كله بحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الإتلاف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا النوع من الإكراه ولو أكرهه على أن قال لعبده إن شئت فأنت حر فشاء العبد عتق وغرم المكره قيمته لأنه عند مشيئته عتق بقوله أنت حر وقد كان مكرها على ذلك القول ولم يوجد منه بعد ذلك ما يدل على الرضا به وكذلك لو أكرهه على أن قال له إن دخلت الدار فأنت حر ثم دخلها العبد لأنه لم يوجد من المولى ما يدل على الرضا بذلك العتق.
فإن قيل لا كذلك فقد كان يمكنه أن يخرج العبد من ملكه قبل أن يدخل الدار وإن شاء العتق يبيعه من غيره فإذا لم يفعل صار باستدامة الملك فيه راضيا بذلك العتق.
قلنا لا كذلك فالبيع لا يتم به وحده إنما يتم به وبالمشتري وربما لا يجد في تلك الساعة مشتريا يشتريه منه فلا يصير هو بهذا الطريق راضيا.
ولو كان أكرهه على أن قال لعبده إن صليت فأنت حر أو إن أكلت أو شربت فأنت حر ثم صنع ذلك فإن العبد يعتق ويغرم المكره قيمته وكذلك كل فريضة لا يجد المكره بدا من أن يفعل ذلك لأنه بمباشرة ذلك الفعل لا يصير راضيا بالعتق فإنه يخاف التلف بالامتناع من الأكل والشرب ويخاف العقوبة بترك الفريضة فيكون هو مضطرا في الإتيان بذلك الفعل والمضطر لا يكون راضيا وهو نظير المريض إذا قال لامرأته إن أكلت أو صليت الظهر فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك كان الزوج فارا بهذا المعنى ولو قال له فلان إن تقاضيت ديني الذي على فلان أو أكلت طعام كذا لطعام خاص بعينه أو دخلت دار فلان فأنت حر ففعل ذلك ثم

 

ج / 24 ص -92-       فعل الذي حلف عليه عتق العبد ولم يغرم المكره شيئا لأنه كان يجد من ذلك الفعل بدا فبالإقدام عليه يصير راضيا بالعتق ويخرج الإتلاف به من أن يكون منسوبا إلى المكره. وقد قال في الطلاق إذا قال المريض لامرأته إن تقاضيت دينك الذي على فلان فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك يصير الزوج فارا والفرق بين الفصلين أن المعتبر هنا انعدام الرضا من المرأة بالفرقة ليصير الزوج فارا لا الإلجاء.
ألا ترى أنه لو أكرهها بالحبس حتى سألته الطلاق كان الزوج فارا لأن الرضا ينعدم بالإكراه بالحبس فكذلك الرضا ينعدم منها إذا كانت تخاف هلاك دينها على فلان بترك التقاضي فأما في هذا الموضع فالمعتبر هو الإلجاء والضرورة لإيجاب الضمان على المكره لا انعدام الرضا من المكره.
ألا ترى أنه لو أكره بحبس أو قيد على أن يعتق عبده لم يضمن المكره شيئا وإنما يتحقق الإلجاء عند خوف التلف على نفسه أو خوف العقوبة بترك الفريضة فأما خوفه على الدين الذي له على فلان فلا يوجب الضرورة والإلجاء فلهذا لا يضمن المكره شيئا.
ولو أن رجلا قتل عبده قتلا خطأ فاختصموا فيه إلى القاضي فأكره القاضي المولى على عتق عبده بوعيد تلف فأعتقه وهو عالم بالجناية فلا ضمان على المولى لأنه بالإلجاء خرج من أن يكون مختارا للدية أو مستهلكا للعبد وإنما الضمان على الذي أكرهه لأن تلف العبد منسوب إليه فيغرم قيمته فيأخذها المولى منه لأنه بدل ملكه ثم يدفعها إلى ولي الجناية لأن الرقبة كانت مستحقة لولي الجناية وقد فاتت وأخلفت بدلا.
ولو كان الإكراه بحبس أو قيد لم يضمن المكره شيئا لأن التلف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا التهديد ويغرم المولى قيمة العبد لأصحاب الجناية ولا يلزمه أكثر منها لأنه بالإكراه بالحبس ينعدم الرضا فيخرج به من أن يكون مختارا للفداء ملتزما للدية ولكنه يكون مستهلكا للرقبة فيغرم قيمته بمنزلة ما لو أعتقه وهو لا يعلم بالجناية. ولو كان المولى أكره بوعيد تلف حتى قتل عبده عمدا كان للمولى أن يقتل الذي أكرهه لأن القتل صار منسوبا إلى المكره فصار المكره آلة له بالإلجاء فيجب القصاص عليه ويكون استيفاء القصاص إلى المولى لأنه عوض عن العبد وهو ملكه فباعتبار الملك يخلفه في عوض نفسه خلافة الوارث المورث ويبطل حق أصحاب الجناية لفوات محل حقهم فالقصاص الواجب غير صالح لإيفاء حقهم منه.
وإن كان إكراهه بحبس أو قيد فلا شيء على المكره وعلى المولى قيمته لأصحاب الجناية لأنه مستهلك للعبد فإنه لم يصر ملجأ بالإكراه بالحبس فكان الفعل مقصورا عليه ولكنه لم يصر مختارا للفداء لانعدام الرضا منه بالتزام الدية لأجل الإكراه بالحبس فيلزمه قيمته للاستهلاك كما لو قتله وهو لا يعلم بالجناية والله أعلم بالصواب

 

ج / 24 ص -93-       باب الإكراه على النذر واليمين
قال رحمه الله ولو أكره بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو حجا أو عمرة أو غزوة في سبيل الله أو بدنة أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى لزمه ذلك وكذلك لو أكرهه على اليمين بشيء من ذلك أو بغيره من الطاعات أو المعاصي والأصل فيه حديث حذيفة رضي الله عنه أن المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حلف مكرها ثم أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:
"أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم"
وقد بينا أن اليمين بمنزلة الطلاق والعتاق في أن الهزل والجد فيه سواء وهذا لأن فيه منع نفسه عن شيء وإيجاب شيء على نفسه لحق الله تعالى فيكون في معنى الطلاق والعتاق الذي يتضمن تحريم الفرج حقا لله تعالى فيستوي فيه الكره والطوع والنذر بمنزلة اليمين في هذا المعنى وقال عليه الصلاة والسلام "النذر يمين" ولا ضمان على المكره في شيء من ذلك لأن التزامه لا يصير منسوبا إلى المكره وإنما ينسب إليه التلف الحاصل به ولا يتلف عليه شيء بهذا الالتزام ثم المكره إنما ألزمه شيئا يؤثر الوفاء به فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبر عليه في الحكم فلو ضمن له شيئا كان يجبر على إيفاء ما ضمن في الحكم فيؤدي إلى أن يلزمه أكثر مما يلزم المكره وهذا لا يجوز.
ولو كان أكرهه على أن يظاهر من امرأته كان مظاهرا لأن الظهار من أسباب التحريم ثم يستوي فيه الجد والهزل وقد كان طلاقا في الجاهلية فأوجب الشرع به حرمة مؤقتة بالكفارة فكما أن الإكراه لا يؤثر في الطلاق فكذلك في الظهار. فإن أكرهه على أن يكفر ففعل لم يرجع بذلك على الذي أكرهه لأنه أمره بالخروج عن حق لزمه وذلك منه حسنة لا إتلاف شيء عليه بغير حق وإن أكرهه على عتق عبد بعينه عن ظهار ففعل عتق وعلى المكره قيمته لأنه صار متلفا عليه مالية العبد بإكراهه على إبطاله، ولو لم يكن عتق هذا العبد بعينه مستحق عليه بل المستحق كان واجبا في ذمته يؤمر بالخروج عنه فيما بينه وبين ربه وذلك في حكم العين كالمعدوم فلهذا ضمن المكره قيمته بخلاف الأول لأن هناك أمره بالخروج عما في ذمته من غير أن يقصد إبطال ملكه في شيء من أعيان ماله ثم لا يجزيه عن الكفارة هنا لأنه في معنى عتق بعوض ولو استحق العوض على العبد بالشرط لم يجز عن الكفارة فكذلك إذا استحق العوض على المكره.
فإن قال أنا أبرئه من القيمة حتى يجزيني من الكفارة لم يجز ذلك لأن العتق نفد غير مجزى ء عن الكفارة والموجود بعده إبراء عن الدين وبالإبراء لا تتأدى الكفارة وإن قال أعتقته حين أكرهني وأردت به كفارة الظهار ولم أعتقه لإكراهه أجزأه عن كفارة الظهار ولم يكن له على المكره شيء لأنه أقر أنه كان طائعا في تصرفه قاصدا إلى إسقاط الواجب عن ذمته وإقراره حجة عليه. وإن قال أردت العتق عن الظهار كما أمرني ولم يخطر ببالي غير

 

ج / 24 ص -94-       ذلك لم يجزه عن كفارة الظهار وله على المكره القيمة لأنه أجاب المكره إلى ما أكرهه عليه وهو العتق عن الظهار فلا يخرج به من أن يكون مكرها فإذا كان مكرها كان التلف منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فإن هناك لو أقر أنه لم يعتقه لإكراهه بل لاختياره إسقاط الواجب عن ذمته به طوعا. وإن كان أكرهه بحبس أو قيد فلا ضمان على المكره لانعدام الإلجاء وجاز عن كفارته لأن العتق حصل بغير عوض واقترنت به نية الظهار.
ولو أكرهه بوعيد تلف حتى آلى من امرأته فهو مول لأن الإيلاء طلاق مؤجل أو هو يمين في الحال والإكراه لا يمنع كل واحد منهما فإن تركها أربعة أشهر فبانت منه ولم يكن دخل بها وجب عليه نصف المهر ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان متمكنا من أن يقربها في المدة فإذا لم يفعل فهو كالراضي بما لزمه من نصف الصداق. وإن قربها كانت عليه الكفارة ولم يرجع على المكره بشيء لأنه ما جرى على سنن إكراهه فإنه بالإكراه منعه من القربان وقد أتى بضده ولأنه لزمه كفارة يعني بها فلا يرجع عليه بضمان يحبس به.
 ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فهي طالق ثلاثا ولم يدخل بها فقربها فطلقت ولزمه مهرها لم يرجع على المكره بشيء لأنه خالف ما أكرهه عليه ولأن المهر لزمه بالدخول فإنما أتلف عليه بإكراهه ملك النكاح وذلك ليس بمتقوم فلا يضمن المكره له قيمته. وإن لم يقربها حتى بانت بمضي أربعة أشهر فعليه نصف الصداق ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان يقدر على أن يجامعها فيجب المهر بجماعه إياها لا بما ألجأه إليه المكره وأكثر ما فيه أنه بمنزلة الإكراه على الجماع وذلك لا يوجب الضمان على المكره. وكذلك لو أكرهه على أن يقول إن قربتها فعبدي هذا حر فإن قربها عتق عبده ولا ضمان على المكره لأنه ما جرى على سنن إكراهه. وإن تركها فبانت بالإيلاء قبل الدخول غرم نصف الصداق ولا يرجع على المكره بشيء لأنه كان يقدر على أن يبيع عبده في الأربعة الأشهر ثم يقربها فيسقط الإيلاء ولا يلزمه شيء. فإن قبل البيع لا يتم به وحده وإنما يتم به وبالمشتري وقد بينا قبل هذا أن تمكنه من البيع غير معتبر في إزالة معنى الإكراه. قلنا هناك كان الوقت ضيقا لأن العبد يعتق بدخول الدار وبمشيئة العتق ولا يتفق وجود مشتر في ذلك القدر من المدة وهنا الوقت أربعة أشهر والظاهر أنه في هذه المدة يجد مشتريا يرغب في شراء العبد منه. وإن كان مدبرا لا يقدر على بيعه وإن كانت جارية هي أم ولد فإن قرب المرأة عتق هذا ولا ضمان على الذي أكرهه لأنه خالف ما أكرهه عليه.
وإن تركها حتى بانت بالإيلاء وقد دخل بها لم يرجع على الذي أكرهه أيضا بشيء لأنه أتلف عليه النكاح وإن لم يكن دخل بها لزمه نصف المهر. وفي القياس لا يرجع على المكره بشيء لأنه كان متمكنا من قربانها في المدة ليسقط به الإيلاء فإذا لم يفعل كان في معنى ما لزمه من نصف المهر. وفي الاستحسان يرجع على المكره بالأقل من نصف الصداق ومن قيمة الذي استحلفه على عتقه لأنه ملجأ في التزام الأقل فإنه إما أن يدخل بها فيبطل ملكه

 

ج / 24 ص -95-       عن المدبر أو لا يدخل بها فيلزمه نصف المهر بوقوع الطلاق قبل الدخول فكان ملجأ مضطرا في أقلهما والمكره هو الذي ألجأه إلى ذلك فلهذا رجع عليه بالأقل وجمع في السؤال بين المدبر وأم الولد. وقيل في أم الولد الجواب قولهما فأما عند تحقيقه فلا يرجع بشيء لأن رق أم الولد عنده فليس بمال متقوم وإنما له عليها ملك المتعة بمنزلة ملك النكاح وذلك لا يكون مضمونا على المكره بالإتلاف.
ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فمالي صدقة في المساكين فتركها أربعة أشهر فبانت ولم يدخل بها أو قربها في الأربعة الأشهر فلزمته الصدقة لم يرجع على المكره بشيء لأنه إن قر بها فقد خالف ما أمر به المكره. وإن لم يقربها فقد كان هو متمكنا من أن يقربها في المدة ويلزمه بالقربان صدقة فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبره السلطان عليها ولهذا لا يرجع على المكره بشيء وهو في المعنى نظير ما لو أكرهه على النذر بصدقة ماله في المساكين والله أعلم.

باب إكراه الخوارج المتأولين
 قال رحمه الله وإن غلب قوم من الخوارج المتأولين على أرض وجرى فيها حكمهم ثم أكرهوا رجلا على شيء مما وصفنا في إكراه اللصوص أو إكراه قوم من المشركين رجلا على شيء مما ذكرنا في إكراه اللصوص فهذا في حق المكره فيما يسعه الإقدام عليها أو لا يسعه بمنزلة إكراه اللصوص لأن الإلجاء تحقق بخوف التلف على نفسه وذلك عند قدرة المكره على إيقاع ما هدده به سواء كان من اللصوص أو من المشركين أو من الخوارج فأما ما يضمن فيه اللصوص أو يلزمهم به القود في جميع ما ذكرنا فإنه لا يجب شيء من ذلك على أهل الحرب ولا على الخوارج المتأولين كما لو باشروا الإتلاف بأيديهم وهذا لأن أهل الحرب غير ملتزمين لأحكام الإسلام وإذا انضمت المنعة بالتأويل في حق الخوارج كانوا بمنزلة أهل الحرب في سقوط الضمان عنهم فيما أتلفوا من الدماء والأموال للحديث الذي جاء أن الفتنة وقعت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متوافرين واتفقوا أنه لا قود في دم استحل بتأويل القرآن ولا حد في فرج استحل بتأويل القرآن ولا ضمان في مال استحل بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد إلى أهله وقد تقدم بيان هذا في السير.
ولو أن المتأولين الشاهدين علينا بالشرك المستحلين لما لنا اقتسموه وأخذوا جوار من جوارينا فاقتسموهن فيما بينهم كما تقسم الغنيمة واستولدوهن ثم تابوا أو ظهر عليهم ردت الجواري إلى مواليهن لأنهم لم يتملكوهن إما لانعدام تمام الإحراز فتمامه بالإحراز بدار تخالف دار المستولى عليه أو لبقاء إحراز الملاك لبقاء الجواري في دار الإسلام ولا حد على الواطى ء منهن ولا عقر لأن المستوفي بالوطء في حكم جزء هو عين وإتلاف الجزء معتبر بإتلاف الكل والأولاد أحرار بعين القيمة لأن الواطى ء بمنزلة المغرور باعتبار تأويله والتأويل الفاسد عند انضمام المنعة بمنزلة التأويل الصحيح وولد المغرور حر ثابت النسب من المغرور إلا أن في غير هذا الموضع المغرور يضمن قيمة الأولاد لأنه منع حدوث الرق فيهم

 

ج / 24 ص -96-       فنزل ذلك منزلة الإتلاف وهنا هو لا يضمن الولد بالإتلاف لصاحب الجارية فكذلك لا يغرم قيمته بسبب الغرور. وكذلك أهل الحرب فيما أخذوا من المسلمين من مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فولدت لهم ثم أسلموا أن هؤلاء لا يملكون بالإحراز فيكون حال المشركين فيهم كحال الخوارج في الجواري على ما بيناه والله أعلم.

باب ما يخالف المكره فيه ما أمر به
 قال رحمه الله ولو أكره الرجل على أن يهب نصف داره غير مقسوم أو لم يسم له مقسوما ولا غيره وأكره على التسليم فوهب الدار كلها وسلمها فهو جائز لأنه أتى بغير ما أكره عليه فالجميع غير النصف وهبة نصف الدار غير مقسوم هبة فاسدة وهو قد أتى بهبة صحيحة عرفنا أن ما أتى به غير ما أكره عليه فكان طائعا فيه وكذلك لو أمر بهبة الدار فتصدق بها عليه أو بصدقتها عليه فوهبها له وهو ذو رحم محرم منه أو أجنبي لأن الهبة غير الصدقة فالهبة تمليك المال من الموهوب له والمقصود به العوض والصدقة جعل المتصدق به لله تعالى خالصا ثم الصرف إلى الفقراء لتكون كفاية من الله تعالى، والدليل عليه أن صرف الصدقة الواجبة إلى بني هاشم لا تجوز والهبة لهم حسن وأنه لا رجوع في الصدقة وحق الرجوع ثابت للواهب وفي الهبة من ذي الرحم المحرم إنما لا يرجع لصيانة الرحم عن القطيعة أو لحصول المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لأنه بمنزلة الصدقة إذا ثبت أن ما أتى به غير ما أكره عليه حقيقة وحكما كان طائعا فيه.
ولو أمره بالهبة فنحلها أو أعمرها كان باطلا لأن النحلة والعمرى هبة فهذه ألفاظ مختلفة والمقصود بالكل واحد وفي الإكراه يعتبر المقصود دل على الفرق أن اختلاف الشاهدين في لفظة الهبة والنحلة والعمرى لا يمنع قبول الشهادة. واختلافهما في الهبة والصدقة يمنع قبول الشهادة سواء كان الموهوب له ذا رحم محرم أو أجنبيا ولو أكره على الهبة والدفع فوهب على عوض وتقابضا كان جائزا لأنه أتى بغير ما أمره به فالهبة بشرط العوض بعد التقابض بيع فكأنه أكرهه على الهبة فباع ولأن مقصود المكره الإضرار بإتلاف ملكه بغير عوض ولم يحصل ذلك إذا وهبه على عوض وقد يكون المرء ممتنعا من الهبة بغير عوض ولا يمتنع من الهبة بعوض.
ولو أكرهه على أن يهبه على عوض ويدفعه فباعه بذلك وتقابضا كان باطلا. وكذلك لو أكرهه على البيع والتقابض فوهبه على عوض وتقابضا كان بعد التقابض والهبة بشرط العوض بمنزلة البيع حتى يثبت فيه جميع أحكام البيع فيكون هو مجيبا إلى ما طلب المكره في المعنى وإن خالفه في اللفظ ولأن قصد المكره الإضرار به وذلك لا يختلف باختلاف لفظ البيع والهبة بشرط العوض. ولو أكره على أن يهبه ويدفعه ففعل فعوضه الآخر من الهبة بغير إكراه فقبله كان هذا إجازة منه بهبته حين رضي بالعوض لأن العوض إما يكون عن هبة صحيحة فرضاه بالعوض يكون دليل الرضا منه بصحة الهبة ودليل الرضا كصريح الرضا فإن سلم له

 

ج / 24 ص -97-       العوض فإن قبضه بتسليم العوض فهو جائز ولا رجوع لواحد منهما على صاحبه كما لو كانت الهبة بغير كره فعوضه وكما في الهبة بشرط العوض. وإن أبى أن يسلم العوض وقال قد سلمت الهبة حين رضيت بالعوض فلا أدفع إليك العوض ولا سبيل لك على الهبة لم يكن له ذلك لأن الرضا كان في ضمن العوض وإنما يكون راضيا بشرط سلامة العوض له وإذا لم يسلم له كان له أن يرجع في الهبة كما لو وهبه بشرط العوض.
 ألا ترى أنه لو قال قد سلمته على أن يعوضني كذا فأبى لم يكن هذا تسليما منه للهبة؟
 ألا ترى أن رجلا لو وهب جارية رجل بغير أمره لرجل وقبضها الموهوب له فقال له رب الجارية عوضني منها فعوضه عوضا وقبضه كان هذا إجازة منه للهبة وإن أبى أن يعوضه لم يكن هذا إجازة منه للهبة فكذلك ما سبق. وكذلك لو أجبره على بيع عبده بألف درهم وعلى دفعه وقبض الثمن ففعل ذلك ثم قال للمشتري زدني في الثمن ألف درهم لم يكن هذا إجازة للبيع الأول إلا أن يزيده فإن زاده جاز البيع وإن لم يزده فله أن يبطله. كذلك لو قال قد أجزت ذلك البيع على أن تزيدني ألف درهم والمعنى في الكل واحد وهو إنما رضي بشرط أن يسلم له العوض والزيادة فإذا لم يسلم لم يكن راضيا به.
ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يبيع عبده من هذا بألف درهم ولم يأمره بالدفع فباعه ودفعه لم يكن على الذي أكرهه شيء وينبغي أن يجوز البيع إذا كان هو الدافع بغير إكراه بمنزلة ما لو دفعه بعد ما افترقا من موضع الإكراه وقد بينا فيما تقدم أن الإكراه على البيع لا يكون إكراها على التسليم بخلاف الهبة.
ألا ترى لو أن لصا قال له لأقتلنك أو لتبيعنه عبدك هذا فإني قد حلفت لتبيعنه إياه فباعه خرج المكره من يمينه وهذا إشارة إلى الجواب عن إشكال يقال في هذه المسألة أن قصد المكره الإضرار وذلك إنما يكون تمامه بالإخراج من يده لأن زوال الملك في بيع المكره لا يكون إلا به كما في الهبة فتبين أنه قد يكون للمكره مقصود في نفس البيع ولكن هذا الذي أشار إليه يتأتى في الهبة أيضا والمعتمد هو الفرق الذي تقدم بيانه.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يهبه له فوهبه ودفعه فقال قد وهبته لك فخذه فأخذه الموهوب له فهلك عنده كان للمكره إن شاء ضمن المكره القيمة لأن إكراهه على الهبة إكراه على التسليم وإن شاء ضمن القابض لأن قبضه على سبيل التملك لنفسه بغير رضاه.
 ألا ترى أن رجلا لو أمر رجلا أن يهب جاريته هذه لفلان فأخذها المأمور فوهبها ودفعها إلى الموهوب له جاز ذلك فلما جعل التوكيل بالهبة توكيلا بالتسليم كان المقصود بالهبة لا يحصل إلا بالتسليم فكذلك الإكراه على الهبة يكون إكراها على التسليم.
 ثم بين في الأصل ما يوضح هذا الفرق وهو أن إيجاب الهبة للموهوب له يكون إذنا في القبض إذا كان بمحضر منهما وإيجاب البيع لا يكون إذنا في القبض وإن كان المبيع حاضرا حتى لو قبضه بغير أمر البائع كان للبائع أن يأخذه منه حتى يعطيه الثمن والبيع الفاسد بمنزلة

 

ج / 24 ص -98-       الهبة في هذا الحكم, وكان الطحاوي رحمه الله يقول في البيع الصحيح أيضا للمشتري أن يقبضه بمحضر منهما ما لم ينهه البائع عن ذلك وقال إيجاب البيع الصحيح أقوى من إيجاب البيع الفاسد. ولكن ما ذكره محمد في الكتاب أصح لأن القبض في البيع الفاسد والهبة نظير القبول في البيع الصحيح من حيث أن الملك يحصل به فأما قبض المشتري في البيع الصحيح فيكون مسقطا حق البائع في الحبس وإيجاب البيع لا يكون إسقاطا لحقه في الحبس فلا بد من الأمر بالقبض ليسقط به حقه.
ولو أكرهه على أن يبيعه منه بيعا فاسدا فباعه بيعا جائزا جاز البيع لأنه أتى بغير ما أمره به فالبيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه والبيع الجائز يزيل الملك بنفسه وكذلك الممتنع من البيع الفاسد لا يكون ممتنعا من البيع الجائز فهو طائع فيما أتى به من التصرف ولو أكره على أن يبيعه منة بيعا جائزا ويدفعه إليه فباعه بيعا فاسدا ودفعه إليه فهلك عنده فللبائع أن يضمن المكره إن شاء وإن شاء المشتري لأنه لم يخالف ما أمر به فإنه وإن أتى به على الوجه الذي أمره به يكون البيع فاسدا لكونه مكرها عليه وإنه أتى بدون ما أمره به والممتنع من البيع الجائز يكون ممتنعا من البيع الفاسد وإنما هذا بمنزلة رجل أمره أن يبيع بألف درهم نقد بيت المال فباعه بألف درهم عليه جاز . ولو أمره أن يبيعه بألف فباعه بألفين جاز ولم يكن مكرها فكذلك فيما سبق.
 ولو أكرهه على أن يهب له نصف هذه الدار مقسوما ويدفعه إلى الموهوب له فوهب له الدار كلها ودفعها إليه جازت الهبة في القياس لأنه أمره أن يقسم ثم يهب له فحين وهب الدار كلها قبل أن يقسم فقد خالف ما أمره وكذلك هذا القياس في البيع لو أمره أن يبيعه نصف الدار مقسوما فباعه الدار كلها لأنه أمره بالبيع بعد القسمة فهو في البيع قبل القسمة لا يكون مطيعا له فيما أمره به ولأنا لو جعلناه مخالفا لم يكن بد من القسمة وفي البيع قبل القسمة لا ندري أي شيء يضمنه لأن بين نصفي الدار مقسوما تفاوتا في المالية ومع الجهالة لا يمكن إيجاب الضمان, ولكنه استحسن فقال لا أجيز هبته ولا بيعه في شيء مما أكرهه عليه لأنه مكره على بعض ذلك فلا بد من أن تبطل هبته فما كان مكرها عليه وذلك يبطل هبته فكذلك في البيع الصفقة واحدة فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل وكذلك لو أكرهه على أن يهب له أو يبيعه بيتا من هذه البيوت فباعه البيوت كلها أو وهبها كان ذلك باطلا في الاستحسان لأنه قد بطل في بعض البيوت للإكراه فيبطل فيما بقي لاتحاد الصفقة وجهالة ما ينفذ فيه العقد والله أعلم.

باب الإكراه على أن يعتق عبده عن غيره
 قال رحمه الله ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق عبدا يساوي ألف درهم عن رجل بألف درهم ففعل ذلك وقبل المعتق عنه طائعا فالعبد حر عن المعتق عنه والولاء له لأن المولى لو كان طائعا في هذا الإيجاب كان العبد حرا على المعتق عنه فكذلك إذا كان مكرها إذ لا تأثير للإكراه في المنع من العتق.

 

ج / 24 ص -99-       فإن قيل إذا كان طائعا يصير كأنه ملك العبد بألف درهم وأعتقه عنه وإن كان مكرها لا يمكن تصحيح العتق عن المعتق عنه بهذا الطريق لأن تمليك المكره بعوض يكون فاسدا والملك بالسبب الفاسد لا يثبت إلا بالقبض ولم يوجد القبض فكيف يعتق العبد عن المعتق عنه, قلنا هذا التمليك غير مقصود بسببه ولكنه في ضمن العتق فيكون حكمه حكم العتق والإكراه لا يمنع صحة العتق فكذلك لا يمنع صحة هذا التمليك بدون القبض.
 ألا ترى أن التمليك إذا كان مقصودا فسببه لا يثبت بدون القبول وإذا كان في ضمن العتق يثبت بدون القبول بأن يقول أعتق عبدك عني بألف درهم ويقول الآخر أعتقت يصح بدون القبول والقبض في البيع الفاسد كالقبول في البيع الصحيح فكما سقط اعتبار القبول هناك سقط اعتبار القبض هنا على أن الإعتاق يجعل قبضا في البيع الصحيح فكذلك في البيع الفاسد الذي هو في ضمن العقد وهو نظير ما لو قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم ورطل من خمر فقال أعتقت يصير الآمر قابضا بنفوذ العتق عنه وإن كان البيع المندرج في كلامه فاسدا وقد قررنا هذا في باب الظهار من كتاب الطلاق فكذلك في مسألة الإكراه. ثم رب العبد بالخيار إن شاء ضمن قيمة عبده المعتق عنه وإن شاء المكره لأن المعتق عنه قبله باختياره وقد تعذر عليه رده لنفوذ العتق من جهته فيكون ضامنا قيمته والمكره متلف ملكه عليه بالإكراه الملجى ء فيكون ضامنا له قيمته.
فإن قيل: المكره إنما ألجأه إلى إزالة الملك بعوض يعدله وهو الألف فكيف يجب الضمان عليه؟
قلنا هو أكرهه على إبطال الملك بالإعتاق وليس بإزائه عوض وإنما العوض بمقابلة التمليك الثابت بمقتضى كلامه والمقتضى تابع للمقتضى فإنما ينبني الحكم على ما هو الأصل وباعتبار الأصل هو متلف عليه ملكه بغير عوض فإن ضمن المكره قيمته رجع بها على المعتق عنه لأنه قائم مقام المولى حين ضمن له القيمة ولأن العبد قد احتبس عند المعتق عنه حين عتق على ملكه ويثبت الولاء له وكان هو المعتق بقوله طوعا فلا يسلم له مجانا وإن ضمنها المعتق عنه لم يرجع بها على المكره لأنه ضمن باحتباس الملك عنده.
ولو أكرهه بحبس كانت القيمة له على المعتق عنه ولا شيء له على المكره لأن الإلجاء لا يحصل بالإكراه بالحبس وبدونه لا يصير الإتلاف منسوبا إلى المكره ولو كان أكره, المعتق والمعتق عنه بوعيد تلف حتى فعلا ذلك فالعبد حر عن المعتق عنه والولاء له وضمان العبد على المكره خاصة لمولى العبد لأن المعتق عنه ملجأ إلى القبول وهذا النوع من الضرورة يخرجه من أن يكون متلفا مستوجبا للضمان وإنما المتلف هو المكره فالضمان عليه خاصة بخلاف الأول فهناك المعتق عنه طائع في القبول فيصير به متلفا للعبد ضامنا.
فإن قيل العبد قد احتبس عند المعتق عنه فإنه عتق على ملكه وثبت الولاء له وإن كان هو ملجأ في القبول فينبغي أن يجب عليه الضمان.

 

ج / 24 ص -100-    قلنا المحتبس عنده مقدار ما ثبت له من الولاء وذلك ليس بمتقوم.
ألا ترى أن من أكره رجلا على أن يعتق عبده كان المكره ضامنا له جميع قيمته وإن كان الولاء ثابتا للمعتق فلما لم يعتبر الولاء في إسقاط حقه في الضمان فكذلك لا يعتبر الولاء في إيجاب الضمان عليه وإنما هذا بمنزلة ما لو أكره رجلا على بيع عبده من هذا بألف درهم ودفعه إليه وأكره الآخر على شرائه وقبضه وعتقه بوعيد تلف ففعلا ذلك ففي هذا الضمان يكون على المكره خاصة فكذلك فيما سبق ولو أكرههما على ذلك بالحبس ففعلا ضمن المعتق عنه قيمته لمولاه لأن المكره غير ملجأ هنا فلا ضمان عليه والإتلاف حاصل بقبول المعتق عنه وقد بقي مقصورا عليه حين لم يكن ملجأ إلى ذلك فكان ضامنا قيمته.
فإن قيل: الإكراه بالحبس يمنع صحة التزام المال بالقبول والمعتق عنه إنما يلتزم الضمان هنا بقوله وهو القبول.
قلنا: لا كذلك بل هو ملتزم لصيرورته قابضا بالإعتاق متلفا والإكراه بالحبس لا يمنع تحقق الإتلاف منه موجبا للضمان عليه.
ولو أكرهه المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بحبس حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يضمن أيهما شاء قيمته لأن المكره ألجأ المولى إلى إتلاف ملكه فيكون ضامنا له قيمته والمعتق عنه بالقبول متلف معتق لأنه ما كان ملجأ إليه فيكون للمولى الخيار فأيهما اختار ضمانه لم يكن له بعد ذلك أن يضمن الآخر شيئا فإن ضمن المكره رجع على المعتق عنه بما ضمن لأنه قام مقام المولى ولأن المعتق عنه متلف للملك بفعل مقصور عليه فلا بد من إيجاب ضمان القيمة عليه.
ولو أكره المولى بالحبس وأكره المعتق عنه بوعيد تلف فالعبد حر عن المعتق عنه ثم المعتق بقيمته غير مدبر لأنه قام مقام المولى في الرجوع عليه حين ضمن له قيمته, فإن لم يرجع المكره على المدبر عنه يضمن الذي أكرهه قيمة العبد لأنه ملجأ إلى القبول من جهته وبه تلف الملك عليه فكان ضامنا له قيمته وإذا قبضها دفعها إلى مولى العبد لأن القيمة قائمة مقام العين.
ولو كان العبد في يده على حاله كان عليه رده على المولى لكونه مكرها بالحبس فكذلك إذا وصل إليه قيمته ولا سبيل للمعتق على المكره لأنه ما كان ملجأ من جهته حين أكرهه بالحبس. ولو أكرههما بوعيد تلف حتى دبره صاحبه عنه بألف درهم وقبل ذلك صاحبه فالتدبير جائز عن الذي دبره عنه لأن التدبير يوجب حق الحرية للعبد ومن شرطه ملك المحل بمنزلة حقيقة الحرية والإكراه كما لا يمنع صحة العتق لا يمنع صحة التدبير ثم المولى بالخيار إن شاء ضمن الذي أكرهه قيمته عبدا غير مدبر لأنه أتلف عليه ملكه حتى ألجأه إلى تدبيره عن الغير وفي حقه هذا والإلجاء إلى الإعتاق سواء لأن ملكه يزول في الموضعين, وإذا ضمنه ذلك يرجع المكره على الذي دبره عنه بقيمته مدبرا ولا يرجع بفضل ما بين التدبير

 

 

ج / 24 ص -101-    وغيره لأن النقصان الحاصل بالتدبير كان بقبوله ولكنه كان ملجأ إلى القبول من جهته فصار هذا النقصان كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا قبل هذا نظيره في العتق أن المكره لا يرجع على المعتق عنه فهنا أيضا لا يرجع عليه بالنقصان ولكن يرجع عليه بقيمته مدبرا لأن العبد قد احتبس عنده بهذه الصفة والمدبر مال متقوم فلا يجوز أن يسلم له مجانا ولكنه يضمن قيمته لاحتباسه عنده وإن انعدم الصنع منه لكونه ملجأ إلى القبول كمن استولد جارية بالنكاح ثم ورثها مع غيره يضمن قيمة نصيب شريكه منها لاحتباسها عنده بالاستيلاد وإن كان لا صنع له في الميراث. وإن شاء مولى العبد يرجع بقيمته مدبرا على الذي دبره عنه لاحتباسه عنده ويرجع على المكره بنقصان التدبير لأن ذلك الجزء قد تلف بفعل منسوب إلى المكره لوجود الإلجاء منه.
 ولو كان إنما أكرههما على ذلك بالحبس فالعبد مدبر للذي دبره عنه يعتق بموته ولا ضمان على المكره لأن الإتلاف لم يصر منسوبا إليه بالإكراه بالحبس ولكن المولى يرجع بقيمة عبده تامة على المدبر عنه لأن ما تلف بالتدبير وما احتبس عنده صار كله مضمونا عليه حين لم يكن ملجأ إلى القبول فلهذا ضمن قيمته غير مدبر.
ولو كان أكره المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بالحبس فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته عبدا غير مدبر لأنه كان ملجأ من جهته إلى إزالة ملكه. وإن شاء ضمن المدبر عنه قيمته غير مدبر لأنه غير ملجأ إلى القبول فكان حكم الإتلاف والحبس مقصورا عليه, وإن ضمن المكره رجع على المدبر عنه بعد ما اختار المولى تضمينه حتى أبرأ المولى المكره من القيمة التي ضمنها إياه أو وهبها له أو أخرها عنه شهرا فكان للمكره أن يرجع على المدبر عنه على حاله لأن المولى باختياره تضمينه يصير مملكا منه القيمة التي على المدبر عنه ولهذا لم يكن له أن يرجع على المدبر عنه بشيء بعد ذلك فإبراؤه إياه وتأجيله لا يسقط حق المكره في الرجوع على المدبر عنه كالوكيل بالشراء إذا أبرأ عن الثمن كان له أن يرجع على الموكل, وهذا بخلاف الكفيل بالدين إذا أبرأ لأن هناك الحق لم يسقط عن الأصيل وهنا باختياره تضمين المكره سقط حقه عن الرجوع على المدبر عنه وتعين ذلك حقا للمكره.
ولو كان المولى أكره بالحبس وأكره الآخر بوعيد تلف حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يرجع على المدبر عنه بقيمته مدبرا لاحتباس العبد عنده مدبرا لسبب فاسد ويرجع على المكره بنقصان التدبير لأن تلف هذا الجزء حصل بقبول المدبر عنه وهو كان ملجأ إلى ذلك وإن لم يكن المولى ملجأ بالإكراه بالحبس، والأصح عندي أن الرجوع بنقصان التدبير على المكره يكون للمدبر عنه يأخذ ذلك منه فيدفعه إلى المكره لأن نقصان التدبير هنا كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا هناك أن المعتق عنه هو الذي يستوفي القيمة فيدفعها إلى المكره وهذا لأن العبد دخل في ملك المدبر عنه ثم صار مدبرا والمولى كان مكرها من جهة المكره بالحبس وبالإكراه بالحبس لا يجب له عليه الضمان وإنما يجب بالإكراه بوعيد تلف وذلك

 

ج / 24 ص -102-    إنما وجد بين المكره والمدبر عنه. وكذلك في هذه الوجوه كلها لو أكرههما بالبيع والقبض وأكره المشتري على التدبير فهو في التخريج نظير ما سبق.
ولو أكرههما بوعيد تلف على أن يتبايعا ويتقابضا ثم أكره المشتري بوعيد تلف على أن يقتل العبد عمدا بالسيف فالقياس فيه أن للبائع أن يقتل المكره بعبده لأن المشتري في القبول والقبض والقتل كان ملجأ من جهة المكره فيكون بمنزلة الآلة له ويجعل في الحكم كأن المكره هو الذي قتله بنفسه فيلزمه القود، ولكنه استحسن فقال عليه ضمان قيمته في ماله ولا قود عليه لأنهما وإن كانا مكرهين فالمشتري صار مالكا بالقبض ثم قتله صادف ملك نفسه ولو قتله طائعا لم يلزمه القصاص. فلو قتله مكرها لا يكون قتله أيضا موجبا للقصاص لمعنى وهو أن المستحق لهذا القود مسببه فباعتبار أن العبد صار ملك المشتري القود يجب له وباعتبار أن المشتري في حكم الإتلاف الحاصل بقبوله وقبضه وقتله آلة للمكره القود يكون للبائع وعند اشتباه المستوفي يمتنع وجوب القصاص كالمكاتب إذا قتل عن وفاء وله وارث سوى المولى وإذا سقط القود للشبهة وجب ضمان قيمته على المكره لأن التكلم بالبيع والشراء وإن لم يصر منسوبا إلى المكره فتلف المال به صار منسوبا إلى المكره والمشتري في القتل والقبض كان له فلا يجب عليه شيء من الضمان بل ضمان القيمة على المكره في ماله.
ولو أكرههما بالحبس على البيع وأكره المشتري على القتل بوعيد تلف فللبائع قيمة العبد على المشتري لأن البيع مع الإكراه بالحبس كان فاسدا ولكن القبض مقصور على المشتري وقد تعذر عليه رده فيلزمه قيمته وهو إن كان ملجأ إلى القتل فتأثير الإكراه في انعدام الفعل في جانبه فكأنه تلف العبد في يده بغير صنعه فعليه قيمته بسبب البيع الفاسد وللمشتري أن يقتل الذي أكرهه على القتل لأن العبد كان مملوكا له حين أكرهه على قتله بوعيد تلف فيصير فعل القتل منسوبا إلى المكره ويجب القصاص.
فإن قيل كيف ينبغي أن لا يجب لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله فإن من أصل زفر والشافعي رحمهم الله أن المشتري لا يملك بالقبض عند فساد البيع بسبب الإكراه فلا يكون القصاص واجبا له.
قلنا أصحابنا رحمهم الله لا يعتبرون خلاف الشافعي في تفريع المسائل لأنه ما كان موجودا عند هذه التفريعات منهم وخلاف زفر في هذا كخلافه في المبيع من وجوب القود على المكره في الأصل وذلك لا يمنعنا من أن نلزمه القود لقيام الدليل ولو كان أكرهه على القتل بحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الإلجاء لم يحصل بالإكراه بالحبس.
ولو أكره البائع بوعيد تلف وأكره المشتري على الشراء والقبض والقتل بالحبس فالبائع بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده لأنه كان ملجأ من جهته إلى البيع والتسليم فيكون متلفا عليه ملكه وإن ضمنه قيمته رجع المكره بها على المشتري لأنه لم يكن ملجأ إلى القتل ولا

 

ج / 24 ص -103-    إلى العتق وإن شاء البائع ضمن المشتري قيمة عبده لأن فعله في القبض والعتق مقصور عليه فيكون ضامنا له قيمته.
ولو كان أكره المشتري على الشراء بالحبس وعلى القتل عمدا بالقتل فالبائع بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده لما بينا وإذا ضمنه لم يرجع هو على المشتري بشيء لأن المشتري كان ملجأ إلى القتل من جهته فيصير فعله منسوبا إلى المكره وكأنه قتله بيده وذلك استرداد منه للعبد وزيادة فلا يضمن المشتري لذلك بخلاف ما سبق فالإكراه بالحبس على الفعل لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره وإن شاء البائع ضمن المشتري قيمة عبده لأن فعله في الشراء والقبض مقصور عليه فإن كان مكرها على ذلك بالحبس فإن ضمنه كان للمشتري أن يقتل المكره لأن العبد تقرر في ملكه من حين قبضه حين ضمن قيمته فتبين أنه أكرهه على قتل عبده عمدا بوعيد تلف وذلك يوجب القود على المكره.
وإن كان أكره البائع بالحبس على البيع والدفع وأكره المشتري على الشراء والقبض والقتل بالوعيد بالقتل فلا ضمان على المشتري لأنه بمنزلة الآلة في جميع ما كان منه للإكراه الملجى ء ويغرم المكره قيمة العبد لمولاه لأن فعله في البيع والتسليم وإن لم يصر منسوبا إلى المكره ففعل المشتري بالقبض والقتل صار منسوبا إلى المكره فكان المكره هو الذي فعل بنفسه إلا أنه سقط عنه القود استحسانا لاشتباه المستوفي فيجب عليه ضمان قيمته لمولاه.
وإن كان إنما أكره المشتري على الشراء والقبض بوعيد تلف وأكرهه على القتل أو العتق أو التدبير بالحبس فلا ضمان على المكره لأن البائع بعد قبض المشتري كان متمكنا من استرداد العين وإنما تعذر ذلك عليه بالقتل أو العتق أو التدبير وذلك مقصور على المشتري غير منسوب إلى المكره لأنه كان مكرها على ذلك بالحبس فلهذا لا ضمان على المكره ويضمن المشتري قيمة العبد لأن إقدامه على هذه التصرفات بمنزلة الرضا منه أن لو كان طائعا ولكن الإكراه يمنع تمام الرضا فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع.
 ولو كان البائع غير مكره ولكنه طلب الذي أكرهه أن يكره المشتري بوعيد تلف على أن يشتري عبده بألفين وقيمته ألف ويقبضه ففعل ذلك ثم أكرهه على أن يقتله عمدا أو يعتقه بوعيد تلف فلا ضمان على المشتري في ذلك لأنه ملجأ إلى جميع ما كان منه فكان هو بمنزلة الآلة فيه وعلى المكره قيمة العبد للبائع لأنه إنما طلب المكره الإكراه على الشراء والقبض وقد كان متمكنا من الاسترداد لانعدام الرضا من المشتري فإنما تعذر ذلك عليه بالقتل وقد كان المشتري فيه آلة للمكره فكأنه هو الذي قتله بنفسه فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع.
 ولو كان أكرهه بقتل حتى دبر العبد فالبائع بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته غير مدبر لأنه إنما تعذر استرداده بالتدبير ثم يرجع المكره بقيمته مدبرا على المشتري لأنه احتبس في ملك المشتري وهو مدبر فلا بد من إيجاب ضمان القيمة عليه.
 ألا ترى أنها لو كانت جارية استخدمها واستكتبها ووطئها فكيف يسلم له ذلك مجانا؟

 

ج / 24 ص -104-    وإن شاء ضمن المشتري قيمته مدبرا لهذا المعنى أيضا وضمن الذي أكرهه نقصان التدبير لأن ذلك الجزء قد تلف بالتدبير وقد كان المشتري ملجأ إلى التدبير من جهة المكره ولم يوجد من البائع الرضا بذلك.
ولو كان أكره المشتري على الشراء والقبض بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع على المكره شيء وكان له أن يضمن المشتري قيمة عبده لأن الفعل في الشراء والقبض كان مقصورا عليه وإذا تقرر عليه ضمان قيمته تبين أن المكره أكرهه على أن يقتل عبده بالإكراه بالقتل فله أن يقبض منه. وإن أكرهه على العتق ضمنه قيمته. وإن كان أكرهه على التدبير ضمنه نقصان التدبير في الحال فإذا مات المشتري والعبد يخرج من ثلثه ضمنه ورثة المشتري قيمته مدبرا لأن تلف الباقي بعد موته حصل بذلك التدبير وقد كان ملجأ إليه من جهة المكره.
ولو كان أكرهه في ذلك كله بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع مع المكره ضمان لأن ما تلف به العبد لم يصر منسوبا إليه بالإكراه بالحبس ولكنه يضمن المشتري قيمة عبده لأن فعله فيما يحصل به تلف العبد مقصور عليه. ولو كان أكرهه بوعيد تلف على أن يقبل من فلان أن يعتق عبده عنه بألف درهم وقيمته ألفان أو خمسمائة بطلب من رب المال فقبله منه فالعتق جائز عن المعتق عنه لأن فعله في القبول مقصور عليه, ولا ضمان عليه ولا على المكره أما على القابل فلأنه ملجأ إلى هذا القبول بوعيد تلف وذلك يمنع نسبة التلف إليه في حكم الضمان وأما على المكره فلأن رب العبد هو الذي طلب منه ما حصل به تلف العبد فلا يكون له أن يضمن المكره شيئا.
 ألا ترى أنه لو شاء اللص أن يكره هذا الرجل بوعيد تلف على أن يشتري منه هذا العبد بألف درهم ويقبضه ففعل ذلك فمات في يده لم يضمن المكره ولا المشتري للمولى شيئا. وكذلك إن سأل مع ذلك أن يكرهه على عتقه بوعيد تلف ففعل بخلاف ما إذا كان إكرهه على العتق بغير سؤال من البائع لأن هناك لم يوجد منه الرضا بتلف العبد وهنا قد تحقق منه الرضا بذلك.
ولو أكرهه المولى بالحبس على البيع والدفع وإكره الآخر يومئذ بوعيد تلف على الشراء والقبض ففعلا ذلك ثم أكره المولى بالحبس على أن يأمر المشتري بالعتق وأكره المشتري على أن يعتق بوعيد تلف ففعلا كان العبد حرا وكان ضمان القيمة على المكره لأن أمر البائع إياه بالعتق وهو مكره بالحبس أمر باطل فإن المشتري كان متمكنا من العتق باعتبار ملكه وإنما تأثير أمر البائع في رضاه به ليسقط حقه في الضمان بهذا السبب وبالإكراه بالحبس ينعدم الرضا.
 ألا ترى أنه لو أكره رجلا بالحبس حتى يأذن للمكره في قتل عبده فأذن له في ذلك فقتله كان على المكره القيمة لأن إذنه مع الإكراه بالحبس باطل فهذا كذلك وإذا ثبت بطلان أمره بقي إكراهه المشتري على العتق بالقتل وذلك يوجب نسبة الإتلاف إلى المكره والله أعلم بالصواب.

 

ج / 24 ص -105-    باب الإكراه على الوديعة وغيرها
 قال رحمه الله ولو أن لصا أكره رجلا بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل فأودعه فهلك عند المستودع وهو غير مكره لم يضمن المستودع ولا المكره شيئا أما المكره فلأن التهديد بالحبس لا يجعل الدفع من صاحب المال منسوبا إليه وأما المستودع فلأنه قبض المال بتسليم صاحبه إليه ليرده عليه وذلك غير موجب للضمان وهذا لأن فعل التسليم مقصور على المالك فإنه لم يكن ملجأ إليه وإنما هو غير راض به فهو كمن أودع ماله غيره عند خوفه من اللصوص أو عند وقوع الحريق في داره وهناك لا يضمن المودع إذا هلك في يده بغير صنعه. وإن كان أكرهه بوعيد تلف فلرب المال أن يضمن المستودع وإن شاء المكره لأن فعله في التسليم صار منسوبا إلى المكره للإلجاء فكأن المكره هو الذي باشر الدفع إليه فيكون كل واحد منهما جانيا في حق صاحب المال وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشيء لأن المكره إن ضمن فإنما يضمن بكون الدفع منسوبا إليه. ولو كان هو الذي دفعه إليه وديعة لم يرجع على المودع بشيء وإن شاء ضمن المودع فلأنه كان في القبض طائعا وبه صار ضامنا وهو لم يكن في هذا القبض عاملا للإكراه لأنه لم يقبض ليسلمه إلى المكره.
 ولو أكره بتلف أو حبس على أن يأمر رجلا بقبض المال فأمر بقبضه والمأمور غير مكره فضاع في يده فالقابض ضامن للمال لأن الأمر قول منه والإكراه بالحبس يبطل قوله في مثله.
 ألا ترى أنه يبطل شراؤه وبيعه فكان كالقابض بغير أمره بخلاف الأول فهناك صاحب المال هو الدافع والإكراه بالحبس لا يعدم فعله في الدفع.
 ألا ترى أنه لو أكرهه بالحبس على أن يطرح ماله في ماء أو نار ففعل لم يضمن المكره شيئا؟
ولو أكرهه بالحبس على أن يأمر إنسانا بأن يطرح ماله في ماء أو نار فأمره بذلك ففعله المأمور كان المكره ضامنا ولا شيء على المكره إلا أن يكون الطارح مكرها من جهته بوعيد تلف فحينئذ يكون الضمان على المكره. وكذلك لو أكرهه بالحبس على أن يأذن له في أن يأخذ ماله فيهبه أو يأكله أو يستهلكه ففعل ذلك كان المستهلك ضامنا لأن أمره بالتهديد بالحبس لغو فكأنه فعله بغير أمره.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في أن يقتل عبده عمدا فأذن له في ذلك فقتله كان للمولى أن يقتله به لأنه لا معتبر بإذنه بعد الإكراه التام. ولو أكرهه على ذلك بالحبس كان كذلك في القياس لأن الإذن كان باطلا فإن التهديد بالحبس يسقط اعتبار ما يحتمل الإبطال من أقاويله والإذن إنما كان مؤثرا باعتبار أنه دليل الرضا ومع الإكراه بالحبس الإذن لا يكون دليل الرضا ولكنه استحسن في هذا فقال لا يلزمه القود ولكنه ضامن له قيمة عبده لأن الإكراه بالحبس يؤثر في إبطال بعض الأقاويل دون البعض.

 

ج / 24 ص -106-    ألا ترى أنه لا يؤثر في إبطال قوله في الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ويؤثر في البيع والشراء فإن اعتبرناه بما يؤثر فيه يجب القصاص على المكره وإن اعتبرناه بما لا يؤثر فيه لا يجب القصاص على المكره والقصاص مما يندرى ء بالشبهات فلهذا سقط القود.
فإن قيل هذا في الإكراه بوعيد التلف موجود؟
قلنا لا كذلك فالإكراه بوعيد التلف مؤثر في جميع الأقاويل فيما يحصل بها من الإتلاف حتى يكون موجبا للضمان على المكره بخلاف الإكراه بالحبس ثم الإذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء والعفو مع الإكراه بالحبس صحيح على أن يكون مقصورا على العافي من كل وجه بخلاف الإكراه بالقتل فالعفو هناك صحيح على أن يكون ما يتلف به مما هو متقوم منسوبا إلى المكره فكذلك الإذن في الابتداء مع الإكراه بالحبس. قلنا يجعل معتبرا في إسقاط القود الذي يندرى ء بالشبهات ولا يجعل معتبرا في إسقاط الضمان الذي يثبت مع الشبهات وكذلك إن كان المأمور بالقتل غير المكره فإن المعنى في الكل سواء.
ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يوكل ببيع أو شراء ففعل كان ذلك باطلا لأن التوكيل قول وإنما يعتبر ليتحقق به الرضا من الموكل بتصرف الوكيل على سبيل النيابة عنه وذلك ينعدم إذا كان مكرها على التوكيل ثم الإكراه بالقتل والحبس يمنع صحة البيع والشراء فكذلك يمنع صحة التوكيل بالبيع والشراء, ولو أكرهه بالحبس على أن يوكل هذا بعتق عبده فأعتقه الوكيل والوكيل غير مكره كان العبد حرا عن مولاه ولم يضمن المكره شيئا لأن الإكراه بالحبس لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره في معنى الإتلاف ولا يمنع صحة الإعتاق فكذلك لا يمنع صحة التسليط على الإعتاق والتوكيل في الابتداء كالإجازة في الانتهاء.
 ولو أن أجنبيا أعتق عبد رجل بغير أمره فأكره بالحبس على أن يجيزه بعد العتق لم يضمن المكره شيئا فهذا مثله. ولو أكرهه على ذلك بوعيد تلف كان الضمان على المكره دون الذي ولى العتق أما نفوذ العتق فلأن الإكراه على التوكيل بالعتق بمنزلة الإكراه على الإعتاق وأما وجوب الضمان على المكره فلأن الإتلاف منسوب إليه بسبب الإلجاء وحصول التلف بالأمر الصادر من المولى عند إعتاق المأمور لا بإعتاق المأمور.
الا ترى أنه لو لم يسبق الأمر كان إعتاقه لغوا وبه فارق القتل والقطع فالإتلاف هناك يحصل بمباشرة المأمور دون الأمر به.
الا ترى أنه يتحقق وإن لم يسبقه أمر فإذا كان المباشر طائعا كان الضمان عليه.
الا ترى أن المشتري لو أمر رجلا بأن يقتل المبيع قبل القبض فقتله كان القاتل ضامنا قيمته للبائع حتى يحبسه بالثمن ولو أمر رجلا فأعتقه كان العبد حرا ولا ضمان على المعتق. والفرق بينهما بما أشرنا إليه أن الإعتاق بدون أمر المشتري لغو فيكون إعتاق المأمور كإعتاق المشتري والقتل بدون أمر المشتري يتحقق فيكون موجب الضمان على القاتل.

 

ج / 24 ص -107-    ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في عتقه فأذن له فيه فأعتقه عتق والولاء للمولى ويضمن المكره قيمته لا باعتبار أنه أعتقه بل باعتبار أنه ألجأه إلى الأمر بالعتق حتى لو كان أكرهه على ذلك بحبس لم يضمن له شيئا فهذا يبين لك ما سبق أن الإكراه على الأمر بالعتق بمنزلة الإكراه على العتق في حكم الضمان, وكل إكراه بوعيد تلف على الأمر لا يمكن رده بعد وقوعه نحو العتق والطلاق والقتل واستهلاك المال, فإكراهه فيه بمنزلة جنايته بيده لأن المكره في حكم الإتلاف صار آلة للمكره. وإن كان أكرهه على ذلك بقيد أو حبس لم يلزمه ضمانه وإنما الإكراه بالحبس بمنزلة الإكراه بالقتل في البيع والشراء والإقرار بالأشياء كلها والوكالة بذلك والأمر به لأن صحة هذا كله تعتمد الرضا ومع الإكراه بالحبس ينعدم الرضا ثم أوضح الفرق بين الفعل وبين الأمر به عند الإكراه بالحبس بفعل العبد المحجور عليه فإنه لو غصب مالا فدفعه إلى عبد آخر محجور عليه فهلك عنده كان لصاحب المال أن يضمن الثاني ثم يرجع مولاه بما ضمن في رقبة الأول ولو لم يدفعه ولكنه أمره أن يأخذه والمسألة بحالها لم يكن لمولى الآخر أن يضمن الأول.
الا ترى أن الحجر عليه أسقط اعتبار أمره ولم يسقط اعتبار دفعه فكذلك الإكراه بالحبس يسقط اعتبار أمره ولا يسقط اعتبار دفعه والله أعلم بالصواب.
 

باب التلجئة
قال رحمه الله رجل قال لرجل إني أريد أن ألجئ إليك عبدي هذا فأبيعكه تلجئة وباطلا وليس بشراء واجب لشيء أخافه فقال نعم وحضر هذه المقالة شهود ثم قال له في مجلس آخر قد بعتكه بألف درهم فقال قد فعلت ثم تصادقا على ما كان بينهما فالبيع باطل"لأن التلجئة بمنزلة الهزل والهزل أن يراد بالكلام غير ما وضع له والهازل لا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به ويكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب فالمجلى ء أيضا يكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب ولا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به فلا يمنع الهزل والتلجئة انعقاد السبب ولكن لا يكون موجبا لحكمه لما لم ينعدم هذا الوصف وهو كالبيع بشرط الخيار لهما أبدا يكون منعقدا ولكن لا يكون موجبا لحكمه مع بقاء الخيار لهما. إذا عرفنا هذا فنقول إن تصادقا على أنهما بنيا على تلك المواضعة فالبيع باطل لاتفاقهما على أنهما يعزلانه وإن تصادقا أنهما أعرضا عن تلك المواضعة فالبيع لازم بينهما لأنهما تصادقا على أنهما قصدا الجد وهذا ناسخ لما كان بينهما من المواضعة.
وإذا كان العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد فالعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها وإن تصادقا أنه لم يحضرهما نية عند العقد ففي ظاهر الجواب البيع باطل, وروي المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن البيع صحيح وجه تلك الرواية أن مطلق فعل العاقل المسلم محمول على الصحة وما يحل شرعا وعند الإطلاق يجب حمل كلامهما عليه فلا يجوز إلغاء كلامهما مع إمكان تصحيحه. ووجه ظاهر الرواية أنهما ما تواضعا إلا ليبنيا على

 

ج / 24 ص -108-    تلك المواضعة فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يظهر منهما خلافه وهذا لأنه إذا لم يجعل بناء كان استعمالهما بتلك المواضعة استعمالا بما لا يفيد.
والحاصل أن في ظاهر الرواية تعارض الأمران في الإطلاق فيرجح السابق منهما وهو المواضعة وفي الرواية الأخرى جعل الثاني ناسخا للأول. وأما إذا اختلفا فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر أعرضنا عنها فعلى قول أبي حنيفة القول قول من يدعي صحة العقد وعند أبي يوسف ومحمد القول قول من يدعي البناء على تلك المواضعة لأن عند الخصومة القول قول من يشهد له الظاهر وإنما يشهد الظاهر لمن يدعي البناء على المواضعة.
يوضحه أنا نجعل في حق كل واحد منهما كأنه قصد ما أخبر به ولكن بإعراض أحدهما عن المواضعة لا يصح العقد فيما بينهما كما لو بنيا على المواضعة ثم أجاز العقد أحدهما. وأبو حنيفة يقول عند الاختلاف يجب الرجوع إلى الأصل والأصل أن مطلق العقد يقتضي اللزوم فدعوى البناء من أحدهما على المواضعة كدعواه شرط الخيار.
يوضحه أن تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما فينفرد كل واحد منهما بإبطالها بطريق الإعراض عنها وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة.
ولو ادعى أحدهما المواضعة السابقة وجحد الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا بينهما حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما فكذلك إذا اختلفا في البناء عليها, وإن تصادقا على البناء على المواضعة ثم قال أحدهما قد أجزت البيع لم يجز على صاحبه لأن ذلك بمنزلة اشتراط الخيار منهما فالمجيز يكون مسقطا لخياره ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد, فإن قال صاحبه قد أجزت أنا أيضا فالبيع جائز لأنهما أسقطا خيارهما ولأن البيع كان هزلا منهما ولم يكن مفيدا حكمه لانعدام الاختيار منهما للحكم وقد اختارا ذلك. وإن لم يجيزاه حتى قبض المشتري فأعتقه كان عتقه باطلا بمنزلة ما لو كانا شرطا الخيار لهما وهذا لأن الحكم وهو الملك غير ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فتوقف الحكم على اختبارهما له وقبل الاختيار لا ملك للمشتري فلا ينفذ عتقه بخلاف المشتري من المكره فالمكره مختار للحكم ولكنه غير راض به لأن الحكم للجد من الكلام وإنما أكره على الجد فأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ عتقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيعه تلجئة فباعه لم يجز عتق المشتري فيه أيضا.
ولو قال رجل لامرأة أتزوجك تزوجا هزلا فقالت نعم ووافقهم على ذلك الولي ثم تزوجها كان النكاح جائزا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق" ولأن النكاح لا تمتنع صحته بعد اختيار السبب لعدم اختيار الحكم كما لو شرط الخيار فيه كان النكاح صحيحا, وبهذا الفصل

 

ج / 24 ص -109-    يتبين أن بيع الهازل منعقد تلحقه الإجازة منهما لأن بالهزل لو كان ينعدم اختيار أصل السبب لما صح النكاح والطلاق والعتاق من الهازل وأصل السبب لا بد من اعتباره في هذه الأشياء. وكذلك لو طلق امرأته على مال على وجه الهزل أو أعتق جاريته على مال على وجه الهزل وقد تواضعا قبل ذلك أنه هزل وقع الطلاق والعتاق ووجب المال وهذا عندنا قول أبي يوسف ومحمد أما عند أبي حنيفة رحمه الله فيتوقف وقوع الطلاق والعتاق على وجود الإجازة من المرأة والعبد لما بينا أن الهزل بمنزلة شرط الخيار. وعند أبي حنيفة شرط الخيار في جانب المرأة والعبد يمنع وقوع الطلاق والعتاق ووجوب المال قبل إسقاط الخيار لأن الذي في جانبهما مال فيعتبر بالعقد الذي هو مبادلة مال بمال وعندهما شرط الخيار لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق أو هو المقصود بالعقد فأما المال فتبع فيه وثبوت التبع بثبوت الأصل فكذلك الهزل والإجارة والقسمة والكتابة بمنزلة البيع في حكم التلجئة لأن هذه العقود محتملة للنقض بعد وقوعها كالبيع.
ولو تواضعا على أن يجيزا أنهما تبايعا هذا العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدي يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالاخبار به لا يصير حقا, ولو أجمعا على إجازته بعد ذلك لم يكن بيعا لأن الإجازة إنما تلحق العقد المنعقد وبالإقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه الإجازة.
الا ترى أنهما لو صنعا مثل ذلك في طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا, وكذلك لو أقر بشيء من ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا فيما بينه وبين ربه وإن كان القاضي لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر طائعا وقد بينا الفرق بين الإقرار والإنشاء في هذه التصرفات مع الإكراه فكذلك مع التلجئة. ولو كان قبض العبد الذي قال فيه ما قال فأعتقه ثم قامت البينة على ما كانا قالا في السر من المواضعة على الإقرار بطل العتق ورد العبد على مولاه لأنه ثبت أن إقرارهما كان كذبا وأن إعتاقه حصل في غير ملكه فكان لغوا.
ولو أن رجلا قال لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها أني أريد أن أتزوج فلانة على ألف درهم وتسمى ألفين والمهر ألف فقال الولي نعم افعل فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزا والصداق ألف درهم إذا تصادقا على ما قالا في السر أو قامت به البينة لأنهما قصدا الهزل بذكر أحد الألفين والمال مع الهزل لا يجب وصار ذكر أحد الألفين على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد في النكاح لا يؤثر في أصل العقد ولا في الصداق وكذلك الطلاق على المال والعتاق عليه. قال في الكتاب وكذلك البيع وهذا الجواب في البيع قول أبي يوسف ومحمد وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله. وأما في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة فالبيع فاسد إذا تصادقا على أيهما شاء على تلك المواضعة لأن الألف التي

 

ج / 24 ص -110-    قصد الهزل بها يكون ذكرها شرطا فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد بخلاف النكاح وفي الرواية الأخرى ما قصد الهزل به فذكره والسكوت عنه سواء والبيع صحيح بدون ذكره. وإن تصادقا على الإعراض عن تلك المواضعة كان البيع بينهما بألفين وإن تصادقا على أنه لم يحضرهما نية فعند أبي حنيفة في إحدى الروايتين البيع بينهما بألفين لما ذكرنا في المواضعة على أصل البيع وهذا لأن تصحيح العقد غير ممكن إلا بجميع المسمى فيه وعند الإطلاق يجب المضي إلى تصحيح العقد وعندهما البيع منهما بألف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة, وإن اختلفا في البناء فعند أبي حنيفة البيع بينهما بألفين, وعندهما على قياس المواضعة في أصل البيع.
ولو قال المهر مائة دينار ولكنا نسمع بعشرة آلاف درهم وأشهدوا عليه ثم تزوجها في الظاهر على عشرة آلاف درهم كان النكاح جائزا بمهر مثلها كأنه تزوجها على غير مهر لأنهما قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا بينهما ثم يذكر أنه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار كأنه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف الأول فهناك قد سميا في العقد ما تواضعا على أن يكون مهرا وزيادة لأن في تسمية الألفين تسمية الألف. وكذلك لو قالا في السر على أن يكون النكاح على مائة دينار وتزوجها في العلانية ولم يسم لها مهرا فلها مهر المثل لما قلنا. وإن قالا عند العقد عقدنا على ما تراضينا به من المهر فالنكاح جائز على مائة دينار لأن هذه الإضافة بمنزلة التسمية منهما لما تواضعا عليه من الدنانير وأكثر ما فيه أن الشهود لم يسمعوا ما سميا من مقدار المهر ولكن سماع الشهود التسمية ليس بشرط لصحتها.
ولو كان هذا في البيع فقالوا البيع على مائة دينار إلا أنا نظهر بيعا بخمسة آلاف درهم فالبيع جائز بخمسة آلاف درهم وما تواضعا عليه باطل وهذا استحسان, وفي القياس البيع باطل لأنهما قصدا الهزل بما سميا ولم يذكرا في العقد ما تواضعا على أن يكون ثمنا بينهما فبقي البيع بينهما بغير ثمن ووجه الاستحسان أن البيع لا يصح إلا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل البيع هنا فلا بد من تصحيحه ولا وجه لذلك إلا أن يعقد بالمسمى فيه من البدل بخلاف النكاح فهناك اعمال الهزل في المسمى مع تصحيح أصل العقد ممكن لأن النكاح لا تتوقف صحته على تسمية البدل.
يوضح الفرق أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع يكون مبطلا الأول بالثاني فإنهما لو تبايعا بمائة دينار ثم تبايعا بخمسة آلاف درهم كان البيع الثاني مبطلا للأول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه فيكون مبطلا للمواضعة وأما في النكاح فالعقد بعد العقد لا يكون مبطلا فإنه لو تزوجها بمائة دينار ثم جدد العقد بعشرة آلاف درهم لم يصح الثاني فكذلك تسمية الدراهم في العقد بعد ما تواضعا على أن يكون الصداق دنانير يمنع وجوب الدراهم فيكون لها مهر مثلها وكل ما يحتمل النقض لا يصح إلا بتسمية

 

ج / 24 ص -111-    البدل كالقسمة والإجارة والكتابة في ذلك قياس البيع. وكذلك هذا في الخلع والطلاق والعتاق بجعل لأن البدل في هذه العقود لا يجب بدون التسمية فلو أعملنا الهزل في المسمى لوقع الطلاق والعتاق بغير جعل ولم يوجد منهما الرضا بذلك فلهذا صححنا ذلك بالمسمى فيه بخلاف النكاح فهناك وإن جعلنا ما سميا في العقد هزلا انعقد النكاح بينهما مواضعة بمهر المثل فلهذا اعتبرنا المواضعة في المنع من وجوب المسمى في العقد. يوضحه أن في الطلاق بجعل لا بد من وقوع أصل الطلاق لقصدهما الجد فيه فلو لم يجب ما سمينا من البدل فيه كان الطلاق رجعيا ولا وجه لذلك مع وجود تسمية البدل فلهذا أوجبنا المال عليها وجعلنا الطلاق ثابتا.
ولو كانوا عقدوا البيع أو الطلاق أو العتاق أو النكاح أو الإجارة على ما كانوا تواضعوا عليه في السر ثم أظهروا شيئا غير ذلك وادعى أحدهم السر وأقام عليه البينة وادعى الآخر العلانية وأقام عليها البينة أخذ بالعلانية وأبطل السر لأن نية العلانية دافعة لدعوى مدعي السر فإنها تثبت إقدامه في العلانية على ما شهدت به وذلك يمنع منه دعوى شيء آخر بخلافه في السر أو يجعل هذا الثاني ناسخا للأول عند المعارضة لأن البينة لا توجب شيئا بدون القضاء إلا أن يشهد الشهود أنهم قالوا في السر إنا نشهد بذلك في العلانية بسمعه فإن شهدوا بذلك على الولي الذي زوج أو على المرأة أو على الذي ولى ما ادعى من العلانية أخذت بينة أصحاب السر وأبطلت العلانية لأن الثابت بالبينة كالثابت بالعلانية أو باتفاق الخصوم وبهذه البينة تثبت أن الإشهاد في العلانية كان تحقيقا لما كان بينهما في السر لا فسخا لذلك بخلاف الأول.
وذكر عن الشعبي رحمه الله قال إذا كان مهر سر ومهر علانية أخذنا بالعلانية إلا أن تقوم بينة أنه أعلم ذلك وأن المهر هو الذي في السر وبهذا نأخذ. ولو قال في السر إنا نريد أن نظهر بيعا علانية وهو بيع تلجئة وباطل ثم أن أحدهما قال علانية وصاحبه حاضر إنا قد قلنا كذا وكذا في السر وقد بدا لي أن أجعله بيعا صحيحا وصاحبه يسمع ذلك ولم يقل شيئا ثم تبايعا فالبيع جائز لأن تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما ينفرد أحدهما بإبطالها ثم إقدام الآخر على العقد معه بعد ما سمع منه إبطال تلك المواضعة يكون رضا منه بصحة البيع فإنما تم البيع بينهما بتراضيهما. ولو لم يكن سمع ذلك من صاحبه ولم يبلغه كان البيع فاسدا لانعدام الرضا من الآخر بصحة البيع ولزومه حين لم يعلم بمناقضة صاحب المواضعة فإن قبضه المشتري على ذلك وأعتقه. فإن كان الذي قال ذلك القول البائع فالبيع جائز لأن البائع صار راضيا بلزوم العقد حين أبطل المواضعة والمشتري صار راضيا بذلك حين أعتقه فيتم البيع وعلى المشتري الثمن وهو بمنزلة ما لو شرطا الخيار لهما ثم أسقط البائع خياره وأعتق المشتري العبد. وإن كان المشتري قاله لم يجز العتق لأن البائع لما لم يظهر منه ما يدل على الرضا بالعقد كان خياره باقيا وبقاء الخيار للبائع يمنع نفوذ عتق المشتري, فإن أجاز البائع

 

ج / 24 ص -112-    البيع جاز البيع ولا يجوز العتق الذي كان قبل ذلك من المشتري لأنه سبق ملكه فلا ينفذ وإن حدث له الملك من بعد. وإن بلغ الذي لم يقل مقالة صاحبه بعد أن تبايعا فرضي بالبيع فالبيع جائز لأن صاحبه بنقض المواضعة صار راضيا والآخر بالرضا بعد ما بلغه مقالة صاحبه صار راضيا أيضا وإن لم يرض حتى نقض صاحبه البيع فإن كانا لم يتقابضا فنقضه جائز وهو نظير ما تقدم في البيع الفاسد قبل القبض لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ وبعد القبض للذي المفسد من قبله أن ينفرد بالفسخ وليس للآخر ذلك فهذا قياسه. وإن كان المشتري قد قبض فإن كان البائع هو الذي قال ذلك القول فليس له أن ينقض والأمر إلى المشتري لأن رضا البائع قد تم وإنما بقي المفسد في جانب المشتري لما بينا أن المواضعة بمنزلة شرط الخيار أبدا. وإن كان المشتري هو الذي قال ذلك القول فالأمر إلى البائع إن شاء نقض وإن شاء سلم المبيع وليس إلى المشتري من النقض شيء لأن الرضا قد تم منه. فإن كان البائع والمشتري قالا في السر نريد أن نظهر بيعا هزلا وباطلا, ونظهر أنه غير هزل ولا باطل ونظهر مع ذلك أنا إن كنا جعلنا في السر هزلا فقد أبطلنا ذلك وجعلناه جدا جائزا وأشهدا على أنفسهما بذلك ثم قالا علانية قد أبطلنا كل هزل في هذا البيع ونحن نجعله بيعا صحيحا فتبايعا على هذا وادعى أحدهما جواز البيع بينهما فالبيع جائز باعتبار الظاهر فإنه شاهد لمن يدعي جوازه إلا أن يقيم الآخر البينة على ما كانا قالا في السر من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وما كان منهما في العلانية من إبطال كل هزل تحقيق لما كانا تواضعا عليه في السر لا إبطال له فلهذا كان البيع بينهما باطلا، وإن كانا قالا في العلانية إنا قلنا في السر نريد أن نتبايع في العلانية بيعا باطلا هزلا وقد أبطلنا ذلك فقال صاحبه صدقت ثم تبايعا فالبيع باطل إذا قامت البينة على ما كانا قالا في السر لما بينا أن هذا الإبطال تحقيق منهما للمضي على تلك المواضعة فلا يتغير به الحكم إلا أن يقول أحدهما بمحضر من صاحبه وهو يسمع أنا كنا قلنا في السر أنا نتبايع بيعا هزلا وقلنا في السر أيضا أنا نظهر في العلانية أنا قد أبطلنا كل قول قلناه في السر من هذا وإنا قد أبطلنا جميع ما قلنا في السر من هذا وإنا بعنا بيعا صحيحا فإذا قالا هذا أو قال أحدهما والآخر يسمع فالبيع جائز لا يقدر أحدهما على أن يبطله لأنهما وضعا جميع ما كانا قالا في السر ثم أبطلا جميع ذلك وهذا النوع من الإبطال ليس يمضي على موافقة ما تواضعا عليه بل هو إبطال لذلك وتلك المواضعة ما كانت لازمة فتبطل بإبطالهما. فأما إذا وضعا إبطال ما قالا في البيع خاصة وأبطلا ذلك فهذا مضي منهما على موافقة ما تواضعا عليه وذلك مبطل للبيع لا مصحح له والله أعلم.

باب العهدة في الإكراه
قال رحمه الله: "ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف أو سجن على أن يبيع متاع اللص من هذا الرجل بألف درهم فباعه والمشتري غير مكره فالبيع جائز"لأن البيع مع الإكراه منعقد والمالك راض بنفوذه والمشتري راض به أيضا والثمن للص على المشتري ولا عهدة على

 

ج / 24 ص -113-    البائع لأنه غير راض بالتزام العهدة حين كان مكرها على ذلك وعهدة البيع لا تلزمه بغير رضاه فإذا تعذر إيجاب العهدة على العاقد كانت العهدة على المنتفع بالعقد وهو المالك كما لو أمر عبدا محجورا عليه أو صبيا ببيع متاعه فباعه كانت العهدة على الآمر. فإذا طلب البائع الثمن من المشتري بعد ذلك بغير إكراه فله أن يقبضه وعلى المشتري دفعه إليه وتكون عهدته عليه, لأن امتناع وجوب العهدة عليه لعدم الرضا منه بذلك. فإذا وجد منه ما يدل على الرضا فقد زال المانع بمنزلة ما لو كان الوكيل بالبيع عبدا محجورا عليه فأعتق كان له أن يقبض الثمن والعهدة عليه لزوال المانع.
ولو كان أكره رجلا على أن يشتري له متاعا بألف درهم من رجل فاشتراه كان الثمن على المكره الراضي بذلك كما لو وكل صبيا أو عبدا محجورا عليه بالشراء له فإن طلب المشتري المتاع من البائع فقبضه بغير إكراه فله ذلك وعليه الثمن ويرجع به على الآمر لوجود دليل الرضا منه بالتزام العهدة حين طالبه بتسليم المبيع طائعا فإن بدا له أن يأخذه بعد ذلك فقد وجب عليه الثمن حين طلبه بغير إكراه لأن دليل الرضا كصريح الرضا وبعد ما لزمته العهدة برضاه لا يكون له أن يأبى كما لو كان راضيا به في الابتداء.
ولو أن رجلا باع عبدا من رجل فلم يقبض الثمن حتى أكرهه لص على دفعه إلى المشتري بوعيد تلف أو سجن فدفعه كان له أن يرتجعه حتى يأخذ الثمن لأن الإكراه يعدم الرضا منه بالقبض فكأن المشتري قبضه بغير رضاه ولأن إسقاط حقه في الحبس بمنزلة الإبراء عن الثمن فكما أن الإكراه يمنع صحة الإبراء عن الثمن فكذلك يمنع سقوط حقه في الحبس. وكذلك لو كان المشتري باعه أو وهبه كان للبائع أن ينقضه ويرتجع العبد بمنزلة ما لو قبضه بغير تسليم منه وتصرف فيه وهذا لأن البيع والهبة يحتملان النقض فينتقض لقيام حق البائع في الحبس. وكذلك لو أكره المرتهن على أن يرد الرهن إلى الراهن ويناقضه الرهن ففعل ذلك وباعه الراهن أو وهبه وسلمه كان للمرتهن أن ينقض جميع ذلك لأنه مكره على إسقاط حقه في حبس الرهن ومع الإكراه لا يسقط حقه في الحبس فكان له أن يعيده كما كان وأن يبطل تصرف الراهن فيه كما لو تصرف قبل استرداده من المرتهن والله أعلم.

باب ما يخطر على بال المكره من غير ما أكره عليه
قال رحمه الله: "وإذا أكره الرجل على الكفر بالله تعالى فقال قد كفرت بالله وقلبه مطمئن بالإيمان لم تبن منه امرأته استحسانا" وقد بينا ثم المسألة على ثلاثة أوجه:
 أحدها: أن يقول قد خطر على بالي أن أقول لهم قد كفرت بالله أريد به الخبر عما مضى فقلت ذلك أريد به الخبر والكذب ولم أكن فعلت ذلك فيما مضى وهذا مخرج له صحيح فيما بينه وبين ربه ولا يسعه إلا ذلك إذا خطر بباله لأن الإنشاء جناية صورة من حيث تبديل الصدق باللسان. وإن لم يكن جناية معنى لطمأنينة القلب بالإيمان والإخبار لا يكون جناية صورة ولا معنى فعليه أن ينوي ذلك إذا خطر بباله ولكن لا يظهره للناس, فإن أظهر هذا

 

ج / 24 ص -114-    المراد للناس بانت منه امرأته في الحكم وإن لم تبن فيما بينه وبين الله تعالى لأنه أقر أنه أتى بغير ما أكره عليه فقد أكره على الإنشاء وإنما أتى بالإقرار فكان طائعا في هذا الإقرار ومن أقر بالكفر طائعا بانت منه امرأته في الحكم وفيما بينه وبين ربه لا تبين منه.
والثاني: أن يقول خطر على بالي ذلك ثم قلت قد كفرت بالله أريد به ما طلب مني المكره ولم أرد به الخبر عن الماضي فهذا كافر تبين منه امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه بعد ما خطر هذا بباله قد يمكن من الخروج عما ابتلى به بأن ينوي غير ذلك والضرورة تنعدم بهذا التمكن فإذا لم يفعل وأنشأ الكفر كان بمنزلة من أجرى كلمة الشرك طائعا على قصد الاستحقاق. أو لا على قصده ولكن مع علمه أنه كفر وفي هذا تبين منه امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى فينبغي أن يتوب عن ذلك.
والثالث: أن يقول لم يخطر ببالي شيء ولكني كفرت بالله كفرا مستقبلا وقلبي مطمئن بالإيمان فلا تبين منه امرأته استحسانا لأنه لما لم يخطر بباله سوى ما أكره عليه. كانت الضرورة متحققة ومتى تحققت الضرورة يرخص له إجراء كلمة الشرك مع طمأنينة القلب بالإيمان.
وكذلك لو أكره على أن يصلي لهذا الصليب ومعناه يسجد لهذا الصليب فإن لم يخطر بباله شيء لم تبن امرأته منه وإن خطر بباله أن يصلي لله وهو مستقبل القبلة أو غير مستقبل القبلة ينبغي أن يقصد ذلك لأن الصلاة غير مستقبل القبلة تجوز عند الضرورة والأعمال بالنيات. فإن ترك هذا بعد ما خطر بباله فصلى يريد الصلاة للصليب كما أكره عليه كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته لأنه بعد ما خطر بباله قد وجد المخرج عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا, وهذه المسألة تدل على أن السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر.
وكذلك لو أكره على شتم محمد عليه الصلاة والسلام فإن أجابهم إلى ذلك ولم يخطر بباله شيء لم تبن منه امرأته وإن خطر على باله رجل من النصارى. يقال له محمد فإن شتم محمدا ويريد به ذلك الرجل فلا تبين منه امرأته وقد أظرف في هذه العبارة حيث لم يقل خطر بباله رجل من المسلمين يقال له محمد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال رجل من النصارى لأن الشتم في حق النصارى أهون منه في حق المسلمين, فإن ترك ما خطر بباله وشتم محمدا صلى الله عليه وسلم وقلبه كاره لذلك كان كافرا وتبين منه امرأته لأنه بعد ما خطر بباله قد وجد مخرجا عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا فإن شتم النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع الضرورة كفر وكراهته بقلبه لا تنفع شيئا.
ولو أكره بوعيد تلف على أن يعتق عبده فخطر على باله أن يقول هو حر يريد الخبر والكذب وسعه أن يمسكه فيما بينه وبين الله تعالى لما بينا أن المخبر به إذا كان باطلا فبالإخبار لا يصير حقا ولكن إن ظهر ذلك للقاضي أعتقه عليه لإقراره به أي بغير ما أكره عليه فإنه أكره على إنشاء العتق والإقرار غير الإنشاء ومن أقر بحرية مملوكه طائعا يعتق عليه

 

ج / 24 ص -115-    في القضاء ولا يضمن المكره له شيئا لأنه حين أقر أنه أنى بغير ما أكره عليه فقد صار مغريا المكره على الضمان.
الا ترى أنه لو بين لهم ذلك وقال كيف تكرهونني على العتق وهو حر الأصل أو قد أعتقته أمس أعتقه القاضي ولم يضمن له المكره شيئا ولو قال خطر ذلك على بالي فقلت هو حر أريد به عتقا مستقبلا كان حرا في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وضمن الذي أكرهه قيمته لأن الذي خطر على باله لو فعله عتق به في القضاء أيضا فإتلاف المالية بفعل المكره في القضاء متحقق وسواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد كان الإتلاف في القضاء مضافا إلى المكره فعليه قيمته ثم قد أنشأ عتقا مستقبلا وذلك يجعل المملوك حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى سواء كان مكرها أولم يكن مكرها.
الا ترى أنه لو لم يخطر بباله شيء ولكن أتى بما أكره عليه كان حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ويضمن المكره قيمته فكذلك ما سبق. فإن قال المكره قد خطر على باله الخبر بالكذب فقال هو حر يريد به الخبر الكذب فأنا أريد يمينه على ذلك كان له أن يستحلف عليه لأنه ادعى ما لو أقر به كان مكرها إياه ولا يكون له أن يضمن المكره بعده فإذا أنكره كان له أن يستحلف لرجاء نكوله.
وكذلك لو أكره على طلاق امرأته ولم يدخل بها فقال هي طالق ثم قال بعد ذلك أردت الخبر بالكذب أو أنها طالق عن وثاق أو قيد وسعه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فهي بائن منه ولا ضمان على المكره لإقراره أنه أتى بغير ما أكره عليه وأنه كان طائعا فيما قاله بناء على قصده, وإن كان قال قد كان خطر ببالي أن أقول هي طالق أريد الخبر أو أنها طالق من وثاق أو قيد فلم أقل ذلك وقلت هي طالق أريد طلاقا مستقبلا كانت طالقا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ولها على الزوج نصف المهر ويرجع على الذي أكرهه لأن الإتلاف مضاف إلى المكره في القضاء سواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد فهو وما لم يخطر بباله شيء في الحكم سواء, وإن قال المكره إنما قال ذلك يريد الخبر بالكذب أو طلاقا من قيد فطلب يمينه على ذلك استحلف له عليه لرجاء نكوله فإنه لو أقر بذلك يسقط حقه في تضمين المكره.

باب زيادة المكره على ما أمر به
قال رحمه الله: "ولو أكره رجل رجلا بوعيد تلف على أن يطلق امرأته واحدة ولم يدخل بها فقال هي طالق ثلاثا فلا ضمان على المكره"لأنه أتى بغير ما أكره عليه أما من حيث الصورة فلا إشكال وأما من حيث الحكم فلأن زوال الملك بالثلاث لانتفاء صفة الحل عن المحل وأما بواحدة فتحصل إزالة الملك مع بقاء الحل في المحل وهما غيران فكان هو طائعا فيما أتى به ولأن ما زاد مما لم يكرهوه عليه يبينها لو لم يكن غيره لأنه زاد اثنتين وهما كافيتان في البينونة وتأكد نصف الصداق بينهما قبل الدخول. وكذلك لو طلقها اثنتين أو قيل

 

ج / 24 ص -116-    له طلقها اثنتين وطلقها ثلاثا ولو قال طلقها ثلاثا فطلقها واحدة رجع عليه بنصف الصداق الذي غرم لأن ما أتى به بعض ما أكره عليه فيكون مكرها على ذلك والتلف الحاصل به يصير منسوبا إلى المكره.
الا ترى أن المأمور بإيقاع الثلاث إذا أوقع الواحدة تقع والمأمور بإيقاع الواحدة إذا أوقع الثلاث لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله ولو أكره على أن يضرب هذا بهذه الحديدة فيقطع يده ففعل المكره ذلك ثم ثنى فقطع رجله من غير إكراه فمات من ذلك كله فعليهما القود لأنه في الفعل الأول صار آلة للمكره فكأن المكره فعل ذلك بنفسه وهو في الفعل الثاني طائع والقصاص يجب على المثنى بقتل الواحد.
ولو كان أكره على أن يضربه بعصا ففعل ثم ضربه ضربة أخرى بعصا بغير إكراه أو أكرهه على أن يضربه مائة سوط فضربه مائة وعشرة فمات من ذلك فعلى عاقلة الآمر نصف الدية في ثلاث سنين وعلى عاقلة الضارب كذلك لأنه آلة في الفعل الذي أكره عليه فكأن المكره فعل ذلك بنفسه ولو قتل رجلان رجلا بالعصا والسوط يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف الدية في ثلاث سنين. فإن كان قطع يده بالسيف مكرها ثم ضربه بغير إكراه خمسين سوطا فمات فنصف الدية في مال الآمر في ثلاث سنين لأنه آلة في الفعل الأول فكأن المكره فعله بنفسه إلا أنه اجتمع في المحل الفعل الموجب للقود وغير الموجب فسقط القود بالشبهة ويكون نصف الدية في مال الآمر في ثلاث سنين لأن فعله عمد محض ونصف الدية على عاقلة الضارب في ثلاث سنين لأن فعله الضرب بالسوط وهو بمنزلة الخطأ ولو كان أكرهه على ذلك بالحبس كان ذلك كله على الفاعل لأن الإكراه بالحبس لا يجعل المكره آلة ولا يوجب نسبة الفعل إلى المكره.
ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق نصف عبده فأعتقه كله فلا شيء على الذي أكرهه في قياس قول أبي حنيفة لأن العتق عنده يتجزأ وما أتى به غير ما أكره عليه فلا يصير الإتلاف به منسوبا إلى المكره.
الا ترى أن على أصله لو أمر رجلا أن يعتق نصف عبده فأعتقه كله كان باطلا؟ وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المكره ضامن لقيمة العبد لأن عندهما العتق لا يتجزأ فالإكراه على إعتاق النصف بمنزلة الإكراه على إعتاق الكل.
ولو أكرهه على أن يعتق كله فأعتق نصفه فكذلك عندهما لأن إعتاق النصف كإعتاق الكل. فأما في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فالعتق يتجزأ فيستسعي العبد في نصف قيمته لمولاه بمنزلة ما لو كان أعتق نصف عبده طائعا ويرجع المولى على المكره بنصف قيمته لأنه أتى ببعض ما أكره عليه فكان حكم الإكراه ثابتا فيما أتى به.
الا ترى أن المأمور بإعتاق العبد لو أعتق نصفه نفذ, فإن نوى ما على العبد من نصف القيمة كان للمولى أن يرجع به أيضا على المكره ويرجع المكره به على العبد فيكون الولاء

 

ج / 24 ص -117-    بينهما نصفين لأن المكره صار كالمعتق لذلك النصف وإعتاق النصف إفساد لملكه في النصف الآخر من حيث أنه يتعذر عليه استدامة الملك فيه فيكون ضامنا له قيمة النصف الآخر ثم يرجع به على العبد لأنه يملك ذلك النصف بالضمان فيستسعيه فيه ويكون الولاء بينهما نصفين لأن هذا النصف عتق على ملك المكره بأداء السعاية إليه قالوا وينبغي أن يكون هذا الجواب فيما إذا كان المكره موسرا على قياس ضمان المعتق.
ولو أن مريضا أكرهت امرأته بوعيد تلف أو حبس حتى تسأله أن يطلقها تطليقة بائنة فسألته ذلك فطلقها كما سألت ثم مات وهي في العدة ورثته لأن سؤالها مع الإكراه باطل فإن تأثير سؤالها في الرضا منها بالفرقة وإسقاط حقها من الميراث وذلك مع الإكراه لا يتحقق ولو سألته تطليقتين بائنتين ففعل ثم مات وهي في العدة لم ترثه لأنها سألته غير ما أكرهت عليه ولأن ما زادت من عندها كاف لإسقاط حقها في الميراث.
الا ترى أنها لو سألت زوجها أن يطلقها تطليقة بائنة فطلقها تطليقتين بائنتين ثم مات وهي في العدة لم ترثه للمعنيين اللذين أشرنا إليهما.
الا ترى أنه لو لم يدخل بامرأته حتى جعل أمرها بيد رجل يطلقها تطليقة إذا شاء وأكره بوعيد تلف على أن جعل في يد ذلك الرجل تطليقة أخرى ففعل فطلقها الرجل التطليقتين جميعا لم يرجع الزوج على المكره بشيء من المهر لأن ما جعله في هذه طائعا كاف لتقرير الصداق به ولا رجوع على المكره بشيء من المهر وكذلك لو طلقها التطليقة التي جعلها الزوج إليه بغير إكراه ولو كان طلقها التطليقة التي أكره الزوج عليها دون الأخرى رجع الزوج على المكره بنصف المهر لأن تقرر نصف الصداق عليه كان باعتبار ما أكره عليه.
الا ترى أنه لو قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق تطليقة إذا شئت ثم أكره بعد ذلك أو قبله على أن يقول لها أنت طالق تطليقة إذا شئت فقال لها ذلك فطلقت نفسها التطليقتين جميعا غرم لها الزوج نصف المهر ولم يرجع على المكره بشيء. ولو طلقت نفسها التطليقة التي أكرهه عليها خاصة وثبت ذلك رجع الزوج بنصف المهر على المكره للمعنى الذي بينا ولو كانت هي المسلطة فأكرهته على أن يطلقها بوعيد تلف ففعل لم يكن لها عليه شيء من المهر لأن الإتلاف منسوب إليها للإلجاء فكأن الفرقة وقعت من جهتها قبل الدخول.
ولو كانت أكرهته بالحبس أخذته بنصف الصداق لأن الإتلاف لا يصير منسوبا إليها بهذا النوع من الإكراه فبقيت الفرقة منسوبة إلى الزوج قبل الدخول فيلزمه نصف الصداق لها. ولو أكره رجل الزوج بوعيد تلف على أن يطلقها واحدة بألف درهم فطلقها ثلاثا كل واحدة بألف فقبلت جميع ذلك طلقت ثلاثا ووجب لها عليه ثلاثة آلاف درهم ولها عليه نصف مهرها لوقوع الفرقة قبل الدخول لا بسبب مضاف إليها ولم يرجع على المكره بشيء وإن كان نصف المهر أكثر من ثلاثة آلاف درهم لأن ما زاد الزوج من عنده طائعا كاف في تقرير نصف الصداق عليه.

 

ج / 24 ص -118-    ولو أكرهه على أن يطلقها واحدة بألف ففعل وقبلت ذلك وجب له عليها ألف درهم ثم ينظر إلى نصف مهرها فإن كان أكثر من ألف درهم أدى الزوج إليها الفضل على ألف درهم ويرجع به على المكره إن كان أكرهه بوعيد تلف وهذا قول أبي يوسف ومحمد. فأما عند أبي حنيفة فلا شيء لها عليه وللزوج عليه الألف وهي مسألة الطلاق إذ الخلع يوجب براءة كل واحد من الزوجين عن صاحبه في الحقوق الواجبة بالنكاح وفي الكتاب ذكر قولهما ولم يذكر قول أبي حنيفة لأنه وضع المسألة في لفظ الطلاق وفيه شبهة اختلاف الروايات عن أبي حنيفة بخلاف لفظ الخلع على ما بينا في الطلاق ثم عندهما قد وجب له عليها ألف درهم بدل الطلاق ولها على الزوج نصف مهرها فتقع المقاصة ويؤدي الزوج إليها الفضل فيرجع به على الذي أكرهه إن كان أكرهه بوعيد تلف لأنه قرر عليه تلك الزيادة من غير عوض
ولو عتقت أمة لها زوج حر لم يدخل بها فأكرهت بوعيد تلف أو حبس على أن اختارت نفسها في مجلسها بطل الصداق كله عن زوجها ولا ضمان على المكره في ذلك لأنه أكرهها على استيفاء حقها فالشرع ملكها أمر نفسها حين عتقت, وليس في هذا الإكراه إبطال شيء عليها لأن المهر للمولى دونها ولو دخل بها الزوج ولأن ما كان بمقابلة المهر عاد إليها ولو كان قد دخل بها قبل ذلك كان الصداق لمولاها على الزوج ولم يرجع الزوج على المكره بشيء لأنه ما أكره الزوج على شيء ولأن الصداق قد تقرر عليه كله بالدخول وإنما أتلف المكره ملك البضع على الزوج وقد بينا أن ذلك لا يتقوم بالإكراه لأنه لا قيمة للبضع عند خروجه من ملك الزوج والله أعلم.

باب الخيار في الإكراه
قال رحمه الله: "وإذا قال اللص الغالب لرجل لأقتلنك أو لتعتقن عبدك أو لتطلقن امرأتك هذه أيهما شئت ففعل المكره أحدهما ولم يدخل بالمرأة فما باشر نافذ"لأن الإكراه على كل واحد منهما بعينه لا يمنع نفوذه فكذلك الإكراه على أحدهما بغير عينه ويغرم المكره الأقل من نصف المهر ومن قيمة العبد لأنه إن التزم بمباشرته الأقل منهما فالإتلاف مضاف إلى المكره وإن التزم الأكثر فالضرورة إنما تحققت له في الأقل لأنه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه باختيار الأقل فيكون هو في التزام الزيادة على الأقل غير مضطر ورجوعه على المكره لسبب الاضطرار فيرجع بالأقل لذلك.
ولو كان الزوج دخل بها لم يغرم المكره له شيئا لأنه إن أوقع الطلاق فالمهر قد تقرر عليه بالدخول وإنما أتلف المكره عليه ملك البضع وذلك لا يضمن بالإكراه وإن أوقع العتق فقد كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه بإيقاع الطلاق فيكون هو في إيقاع العتق بمنزلة الرضا به أو غير مضطر إليه بمنزلة ما لو أكره عليه بحبس أو قيد وهناك لا يرجع على المكره بشيء وإن لم يدخل بالمرأة لانعدام الضرورة والإلجاء.
ولو قيل له لنقتلنك أو لتكفرن بالله أو نقتل هذا المسلم عمدا فإن كفر بالله تعالى وقلبه

 

ج / 24 ص -119-    مطمئن بالإيمان فهو في سعة ولا تبين امرأته منه لتحقق الضرورة في ذلك بسبب الإكراه فإنه لا يحل له قتل المسلم بحال فتتحقق الضرورة في إجراء كلمة الشرك كما لو أكره على ذلك بعينه, والأصل فيه ما روي أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أني رسول الله فقال: لا أدري ما تقول فقتله وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أني رسول الله فقال نعم فخلى سبيله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "أما الأول فقد آتاه الله تعالى أجره مرتين وأما الآخر فلا إثم عليه" ففي هذا دليل أنه يسعه ذلك عند الإكراه وأنه إن امتنع منه حتى قتل كان أعظم لأجره لأنه أظهر الصلابة في الدين ولأن إجراء كلمة الشرك جناية على الدين من حيث الصورة وإن لم تكن جناية معنى عند طمأنينة القلب بالإيمان والتحرز عن الجناية على الدين صورة ومعنى سبب لنيل الثواب ولا يحل له أن يقتل المسلم بحال لأنه لو أكره على ذلك بعينه لم يحل له أن يفعله فعند التردد بينه وبين غيره أولى، فإن قتل الرجل المسلم ففي القياس عليه القود لأنه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه بإجراء كلمة الشرك على اللسان فلا يأثم به ولا تبين منه امرأته فإذا ترك ذلك وأقدم على القتل كان بمنزلة الطائع في ذلك ولما لم يتحقق الإلجاء فيه فيصير حكم القتل عليه بمنزلة ما لو أكره عليه بالحبس فيلزمه القود، ولكنه استحسن لإسقاط القود عنه إذ لم يكن عالما بأن الكفر يسعه في هذا الوجه لأن حرمة الشرك حرمة باتة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن يرخص له مع طمأنينة القلب بالإيمان فهو يتحرز مما هو حرام لأن هذه الرخصة سببها خفي قد يخفى على كثير من الناس فيصير جهله بذلك شبهة في إسقاط القود عنه ولكن يجب عليه الدية في ماله في ثلاث سنين لأن الضرورة لم تتحقق له في الإقدام على القتل فيكون فعل القتل مقصورا عليه وإن أسقطنا عنه القود للشبهة والمال يثبت مع الشبهات فتجب الدية في ماله ولكن الدية بنفس القتل تجب مؤجلة ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان عالما بأن الكفر يسعه وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه يلزمه القود لأنه لا يبقى له شبهة في الإقدام على القتل إذا كان عالما بأن الكفر يسعه فهو نظير المسلم إذا أكره على أكل الميتة ولحم الخنزير على ما بينه وهذه من جملة المسائل التي يضره العلم فيها ويخلص في جهله.
وفي هذا الكتاب من هذا الجنس خمس مسائل جمعناها في كتاب الوكالة. ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول وإن كان يعلم ذلك لا يلزمه القود لأنه بما صنع قصد مغايظة المشركين وإظهار الصلابة في الدين ويباح للإنسان أن يبذل نفسه وماله لما يكون فيه كبت وغيظ للمشركين فيقاتلهم وإن كان يعلم أنهم يقتلونه فإذا كان يحل له في نفسه ففي نفس الغير أولى وإن كان لا يحل له ذلك فيصير شبهة في درء القود عنه ولو قيل له لنقتلنك أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن هذا المسلم عمدا فينبغي له أن يأكل الميتة لما بينا أن حرمة الميتة تنكشف عند الضرورة وقد تحققت الضرورة هنا فالتحقت الميتة بالمباح من الطعام كما لو أكره عليه

 

ج / 24 ص -120-    بعينه فإن لم يأكل الميتة وقتل المسلم فعليه القود لأنه طائع في الإقدام على القتل حين تمكن من دفع البلاء عن نفسه بتناول الميتة وذلك مباح له عند الضرورة وليس في التحرز عن المباح إظهار الصلابة في الدين فلهذا لزمه القود وأشار إلى الفرق بين هذا وبين ما تقدم فقال:
ألا ترى أنه لو لم يكفر حتى قتل كان مأجورا ولو لم يأكل الميتة حتى قتل كان آثما إذا كان يعلم أنه يسعه ذلك وقد بينا في أول الكتاب قول أبي يوسف رحمه الله في أنه لا يأثم إذا امتنع من التناول عند الضرورة وأن الأصح ما ذكره في الكتاب من انكشاف الحرمة, ولو أكرهه في هذا بوعيد أو سجن أو قيد لم يسعه أن يكفر فإن فعل بانت منه امرأته لأن الضرورة لم تتحقق فإن شرب الخمر عند الإكراه بالحبس ففي القياس عليه الحد لأنه لا تأثير للإكراه بالحبس في الأفعال فوجوده كعدمه.
ألا ترى أن العطشان الذي لا يخاف على نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزمه الحد فالمكره بالحبس قياسه وفي الاستحسان لا حد عليه لأن الإكراه لو تحقق به الإلجاء صار شرب الخمر مباحا له فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الحر وفي الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عنه بوطئها ولأن الإكراه بالحبس معتبر في بعض الأحكام غير معتبر في البعض وحد الخمر ضعيف ثبت باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على ما قال علي رضي الله عنه ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي من ذلك شيئا إلا حد الخمر فإنه ثبت بآرائنا فلهذا صار هذا القدر من الإكراه شبهة في إسقاط هذا الحد خاصة, وإن قتل المسلم قتل به في الوجوه كلها لأن الإكراه بالحبس لا أثر له في نسبة الفعل إلى المكره ولا في إباحة القتل فلا يصير الإكراه بالحبس شبهة في إسقاط القود عن القاتل.
ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم عمدا أو تزني بهذه المرأة لم يسعه أن يصنع واحدا منهما حتى يقتل فإن صنع واحدا منهما فهو آثم لأن كل واحد من هذين الأمرين لا يحل له بالإكراه وإن أكره عليه بعينه فكذلك إذا أكره على أحدهما بغير عينه, فإن أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان مأجورا لأنه بذل نفسه في التحرز عن الحرام وقيل بالذي قتله لأنه قتله ظلما فعليه القود وإن زنا كما أمره ففي القياس عليه الحد. وفي الاستحسان عليه المهر. ومن أصحابنا من قال المراد بالقياس في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وبالاستحسان قوله الآخر كما بينا فيما إذا أكره على الزنى بعينه, والأصح أن هذا قياس واستحسان أجريناه على قوله الآخر, وجه القياس أنه إذا أقدم على قتل المسلم كان آلة في ذلك الفعل وكان الفعل منسوبا إلى غيره وهو المكره فلا يكون هو مؤاخذا بشيء من أحكامه.
 وإذا أقدم على الزنى كان الفعل منسوبا إليه بحكمه فهو للإقدام على الزنى هنا مع تمكنه من دفع البلاء عن نفسه على وجه لا يصير مؤاخذا بشيء من أحكام الفعل بإن يقتل الرجل فيلزمه الحد بخلاف ما لو أكره على الزنى بعينه ووجه الاستحسان أن في هذه الحالة لا

 

ج / 24 ص -121-    يحل له الإقدام على قتل المسلم فهو أقدم على الزنى دفعا للقتل عن غيره ولو أقدم على الزنى دفعا للقتل عن نفسه بأن أكره عليه بعينه سقط عنه الحد ولزمه المهر فهذا مثله.
يوضحه أن الضرورة تحققت له في كل واحد من هذين الفعلين حين لم يسعه الإقدام على واحد منهما فيجعل في حق كل واحد منهما كأنه أكره عليه بعينه حتى لو قتل المسلم كان القود على المكره وكان المكره مستحقا للتعزير والحبس بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه فلذلك إذا أقدم على الزنى كان عليه الصداق وهذا عند الحد بمنزلة ما لو أكرهه عليه بعينه.
ألا ترى أنه لو أكرهه أن يقتل أحد هذين الرجلين عمدا كان القود على المكره إذا قتل أحدهما لأنه لما لم يسعه الإقدام على قتل واحد منهما صار في حق كل واحد منهما كأنه أكره على قتله بعينه. ولو أكرهه على ذلك بالحبس أخذ بحد الزنى إن زنا وبالقود إن قتل الرجل لأنه لا يسعه الإقدام على واحد من الفعلين بسبب الإكراه وإن تحققت الضرورة به فالإكراه بالحبس لا يكون مؤثرا في موجب واحد منهما كما لو أكره عليه بعينه.
ولو أكرهت المرأة على الزنى بحبس أو قيد درى ء عنها الحد لأنها لو أكرهت على ذلك بالقتل يسعها التمكين ولا تأثم فيه, فإذا أكرهت عليه بالحبس يصير شبهة في إسقاط الحد عنها بمنزلة شرب الخمر وإنما فرقنا بين جانب الرجل والمرأة في الإكراه بالقتل لأن الرجل مباشر لفعل الزنى مستعمل للآلة في ذلك وحرمة الزنى حرمة تامة فلا تنكشف عند الضرورة لحرمة القتل فأما المرأة فهي مفعول بها وليس من جهتها مباشرة للفعل إنما الذي منها التمكين وذلك بترك الامتناع إلا أن في غير حالة الضرورة لا يسعها ذلك لوجوب دفع المباشرة للزنا عن نفسها وذلك المعنى ينعدم عند تحقق الضرورة بالإكراه بالقتل فلا يأثم في ترك الامتناع كمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خوف الهلاك عن نفسه لا يكون آثما في ذلك.
ولو قال له: لأقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم أو تأخذ ماله فتستهلكه وهو أكثر من الدية أو أقل فلا بأس بأن يأخذ المال أو يستهلكه ويكون ضمانه على المكره لأن الإلجاء قد تحقق ويباح إتلاف المال عند الإلجاء كما لو أكره عليه بعينه ويصير هو في ذلك آلة للمكره فضمانه على المكره. وإن قتل الرجل قتل به الذي ولي القتل لأنه لما أبيح له الإقدام على إتلاف المال ولا يلحقه بذلك إثم ولا ضمان كان هو غير مضطر في الإقدام على القتل فيكون بمنزلة الطائع فيلزمه القود وهو نظير ما تقدم من مسألة الميتة وشرب الخمر إلا أن هنا إن لم يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم في ذلك بخلاف مسألة الميتة لأن الحرمة هناك لحق الشرع وحالة الضرورة مستثناة من الحرمة شرعا وهنا بخلافه فإن تناول مال الغير واستهلاكه بغير رضاه ظلم في حق صاحب المال والظلم حرام إلا أن بسبب الضرورة يباح له الإتلاف شرعا مع بقاء حق الملك في المال فلهذا وجب الضمان له على المكره جبرانا لحقه فإذا امتنع من ذلك كان ممتنعا من الظلم فلا يأثم به.

 

ج / 24 ص -122-    ألا ترى أن المضطر إلى طعام الغير يسعه أن يأخذه بغير رضا صاحبه فإن أبى صاحبه أن يعطيه فلم يأخذ حتى مات لم يكن آثما في تركه لهذا المعنى فكذلك المكره.
ألا ترى أنه لو قيل له لنقتلنك أو لتدلنا على مالك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما فإذا كان لو قتل في دفعه عن مال نفسه لم يكن آثما فكذلك إذا امتنع عن استهلاك مال الغير حتى قتل. قال ولو أثم في هذا في ماله أو مال غيره ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم
"من قتل دون ماله فهو شهيد" وهذا حديث مشهور أشار إلى الاستدلال به من حيث أنه لو قتل دفعا عن مال نفسه أو عن مال غيره كان شهيدا فكيف لا يكون شهيدا في دفع ما لا يسعه الإقدام عليه فبهذا تبين أنه لا يأثم إذا امتنع من ذلك كله.
وكذلك لو قال لأقتلنك أو لتطلقن امرأتك أو لتعتقن عبدك فلم يفعل حتى قتل لم يأثم لأنه بذل نفسه دفعا عن ملك محترم له فإن ملك النكاح محترم لملك المال وربما يكون الاحترام لملك النكاح أظهر فلا يكون هو آثما وإن كان يسعه الإقدام على كل واحد منهما لتحقق الضرورة. ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده عمدا وقيمته ألف درهم أو يستهلك ماله هذا وهو ألفا درهم فإن أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم لأن حرمة القتل لم تنكشف بالإكراه وحرمة المال قائمة مع الإكراه، وإن أبيح له الإقدام على استهلاكه للدفع عن نفسه فلا يكون آثما في الامتناع لأنه يمتنع من السفه في استهلاك المال وقتل النفس من السفه فإن استهلك ماله فقد أحسن وضمانه على المكره بالغا ما بلغ لأن الإلجاء قد تحقق فيكون فعله في إتلاف المال منسوبا إلى المكره وهو محسن فيما صنع لأنه جعل ماله دون نفسه وقال عليه الصلاة والسلام لواحد من أصحابه
"اجعل مالك دون نفسك ونفسك دون دينك" فإن قتل العبد ولم يستهلك المال فهو آثم ولا شيء على المكره لأن الإلجاء لم يتحقق في القتل فإنه كان متمكنا من دفع الشر عن نفسه من غير مباشرة القتل فبقي فعله في القتل مقصورا عليه فليس له على المكره قود ولا قيمة.
ولو أكرهه بوعيد القتل على أن يقتل أحد عبديه هذين وأحدهما أقل قيمة من الآخر فقتل أحدهما عمدا كان له أن يقتل المكره لتحقق الإلجاء هنا فيما أقدم عليه من القتل فحكم القتل في العبد الذي هو قليل القيمة كهو في كثير القيمة وإذا تحقق الإلجاء صار القتل منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فإنه لا مساواة بين استهلاك المال والقتل وإنما يتحقق الإلجاء في الأدنى والأدنى استهلاك المال الذي يباح له الإقدام عليه عند الضرورة فبقي في قتل العبد مباشرا للفعل مختارا وهنا حرمة نفس العبدين سواء فيتحقق الإلجاء في حق كل واحد منهما.
وكذلك لو أكرهه بوعيد القتل على أن يقطع يد نفسه أو يقتل عبده عمدا ففعل أحدهما كان له أن يقتص من المكره لأن إلجاء تناول كل واحد منهما بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه. فإن قيل لا كذلك فإنه يباح له الإقدام على قطع يد نفسه عند الإكراه ولا يباح له الإقدام

 

ج / 24 ص -123-    على قتل عبده فينبغي أن يجعل هذا نظير الفصل الأول. قلنا لا كذلك فالأطراف محترمة كالنفوس إلا أنه إذا أكره على قطع يد نفسه فباعتبار مقابلة طرفه بنفسه جوزنا له أن يختار أدنى الضررين وهذا المعنى لا يتحقق عند مقابلة طرفه بنفس عبده فالضرر عليه في قطع طرفه فوق الضرر في قتل عبده.
ألا ترى أنه لو خاف على عبده الهلاك لا يحل له أن يقطع يد نفسه ليتناوله العبد فبهذا تبين أن المساواة بينهما في الحرمة عند مقابلة أحدهما بالآخر فيتناول الإكراه كل واحد منهما.
ولو أكرهه على أن يضرب أحد عبديه مائة سوط ففعل ذلك بأحدهما فمات منه غرم المكره أقل القيمتين إن كان الذي بقي أقلهما قيمة لأن الواجب بهذا الفعل ضمان المالية في حق المولى وفيما يرجع إلى المالية الضرورة للمولى إنما تتحقق في الأقل فهو إذا أقدم على ضرب أكثرهما قيمة كان مختارا في الزيادة بمنزلة ما لو أكره على الهبة والتسليم في أحدهما بغير عينه بخلاف ما سبق فهناك موجب الفعل القود يستوي فيه قليل القيمة وكثير القيمة وهنا موجبه المال بطريق الجبران لما فات عن المولى وبينهما في المالية تفاوت وإنما تتحقق له الضرورة في أقلهما.
ولو أكرهه في كله بوعيد حبس لم يكن على المكره شيء . ولو أكرهه على أن يأخذ مال هذا الرجل أو مال هذا الرجل فلا بأس أن يأخذ مال أحدهما لأن الإكراه قد تناولهما لاستوائهما في بقاء الحرمة والتقوم في حق كل واحد منهما كحق المالك وإن أبيح له الإقدام على الأخذ لدفع الهلاك عن نفسه وأحب إلينا أن يأخذ مال أغناهما عن ذلك لأن أخذ المال من صاحبه يلحق الهم والحزن به وذلك يتفاوت بتفاوت حال المأخوذ منه في الغنى فالأخذ من الفقير يلحق به هما عظيما لأنه لا يرجع إلى ملكه مثله بخلاف الأخذ من الغنى في مباسطة الشرع مع الأغنياء في المال الكثير منه مع الفقراء يعني به الزكاة وصدقة الفطر وضمان العتق والنفقة فلهذا يستحب له أن يأخذ مال أغناهما. فإن كانا في الغنى عنه سواء. قلنا خذ أقلهما لأن الضرورة تتحقق في الأقل وفي القليل من المال من التساهل بين الناس ما ليس في الكثير، وقيل: إن استويا في المقدار. قلنا خذ مال أحسنهما خلقا وأظهرهما جودا وسماحة لأن الهم والحزن بالأخذ منه يتفاوت بحسن خلقه وسوء خلقه وبخله وجوده فإن أخذه واستهلكه كما أمره غرمه الذي أكرهه لأن الإكراه لما تناوله صار الإتلاف منسوبا إلى المكره. وإن أخذ أكثرهما فاستهلكه غرم المكره مقدار أقلهما لأن الإتلاف إنما يصير منسوبا إلى المكره فيما تحقق الإلجاء فيه وهو الأقل ثم يغرم المستهلك الفضل لصاحب المال لأنه في الزيادة على الأقل لا ضرورة له في الاستهلاك فيقتصر حكم الاستهلاك عليه.
ولو أكرهه على أن يقتل عبد هذا الرجل عمدا أو يأخذ مال هذا الآخر أو مال صاحب العبد فيطرحه في مهلكة أو يعطيه إنسانا فلا بأس أن يعمل في المال ما أمره به لتحقق الضرورة فيه وغرمه بالغا ما بلغ على المكره لأن الإتلاف صار منسوبا إليه, وإن قتل العبد

 

ج / 24 ص -124-    فعلى القاتل القود لأن الإكراه لم يتناول القتل هنا إذ لا مساواة بين حرمة القتل وحرمة استهلاك المال وإذا تمكن من دفع البلاء عن نفسه بغير القتل كان هو في الإقدام على القتل طائعا فعليه القود وعلى المكره الأدب والحبس لارتكابه ما لا يحل. ولو كان إنما أمره أن يستهلك المال ويضرب العبد مائة سوط فلا بأس باستهلاك المال وضمانه على المكره ولا يحل له ضرب العبد لأن مثل هذا الضرب يخاف منه الهلاك فيكون بمنزلة القتل فإن ضربه فمات منه كانت قيمته على عاقلة الضارب ولا ضمان على المكره لأنه طائع في الإقدام على الضرب حتى يتمكن من التخليص بدونه على وجه لا يلحقه إثم ولا ضمان والقتل بالسوط يكون سببه العمد فيوجب القيمة على عاقلة الضارب. ولو كان العبد والمال للمكره لم يسعه ضرب عبده ولكنه يستهلك ماله ويرجع به على المكره. فإن ضرب عبده فمات لم يكن على المكره ضمان لأن المكره. لما كان يتخلص بدون الضرب كان هو في الإقدام على الضرب طائعا.
ومن قتل عبد نفسه طائعا لم يجب الضمان له على غيره. ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده هذا أو يقتل العبد الذي أكرهه أو يقتل ابنه أو قال أقتل عبدك هذا الآخر أو أقتل أباك لم يسعه أن يقتل عبده الذي أكرهه على قتله لأن الإكراه لم يتحقق هنا فالمكره من يخاف التلف على نفسه وهنا إنما هدده بقتل من سماه دون نفسه فلا يكون هو ملجأ به إلى الإقدام على القتل فإن قتل عند ذلك فلا شيء على المكره سوى الأدب لأنه لم يصر آلة للمكره حين لم يتحقق الإلجاء.
ألا ترى أنه لو قيل له لتقتلن ابنك أو لتقتلن هذا الرجل وهو لا يخاف منه سوى ذلك لم يسعه أن يقتل الرجل وإن قتله قتل به وكذلك لو أكرهوه على أن يستهلك مال هذا الرجل أو يقتلون أباه فاستهلكه ضمنه ولم يرجع به على المكره لأنه لم يصر ملجأ إلى هذا الفعل حتى لم يصر خائفا على نفسه ولأن قتل أبيه أو ابنه يلحق الهم والحزن به بمنزلة الحبس والقيد في نفسه.
ولو أكره بالحبس على القتل أو استهلاك المال اقتصر حكم الفعل عليه كذلك ها هنا إلا أنه لا يأثم في ذلك الاستهلاك لأنه يجعل مال الغير وقاية لنفس ابنه وكما يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفسه يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفس ابنه أو لنفس أجنبي آخر.
ألا ترى أن المضطر الذي يخاف الهلاك إذا عجز عن أخذ طعام الغير وهناك من يقوى على أخذ ذلك منه وسعه أن يأخذه فيدفعه إلى المضطر فيأكله ويكون ضامنا لما يأخذه وهذا لأن فعله من باب الأمر بالمعروف فإنه يحق على صاحب الطعام شرعا دفع الهلاك عن المضطر فإذا امتنع من ذلك كان فعل الغير به ذلك من نوع الأمر بالمعروف فيسعه ذلك فكذلك في الاستهلاك للمال ولو لم يستهلكه حتى قتل الرجل أباه لم يكن عليه إثم إن شاء الله لأنه كان يلزمه غرمه إذا استهلكه فيكون له أن يمتنع من ذلك كما يكون للقوي في فصل المضطر أن يمتنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر.

 

ج / 24 ص -125-    ألا ترى أن حرمة أبيه في حقه لا تكون أعظم من حرمة نفسه وفي حق نفسه يسعه أن يمتنع من الاستهلاك حتى يقتل ففي حق أبيه أولى إلا أن يكون شيئا يسيرا فلا أحب له أن يترك استهلاكه ثم يغرم لصاحبه لأنه يحق عليه إحياء أبيه بالغرم اليسير يعني بالإنفاق عليه فكذلك في فصل الإكراه إذا كان شيئا يسيرا لا يستحب له أن يمتنع من التزام غرمه ويدع أباه يقتل وكذلك في الناس التحرز عن التزام القليل لإحياء أبيه يعد من العقوق والعقوق حرام وكذلك في مسألة المضطر المستحب للقوي أن لا يمتنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر لأن ذلك يسير لا يجحف به غرمه ولو كان بحيث يجحف به لم أر بأسا أن لا يأخذه.
 ولو رأى رجلا يقتل رجلا وهو يقوى على منعه لم يسعه إلا أن يمنعه وإن كان يأتي ذلك على نفس الذي أراد قتل صاحبه بخلاف فضل المال لأن هذا لا يلتزم غرما بهذا الدفع وإن أتى على نفس القاصد فالقاصد باغ قد أبطل دمه بما صنع.
ألا ترى أنه إذا قصد قتله فقتله المقصود لم يلزمه شيء فكذلك إذا قصد قتل غيره فقتله هذا الذي يقوى عليه فأما في فضل المال القوي فيلتزم الغرم بما يأخذه لأن بسبب الضرورة للمضطر لا تسقط الحرمة والقيمة في حق صاحب المال فلهذا كان له أن يمتنع من ذلك. ولو انتهوا إلى بئر فيها ماء فمنع المضطر من الشرب منها فلم يقو عليهم وقوي صاحبه على قتالهم حتى يأخذ الماء فيسقيه إياه لم يسعه إلا ذلك وإن أتى على أنفسهم لأنهم ظالمون في منع المضطر حقه فحق السقيا في ماء البئر ثابت لكل أحد ولو قوي المضطر بنفسه على أن يقاتلهم بالسيف حتى يقتلهم ويخلوا بينه وبين الماء فكذلك من يقوى على ذلك من رفقائه.
ألا ترى أنه لا يلتزم غرما يفعله فهو نظير القاصد إلى قتل الغير فأما في الطعام والشراب الذي أحرزوه في أوعيتهم فلم يبق للغير فيه حق وإن اضطر إلى ذلك.
ألا ترى أنه لا يسعه أن يقاتلهم عليه إن منعوه فكذلك لغيره أن يمتنع من التزام الغرم بأخذه.
ألا ترى أن الماء الذي في البئر لو باعوه منه لم يجز بخلاف ما لو أحرزوه في أوعيتهم ولو بذلوا له الطعام أو الشراب بثمن مثل ما يشترى به مثله فأبى أن يأخذه بذلك حتى مات وهو يقدر على ثمنه كان آثما في ذلك لأنه في معنى قاتل نفسه حين امتنع من تحصيل ما هو سبب لبقائه مع قدرته على ذلك وقد قال الله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ولأنه ملق نفسه في التهلكة بالامتناع من آداء الثمن عند عرضهم عليه إذا كان واجدا للثمن ولو قيل له لتشربن هذا الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن ابنك هذا أو أباك لم يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة لانعدام الضرورة.
ألا ترى أن هذا بمنزلة التهديد بالحبس في حقه كما قررنا. ولو قيل له لتقتلن ابنك هذا أو أباك أو لتبيعن عبدك هذا بألف درهم فباعه فالقياس أن البيع جائز لأنه ليس بمكره على البيع فالمكره من يهدد بشيء في نفسه, ولكنه استحسن فقال البيع باطل لأن البيع يعتمد

 

ج / 24 ص -126-    تمام الرضا وبما هدد به ينعدم رضاه فالإنسان لا يكون راضيا عادة بقتل أبيه أو ابنه ثم هذا يلحق الهم والحزن به فيكون بمنزلة الإكراه بالحبس والإكراه بالحبس يمنع نفوذ البيع والإقرار والهبة والعقود التي تحتمل الفسخ فكذلك الإكراه بقتل ابنه وكذلك التهديد بقتل ذي رحم محرم لأن القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في حكم الأحياء بدليل أنها توجب العتق عند الدخول في ملكه.
ولو قيل له: لنحبسن أباك في السجن أو لتبيعن هذا الرجل عبدك بألف درهم ففعل ففي القياس البيع جائز لما بينا أن هذا ليس بإكراه فإنه لم يهدد بشيء في نفسه وحبس ابنه في السجن لا يلحق ضررا به والتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته وكذلك في حق كل ذي رحم محرم, وفي الاستحسان ذلك إكراه كله ولا ينفذ شيء من هذه التصرفات لأن حبس ابنه يلحق به من الحزن ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر فالولد إذا كان بارا يسعى في تخليص أبيه من السجن وإن كان يعلم أنه يحبس وربما يدخل السجن مختارا ويحبس مكان أبيه, ليخرج أبوه فكما أن التهديد بالحبس في حقه بعدم تمام الرضا فكذلك التهديد بحبس أبيه والله أعلم.

باب الإكراه فيما يوجب لله عليه أن يؤديه
قال رحمه الله: "وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يكفر يمينا قد حنث فيها فكفر بعتق أو صدقة أو كسوة أجزأه ذلك ولم يرجع على المكره بشيء"لأنه أمره بإسقاط ما هو واجب عليه شرعا وذلك من باب الحسبة فلا يكون موجبا للضمان على المكره وكأنه يعوضه ما جبره عليه من التكفير بسقوط التبعة عنه في الآخرة وأما الجواز عن الكفارة فلأن الفعل في التكفير مقصور عليه لما لم يرجع على المكره بشيء ومجرد الخوف لا يمنع جواز التكفير.
ألا ترى أن كل مكفر يقدم على التكفير خوفا من العذاب ولا يمنع ذلك جوازه, ولو أكرهه على أن يعتق عبده هذا عنها ففعل لم يجزه لأن المستحق عليه شرعا الكفالة لا إبطال الملك في هذا العبد بعينه فالمكره في إكراهه على إعتاق هذا العبد بعينه ظالم فيصير فعله في الإتلاف منسوبا إلى المكره ويجب عليه ضمان قيمته وإذا لزمه قيمته لم يجز عن الكفارة لانعدام التكفير في حق المكره حين صار منسوبا إلى غيره ولأن هذا في معنى عتق بعوض والكفارة لا تتأتى بمثله, ولو كان أكرهه بالحبس أجزأه عن الكفارة لأن الفعل منسوب إليه دون المكره ولم يستوجب الضمان على المكره بهذا الإكراه فتتأدى به الكفارة لاقتران النية بفعل الإعتاق.
ولو أكرهه بوعيد تلف على الصدقة في الكفارة ففعل ذلك نظر فيما تصدق به فإن كانت قيمته أقل من قيمة الرقاب ومن أدنى الكسوة التي تجزئ لم يضمن المكره شيئا لتيقننا بوجوب هذا المقدار من المال عليه في التكفير فيكون المكره مكتسبا سبب إسقاط الواجب عنه, وإن كان أكثر قيمة من غيرها ضمنه الذي أكرهه لأنه لا يغبن في وجوب هذا المقدار عليه ولا هذا

 

ج / 24 ص -127-    النوع بل هو مخير شرعا بين الأنواع الثلاثة ويخرج عن الكفارة باختياره أقلها فيكون المكره متلفا عليه هذا النوع بغير حق فيضمنه له ولا يجزئه عن الكفارة. وإن قدر على الذي أخذه منه كان له أن يسترده لأنه كان مكرها على التسليم إليه وتمليكه إياه مع الإكراه فاسد فيتمكن من استرداده. وإن كان أكرهه بالحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الفعل لا يصير منسوبا إليه بهذا الإكراه ولكنه يرجع به على الذي أخذ منه لأنه ما كان راضيا بالتسليم إليه والتمليك مع الإكراه بالحبس فإن أمضاه له بعد ذلك بغير إكراه أجزأه إن كان قائما وإن كان مستهلكا لم يجزه لأنه إذا كان قائما في يده فإمضاؤه بمنزلة ابتداء التصدق عليه. وإن كان مستهلكا فهو دين عليه والتصدق بالدين على من هو عليه لا يجزئ عن الكفارة وكذلك هذا في كفارة الظهار.
وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله أنه إذا أكرهه في كفارة الظهار على عتق عبد بعينه وذلك أدنى ما يجزئ في الكفارة لا يكون على المكره فيه ضمان ويجزيه عن الكفارة لأنا تيقنا أن ذلك القدر واجب عليه فالتكفير بالعتق عين في الظهار والأصح أن ذلك لا يجزيه وعلى المكره قيمته لأنه وإن لم يكن ظالما له في القدر فهو ظالم له في العين إذ ليس عليه إعتاق هذا بعينه وللناس في الإعتاق أغراض فيلزم المكره الضمان بهذا الطريق وإذا لزمه الضمان لم يجزه عن الكفارة. قال "وكذلك كل شيء وجب لله تعالى عليه من بدنة أو هدي أو صدقة أو حج فأكره على أن يمضيه ففعل ولم يأمره المكره بشيء بعينه فلا ضمان على المكره ويجزي عن الرجل ما أمضاه" ولأن المكره محتسب حين لم يزد على أمره بإسقاط الواجب والوفاء بما التزمه وقد قال الله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] فإن أوجب شيئا بعينه على نفسه صدقة في المساكين فأكره بحبس أو قيد على أن يتصدق بذلك جاز ما صنع منه ولم يرجع على المكره بشيء لأن الوفاء بما التزمه مستحق عليه شرعا كما التزمه فإذا التزم التصدق بالعين كان عليه الوفاء به في ذلك العين والمكره ما زاد في أمره على ذلك فلا يرجع عليه بشيء. وكذلك الأضحية وصدقة الفطر لو أكره عليهما رجل حتى فعلهما أجزآه ولم يرجع على المكره بشيء لأن ذلك واجب عليه شرعا وهذا الجواب في الأضحية بناء على ظاهر الرواية أنها واجبة ومقصوده أن يبين أن الواجب الذي يثبت للإمام فيه ولاية الأخذ والذي لا يثبت له في ذلك ولكن من عليه يقضي بأدائه في حكم الإكراه سواء.
ولو قال لله تعالى علي هدي أهديه إلى بيت الله فأكره بالقتل على أن يهدي بعيرا أو بدنة ينحرها ويتصدق بها ففعل كان المكره ضامنا قيمتها ولا يجزيه ما أوجبه على نفسه لأن بلفظ الهدي لا يتعين عليه البعير ولا البقرة ولكن يخرج عنه بالشاة فالمكره ظالم له في تعيين البدنة فيلزمه ضمان قيمتها ولا يجزيه عما أوجبه لحصول العوض أو لأن الفعل صار منسوبا إلى المكره. ولو أكرهه على أدنى ما يكون من الهدي في القيمة وغيرها فأمضاه لم يغرم المكره شيئا لأنه ما زاد على ما هو الواجب عليه شرعا.

 

ج / 24 ص -128-    ولو قال لله علي عتق رقبة فأكرهه على أن يعتق عبدا بعينه بقتل فأعتقه ضمن المكره قيمته ولم يجزه عن النذر لأنه التزم بعتق رقبة بغير عينها والمكره في أمر بعتق عبد بعينه ظالم فيكون ضامنا قيمته وإن كان يعلم الذي أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يكون من التسمية لم يكن على المكره ضمان وأجزأ عن المعتق لتيقننا بوجوب هذا المقدار عليه, ومن قال من أصحابنا في مسألة كفارة الظهار أن المكره لا يضمن إذا أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يجزئ إنما أخذ جوابه من هذا الفصل وعلى ما قلنا من الجواب المختار هذه لا تشبه تلك لأن الناذر إنما يلتزم الوفاء بالمنذور من أعيان ملكه فيصير كالمعتق للأدنى عن نذره فأما في الكفارة فالواجب دين في ذمته ولا يتناول أعيان ملكه.
ألا ترى أن في الكفارات قد يخرج بغير الإعتاق عند العجز عن الإعتاق وفي النذر لا يخرج بدون الإعتاق ولا يكون الإعتاق إلا في ملكه فمن هذا الوجه يقع الفرق.
ولو قال لله علي أن أتصدق بثوب هروي أو مروي فأكرهه على أن يتصدق بثوب بعينه فإنه ينظر إلى الذي تصدق به فإن كان العلم محيطا بأنه أدنى ما يكون من ذلك الجنس في القيمة وغيرها أجزأه ذلك ولا ضمان على المكره لأنه ما ألزمه بالإكراه إلا ما يعلم أنه مستحق عليه بنذره شرعا. وإن كان غيره أقل من قيمته نظر إلى فضل ما بين القيمتين فغرم المكره ذلك لأنه في الزيادة على الأدنى يلزمه ذلك بالإكراه من غير أن كان واجبا عليه وهذا بخلاف الهدي والأضحية والعتق لأن ذلك مما لا ينتقض فإذا ضمن المكره بعضه صار ناقضا ما وجب عليه فلا يجزيه عن الواجب فلهذا يغرم المكره جميع القيمة والتصدق بالثوب مما يحتمل التجزي فإنه لو تصدق بنصف ثوب جيد يساوي ثوبا كما لزمه أجزأه عن الواجب فنحن وإن أوجبنا ضمان الزيادة على المكره وقع المؤدى في مقدار الأدنى مجزيا عن الواجب يوضحه أن في التصدق تعتبر المالية.
ألا ترى أن له أن يتصدق بقيمة الثوب مكان الثوب وعند النظر إلى القيمة يظهر الفضل وفي الهدايا والضحايا وعتق الرقاب لا تعتبر المالية حتى لا يتأدى الواجب بالقيمة فلهذا قلنا إذا صار ضامنا للبعض ضمن الكل.
وإذا قال لله علي أن أتصدق بعشرة أقفزة حنطة على المساكين فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق بخمسة أقفزة حنطة جيدة تساوي عشرة أقفزة حنطة رديئة فالمكره ضامن لطعام مثله لأن المؤدى لا يخرج عن جميع الواجب فإنه لا معتبر بالجودة في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها ولا يمكن تجويزها عن خمسة أقفزة حنطة لأن في ذلك ضررا على الناذر فالمكره ظالم له في التزام الزيادة على الأدنى فلهذا يضمن له طعاما مثل طعامه وعلى الناذر أن يتصدق بعشرة أقفزة رديئة. ولو أن رجلا له خمس وعشرون بنت مخاض فحال عليها الحول فوجب فيها ابنة مخاض وسط فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق على المساكين بابنة مخاض جيدة غرم المكره فضل قيمتها على قيمة الوسط لأنه ظالم له في إلزام هذه الزيادة وقد

 

ج / 24 ص -129-    جازت الصدقة عن المتصدق في مقدار الوسط فلا يغرم المكره ذلك لأن هذا ليس بمال الربا فيمكن تجويز بعضه عن كله.
ألا ترى أنه لو تصدق بنصف ابنة مخاض جيدة فبلغ قيمته قيمة ابنة مخاض وسط أجزأه عن الواجب فلهذا لا يوجب على المكره إلا ضمان الفضل بينهما والله أعلم.

باب الإكراه في الوكالة
قال رحمه الله: "ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد قتل على أن يوكل رجلا بعتق عبد له أو بطلاق امرأة لم يدخل بها ففعل ذلك جاز التوكيل ونفذ تصرف الوكيل"لأن الإكراه لما لم يمنع صحة مباشرة الإعتاق والطلاق, لا يمنع صحة التوكيل بهما أيضا ولا ضمان على الوكيل لأنه نائب معبر فعبارته كعبارة الموكل ولكن الضمان على المكره كما لو أكرهه على مباشرة الإيقاع وهذا استحسان قد بيناه في جعل الأمر في يد الغير عن إكراه فالتوكيل قياسه.
ولو أكرهه على أن وكله ببيع عبده من هذا بألف درهم وأكرهه على دفعه إليه حتى يبيعه ففعل ذلك فباعه الوكيل وأخذ الثمن ودفع العبد إلى المشتري فهلك العبد في يده من غير فعله والوكيل والمشتري غير مكرهين فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المشتري قيمة عبده لأنه قبضه طائعا بشراء فاسد وإن شاء ضمن الوكيل لأنه متعد في البيع والتسليم طائعا وإن شاء ضمن المكره لأن إكراهه على التوكيل والتسليم بمنزلة الإكراه على مباشرة البيع والتسليم في حكم الإتلاف والضمان فإن ضمن المشتري لم يرجع على أحد بشيء لأنه ضمن بسبب باشره لنفسه وإن ضمن الوكيل يرجع الوكيل على المشتري بالقيمة لأنه قائم مقام المالك في الرجوع على المشتري ولأنه ملكه بالضمان وقد قبضه المشتري منه بحكم شراء فاسد فيكون له أن يسترد منه قيمته لما تعذر استرداد العين وعلى الوكيل رد الثمن إن كان قبض ولا يكون له الثمن بما ضمن له من القيمة لأنه باعه للمكره ونقض ما ضمنه له من القيمة لأنه باعه للمكره وقد نقض المكره البيع بتضمينه القيمة ولا يشبه هذا الغصب يعني أن الغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة ينفذ البيع من جهته لأنه باعه هناك لنفسه وقد تقرر الملك له بالضمان وهنا باعه بطريق الوكالة عن المكره.
ألا ترى أن المكره لو رضي بعد زوال الإكراه نفوذ البيع من جهته والمشتري بالقبض صار متملكا على المكره حتى لو أعتقه نفذ عتقه فلا يمكن أن يجعل متملكا بهذا السبب على الوكيل فلهذا لا ينفذ البيع من جهته ولا يسلم له الثمن بل يرده على المشتري لأن استرداد القيمة من المشتري كاسترداد العين ولا شيء للوكيل على المكره لأنه ما أكرهه على شيء وإنما التزم الوكيل ضمان القيمة بالبيع والتسليم وهو كان طائعا في ذلك وإن كان المكره ضمن المكره القيمة كان له أن يرجع بها إن شاء على المشتري وإن شاء على الوكيل لأنه قائم مقام المكره وقد كان له أن يرجع على أيهما شاء فإن قال الوكيل للمكره لا أضمن لك شيئا لأنك أنت الذي أمرته أن يدفع إلي لم ينفعه ذلك شيئا لأنه كان غير مكره على قبضه وقد

 

ج / 24 ص -130-    كان له أن لا يقبضه وإنما ضمنه الذي أكرهه بقبضه وتسليمه. فإن قال الوكيل حين ضمن القيمة أنا أجيز البيع فيما بيني وبين المشتري ويكون الثمن لي لم يكن له ذلك لأن المشتري إنما يملكه على المكره فلا يمكن جعله متملكا على الوكيل وإن ملكه بخلاف الغصب على ما بينا ولو كان أكرهه بالحبس على ذلك كان كذلك إلا أنه لا يضمن المكره لأن الإتلاف لا يصير منسوبا إليه بالإكراه بالحبس. ولو كان المولى والوكيل مكرهين بالقتل فإن المولى بالخيار إن شاء ضمن المشتري قيمة عبده لأنه قبضه بشراء فاسد طائعا وإن شاء ضمن المكره بإكراهه إياه على التسليم بوعيد تلف ثم يرجع بها المكره على المشتري لأنه قائم مقام من ضمنه ولأنه ملكه بالضمان ولا ضمان له على الوكيل لأنه كان مكرها بالقتل على القبض والتسليم فلا يبقى في جانبه فعل معتبر. وإن كانوا جميعا مكرهين بالقتل فالضمان على المكره خاصة لأن الإتلاف منسوب إليه إذ لم يبق للمكره فعل معتبر في التسليم والقبض ولا يرجع المكره على أحد بشيء لأنهم صاروا كالآلة له وليس للمتلف أن يرجع على الآلة بشيء وإن كانوا مكرهين بالحبس فلا ضمان على المكره وللمولى أن يضمن المشتري قيمة عبده لأن فعل المشتري في القبض مقصور عليه وكذلك فعل الوكيل في التسليم فإن الإكراه بالحبس لا يخرج واحد منهما من أن يكون مباشرا للفعل فإن ضمن الوكيل رجع الوكيل بالقيمة على المشتري لأنه قام مقام من ضمنه. وإن اختار تضمين المشتري فهو الذي يلي خصومته بما دون الوكيل لأن الوكيل كان مكرها على البيع والتسليم بالحبس وذلك ينفي التزامه العهدة بالعقد فيخرج من الوسط إذا اختار المولى تضمين المشتري وتكون الخصومة فيه لمن باشر العقد له بمنزلة ما لو وكل عبدا محجورا عليه أو صبيا محجورا ببيع فاسد وهذا لأن الوكيل لو خاصم المشتري إنما يخاصمه بحكم العقد فإنه قد استفاد البراءة من الضمان حين اختار المولى تضمين المشتري وهو كان مكرها على العقد بالحبس وذلك يمنع ثبوت أحكام العقد في حقه.
ولو أكره المولى بالقتل وأكره الوكيل والمشتري بالحبس فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء لأن فعلهم في التسليم منسوب إلى المكره وفعل الوكيل والمشتري مقصور عليهما فإن ضمن المشتري لم يرجع على أحد بشيء. وإن ضمن الوكيل كان له أن يرجع على المشتري ولا شيء له على المكره لما بينا وإن ضمن المكره كان له أن يرجع على المشتري بالقيمة التي ضمن ولا يرجع على الوكيل بشيء لأنه أمر الوكيل بالقبض والبيع والدفع حين أكرهه عليه بالحبس والمكره بالضمان يصير كالمالك فلا يكون له أن يرجع بشيء على من قبضه ودفعه إلى غيره بإكراهه على ذلك.
ولو أكره المولى والوكيل بالقتل وأكره المشتري بالحبس فلا ضمان على الوكيل لانعدام الفعل منه حين كان مكرها بالقتل وللمولى أن يضمن المكره قيمته إن شاء ويرجع به المكره على المشتري وإن شاء ضمن المشتري لأن فعله في القبض مقصور عليه.

 

ج / 24 ص -131-    فإن قيل إذا ضمن المكره ينبغي أن لا يرجع على المشتري بشيء لأن المشتري كان مكرها من جهته بالحبس كما في حق الوكيل في المسألة الأولى.
قلنا نعم ولكن المشتري قبضه على وجه التمليك لنفسه بالشراء فلا بد من أن يكون ضامنا لما كان حكم قبضه مقصورا عليه وأما الوكيل فما قبضه لنفسه وإنما قبضه ليدفعه إلى غيره بأمر المكره فلا يكون للمكره أن يرجع عليه بشيء.
ولو أكره المولى والوكيل بالحبس وأكره المشتري بالقتل فلا ضمان على أحد منهم إلا الوكيل خاصة لأن المولى إنما يضمن المكره بتسليمه إلى الغير مكرها من جهته وإنما كان مكرها هنا على ذلك بالحبس فلا يرجع عليه بشيء والمشتري على القبض مكره بالقتل فلا يكون قبضه موجبا للضمان عليه وأما الوكيل فهو مكره على القبض والتسليم بالحبس وذلك لا يوجب نقل الفعل عنه إلى غيره فيكون ضامنا قيمته.
فإن قيل ينبغي أن يكون المكره ضامنا لأن فعل المشتري في القبض صار منسوبا إليه فيجعل كأنه قبضه بنفسه وهلك في يده.
قلنا المالك إنما يضمن المكره باعتبار سبب جرى بينهما لا باعتبار سبب جرى بينه وبين غيره والذي جرى بينهما إكراهه إياه على التسليم بالحبس فأما إكراهه المشتري فهو سبب بين المكره والمشتري فلا يكون للمولى أن يضمن المكره بذلك السبب وإنما يكون ذلك للمشتري في الموضع الذي لا يكون عاملا لنفسه في القبض ويتقرر عليه ضمان وهذا لأن المالك إنما يثبت له حق التضمين بتفويت يده وتفويت يده بالتسليم لا باعتبار قبض المشتري.
ولو أكره المولى والمشتري بالقتل وأكره الوكيل بالحبس والمسألة بحالها كان للمولى أن يضمن المكره إن شاء لأنه فوت يده حين أكرهه بالقتل على التسليم وإن شاء ضمن الوكيل لأن فعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشيء أما إذا ضمن الوكيل فلأنه ما كان عاملا في البيع والتسليم للمكره وفعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأما إذا ضمن المكره فلأنه أذن له في بيعه ودفعه حين أكره بالحبس على ذلك ولا ضمان على المشتري لأنه كان مكرها على القبض بوعيد قتل وذلك ينفي الضمان عليه.
 ولو أكرهه بالقتل على أن يوكل هذا الرجل بأن يهب عبده هذا لهذا الرجل فوكله بذلك فقبضه الوكيل ودفعه إلى الموهوب له ومات في يده والوكيل والموهوب له غير مكرهين فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء بمنزلة الشراء لأن الموهوب له يقبض لنفسه على وجه التملك بهبة فاسدة فيكون ضامنا كالمشتري فإن ضمن الموهوب له لم يرجع على أحد وإن ضمن الوكيل رجع به الوكيل على الموهوب له وإن ضمن المكره رجع المكره إن شاء على الموهوب له وإن شاء على الوكيل

 

ج / 24 ص -132-    ورجع به الوكيل على الموهوب له لما بينا في فصل الشراء. ولو كان الإكراه بحبس لم يضمن المكره شيئا وكان للمولى أن يضمن إن شاء الوكيل وإن شاء الموهوب له فإن ضمن الوكيل رجع به على الموهوب له لأنه قام مقام من ضمنه أو لأنه ملكه بالضمان ولم يقصد تنفيذ الهبة من جهته فكان له أن يرجع على الموهوب له لأنه بالقبض متملك عامل لنفسه بغير إذن المالك فلا يسلم له مجانا والله أعلم.

باب ما يسع الرجل في الإكراه وما لا يسعه
قال رحمه الله: "وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أكل الميتة أو لحم الخنزير أو شرب الخمر فلم يفعل حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما"لأن حالة الضرورة مستثناة من التحريم والميتة والخمر في هذه الحالة كالطعام والشراب في غير حالة الضرورة ولا يسعه أن يمتنع من ذلك حتى يتلف.
ألا ترى أن الذي يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا وجد ميتة أو لحم خنزير أو دما فلم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما وقد بينا هذا فيما سبق في الماء الذي خالطه الخمر التحرز عن قول من خالفنا في شرب الخمر عند العطش "وفائده" وذكره عن مسروق رحمه الله قال من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير أو دم فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا دليلنا على قول أبي يوسف وفيه دليل أنه لا بأس بإطلاق القول بدخول "الدار" لمن يرتكب ما لا يحل له وإن كان المذهب أنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه حتى اشتغل بعضهم بالتأويل بهذا اللفظ قالوا مراده الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي داخلها وهو المذهب عند أهل السنة والجماعة ولكن هذا بعيد لأن مراده بيان الجزاء على ارتكاب ما لا يحل ولكن لا يظن أحد بمثله أنه يقصد بهذا اللفظ نفي المشيئة وقطع القول بالعذاب, فإن كان لا يعلم أن ذلك يسعه رجوت أن لا يكون آثما لأنه قصد به التحرز عن ارتكاب الحرام في زعمه وهذا لأن انكشاف الحرمة عند تحقق الضرورة دليله خفي فيعذر فيه بالجهل كما أن عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا له في ترك ما ثبت بخطاب الشرع يعني الصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه. ثم ذكر في فصل الإكراه على الكفر أنه إذا امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثما وقد بينا أنه مأجور فيه كما جاء في الأثر أن المجبر في نفسه في ظل العرش يوم القيامة إن أبى الكفر حتى قتل وحديث خبيب رضي الله عنه فيه معروف وأشار إلى الأصل الذي بينا أن إجراء كلمة الشرك في هذه الحالة رخصة له والامتناع هو العزيمة فإن ترخص بالرخصة وسعه وإن تمسك بالعزيمة كان أفضل له لأن في تمسكه بالعزيمة إعزاز الدين وغيظ المشركين فيكون أفضل, وعلى هذا إذا قيل له لئن صليت لأقتلنك فخاف ذهاب الوقت فقام وصلى وهو يعلم أنه يسعه تركه فلما صلى قتل لم يكن آثما في ذلك لأنه تمسك بالعزيمة أيضا. وكذلك صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم لئن لم تفطر لنقتلنك فأبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا لأنه متمسك بالعزيمة وفيما فعله إظهار الصلابة في الدين وإن أفطر وسعه ذلك لأن الفطر رخصة له عند الضرورة إلا أن يكون

 

ج / 24 ص -133-    مريضا يخاف على نفسه إن لم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه فحينئذ يكون آثما وكذلك لو كان مسافرا فصام في شهر رمضان فقيل له لنقتلنك أو لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما لأن الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين معتدا بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فعند خوف الهلاك شهر رمضان في حقهما أيامه كلياليه وكأيام شعبان في حق غيرهما فيكون في الامتناع حتى يموت بمنزلة المضطر في فصل الميتة بخلاف الصحيح المقيم فالأمر بالصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والفطر عند الضرورة رخصة فإن ترخص بالرخصة فهو في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له وهذا كله بناء على مذهبنا أنه يصير مفطرا بالتناول مكرها وعند الشافعي رحمه الله لا يصير مفطرا وقد بينا هذا في الصوم فإن الخاطى ء والمكره عنده في الحكم سواء وقال المكره مسلوب الفعل.
ألا ترى أن الإتلاف الحاصل بفعله يصير منسوبا إلى المكره ولكنا نقول المكره إنما يجعل آلة للمكره فيما يصلح أن يكون آلة له وهو في الجناية على صوم نفسه لا يصلح أن يكون آلة للغير فيقتصر حكم فعله في حق الإفطار عليه.
ألا ترى أن المكره لو كان صائما لم يصر مفطرا بهذا فلو جعلنا الفعل عدما في حكم المكره في حق الصوم رجع إلى الإهدار وليس للإكراه تأثير في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وبه فارق حكم الضمان لأنا لو جعلنا الفعل منسوبا إلى المكره لا يؤدي إلى الإهدار ولا إلى تبديل محل الجناية. ولو قال له لأقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتعطينيه فأبى أن يفعل ذلك حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا إن شاء الله لأن الأخذ عند الضرورة مباح له بطريق الرخصة وقيام الحرمة والتقوى حقا للمالك يوجب أن تكون العزيمة في ترك الأخذ فإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا وقيده بالاستثناء لأنه لم يجعل هذا بعينه نصا بعينه وإنما قاله بالقياس على ما تقدم وليس هذا في معنى ما تقدم من كل وجه لأن الامتناع من الأخذ هنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء.
ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا الصيد فأبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا إن شاء الله لأن حرمة قتل الصيد على المحرم حرمة مطلقة قال الله تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فكان الامتناع عزيمة وإباحة قتل الصيد رخصة عند الضرورة فإن ترخص بالرخصة كان في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له فإن قتل الصيد فلا شيء عليه في القياس ولا على الذي أمره، وفي الاستحسان على القاتل الكفارة أما الآمر فلا شيء عليه لأنه حلال لو باشر قتل الصيد بيده لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه غيره وأما المحرم ففي القياس لا شيء عليه لأنه صار آلة للمكره بالإلجاء التام فينعدم الفعل في جانبه.
ألا ترى أن في قتل المسلم لا يكون هو ضامنا شيئا لهذا المعنى وإن كان لا يسعه

 

ج / 24 ص -134-    الإقدام على القتل ففي قتل الصيد أولى ووجه الاستحسان أن قتل الصيد منه جناية على إحرامه وهو بالجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فأما قتل المسلم فجناية على المحل وهو يصلح أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى أن في حق الإثم لما كان ذلك جناية على حق دينه وهو لا يصلح آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الإثم.
توضيحه: أنه لما لم يجب على الآمر هنا شيء فلو لم نوجب الكفارة على القاتل كان تأثير الإكراه في الإهدار وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وإن كانا محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما كفارة أما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر بالإكراه وأما المكره فلأنه في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح آلة لغيره.
يوضحه أنه لا حاجة هنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره في إيجاب الكفارة عليه فكفارة الصيد تجب على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هنا وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ أو شبه عمد فإنه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل في جانب المكره وهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابه على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبيب ولأن السبب هنا الجناية على الإحرام وكل واحد منهما جان على إحرام نفسه فأما هناك فالسبب هو الجناية على المحل والمحل واحد فإذا أوجبنا الكفارة باعتبارها على المكره. قلنا لا يجب على المكره. ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففي القياس تجب الكفارة على القاتل دون الآمر لأن قتل الصيد فعل ولا أثر للإكراه بالحبس في الأفعال. وفي الاستحسان على كل واحد منهما الجزاء أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلأن تأثير الإكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والإشارة وإذا كان الجزاء يجب على المحرم بالدلالة والإشارة فبالإكراه بالحبس أولى, ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة على المكره لأن جزاء الصيد في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى بالصوم فلا تجب بالدلالة ولا تتعدد بتعدد الفاعلين وهذا لأن وجوبها باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال وذلك على المكره دون المكره عند التهديد بالقتل وإن توعده بالحبس كانت الكفارة على القاتل خاصة بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطأ.
ولو أن رجلا وجب عليه أمر بمعروف أو نهى عن منكر فخاف إن فعل أن يقتل وسعه أن لا يفعل وإن فعل فقتل كان مأجورا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض مطلقا قال الله تعالى:
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] الآية والترك عند خوف الهلاك رخصة قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] فإن ترخص بالرخصة كان في سعة وإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا . وذكر في السير الكبير أن

 

ج / 24 ص -135-    أن المسلم إذا أراد أن يحمل على جمع من المشركين وهو يعلم أنه لا ينكى فيهم وأنه يقتل لم يسعه ذلك لأنه يكون ملقيا نفسه في التهلكة من غير فائدة ولو أراد أن يمنع قوما من فسقة المسلمين عن منكر اجتمعوا عليه وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بسببه وأنهم يقتلونه فإنه يسعه الإقدام على ذلك لأن هؤلاء يعتقدون الإسلام فزجره إياهم يؤثر فيهم اعتقادا لا محالة وأولئك غير معتقدين فالشرط أن ينكى فعله فيهم حسا فإذا علم أنه لا يتمكن من ذلك لا يسعه الإقدام.
ولو أكره بالقتل على أن يزني لم يسعه أن يفعل فإن فعل وكان محرما فسد إحرامه وعليه الكفارة دون الذي أكرهه لما بينا أن فعله جناية على إحرامه وهو في الجناية على إحرامه لا يصلح أن يكون آلة لغيره. ولو أكرهت امرأة محرمة بالقتل على الزنى وسعها أن تمكن من نفسها وقد بينا الفرق بين جانبها وجانب الرجل في حكم الإثم فأما فساد الإحرام فلا فرق حتى يفسد إحرامها ويجب عليها الكفارة دون المكره لأن تمكنها من نفسها جناية على إحرامها وهي لا تصلح في ذلك آلة للمكره, وإن لم تفعل حتى تقتل فهي في سعة من ذلك لأن حرمة الزنى والجماع في حالة الإحرام حرمة مطلقة فهي في الامتناع تتمسك بالعزيمة وفي كل موضع من هذه المواضع أوجبنا الكفارة على المكره لا يرجع به على المكره لأنه ألزمه كفارة يفي بها. ولو رجع بها عليه يقضي بها عليه ولا يجوز أن يرجع عليه بأكثر مما التزمه وكل أمر أحله الله تعالى مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها والفطر في المرض والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم وكل أمر حرمه الله تعالى ولم يجيء فيه إحلال إلا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ بالرخصة حتى قتل فهو في سعة لأن هذا إغرار بالدين وليس في الأول إغرار بالدين.
ألا ترى أن محرما لو اضطر إلى ميتة وإلى ذبح صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة لأن الميتة حلال في حال الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة ولأنه لو ذبح الصيد صار ميتة أيضا فيصير هو جامعا بين ذبح الصيد وتناول الميتة وإذا تناول الميتة كان ممتنعا من الجناية على إحرامه بقتل الصيد والحل لأجل الضرورة فإن كانت الضرورة ترتفع بأحدهما لم يكن له أن يجمع بينهما، ولو قيل لرجل دلنا على مالك أو لنقتلنك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما لأنه قصد الدفع عن ماله وذلك عزيمة قال عليه الصلاة والسلام
"من قتل دون ماله فهو شهيد" ولأن في دلالته إياهم عليه إعانة لهم على معصية الله تعالى وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فلهذا يسعه أن لا يدلهم وإن دلهم حتى أخذوه ضمنوا له لأن بدلالته لا يخرجون من أن يكونوا غاصبين لماله متلفين فعليهم الضمان والله أعلم بالصواب.

باب اللعان الذي يقضي به القاضي ثم يتبين أنه باطل
قال رحمه الله: "وإذا ادعت امرأة على زوجها قذفا وجحده الرجل فأقامت عليه البينة بذلك وزكوا في السر والعلانية وأمر القاضي الزوج أن يلاعنها فأبى أن يفعل وقال لم أقذفها

 

ج / 24 ص -136-    وقد شهدوا علي بالزور فإن القاضي يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن, لأنه ممتنع من إيفاء ما هو مستحق عليه فيحبسه لأجله ولا يضربه الحد وقد بينا هذا في الطلاق, فإن حبسه حتى يلاعن أو هدده بالحبس حتى يلاعن وقال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى قاله أربع مرات ثم قال ولعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى والتعنت المرأة أيضا وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود عبيد أو محدودون في قذف أو بطلت شهادتهم بوجه من الوجوه فإن القاضي يبطل اللعان الذي كان بينهما ويبطل الفرقة ويردها إليه لأنه تبين أنه قضى بغير حجة والقضاء بغير حجة باطل مردود. ولا يقال فقد أقر بالقذف بالزنى في شهادات اللعان لأن ذلك كان بإكراه من القاضي إياه على ذلك والإكراه بالحبس يمنع صحة الإقرار.
ألا ترى أنه لو هدده بالحبس على أن يقر بأنه قذف هذا الرجل فأقر بذلك لم يلزمه بهذا الإقرار شيء فكذلك هنا, فإن قيل ذاك إكراه بالباطل وهذا إكراه بحق قلنا هذا إكراه بحق ظاهرا. فأما إذا تبين أن الشهود عبيد فقد ظهر أن الإكراه كان بالباطل حقيقة ولو كان القاضي لم يحبسه حتى يلاعن ولم يهدده بحبس ولكنه قال قد شهدوا عليك بالقذف وقضيت عليك باللعان فالتعن ولم يزده على هذا فالتعن الرجل كما لو وصفت لك والتعنت المرأة وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود كانوا عبيدا فأبطل شهادتهم فإنه يمضي اللعان بين الزوج والمرأة وتمضي الفرقة ويجعلها بائنا من زوجها لأن القاضي لما لم يهدده بحبس ولا غيره حتى قال أشهدكم بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى كان هذا إقرارا منه بأنه قذفها بغير إكراه فيلزمه ما أقر به من ذلك ويصير كأنه أقر بقذفه إياها بعد ما جحد ثم التعن ثلاث مرات وفرق القاضي بينهما فيكون ذلك تفريقا صحيحا باعتبار حجة شرعية.
ألا ترى أنه لو قال له القاضي قد شهدوا عليك أنك قذفت هذا الرجل بالزنى وقد قضيت عليك بالحد فقال المقضي عليه أجل قد قذفته بالزنى ثم علم أن شهادة الشهود باطلة ضرب الحد لإقراره على نفسه بالقذف. ولو قال قد شهد عليك الشهود بالقذف فلتقرن بذلك أو لأحبسنك ثم علم أن شهادة الشهود باطلة لم يكن عليه حد بإقراره أنه قذفه لأنه كان مكرها على ذلك فكذلك ما وصفنا من حكم التفريق بسبب اللعان ولو لم يظهر أن الشهود عبيد ولكنهما يعلمان أنهم شهدوا عليهما بزور فالتعنا وفرق القاضي بينهما كان قضاؤه نافذا ظاهرا وباطنا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول رحمهما الله، وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله لا ينفذ قضاؤه باطنا وقد بينا هذا في كتاب الرجوع عن الشهادات والله أعلم بالصواب.