المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 27 ص -3-         بسم الله الرحمن الرحيم
باب الناخس
قال رحمه الله: وإذا سار الرجل على دابة في الطريق فنخسها رجل أو ضربها فنفحت برجلها رجلا فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب لأن نخسه جناية فما تولد منه كان مضمونا عليه وإنما تكون النفحة بالرجل جبارا إذا كان يسير في الطريق قال بلغنا ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا لأن ذلك تولد من نخسه فصار كأنه هو الذي جنى على نفسه.
ولو ألقت الراكب من تلك النخسة فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس لأنه تولد ذلك من نخسه وجنايته وكذلك لو وثبت من نخسه على رجل فقتلته أو وطئت رجلا فقتلته لأن ذلك تولد من جنايته والواقفة في ذلك والتي تسير سواء لأن ذلك تولد من نخسه فكان الضمان على عاقلته.
قال: ولو نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها ولا ضمان عليه في نفحتها وهي تسير لأن النفحة في حال السير هدر لقوله عليه الصلاة والسلام "
الرجل جبار" ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها هذا بإذن الراكب كانت الدية عليهما جميعا إذا كان في فورها الذي نخسها فيه لأنه لما نخس بإذن الراكب صار بمنزلة السائق والراكب سائقا وراكبا كان الضمان عليهما نصفين وهذا إذا كان في ذلك الفور الذي نخسها فيه فأما إذا انقطع ذلك الفور كما إذا سارت ساعة وتركها من السوق فالضمان على الراكب خاصة لأن فعل الناخس قد انقطع وبقي فعل الراكب.
قال: وإذا نخس الرجل الدابة ولها سائق بغير إذن السائق فنفحت رجلا فقتلته فالضمان على الناخس وكذلك لو كان لها قائد لأن ذلك تولد من نخسه.
وإن نخس بإذن السائق أو بإذن القائد فنفحت رجلا فقتلته فلا ضمان عليه ولا عليهما لأن الناخس صار سائقا والنفحة بالرجل جبار في هذه الحالة.
قال: وإذا قاد الرجل الدابة فنخسها رجل آخر فانفلتت من القائد ثم أصابت في فورها ذلك فضمان ذلك على الناخس لأن حكم قوده قد انقطع وصار الناخس جانيا فضمان ذلك عليه.

 

ج / 27 ص -4-         قال: وإن كان الناخس عبدا فجناية الدابة في رقبة العبد يدفع بها أو يفدي لأنه بمنزلة جنايته بيده وإن كان الناخس صبيا فهو كالرجل في أن ضمان الدية يجب على عاقلته وإن مرت الدابة بشيء نصب في ذلك الطريق فنخسها ذلك الشيء فنفحت إنسانا فقتلته فهو على الذي نصب ذلك لأنه متعد في نصب ذلك الشيء في الطريق فكان نخس ذلك الشيء للدابة بمنزلة نخس الذي نصبه وإن كان الرجل يسير في الطريق فأمر عبدا لغيره فنخس دابته فنفحت فلا ضمان على أحد منهما لأن فعل المأمور كفعل الآمر عبدا كان المأمور أو حرا فإن وطئت في فورها ذلك إنسانا فقتلته فعلى عاقلة الراكب نصف الدية وفي عنق العبد نصف الدية يدفعها مولاه أو يفديه بمنزلة السائق مع الراكب إلا أن المولى يرجع على الآمر بالأقل من قيمة العبد ومن نصف الدية لأنه صار للعبد غاصبا باستعماله إياه في نخس الدابة فإذا لحقه ضمان بذلك السبب كان للمولى أن يرجع به على المستعمل له وكذلك لو أمره بالسوق أو بقود الدابة.
ولو كان الراكب عبدا فأمر عبدا آخر فساق دابته فأوطأت إنسانا فقتلته فالدية في أعناقهما نصفين يدفعان بها أو يفديان بمنزلة السائق مع الراكب ولا شيء على الراكب لمولى العبد المأمور إذا كان الراكب محجورا عليه حتى يعتق لأن سبب وجوب هذا الضمان استعماله إياه بالقول والمحجور لا يؤاخذ بضمان القول حتى يعتق وإذا عتق كان عليه قيمة المأمور وإن كان تاجرا أو مكاتبا فهو دين في عنقه لأنه لا يؤاخذ بضمان القول فكذلك السائق في الحال.
وإذا أقاد الرجل قطارا في طريق المسلمين فما وطى ء أول القطار وآخره فالقائد ضامن له وإن كان معه سائق فالضمان عليهما لأن القائد مقرب ما أصاب بالصدمة أو غير ذلك وكذلك السائق مقرب من ذلك ومشتركان في الضمان لاستوائهما في السبب وهذا لأن السوق والقود في الطريق مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة الركوب فكما أن الراكب يجعل ضامنا بما تلف بسبب يمكن التحرز عنه فكذلك السائق والقائد والمعنى في الكل أن الدابة في يده فعليه أن يتحرز عما يمكن التحرز عنه في صرف الدابة بسوقه أو بقوده وإن كان معها سائق للإبل وسط القطار فالضمان في جميع ذلك عليهم أثلاثا لأن الذي هو في وسط القطار سائق لما بين يديه فعليه أن يتحرز عما يمكن التحرز عنه من الإبل قائدا لما خلفه والسائق والقائد في حكم الضمان سواء وكذلك إن كان يكون أحيانا وسطها وأحيانا يتقدم وأحيانا يتأخر لأنه في جميع هذه الأحوال سائق للقطار أو قائد.
ولو كان الرجل راكبا وسط القطار على بعير ولا يسوق منها شيئا لم يضمن شيئا مما تصيب الإبل التي بين يديه لأنه ليس بسائق لما بين يديه فإن ثقل السوق في الزجر على الإبل والضرب ولم يوجد منه شيء من ذلك وهو معهم في الضمان فيما أصاب البعير الذي هو عليه وما خلفه أما ما في البعير الذي هو عليه فلأنه راكب والراكب شريك السائق والقائد في الضمان وأما ما خلفه فلأنه قائد لما خلفه لأن ما خلفه زمامه مربوط ببعيره ومشي البعير الذي هو عليه يضاف إلى الراكب فيجعل هو بهذا المعنى كالقائد لما خلفه وقال بعض

 

ج / 27 ص -5-         المتأخرين: هذا إذا كان زمام ما خلفه يقوده بيده وأما إذا كان هو نائما على بعيره أو قاعدا لا يفعل شيئا لا يكون به قائدا لما خلفه فلا ضمان عليه في ذلك وهو في حق ما خلفه بمنزلة المتاع الموضوع على بعيره.
وإذا أتى الرجل ببعير فربطه إلى القطار والقائد لا يعلم وليس معها سائق فأصاب ذلك البعير إنسانا ضمن القائد لأنه قائد لذلك البعير والقود سبب لوجوب الضمان ومع تحقق سبب الضمان لا يسقط الضمان لجهله ثم يرجع القائد على الذي ربط البعير بذلك الضمان لأنه هو الذي ألزمه ذلك الضمان حين ربط البعير بقطاره وهو متعد فيما صنع فيكون له أن يرجع عليه بما يلحقه من الضمان.
ولو كان البعير واقعا حين ربطه بالقطار ثم قاد فأصاب ذلك البعير شيئا فالضمان على القائد ولا يرجع على الذي ربط البعير بذلك الضمان لأنه هو الذي ربط البعير بقطاره كان هو السبب لما يلحقه من الضمان فيثبت له حق الرجوع به عليه وفي الوجهين جميعا إن علم صاحب القطار وقاد القطار على حاله لم يكن له أن يرجع على الرابط بشيء من الضمان لأنه بعد ما علم لما قاد القطار فقد صار ضامنا بفعله فيجعل كأنه ربط بأمره.
ولو سقط شيء مما يحمل الإبل على إنسان فقتله أو سقط بالطريق فعثر فمات كان الضمان في ذلك على الذي يقود الإبل وإن كان معه سائق فالضمان عليهما لأن هذا مما يمكن التحرز عنه بأن يشد الحمل على البعير على وجه لا يسقط وإنما يسقط لتقصير كان من القائد والسائق في الشد فكأنه أسقط ذلك بيده فيكون ضامنا لما تلف بسقوطه عليه ولمن يعثر به بعد ما سقط في الطريق لأنه شيء أحدثه في طريق المسلمين.
وإذا سار الرجل على دابته في الطريق فعثر بحجر وضعه رجل أو بدكان قد بناه رجل أو بماء قد صبه رجل فوقعت على إنسان فمات فالضمان على الذي أحدث ذلك في الطريق لأنه ممنوع من إحداث شيء من ذلك في طريق المسلمين فإن الطريق معد لمرور الناس فيه فيما يضر بالمارة أو يحول بينهم وبين المرور فيه يكون هو ممنوعا من إحداث ذلك وبهذا الطريق يصير المحدث كالدافع للدابة على ما سقطت عليه فيكون الضمان عليه دون الراكب قالوا هذا إذا لم يعلم الراكب بما أحدث في الطريق فإن علم بذلك وسير الدابة على ذلك الموضع قصدا فالضمان عليه لأنه طرأ على فعل الذي أحدث فعل آخر ممن هو مختار فيفسخ به حكم فعل الأول ويكون الضمان على الثاني بمنزلة من وضع حجرا على الطريق فزحزحه رجل آخر إلى جانب آخر من الطريق ثم عثر به إنسان كان الضمان على الثاني دون الأول.
ولو سار على دابته في ملكه فأوطأت إنسانا بيد أو رجل فقتلته فعليه الدية والكفارة جميعا لأن الراكب مباشر للقتل فيما أوطأت دابته والمباشرة في ملكه وفي غير ملكه سواء في إيجاب الضمان عليه كالرمي فإن رمى في ملكه فأصاب إنسانا كان عليه ضمانه وإن كان سائقا أو قائدا فلا ضمان عليه في ذلك لأنه تسبب بتقريب الدابة من محل الجناية والمتسبب

 

ج / 27 ص -6-         إنما يكون ضامنا إذا كان متعديا بسببه وهو في ملك نفسه لا يكون متعديا في سوق الدابة ولا قودها فهو نظير القاعد في ملكه إذا تعثر به إنسان والدليل على الفرق أن السائق والقائد في الطريق لا تلزمه الكفارة لانعدام مباشرة القتل منه والراكب تلزمه الكفارة.
ولو أوقفها في ملكه فأصابت إنسانا من أهله أو أجنبيا دخل بإذنه أو بغير إذنه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه وكذلك الكلب العقور في دار مخلى عنه أو مربوطا لأن صاحب الكلب غير متعدي في إمساكه في ملكه.
ولو ربط دابته في الطريق فجالت في رباطها من غير أن يحلها أحد فما أصابت فهو على الذي ربطها لأنه متعد في ربطها في الطريق وفي أي موضع وقفت بعد أن تكون مربوطة فذلك يكون مضافا إلى من ربطها لأن الرابط يعلم حين ربطها أنه تحول في رباطها بهذا القدر فلا يكون تغييرها عن حالها مبطلا الضمان عنه بعد أن يكون الضمان بالرباط كما هي إلا أن يحل الرباط وتذهب فحينئذ تكون في معنى المنفلتة وكذلك كل بهيمة من سبع أو غيره إذا أوقفه رجل على الطريق فهو متعد في هذا التسبب حكما ضامن لما يتلف به ما لم يتغير عن حاله.
وكذلك لو طرح بعض الهوام على رجل فلدغه ذلك فهو ضامن له لأنه متعد في هذا التسبب ولا يقال قد طرأ على تسببه مباشرة وهو اللدغ من العقرب أو الحية لأن ذلك غير صالح لبناء الحكم عليه فلا يقطع به حكم التسبب الموجود ممن ألقاه عليه بمنزلة مشي الماشي وفعله في نفسه في مسألة حفر البئر فإنه لا يكون ناسخا للسبب الموجود من الحافر في حكم الضمان والله أعلم.

باب ما يحدث الرجل في الطريق
قال رحمه الله: وإذا وضع الرجل في الطريق حجرا أو بنى فيه بناء أو أخرج من حائطه جذعا أو صخرة شاخصة في الطريق أو أشرع كنيفا أو حياضا أو ميزابا أو وضع في الطريق جذعا فهو ضامن لما أصاب من ذلك لأنه مسبب لهلاك ما تلف بما أحدثه وهو متعد في هذا التسبب فإنه أحدث في الطريق ما يتضرر به المارة أو يحول بينهم وبين المرور في الطريق الذي هو حقهم ووجوب الضمان لصيانة دم المتلف عن الهدر فإذا أمكن إيجابه على المسبب لكونه متعديا في تسبيبه نوجبه عليه وإن لم يكن قاتلا في الحقيقة حتى لا تلزمه الكفارة عندنا ولا يحرم الميراث.
وقال الشافعي لما جعل التسبب كالمباشرة في حكم الضمان فكذلك في حكم الكفارة وحرمان الميراث ولكنا نقول الكفارة وحرمان الميراث جزاء قتل محظور ولا يوجد ذلك في التسبب لأنه لا يتمكن أن يجعل قاتلا بإحداث ذلك ولا مقتولا عند إحداثه ولا يمكن أن يجعل قاتلا عند الإصابة فلعل المحدث ميت عند الإصابة وكيف يكون الميت قاتلا والدليل عليه أن القتل لا يكون إلا بفعل القاتل والقتل نوعان عمد وخطأ ففي كل ما يتصور العمد في جنسه بتصور الخطأ أيضا والقتل العمد بهذا الطريق لا يتحقق فكذلك الخطأ وحرمان

 

ج / 27 ص -7-         الميراث باعتبار توهم القصد إلى استعجال الميراث وذلك في العمد لا يشكل وفي الخطأ يحتمل أن يكون الخطأ أظهر من نفسه وهو قاصد إلى ذلك وهذا لا يتحقق في هذه المواضع.
وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله الكفارة وحرمان الميراث لا يثبت في حق الصبي والمجنون بالقتل لأنه جزاء قتل محظور وفعل الصبي لا يوصف بذلك فالخطأ شرعا يبنى على الخطاب وعند الشافعي يثبت الكفارة وحرمان الميراث في حقهما كما تثبت الدية وعلى هذا قلنا إذا قضى القاضي على مورثه بالقصاص لم يحرم الميراث وإن رجعوا لا تلزمهم الكفارة لأن ذلك جزاء فعل محظور والقاضي بقضائه لا يصير قاتلا وكذلك شهود القصاص لا يحرمون الميراث وإن رجعوا لا تلزمهم الكفارة لأن ذلك جزاء قتل محظور وهم بالشهادة ما صاروا قاتلين مباشرة فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فماتا فالضمان على الذي أحدثه في الطريق لأنه بمنزلة الدافع لمن يعثر بما أحدثه فكأنه دفعه بيده على غيره فلا ضمان على الذي عثر به لأنه مدفوع في هذه الحالة والمدفوع كالآلة.
وإذا نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب به آخر فالضمان على الذي نحاه وقد خرج الأول من الضمان لأن حكم فعله قد انفسخ بفراغ الموضع الذي شغله بما أحدث فيه وإنما شغل بفعل الثاني في موضع آخر فهو كالمحدث لذلك في ذلك الموضع وإلقاء التراب في الطريق واتخاذ الطين فيه بمنزلة إلقاء الحجر والخشبة.
ولو أن رجلا كنس الطريق فعطب بموضع كنسه إنسان لم يضمن لأنه لم يحدث في الطريق شيئا إنما كنس الطريق لكيلا يتضرر به المارة ولا يؤذيهم التراب فلا يكون هذا متعديا في هذا السبب ولو رش الطريق أو توضأ في الطريق فعطب بذلك الموضع إنسان فهو ضامن لأن ما أحدث في الطريق من صب الماء يلحق الضرر بالمارة ويحول بينهم وبين المرور مخافة أن تزل أقدامهم وهذا كله في طريق هو للعامة فإن كان في سكة غير نافذة والذي فعل ذلك من أهل السكة لم يضمن لأن ذلك الموضع مشترك بينهم شركة خاصة وقد بينا أن أحد الشركاء إذا أحدث من ذلك في الملك المشترك لم يكن ضامنا.
وإذا أشرع الرجل جناحا إلى الطريق ثم باع الدار فأصاب الجناح رجلا فقتله فالضمان على البائع لأنه كان جانيا بوضع الجناح فإن سواء الطريق كرقية الطريق فمن أحدث فيه شيئا يكون جانيا وبالبيع لم ينسخ حكم فعله لأنه لم ينزع الموضع الذي شغله بما أحدثه فبقي ضامنا على حاله.
ألا ترى أنه لو وضع الجناح في غير ملكه كان ضامنا لما تلف به فلما كان عدم الملك لا يمنع انعقاد سبب الضمان فكذلك لا يمنع بقاءه ولا شيء على المشتري لأنه ما أحدث في الطريق شيئا وكذلك الميزاب فإن سقط الميزاب يصرفان فإن أصاب ما كان منه في الحائط رجلا فقتله فلا ضمان فيه على أحد لأنه إنما وضع ذلك الطرف من الميزاب في ملكه وإحداث شيء في ملكه لا يكون تعديا.

 

ج / 27 ص -8-         وإن أصابه ما كان خارجا منه من الحائط فالضمان على الذي وضعه لأنه متعد في ذلك الطرف فإنه شغل به هواء الطريق فإن لم يعلم أيهما أصابه ففي القياس لا شيء عليه لأنه إن كان أصابه الطرف الداخل لم يضمن شيئا وإن أصابه الطرف الخارج فهو ضامن والضمان بالشك لا يجب لأن فراغ ذمته ثابت يقينا وفي الإشغال شك وفي الاستحسان هو ضامن للنصف لأنه في حال هو ضامن للكل وفي حال لا شيء عليه فيتوزع الضمان على الأحوال ليتحقق به معنى النظر من الجانبين.
وإذا استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا فإن سقط من عملهم قبل أن يفرغوا منه فالضمان عليهم دون رب الدار لأنه إنما سقط لتقصيرهم في الإمساك فكأنهم ألقوا ذلك فيكونون قاتلين مباشرة فيلزمهم الدية والكفارة ويحرمون الميراث.
وإن سقط ذلك بعد فراغهم من العمل فالضمان فيه على رب الدار استحسانا وفي القياس هذا كالأول لأنهم باشروا إحداث ذلك في الطريق وصاحب الدار ممنوع من إحداثه وإنما يعتبر فيما أمره في ماله أن يفعله بنفسه ولكنه استحسن لحديث شريح فإنه قضى بالضمان على مثله على رب الدار والمعنى فيه أنهم يعملون له ولهذا يستوجبون الأجر عليه وقد صار عملهم مسلما إليه بالفراغ منه فكأنه عمل ذلك بنفسه بخلاف ما قبل الفراغ فإن عملهم لم يصر مسلما إليه بعد وهذا لأنه إنما يحدث ذلك في فنائه ويباح له فيما بينه وبين ربه إحداث مثل ذلك في فنائه إذا كان لا يتضرر به غيره ولكن لكون الفناء غير مملوك لم يتقيد بشرط السلامة فبهذا اعتبر أمره في ذلك وجعل هو كالقاتل لنفسه.
ولو وضع ساجة في الطريق أو خشبة باعها من رجل وبرئ إليه منها فتركها المشتري حتى عطب بها إنسان فالضمان على الذي وضعها لأنه كان متعديا في وضعها فما بقيت في ذلك المكان بقي حكم فعله وكما أن انعدام ملكه في الخشبة لا يمنع وجوب الضمان عليه بوضعها في الطريق فكذلك زوال ملكه بالبيع وإن كان جميع ما ذكرنا في ملك قوم أشرعوه في ملكهم فلا ضمان في شيء من ذلك وإن كان أشرعه بعضهم دون بعض فعليه الضمان يرفع عنه بحصة ما ملكه من ذلك لأن أحد الشركاء لا يملك البناء في الملك المشترك بغير رضا شركائه فهو جان باعتبار إرضائهم غير جان باعتبار نصيبه فيتوزع الضمان على ذلك بمنزلة أحد الشركاء في الجارية إذا وطئها يلزمه العقر ويرفع عنه من ذلك حصته وذلك بخلاف ما لو توضأ فيه أو صب فيه ماء أو وضع متاعا لأن ذلك يتمكن من فعله كل واحد من الشركاء شرعا فيستحسن أن لا يجعله ضامنا به بخلاف البناء.
وإذا وضع في الطريق جمرا فأحرق شيئا فهو ضامن له لأنه متعد في إحداث النار في الطريق فإن حركته الريح فذهب به إلى موضع آخر ثم أحرق شيئا فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انتسخ بالتحول من ذلك الموضع إلى موضع آخر قال وهذا إذا لم يكن اليوم يوم.

 

ج / 27 ص -9-         ريح، فإن كان ريحا فهو ضامن لأنه كان عالما حين ألقاه أن الريح يذهب به من موضع إلى موضع فلا ينسخ حكم فعله بذلك بمنزلة الدابة التي جالت برباطها والله أعلم.

باب الحائط المائل
قال رحمه الله: وإذا مال حائط الرجل أو وهى فوقع على الطريق الأعظم فقتل إنسانا فلا ضمان على صاحبه لأنه لم يوجد منه صنع هو تعد فإنه وضع البناء في ملكه فلا يكون متعديا في الوضع ولا صنع له في مثل الحائط ولكن هذا إذا كان بناء الحائط مستويا فإن كان بناه في الأصل مائلا إلى الطريق فهو ضامن لمن يسقط عليه لأنه متعد في شغل هواء الطريق ببنائه وهواء الطريق كأصل الطريق حق المارة فمن أحدث فيه شيئا كان متعديا ضامنا فأما إذا بناه مستويا فإنما شغل ببنائه هواء ملكه وذلك لا يكون تعديا منه.
فلو أشهد عليه في هذا الحائط المائل فلم يهدمه حتى سقط وأصاب إنسانا ففي القياس لا ضمان عليه أيضا وهو قول الشافعي لأنه لم يوجد منه صنع هو تعد والإشهاد فعل غيره فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه لكن استحسن علماؤنا رحمهم الله إيجاب الضمان روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعن شريح والنخعي والشعبي وغيرهم من أئمة التابعين وهذا لأن هواء الطريق قد اشتغل بحائطه وحين قد أشهد عليه فقد طولب بالتفريغ والرد فإذا امتنع من ذلك بعد ما تمكن منه كان ضامنا بمنزلة ما لو هبت الريح بثوب ألقته في جحر فطالبه صاحبه بالرد عليه فلم يفعل حتى هلك بخلاف ما قبل الإشهاد ولانه لم يطالب بالتفريغ فهو نظير الثوب إذا هلك في جحره قبل أن يطالبه صاحبه بالرد ثم لا معتبر بالإشهاد وإنما المعتبر التقدم إليه في هدم الحائط فالمطالبة تتحقق وينعدم به معنى العذر في حقه وهو الجهل بميل الحائط إلا أنه ذكر الإشهاد احتياطا حتى إذا جحد صاحب الحائط التقدم إليه في ذلك أمكن إثباته عليه بالبينة بمنزلة الشفيع فالمعتبر في حقه طلب الشفعة ولكن يؤمر بالإشهاد على ذلك احتياطا لهذا المعنى.
وهذا التقدم إليه يصح من كل واحد من الناس مسلما أو ذميا رجلا كان أو امرأة لأن الناس في المرور في الطريق شركاء والتقدم إليه صحيح عند السلطان وعند غير السلطان لأنه مطالبة بالتفريغ وغير مطالبة في الطريق ولكل أحد حق في الطريق فينفرد بالمطالبة بتفريغه وصورته أن يقول له إن حائطك هذا مائل فاهدمه.
وذكر عن الشعبي أنه كان يمشي ومعه رجل فقال الرجل إن هذا الحائط لمائل وهو لعامر ولا يعلموا الرجل أنه عامر فقال عامر ما أنت بالذي يفارقني حتى أنقضه فبعث إلى الفعلة فنقضه فعرفنا أن الإشهاد بهذا اللفظ يتم وبعد الإشهاد إن تلف بالحائط مال فالضمان في ماله وإن تلف به نفس فضمان ديته على عاقلته لأن هذا دون الخطأ ولا كفارة عليه فيه لانعدام مباشرة القتل منه ويستوي إن شهد عليه رجلان أو رجل وامرأتان في التقدم إليه لأن الثابت بهذا التقدم ما لا يندرئ بالشبهات وهو المال.

 

ج / 27 ص -10-       وإذا باع الحائط بعد ما أشهد عليه بريء من ضمانه لأنه إنما كان جانيا بترك الهدم مع تمكنه منه وبالبيع زال تمكنه من هدم الحائط فيخرج من أن يكون جانيا فيه بخلاف الجناح فهناك كان جانيا بأصل الوضع.
يوضحه: أن ابتداء الإشهاد عليه لا يصح إذا لم يكن هو مالكا للحائط فكذلك لا يبقى حكم الإشهاد بعد زوال ملكه بخلاف الجناح ولا ضمان على المشتري في الحائط لأنه لم يتقدم إليه في هدمه فحاله كحاله قبل أن يتقدم إليه فيه فإن شهد المشتري في الحائط فإنه لا يتقدم إليه في هدمه فحاله كحال البائع قبل أن يتقدم إليه فيه فإن أشهد على المشتري بعد شرائه فهو ضامن لتركه تفريغ الطريق بعد ما طولب به مع تمكنه من ذلك.
ولو كان الحائط رهنا فتقدم إلى المرتهن فيه لم يضمنه المرتهن ولا الراهن لأن المرتهن غير متمكن من هدمه فلا يصح التقدم فيه إليه ولم يتقدم إلى الراهن فيه وإن تقدم فيه إلى الراهن كان ضامنا لأنه متمكن من أن يقضي الدين ويسترد الحائط فهدمه فيصح التقدم إليه فيه وإن تقدم إلى ساكن الدار في بعض الحائط المائل فليس ذلك بشيء سواء كان ساكنا بأجر أو بغير أجر لأنه غير متمكن من النقض.
وإن تقدم إلى رب الدار فعليه الضمان لأنه متمكن من هدمه فإذا تقدم إلى أب الصبي أو الوصي في ذلك فلم ينقضه حتى سقط فأصاب شيئا فضمانه على الصبي لأن الأب والوصي يقومان مقامه ويملكان هدم الحائط فيصح التقدم إليهما فيه ويكون ذلك كالتقدم إلى الصبي بعد بلوغه ثم هما في ترك الهدم يعملان للصبي وينظران له فلهذا كان الضمان عليه دونهما.
وإذا تقدم في الحائط إلى بعض الورثة فالقياس أن لا ضمان على أحد منهم لأن أحد الشركاء لا يتمكن من نقض الحائط كما لا يتمكن من بنائه ولم يوجد التقدم إلى الباقين فلا يصح هذا الإشهاد ولا يكون هو متعديا في تركه التفريغ بعد هذا ولكنا نستحسن فنضمن هذا الذي أشهد عليه بحصة نصيبه مما أصاب الحائط لأنه كان متمكنا من أن يطلب شركاءه ليجتمعوا على هدمه وهذا لأن الإشهاد على جماعته يتعذر عادة فلو لم يصح الإشهاد على بعضهم في نصيبه أدى إلى الضرر والضرر مدفوع والرجل والمرأة والمسلم والذمي والحر والمكاتب في هذا الإشهاد سواء لأنهم في التطرق في هذا الطريق سواء.
وإذا تقدم إلى العبد التاجر في الحائط فأصاب إنسانا وعليه دين أو لا دين عليه فهو على عاقلة مولاه لأن العبد متمكن من هدم الحائط فيصح التقدم إليه ثم الحائط ملك المولى إن لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين فالمولى أحق باستخلاصه لنفسه فيجعل في حكم الجناية كان المولى هو المالك على ما بينا فيما إذا وجد القتيل في دار العبد فلهذا كان ضمان الدية على عاقلة المولى.
وإن أصاب مالا فضمانه في عنق العبد يباع فيه. وينبغي في القياس أن يكون على المولى

 

ج / 27 ص -11-       كضمان النفس ولكنا استحسنا الفرق بينهما فقلنا العبد بالتزام ضمان المال كالحر فإنه منفك الحجر عنه في اكتساب سبب ذلك وفي التزام ضمان الجناية على النفس هو كالمحجور عليه لأن فك الحجر بالإذن لم يتناول ذلك فكان الضمان على عاقلة المولى.
وإذا وضع الرجل على حائطه شيئا فوقع ذلك الشيء فأصاب إنسانا فلا ضمان عليه فيه لأنه وضعه على ملكه فهو لا يكون متعديا فيما يحدثه في ملكه ويستوي إن كان الحائط مائلا أو غير مائل لأنه في الموضعين لا يكون ممنوعا من وضع متاعه على ملكه.
وإذا تقدم إلى رجل في حائط من داره في يده فلم يهدمه حتى سقط على رجل فقتله فأنكرت العاقلة أن تكون الدار له أو قالوا لا ندري هي له أو لغيره فلا شيء عليهم حتى تقوم البينة على أن الدار له لأن ثبوت الملك له باعتبار اليد من حيث الظاهر وذلك لا يصلح حجة لاستحقاق الدية على العاقلة فهو نظير المشتري للدار إذا أنكر أن يكون ما في يد الشفيع ملكه كان على الشفيع إثبات ملكه بالبينة ليتمكن من الأخذ بالشفعة.
والحاصل أنه يحتاج إلى أثبات ثلاثة أشياء بالبينة أحدها: أن تكون الدار له.
والثاني: أن يتقدم إليه في هدم الحائط.
والثالث: أن المقتول إنما مات بسقوط الحائط عليه.
فإذا ثبتت هذه الأشياء بالبينة فحينئذ يقضي بالدية على العاقلة فإن أقر ذو اليد أن الدار له لم يصدق على العاقلة ولا ضمان على المقر أيضا في القياس لأنه إنما أقر بوجوب الدية على العاقلة والمقر على الغير إذا صار مكذبا في إقراره لم يضمن شيئا ولكنا نستحسن أن نضمنه الدية لإقراره على نفسه بالتعدي وهو ترك هدم الحائط بعد ما تمكن منه وإنما هذا بمنزلة جناح أخرجه في دار في يده إلى الطريق فوقع على إنسان فقتله فقالت العاقلة ليست الدار له وإنما أخرج الجناح بأمر رب الدار وأقر ذو اليد أن الدار له فإنه يكون ضامنا الدية في ماله فهذا مثله.
وإذا كان الرجل على حائط له مائل أو غير مائل سقط به الحائط فأصاب من غير عمله إنسانا فقتله فهو ضامن في الحائط المائل إذا كان قد تقدم إليه فيه ولا ضمان عليه فيما سواه لأنه مدفوع بالحائط حين سقط الحائط وسقوطه على إنسان بمنزلة سقوط الحائط عليه في حكم الضمان.
ولو كان هو سقط من الحائط من غير أن سقط الحائط فقتل إنسانا كان هو ضامنا لأنه غير مدفوع هنا بالحائط فإن الحائط على حاله لم يسقط ولكنه بمنزلة النائم انقلب على إنسان فقتله يكون ضامنا له ولو مات الساقط بطرق الأسفل فإن كان يمشي في الطريق فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في مشيه في الطريق ولا يمكنه أن يتحرز عن سقوط غيره عليه وإن كان واقفا في الطريق أو قاعدا أو نائما فهو ضامن لدية الساقط عليه لأنه متعد بالوقوف والقعود والنوم فيكون ضامنا لما يتلف به.

 

ج / 27 ص -12-       وإن كان الأسفل في ملكه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في الوقوف في ملكه وعلى الأعلى ضمان الأسفل في هذه الحالات لأن الأعلى مباشر بقتل من سقط عليه وفي المباشرة الملك وغير الملك سواء وكذلك إن تعقل فسقط أو نام فانقلب فهو ضامن لما أصاب الأسفل لأنه تلف بثقله فكأنه قتله بيده وعليه الكفارة في ذلك.
وكذلك لو تردى من جبل إلى رجل فقتله فعليه ضمانه وملكه وغير ملكه في ذلك سواء وكذلك لو سقط في بئر احتفرها في ملكه وفيها إنسان فقتل ذلك الإنسان كان ضامنا للإنسان بمنزلة ما لو قتله بيده وإن كان البئر في الطريق كان الضمان على رب البئر فيما أصاب الساقط والمسقوط عليه لأن الحافر للبئر إذا كان متعديا فهو بمنزلة الدافع لمن سقط في البئر والساقط بمنزلة المدفوع.
وإذا شهد على رجل في حائط مائل شاهدان فأصاب الحائط أحد الشاهدين أو أباه أو عبدا له أو مكاتبا له ولا شاهد على رب الحائط غيرهما لم تجز شهادة هذا الذي يجر إلى نفسه أو إلى أحد ممن تجوز شهادته له نفعا لأن الموجب للضمان على صاحب الحائط التقدم إليه في الهدم وهو منكر لذلك فشهادة الشهود عليه بهذا السبب كشهادتهم عليه بوجوب الضمان بسبب آخر.
ولو شهد عبدان أو صبيان أو كافران ثم عتق العبد وأسلم الكافر وأدرك الصبيان ثم وقع الحائط فأصاب إنسانا فهو ضامن لذلك وكذلك إن كان السقوط قبل أن يعتقا أو يسلما أو يدركا ثم كان ذلك قبل أداء الشهادة لما بينا أن المعتبر هو التقدم إليه والإشهاد عند ذلك محض تحمل فيكون صحيحا من هؤلاء وهم أهل للشهادة عند الأداء فوجب قبول شهادتهم.
وإذا شهد على اللقيط في حائطه ثم سقط فقتل رجلا فديته على بيت المال لأنه متمكن من هدم حائطه فإذا لم يفعل حتى سقط كان بمنزلة جنايته بيده فتكون على بيت المال إذا لم يوال أحدا وكذلك الكافر يسلم ولم يوال أحدا فهو كاللقيط يعقل عنهما جنايتهما بيت المال وميراثهما لبيت المال وإذا مال الحائط على دار قوم فأشهدوا عليه فهو ضامن لما أصاب عليه الحائط منهم أو من غيرهم لأنه بميل الحائط شغل هواء ملكهم فتكون المطالبة بالتفريغ إليهم فإذا تقدموا إليه أو أحدهم صح التقدم ويكون هو في تركه التفريغ بعد ذلك جانيا وكذلك العلو إذا وهى فتقدم أهل السفل فيه إلى أهل العلو وكذلك الحائط يكون أعلاه لرجل وأسفله لآخر والفرق بينهما إذا مال الحائط إلى ملك إنسان وبين ما إذا مال إلى الطريق في موضعين أحدهما التقدم إليه ها هنا لا يصح إلا من المالك لأنه أشغل بالحائط هواء ملكه بخلاف الأول والثاني أن صاحب الملك بعد ما تقدم إليه لو أخره أياما أو أبرأه من ذلك صح لأنه يتصرف في ملك نفسه بالإسقاط والتأخير.
وفي الطريق لو أخره الذي تقدم إليه فيه أو أبرأه هو أو غيره لم يصح ذلك لأن الواحد ينوب عن العامة في المطالبة بحقهم لا في إسقاط حقهم وقد صحت المطالبة منه فلا معتبر بإسقاطه بعد ذلك ولا بتأخيره.

 

ج / 27 ص -13-       وإذا مال الحائط المشترك بين اثنين إلى الطريق فتقدموا فيه إلى أحدهما ثم سقط فأصاب إنسانا فإنما يضمن الذي تقدم إليه النصف من ذلك إذا كان الحائط هو الذي أصابه كله وكذلك العلو والسفل إذا وهيا أو مالا إلى الطريق فتقدم إلى أحدهما فيه وهذا على القياس والاستحسان الذي ذكرنا في الورثة إذا مال حائط الرجل بعضه على الطريق وبعضه على دار قوم فتقدم إليه أهل الدار فيه فسقط ما في الطريق منه فهو ضامن له وكذلك لو تقدم أهل الطريق إليه فسقط المائل إلى الدار على أهل الدار فهو ضامن له لأنه حائط واحد فإذا أشهد على بعضه فقد أشهد على جميعه وإذا كان المتقدم إليه من أهل الدار فتقدمه إليه صحيح في جميع الحائط فيما مال إلى الدار باعتبار أنه المالك وفيما مال إلى الطريق باعتبار أنه واحد من الناس فإذا كان الذي تقدم إليه من غير أهل الدار فتقدمه صحيح فيما مال منه إلى الطريق فإذا صح في بعضه صح في كله.
وإذا وهى بعض الحائط وما بقي منه صحيح غير واه فتقدم إليه فيه فسقط ما وهى وما لم يه فقتل إنسانا فهو ضامن له لأنه حائط واحد فإذا وهى بعضه وهي كله إلا أن يكون حائطا طويلا بحيث لو وهى بعضه لم يه ما بقي منه وتفرق ذلك فحينئذ يضمن ما أصاب الواهي منه ولا يضمن ما أصاب الذي لم يه منه لأنه إذا كان بهذه الصفة فهو بمنزلة حائطين والتقدم إليه إنما يصح في الحائط المائل أو الواهي دون الحائط الصحيح فإذا أصاب الذي لم يه منه شيئا لم يكن به عليه ضمان لأنه لم تتوجه عليه المطالبة بالهدم فيه.
قال: وإذا كان سفل الحائط لرجل وعلوه لآخر وقد وهى فتقدم فيه إليهما ثم سقط العلو فقتل إنسانا فالضمان على صاحب العلو لأن العلو غير مدفوع بالسفل ولكنه ساقط بنفسه وقد صح التقدم فيه إلى صاحبه فيجعل صاحبه كالمتلف لما سقط عليه العلو قال وإذا استأجر الرجل إجراء يهدمون له حائطا فقتل الهدم من فعلهم رجلا منهم أو من غيرهم فالضمان عليهم والكفارة دون رب الدار لأنهم مباشرون إتلاف من سقط عليه شيء من أيديهم في حالة العمل.
وإذا تقدم إلى المشتري للدار في حائط منها مائل وهو في خيار الشراء ثلاثة أيام ثم رد الدار بالخيار بطل الإشهاد لأنه أزال الملك بفسخ البيع فكأنه أزاله بالبيع ولو استوجب البيع لم يبطل الإشهاد لأن التقدم إليه حين تقدم صحيح أما لأنه مالك أو لأنه متمكن من هدم الحائط وقد تقرر ذلك بإسقاط الخيار.
ولو كان أشهد على البائع في تلك الحالة لم يضمن لأن البائع غير متمكن من هدم الحائط بعد ما أوجبنا البيع فيه مطلقا ولو كان الخيار للبائع فتقدم إليه فيه فإن نقض البيع فالإشهاد صحيح لأنه كان مالكا متمكنا من نقض الحائط وقد تقرر ذلك حين فسخ البيع وإن أوجبه بطل الإشهاد لأنه زال الحائط عن ملكه ولو تقدم إلى المشتري في تلك الحالة لم يصح التقدم لأنه ما كان متمكنا من هدم الحائط يومئذ حتى ان البائع وإن أوجب له البيع لم يكن على واحد منهما فيه ضمان.

 

ج / 27 ص -14-       ولو تقدم إلى رجل في حائط مائل له عليه جناح شارع قد أشرعه الذي باع الدار فسقط الحائط والجناح فإن كان الحائط هو الذي طرح الجناح كان صاحب الحائط ضامنا لما أصاب ذلك لأن الجناح مدفوع ها هنا والحائط بمنزلة الدافع له وقد صح التقدم في الحائط إلى صاحبه ولو كان الجناح هو الساقط وحده كان الضمان على البائع الذي أشرعه لأن البائع كان متعديا في وضع الجناح وشغل هواء الطريق به والجناح الآن هو الساقط مقصودا فكان ضمان ما تلف به على الذي وضع الجناح والله أعلم بالصواب.

باب البئر وما يحدث منها
قال رحمه الله: وإذا احتفر الرجل بئرا في طريق المسلمين في غير فنائه فوقع فيها حرا وعبد فمات فضمان ذلك على عاقلة الحافر لحديث شريح فإن عمرو بن الحارث حفر بئرا عند درب اسامة فوقعت فيها بغلة فضمنه شريح قيمتها وكان قضاؤه بمحضر من الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك ولأن الحافر بمنزلة الدافع للواقع في مهواة فإنه بفعله أزال المسكة عن الأرض والآدمي لا يستمسك إلا بمسكة فإزالة ما به كان مستمسكا إيجاد شرط الوقوع والحكم يضاف إلى الشرط مجازا عند تعذر إضافته إلى السبب والسبب ها هنا ثقل الماشي في نفسه ولا يمكن إضافة الحكم إليه إذ لا صنع لأحد من العباد فيه فيصير مضافا إلى الشرط ولأن الحافر سبب لوقوعه وهو متعد في هذا السبب لأنه أحدث في الطريق ما يتضرر به المارة ويخرج به ذلك الموضع من أن يكون ممرا لهم ثم الضمان على عاقلته لأنه دون المخطئ وفعل المخطئ اتصل بالمتلف وفعل الحافر اتصل بالأرض فما يجب على العاقلة من فعل المخطئ يجب على العاقلة ها هنا بطريق الأولى ولا كفارة عليه عندنا لما بينا أنه ليس بقاتل مباشرة وقد يكون الحافر مبنيا على وقوع الواقع في البئر فلا تلزمه الكفارة في ذلك وفي ظاهر الرواية أوجب الضمان على الحافر مطلقا.
وقال في النوادر: هذا إذا مات من وقوعه في البئر فإن سلم من ذلك فمات جوعا أو غما فلا شيء على الحافر في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف إن مات جوعا فكذلك وإن مات غما فالحافر ضامن له وقال محمد هو ضامن في الوجوه كلها فأبو حنيفة يقول إنما يصير هلاكه مضافا إلى الحافر إذا هلك بسبب الوقوع فيجعل الحافر كالدافع له فأما إذا طرأ عليه سبب آخر لهلاكه كالجوع الذي هاج من طبعه أو الغم الذي أثر في قلبه فإنما يكون هلاكه مضافا إلى هذا السبب ولا صنع للحافر فيه وأبو يوسف لما سبب للغم سوى الوقوع في البئر فأما الجوع فله سبب آخر وهو بعد الطعام عنه واحتراق معدته حتى لم يبق فيها شيء من مواد الطعام ومحمد يقول كل ذلك إنما حدث بسبب الوقوع في البئر لولاه لكان الطعام قريبا منه والحافر متعد في ذلك السبب والحكم تارة يضاف إلى السبب بغير واسطة وتارة بواسطة فكذلك يضاف إلى الشرط تارة بواسطة وتارة بغير واسطة فإن كان استأجر عليها أجراء فحفروها له فذلك على المستأجر ولا شيء على الآجر إن لم يعلموا أنها في غير فنائه،

 

ج / 27 ص -15-       لأن عمرو بن الحارث كان من جملة الرؤساء ومعلوم أنه ما باشر الحفر بنفسه وإنما استأجر الأجراء لذلك ثم ضمنه شريح وهذا لأن الأجراء يعملون له ولهذا يستوجبون عليه الأجر وقد صاروا مغرورين من جهته حين لم يعلمهم أن ذلك الموضع ليس من فنائه وإنما حفروا اعتمادا على أمره وعلى أن ذلك من فنائه فلدفع ضرر الغرور انتقل فعلهم إلى الآمر فيصير كأنه حفر بنفسه وإن كانوا يعلمون أنها من غير فنائه فالضمان عليهم لأنهم جناة في الحفر وأمره إياهم بالحفر غير معتبر شرعا لأنه غير مالك للحفر بنفسه في هذا الموضع وإنما يعتبر أمره لإثبات صفة الحل به ولدفع الغرور عن الحافر به وقد انعدما جميعا في هذا الموضع فسقط اعتبار أمره فكان الضمان على الذين باشروا الحفر وإن كان في فنائه فهو على الآمر دون الأجراء علموا أو لم يعلموا لأن أمره في فنائه معتبر فإن عند أبي يوسف ومحمد له أن يحفر في فنائه إذا كان لا يضر بالمارة وليس لأحد أن يمنعه من ذلك وعند أبي حنيفة يحل له ذلك فيما بينه وبين ربه ما لم يمنعه مانع وهذا لأن الفناء اسم لموضع اختص صاحب الملك بالانتفاع به من حيث كسر الحطب وإيقاف الدواب وإلقاء الكناسة فيه فكان أمره معتبرا في الحل وانتقل فعل الآمر إليه بهذا الأمر فيصير كأنه فعل ذلك بنفسه.
وإن سقطت فيه دابة فعطبت فضمانه في ماله لأن العاقلة لا تعقل المال وإنما تعقل العاقلة النفوس من الأحرار والمماليك بدليل حالة الخطأ وإذا وقع فيها إنسان متعمدا للسقوط فيها فلا ضمان على الحافر لأنه أوقع نفسه فيها ولو أوقعه غيره لم يكن على الحافر شيء وهذا لأن وضعه القدم على ذلك الموضع مع علمه تعد منه ومباشرة فعل إلقاء النفس في المهلكة وإنما يضاف الحكم إلى الشرط إذا تعذر إضافته إلى السبب فأما مع إمكان الإضافة إلى السبب فلا يضاف إلى الشرط.
قال: وإذا استأجر الرجل أربعة رهط يحفرون له بئرا فوقعت عليهم من حفرهم فقتلت واحدا منهم فعلى كل واحد من الثلاثة الباقين ربع ديته وسقط الربع وكذلك لو كانوا أعوانا له لأنه إنما سقط عليهم ما سقط بفعلهم فكانوا مباشرين لسبب الإتلاف والقتيل أحد المباشرين فتوزع الدية عليهم ويسقط منه حصة القتيل بجنايته على نفسه ويبقى حصة الثلاثة بجنايتهم عليه والأصل فيه ما روى أن عشرة نفر مدوا الحلة فسقطت على أحدهم فقتلته فقضى علي رضي الله عنه على كل واحد من التسعة بعشر الدية وأسقط العشر حصة المقتول.
وعن الشعبي أن عليا رضي الله عنه قضى في القارصة والواقصة والقامصة بالدية أثلاثا وتفسير ذلك أن ثلاث جوار كن يلعبن فركبت إحداهن صاحبتها فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت المركوبة ووقعت الراكبة فاندقت عنقها فقضى علي رضي الله عنه بثلث الدية على القارصة وبالثلث على الغامصة وأسقط الثلث حصة الواقصة وإن كان الذي يحفر بئرا في فنائه فضمان ما يقع فيها على الحافر ولو كان في غير فنائه فالضمان في رقبة العبد يدفع به أو يفدى ولم يفضل ها هنا بين أن يكون العبد عالما بذلك أو غير عالم بخلاف الحر، والفرق

 

ج / 27 ص -16-       هناك لمعنى الغرور ولا غرور بين العبد وسيده فإن قرار الضمان في الفصلين على السيد فلهذا جعل فعل عبده بأمره كفعله بنفسه.
وإذا حفر بئرا في الطريق ثم جاء آخر فحفر منها طائفة في أسفلها ثم وقع فيها إنسان فمات فإنه ينبغي في القياس أن يضمن الأول كأنه الدافع وبه يأخذ محمد لأن الأول بما حفر من وجه الأرض يصير كالدافع لمن سقط في القعر الذي حفره صاحبه ولم يبين جواب الاستحسان فيه والاستحسان الضمان عليهما لأن هلاكه كان بسبب فعلهما فإن الواقع في البئر إنما يهلك عند عمق البئر وإتمام ذلك بفعل الثاني وقد انضم فعله إلى فعل الأول في إتمام شرط الإتلاف فيكون الضمان عليهما ولكنه أخذ بالقياس لأن وجه القياس أقوى فإن التعدي في التسبيب من حين إزالة المسكة عن وجه الأرض وإخراج ذلك الموضع من أن يكون ممرا وإنما حصل ذلك بفعل الأول.
ولو وسع أحد رأسها فوقع فيها إنسان فمات كان الضمان عليهما نصفين وتأويل هذا أن الثاني وسع ورأسها قليلا على وجه يعلم أن الساقط إنما وضع قدمه في موضع بعضه من حفر الأول بعضه من فعل الثاني فإما إذا وسع رأسها كثيرا على وجه يعلم أنه إنما وضع قدمه في الموضع الذي حفره الثاني فالضمان على الثاني لأن الثاني كالدافع للواقع بما حفر في البئر الذي حفرها الأول والضمان على الدافع وإن علم أن الواقع إنما وضع قدمه فيما حفر الأول خاصة فالضمان على الأول لأنه هو الذي أوجد شرط وقوعه حين أزال المسكة عن الموضع الذي وضع فيه قدمه.
ولو حفر بئرا في الطريق ثم سدها بطين أو تراب أو جص فجاء آخر فاحتفرها فوقع فيها إنسان فمات كان الضمان على الثاني لأن الأول نسخ فعله لأنه طمها بما تطم به الآبار فعاد ذلك الموضع أرضا كما كان وإنما الثاني هو الحافر للبئر في هذا الموضع ولو سد الأول رأسها واستوثق منها فجاء الآخر فنقض ذلك كان الضمان على الأول لأن فعل الأول ما انتسخ فإنها بئر وإن سد رأسها إلا أنه استتر بما فعل والثاني إنما أظهر فعل الأول فيبقى الضمان على الأول وهذا لأن ما فعله الثاني من فتح رأس البئر غير موجب لهلاكه لولا البئر في ذلك الموضع بخلاف الأول فما فعله الثاني هناك موجب هلاك الواقع في البئر وإن لم يوجد الفعل من الأول أصلا.
وكذلك إذا جعل فيها طعاما أو متاعا أو ما أشبه ذلك مما لا تسد به الآبار فجاء إنسان واحتمل ذلك ثم وقع فيها إنسان فالضمان على الأول لأن حكم فعله لم ينسخ بما صنع فإن ذلك الموضع بئر وإن جعل فيها الطعام وفعل الأول كان حفر البئر وما بقي اسم البئر في ذلك الموضع بقي حكم فعله فكان الضمان عليه.
ولو تعقل بحجر فسقط في البئر كان الضمان على واضع الحجر لأنه متعد في إحداث الحجر في الطريق فيصير به كالدافع لمن وقع في البئر بمنزلة ما لو دفعه بيده فإن لم يكن

 

ج / 27 ص -17-       وضع الحجر أحد فإن كان شيء آخر من شفير البئر أو جاء به سيل فالضمان على حافر البئر لأن التعقل بالحجر ها هنا غير صالح لإضافة الحكم إليه حين لم يكن بصنع أحد من العباد فبقي الحكم مضافا إلى البئر.
ولو وضع رجل في هذه البئر حجرا أو حديدا فوقع فيها إنسان فقتله الحجر أو الحديد كان الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع للواقع على الحجر أو الحديد وإنما يضاف الإتلاف إلى الدافع وإذا حفر إنسان بئرا في الطريق فوقع فيها رجل فقطعت يده ثم خرج منها فشجه رجلان فمرض من ذلك ثم مات فالدية عليهم أثلاثا لأن ما حصل من الجراحة بالوقوع في البئر مضاف إلى الحافر فكأنه فعل ذلك بيده والمعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات.
ألا ترى أنه لو قطع يديه رجلان وشجه رجل آخر فمات من ذلك كانت الدية عليهم أثلاثا وكذلك لو أن اللذين قطعا يديه شجه أحدهما شجة أخرى لأن المعتبر عدد الجناة فقد يتلف المرء من جراحة واحدة ويسلم من عشر جراحات ولو كان أحدهم جرحه جرحين أو ثلاثة وجرحه الآخر جراحة صغيرة كانت الدية على عدد الرجال ولا يكون على عظم الجراحة ولا على صغرها ولا على عدد جراحها لأن كل جراحة علة تامة للإتلاف وبكثرة العلل في حق الواحد لا يزداد معنى بإضافة الحكم إليها.
وإذا وقع الرجل في بئر في الطريق فتعلق بآخر وتعلق الآخر بآخر فوقعوا جميعا فماتوا ولم يقع بعضهم على بعض فدية الأول على الذي حفر البئر ودية الثاني على الأول المتعلق به ودية الثالث على الثاني والحاصل: أن المسألة على وجهين: أحدهما: أن يعلم أنهم كيف ماتوا بأن خرجوا من البئر أحياء وأخبروا بذلك فنقول في هذا الوجه موت الأول على سبعة أوجه أحدها: أن يكون مات بوقوعه في البئر فديته على عاقلة الحافر لأنه كالدافع له في مهواة. والثاني: أن يموت من وقوع الثاني عليه فدمه هدر لأنه هو الذي جر الثاني على نفسه فيكون متلفا نفسه. والثالث: أن يموت من وقوع الثالث عليه فتكون ديته على الثاني لأنه هو الذي جر الثالث. والرابع: أن يموت من وقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه فيجب نصف ديته عليه ويهدر نصفها لأنه جنى على نفسه وجنى عليه الحافر. والخامس: أن يموت بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فتكون ديته على الحافر وعلى الثاني نصفين لأن الثاني جان عليه بجر الثالث والحافر جان بالحفر. والسادس: أن يموت من وقوع الثاني والثالث عليه فيهدر نصف دمه ويجب نصف ديته على الثاني لأنه جنى على نفسه وجنى عليه الثاني. والسابع: أن يموت من وقوعه في البئر ومن وقوع الثاني والثالث عليه فيجب ثلث ديته على الحافر وثلثها على الثاني بجر الثالث عليه ويهدر ثلثها لأنه بجنايته على نفسه بجره الثاني عليه.
وأما الثاني: فلموته وجوه ثلاثة: أحدها: أن يكون مات بسبب الوقوع فتكون ديته على عاقلة الأول لأنه هو الذي جره إلى مهواة فيكون بمنزلة الدافع له. والثاني: أن يموت من وقوع الثالث عليه فيكون دمه هدرا لأنه هو الذي جر الثالث على نفسه. والثالث: أن يموت من

 

ج / 27 ص -18-       الوقوع في البئر ووقوع الثالث عليه فيجب نصف ديته على الأول ويهدر نصف ديته بجنايته على نفسه.
وأما الثالث: فلموته سبب واحد وهو أن يموت بوقوعه في البئر فتكون ديته على عاقلة الثاني لأنه هو الذي جره في مهواة.
وأما الوجه الثاني: وهو أنه إذا ماتوا في البئر ولا يعلم كيف ماتوا فإن لم يقع بعضهم على بعض فدية الأول على الذي احتفر البئر لأنه لا سبب لموته سوى الوقوع في البئر والأول هو الذي أوقعه حين جره إلى مهواة وإن وجد بعضهم على بعض موتى ولا يعلم كيف كان حالهم فالقياس وهو قول محمد أن صاحب البئر يضمن الأول ويضمن الأول الثاني ويضمن الثاني الثالث على عواقلهم لأن وقوع الأول في البئر سبب لهلاكه وهو أسبق الأسباب وقد ظهر الحكم عقيبه فيكون مضافا إليه ولا يعتبر احتمال موته من وقوع الثاني أو الثالث عليه لأن هذا الاحتمال ترجح بالسبق والسابق وقوعه في البئر وكذلك في حق الثاني أسبق الأسباب الوقوع في البئر وهو مضاف إلى الأول وفي حق الثالث لا سبب لموته سوى الوقوع في البئر وهو مضاف إلى الأول فضمانه على الثاني.
وقال: وفيها قول آخر ولم يبين من قائل هذا القول وقيل هو قول أبي يوسف وقيل هو قول أبي حنيفة أيضا أن دية الأول أثلاث فثلثها على الحافر وثلثها على الثاني وثلثها هدر لأنه ظهر بموته أسباب ثلاثة وقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه وليست الإضافة إلى البعض بأولى من البعض فالترجيح في هذا لا يقع بالسبق كما في الجراحات فيكون ثلث ديته على الحافر وثلثه على الثاني لأنه جر الثالث إليه وثلثه هدر لأنه هو الذي جر الثاني عليه ودية الثاني نصفين نصفه هدر ونصفه على الأول لأنه ظهر لموته سببان فيضاف إليهما ودية الثالث على الثاني كلها لأنه لا سبب لموته سوى جر الثاني إياه إلى نفسه.
قال: فإذا لم يعرف من أي ذلك ماتوا يبطل نصف ذلك ويؤخذ بالنصف قيل ليس مراده حقيقة المناصفة بل مراده التبعيض والانقسام في حق الأول أثلاثا فإن كان مراده المناصفة فإنما أراد به في حق الثاني خاصة لأنه لا شك أن جميع دية الثالث واجب على الثاني في الأحوال كلها قال في الزوائد وبهذا القول نأخذ.
وإذا دفع رجل رجلا في بئر في ملكه أو في الطريق فالضمان على الدافع لأنه مباشر لإتلافه ومباشرة القتل لا تختلف في الملك وغير الملك كالدم وإذا سقط الرجل في بئر في الطريق فقال الحافر ألقى نفسه فيها عمدا وقال ورثة الرجل كذب فالقول قول الحافر وهذا قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد وكان يقول أولا القول قول الورثة لأن الظاهر يشهد لهم فالإنسان لا يلقى نفسه في البئر عمدا في العادة فعند المنازعة القول قول من يشهد له الظاهر ثم رجع فقال الضمان بالشك لا يجب والظاهر إنما يكون حجة لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق وحاجة الورثة ها هنا إلى الإستحقاق وهو استحقاق الدية على

 

ج / 27 ص -19-       عاقلة الحافر فلا يكفيهم الظاهر لذلك بل يحتاجون إلى إقامة البينة على أنه وقع فيها بغير عمد وهذا الظاهر يقابله ظاهر آخر وهو أن الظاهر أن البصير يرى البئر أمامه في ممشاه فيتقابل الظاهران ويبقى الاحتمال في سبب وجوب الضمان فلا نوجبه بالشك.
وإذا أمر المولى عبده أن يحفر بئرا في الطريق ليس عند داره فحفرها كان ما وقع فيها في رقبة العبد يدفعه به المولى أو يفديه وقد بينا الفرق بين هذا وبين الحر من حيث أن الغرور لا يتمكن بين المولى وبين عبده.
ولو استأجر عبدا محجورا عليه وحرا ومكاتبا يحفرون له بئرا فحفروها فوقعت عليهم من حفرهم فماتوا فلا ضمان على المستأجر في الحر والمكاتب وهو ضامن لقيمة العبد المحجور عليه يؤديها إلى مولاه لأنه صار غاصبا للعبد بالاستعمال والعبد المحجور يضمن بالغصب بخلاف الحر والمكاتب فهو ضامن فإذا ماتوا في حالة ما كان مستعملا لهم كان عليه ضمان قيمة العبد ثم هذه القيمة بدل عن العبد والعبد الجاني إذا أخلف بدلا يتعلق حق أولياء الجناية بذلك البدل فنقول في بيان حكم الجناية أن موتهم حصل من فعلهم فكل واحد منهم يكون جانيا على نفسه وعلى صاحبه فينقسم فعل كل واحد منهم أثلاثا فالعبد المحجور أتلف ثلث الحر فيرجع وليه بثلث دية الحر في قيمة العبد وأتلف ثلث المكاتب فيرجع ولي المكاتب بثلث قيمة المكاتب في تلك القيمة فيقسمون القيمة التي أخذها مولاه على ذلك إلا أن تكون القيمة أكثر فيكون الفضل للمولى لأن كل واحد منهما استوفى كمال حقه ثم يرجع المولى على المستأجر بما أخذوا منه من القيمة لأنه كان غصب العبد فارغا وقد رد عليه القيمة مشغولا بجناية كانت من العبد في يده فإذا استحقت بذلك الشغل كان له أن يرجع بها مرة أخرى لتسلم له قيمة عبده فارغا.
ثم المستأجر قد ملك العبد حين تقرر عليه ضمانه من وقت الغصب وقد تلف ثلث نفسه بجنايته على نفسه فيكون هدرا وثلثه بجناية الحر عليه فيرجع المستأجر على عاقلة الحر بثلث قيمة العبد وكذلك أولياء المكاتب يرجعون على عاقلة الحر بثلث قيمة المكاتب لأن ثلث نفسه تلف بجناية الحر فيجمع ما أخذ أولياء المكاتب إلى ما تركه فينظر قيمته من ذلك فيقرر فيخرج ويضرب فيها أولياء الحر بثلث دية الحر والمستأجر بثلث قيمة العبد لأن المكاتب جنى على ثلث الحر وعلى ثلث العبد ولكن جناية المكاتب توجب عليه الأقل من قيمة نفسه ومن الأرش فإذا كانت قيمة نفسه أقل كان المستوفى من تركته قيمته يضرب كل واحد منهما فيها بجميع حقه.
ولو استأجر حرا وعبدا يحفران له بئرا فوقعت عليهما فماتا وللعبد موليان قد أذن له أحدهما ولم يأذن له الآخر فلا ضمان على المستأجر في الحر ولا في نصيب الآذن من العبد وهو ضامن لنصف قيمة العبد نصيب الذي لم يأذن له لأن الغصب بالاستعمال إنما يتحقق في هذا النصف ثم يرجع فيه ورثة الحر بربع دية الحر لأن العبد كله متلف لنصف

 

ج / 27 ص -20-       الحر فإن موت كل واحد منهما حصل بفعلهما جميعا فهذا النصف من العبد إنما جنى على ربع الحر وقد مات وأخلف بدلا فترجع ورثة الحر في ذلك البدل بربع دية الحر ويرجع المولى الذي لم يأذن له بما أخذ منه من ذلك النصف على المستأجر لأنه أعطاه نصف القيمة مشغولا فإذا استحق بذلك بشغل صار كأنه لم يعطه شيئا فرجع به مرة أخرى ليسلم له نصف قيمة العبد فارغا ثم المستأجر قد ملك هذا النصف بالضمان وقد تلف نصف هذا النصف بجناية الحر فيرجع المستأجر على عاقلة الحر بربع قيمة العبد فيسلم له ذلك ويرجع الآذن للعبد على عاقلته الحر بربع قيمة العبد ثم هذا النصف من العبد كان جني على ربع الحر وقد فات وأخلف بدلا فيرجع ورثة الحر في ذلك الربع بربع دية الحر.
ولو كان العبد مأذونا له في التجارة كان على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن معنى الغصب ها هنا قد انعدم وإنما يبقى حكم الجناية وقد جنى كل واحد منهما على نصف صاحبه فيكون على عاقلة الحر نصف قيمة العبد ثم يرجع بذلك ورثة الحر على مولى العبد فيأخذونه بنصف الدية فإن العبد قد جنى على نصف الحر وقد فات وأخلف هذا البدل ولا شيء على المستأجر لأنه كان يضمن فيما سبق باعتبار الغصب وقد انعدم ذلك حين كان العبد مأذونا له.
ولو استأجر عبدين أحدهما مأذون له والآخر محجور عليه فحفرا بئرا فوقعت عليهما فمات فإن المستأجر يضمن قيمة المحجور عليه لمواليه لأنه غاصب له باستعماله ثم يرجع مولى المأذون له بنصف قيمته في تلك القيمة لأن المحجور كان جنى على نصف المأذون وقد مات وأخلف قيمة فيرجع مولى المأذون في تلك القيمة بنصف قيمة المأذون ثم يضمن المستأجر لمولى المحجور عليه ما أخذ منه في ذلك لأن المأخوذ استحق بسبب الجناية التي كانت من العبد في يده ثم المستأجر ملك العبد المحجور عليه بالضمان وقد جنى المأذون على نصفه ثم مات المأذون وأخلف نصف القيمة فيرجع المستأجر عليه بنصف قيمة المحجور عليه فيما أخذه مولى المأذون حتى يسلم له نصف قيمة المحجور عليه وإذا احتفر الرجل بئرا في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فهو ضامن لما وقع فيها لأنه متعد بالحفر في ملك الغير كما هو متعد بالحفر في الطريق فإن أقر رب الدار أنه أمره بذلك لم يصدق في القياس لأن الضمان قد وجب على عاقلة الحر وهو بقوله يريد إسقاط ذلك الضمان ولا ولاية له على أولياء المقتول في إسقاط حقهم وفي الاستحسان القول قوله ولا ضمان على أحد لأن رب الدار أقر بما يملك إنشاءه فإنه لو أذن له بالحفر الآن في ملكه صح إذنه ومن أقر بما يملك إنشاءه يكون مصدقا في ذلك فكان الثابت من الإذن بإقراره كالثابت بالبينة والحافر يخرج به من أن يكون متعديا فإذا احتفر الرجل بئرا في طريق مكة أو في غير ذلك من الفيافي فلا ضمان عليه في ذلك لأنه غير متعد بالحفر في ذلك الموضع إذ لا يتضرر به أحد ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يملك بالحفر موضع بئره وما حوله من الحريم وعند

 

ج / 27 ص -21-       أبي حنيفة رحمه الله كذلك إذا كان حفر بإذن الإمام فعرفنا أنه غير متعد في هذا الحفر فهو كالحافر في ملكه.
ألا ترى أنه لو ضرب هناك فسطاطا أو اتخذ تنورا يخبز فيه أو ربط هناك دابته لم يضمن ما أصاب من ذلك بمنزلة ما لو فعله في ملكه وهذا إذا كان في غير المحجة فأما إذا احتفر في محجة الطريق فهو ضامن لما يقع فيه لأن الحق في ذلك الموضع للعامة فالتصرف فيه بمنزلة التصرف في الأمصار والله أعلم.

باب النهر
قال رحمه الله: وإذا احتفر الرجل نهرا في ملكه أو جعل عليه جسرا أو قنطرة في أرضه فعطب به إنسان فلا ضمان عليه لأنه غير متعد فيما أحدثه في ملكه والمسبب إذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا.
وإذا حفر البئر في أرض غيره فهو بمنزلة البئر فيكون ضامنا لكونه متعديا في السبب وكذلك لو جعل عليه جسرا أو قنطرة في غير ملكه والجسر اسم لما يوضع ويرفع فلا يرجع والقنطرة ما يحكم بناؤه وعن أبي يوسف أنه لا يكون ضامنا في هذا وإن أحدثه في غير ملكه إذا كان بحيث لا يتضرر به غيره لأنه محتسب فيما صنع فإن الناس ينتفعون بما أحدثه فلا يكون هو متعديا فيه ولكنا نقول إنما يكون محتسبا إذا جعله بإذن الإمام بمنزلة حفر البئر فإنه محتسب فيه أيضا في الموضع الذي يحتاج إليه الناس ومع ذلك إذا فعله بغير إذن الإمام كان ضامنا لما يعطب به.
فإن مشى على جسره إنسان متعمدا لذلك فانخسف به فلا ضمان عليه لأن هذا تعمد المشي عليه فيعتبر وقوعه مضافا إلى فعله لا إلى تسبب من اتخذ الجسر ولو حفر نهرا في غير ملكه فانشق من ذلك النهر ماء فغرق أرضا أو قرية كان ضامنا لذلك لأنه أسال الماء في غير ملكه فأما أن يقال هو متعد فيه أو يقال هو مباح له ولكنه مقيد بشرط السلامة والتلف بهذا مما يمكن التحرز عنه فكان ضامنا كالمشي والسير على الدابة في الطريق ولو كان في ملكه لم يضمن شيئا لأن ذلك مباح له مطلق.
وكذلك لو سقى أرضه فخرج الماء منها إلى غيرها لم يضمن لأن سقي أرضه تصرف في ملكه وذلك مباح له مطلقا وكذلك لو أحرق حشيشا في أرضه أو حصائد أو أجمة فخرجت النار إلى أرض غيره وأحرقت شيئا فلا ضمان عليه لأن هذا التصرف في ملكه مباح له مطلقا قال بعض المتأخرين هذا إذا كانت الرياح ساكنة حين أوقد النار فأما إذا كان اليوم ريحا على وجه يعلم أن الريح يذهب بالنار إلى أرض جاره فهو ضامن استحسانا بمنزلة من صب الماء في ميزاب له وتحت الميزاب متاع لإنسان يفسد به قال هو ضامن فكذلك النار يوقدها الرجل في داره أو تنوره فلا ضمان عليه فيما احترق لأن هذا التصرف في ملكه مباح له مطلقا.

 

ج / 27 ص -22-       وكذلك لو حفر نهرا أو بئرا في داره فنزت من ذلك أرض جاره لم يضمن بهذا السبب شيئا ولا يؤمر بأن يحول ذلك عن موضعه لأنه أحدثه في ملكه إلا أنه بقي فيما بينه وبين ربه أن يكف عما يؤذي جاره
فأما الحكم فإنه لا يؤمر أن يحوله إلا أن يشاء.
ولو صب الماء في ملكه فخرج من صبه ذلك إلى ملك غيره فأفسده كان هذا والأول في القياس سواء إلا أن صب الماء في ملكه مباح له مطلقا غير أن الأخذ بالقياس ها هنا يقبح لأن الماء سيال بطبعه فإذا كان عند صب الماء يعلم أنه يسيل إلى ملك جاره يكون ضامنا لما يفسد به استحسانا.
ألا ترى أنه لو صبه في ميزاب له فأفسد متاعا له تحته يكون ضامنا ويعد ذلك من جنايته بمنزلة مباشرته بيده وكذلك الجواب فيما يشبهه والله أعلم.

باب ما يحدث في المسجد والسوق
وقال رحمه الله: وإذا احتفر أهل المسجد فيه بئرا لماء المطر أو وضعوا فيه حبا فصب فيه الماء أو طرحوا فيه بواري أو حصى أو ركبوا فيه بابا أو علقوا فيه قناديل أو ظللوه فلا ضمان عليهم فيما عطب بذلك لأن هذا النوع من التصرف مباح لأهل المسجد في مسجدهم مطلقا فإن حق التدبير في المسجد فيما يرجع إلى الإصلاح إليهم على الوجه الذي يكون للمالك في ملكه فكما أن المالك لا يكون جانيا بإحداث شيء من هذا في ملكه فكذلك أهل المسجد في مسجدهم وكذلك إن فعله غيرهم بإذنهم لا يكون فعل المأذون من جهتهم كفعلهم.
وإن فعل بغير أمرهم فهو ضامن في قول أبي حنيفة وهو القياس وفي قول أبي يوسف ومحمد إذا كان مسجدا للعامة فلا ضمان عليه فيه استحسانا إلا البناء والحفر وجه قولهما أن هذا مما يرجع إلى إصلاح المسجد وعمارة المسجد مما ندب الله إليها كل مسلم قال الله تعالى
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}[التوبة: من الآية18] الآية ثم بتعليق القنديل وبسط الحصر يتمكن الناس من إقامة الصلاة في المسجد وغير أهل المسجد سواء في إقامة الصلاة فيه فكذلك فيما يرجع إلى التمكن منه إلا أن أهل المسجد أخص بالتدبير فهم في ذلك كالملاك وغيرهم كالسكان نحو المستعير والمستأجر في الدار ثم المستعير لا يكون جانيا في وضع الأمتعة وصب الماء ونصب القنديل في الدار ويكون جانيا في البناء وحفر البئر بغير إذن صاحب الدار فكذلك غير أهل المسجد في المسجد وهذا لأن المسجد معد للصلاة فيه والبناء والحفر يخرج ذلك الموضع من أن يكون مصلى فيكون ذلك من باب التدبير لا من باب التمكين من إقامة الصلاة فيه فيختص به أهل المسجد دون غيرهم فيكون جانيا إذا فعله بغير أمرهم وإذنهم فأما بسط الحصير ونصب القنديل فمن باب التمكين من إقامة الصلاة فيه فغير أهل المسجد فيه كأهل المسجد وأبو حنيفة يقول اختص أهل المسجد بالتدبير في هذه البقعة فغيرهم إذا أراد شيئا من ذلك يباح له فعله ولكنه مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي

 

ج / 27 ص -23-       والسير على الدابة في الطريق والدليل على اختصاص أهل المسجد به أن التدبير في فتح الباب وإغلاقه ونصب الإمام والمؤذن والمتولي يكون إلى أهل المسجد دون غيرهم فإنه لو وجد في مسجدهم قتيل كان ذلك عليهم خاصة دون غيرهم والدليل عليه البناء والحفر فإن أهل المسجد هم المختصون بذلك.
وإذا فعله غيرهم وكان فيه إصلاح للمسجد كان مباحا لهم ولكنه مقيد بشرط السلامة ولا يبعد أن يكون المسلمون فيما هو المقصود وهو الصلاة فيه سواء ثم مع ذلك يختص أهله بالتدبير فيه كالكعبة فالناس فيما هو المقصود وهو الطواف سواء وقد اختص بنو شيبة بالتدبير فيها حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أخذ المفتاح منهم يوم الفتح نزل عليه الوحي يأمره بالرد قال الله تعالى
:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء، من الآية:58] وإذا قعد الرجل في مسجد لحديث أو نام فيه في غير صلاة أو مر فيه فهو ضامن لما أصاب كما يضمن في الطريق الأعظم في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه فيه لأنه لو كان مصليا في هذه البقعة لم يضمن ما يعطب به فكذلك إذا كان جالسا فيه لغير الصلاة بمنزلة الجالس في ملكه وهذا لأن الاعتكاف في المسجد قربة كالصلاة والمعتكف يتحدث وينام في المسجد والجلوس لانتظار الصلاة مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام: "المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها" وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس في المسجد بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وكذلك الجلوس في المسجد لتعليم العلم وتعلمه مندوب إليه فيكون ذلك مباحا مطلقا والمباح المطلق لا يكون سببا لوجوب الضمان على الحر وأبو حنيفة يقول المسجد معد للصلاة والقعود والنوم فيه لغير الصلاة مقيد بشرط السلامة كالطريق فإنه معد للمشي فيه فالجلوس أو النوم فيه وإن كان لا يضر بالمارة يتقيد بشرط السلامة.
والدليل عليه أن من يجلس في المسجد للصلاة إذا احتاج من يصلي في ذلك الموضع إلى إزعاجه ليصلي كان له ذلك شرعا وليس لغير المصلي أن يزعج المصلي عن مكانه فعرفنا أنه معد للصلاة فيه فشغله بغير ذلك يتقيد بشرط السلامة وإن كان ذلك مباحا أو مندوبا إليه ولا يكون هذا أقوى من الرمي إلى الكافر أو العبد فإنه مباح أو مندوب إليه ومع ذلك إذا أصاب مسلما كان ضامنا له ولا خلاف انه إذا مشى في المسجد فأوطأ انسانا أو نام فيه فانقلب على انسان فهو ضامن له لإتلافه وبمثل هذا السبب يضمن في ملكه ففي المسجد أولى.
وإذا احتفر الرجل في سوق العامة بئرا أو بنى فيها دكانا بغير أمر السلطان فهو ضامن لما عطب به من شيء لأنه متعد في هذا السبب فالحق بالطريق العامة وما يكون حقا لعامة المسلمين فالتدبير فيه إلى الإمام فإذا أحدثه بغير إذن الإمام كان متعديا وإذا فعله بأمر السلطان لا يكون متعديا في هذا التسبب فلا يكون ضامنا بمنزلة ما لو قتله بملكه.
و إذا أوقف دابة في السوق فما أصابت دابته فهو ضامن له ولأنه متعد بإيقافها في الطريق

 

ج / 27 ص -24-       فإن ذلك يحول بين المارة والمرور في ذلك الموضع وإن كان موقفا تقف فيه الدواب للبيع وقد أذن له السلطان في ذلك فأوقف فيه الدابة لم يكن ضامنا فيما أصابت الدابة وإن لم يكن السلطان أذن فيه فهو ضامن لأن بإذن السلطان يصير ذلك الموضع معدا لإيقاف الدواب فيه فيكون إيقافها فيه بمنزلة إيقافها في ملكه فأما بدون إذن السلطان فهو ممر وليس بموضع لإيقاف الدابة فإذا أوقف فيه دابته أو أرسلها فيه كان ضامنا لما تلف به وإن لم يكن هو أوقفها ولا أرسلها فيه فلا ضمان عليه لأنها دابة منفلتة فجرحها هدر والقول في ذلك قوله مع يمينه مع أنه ينكر وجوب الضمان عليه في الموضع المعد لإيقاف الدواب إذا سار على دابته فيه لم يكن ضامنا للنفحة بالرجل والذنب لأن هذا جزء من الطريق كسائر أجزاء الطريق فالسير فيه يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن فإذا أنكر أن يكون أرسلها فهو ينكر وجوب الضمان عليه والمدعي يدعي ذلك فكان القول فيه قوله مع يمينه والله أعلم.

باب جناية العبد
قال رحمه الله: وإذا جنى العبد جناية خطأ فمولاه بالخيار إن شاء دفعه بها وإن شاء فداه بالإرش عندنا وعند الشافعي جنايته تكون دينا في رقبته يباع فيه إلا أن يقضي المولى دينه ومذهبنا مروي عن بن عباس رضي الله عنهما قال يخير المولى في خطأ عبده بين الدفع والفداء ومذهبه مروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما قالا عبيد الناس أموالهم وجنايتهم في قيمهم وإنما أراد بالقيمة الثمن وجه قوله أن هذا فعل موجب للضمان فإذا تحقق من العبد كان الضمان الواجب به دينا في رقبته يباع فيه بمنزلة استهلاك الأموال وهذا لأن العبد لا عاقلة له وضمان الجناية في حق من لا عاقلة له بمنزلة ضمان المال فيكون واجبا في ذمة العبد ويكون شاغلا لمالية رقبته فيباع فيه إلا أن يقضي المولى دينه.
و حجتنا في ذلك أن المستحق بالجناية على النفوس نفس الجاني إذا أمكن.
ألا ترى أن في جناية العمد المستحق نفس الجاني قصاصا حرا أو عبدا فكذلك في الخطأ إلا أن استحقاق النفس نوعان أحدهما: بطريق الإتلاف عقوبة والآخر: بطريق التملك على وجه الجبران والحر من أهل أن يستحق فيه بطريق العقوبة لا بطريق التمليك والعبد من أهل أن يستحق نفسه بالطريقين جميعا فيكون العبد مساويا للحر في حالة العمد ويكون مفارقا له في حالة الخطأ لأن عذر الخطأ لا يمنع استحقاق نفسه تمليكا والسبب يوجب الحكم في محله.
وفي حق الحر لم يصادف محله وفي حق العبد السبب صادف محله فيكون مقيدا حكمه وهو أن نفسه صارت مستحقة للمجني عليه تمليكا ليتحقق معنى الصيانة عن الهدر إلا أن يختار المولى الفداء فيكون له ذلك لا مقصود المجني عليه يحصل به وبدل المتلف يصل إليه بكماله بخلاف إتلاف المال فالمستحق به بدل المتلف دينا في ذمة المتلف ولا يستحق به بدل المتلف دينا في ذمة المتلف ولا يستحق به نفس المتلف بحال.

 

ج / 27 ص -25-       والطريق الثاني: أن موجب جناية الخطأ يتباعد عن الجاني لكونه معذورا في ذلك ويكون الخطأ موضوعا شرعا ويتعلق بأقرب الناس لإظهار صيانة المحل المحترم والتخفيف على المخطئ.
ألا ترى أن في حق الحر تجب على عاقلته لهذا المعنى فكذلك في حق العبد إلا أن عاقلة العبد مولاه لأن الحر مستنصر بعاقلته ومزاد قوة وجرأة بهم كما أن المملوك يستنصر بمولاه فيجب ضمان جنايته على المولى إلا أن للمولى أن يقول إنما لحقني هذا البلاء بسبب ملكي فيه فلى أن أتخلص عنه بنقل ملكي فيه إلى المجني عليه فأدفعه بالجناية فإذا دفعه صار كان المجني عليه هو المالك فلا يجب شيء آخر عليه بالجناية.
وإذا لم يدفعه كان الرد عليه بخلاف ضمان المال فإنه يجب في ذمة المتلف ولا يخاطب غيره كما في حق الحر إذا عرفنا هذا فنقول لا شيء على المولى في ذلك حتى يظهر حال المجني عليه اعتبارا لجناية العبد بجناية الحر وقد بينا أن هذا يتأتى في جناية الحر لأن موجبها يختلف بالسراية وعدم السراية فلا يصير ذلك معلوما قبل الاستيفاء والقضاء بالمجهول غير ممكن ثم الواجب ها هنا الدفع أو الفداء والمولى يخير في ذلك واختلافه بالبرء والسراية والخطأ والعمد في ذلك سواء ما لم يبلغ النفس لما بينا أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فيكون موجب جنايته فيما دون النفس المال بكل حال فلهذا كان العمد والخطأ فيه سواء.
فإذا بلغ النفس وهو عمد ففيه القصاص ووجوب القصاص باعتبار أنه نفس مخاطبة والمملوك في ذلك كالحر والمستحق بالقصاص دمه والمملوك في حكم الدم مبقي على الحرية ولهذا استحق المولى عليه القصاص إذا تقرر سببه كما يستحق غيره والصغير من الجراحات في ذلك والكبير سواء على الحر والمملوك والذكر والأنثى بمنزلة الموجود من الحر فكما أن هناك لا يتلف موجب الجناية بهذه الأسباب فكذلك بجناية العبد.
ولا تعقل العاقلة شيئا من جناية العبد والمدبر وأم الولد لأن المستحق بالجناية نفسه ونفسه غير مملوكة للعاقلة والمولى ولأن المولى في كونه مخاطبا بجناية العبد بمنزلة العاقلة ولا يتحمل غير العاقلة عواقلهم فكذلك لا يتحمل جناية العبد عاقلة مولاه بل سبب وجوب ذلك على المولى ملكه رقبته وكسبه وهو مختص بذلك دون عواقله ولهذا لم يكن على المولى موجب جناية المكاتب لأنه لا يملك كسبه بل المكاتب أحق بمكاسبه فيكون موجب جنايته عليه دون مولاه والمستسعى في بعض قيمته عند أبي حنيفة كالمكاتب فأما جناية العبد علي الحيوان والعروض فتكون دينا في عنقه تقضى من كسبه أو يباع فيها.
وكذلك لو وطئ امرأة مكرهة فذلك دين في عنقه يباع فيه لأن المستوفى بالوطء مما يملك بالعقد سواء كان في حكم المنفعة أو في حكم العين فيكون بمنزلة المال.
ألا ترى أنه لو كان الملتزم بذلك حرا كان عليه في ماله دون عواقله بأن وطئ امرأة

 

ج / 27 ص -26-       بشبهة أو مستكرهة وسقط الحد للشبهة فكذلك العبد اذا فعل ذلك يكون دينا في ذمته والدين عليه يكون شاغلا لمالية رقبته ولا تعقل العاقلة كما لو جنى على المماليك خطأ فيما دون النفس وان كان الجاني حرا لأن المملوك فيما دون النفس بمنزلة المال.
ألا ترى انه لا يتعلق به القصاص بحال لان فيما دون النفس المتلف جزء من الجسم والجسم يدخل تحت القهر والاستيلاء فيصير مملوكا مآلا فيكون اتلافه في حكم اتلاف المال فيجب فيه الضمان على المتلف بالغا ما بلغ ويكون ذلك حالا في ماله ولا تعقله العاقلة بمنزلة اتلاف سائر الاموال فإذا بلغ النفس عقلته العاقلة في ثلاث سنين كما هو أصله وقد اعتبره في حكم القصاص على ما بينا.
وقد روى عن أبي يوسف ومحمد ان العاقلة لا تعقل نفس العبد وهو قول بن أبي ليلى واستدل فيه بقوله عليه السلام
"لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا" والمراد أن نفس العبد لا تعقلها العاقلة وهذا لان العبد يحل للتملك بالعقد فما يجب من الضمان باتلافه يكون على المتلف في ماله كسائر الاموال.
وحجتنا في ذلك القيمة الواجبة باتلاف نفس العبد بمنزلة الدية الواجبة باتلاف نفس الحر وذلك على العاقلة مؤجلا في ثلاث سنين فهذا مثله وهذا لأن معنى النفسية لا يدخل تحت القهر فلا يتناولها الملك بل العبد فيه بمنزلة الحر.
ألا ترى انه يتعلق القصاص بقتله عمدا كما يتعلق بقتل الحر وكذلك الكفارة في الخطأ ولا مدخل للقصاص ولا كفارة في ضمان الاموال فعرفنا ان المال واجب ها هنا بالنص بخلاف القياس لأن المال لا يكون مثلا لما ليس بمال وما لا يكون مملوكا من الآدمي لا يكون مالا وإنما وجوب المال بقوله ودية مسلمة إلى أهله الا أن هذه الدية في حق العبد القيمة وفي حق الحر مائة من الابل كما بينه الشرع والدية تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين في حالة الخطأ وبهذا المعنى خالف النفس ما دون النفس لأن ما دون النفس لا مدخل فيه للكفارة والقصاص وتأويل الاحاديث أن العاقلة لا تعقل جناية العبد على نفس العبد وبه نقول.
ثم الواجب بالجناية على نفس المملوك قيمته قلت قيمته أو كثرت غير انها لا تزاد على دية الحر ولا تنقص عن عشرة آلاف الا عشرة دراهم اذا كان العبد كبير القيمة في قول علمائنا رحمهم الله وفي قول الشافعي تجب قيمته بالغة ما بلغت وهو قول أبي يوسف الذي رجع إليه.
وإن كان المقتول أمة فإنها لا تزاد قيمتها على خمسة آلاف وينقص من ذلك عشرة دراهم في الروايتين وفي بعض الروايات خمسة دراهم فأما في قطع طرف العبد فيجب نصف قيمته بالغة ما بلغت في الصحيح من الجواب إلا رواية عن محمد أنه يجب في قطع يد العبد خمسة آلاف إلا خمسة ذكره في بعض نسخ الوكالة. وجه قول الشافعي ما روي عن

 

ج / 27 ص -27-       عمر وعلي وبن عمر رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت ولأن المتلف مات فيجب ضمان قيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال وهذا لأن ضمان المال يجب بطريق الجبران وإنما يحصل الجبران بما يكون مثلا له في صفة المالية ولهذا يضمن المملوك عند الغصب بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال فكذلك عند القتل وإنما قلنا أنه مال لأن الضمان يجب للمولى وملكه في عبده ملك مال والضمان الواجب له يكون ضمان المال إذا أمكن ولا يدخل عليه القصاص في حالة العمد لأن على هذا الطريق يقول القصاص يكون بدلا عن المالية أيضا إلا أن المالية ترقب بهذا المحل فتصير مضمونة بالنقصان وإن لم يكن المال في غير هذا المحل مضمونا بالقصاص بمنزلة الصيد في الحرم يكون مضمونا باعتبار حرمة المحل بما لا يضمن به في غير هذا المحل وهذا لأن القصاص يعتمد العمد والتكافؤ وذلك تمكن مراعاته في هذا المال دون سائر الأموال فكان هذا المال مضمونا بالقصاص دون سائر الأموال والدليل عليه أنه يرجع إلى تقويم المقومين في الأسواق ليوجب به حين ينفد السوق وهذا يختص بضمان الأموال فأما في غير الأموال فإنما تجب الإبل ولا مدخل للإبل ها هنا والدليل عليه أنه باختلاف أوصاف المتلف في الجنس والجمال والمالية تختلف هذه الأوصاف فإنه ينقص عن الدية نقصانا غير معتبر فعرفنا أنه ضمان مال أو يكون المتلف عبد فتجب قيمته بالغة ما بلغت كما لو كان قليل القيمة وهذا لأن في العبد معنيين معنى النفسية والمالية فيكون الواجب بدلا عن المالية والدليل على ترجيح معنى المالية صيرورته محلا قابلا للتصرفات كسائر الأموال وخروجه من أن يكون أهلا للولايات التي اختصت بها النفوس المحترمة على أنا نعتبر كلا الوصفين فنقول متى كان الواجب بإتلافه ما ليس بمال وهو القصاص يترجح معنى النفسية ولهذا لا يختلف بقلة المالية وكثرة المالية وهذا لأن ضمان المال بالمال أصل وضمان ما ليس بمال يكون على خلاف الأصل ومهما أمكن إيجاب الضمان على موافقة القياس فلا معنى للمصير إلى إيجابه بخلاف القياس والدليل عليه أن المبيع قبل القبض إذا قبض فالبيع يبقى ببقاء القيمة وإنما يبقى البيع إذا فات المعقود عليه وأخلف فلو لم يكن الضمان بدل المالية لما بقي العقد باعتباره لأن البيع يتناول المالية.
والراهن إذا قتل المرهون يضمن قيمته بحق المرتهن ولا حق للمرتهن إلا في المالية ولهذا لا يجب عليه القصاص بحال لأن القصاص بدل عن النفسية فلو كانت القيمة كذلك لما وجب على الراهن أن يجمع بينهما في الاعتبار فنقول إذا كان العبد كبير القيمة يجب مقدار الدية لاعتبار معنى النفسية وما زاد على ذلك إلى تمام القيمة لاعتبار معنى المالية بمنزلة من قتل حرا ومزق عليه ثيابه وهذا مروي عن أبي يوسف.
فقد روى بن سماعة رحمه الله عنه أن مقدار الدية من قيمة العبد تتحمله العاقلة وما زاد على ذلك إلى تمام القيمة يكون في مال الجاني لهذا المعنى.

 

ج / 27 ص -28-       وحجتنا في ذلك قول بن مسعود رضي الله عنه لا تبلغ قيمة العبد دية الحر وينقص منه عشرة دراهم وهذا كالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المقادير لا تعرف بالقياس وإنما طريق معرفتها التوقيف والسماع من صاحب الوحي والمعنى فيه أن هذا ضمان وجب بقتل الآدمي فلا يزاد على الديات كما لو وجب بقتل الحر وهذا لأن زيادة البدل تكون بزيادة الفضيلة وما من فضل في العبيد إلا ويوجد ذلك في الأحرار وزيادة ثم الحر مع أنه مجمع القصاص لا يزاد بدله على أعلى الديات فالعبد أولى.
وإنما قلنا أن الضمان وجب بالقتل ها هنا لأن القتل سبب تضمن به النفس بالدية وهو حكم ثابت بالنص قال الله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء، من الآية:92] ونفس العبد في هذا داخلة كنفس الحر.
ألا ترى أنها تضمن بالكفارة كنفس الحر فكذلك بالدية والدية بمقابلة النفس مقدرة بالنص لا تجوز الزيادة عليها بالرأي فلا يجوز إسقاطها بالرأي فهذا دليل واضح على أن الضمان يجب ها هنا باعتبار النفسية وأن الواجب الدية لأنا لو لم نجعله واجبا باعتبار النفسية كنا قد أسقطنا بالرأي ما هو ثابت بالنص والدليل عليه أن ضمان النفس بالدية لإظهار حرمة المحل وصيانته عن الإهدار ونفس العبد محترمة كنفس الحر فلا يجوز إهدارها ما أمكن.
والدليل عليه أن صفة المالية في هذا المحل تبع للنفسية لأن قوام المالية ببقاء النفسية وهذا هو علامة التبع مع المتبوع ولا يجوز إهدار الأصل بحال لمراعاة التبع لأن في اعتبار الأصل اعتبار التبع وليس في اعتبار التبع اعتبار الأصل.
وإذا جعلنا الضمان واجبا باعتبار النفسية كنا اعتبرنا ما هو الأصل وباعتباره يحصل اعتبار التبع فكان ذلك أولى من أن يجعل بمقابلة المالية ويهدر معنى النفسية ولأن أكثر ما في الباب أن تثبت المساواة بين النفسية والمالية ولكن مع المساواة تترجح النفسية باعتبار السبب وهو القتل لأن القتل سبب لا يقصد به الأموال عادة وإنما يقصد به النفوس لمعنى التشفي والانتقام فأما الأموال فإنما تقصد بالغصب فلا جرم ضمان الغصب يكون ضمان مال يجب بالغة ما بلغت ولا يثبت في حق الأحرار وضمان القتل يكون باعتبار النفسية سواء بقتل الحر أو وجب بقتل العبد إلا أنه لا يجب على المولى بقتل عبده لخلوه عن الفائدة فإن ما يجب بمقابلة نفس العبد يكون لمولاه على سبيل الخلافة عنه والخلافة بسبب الملك لا تنعدم حكما بالقتل فلو وجب وجب له على نفسه والدليل على هذا فضل القصاص فإن القصاص يجب باعتبار معنى النفسية ثم لا يجب على المولى إذا قتل عبده لأنه غير مفيد فكذلك المال ومن يقول القصاص واجب باعتبار المالية فهو لغو من الكلام لأن المال لا يضمن بالقصاص بحال فكيف يضمن بالقصاص والمقصود بالمال التمول والادخار لوقت الحاجة وليس في القصاص شيء من ذلك.
ولهذا يتبين ترجيح معنى النفسية على معنى المالية لأن المتلف في حال الخطأ ما هو

 

ج / 27 ص -29-       المتلف في حالة العمد فإذا جعل المضمون منه في حالة العمد معنى النفسية فكذلك في حالة الخطأ ومن يقول يجمع بينهما فذلك فضل من الكلام لأنه لو كان ها هنا طريق إلى الجمع بينهما لكان ينبغي أن يضمن الدية مع كمال القيمة ويستوفى في حالة العمد القصاص باعتبار النفسية والقيمة باعتبار المالية وأحد لا يقول ذلك فعرفنا أنه لا وجه إلى الجمع بينهما لما بين الوصفين من المغايرة على سبيل التضاد
فأما النقصان فنقول بدل النفس قد ينقص عن أعلى الديات باعتبار معنى موجب للنقصان في المحل.
ألا ترى أنه ينقص بالأبوة وبالكفر عن أصل الخصم وبالاجتنان في البطن بالاتفاق فإن بدل الجنين دون بدل المنفصل وإن كان الوجوب باعتبار النفسية هناك إذ لا مالية في الجنين حرا كان أو مملوكا فكذلك يجوز أن ينقص عن أعلى الديات باعتبار صفة المملوكية وهذا لأن تكميل الدية باعتبار كمال صفة المالكية.
ألا ترى أن بدل الأنثى على النصف من بدل الذكر لأن الذكر أهل لمالكية المال والنكاح والأنثى أهل لمالكية المال دون مالكية النكاح فإنها مملوكة نكاحا فيتنصف بدلها بذلك والجنين ليس بأهل للمالكية في الحال ولكن فيه عرضة الأهلية لذلك إذا انفصل حيا فباعتباره ينقص بدله غاية النقصان إذا عرفنا هذا فنقول بسبب الرق تنتقص صفة المالكية لأنه صار مملوكا مآلا ولم يبق مالكا للنكاح بنفسه إلا أن هذا النقصان عارض على شرف الزوال بأن يعتق فيجوز أن يزاد بدل الرقيق على بدل الأنثى لهذا ويجوز أن ينقص باعتبار الحال وهو أنه دون الأنثى في صفة المالكية ثم صفة المملوكية وإن كانت لا تختلف في الرقيق ولكن ينبني على هذا الوصف ما يختلف في نفسه وهو المالية فإن أمكن إظهار النقصان باعتبار صفة المالكية بأن كان قليل القيمة يعتبر ذلك لإظهار النقصان وإن لم يمكن بأن كان كثير القيمة فحينئذ يصار في النقصان إلى معنى شرعي وبهذا يتبين فساد قول من يقول أن النقصان إذا كان فباعتبار المالكية وإنما النقصان باعتبار المملوكية وذلك لا يزاد بزيادة المالية وإنما اعتبار المالية لإظهار مقدار النقصان إذا أمكن لا لثبوت أصل النقصان على أن بزيادة المالية يزداد النقصان وعند قلة المالية ينتقص الواجب عن الدية لا عن القيمة وعند كثرة المالية ينتقص الواجب عن القيمة وعن الدية جميعا وإنما قررنا النقصان بعشرة لحديث بن مسعود رضي الله عنه ولأن صفة المملوكية تظهر التفاوت بينهما فيما يتقدر بالعشرة وهو المستوفى بالوطء فإنه لا يحل استيفاء ذلك من الحر إلا بعقد يتقدر البدل فيه بعشرة ويجوز استيفاء ذلك من الأمة بعقد متعد عن البدل وهو الهبة فإن الجارية الموهوبة يباح وطؤها فإذا ظهر باعتبار صفة المملوكية التفاوت بينهما فيما هو مقدر بالعشرة نصا قدرنا النقصان بالعشرة لهذا ولهذا قلنا في أصح الروايتين سواء كان المقتول عبدا أو أمة فالنقصان عن الدية يتقدر بعشرة والرجوع إلى تقويم المقومين قد يكون فيما يجب بمقابلة النفسية كحكومة العدل والوجوب للمولى لأنه يخلفه خلاف الوارث المورث ولأنه مالك لمالكية قوامها باعتبار هذا

 

ج / 27 ص -30-       المحل، فما يجب بمقابلة المحل في حقه يجعل كالواجب بمقابلة المالية ولهذا قلنا البيع يبقى إذا قتل المبيع قبل القبض لأن صحة البيع باعتبار بقاء معنى المالية التي تملك بالبيع باعتبار هذا المحل فيجعل بدل المحل بمنزلة بدل المالية في بقاء البيع باعتباره ولهذا لو كان القتل عمدا حتى وجب القصاص بقي البيع أيضا عند أبي حنيفة وهذا بخلاف العبد المرهون إذا قتله الراهن فإن إيجاب الضمان هناك باعتبار معنى النفسية غير ممكن لما قررنا في المولى إذا قتل عبده فجعلنا الواجب باعتبار المالية ولهذا لا يتعلق به القصاص بحال فتجب فيه المالية بالغة ما بلغت فأما طرف المملوك فقد بينا أن المعتبر فيه المالية فقط.
ألا ترى أنه لا يضمن بالقصاص ولا بالكفارة فلهذا قال كان الواجب فيه القيمة بالغة ما بلغت إلا أن محمدا رحمه الله قال في بعض الروايات القول بهذا يؤدي إلى أن يجب بقطع طرف العبد فوق ما يجب بقتله بأن تكون قيمته بلغت ألفا فيجب بقطع طرفه خمسة عشر ألفا أو عشرة آلاف إلا عشرة وهذا قبيح جدا فلهذا قال لا يزاد على نصف بدل نفسه فيكون الواجب خمسة آلاف إلا خمسة.
ولو قتل العبد قتيلا وله وليان فعفى أحدهما دفع المولى إلى الباقي نصفه أو فداه بنصف الدية لأن النصيب الذي لم يعف انقلب مالا عند عفو الشريك فيكون هذا في نصيبه كالجناية الموجبة للمال في الأصل وهو الخطأ ولو قتل قتيلا خطأ وفقأ عين آخر دفعه المولى إليهما أو فداه فإن اختار الفداء فداه بالإرش وذلك دية النفس عشرة آلاف وأرش العين خمسة آلاف وإذا اختار الدفع كان العبد بينهما أثلاثا لأن كل واحد منهما تصرف فيه بجميع حقه وحق ولي القتيل عشرة آلاف وحق المفقوء عينه خمسة آلاف فإن أعتقه المولى وهو يعلم بالجنايتين فهو مختار وعليه خمسة عشر ألفا في ماله لأنه فوت محل الدفع بالإعتاق وبعد العلم بالجناية كان هو مخيرا بين الدفع والفداء فتفويته محل الدفع يكون اختيار الفداء دلالة التصرف فهو كالتصريح بالاختيار.
وكذلك لو دبره أو باعه أو كاتبه فإنه يتعذر عليه دفعه بما أنشأ من التصرف فيتضمن الذي اختار الفداء منه وكذلك لو كانت أمة فاستولدها فإن جامعها ولم تلد فليس هذا باختيار وله أن يدفعها بعد ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف فإنه يقول الوطء دليل الاختيار بدليل أن البائع إذا كان بالخيار فوطئ المبيعة كان ذلك منه اختيارا للفسخ وهذا لأن الوطء دليل تقرير ملكه فيها ولأن الوطء في حكم الجناية.
ولو جنى عليها كان للفداء وجه وظاهر الرواية أن الوطء لا يمكن نقصانا في عينها إذا كانت ثيبا ولا يعجزه عن دفعها فيكون إقدامه عليه دليل الاختيار كالاستخدام وهذا بخلاف البيع بشرط الخيار لأن هناك لو لم يجعله فاسخا للعقد بالوطء لكان إذا أجاز العقد ملكها المشتري من وقت العقد ولهذا يستحق زوائدها فتبين به أن الوطء حصل في غير ملكه فللتحرز عن هذا جعلناه فاسخا وها هنا إذا دفعها بالجناية ملكها ولي الجناية من وقت الدفع،

 

ج / 27 ص -31-       ولهذا لا يسلم له شيء من زوائدها فلا يتبين به أن الوطء كان في غير ملكه والوطء وإن كان كالجناية لكن الجناية لا يبقى لها أثر في العين فلا يكون اختيارا وكذا الوطء بهذه الصفة.
وكذلك لو زوجها لأن التزويج كالاستخدام من حيث أنه لا يمكن نقصانا في عينها ولا يعجزه عن دفعها بالجناية وكذلك لو أجرها أو رهنها في ظاهر الرواية وفي بعض نسخ الديات يقول الإجارة والرهن يكون اختيارا منه بمنزلة الكتابة لأن البدل بهذين العقدين يصير مستحقا عليه وذلك يمنعه من دفعها بالجناية فيجعل اختيار الفداء كالكتابة وجه ظاهر الرواية أن الإجارة تنقض بالقدر فيكون قيام حق ولي الجناية فيها عذرا في نقض الإجارة والراهن يتمكن من قضاء الدين واسترداد الرهن متى شاء ولم يتحقق عجزه عن دفعها بهذين العقدين فلا يجعل ذلك اختيارا بخلاف الكتابة فإن بعقد الكتابة ثبت له استحقاق لا يملك الولي إبطاله وذلك يمنعه من دفعها.
وإن ضرب العبد ضربا لزمه منه عيب فاحش أو جرحه أو قتله وهو يعلم فمختار لأن حق ولي الجناية يثبت في كل جزء منه وقد فوت جزء فامتنع الدفع في ذلك الجزء وهو لا يتحمل التجزي في الدفع بالجناية فتفويت جزء منها كتفويت كله.
ولو دفع العبد في بئر حفرها المولى في الطريق أو أصابه جناح أشرعة المولى فليس هذا باختيار لأن المولى إن كان فعل هذا قبل جناية العبد ولم يوجد منه صنع بعد جنايته إذ لا صنع له في وقوع العبد في البئر وإن كان الحفر منه بعد جنايته فهو عند الحفر ما كان يعلم أن عبده يقع به ولا قصد ذلك بحفره وقد بينا أن حافر البئر يصير قاتلا ولهذا لا يجب عليه الكفارة والاختيار إنما يحصل بمباشرة فعل من المولى يكون مقويا له محل الدفع وكذلك كل ما لا يجب على المولى فيه الكفارة فليس ذلك باختيار منه ولكن على المولى القيمة إن مات العبد من ذلك بينهما أثلاثا لأن المولى سبب لهلاكه وهو متعد في ذلك التسبب.
ولو أتلفه مباشرة على وجه لم يصر مختارا بأن لم يكن عالما بالجناية كان عليه قيمته فكذلك إذا أتلفه بطريق التسبيب ولو أوطأه المولى وهو يسير على دابته أو وقع عليه فقتله وهو يعلم بجناية العبد ولم يتعمد الوطء ولا الوقوع فهذا اختيار وعليه الأرش لأنه مباشر قتله بهذا الطريق ولهذا يلزمه الكفارة ومباشرة القتل بتفويت محل الدفع فإذا كان بعد العلم بالجناية يجعل اختيارا ولا معتبر بتعمده الوطء والوقوع عليه لأن ذلك من باطنه لا يمكن الوقوف عليه.
وإن أعتقه أو باعه أو وهبه أو كاتبه وهو لا يعلم بجنايته فعليه قيمته لأنه منع الدفع بما أحدث من التصرف ولكنه لم يصر مختارا للفداء حين لم يكن عالما بالجناية فيكون مستهلكا محل الدفع وذلك يوجب عليه القيمة لمولى ولي الجناية كالراهن إذا استهلك المرهون يغرم قيمته لحق المرتهن وإن كان علم بإحدى الجنايتين ولم يعلم بالأخرى فهو مختار للذي علم بها وعليه الأرش وللأخرى حصتها من قيمة العبد لأنه يجعل تصرفه في حق كل واحد من الجنايتين كأنه لا جناية سواها ففيما كان عالما بها يجعل مختارا لوجود دليل الاختيار، وفيما

 

ج / 27 ص -32-       لم يكن عالما بها مستهلكا محل الدفع فعليه حصتها من قيمة العبد وإذا جنى العبد جناية لم تبلغ النفس فأعتقه المولى وهو يعلم بها قبل البرء ثم انتقضت الجراحة فمات وهو مختار فعليه الدية لأن السبب الموجب لتخير المولى جناية العبد وإنما وجد الإعتاق بعد العلم بها فيكون ذلك منه اختيارا للأرش بمنزلة ما لو أعتقه بعد الموت.
ألا ترى أن أداء الكفارة بعد الجرح قبل زهوق الروح جائز بمنزلة أدائها بعد الموت وهذا لأنه لما أعتقه مع علمه أن الجناية قد برئت فقد صار مختارا لما يجب من الأرش برأت أو سرت ولو قال لعبده إن ضربت فلانا بالسيف أو بالعصا أو بسوط أو بيدك أو شججته أو جرحته فأنت حر ففعل به ذلك فمات منه عتق والمولى مختار للدية لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولأن المولى لما علق عتقه بشرط هو سبب لوجوب الأرش وتخيره بين الدفع والفداء فقد صار راضيا بالتزام الفداء بمنزلة الصحيح إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إذا مرضت فمرض ومات يصير فارا من ميراثها فإن كانت جناية العبد مما يتعلق بها القصاص فلا شيء على المولى لأن الواجب هو القصاص على العبد وذلك لا يختلف بالرق والحرية فلا يصير المولى بالعتق مفوتا حق ولي الجناية فلهذا لا يلزمه شيء.
وإذا جرح العبد رجلا فخوصم فيه المولى فاختار العبد وأعطى الأرش ثم انتقضت الجراحة فمات المجروح فالقياس فيه أن يكون المولى مختارا للفداء وهو قول أبي يوسف الآخر وفي الاستحسان يخير المولى خيارا مستقبلا وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد ورجع أبو يوسف من الاستحسان إلى القياس وأخذ محمد رحمه الله بالاستحسان وقد بينا فيما تقدم أن بهذه الصورة في الكتب ثلاث مسائل هذه ومسألة تكرار تلاوة السجدة في الركعة الثانية وجه القياس أن المولى اختار الأرش بعد ما تقرر السبب فنزل ذلك منزلة اختياره بعد موت المجروح وهذا لأنه أقدم على الاختيار مع علمه أنه قد يبرأ وقد ينتقض فيسري إلى النفس.
يوضحه: أن الاختيار قد يكون منه حكما وقد يكون قصدا فقد صار مختارا لما يجب بها ثم الاختيار بطريق الحكم يسوي فيه بين ما قبل البرء وما بعده وهو الإعتاق باعتبار أنه اختيار لموجب الفعل فكذلك في الاختيار قصدا وجه الاستحسان أن المولى اختار الأرش على حسبان أن البرء قد تم وأن الواجب أرش الطرف فلا يكون ذلك منه دليل اختياره الدية فالإنسان قد يختار الشيء إذا كان قليلا ولا يختاره إذا كان كثيرا فإذا تبين أن الواجب كان هو الدية قلنا يخير خيارا مستقبلا بمنزلة الشفيع إذا أخبر بثمن قليل فطلب الشفعة وقضى له بها ثم تبين أن الثمن كان أكثر من ذلك كان على خياره.
ولو أخبر أن الثمن كثير فسلم الشفعة ثم تبين أنه كان أقل من ذلك كان هو على حقه بخلاف الإعتاق فإنه تفويت لمحل الدفع ولا يمكن إبقاء خياره بعده قائما وعند الاختيار قصد ألا يفوت محل الدفع فلهذا كان على خياره إلا أنه روي عن أبي يوسف أنه فرق بين ما إذا أعطى الأرش بغير قضاء وبين ما إذا أعطاه بقضاء

 

ج / 27 ص -33-       القاضي قال إذا أعطاه بقضاء القاضي فإن المجروح يخير خيارا مستقبلا بخلاف ما إذا أعطاه بغير قضاء القاضي فإن ذلك اختيار منه للدية طوعا بمنزلة من اشترى دارا بعبد فأخذها الشفيع بقيمة العبد ثم استحق العبد فإن أخذها بقضاء القاضي بطلت شفعته ووجب عليه ردها وإن أخذها بغير قضاء القاضي جعل ذلك كالشراء المبتدإ وعن زفر أنه قال في الوجهين جميعا يصير مختارا لأن القاضي إنما قضى بالإرش بناء على اختياره.
قال: وإذا جنى العبد جناية فاختار المولى إمساك عبده وليس عنده ما يؤدي وكان ذلك عند قاض أو عند غير قاض فالعبد عبده والإرش دين عليه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد إن أدى الدية مكانه وإلا دفع العبد إلا أن يرضى الأولياء أن يتبعوه بالدية على ما قال فإن رضوا بذلك لم يكن لهم بعد ذلك أن يرجعوا في العبد وجه قولهما أن نفس صاحب العبد صار حقا لمولى الجناية إلا أن المولى يتمكن من تحويل حقهم من العبد إلى الأرش باختياره الفداء فإذا أعطاهم الأرش كان هذا تحويلا لحقهم من محل إلى محل فيه وفاء بحقهم فيكون صحيحا منه.
وإذا كان مفلسا كان هذا منه إبطالا لحقهم لا تحويلا من محل إلى محل يعد له فيكون ذلك باطلا من المولى وهذا لأن ثبوت الخيار للمولى كان على وجه النظر من الشرع وإنما يثبت على وجه لا يتضرر به صاحب الحق فإذا آل الأمر إلى الضرر كان باطلا بمنزلة المحتال عليه إذا مات مفلسا فإن الدين يعود إلى ذمة المحيل لأنه حول حقه من ذمته إلى ذمة المحتال عليه بشرط أن يسلم له فإذا لم يسلم عاد كما كان.
وفي بيع المعاوضة إذا هلك أحد العوضين قبل القبض بطل العقد في الآخر لأن صاحبه حول حقه إلى العوض الآخر بشرط أن يسلم له فإذا لم يسلم عاد كما كان وكذلك في البيع والآخر بالشفعة إن سلم الثمن كان له أن يأخذ الدار وإن عجز عن ذلك لم يكن له أن يأخذها إلا أن يرضي البائع والمشتري في فصل الشفعة بالتسليم فها هنا أيضا أن رضى الولي كان مسقطا حقه في العبد وإن أبى كان له أن يأخذ العبد وأبو حنيفة يقول بجناية العبد يخير المولى بين الدفع والفداء والمخير بين اثنين إذا اختار أحدهما تعين ذلك واجبا من الأصل كالمكفر إذا اختار أحد الأنواع الثلاثة فها هنا باختياره تبين أن الواجب هو الدية في ذمة المولى من الأصل وأن العبد فارغ من الجناية فلا يكون لأولياء الجناية عليه سبيل. يوضحه: أن من ثبت له الخيار شرعا يستبد بالخيار من غير أن يحتاج إلى رضا صاحبه ولو رضي الأولياء أن يتبعوا بالدية لم يبق لهم حق في العبد فكذلك إذا اختار المولى ذلك في حال ما ثبت له الخيار شرعا وقيل إن هذه المسألة في الحقيقة تبني على اختلافهم في التفليس وعند أبي حنيفة التفليس ليس بشيء والمال غاد ورائح وهذا التصرف من المولى يكون تحويلا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالا وعندهما التفليس معتبر والمال في ذمة المفلس يكون تاويا فيكون هذا الاختيار من المولى إبطالا لحق الأولياء.

 

ج / 27 ص -34-       وقد روى عن أبي يوسف أن اختيار المولى ها هنا معتبر حتى لا يكون لأولياء الجناية حق تملك العبد بالأخذ بعد هذا الاختيار ولكن يباع العبد فيه فيدفع ثمنه إلى الأولياء من حساب الدية التي على المولى وهو بناء على مذهب أبي يوسف في الحجر بسبب الدين فإنه يقول القاضي يحجر على المديون ويبيع عليه ماله وعند أبي حنيفة لا يفعل ذلك وقد بينا هذا في كتاب الحجر.
قال: وإذا جنى العبد جناية خطأ ثم أقر المجني عليه أنه حر قبل الدفع إليه فلا حق له في رقبة العبد ولا على المولي لأنه يزعم أنه حر وإن جنايته على عاقلته لا يستحق بها رقبته وزعمه معتبر في حقه فلا سبيل له على العبد بعد هذا الإقرار ولا شيء له على المولي لأنه لم يدع على المولي بعد الجناية حتى يصير به مختارا أو مستهلكا.
ولو كان إقرار المجني عليه بعد ما دفع إليه العبد فهو حر لأنه ملكه بالدفع وقد أقر بحريته فيعتق بإقراره ويكون موقوف الولاء بمنزلة من اشترى عبدا ثم أقر أن البائع كان أعتقه.
قال: وإذا جنت الأمة جناية ثم ولدت ولدا أو اكتسبت كسبا فإن مولاها يدفعها بالجناية ولا يدفع ولدها ولا كسبها لأن استحقاق نفسها بالجناية الخطأ كاستحقاق نفسها بالعمد قصاصا وذلك لا يسري إلى الكسب والولد وهذا لأن حق ولي الجناية غير متأكد في عينها.
ألا ترى أن المولى مخير بين أن يدفعها أو يفديها بالإرش وأنما يسري إلى الولد ما يكون متأكدا في الأصل حين انفصل الولد عنها. وأما الكسب فإنما يملك بملك الأصل وعند الاكتساب كان ملك الأصل للمولى دون المجني عليه فإن جنى عليها فأخذ المولى لذلك إرشا فإنه يدفع الإرش معها لأن الإرش عوض عن الجزء الفائت منها بالجناية وحق ولي الجناية كان ثابتا فيها بجميع أجزائها فيثبت في بدل جزء منها أيضا والجزء معتبر بالكل.
ولو قتلت وأخذ المولى قيمتها كان عليه دفع تلك القيمة إلى ولي الجناية فكذلك إذا أخذ أرش جزء منها بخلاف الولد فإنه حر وهو زيادة حادثة بعد الجناية وحق الولي إنما يثبت في الأجزاء الموجودة عند الجناية وإن كان جنى عليها قبل جنايتها لم يدفع المولى ذلك الإرش معها لأن الجزء الفائت بتلك الجناية لم يكن موجودا عند جنايتها فلا يثبت حق ولي الجناية فيه ولا في بدله بخلاف الفائت بعد جنايتها وإن لم يعلم أن الجناية عليها كان قبل جنايتها أو بعده فالقول فيه قول المولى لأن الأرش المقبوض في يد المولى فأولياء الجناية يدعون استحقاق ذلك على المولى وهو ينكر ولأنهم يستحقونها بالجناية على المولى فالقول قول المولى في بيان صفتها حين ثبت الاستحقاق لهم.
وإن كان وجب الأرش بعد جنايتها فأمسكها المولى وفداها فله أن يستعين بذلك الأرش في الفداء لأنه ملكه كسائر أمواله وإن لم يختر الفداء حتى استهلك أو وهبه الجاني عليها لم يكن مختارا وله أن يدفعها لأن الأرش منفصل عنها فتصرفه في الأرش لا يكون تصرفا فيها ولا يتعذر دفعها فكان له أن يدفعها بمنزلة ما لو حدثت الجناية من أمتين فاستهلك إحداهما كان

 

ج / 27 ص -35-       له أن يدفع الأخرى بجنايتها ثم عليه أن يغرم مثل ما استهلك فيدفعه معها لأن حق ولي الجناية ثبت في ذلك الأرش وقد أتلفه المولى بتصرفه وهذا بخلاف ما إذا أتلف المولى جزأ منها بجنايته لأن هناك المولى تصرف فيه بالجناية والجزء الذي أتلفه بجنايته كان متصلا بها ولهذا صار المولى به مختارا وإن كان الجاني عليها عبدا فدفعه المولى كان عليه أن يدفعهما جميعا أو يفديهما بالدية لأن العبد المدفوع قائم مقام الجزء الفائت منها فإن أعتق العبد المدفوع إليه فهذا اختيار منه للأمة وعليه الدية.
وكذلك إن أعتق الأمة فإنه لا يستطيع أن يدفع واحدا منهما دون صاحبه لأن العبد قائم مقام الجزء الفائت وحكم الدفع فيها لا يتجزأ بل إذا تعذر دفع بعضها بتصرف المولى يتعذر دفع كلها فكذلك حال العبد المدفوع مكان الجزء الفائت منها وهذا بخلاف الأرش المستوفى من الجاني إذا كان جزأ لأن الأرش دراهم وفي الدراهم لا يثبت للمولى الخيار بين الدفع والفداء وإقدامه على التصرف إنما يكون دليل الاختيار إذا صادف محلا ثبت له فيه الخيار. فأما هنا فالخيار ثابت له في العبد والأمة لأن كل واحد منهما يفيد التخير فيه بين الدفع والفداء فإعتاقه أحدهما يكون تصرفا في المحل الذي ثبت له فيه الخيار فيجعل ذلك اختيارا وهذا الاختيار يثبت له فيهما باعتبار جناية واحدة فيكون اختياره أحدهما اختيارا لهما جميعا بخلاف الأمتين إذا جنت كل واحدة منهما لأن ثبوت الخيار له في كل واحدة منها باعتبار جناية على حدة فلا يكون اختياره إحدى الجنايتين دليل الاختيار منه في الأخرى فإن أعتق العبد وهو لا يعلم بالجناية ثم اختار دفع الأمة دفع معها قيمة العبد لأن العبد لو كان قائما بعينه كان عليه دفعه معها وقد صار مستهلكا له بالإعتاق حين لم يكن عالما بالجناية فكان عليه قيمته.
ألا ترى أنه لو أعتق الأمة وهو لا يعلم بالجناية كان عليه قيمتها ولو كان هذا العبد فقأ عين الأمة فدفع بها وأخذت الجارية فإن العبد يصير مكانها يدفعه المولى أو يفديه بالدية لأنه قائم مقامها حين دفع بها وكذلك لو قتلها عبد فدفع بها.
ولو قتلها حر خطأ فأخذ المولى قيمتها لم يقل للمولى ادفعها أو افدها ولكنه يدفع قيمتها لأن القيمة دراهم أو دنانير والأرش كذلك ولا معنى للتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد وإنما يؤمر بدفع القيمة التي قبضها إلى ولي الجناية بخلاف ما تقدم فالمدفوع هناك عبد وللناس في الأعيان أغراض فتخييره بين دفع العبد وبين الفداء بالقيمة يكون مقيدا.
ولو أن عبدا قتل رجلا خطأ ثم قتلت جارية المولى العبد خطأ قيل للمولى ادفعها أو افدها بقيمة العبد لأن العبد الجاني صار مستحقا لولي الجناية فجناية جارية المولى عليه بمنزلة جنايتها على عبد مملوك لولي الجناية ولو قتلت عبدا أو مملوكا له كان على المولى أن يدفعها أو يفديها بقيمة العبد فكذلك ها هنا لا يجوز أن يلزمه أكثر من ذلك وهذا لأن إعطاءه قيمة العبد بمنزلة إعطائه العبدان لو كان قائما ولو أعطاهم العبد لم يلزمه شيء آخر فكذلك إذا أعطاهم قيمته بعد ما قتلته أمته.

 

ج / 27 ص -36-       قال: وإذا قتل العبد رجلا خطأ وقتلت الأمة رجلا وهما لرجل واحد ثم أن العبد قتل الأمة خطأ واختار المولى دفعه فإنه يقسم على قيمة الأمة ودية الحر لأن الأمة كانت مستحقة لأولياء جنايتها وقد جنى العبد عليها فثبت حق أولياء جنايتها في مقدار قيمتها وحق أولياء الحر في الدية ومولاه يتخير بين الدفع والفداء فإن اختار الدفع ضرب فيه أولياء الحر بدية الحر وأولياء الأمة بقيمتها فيقسم العبد بينهما على ذلك وإن اختار الفداء فداه بدية الحر وبقيمة الأمة لأولياء جنايتها.
قال: وإذا جنى العبد جناية ففداه المولى منها ثم جنى جناية أخرى قيل له ادفعه بها أو افده لأنه لما فداه من الأولى فقد طهره منها فكأنه ما وجد منه إلا الجناية الأخرى فيخاطب بالدفع أو الفداء فإن كان لم يقض من الأولى شيئا حتى جنى الثانية دفعه بهما أو فداه لأن الجنايتين اجتمعتا في رقبته وللمولى أن يتخلص بدفعه ويقول إنما لحقني هذا الشغل بسبب ملكي رقبة العبد وأنا أتخلص بدفعه فيدفعه بالجنايتين أو يفديه بإرشهما.
وإذا أعتق العبد ثم أقر أنه كان جنى في حال رقه جناية عمدا أو خطأ لم يلزمه شيء منها إلا القود في النفس لأنه لو أقر بها قبل العتق لم يصح إقراره إلا بالجناية الموجبة للقود فكذلك بعد العتق وهذا لأنه في الوجهين جميعا إنما يقر على غيره فإن جناية العبد فيما يوجب المال يكون على المولى لا شيء منه على العبد قبل عتقه ولا بعد عتقه وإقراره على غيره لا يكون حجة في الحالين فأما ما يكون موجبا للقود فإقراره يكون على نفسه.
ولو جنت أمة جناية فقال المولى كنت أعتقتها قبل الجناية أو دبرتها أو كانت أم ولدي فإنه لا يصدق من أجل الجناية وهو مختار للفداء إن قال هذا بعد العلم بالجناية وإن قاله قبل العلم بالجناية فعليه القيمة لأنه متهم في حق أولياء الجناية فيجعل إقراره بمنزلة الإنشاء في حقهم وإن أنشأ العتق أو التدبير كان الحكم فيه ما بينا فكذلك إذا أقر مستندا إلى ما قبل الجناية لأن هذا الإسناد لا يثبت بقوله حين لم يصدقه أولياء الجناية فيه وإذا جنى العبد جناية فأخبر ولي الجناية ولي العبد فأعتقه فقال لم أصدقه فيما أخبر به فهو مختار للفداء لأن ولي الجناية في اختياره يطلب بحقه فعلى المولى أن ينظر في خبره.
ألا ترى أنه لو أخبر القاضي بذلك وطالبه بإحضار المولى وتكليفه الجواب أجابه القاضي إلى ذلك فكذلك إذا أخبر المولى بذلك كان عليه أن ينظر إلى خبره فإذا لم يفعل وأعتق العبد كان هذا بمنزلة الإعتاق بعد العلم بالجناية فيكون مختارا وكذلك إن أخبره رسول ولي الجناية فاسقا كان الرسول أو عدلا لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فأما إذا أخبره بذلك فضولي فإن صدقه فيما أخبره به ثم أعتق العبد فهو مختار للفداء أيضا وإن كذبه في ذلك أو لم يصدقه ولم يكذبه حتى أعتق العبد فإن كان المخبر عدلا فكذلك الجواب لأن خبر العدل مقبول فيما يكون ملزما وإن كان المخبر فاسقا فعلى قول أبي حنيفة لا يكون مختارا للفداء ولكن عليه قيمته باستهلاكه إياه وعند أبي يوسف ومحمد هو مختار للفداء وهذا من

 

ج / 27 ص -37-       الجنس الذي بيناه في المأذون أن عندهما خبر الواحد في المعاملات مقبول عدلا كان أو فاسقا.
وعند أبي حنيفة فيما يتعلق به اللزوم لا يعتبر خبر الفاسق وهذا خبر الملزم في حق المولى لأن الإعتاق بعد العلم بالجناية يلزمه الفداء فلا يعتبر فيه خبر الفاسق إذا كان فضوليا وإن أخبره به فاسق ففي إحدى الروايتين كذلك وفي الرواية الأخرى يكون مختارا للفداء لأنه تم إحدى شطري الحجة وهو العدد فيعتبر بما لو وجد الشطر الآخر وهو العدالة في حق المخبر الواحد.
ولو جنى عبده جناية فقال المولى كنت بعته من فلان قبل الجناية وصدقه فلان أو قال هو له لم يكن لي قط وصدقه فلان قيل لفلان ادفعه أو افده لأن المولى ما أتلف على ولي الجناية شيئا حين أخرجه إلى ملك رجل يخاطب بدفعه أو الفداء كما كان هو يخاطب به فإن كذبه فلان قيل للمولى ادفعه أنت أو افده لأن الملك ثابت له فيه باعتبار يده والإقرار بطل بتكذيب المقر له فصار كأنه لم يكن فيخاطب ذو اليد بالدفع أو الفداء.
ولو أن عبدا في يد رجل جنى جناية فقال ولي الجناية: هو عبدك فقال الرجل هو وديعة عندي لفلان أو عارية أو إجارة أو رهن فإن أقام على ذلك بينة أخر الأمر فيه حتى يقدم الغائب فإن لم يقم بينة خوطب بالدفع أو الفداء وقال زفر هو مختار للفداء بمجرد قوله لأنه زعم أنه لا سبيل له على دفعه فيجعل به مقوما للدفع مختارا للفداء كما لو أعتقه ولكنا نقول هو بكلامه يزعم أنه ليس بخصم في هذه الجناية أصلا واختياره يبني على كونه خصما فإذا ثبت بالبينة أنه ليس بخصم فيه صار إثبات ذلك بالبينة كالإثبات بالمعاينة وإن لم يقم بينة على ذلك فهو الخصم باعتبار ظهور يده فيه وهو متمكن من دفعه فيخاطب بالدفع أو الفداء ولا معنى لجعله مختارا مع بقاء تمكنه من الدفع بالجناية فإن فداه ثم قدم الغائب أخذ عبده بغير شيء لأن ذا اليد أقر بالملك له وقد اتصل تصديقه بذلك الإقرار وقد كان ذو اليد متبرعا في هذا الفداء فإنه ما كان مجبرا عليه فلا يرجع بشيء منه على المقر له وإن كان دفعه فالغائب بالخيار إن شاء أمضى ذلك وإن شاء أخذ العبد ودفع الأرش لأن تصديقه اتصل بذلك الإقرار فيثبت الملك ويتبين أنه كان له الخيار فأن أمضى دفعه كان ذلك بمنزلة اختيار الدفع منه ابتداء وإن اختار الأرش فله أن يأخذ عبده وإن أنكر الغائب أن يكون العبد له فما صنع الأول فيه من شيء فهو جائز لأن الإقرار بطل بتكذيب المقر له.
وإذا كان عبد في يدي رجل وهو مقر بأنه عبده أو لم يقر ولم ينكر فأقر عليه بجناية خطأ ثم أقر أنه لرجل آخر وأنه لم يملكه قط وصدقه الرجل فالعبد له لأن الجناية الثابتة عليه بإقرار المولى لا تكون أقوى من الثابتة بالمعاينة وذلك لا يمنع المولى من التصرف فيه والإقرار بالملك لغيره ثم إن كذبه المقر له في الجناية فهو مختار للأرش لأن الجناية ثبتت على العبد بإقرار ذي اليد عليه بها ثم صار متلفا العبد بإقراره بالملك فيه لغيره فيجعل ذلك بمنزلة تمليكه

 

ج / 27 ص -38-       منه بالبيع وذلك اختيار منه للفداء فهذا مثله إذا كان ذو اليد أقر أنه عبده قبل إقراره بالجناية عليه أو بعد ذلك قبل إقراره لهذا الرجل وإن لم يكن ادعاه لنفسه قبل إقراره لهذا الرجل فلا شيء عليه ولا على العبد من الجناية لأن المقر ما أتلف شيئا على أحد وإنما أقر على ملك غيره بالجناية وإقراره على ملك الغير لا يلزمه شيئا وهذا بخلاف ما إذا ثبتت الجناية عليه ببينة لأن هناك ذو اليد قد صار مخاطبا بالدفع وثبتت الجناية على العبد بما هو حجة في حق الكل فإذا حوله بإقراره إلى المقر له خوطب بما كان يخاطب به المقر وها هنا بإقرار ذي اليد ما ثبتت به الجناية على العبد في حق المقر له فلهذا لا يخاطب بشيء.
قال: وإذا جنى العبد جناية ثم أصابه عيب سماوي فإن المولى يخاطب بدفعه أو الفداء ولا شيء عليه بسبب ذلك العيب لأنه ما كان مضمونا عليه.
ألا ترى أنه لو مات في يده لم يلزمه شيء فإذا فات جزء منه بغير صنعه أولى أن لا يلزمه شيء وكذلك لو بعثه المولى في حاجة فعطب فيها أو استخدمه فلا ضمان عليه فيما لحقه بذلك لأن للمولى حق الاستخدام في العبد ما لم يدفعه فلا يكون فعله ذلك تعديا فلو أذن له في التجارة بعد جنايته فاستغرق رقبته فهو ضامن قيمته لأهل الجناية تعديا ولو أذن له لأن الإذن له في التجارة لا يمنعه من الدفع في الجناية فلا يصير به مختارا ولكن استحقاق ماليته في الدين يثبت بذلك الإذن فيصير المتلف به كالمتلف للمالية على أهل الجناية لأنه تعذر الدفع إليهم بالجناية حين يباع في الدين لأن حقهم كان ثابتا في عبد غير مشغول المالية فلهذا لا يضمن المولى قيمته.
قال: وإذا قتل العبد قتيلا خطأ ثم فقأ رجل عينه ثم قتل آخر خطأ ثم اختار المولى دفعه فإنه يدفع إرش العين إلى الأول لأنه جنى على الأول وعينه كانت صحيحة فيثبت فيها حق المجني عليه ثم فاتت وأخلفت بدلا فيكون البدل له ولا مزاحمة للثاني معه فيه لأنه جنى على الثاني وهو أعور فلم يثبت حق الثاني في هذه العين أصلا ثم يكون العبد بينهما يضرب فيه الأول بالدية إلا ما أخذ من أرش العين ويضرب فيه الآخر بالدية حتى إذا كانت قيمته ألف درهم وكان ارش العين خمسمائة فإن العبد يقسم بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأن الأول إنما بقي من حقه تسعة آلاف وخمسمائة فيضرب بذلك في العبد والثاني إنما يضرب بعشرة آلاف كمال الدية فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كان العبد بينهما على تسعة وثلاثين سهما وكذلك لو كان الذي فقأ عينه عبدا فدفع به كان ولي الأول أحق به ثم يضرب مع الآخر بالدية إلا قيمة العبد الذي أخذه لأنه وصل إليه ذلك القدر من حقه.
وإذا قتل العبد قتيلا خطأ وللمقتول وليان فدفعه المولى إلى أحدهما بقضاء قاض ثم قتل عنده آخر ثم جاء ولي الآخر والشريك في الجناية الأولى فإنه يقال للمدفوع إليه الأول ادفع نصفك إلى الأول أو افده بنصف الدية لأن نصف العبد صار مملوكا بالدفع إليه بقضاء القاضي فإنما جنى على ملكه فيخاطب بأن يدفع ذلك النصف أو يفديه بنصف الدية، فإن

 

ج / 27 ص -39-       منه بالبيع وذلك اختيار منه للفداء فهذا مثله إذا كان ذو اليد أقر أنه عبده قبل إقراره بالجناية عليه أو بعد ذلك قبل إقراره لهذا الرجل وإن لم يكن ادعاه لنفسه قبل إقراره لهذا الرجل فلا شيء عليه ولا على العبد من الجناية لأن المقر ما أتلف شيئا على أحد وإنما أقر على ملك غيره بالجناية وإقراره على ملك الغير لا يلزمه شيئا وهذا بخلاف ما إذا ثبتت الجناية عليه ببينة لأن هناك ذو اليد قد صار مخاطبا بالدفع وثبتت الجناية على العبد بما هو حجة في حق الكل فإذا حوله بإقراره إلى المقر له خوطب بما كان يخاطب به المقر وها هنا بإقرار ذي اليد ما ثبتت به الجناية على العبد في حق المقر له فلهذا لا يخاطب بشيء.
قال: وإذا جنى العبد جناية ثم أصابه عيب سماوي فإن المولى يخاطب بدفعه أو الفداء ولا شيء عليه بسبب ذلك العيب لأنه ما كان مضمونا عليه.
ألا ترى أنه لو مات في يده لم يلزمه شيء فإذا فات جزء منه بغير صنعه أولى أن لا يلزمه شيء وكذلك لو بعثه المولى في حاجة فعطب فيها أو استخدمه فلا ضمان عليه فيما لحقه بذلك لأن للمولى حق الاستخدام في العبد ما لم يدفعه فلا يكون فعله ذلك تعديا فلو أذن له في التجارة بعد جنايته فاستغرق رقبته فهو ضامن قيمته لأهل الجناية تعديا ولو أذن له لأن الإذن له في التجارة لا يمنعه من الدفع في الجناية فلا يصير به مختارا ولكن استحقاق ماليته في الدين يثبت بذلك الإذن فيصير المتلف به كالمتلف للمالية على أهل الجناية لأنه تعذر الدفع إليهم بالجناية حين يباع في الدين لأن حقهم كان ثابتا في عبد غير مشغول المالية فلهذا لا يضمن المولى قيمته.
قال: وإذا قتل العبد قتيلا خطأ ثم فقأ رجل عينه ثم قتل آخر خطأ ثم اختار المولى دفعه فإنه يدفع إرش العين إلى الأول لأنه جنى على الأول وعينه كانت صحيحة فيثبت فيها حق المجني عليه ثم فاتت وأخلفت بدلا فيكون البدل له ولا مزاحمة للثاني معه فيه لأنه جنى على الثاني وهو أعور فلم يثبت حق الثاني في هذه العين أصلا ثم يكون العبد بينهما يضرب فيه الأول بالدية إلا ما أخذ من أرش العين ويضرب فيه الآخر بالدية حتى إذا كانت قيمته ألف درهم وكان ارش العين خمسمائة فإن العبد يقسم بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأن الأول إنما بقي من حقه تسعة آلاف وخمسمائة فيضرب بذلك في العبد والثاني إنما يضرب بعشرة آلاف كمال الدية فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كان العبد بينهما على تسعة وثلاثين سهما وكذلك لو كان الذي فقأ عينه عبدا فدفع به كان ولي الأول أحق به ثم يضرب مع الآخر بالدية إلا قيمة العبد الذي أخذه لأنه وصل إليه ذلك القدر من حقه.
وإذا قتل العبد قتيلا خطأ وللمقتول وليان فدفعه المولى إلى أحدهما بقضاء قاض ثم قتل عنده آخر ثم جاء ولي الآخر والشريك في الجناية الأولى فإنه يقال للمدفوع إليه الأول ادفع نصفك إلى الأول أو افده بنصف الدية لأن نصف العبد صار مملوكا بالدفع إليه بقضاء القاضي فإنما جنى على ملكه فيخاطب بأن يدفع ذلك النصف أو يفديه بنصف الدية، فإن

 

ج / 27 ص -40-       المولى إلى ولي القتيلين يضرب فيه الأول بعشرة آلاف والآخر بثلثي الدية لأنه قد وصل إليه ثلث حقه فيكون هذا مقسوما بينهما أخماسا ثلاثة أخماسه للأول وخمساه للآخر ثم يضمن المولى للأول ستة أجزاء وثلثي جزء من ستة عشرة جزأ وثلثي جزء من ثلثي قيمة العبد وذلك في الحاصل خمسا بدل ما سلم للآخر من هذا الثلثين إلا أنه إذا بنى الجواب على القسمة التي كانت بينهما فإن الأول ضرب فيه بعشرة آلاف والآخر بستة آلاف وثلثي ألف ولهذا قال ما قال.
وفي الحقيقة رجوعه على المولى بخمسي ثلثي قيمته لأن المولى أتلف ذلك عليه حين دفعه إلى صاحب العين بغير قضاء قاض واستحق بالجناية التي كانت عنده ثم يرجع به المولى على صاحب العين لما قلنا أن الاستحقاق بسبب جناية كانت في ضمانه.
قال: وإذا قتلت الأمة قتيلا خطأ ثم ولدت بنتا ثم قتلت البنت رجلا خطأ ثم أن البنت قتلت الأم فاختار المولى دفعها ضرب أولياء قتيل الأمة فيها بقيمة الأم وأولياء قتيل البنت بالدية لأن البنت في هذا الحكم كجارية أخرى للمولى فإن حق ولي جناية الأم لا يثبت في البنت ثم قد وجد من البنت جنايتان إحداهما على الحر والأخرى على الأم وهي مقدرة بحق أولياء جناية الأم فإن دفعها المولى ضرب كل واحد منهما فيها بمقدار حق أولياء الأم بقيمة الأم وولي الحر بالدية فتقسم البنت بينهما على ذلك وإن اختار المولى فداء البنت دفع قيمتها إلى وليها وقيمة الأم إلى ولي الأم لأنه إنما أقر بها بما يثبت فيها من الحق باعتبار جنايتها.
ولو كانت البنت فقأت عين الأم فهذه المسألة على أربعة أوجه:
إن اختار المولى دفعها دفع الأم بجنايتها ودفع البنت يضرب فيها أولياء قتيلها بالدية وأولياء قتيل الأم بنصف قيمة الأم لأنها على غير الأمة وقد ثبت فيها حق أولياء الأم والعين من الآدمي نصفه فلهذا ضربوا فيها بنصف قيمة الأم.
وإن اختار الفداء فيهما فدى كل واحد منهما بعشرة آلاف أرش جنايتها وقد خلطن بحق فيهما للمولى ولا تعتبر جناية البنت على الأم.
وإن اختار الدفع في الأم والفداء في البنت دفع الأم إلى أولياء جنايتها وفدى البنت بالدية إلى أولياء قتيلها وبنصف قيمة الأم لأولياء قتيل الأم لأنها أتلفت نصف الأم بجنايتها وهي جناية معتبرة بحق أولياء جناية الأم.
وإن اختار الدفع في البنت والفداء في الأم فدى الأم بعشرة آلاف ودفع البنت إلى أولياء جنايتها لأنه حين فدى الأم صارت هي مخالفة له فجناية البنت عليها غير معتبرة لحق المولى فلهذا دفع البنت إلى أولياء جنايتها.
ولو فقأت الأم عين البنت بعد ما فقأت البنت عينها فاختار المولى دفعهما فإنه يدفع البنت وإنما يبدأ بها لأنها هي التي ابتدأت بالجناية على الأم فيضرب فيها أولياء قتيلها بالدية

 

ج / 27 ص -41-       وولي قتيل الأم بنصف قيمة الأم ثم يكون ذلك المقدار من البنت مع الأم ويدفع الأم وما أصابها بأرش عينها من البنت فيكون ما دفع بها من البنت لولي قتيل الأم خاصة لأن الأم حين ثبتت الجناية الأولى كانت عينها صحيحة فيثبت حق المولى في بدل تلك العين ولا مزاحمة فيه لأولياء جناية البنت وهي عوراء فلا يثبت حقهم في بدل عينها ثم يضرب ولي قتيل الأم في الأم بما بقي من الدية ويضرب فيها ولي جناية البنت بنصف قيمة البنت فتكون القسمة بينهما على ذلك وقد طعنوا في هذا الجواب فقالوا ينبغي أن يضرب أولياء قتيل البنت في البنت بالدية إلا مقدار ما يصل إليهم من الأم باعتبار جنايتها على نصف البنت لأن المعتبر هو المال وباعتبار المال سلم له هذا ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن عند دفع البنت لم يصل إلى أولياء قتيلها شيء بعد فيضربون بجميع الدية ولا معتبر بما يكون بعد ذلك.
ألا ترى أن رجلا لو مات وترك ألف درهم ولرجل عليه ألف درهم ولآخر عليه ألف درهم فاقتسما الألف بينهما أثلاثا ثم أن صاحب الألفين أبرأه عن الألف لا يتغير بهذا الإبراء حكم تلك القسمة لهذا المعنى وإن اختار الولي الفداء فيهما فداهما بديتين وأمسكهما جميعا لأنه يفدي كل واحدة منهما بدية قتيلها وقد خلصتا للمولى ولا يعتبر جناية كل واحدة منهما على صاحبتها.
قال: وإذا قتلت الأمة رجلا خطأ ثم ولدت بنتا ثم أن ابنتها قتلتها فإنه يقال لمولاها ادفعها أو افدها بقيمة الأم لأن البنت في هذا الحكم كجارية أخرى للمولى.
ولو جنت الأمة وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يدفعها فالولد للمولى لأن الولد زيادة انفصلت عنها قبل تقرر حق ولي الجناية فيها وإذا ولدت آخر بعد الدفع فهو للمدفوع إليه لأنه ملكها بالدفع إليه والولد يتبع الأم في الملك ولو جنت الأمة جناية خطأ ثم ولدت ولدها فقطع الولد يدها فالمولى بالخيار إن شاء دفع الأم ونصف قيمتها إلى أهل الجناية وإن شاء دفعها وولدها وإن شاء أمسكها وأعطى الأرش لأن الولد بمنزلة مملوك آخر للمولى إذا لم يتعلق به حق أولياء جنايتها وقد أتلف الولد نصف الأم فتعتبر جنايته عليها بحق أولياء جنايتها فلهذا خير المولى على ما بينا سواء كان أرش الجناية أقل من نصف قيمتها أو مثل نصف قيمتها.
ولو جنى عليها عبد لغيره فأخذ الأرش أعطى من ذلك أرش جنايتها وأمسك الباقي لأن جناية عبد الغير عليها معتبرة لحق المولى فإذا قبض الأرش التحق ذلك بسائر أملاكه فيكون له أن يعطي من ذلك أرش جنايتها ويمسك ما بقي معها كما لو كان له أن يعطي أرش جنايتها من سائر أملاكه بخلاف ما سبق فجناية الولد عليها هناك غير معتبرة لحق الأم وإنما كانت معتبرة لحق ولي جنايتها وإذا اختلف المولى وولي جنايتها فقال الولي جنت وهي صحيحة ثم فقأ رجل عينها فالأرش لي وقال المولى جنت بعد الفقء فالقول قول المولى لما بينا أن الولي يدعي استحقاق مال في يد المولى ويدعي تاريخا في جنايته سابقا على وجوب الأرش بالجناية عليها فلا يصدق في ذلك إلا بحجة وكذلك لو كان الذي جنى عليها القتيل نفسه أو

 

ج / 27 ص -42-       وليه ثم اختلف فالقول في ذلك قول المولى لما بينا أنه ينكر سبق تاريخ يدعيه المولى فالقول قوله مع يمينه وعلى المولى إثبات ما يدعيه بالبينة والله أعلم.

باب جناية العبد في البئر
قال رحمه الله: وإذا حفر العبد بئرا في طريق بغير إذن مولاه ثم أعتقه مولاه ثم علم بما حفر ثم وقع فيها رجل فمات فعلى المولى قيمة العبد لأن الحافر عند الوقوع يصير جانيا بسبب الحفر السابق فإن ذلك الحفر كان تعديا منه إلا أنه اتصل بالمجني عليه عند الوقوع فيصير جانيا عليه بذلك الحفر كالمعلق للطلاق والعتاق بالشرط فعند وجود المشروط يصير مطلقا ومعتقا بالكلام السابق وذلك الفعل كان منه في ملك المولى وموجب جناية العبد واستحقاق نفسه على المولى وقد أتلفه المولى بالإعتاق على وجه لم يصر مختارا إما لأنه لم يكن عالما بالحفر أو لأنه لم يكن عالما بأن يقع فيها إنسان فكان مستهلكا للعبد فعليه قيمة العبد لولي الجناية فإن وقع فيها آخر اشتركا في تلك القيمة لأنه صار جانيا على الثاني بالسبب الذي به صار جانيا على الأول وهو الحفر فيستويان في الاستحقاق الثابت بذلك السبب والمولى بالإعتاق ما استهلك إلا رقبة واحدة فلا يلزمه أكثر من قيمة واحدة ولكن تلك القيمة بينهما نصفان فإن وقع فيها العبد فهو وارثه تركة في تلك القيمة أيضا لأن العبد بعد ما عتق فقد طهر من تلك الجناية والتحق هو بغيره من الأجانب.
وروي عن محمد بن الحسن أن دمه هدر وأصل هذه المسألة فيما إذا حفر العبد بئرا في الطريق ثم أعتقه المولى ثم وقع العبد فيها فمات فدمه هدر في قول محمد لأنه كالجاني على نفسه بذلك الحفر السابق وفي ظاهر الرواية على المولى قيمته لورثته لأنه حين أعتق فقد خرج من أن يكون جانيا حكما ويصير كان الجاني بالحفر هو المولى حتى أن عند وقوع الواقع فيها يكون موجب الجناية على المولى ولا شيء فيه على المعتق فيكون وقوع المعتق فيها كوقوع أجنبي آخر فيغرم المولى قيمته لورثته.
ولو كان أعتقه المولى بعد ما وقع فيها رجل فإن كان المولى لا يعلم بوقوع الرجل فيها فعليه قيمة العبد لأنه صار بالإعتاق مستهلكا لا مختارا وإن علم بموت الرجل فيها فعليه الدية لأنه صار مختارا بالإعتاق فقد صار متخيرا بموت الرجل فيها وعلمه بذلك بخلاف ما إذا كان إعتاقه قبل أن يقع في البئر أحد لأنه ما صار متخيرا قبل وقوع الواقع فيها فلا يمكن أن يجعل إعتاقه اختيارا فإن وقع آخر فيها فمات فإنه يقاسم صاحب الدية فيضرب الآخر بقيمة العبد والأول بالدية في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على المولى نصف قيمة أخرى لولي القتيل الآخر ولا يشرك الأول في الدية لأن إعتاق المولى إياه اختيار الدية في حق الأول فكأنه لم يعتقه ولكنه أمسكه وأدى الدية ولو فعل ذلك ثم وقع في البئر آخر كان عليه أن يدفع نصفه إلى الآخر أو يفديه بالدية فكذلك ها هنا يصير هو

 

ج / 27 ص -43-       بالإعتاق في حق الثاني مستهلكا للعبد فيغرم له نصف قيمته وأبو حنيفة يقول دفعه الدية إلى الأول بسبب إعتاقه بعد العلم بالجناية بمنزلة دفعه القيمة إليه إذا لم يكن عالما بالجناية.
ثم هناك المولى لا يغرم شيئا آخر إذا وقع فيها إنسان آخر ولكن الثاني شارك الأول فيما قبض فكذلك ها هنا وهذا لأن المولى قد غرم جميع موجب جناية العبد فلا يلزمه شيء آخر بعد ذلك لأنه لا يثبت بوقوع الثاني فيه في حق المولى تجدد الجناية فإنه حر حين وقع فيه الثاني وبه فارق ما إذا أمسكه وأدى الدية لأن العبد عند وقوع الثاني فيه صار جانيا باعتبار الحفر السابق وهذا على ملك المولى في هذه الحالة فيخاطب المولى بموجب هذه الجناية فيدفع إليه النصف أو يفديه.
وإذا ثبت أن المولى لا يغرم شيئا آخر قلنا ولي الثاني يضرب مع الأول فيما قبضه بقيمة العبد لأنه صار جانيا عليه لا بالحفر السابق والمولى في حقه يصير مختارا فيكون حقه في قيمة العبد وحق الأول في الدية فقد صار المولى مختارا في حقه فيضرب كل واحد منهما في المقبوض بمقدار حقهز
ولو وقع فيها رجل فمات ثم وقع فيها آخر فذهبت عينه والعبد قائم دفعه المولى إليهما فيكون بينهما أثلاثا على مقدار حقيهما وإن اختار الفداء فداه بخمسة عشر ألفا عشرة آلاف لصاحب النفس وخمسة آلاف لصاحب العين وإن أعتقه قبل أن يعلم بهما فعليه قيمتهما بينهما أثلاثا لأنه صار مستهلكا للعبد عليهما بالإعتاق وإن كان يعلم بالقتل ولا يعلم بالعين فعليه عشرة آلاف لولي القتيل لأنه مختار لذلك وعليه ثلث قيمته لصاحب العين لأنه صار مستهلكا في حقه حين لم يكن عالما بالجناية فيغرم له حصته من القيمة وهو الثلث.
ولو باع العبد قبل أن يقع فيها أحد ثم وقع فيها إنسان فمات فعلى البائع قيمته لأن إزالته العبد عن ملكه بالبيع بمنزلة إزالته بالعتق وكذلك لو وقع فيها العبد في ظاهر الرواية على البائع قيمته للمشتري وفي رواية محمد دمه هدر كما بينا في العتق.
قال: وإذا حفر العبد بئرا في طريق المسلمين فوقع فيها رجل فقال المولى أنا كنت أمرته بذلك لم يضمن عاقلته ولم يصدق على ذلك إلا ببينة لأن الجناية باعتبار الظاهر تعلقت برقبة العبد وصار المولى مخاطبا بالدفع أو الفداء فلا يقبل قوله في إيجاب موجب الجناية على العاقلة إلا بالبينة ولا في تفريغ العبد عن موجب هذه الجناية إذا كذبه ولي الجناية وإن صدقه ولي الجناية بريء العبد من الجناية بتصادقهما على ذلك والحق لا يعدوهما فتكون الدية في مال المولى لأن إقراره بالحفر كان من العبد بأمره بمنزلة إقراره بأنه حفر بنفسه.
ولو وقع إنسان في بئر في الطريق فأقر رجل بأنه هو الذي حفر البئر كان مصدقا على نفسه دون عواقله وتكون الدية في ماله في ثلاث سنين وإذا استأجر الرجل عبدا محجورا عليه وحرا يحفران له بئرا فوقعت عليهما فماتا فعلى المستأجر قيمة العبد للمولى لأنه صار غاصبا العبد باستعماله وقد تلف في عمله ثم تلك القيمة تكون لورثة الحر إن كان أقل من

 

ج / 27 ص -44-       نصف الدية، لأن العبد صار جانيا على نصف الحر وقد فات وأخلف بدلا فيستوفي وليه ذلك البدل بحقه ثم يرجع بها المولى على المستأجر لأن المقبوض استحق من يده بجناية كانت من العبد وفي ضمانه ثم المستأجر قد ملك العبد بالضمان وقد صار الحر جانيا على نصفه فيكون على عاقلة الحر نصف قيمة العبد المستأجر.
ولو كان العبد مأذونا له في العمل لم يكن على المستأجر شيء لأنه ليس بغاصب له وكان على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن الحر صار جانيا على نصف العبد ثم يكون ذلك لورثة الحر باعتبار جناية العبد على نصف الحر وإذا حفر العبد بئرا في الطريق بغير إذن مولاه ثم قتل قتيلا خطأ فدفعه مولاه إلى ولي القتيل ثم وقع في البئر إنسان فمات فإن ولي القتيل بالخيار إن شاء دفع نصفه وإن شاء فداه بالدية لأن العبد صار جانيا على الواقع في البئر بالحفر السابق وباعتبار تلك الجناية يكون نصف قيمة حق ولي الواقع في البئر.
ألا ترى أنه لو كان وقوع الواقع في البئر قبل أن يدفع بجنايته كان العبد بينهما نصفين ولأن المدفوع إليه بالجناية قد ملك جميعه لأنه حين دفعه إليه العبد ما كان لأحد سواه حق في العبد وبوقوع الواقع في البئر لا يتبين أن حق وليه كان تاما يومئذ وإنما يثبت مقصورا على الحال ولكن بذلك السبب فلا يبطل به ملك المدفوع إليه العبد بذلك في شيء من العبد ولكنه في الخيار يقوم مقام المولى باعتبار ملكه فإن شاء دفع إليه نصفه وإن شاء فداه بالدية ولو وقع في البئر أولا إنسان فمات فدفعه ثم قتل قتيلا خطأ فدفعه المدفوع إليه ثم وقع في البئر آخر فإن ولي القتيل يدفع ثلثه إلى الواقع في البئر آخرا أو يفديه بالدية لأن العبد في الحاصل قاتل ثلاثة نفر إثنان في البئر وواحد بيده وقد صار حصة صاحب البئر الأول للذي قتله بيده مع حصته وذلك ثلثان من العبد والثلث منه حق ولي الواقع في البئر آخرا وقد قام المدفوع إليه مقام المالك فيه فيتخير بين أن يدفع الثلث أو يفديه بالدية.
وإذا حفر المدبر أو أم الولد بئرا في الطريق وقيمته ألف درهم فوقع فيها إنسان فمات فعلى المولى قيمته لأن جنايته بالحفر عند اتصال الوقوع به كجنايته بيده وجناية المدبر وأم الولد توجب القيمة على المولى به قضى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حين كان أميرا بالشام وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد وهذا لأن المولى بالتدبير السابق صار مانعا دفع الرقبة بالجناية على وجه لم يصر مختارا فيكون ضامنا قيمته لو فعل ذلك بعد الجناية وهو لا يعلم بها فإن وقع فيها واحد بعد واحد فماتوا وقد تغيرت قيمته فيما بين ذلك إلى زيادة أو نقصان لم يكن على المولى إلا قيمة ألف درهم يوم حفر بينهم جميعا بالسوية لأنه ما منع إلا رقبة واحدة فلا يغرم إلا قيمة واحدة والجناية من المدبر سببها كان هو الحفر فيعتبر قيمته عند ذلك.
ألا ترى أن في الجناية بيده يعتبر قيمته حين جنى وكذلك لو مات المدبر قبل أن يقع فيها إنسان أو أعتقه أو كاتبه أو فعل شيئا من ذلك بعد ما وقع فيها بعضهم ثم وقع فيها إنسان

 

ج / 27 ص -45-       فمات فعلى المولى قيمته لأن جناية المدبر لا تتعلق برقبته فإنه ليس بمحل الدفع وإنما تجب القيمة على المولى ابتداء فموت المدبر وحياته وعتقه في ذلك سواء.
وكذلك لو جنى جناية بيده شارك أهلها في تلك القيمة لأن المولى ما منع إلا رقبة واحدة إلا أنه إذا كانت قيمته يوم جنى بيده ألفين فعلى المولى ألف درهم لهذا خاصة لأن على المولى قيمته وقت جنايته فإنه عند ذلك صار مانعا دفعه بالتدبير السابق وهذه الجناية الثانية وجدت منه الآن فعليه لصاحبها قيمته ألفان وقد غرم مرة ألفا فيغرم لهذا ألفا أخرى ثم يضرب هو في القيمة الأولى مع أهلها بتسعة آلاف لأنه وصل إليه مقدار ألف فينتقص من حقه ذلك القدر ويضرب كل واحد من أصحاب البئر بعشرة آلاف فتكون القيمة بينهم على ذلك.
قال: وإذا استأجر أربعة رهط مدبرا ومكاتبا وعبدا وحرا يحفرون له بئرا فوقعت عليهم من حفرهم فماتوا ولم يؤذن للمدبر ولا للعبد في العمل فيقول كل واحد منهم تلف بفعله وفعل أصحابه فيهدر ربع نفسه وتعتبر جناية أصحابه عليه في ثلاثة أرباع نفسه ثم على المستأجر قيمة العبد والمدبر لمولاه لأنه صار غاصبا لها بالاستعمال والمدبر يضمن بالغصب كالقن ثم لورثة الحر ربع دية الحر في رقبة كل إنسان منهم ولولي المكاتب ربع قيمة المكاتب في رقبة كل منهما فيضرب في هاتين القيمتين ودية الحر بنصف دية الحر وورثة المكاتب بنصف المكاتب فيقسمان ذلك على هذا ثم يرجع مولاهما بذلك على المستأجر لأن المقبوض استحق بجناية قيمة كانت منهما في يد المستأجر فيثبت لهما حق الرجوع عليه في رقبة العبد.
ثم للمستأجر على عاقلة الحر ربع قيمة كل واحد منهما لأنه ملك العبد بالضمان وقد صار بمنزلة المالك للمدبر باستحقاق بدل نفسه بعد ما ضمن قيمته فلهذا رجع على عاقلة الحر بربع قيمة كل واحد منهما وله في رقبة المكاتب ربع قيمة كل واحد منهما وقد كان للمكاتب في رقبة كل واحد منهما ربع قيمته من القيمة التي أخلفها كل واحد منهما فيكون بعضه قصاصا من بعض ويترادان الفضل ولو مع قيمة المكاتب على عاقلة الحر لأن الحر أتلف ربع المكاتب ثم يأخذ ذلك ورثة الحر باعتبار جناية المكاتب على ربع الحر إلا أن يكون لهم أكثر من ربع الدية فيأخذون ربع الدية ويردون الفضل على مولى المكاتب ولكن هذا إنما يستقيم على قول من يقول قيمة المملوك في الجناية بالغة ما بلغت ولكل واحد من العبدين يعني المدبر والعبد ربع قيمته في قيمة الآخر ولكن ذلك على المستأجر له فلا يفيد اعتباره فإن كان العبدان مأذونا لهما في العمل فلا ضمان على المستأجر لانعدام الغصب وربع قيمة كل واحد منهما على عاقلة الحر وكذلك ربع قيمة المكاتب على عاقلة الحر وثلاثة أرباع دية الحر في أعناقهم في عنق كل واحد منهم ربع فإذا عقلت عاقلة الحر ربع قيمة كل واحد منهما وأخذ ذلك كل واحد منهم قلنا يؤخذ من مولى المدبر قيمة كاملة لأنه صار مانعا

 

ج / 27 ص -46-       بالتدبير السابق فيكون موجب جنايات المدبر القيمة عليه بعد أن يكون القيمة مثل ما عليه من ذلك أو أقل فيقسم ذلك بينهم بضرب فيه ورثة الحر بربع الدية ومولى العبد بربع القيمة ومولى المكاتب بربع القيمة.
وإن كان المكاتب ترك وفاء أخذ من تركته تمام قيمته إن كانت قيمته أقل مما عليه من ذلك لأن جنايات المكاتب إذا اجتمعت لا توجب إلا قيمة واحدة في كسبه ثم يضرب فيها ولي الحر بربع الدية ومولى العبد بربع القيمة ومولى العبد بربع القيمة ومولى المدبر بربع القيمة ثم يؤخذ من مولى العبد جميع ما أخذ من ذلك لأن المأخوذ بدل عبده وأولياء جناية العبد أحق بذلك من مولاه فيضرب في ذلك ورثة الحر بربع دية الحر ومولى المدبر بربع قيمة المدبر ومولى المكاتب بربع قيمة المكاتب لأن العبد كان جنى على ربع كل واحد منهم فلهذا كانت قيمة بدله بينهم.

باب الجنايات بالكنيف والميزاب
قال رحمه الله: وإذا أخرج الرجل كنيفا شارعا من داره على الطريق أو ميزابا أو مصبا أو صلاية من حائط فما أصاب من ذلك إنسانا فقتله فعلى عاقلة الذي أخرجه ديته لأنه متعد في تسببه حتى شغل طريق المسلمين بما أحدثه فيه أما في رقبة الطريق أو في هواه فكل واحد منهما يحول بين المارة وبين المرور في الطريق وفي الميزاب إذا أصاب الذي في الحائط لا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في وضع هذا الطرف في ملكه وقد بينا تفصيل هذه المسألة.
ولو وضع خشبة على الطريق فتعقل به رجل فهو ضامن له لأنه شغل رقبة الطريق بالخشبة التي وضعها فيه فهو بمنزلة ما لو بني في الطريق دكانا أو جلس فيه بنفسه أو وضع ظله على الطريق فإن وطى ء المار على الخشبة ووقع فمات كان ضامنا له بعد أن لا يتعمد الزلق.
قال: وهذا إذا كانت الخشبة كبيرة يوطأ على مثلها فإن كانت صغيرة لا يوطأ على مثلها فلا ضمان على الذي وضعها لأن وطأه على مثل هذه الخشبة بمنزلة تعمد الزلق أو بمنزلة التعقل بالحجر الموضوع على الطريق عمدا وذلك لا يوجب الضمان على واضع الحجر فطريان المباشرة على التسبيب بمنزلة ما لو حفر بئرا في الطريق فألقى إنسان نفسه فيها عمدا فإن قال واضع الحجر ذلك أنه تعمد التعقل به وكذبه الولي فهو على الخلاف الذي بيناه في البئر وفي قول أبي يوسف الأول القول قول الولي وفي قوله الآخر وهو قول محمد القول قول الواضع وهذا بخلاف واضع الجارح إذا ادعى أن المجروح مات بسبب آخر لأن الجرح علة موجبة للضمان فبعد وجود العلة لا تقبل دعوى العارض المسقط وها هنا الواضع والحافر يدعي صلاحية العلة لإضافة الحكم إليه فإنما يضاف الحكم إلى الشرط عند عدم صلاحية العلة لذلك والأصل هو الصلاحية فكان هو متمسكا بالأصل معنى منكر السبب الضمان فلهذا كان القول قوله.

 

ج / 27 ص -47-       وإذا تعقل الرجل بحجر فوقع على حجر ومات فإن الضمان على واضع الحجر الأول لأنه دافع له بحجره على الحجر الثاني فكأنه دفعه بيده وإن لم يكن له واضع فهو على واضع الحجر لأن وضع الحجر الثاني سبب وهو التعدي وإذا تعذر إضافة القتل إلى ما دفعه عليه يجعل مضافا إلى الحجر الثاني وأحد من هؤلاء يلزمه الكفارة ولا يحرم الميراث لأنه سبب الكفارة وحرمان الميراث مباشرة قتل محظور.

باب الغصب في الرقيق مع الجناية
قال رحمه الله: وإذا غصب الرجل من رجل عبدا فقتل العبد عنده قتيلا خطأ ثم اختصموا فإن العبد يرد إلى مولاه لأن الغصب حرام مستحق الفسخ وفسخه بالرد على مولاه ولأن موجب الجناية تخيير المالك بين الدفع والفداء والمالك هو المغصوب منه فهو المتمكن من دفعه بها دون الغاصب فيردها إليه ثم يقال له ادفعه أو افده أي ذلك فعل يرجع على الغاصب بالأقل من قيمته ومما فداه به لأن الرد لم يسلم له حين استحق من يده بجناية عند الغاصب فكأنه هلك في يد الغاصب ولأن فسخ فعل الغاصب إنما يحصل برده كما قبضه ولم يوجد لأنه قبضه فارغا ورده مشغولا بالجناية فإذا لم ينفسخ حكم فعله كان ضامنا قيمته لمولاه إلا أنه يعتبر الأقل لأن المولى يتخلص بالأقل منهما فهو في التزام الزيادة مختار فحق الرجوع إنما يثبت له بما تتحقق فيه الضرورة دون ما هو مختار له وذلك في مقدار الأقل.
وإذا كانت قيمة العبد أقل فإنما يرجع بقيمته يوم غصبه حتى إن كان زاد عنده خيرا فليس عليه من الزيادة شيء لأن الرد لما لم يسلم له جعل كالهالك في يد الغاصب فإنما يضمن قيمته يوم غصبه وإن حدث فيه عيب قبل الجناية فهو ضامن ذلك للمولى لأنه فات جزء منه وحق ولي الجناية في العبد على ما هو عليه عند الجناية فما وجب من الضمان على الغاصب قبل الجناية يسلم للمولى لفراغه عن حق ولي الجناية وإن كانت عينه ذهبت عند الغاصب بعد الجناية واختار دفعه بالجناية فدفعه رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه ويدفع نصفها إلى ولي الجناية لأن حق ولي الجناية كان في العين الذي ذهبت عند الغاصب والعين من الآدمي نصفه فلهذا دفع إليه نصف القيمة والنصف الآخر للمولى ويرجع المولى على الغاصب بالنصف الذي دفعه إلى ولي الجناية لأن ذلك استحق من يده بالجناية التي كانت عند الغاصب وإن كان أعور قبل الجناية كان نصف القيمة للمولى لأن حق ولي الجناية لم يثبت في هذه العين ويرجع المولى على الغاصب بقيمته أعور لأنه دفع العبد بالجناية التي كانت عند الغاصب وهو أعور فيرجع بتلك القيمة على الغاصب.
وإذا غصب الرجل عبدا فهو ضامن له ولما جنى عبده من جناية أو لحقه من دين ما بينه وبين قيمته ولا يضمن أكثر من ذلك لأن نفسه وماليته استحقت بما حدث عند الغاصب ولكن هذا الاستحقاق إنما يتقدر في مقدار قيمته ولأن المولى كان يمنعه من هذه الأسباب لو كان العبد في يده قائما يمكن منه بأن لم يمنعه الغاصب من ذلك فلهذا كان الضمان على الغاصب.

 

ج / 27 ص -48-       وإذا غصب عبدا فقتل عنده قتيلا ثم مات العبد فعلى الغاصب قيمته لأنه تعذر رد عينه بالهلاك في يده ثم يدفع المولى هذه القيمة إلى ولي الجناية لأن بنيته كانت مستحقة لولي الجناية وقد فاتت وأخلفت هذا البدل وحكم البدل حكم الأصل ثم يرجع المولى بقيمة أخرى على الغاصب لأن القيمة الأولى استحقت بجناية كانت عند الغاصب.
ولو استحق عين العبد من يده بتلك الجناية رجع على الغاصب بقيمته فكذلك إذا استحقت القيمة يرجع على الغاصب بقيمة أخرى حتى تخلص له قيمته قائمة مقام عبده ولو لم يمت العبد ولكن ذهبت عينه فدفعه إلى المولى أعور فقتل عنده قتيلا آخر ثم اجتمعوا فدفعه المولى بجنايته فإنه يأخذ نصف قيمته من الغاصب باعتبار عينه التي فاتت عنده فيدفعها إلى الأول لأن حق الأول كان ثبت في حق العين لقيامها عند جنايته وحق الثاني ما ثبت في تلك العين فإذا سلم نصف القيمة للأول ضرب هو في العبد المدفوع بالدية إلا ما أخذ لأن القدر المأخوذ سالم له فلا يضرب به وإنما يضرب بما بقي من حقه ويضرب الآخر بالدية ثم يرجع المولى على الغاصب بنصف القيمة التي أخذت منه لأن ذلك استحق من يده بجناية كانت عند الغاصب ويرجع عليه أيضا بما أصاب الأول من قيمة العبد أعور لأن استحقاق ذلك القدر من العبد بجناية كانت عند الغاصب ولا يرجع عليه بقيمة ما أصاب الباقي لأن الجناية الثانية من العبد كانت عند المولى ثم يرجع أولياء الأول فيما أخذ المولى من ذلك بتمام قيمة العبد إلى ما في يده لأن حقه ثبت في عبد صحيح فارغ فما لم يسلم له كمال حقه لا يسلم شيء من بدل العبد للمولى وهذا ينبغي أن يكون على قول أبي حنيفة وأبي يوسف خاصة على ما نبينه في المسألة الثانية ثم يرجع المولى على الغاصب بمثل ما أخذ منه لأن الذي أخذه منه الأول استحقه بجناية كانت عند الغاصب فيكون قرار ذلك على الغاصب.
ولو غصب عبدا فقتل عنده قتيلا خطأ بأمره أو بغير أمره ثم رده إلى المولى فقتل عنده آخر خطأ فاختار المولى دفعه بهما فإنه يكون بينهما نصفين لاستواء حقهما في رقبته ثم أخذ الولى من الغاصب نصف قيمة العبد استحق قبل الجناية الأولى بجناية كانت من العبد عند الغاصب ثم يدفع هذا النصف إلى ولي قتيل الأول ويرجع بمثله أيضا على الغاصب فيكون للمولى وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد وزفر يأخذ المولى نصف القيمة من الغاصب فيسلم له ولا يدفعه إلى الأول والقياس هذا لأنه إنما يرجع على الغاصب بقيمة نصف المدفوع إلى ولي الجناية الأولى فلو أمر بدفع ذلك النصف إليه اجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد وذلك لا يجوز هذا ولأن المصير إلى القيمة عند عدم سلامة العين لتقوم القيمة مقام العين وذلك النصف سالم لولي الجناية الأولى فلا حق له في بدلها والنصف الذي أخذه ولي الجناية الثانية فات ولم يخلف بدلا لأن استحقاق ذلك النصف بجناية كانت عند الولي فلا يكون لولي الجناية الأولى أن يرجع على المولى بشيء وأبو حنيفة وأبو

 

ج / 27 ص -49-       يوسف قالا حق ولي الجناية الأولى ثبت في جميع العبد فارغا وإنما سلم له نصف العبد فلا يجوز أن يسلم للمولى شيء من قيمة العبد مع بقاء نصف حق ولي الجناية الأولى ولكن يدفع إليه هذا النصف من القيمة حتى يسلم له كمال حقه نصف العبد ونصف قيمته بمنزلة ما لو كانت الجناية الأولى عند المولى والجناية الثانية عند الغاصب فدفعه المولى بهما فإنه يرجع بنصف القيمة على الغاصب فيدفعه إلى ولي الجناية الأولى بالاتفاق إلا أن محمدا رحمه الله يفرق بما ذكرنا أن رجوع الولي هناك بقسمة نصف المدفوع إلى ولي الجناية الثانية لأن تلك الجناية كانت عند الغاصب وقد كان حق ولي الجناية الأولى ثابتا فيه وها هنا رجوعه بقيمة النصف المدفوع إلى ولي الجناية الأولى ولكنهما يقولان هذا في ما بين الغاصب والمولى بدل عن النصف المدفوع إلى ولي الجناية الأولى فأما في حق ولي الجناية الأولى فلا يكون بدلا عن ذلك ولكنه يجعل بدلا عن النصف المدفوع إلى ولي الجناية الثانية لأن ذلك لم يسلم له بعد ما ثبت حقه فيه أو ما يأخذه ولي الجناية الأولى من القيمة لا يستحقه باعتبار أنه بدل عن النصف الأول أو عن النصف الثاني وإنما يستحقه باعتبار الجناية الحاصلة من العبد على وليه حال فراغه عن كل حق وصيرورته مقدما على المولى في استحقاق جميع العبد به وهو بمنزلة الذمي يبيع خمرا يقضي بالثمن دين المسلم فإن المقبوض يطيب للمسلم لأنه في حق البائع المقبوض ثمن الخمر وفي حق المسلم إنما يأخذ ما يأخذه باعتبار دينه لا باعتبار أنه بدل الخمر فيطيب له ذلك.
ثم ذكر في الفصل الثاني أن العبد لو كان جنى الجناية الأولى عند المولى والثانية عند الغاصب فدفعه المولى بهما فإنهما يقتسمان العبد نصفين ثم يرجع المولى على الغاصب بنصف القيمة وهو بدل ما استحقه ولي الجناية الثانية فيدفعه إلى الأول ثم لا يرجع المولى بشيء من ذلك على الغاصب لأن استحقاق هذا النصف من القيمة كان بجناية من العبد عند المولى والغاصب غصب العبد مشغولا بالجناية الأولى ثم رد نصف القيمة كذلك مشغولا بالجناية.
ولو رد جميع القيمة فاستحقها ولي الجناية الأولى بعد ما هلك العبد عنده لم يرجع المولى عليه بشيء وكذلك إذا رد نصف القيمة فاستحقه ولي الجناية الأولى ثم بنى المسائل إلى آخر الباب بعد هذا على فصل مختلف فيه وهو أن جناية العبد المغصوب على المغصوب منه أو على ماله معتبرة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول صاحبيه هدر.
وأما جنايته على الغاصب أو على مال الغاصب فهدر في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما معتبر وجه قولهما أن العبد بعد الغصب باق على ملك المغصوب منه والغاصب منه كالأجنبي بدليل أن التصرفات المختصة بالملك تنفذ فيه من المولى دون الغاصب وكذلك في حكم الجناية حتى لو جنى على أجنبي كان المولى هو المخاطب بالدفع أو الفداء دون الغاصب ثم رجوع المولى على الغاصب يكون بسبب الغصب لا بسبب الجناية وذلك أنه يقرر ملك المولى إذا ثبت هذا فنقول جناية المملوك على مال مالكه أو على نفسه فيما

 

ج / 27 ص -50-       يكون خطأ هدرا ما لأن المستحق بهذه الجناية من مملوك له على نفسه في نفسه أو ماليته والمالك لا يستحق ملكه لنفسه على نفسه أو لأن جناية المملوك فيما يكون موجبا للمال كجناية المالك وجنايته على نفسه وعلى مال نفسه هدر فكذلك جناية مملوكه عليه يدل عليه أن بسبب الملك تهدر جناية المولى على مملوكه وجناية المملوك على مولاه فيما يكون موجبا للمال ثم في أحد الحكمين المغصوب كغيره حتى أن المغصوب منه إذا قتل العبد المغصوب كان ذلك هدرا وإذا قتله الغاصب كان معتبرا فكذلك في الحكم الآخر قلنا تهدر جناية العبد على المغصوب منه فتعتبر جنايته على الغاصب لأن الغاصب من ملك الرقبة كأجنبي فلهذا تعتبر جنايته على العبد وكذلك تعتبر جناية العبد عليه بمنزلة ما لو كان العبد في جنايته وديعة أو عارية وبأن كان مغصوبا على الغاصب فكذلك لا يدل اعتبار جنايته على مولاه كالعبد المرهون إذا جنى على الراهن لا تعتبر جنايته وإن كان مضمونا على المرتهن بالقبض.
يوضحه: أن في اعتبار جنايته على الغاصب فائدة وهو أن يتملك الغاصب رقبته على المولى بسبب الجناية وما ثبت له هذا الحق بسبب الغصب بل كان عليه رد العين وللإنسان في ملك الغير غرض فينبغي أن تعتبر جنايته عليه ليتملك به العبد وإن كان المولى يرجع عليه بقيمته إذا دفعه إليه بالجناية وأبو حنيفة رحمه الله يقول الغاصب في حكم جناية المغصوب كالمالك باعتبار المال والمغصوب منه بمنزلة الأجنبي.
الدليل عليه: أنه لو جنى على أجنبي آخر كان قرار ضمان الجناية على الغاصب واستحقاق ضمان جناية العبد على مالكه فلما كان قرار ضمان جنايته على الغاصب ها هنا عرفنا أنه صار كالمالك في حكم ضمان الجناية والمولى كالأجنبي.
يوضحه: أن إهدار جناية المملوك على المالك ليس لعين الملك بل لأن اعتبارها غير مفيد.
ألا ترى أنه لو قتل مولاه عمدا فإنه تعتبر جنايته عليه في حكم القصاص لأنه مفيد فإذا عرفنا هذا فنقول ها هنا لو اعتبرنا جنايته على مولاه أو على مال مولاه كان مفيدا لأنه ثبت للمولى حق الرجوع على الغاصب باعتباره بعد ما أخذ العبد كما لو جنى على غيره فلكونه مفيدا وجب اعتباره بمنزلة جناية المولى على عبده المديون فإنه يكون معتبرا لحق الغرماء لأن ذلك مفيد لا فائدة في اعتبار جنايته على مال الغاصب لأنه يستحق به ماليته ثم يرجع المولى بتلك المالية فأي فائدة تكون في اعتبار هذه الجناية في جنايته على نفس الغاصب؟.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله في قول أبي حنيفة رحمه الله لاستحقاق ملك العبد بها على قياس مسألة أطلق جوابها في آخر الباب كما بيناه والأصح أن الخلاف فيهما جميعا وهذا لأن المجني عليه لا يستحق رقبة العبد إلا باختيار المولى الدفع إليه والمولى مخير بين الدفع وبين الفداء فإنما يكون المستحق به المالية فقط.

 

ج / 27 ص -51-       ولهذا لو أعتقه المولى قبل العلم بالجناية نفذ عتقه ولم يغرم إلا قيمته فهو من هذا الوجه بمنزلة الجناية على ماله وقد بينا الفرق بين هذا وبين جناية المرهون على الراهن في كتاب الرهن أن اعتبار جناية المرهون لحق المرتهن ولا فائدة للمرتهن في اعتبار جنايته على الراهن.
يوضح الفرق أن ضمان الرهن ليس بضمان مال فإنه وإن تقرر لا يوجب الملك للمرتهن.
فلو اعتبرنا جنايته وجعلنا قرار ذلك المرتهن لا يتبين به أن العبد مملوك للمرتهن وها هنا ضمان الغصب إذا تقرر أوجب الملك للغاصب من وقت الغصب فيتبين أن جنايته على المغصوب منه جناية على غير المالك فلهذا اعتبرنا ذلك وأن جنايته على العبد المغصوب جناية على المالك فلهذا لا يعتبر.
فوضح كلام أبي حنيفة بما استشهد به في الكتاب أن العبد المغصوب لو قتل نفسه جعل الغاصب ضامنا لقيمته وكذلك إذا قتل عبدا آخر للمغصوب منه بل أولى فإن جنايته على غيره أقرب إلى الاعتبار من جنايته على نفسه ثم لما اعتبرنا جنايته على نفسه ها هنا وجب الضمان على الغاصب وإن كان هو ملكا للمغصوب منه فكذلك جنايته على عبد آخر للمغصوب منه.
فإن قيل: نحن لا نعتبر جنايته على نفسه ولكنا نجعل قتله نفسه كموته في يد الغاصب فكذلك قتله عبدا آخر للمغصوب منه يجعل كموت ذلك العبد.
قلنا لا كذلك فإنا لو لم نعتبر جنايته في إيجاب الضمان على الغاصب لزمنا جعل جنايته كجناية مالكه على ما قالا أن جناية المملوك في حكم الضمان كجناية المالك.
فلو قتله المغصوب منه لم يجب شيء فكان ينبغي إذا قتل المغصوب نفسه أن لا يجب شيء على الغاصب أيضا واستدلالهما بهذا الفصل ساقط لأن المغصوب منه بقتل العبد يصير مستردا له فينعدم به الضمان الذي باعتباره كان هو كالأجنبي والغاصب كالمالك وذلك لا ينعدم بجناية المغصوب على أحدهما فلهذا افترقا.
قال الشيخ الإمام: إذا عرفنا هذا احتجنا إلى بيان المسائل فنقول لو غصب عبدا وجارية فقتل كل واحد منهما عنده قتيلا ثم قتل العبد الجارية ثم رده الغاصب إلى المولى فاختار دفعه فإنه يضرب فيه أولياء قتيله بالدية وأولياء قتيلها بقيمتها لأنه جنى عليها وهي مشغولة بحق أولياء قتيلها فكذلك يعتبر جنايته عليهم ثم يرجع المولى على الغاصب بقيمة العبد وقيمة الجارية لأن الجارية كانت مضمونة عليه ولم يوجد الرد فيها أصلا والرد في العبد لم يسلم حين استحق بجنايته عند الغاصب.
فإذا استوفى قيمته من قيمة الجارية إلى أولياء قتيلها لأنها ماتت وأخلفت عوضا وقد كانت نفسها مستحقة لأولياء قتيلها فيكون لهم أن يأخذوا ما بقي من حقهم من قيمتها ثم

 

ج / 27 ص -52-       يرجع به المولى على الغاصب لأن ذلك استحق من يده بجناية كانت جنتها عند الغاصب ويأخذ أولياء قتيل العبد من قيمة العبد تمام قيمة العبد لأن حقهم كان قد ثبت في جميع العبد فارغا ولم يسلم لهم إلا البعض وقد أخلف العبد عوضا فيستوفي ما بقي لهم من قيمة العبد ويرجع بذلك المولى على الغاصب.
ولو اختار المولى الفداء وأدى دية قتيل العبد وأدى قيمة الجارية إلى ولي قتيل الجارية لأن فداء العبد إنما يكون بأرش جنايته وجنايته كانت على الحر وعلى الجارية ثم يرجع على الغاصب بقيمة العبد والجارية لانعدام الرد في الجارية وانعدام سلامة الرد في العبد بدون الأرش.
وتأويل ما ذكر في هذه المسألة فيما إذا كان الغاصب بعيدا أو كان غائبا فإذا كان حاضرا وتمكن المولى أخذها منه فتخرج المسألة على وجه آخر كما ذكره بعد هذا وهذه المسألة إنما ذكرها في نسخ أبي حفص رحمه الله فأما في نسخ أبي سليمان رحمه الله فإنما ذكر المسألة الطويلة وبين التقسيم في الجواب فقال إذا اغتصب عبدا وجارية وقيمة كل واحد منهما ألف فقتل كل واحد منهما عنده قتيلا ثم قتل العبد الجارية ثم رده على المولى فإنه يرد معه قيمة الجارية لتعذر ردها بالهلاك ثم يدفع المولى هذه القيمة إلى ولي قتيل الجارية لأنها كانت مستحقة له وقد ماتت وأخلفت قيمة فهو أحق بقيمتها ثم يرجع بها على الغاصب لأن استحقاق قيمتها من يده بجنايتها عند الغاصب كاستحقاق عينها فيرجع بقيمتها مرة أخرى لتقوم مقام الجارية للمولى فارغة كما غصبها ثم يخير المولى في العبد بين الدفع والفداء فإن اختار الفداء أفداه بالدية ورجع بقيمته على الغاصب وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قولهما إن اختار الفداء أفداه بالدية لولي قتيل الغلام ولا يرجع بقيمته على الغاصب.
وإن اختار الدفع دفعه إلى ولي قتيل الغلام وإلى الغاصب على أحد عشر سهما لأن قيمة الجارية لما تقررت على الغاصب فقد ملكها بالضمان فظهر أن العبد المغصوب جنى على أمة الغاصب وهو هدر في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو معتبر.
فإذا اختار الفداء وفداء العبد بالدية فقد استوجب هو الرجوع بقيمة العبد على الغاصب واستوجب الغاصب الرجوع عليه بقيمة الأمة لاختياره الفداء أو اعتباره جناية العبد على الأمة فيقع المقاصة لاستواء القيمتين فلهذا لا يرجع على الغاصب بشيء.
وإن اختار الدفع فقد اجتمع في العبد جنايتان معتبرتان جناية على الحر فيضرب ولي الحر فيه بالدية وجناية على الأمة فيضرب الغاصب فيه بقيمتها وهو ألف درهم فإذا جعلت كل ألف سهما كان العبد بينهما على أحد عشر سهما عشرة لولي قتيل الغلام وجزء للغاصب ثم يرجع المولى على الغاصب بقيمة الغلام لأن الغلام استحق من يده بجنايته عند الغاصب فيدفع منها جزأ من أحد عشر جزأ إلى ولي قتيل الغلام لأن حقه كان يثبت في جميع العبد

 

ج / 27 ص -53-       فارغا عشرة وإنما سلم منه جزاء وقد فات الجزء الواحد وأخلف بدلا فإذا دفع ذلك إليه رجع به على الغاصب أيضا لأنه استحق بجنايته عند الغاصب فإذا رجع به صار في يد المولى قيمة الغلام تامة وقيمة الجارية صار في يد ولي قتيل الغلام عشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من العبد وجزء من أحد عشر من قيمته وصار في يد الغاصب من الغلام جزء من أحد عشر جزءا وصار في يد ولي قتيل الجارية قيمة الجارية فإن كان الغاصب معسرا ولم يقدر عليه ليؤخذ منه قيمة الجارية واختار المولى الدفع فإن قال ولي قتيل الجارية لا أضرب بقيمة الجارية في الغلام ولكني أنظر فإن خرجت قيمة الجارية أخذتها كان له ذلك لأن لحقه محلين فله أن يختار أيهما ثم في قياس قول أبي حنيفة يدفع الغلام كله إلى ولي قتيل الغلام لأن جنايته على الأم غير معتبرة عنده كما بينا فإنها باعتبار المآل للغاصب فإذا دفعه إلى ولي قتيله رجع على الغاصب بقيمته وبقيمة الجارية فيدفع قيمة الجارية إلى ولي قتيلها ثم يرجع به عليه فيصير في يده قيمتان.
فأما في قياس قول أبي يوسف ومحمد يدفع من العبد عشرة أجزاء من أحد عشر جزءا إلى ولي قتيل الغلام ويترك الجزء في يديه لأن جنايته على الأمة جناية معتبرة.
وهذا الجزء الفائت في حقه ولكنه ما لم يؤد قيمتها لا يتمكن من قبض هذا الجزء فيترك في يد المولى حتى إذا خرجت قيمة الجارية أخذها المولى فيدفعها إلى ولي قتيلها ثم يرجع بها على الغاصب ثم يقال للمولى ادفع هذا الجزء إلى الغاصب أو افده بقيمة الجارية فإن دفعه رجع عليه بقيمة الغلام فيدفع منها إلى ولي قتيل الغلام جزءا من أحد عشر جزءا بدل ما لم يسلم له من العبد ويرجع به على الغاصب وإن فداه فإنما يفديه بقيمة الجارية ولكنه يرجع بقيمة الغلام على الغاصب والقيمتان سواء فيكون أحدهما قصاصا بالأخرى ويدفع مكان ذلك الجزء إلى ولي قتيل الغلام جزءا من أحد عشر جزءا من قيمته لأنه بطريق المقاصة صار مستوفيا لقيمته كأنه استوفاه حقيقة ثم يرجع بقيمته على الغاصب لأن استحقاق ذلك من يده كان بجناية العبد عند الغاصب.
وإن قال ولي قتيل الجارية: أنا أضرب في الغلام بقيمتها دفع إليهما فيضرب فيه ولي قتيل الجارية بقيمتها وولي قتيل الغلام بالدية فيكون بينهما على أحد عشر كما بينا فإن قدر الغاصب أو أيسر أدى إلى المولى قيمة الغلام وقيمة الجارية لانعدام الرد في الجارية أصلا ولانعدام سلامة الرد في الغلام فيدفع من قيمة الغلام إلى ولي قتيل الغلام جزأ من أحد عشر جزءا من قيمته بدل ما لم يسلم له من العبد ويرجع به على الغاصب.
وقال: وليس لولي قتيل الجارية إلا ما أصابه من الغلام ولا يعطى من قيمة الجارية شيء وقد ذكر قبل هذا في المسألة القصيرة أنه يعطي من قيمة الجارية إلى أولياء قتيلها تمام قيمتها ففي هذا الجواب روايتان وقد بينا وجه تلك الرواية أن حقهم كان ثابتا في جميعها فيعطون من بدلها كمال حقهم وجه هذه الرواية أن ما استوفى ولي قتيل الجارية من العبد

 

ج / 27 ص -54-       كان بمقابلة الجارية فيكون استيفاؤه ذلك الجزء بمنزلة استيفائه جميع قيمتها فلا يكون له أن يرجع بشيء آخر بعد ذلك وهذا لأنه كان مخيرا بين شيئين فإذا اختار أحدهما يعين ذلك له ولا يبقى له في المحل الآخر حق كالمغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب الأول أو الثاني وإن اختار المولى الفداء فداه بعشرة آلاف وبقيمة الجارية ثم يرجع على الغاصب بقيمة الغلام وبقيمتين في الجارية قيمة مكان القيمة التي أداها إلى أولياء جنايتها وقيمة أخرى بالغصب ليسلم له مكان الجارية وهذا قول أبي حنيفة.
فأما على قياس قولهما: إذا أدى الغاصب قيمة الغلام وقيمة الجارية صار كأن الجارية كانت له لتقرر ضمانها عليه فيقال للمولى ادفع جزأ من أحد عشر جزأ من العبد إليه أو افده بقيمة الجارية وأي ذلك فعل لم يرجع على الغاصب بشيء لما بينا من حكم المقاصة فيما يرجع كل واحد منهما على صاحبه هذا تمام بيان هذه المسألة.
قال: ولو غصب عبدا ثم أمره أن يقتل رجلا فقتله ثم رده إلى مولاه فقتل عنده آخر ثم عفا ولي قتيل الأول عن الدية كان على المولى أن يدفع نصفه إلى ولي قتيل الآخر أو يفديه بالدية لأن حقه ما ثبت في العبد ألا وهو مشغول بالجناية الأولى فلم يستحق من العبد إلا نصفه ثم بعفو الأول لا يزداد حق الثاني وسواء دفعه أو فداه لم يرجع على الغاصب بشيء لأن الرد قد سلم في حق الغاصب فإن لم يستحق شيء من العبد بالجناية التي كانت عند الغاصب أو قد فرغ من تلك الجناية فهو كما كان مريضا فرده ثم برأ.
ولو دفعه إليهما قبل العفو ثم عفا الأول عما بقي له رجع المولى على الغاصب بنصف قيمته وهو بدل ما أخذه ولي الجناية الأولى لأنه استحق ذلك بجنايته عند الغاصب والعفو إنما ينصرف إلى ما بقي لا إلى ما استوفى فإذا أخذ نصف القيمة لم يدفعه إلى ولي الجناية الأولى لأنه أسقط ما بقي من حقه بالعفو وإذا سلم ذلك للمولى لم يرجع به على الغاصب مرة أخرى.
قال: وإذا اغتصب الرجل عبدا واستودع مولى العبد الغاصب أمة فقتل العبد قتيلا عند الغاصب ثم قتل الأمة فإنه يكون على الغاصب قيمة العبد لهلاكه عند الغاصب فإذا أخذها المولى دفعها إلى أولياء القتيل لأن العبد قد مات وأخلف القيمة وقد كانت نفسه مستحقة لأولياء القتيل ثم يدفع الغاصب قيمة أخرى إلى المولى ليسلم له مكان العبد ثم يقال للمولى ادفع مثل الوديعة إلى الغاصب أو افدها بقيمة العبد لأن العبد بالضمان صار مملوكا للغاصب وجناية الأمة الوديعة على عبد المودع معتبرة فيخير مولاها بين الدفع أو الفداء.
ولو كان العبد هو الذي قتل الأمة مع قتله الحر فاختار المولى الدفع قسم العبد على دية القتيل وقيمة الأمة في قول أبي حنيفة فيأخذ أولياء القتيل من ذلك ما أصاب الدية ويأخذ المولى ما أصاب قيمة الأمة ويضمن له الغائب تمام قيمة الأمة ويرجع المولى على الغاصب من قيمة العبد بمثل ما أخذ أولياء القتيل لأن العبد المغصوب جنى على أمة المغصوب منه،

 

ج / 27 ص -55-       ومن أصل أبي حنيفة أن جنايته على المغصوب منه وعلى ماله معتبرة فأما على قول أبي يوسف ومحمد لا يضرب المولى بشيء من قيمة أمته في العبد لأن عندهما جناية المغصوب على مال المغصوب منه هدر وكون الأمة أمانة للمغصوب منه في يد الغاصب ككونها في يد المغصوب منه فإنما يدفع المولى العبد كله إلى أولياء الجناية ويرجع بقيمته على الغاصب.
قال: ولو غصب فإنما يدفع المولى العبد كله إلى أولياء الحر ثم يرجع بها على الغاصب فيكون له ثم يقول ادفع الولد إلى الغاصب أو افده بقيمة الأمة لأن الولد كان أمانة للمغصوب منه في يده وقد ملك الأمة بالضمان وقد بينا أن جناية الأمانة على مال الأمين معتبرة فيخير المولى بين الدفع أو الفداء لذلك.
قال: ولو غصب رجلان عبدا فقتل في يدهما قتيلا ثم قتل أحدهما قيل للمولى ادفعه إلى أولياء القتيلين نصفين فمن قال من أصحابنا رحمهم الله أن على قول أبي حنيفة رحمه الله جناية المغصوب على الغاصب معتبرة وإنما لا يعتبر جنايته على مال الغاصب بما يستدل به في هذه المسألة فإنه جعل جنايته على أحد الغاصبين كجنايته على الأجنبي حيث قال العبد بينهما نصفان ومن يقول جنايته على الغاصب هدر عنده يقول هذا الجواب قولهما فأما في قياس قول أبي حنيفة ينبغي أن يسلم ثلاثة أرباع العبد للأجنبي وربعه لولي الغاصب المقتول لأن الجناية عليه إنما تعتبر من النصف الذي هو غير مضمون عليه أما من النصف الذي هو مضمون عليه لا تعتبر عنده لأن ضمان الغصب بمنزلة الملك فهو كجناية العبد المشترك على أحد الشريكين خطأ.
ثم إذا دفع العبد إلى أولياء القتيلين رجع على الغاصبين بقيمته لأن الرد لم يسلم فيدفع نصفها إلى ولي قتيل الأول لأنه استحق جميع العبد فارغا ولم يسلم له إلا النصف وقد فات النصف الآخر وأخلف بدلا ثم يرجع به على الغاصب الأول يعني الحي منهما وفي مال الغاصب المقتول لأن ذلك استحق بيده بجناية كانت عندهما فيكون ذلك له ولا يرجع فيها واحد من الغاصبين بشيء لأن حق الغاصب المقتول ما يثبت إلا في النصف العبد فإنه جنى عليه وهو مشغول بالجناية الأولى وقد سلموا له نصفه والله أعلم.

باب جناية المكاتب
قال رحمه الله: وإذا جنى المكاتب جناية خطأ فعليه أن يسعى في الأقل من إرشها ومن قيمتها يوم جنى لأن المكاتب أحق بمكاسبه بمنزلة الحر ولا عاقلة له وهذا بخلاف المدبر وأم الولد فإن بجنايتهما تجب القيمة على المولى لأن الحق في كسبهما للمولى هناك يوضح الفرق أن المولى صار مانعا دفع الرقبة هناك بالتدبير السابق وها هنا المكاتب صار مانعا دفع رقبته بقبول عقد الكتابة فيكون عليه موجب الجناية فإن قيل لا بل المولى صار مانعا دفع رقبته بإيجاب الكتابة قلنا لا كذلك فإنه لا يتعذر دفع الرقبة بإيجابه ها هنا وإنما يتعذر بقبول المكاتب ثم لا يتعذر الدفع بمجرد عقد الكتابة بل باستبراء أمته لأنه بعد الفسخ يمكن

 

ج / 27 ص -56-       دفعه بالجناية واستبراء أمة لمكاتب دون المولى فإن للمكاتب أن يعجز نفسه فيفسخ العقد وليس للمولى ذلك فلهذا كان موجب الجناية على المكاتب.
ثم إن كان الأرش أقل فبأدائه قد وصل إلى المستحق كمال حقه وإن كانت قيمته أقل فهو ما منع إلا رقبته فلا يلزمه أكثر من قيمته يوم جنى لأنه لو كان بمحل الدفع استحق ولي القتيل نفسه حين جنى فإذا كان الدفع متعذرا يعتبر قيمته يوم جنى ثم الأصل عندنا أن جناية المكاتب تتعلق برقبته وعند زفر موجب جنايته القيمة دينا في ذمته ابتداء وإنما يتيسر هذا في فصول.
أحدها: إذا عجز قبل قضاء القاضي يسعى عندنا ويدفع بالجناية أو يفدى وعند زفر يباع في قيمته كما يباع في دين آخر لو كان عليه لأن دفعه بالجناية ممتنع عند الجناية لحقه فيكون موجب الجناية القيمة ابتداء كما في المدبر وأم الولد وعندنا الدفع وإن كان متعذرا في الحال ولكن لم يقع اليأس عنه بعد العجز فلتوهم الدفع تعلقت الجناية برقبته فإذا عجز تقررت الجناية في رقبته فيدفع بها أو يفدى بخلاف المدبر وأم الولد وفي الحقيقة إنما تنبني هذه المسألة على أن مجرد الكتابة هل يوجب حق العتق للمكاتب عند زفر يوجب ولهذا لا يجوز إعتاقه عن الكفارة وعندنا لا يوجب ولهذا جوزنا إعتاقه عن الكفارة فتتعلق الجناية برقبته وإنما يتحول إلى القيمة عندنا بإحدى معان ثلاثة أما قضاء القاضي بالقيمة لأن بقضائه يتحقق معنى تعذر الدفع فيتحول الحق إلى القيمة كما إذا قضى القاضي بالقيمة في المغصوب الآبق أو بعتق المكاتب لأنه يتحقق اليأس عن الدفع بالعين أو بموته عن وفاء لأنه يؤدي كتابته ويحكم بعتقه في حال حياته فيتحقق اليأس عن الدفع ويتقرر حق ولي الجناية في القيمة فإذا عرفنا هذا فنقول إذا جنى المكاتب ثم جنى فإن كان القاضي قضى للأول بالقيمة قبل الجناية الثانية فعليه أن يسعى لولي الجناية الثانية في الأقل من إرشها ومن قيمتها لأن بقضاء القاضي تحول حق الأول إلى القيمة دينا في ذمته وفرغت الرقبة منه فيثبت فيها حق ولي الجناية الثانية وكذلك في كل جنايته يجنيها بعد القضاء بما قبلها وإن لم يكن القاضي قضى في الأول بشيء فعليه الأقل من قيمته ومن أرش الجنايتين عندنا لأن حق الوليين في الرقبة معتبر حتى لو عجز دفع إليهما فلا يلزمه إلا قيمة واحدة بجميع الرقبة وعند زفر هذا وما بعد القضاء سواء لأن حق كل واحد منهما ثبت في القيمة في ذمته ابتداء وفي الذمة سعة فإن كانت الجناية نفسا وقيمته أكثر من عشرة آلاف سعى في عشرة إلا عشرة دراهم لأن قيمة المملوك بسبب الجناية لا تزيد على هذا المقدار فكذلك في الجناية منه لأن في الموضعين وجوب القيمة بسبب الجناية.
فإن قتل المكاتب رجلا خطأ وقيمته ألف درهم ثم قتل آخر خطأ وقيمته ألفان فإنه يقضي عليه أن يسعى في ألفين ألف منها للآخر خاصة لأن المعتبر قيمته حين جنى وقد جنى على الأول وقيمته ألف وجنى على الثاني وقيمته ألفان فالألف الثانية يختص بها ولي الجناية

 

ج / 27 ص -57-       الثانية إذ لا حق فيها لولي الجناية الأولى وفي مقدار ألف يثبت حقهما فيقسم بينهما على تسعة عشر سهما.
قال: وإذا قتل المكاتب قتيلين خطأ فقضي عليه بنصف الدية لأحدهما والآخر غائب ثم قتل آخر ثم عجز فاختار المولى الدفع فإنه يدفع نصفه إلى الثالث ويتبعه الأول بنصف القيمة فيباع ذلك النصف فيه لأن في النصف تحولت الجناية بقضاء القاضي إلى القيمة دينا في ذمته ثم جنى الجناية الثالثة يتعلق حق وليها بهذا النصف وقد اجتمع في هذا النصف جناية ودين فيدفع بالجناية أولا ثم يباع في الدين لإبقاء الحقين ويدفع النصف الآخر إلى الثالث والأوسط لأن حقهما جميعا يتعلق بذلك النصف فإذا دفع إليهما ضرب فيه الأوسط بعشرة آلاف لأنه ما استوفى شيئا من حقه وضرب فيه الثالث بخمسة آلاف لأن باستيفائه نصف العبد قد صار مستوفيا نصف حقه وإنما بقي من حقه النصف فإذا ضرب بخمسة آلاف كان هذا النصف بينهما أثلاثا.
قال: وإذا جنى المكاتب جناية ثم مات ولم يترك إلا مائة درهم ومكاتبته أكثر من ذلك ولم يقض عليه بالجناية فالمائة لمولاه لأنه مات عاجزا وقد انفسخت الكتابة وكانت الجناية في رقبته فيبطل حق ولي الجناية بموته لفوات محل حقه والمائة كسبه فهي لمولاه وهي على قول زفر المائة لولي الجناية لأن جنايته كانت دينا والدين يقضى من كسبه بعد وفاته ولو ترك وفاء بالجناية والمكاتبة كان عليه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن عقد الكتابة يبقى ها هنا فيستوفى المولى المكاتبة ويحكم بحريته بحياته فتصير جنايته دينا في ذمته بخلاف الأول ولو كان عليه دين مع ذلك بدئ بالدين لأن الدين أقوى فإنه مطلوب به قبل العجز وبعده مستوفيا من تركته سواء مات عن وفاء أو عن عجز بخلاف الجناية وعند الاجتماع يبدأ بالأقوى.
وروي عن قتادة أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب أخطأ شريح وإن كان قاضيا وإنما القضاء ما قضى به ويبدأ به في تركة المكاتب بدينه قال نعم فإذا قضى الدين بقيت الجناية وبدل الكتابة وفيما بقي وفاؤهما فيكون الحكم ما بينا في الفصل الأول وإن كانت الجناية قد قضى بها خاص وليها صاحب الدين بالتركة لأنه صار دينا متأكدا بقضاء القاضي كسائر الديون فالحاصل أن الدين أقوى الحقوق والكتابة أضعف الحقوق عليه من حيث أنه لا يحبس به في حال حياته والجناية تتوسط بينهما من حيث أنه يقضى بها عليه في حياته ويحبس لأجلها ولا تقضى من تركته بعد موته فلهذا بدأنا بالدين ثم بالجناية ثم بالكتابة إلا أن تتأكد الجناية بقضاء القاضي فحينئذ هي كالدين وهذا بخلاف حال حياة المكاتب فإنه إذا قضى بكسبه بدل الكتابة كان ذلك سالما للمولى لأن الحقوق في ذمته وذمته تتقوى بعتقه فكان التدبير إليه في تقديم ما بينا من ذلك فأما بعد الموت الحقوق في ماله فيبدأ بالأقوى لهذا.
ولو مات المكاتب وترك ولدا قد ولد له في مكاتبته من أمته وعليه دين وجناية قد قضى

 

ج / 27 ص -58-       بها أو لم يقض بها سعى الولد في الدين والجناية والمكاتبة لأن عقد الكتابة يبقى ببقاء من يؤدي وما يبقى ببقاء ما يؤدي به يصير الجناية مالا ثم لا يجبر على أن يبدأ من ذلك بشيء لأنه خلف عن أبيه فكان بقاؤه كبقاء الأب وللأب في حال حياته أن يبدأ بأي ذلك شاء لأنه بالبداءة بالكتابة يحصل العين لنفسه وتتقوى ذمته وهذا المعنى موجود في حق الولد بخلاف المال فهناك القاضي هو الذي يؤدي الحقوق من تركته فعليه أن يبدأ بالأقوى لهذا إذا عجز الولد ورد في الرق بعد ما قضى عليه بالجناية بيع وكان ثمنه بين الغرماء وأصحاب الجناية بالحصص وإن عجز قبل القضاء بالجناية بطلت الجناية لأن الولد قائم مقام أبيه وانفساخ الكتابة بعجزه كانفساخها بعجز الأب في حياته إلا أن هناك الجناية متعلقة قبل القضاء فيدفع بها ثم يباع في الدين وها هنا الجناية غير متعلقة برقبة الولد ولكن فات محل الجناية بموت الجاني حين ظهر العجز فلهذا بيع الولد في الدين خاصة.
فإن كانت أم الولد حية حين مات المكاتب ولا دين على المكاتب وقد قضى عليه بالجناية أو لم يقض فإن على الأم والولد السعاية في الأقل من قيمة المكاتب ومن إرش الجناية مع بدل الكتابة لأنهما يستفيدان العتق بالأداء فيقومان مقامه بالسعاية فيما عليه فإن قضى عليهما بها أو لم يقض حتى قتل أحدهما قتيلا خطأ قضى عليه بقيمته لولي القتيل لأن كل واحد منهما بمنزلة المكاتب حين كان يسعى في بدل الكتابة ليعتق فيقضي عليه بقيمته في جنايته وهذا لا يشكل إن كان قضى عليهما بجناية المكاتب وكذلك إن لم يقض عليهما لأن حق ولي الجناية المكاتب لا يتعلق برقبتهما حتى لو عجزا لم يدفع واحد منهما بتلك الجناية فلهذا قضى على الجاني منهما بقيمته لولي القتيل سوى ما عليهما لولي جناية المكاتب فإن عجز بعد ذلك بيع كل واحد منهما في جنايته خاصة فإن فضل من ثمنه شيء فالفضل لولي جناية المكاتب لأن دين نفسه في تعلقه بماليته أقوى من دين الغير فلهذا كانت البداءة بما وجب على كل واحد منهما بسبب جنايته.
فلو ماتت المكاتبة وتركت مائة درهم وابنا ولدته في مكاتبتها وعليها دين وقد قتلت قتيلا خطأ فقضى بها أو لم يقض فإنه يقضي على الابن أن يسعى في المكاتبة والدين والجناية ثم تلك المائة بين أهل الجناية والدين بالحصص لأن المكاتبة غير عاجزة ما دام لها بن يسعى في المكاتبة فتكون جنايتها دينا في هذه الحالة يقضى من كسبها كسائر الديون.
وإن استدان الابن دينا وجنى جناية فقضى عليه بذلك مع ما قضى عليه من دين أمه وجنايتها فعليه أن يسعى في ذلك كله لأنه بمنزلة المكاتب فإن عجز بيع في دينه وجنايته خاصة فإن فضل من ثمنه شيء كان في دين أمه وجنايتها بالحصص لأن دين نفسه في ثمنه مقدم على دين أمه وإن كان إنما عجز قبل أن يقضى عليه بجنايته دفعه مولاه بها أو فداه لأن حق ولي جنايته في رقبته فيخير المولى بعد عجزه وإذا دفعه تبعه دينه خاصة فبيع فيه دون دين أمه وجنايتها فإن فضل من ثمنه شيء لم يكن لصاحب دين الأم وجنايتها عليه سبيل لأنه ما

 

ج / 27 ص -59-       تبعها شيء من ذلك في ملك المدفوع إليه بالجناية فإن جنايته مقدمة في رقبته على الدين الذي لحقه من قبل أمه بخلاف دين نفسه فإنه يتبعه في ملك المدفوع إليه لأن حق ولي الجناية في ماليته غير مقدم على حق غريمه
ولو فداه المولى فقد ظهر بالفداء من جنايته فيباع في دينه فإن فضل من ثمنه شيء كان في دين أمه وجنايتها لأن هذا الفضل باق على ملك المولى وفي ملك المولى دين الأم وجنايتها يقضي من مالية الولد.
وإذا جنى المكاتب ثم مات قبل أن يقضى عليه بها وقد ترك وفاء بالمكاتبة فقد بينا في المكاتبة أن الجناية في هذه الحالة تصير مالا فيستوفي صاحب الجناية من تركته حقه قبل الكتابة ثم يؤدي بدل الكتابة مما بقي منه.
وإن مات المكاتب وعليه دين وترك عبدا تاجرا عليه دين آخر بيع العبد في دينه خاصة لأن دين نفسه في ماليته مقدم فإن حق غريمه أسبق تعلقا بماليته من حق غريم المكاتب فإن بقي من ثمنه شيء كان في دين المكاتب لأنه في كسبه وإن لم يكن على العبد دين ولكنه كان جنى جناية وليس للمكاتب مال غيره فإنه يخير المولى فإن شاء دفعه هو وجميع الغرماء بالجناية ولا حق للغرماء فيه لما بينا أن حق ولي جنايته في نفسه مقدم على حق غرماء المكاتب.
فإذا دفع الجناية برضاهم لم يبق لهم عليه سبيل وإن شاؤوا فدوه بالدية ثم يباع في دين الغرماء لأنه ظهر من الجناية إلى الفداء فإن كان عليه دين أيضا فإنه يخير مولاه فإن شاء دفعه وأتبعه دينه فبيع فيه ولا شيء لغرماء المكاتب وإن شاء فداه ثم بيع في دينه خاصة فإن فضل شيء كان لغرماء المكاتب لأن المولى متطوع في الفداء وقد ظهر العبد به من الجناية فكأنه لم يكن في رقبته جناية ثم في الفصل الأول شرط في الدفع رضاء غرماء المكاتب وفي الفصل الثاني لم يشترط رضاءهم لأن في هذا الفصل بامتناع الدفع لا يظهر حق غرماء المكاتب في ماليته لأنه إنما يباع في دين نفسه فلهذا لا يشترط رضاؤهم وفي الفصل الأول بامتناع الدفع يظهر حق غرماء المكاتب في ماليته لأنه يباع في دينهم إذ لا دين على العبد فلهذا المعنى اعتبر رضاؤهم في الدفع والله أعلم.

باب جناية المكاتب بين اثنين
قال رحمه الله: وإذا كان العبد بين اثنين فكاتب أحدهما نصيبه بغير أمر صاحبه ثم جنى جناية ثم أدى يعتق فالمسألة تشتمل على حكمين حكم الكتابة وحكم الجناية أما بيان حكم الكتابة في هذا الجنس قد تقدم حكمه في كتاب العتاق والمكاتب وإنما نبين حكم الجناية فنقول يقضي على المكاتب بالأقل من نصف قيمته ونصف أرش الجناية لأن النصف منه مكاتب حين جنى والبعض معتبر بالكل وقد تأكد حكم الكتابة بالأداء والعتق بالجناية وجناية المكاتب تلزمه بعد العتق الأقل من قيمته ومن أرش الجناية فكذلك في هذا النصف

 

ج / 27 ص -60-       والذي لم يكاتب أن اختار تضمين الشريك واستسعاه في قيمة نصيبه وقبض هو ضامن للأول من نصف قيمة المكاتب ومن نصف أرش الجناية لأن الجناية في نصيبه كانت متعلقة بالرقبة وقد فاتت وأخلف بدلا وهو ما قبض من نصف القيمة فيلزمه دفع ذلك إلى ولي الجناية إلا أن يكون نصف الأرش أقل منه وكذلك إن أعتقه لأنه صار متلفا بالإعتاق إلا أنه لم يصر مختارا لأن الدفع كان متعذرا بما يفديه من العتق فكان ضامنا للأقل من نصف قيمته ومن نصف أرش الجناية وكذلك لو كاتبه بإذن الشريك فهذا والأول في حكم الجناية سواء وإنما يفترقان في حكم الضمان وإثبات حق الفسخ وذلك من حكم الكتابة دون الجناية.
ولو خوصم المكاتب في الجناية قبل أن يعتق وقضى القاضي عليه بالأقل من نصف قيمته ونصف الأرش ثم عجز عن المكاتبة فإنه يباع نصيب المكاتب منه فيما قضى به عليه لأنه صار دينا في ذمته بقضاء القاضي ويقال للآخر ادفع نصيبك بنصف الجناية أو افده بنصف أرشها لأن الجناية في نصيبه متعلقة بالرقبة فإن القاضي لم يقض فيها بشيء فيخير المولى بين الدفع والفداء.
وإذا كاتب أحدهما نصيبه ثم اشترى المكاتب عبدا فجنى جناية ثم أدى المكاتبة فعتق فإنه يخير المكاتب والذي لم يكاتب فإن شاءا دفعا وإن شاءا أفدياه بالدية لأن العبد مشترك بين الذي لم يكاتب وبين المكاتب نصفين باعتبار ما يكاتب منه وقد تقرر ملك المكاتب في نصيبه بالعتق وجناية العبد المشترك توجب للموليين الخيار بين الدفع والفداء فإن كان هذا العبد الجاني بن المكاتب وولد عنده من أمة له كان عليه أن يسعى في الأقل من نصف قيمته ومن أرش الجناية لأن النصف منه كان مكاتبا مع ابنه وقد عتق بأداء الأب فيلزمه في هذا النصف ما كان يلزم الأب لو جنى بنفسه وليس على الذي لم يكاتب شيء حتى يعتق أو يستسعى ثم يضمن الأقل من نصف قيمته ومن أرش الجناية لأنه إن أعتق نصيبه فقد صار مستهلكا على وجه ثم يصير مختارا وإن استسعاه فقد استوفى بدل نصيبه وحق ولي الجناية في نصيبه كان مقدما على حقه.
ولو كان هذا الابن جنى على أبيه ثم أدى الأب فعتق فعلى الابن نصف قيمة نفسه فيسعى فيه للذي لم يكاتب ولا ضمان على المكاتب في ذلك بخلاف الأم فالمكاتب ضامن لنصف قيمتها للذي لم يكاتب لأنه صار متملكا نصيب الذي لم يكاتب منها حين صارت أم ولد له فيلزمه نصف قيمتها ولا سعاية على أم الولد بحال وهو لم يصر متملكا نصيب الذي لم يكاتب من الولد وإنما احتبس نصيبه عند الولد فللذي لم يكاتب الخيار بين أن يعتق نصيبه منه أو يستسعيه في قيمة نصيبه.
وأما جناية الابن على الأب فقد جنى حين جنى ونصفه مكاتب مع أبيه ونصفه رقيق والأب كذلك فما كان في الأب من حصة الذي لم يكاتب فهو في عنق الابن يأخذه المولى من الابن يعني النصف الذي هو مكاتب من الابن حيث جنى على نصيب الذي لم يكاتب،

 

ج / 27 ص -61-       وما كان من جناية نصيب الذي لم يكاتب من الابن على النصف الذي هو مكاتب يوجب على الذي لم يكاتب الأقل من نصف قيمته ومن ربع قيمة المكاتب فقد وجب لكل واحد منهم على صاحبه مثل ما لصاحبه عليه فيكون قصاصا ولا يكون لأحد على أحد شيء.
وإذا كانت أمة بين رجلين كاتب أحدهما حصته منها ثم ولدت ولدا ثم ازدادت خيرا أو انتقصت بعيب ثم أدت فعتقت فاختار الشريك تضمين المكاتب ضمنه نصف قيمتها يوم عتقت لأن ملكه إنما تلف بالعتق.
ألا ترى أن قبل الأداء كان متمكنا من فسخ الكتابة واستيفاء حقه وإن لم يضف ما اكتسب قبل أن يعتق ونصف أرش ما جنى عليهاز
ولو كان الضمان وجب بنفس الكتابة لم يكن له من ذلك شيء وللذي لم يكاتب أن يستسعى الابن في قيمة نصيبه لأنه لما عتق نصيب المكاتب من الابن فقد احتبس نصيب الشريك عند الولد فيستسعيه في قيمة نصيبه منها.
ولو كاتب أحدهما نصيبه منها ثم ولدت ولدا فكاتب الآخر نصيبه من الولد ثم جنى الولد على الأمة أو جنت عليه جناية لا تبلغ النفس ثم أديا فعتق والموليان موسران فللذي كاتب الولدان يضمن الذي كاتب الأم نصف قيمتها إن شاء استسعاها وإن شاء أعتقها لأنه أفسد نصيب الشريك منها بما صنع ولم يوجد من الشريك دلالة الرضاء في ذلك لأن كتابة الولد لا تكون رضى منه بكتابة الأم ولا ضمان عليه للذي كاتب الأم على شريكه في الولد لأن نصيب الذي كاتب الأم من الولد ما أفسد على شريكه نصيبه من الولد وجناية كل واحد منهما على صاحبه على ما وصفت لك في العبد وأبيه من حكم المقاصة لأن الجناية على نصف الولد الذي كاتبه المولى لا يبطل منها شيء بالكتابة فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا كان قصاصا ولا شيء لواحد منهما على صاحبه.
قال: وإذا كان العبد بين اثنين ففقأ عين أحدهما وقيمته ألف ثم أن الذي فقئت عينه كاتب نصيبه منه ثم جرحه جرحا آخر ثم أدى فعتق ثم مات المولى بالجنايتين فنقول في بيان حكم الجناية أن على الحي منهما أن يدفع نصف قيمة العبد إلى ورثة الميت بجنايته سواء استوفى الضمان من شركة شريكه أو استسعى العبد أو أعتقه لأن نصيبه جنى عليه جنايتين أحدهما قبل الكتابة والآخر بعده وحكمهما سواء في حقه وهو أنه صار مستهلكا لنصيبه على وجه لم يصر مختارا فيلزمه نصف قيمته وعلى العبد أن يسعى في الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية لورثة الميت لأن النصف الذي هو نصيب المجني عليه جنى جنايتين إحداهما قبل الكتابة وهي هدر والأخرى بعدها وهي توجب موجبها على المكاتب بمنزلة جنايته على أجنبي آخر فلهذا كان عليه الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية لورثة الميت من قبل الجناية.
قال: وإذا كان العبد بين رجلين فجنى على أحدهما ففقأ عينه أو قطع يده ثم أن الآخر

 

ج / 27 ص -62-       باع نصف نصيبه من شريكه وهو يعلم بالجناية ثم جنى عليه العبد أيضا جناية أخرى ثم أن الذي باع ربعه اشترى ذلك الربع ثم كاتبه المجني عليه على نصيبه منه ثم جنى عليه جناية أخرى ثم أدى فعتق ثم مات المولى من الجنايات فعلى المكاتب الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية لأن النصف الذي هو مكاتب منه جنى على مولاه ثلاث جنايات جنايتين قبل الكتابة وحكمهما سواء في أنه هدر وجناية بعد الكتابة وهي معتبرة ولهذا كان عليه الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية وعلى الذي لم يكاتب سدس وربع سدس دية صاحبه والأقل من نصف قيمة العبد ومن سدس وربع سدس الدية ولا يؤدي هذا النصف حتى يعتق أو يستسعى أو يضمن وقد بطل نصف سدس لأنه قد جرى في نصف نصيبه البيع والشراء ولم يجر في النصف الأخير فلا بد من اعتبار ذلك فنقول أما نصف نصيبه الذي جرى فيه البيع والشراء فقد أتلف ربع النفس بثلاث جنايات جناية قبل البيع وقد صار المولى مختارا لذلك البيع وجناية بعد البيع وذلك هدر لأن جناية المملوك على المالك وجناية بعد الشراء وهي معتبرة فمن هذا الوجه يبطل ثلث الربع وهو نصف سدس الدية وأما النصف الذي لم يجر فيه البيع والشراء جنى على ربع النفس أيضا ثلاث جنايات إحداهما قبل البيع وقد صار مختارا بذلك لأن بيع البعض باختيار الفداء كبيع الكل ويتبين بعد البيع وحكمهما سواء في حق التعلق بالرقبة فيتوزع هذا نصفان فلهذا قال على الذي لم يكاتب سدس الدية وربع سدس الدية مقدار ما صار مختارا له ببيع نصف نصيبه ومثل ذلك متعلق بنصيبه وقد تعذر الدفع بكتابة شريكه على على وجه لم يصر مختارا فيلزمه الأقل من نصف قيمة العبد ومن سدس وربع سدس الدية ولكن هذا الاستهلاك إنما يتحقق إذا أعتق أو استسعى أو ضمن فلهذا لا يلزمه هذا النصف ما لم يوجد أحد هذه المعاني.
قال: وإذا كان العبد بين اثنين فقطع يد رجل ثم باعه أحدهما من صاحبه وهو يعلم ثم اشتراه منه فقطع يد آخر وفقأ عين الأول ثم ماتا من ذلك قيل لشريك المشتري ادفع نصفك إلى أولياء القتيلين نصفين أو افده بعشرة آلاف لأن الجنايتين تعلقتا بنصيبه الذي كان له في الأصل ولم يوجد في ذلك النصف ما يكون دليل اختيار فيخير بين دفعه إليهما وبين أن يفدي كل واحد منهما بنصف الدية ويقال للبائع ادفع ألفين وخمسمائة إلى ولي قتيل الأول لأن نصيبه جنى على القتيل الأول جنايتين إحداهما قبل البيع والأخرى بعد الشراء فيصير مختارا لما كان قبل البيع حين باعه وهو يعلم بجنايته فلهذا يلزمه أن يدفع إليه ألفين وخمسمائة ثم يخير بعد ذلك بين أن يدفع نصيبه إليهما أو يفديهما لولي القتيل الآخر بخمسة آلاف ولولي القتيل الأول ألفين وخمسمائة باعتبار جنايته عليهما بعد الشراء فإذا اختار الدفع كان هذا النصف مقسوما بينهما أثلاثا ثلاثة لولي قتيل الأول وثلثاه لولي قتيل الآخر على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما.
قال: وإذا كان العبد بين رجلين فجرح رجلا جرحا خطأ فكاتبه أحد الشريكين وهو يعلم

 

ج / 27 ص -63-       بذلك ثم جرحه أيضا ثم مات الرجل من ذلك كله فعلى الذي كاتب أولا ربع الدية لأن نصيبه من العبد حين جنى ثلاث جنايات على نصف النفس إحداها قبل الكتابة واثنان بعد الكتابة وحكمهما سواء فانقسم هذا النصف نصفين وذلك قد صار مختارا له بالكتابة فعليه ربع الدية ونصف ذلك يكون على المكاتب.
وأما الذي كاتب آخر فنصيبه أيضا حين جنى ثلاث جنايات جنايتين قبل الكتابة وحكمهما سواء في حقه وجناية بعد الكتابة فيوزع أيضا هذا النصف نصفين نصفه على الذي كاتب آخرا فيلزمه الأقل من نصف القيمة ومن ربع الدية لأن بكتابة نصيبه صار مستهلكا لا مختارا فقد كان الدفع متعذرا قبل هذا بكتابة شريكه فلهذا لزمه الأقل من نصف القيمة ومن ربع الدية وعلى المكاتب الأقل من قيمته ومن نصف الدية لأن كل نصف منه جنى بعد الكتابة وموجب ذلك عليه وإنما تلف نصف النفس بالجنايات الموجودة منه بعد الكتابة فلهذا كان عليه الأقل من قيمته ومن نصف الدية وهذا كله قياس قول أبي حنيفة بناء على أن الكتابة تتجزأ والله أعلم.

باب جناية المدبر
قال رحمه الله: قد بينا أن جناية المدبر لا تتعلق برقبته ولا تكون على عاقلة مولاه لأنه مملوك وإنما توجب على المولى قيمته يوم جنى المدبر لأنه بالتدبير السابق صار مانعا دفع الرقبة عند الجناية ولم يصر مختارا بذلك التدبير لأنه عند التدبير ما كان يعلم أنه جنى فيكون مستهلكا ضامنا للقيمة ولا يلزمه إلا قيمة واحدة وإن كثرت الجناية من المدبر لأنه ما منع إلا رقبة واحدة ولكن تلك القيمة مشتركة بين أولياء الجنايتين سواء قربت المدة فيما بينهما أو بعدت لأنها قائمة مقام الرقبة في تعلق حق أولياء الجنايات بها فإن قتل المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر فعلى مولاه قيمته لأصحاب الجنايتين أثلاثا لأنه لو كان محل الدفع كان يدفع إليهما أثلاثا فكذلك القيمة في المدبر والمعنى أن كل واحد منهما يضرب بجميع حقه وحق ولي القتيل في الدية وحق الآخر في أرش العين فإن اكتسب كسبا أو وهب له هبة لم يكن لأهل الجناية من ذلك شيء لأن حقهم في القيمة دينا في الذمة فكما لا يكون لهم حق في كسب المولى فكذلك في كسب المدبر.
ولو قتل المدبر رجلا خطأ وقيمته ألف درهم ثم ذهبت عينه فعلى المولى قيمته يوم جنى لأن بذهاب العين فات نصفه ولو مات بعد الجناية لم يسقط شيء من قيمته عن المولى فكذلك إذا ذهبت عينه وكذلك لو ازدادت قيمته لأن حق أولياء الجناية لا يثبت في تلك الزيادة فإن الجناية ما تعلقت برقبته أصلا فإن دفع المولى قيمته إلى ولي الجناية ولم يحدث به عيب ثم قتل رجلا آخر خطأ فإن كان دفع إلى الأول بقضاء قاض فلا سبيل للثاني على المولى لأنه ما ألزمه أكثر من قيمة واحدة بجناياته ودفعها إلى الأول بقضاء قاض كدفع القاضي بنفسه فلا سبيل للثاني على المولى ولكنه يتبع الأول فيأخذ منه نصف القيمة وإن قد

 

ج / 27 ص -64-       كان دفعها بغير قضاء قاض على قول أبي يوسف ومحمد الجواب كذلك وعند أبي حنيفة للثاني الخيار إن شاء أتبع الأول بنصف القيمة وإن شاء أتبع المولى بذلك فإذا أخذه منه رجع المولى به على الأول وجه قولهما في المسألة أن المولى حين دفع القيمة إلى الأول فقد فعل بنفسه غير ما يأمره القاضي به لو رفع الأمر إليه فيكون القضاء وغير القضاء سواء كما في الرجوع بالهبة وأخذ الدار بالشفعة بعد وجوبها وهذا لأنه حين دفع ما كان لأحد في القيمة حق سوى الأول لأن السبب الموجب لحق الثاني وهو الجناية لم يوجد بعد والحكم لا يسبق السبب فلا يكون بهذا الدفع جانيا في حق الثاني فلا يضمن له شيئا وكيف يكون جانيا في حقه.
ولو أراد أن يمنع بعض القيمة من الأول لمكان حق الثاني ما كان يتمكن من ذلك وأبو حنيفة يقول القيمة إنما تجب على المولى باعتبار منع الرقبة وإنما منعها بالتدبير السابق وذلك في حق أولياء الجنايتين جميعا سواء فيجعل في حق أولياء الجنايتين كان دفع القيمة من المولى كان بعد وجوب الجنايتين جميعا وهناك إن دفع إلى أحدهما جميع القيمة بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا وإن دفع بغير قضاء القاضي كان للثاني الخيار فهذا مثله.
والدليل على أن المعتبر هذا أن للثاني حق المشاركة مع الأول في تلك القيمة ولا يكون ذلك إلا باعتبار ما بينا وهو أن يجعل كأنه جنى عليهما في حالة واحدة يوضحه أن بذلك التدبير انعقد سبب ثبوت حق ولي الجناية في القيمة دينا في ذمة المولى عند جنايته فهو يدفع القيمة نحو ذلك الحق من ذمته إلى المدفوع فإن كان ذلك بقضاء القاضي تم التحويل لأن للقاضي هذه الولاية وإن كان بدون قضاء القاضي لم يتم التحويل لأنه ليس للمولى هذه الولاية فيبقى الخيار لولي الجناية الثانية إن شاء رضى بهذا التحويل وأتبع الأول بنصف القيمة وإن شاء لم يرض بهذا وأتبع المولى بنصف القيمة في ذمته ثم يرجع المولى على الأول لأنه تبين أنه استوفى منه زيادة على مقدار حقه وهو نظير الوصي إذا قضى دين أحد الغريمين من التركة ولم يعلم بالدين الآخر أو قضى دين الغريم ثم أحدث آخر بسبب كأن وجد من الميت في حياته فإن كان دفعه بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا ولكن الثاني يتبع الأول بنصيبه.
وإن كان الدفع بغير قضاء قاض كان للثاني الخيار بين أن يتبع الأول بنصيبه وبين أن يضمن الوصي ثم يرجع الوصي به على الأول وأم الولد بمنزلة المدبر في جميع ما ذكرنا لأن دفعها بالجناية تعذر بسبب لا يحتمل الفسخ فتكون كالمدبر في حكم الجناية لأن المولى أحق بكسبهما.
قال: وإذا قتل المدبر رجلا خطأ وقيمته ألف درهم ثم ازدادت قيمته إلى ألفين ثم قتل آخر خطأ ثم أصابه عيب فرجعت قيمته إلى خمسمائة ثم قتل آخر خطأ فعلى مولاه ألفا درهم لأنه جنى على الثاني وقيمته ألفان ولو لم يكن منه إلا تلك الجناية لكان المولى ضامنا قيمته

 

ج / 27 ص -65-       ألفين ثم ألف من هذا لولي القتيل الأوسط خاصة لأن ولي الأول إنما ثبت حقه في قيمته يوم جنى على وليه وهو ألف درهم فلا حق له في الألف الثاني فيسلم ذلك المولى قتيل الأوسط وخمسمائة منها بين ولي القتيل الأول وبين الأوسط لأنه لا حق في هذه الخمسمائة لولي قتيل الثالث وإنما حقه في قيمته يوم جنى على وليه فيقسم هذه الخمسمائة بين الأوسط والأول يضرب فيه الأول بعشرة آلاف والأوسط بتسعة آلاف لأنه وصل إليه من حقه شيء ويضرب فيه الأول بعشرة آلاف إلا ما أخذ لأنه وصل إليه من حقه مقدار المأخوذ فلا يضرب به وكذلك الأوسط لا يضرب بما أخذ في المرتين وإنما يضرب بما بقي من حقه فيقسم الخمسمائة بينهم على ذلك.
قال: ولو قتل المدبر رجلا خطأ وقيمته ألف درهم فدفعه المولى بقضاء قاض ثم رجعت قيمته إلى خمسمائة ثم قتل آخر فإن خمسمائة مما أخذ الأول للأول خاصة لأن حق الثاني إنما يثبت في قيمته عند الجناية على وليه وهي خمسمائة فبقيت الخمسمائة الأخرى سالمة للأول بلا منازعة والخمسمائة الباقية بينهما يضرب فيها الأول بعشرة آلاف إلا خمسمائة والآخر بعشرة آلاف فتكون ذلك مقسومة بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأنه يجعل كل خمسمائة منها سهما.
قال: وإذا اجتمع مدبر وأم ولد وعبد ومكاتب فقتلوا رجلا فكل واحد منهم أتلف ربع النفس فيقال لمولى العبد ادفعه أو أفده بربع الدية ويسعى المكاتب في الأقل من قيمته ومن ربع الدية وعلى مولى المدبر الأقل من قيمته ومن ربع الدية وعلى مولى أم الولد الأقل من قيمتها ومن ربع الدية اعتبارا بما لو انفرد كل واحد منهم بجنايته.
ولو قتل المدبر قتيلا خطأ واستهلك مالا فعلى المولى قيمته لأولياء القتيل وعلى المدبر أن يسعى فيما استهلك من المال لأن ما يستهلكه المدبر من المال يكون دينا في ذمته يقضي من كسبه ولا يكون المولى ضامنا بسببه شيئا من قبل أن يحل قضاء الدين وذلك لا يتغير بالتدبير ومحل موجب الجناية الرقبة وبالتدبير يتعذر دفعها فيجب على المولى القيمة لذلك.
ألا ترى أن المملوك يدفع بالجناية أو يفدى وأنه يباع في الدين إذا لم يكن له كسب فبه يظهر الفرق ثم لا يشارك أحد الفريقين الآخر فيما يأخذ لأن حقهما ما اجتمع في محل واحد فإن حق أولياء القتيل في ذمة المولى وحق أصحاب الدين في كسب المدبر فمن أي وجه تثبت الشركة بينهما فإن مات المولى قبل أن يقضي شيئا من ذلك ولا مال للمولى غيره فإن المدبر يسعى في قيمته فيكون أصحاب ديته أحق بها لأن أصل الجناية كان دينا في ذمة المولى وذلك يمنع سلامة شيء من الرقبة للمدبر لأن التدبير وصية والوصية بعد الدين فيلزمه السعاية في قيمته لرد الوصية ثم أصحاب ديته أحق بهذه القيمة من أصحاب جنايته لأن دينهم في ذمته والسعاية بدل ماليته وحق غرمائه في ماليته مقدم على حق المولى وعلى حق غرماء المولى لأن حق غرماء المولى إنما يثبت في هذه المالية من جهة المولى فإذا

 

ج / 27 ص -66-       استغرق دينه هذه المالية لم يكن للمولى فيها حق فكذلك لا يكون لغريم المولى فيها حق وإن كان دينه أكثر من قيمته فعليه السعاية في الفضل أيضا لأن بالعتق يتقرر ما بقي من الدين في ذمته وإن كان الدين عليه أقل من قيمته فالفضل من القيمة على مقدار دينه يكون لأصحاب الجناية باعتبار أن ذلك الفضل حق المولى فيقضى به منه دين المولى ولا شيء لهم عليه أكثر من ذلك لأن حقهم إنما يثبت من جهة المولى.
وكذلك لو كان القاضي قضى على المولى بالقيمة لأولياء الجناية وعلى المدبر بالسعاية في الدين قبل موت المولى فهذا تقرير منه للحكم الذي كان نابتا فلا يتقرر به الجواب. وأما أم الولد فلا تسعى لإيجاب الجناية في شيء لأن عتقها ليس بوصية ولا يمتنع لمكان دين المولى وجناية المدبر وأم الولد على المولى في نفس أو ما دونها خطأ وعلى مماليكه هدر لأنه لا فائدة في اعتبارها فإنها لو اعتبرت أوجبت على المولى القيمة له إلا أن المدبر يسعى في قيمته إذا قتل مولاه لأنه لا وصية له فإنه قاتل والقاتل عن الوصية والميراث محروم فعليه رد رقبته وقد تعذر ردها فلزمه السعاية في قيمته.
قال: ولو قتل المدبر مولاه عمدا فعليه أن يسعى في قيمته لرد الوصية وعليه القصاص للقتل العمد وللورثة الخيار إن شاؤوا قتلوا قصاصا في الحال وقد قوي حقهم في السعاية إلا أنهم رضوا بذلك وإن شاؤوا استسعوه في القيمة أولا فإذا استوفوا ذلك منه قتلوه قصاصا لأن كل واحد منهم خالص حق الورثة فالتدبير في التقديم والتأخير في الاستسعاء إليهم وإن كان له ابنان فعفا أحدهما عنه فعلى المدبر أن يسعى في نصف قيمته للذي لم يعف لأنه لزمه السعاية في جميع قيمته لرد الوصية فيكون بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة وعندهما هو حر عليه دين وعند عفو أحدهما إنما ينقلب نصيب الآخر مالا في الحال وهو في الحال مكاتب أو حر من أهل أن يجب عليه المال لمولاه ولمن يخلفه من الورثة إلا أن الوجوب بسبب جناية كانت منه في حال الرق فيكون الواجب من القيمة دون الدية فلهذا يسعى في نصف قيمته للذي لم يعف مع السعاية في جميع القيمة لهما باعتبار رد الوصية فإن كان على المولى دين بدئ بالدين من جميع ذلك لأن ما وجب للمولى باعتبار أنه بدل نفسه أو بدل ملكه فيقضي دينه من جميع ذلك والباقي بين الوارثين أثلاثا لأن الباقي يقسم بينهما على ما كان يقسم عليه الكل لولا الدين ولولا الدين لكان للذي لم يعف قيمة كاملة وللآخر نصف القيمة فكذلك ما بقي يقسم بينهما على ذلك أثلاثا.
ولو قتلت أم الولد مولاها عمدا ولا ولد لها منه فعليها القصاص ولا سعاية عليها لأن عتقها ليس بوصية فلا يمنع سبب القتل وإن كان لها منه ولد فلا قصاص عليها لأن الولد ورث جزأ من القصاص على أبيه وذلك مسقط للقصاص عليها وعليها أن تسعى في القيمة من قبل الجناية لأن القصاص كان وجب فإنه ما لم يجب لا يصير ميراثا لولدها وما لم يصر ميراثا لولدها لا يسقط فإنما تعذر استيفاء القصاص باعتبار الولادة وهي حرة حين سقط

 

ج / 27 ص -67-       القصاص فيجب أن يلحق المال لمولاها ولمن يخلف مولاها إلا أن وجوب المال بسبب جنايتها في حالة الرق فلهذا يلزمها القيمة دون الدية وكما أن نصيب سائر الورثة انقلب مالا فكذلك نصيب الولد لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لا بمعنى من جهته مع بقاء المحل.
قال: وإذا قتل العبد مولاه عمدا فعليه القصاص لأن العبد في حكم الدم مبقي على الحرية والمولى من دمه كأجنبي آخر فيستحق دمه بالقصاص لما لم يكن مستحقا له بالمال فإن كان له وليان فعفا أحدهما عنه بطل الدم كله وهو عندهما وهو قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: على الذي عفا أن يدفع نصيبه إلى الذي لم يعف أو يفديه بربع الدية لأنه صار مشتركا بينهما بالإرث نصفين وبعفو أحدهما ينقلب نصيب الآخر مالا عند العفو وعند العفو نصفه للعافي ونصفه للذي لم يعف ويجوز أن يستحق الذي لم يعف نصيب صاحبه بالجناية ولا يجوز أن يستحق نصيب نفسه فحين انقلب مالا كان نصف ذلك في نصيبه فيهدر ونصفه في نصيب صاحبه فيثبت ويخاطب بالدفع أو الفداء كما بينا في المدبر وأم الولد إذا انقلب القصاص الذي عليهما مالا بعد موت المولى وهما يقولان العبد بعد الموت مبقي على حكم ملك الميت ولهذا يقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه.
ولو انقلب نصيب الآخر مالا بعد عفو أحدهما كان ذلك للميت أيضا حتى يقضي منه ديونه فإنما يكون هذا إيجاب المال للميت بالجناية في ملكه وذلك لا يجوز كما لو قتل العبد مولاه خطأ فإن هناك لا يجب شيء وإن كان لو وجب إنما يجب بعد الموت وبعد الموت الملك للوارث ولكن قيل هو كالباقي على ملك الميت حكما لأنه يبقى للوارث الملك الذي كان ثابتا للمورث أو الوارث قائم مقام المورث فكما لا يجوز أن يجب للمورث بسبب هذه الجناية مال على العبد لا يجوز أن يجب للوارث بخلاف المدبر وأم الولد فقد عتقا بالموت وصار الكسب لهما على الخلوص فلو أوجبنا المال عند تعذر استيفاء القصاص لا يكون ذلك واجبا للمالك في حكم ملكه وإنما يكون واجبا له على معتقه وذلك مستقيم.
ولو قتل المدبر مولاه عمدا وله وليان أحدهما بن المدبر فعلى المدبر أن يسعى في قيمتين قيمة لرد الوصية وقيمة بالجناية لأن ابنه قد ورث بعض القصاص عليه فتعذر استيفاؤه وينقلب كله مالا وهو في هذه الحالة حرا أو مكاتبا وقد بينا نظيره في أم الولد ولو حفر المدبر بئرا في الطريق فوقع فيها المولى فمات فلا شيء على المدبر لأن هذا لا يكون أعلى مما إذا قتله خطأ وهناك لا يجب على المدبر بالجناية شيء فها هنا لا يحرم الوصية لأنه مسبب وكما لا يحرم المسبب الميراث فكذلك لا يحرم الوصية فلهذا أعتق من الثلث.
قال: وإذا قتل المدبر رجلا وقيمته ألف درهم ثم فقأ رجل عين المدبر يغرم خمسمائة درهم ثم قتل المدبر رجلا آخر فإن الخمسمائة أرش العين للمولى لا حق لأولياء الجناية فيه لأن الجناية لم تتعلق برقبته وعلى المولى ألف درهم قيمته يوم جنى على الأول

 

ج / 27 ص -68-       خمسمائة منها للأول خاصة لأن حق الثاني إنما يثبت في قيمته يوم جنى على وليه وقد كانت قيمته خمسمائة فلهذا أسلمت الخمسمائة للأول والخمسمائة الباقية يضرب فيها الثاني بالدية والأول بالدية إلا الخمسمائة لأنه قد استوفى ذلك.
ولو كان الباقي عبدا فدفع به كان للمولى أيضا لأن حق ولي الجناية إنما يثبت في رقبته فلا يثبت فيما يكون بدل جزء منه.
ألا ترى أن المولى لو لم يأخذ العبد في الجناية أصلا أو أخذه وباعه أو وهبه لم يضمن لأصحاب الجناية بذلك شيئا وكان عليه قيمة المدبر صحيحا.
ولو استهلك المدبر لرجل ألف درهم فأعتقه مولاه لم يضمن لصاحب الدين شيئا لأن حق صاحب الدين في كسبه وسعايته ولم يتعين ذلك بإعتاقه إياه في ابائه ولو لم يعتقه ولكن رجلا قتل المدبر فغرم قيمته وقد جنى المدبر ثم مات المولى ولا مال له غير ذلك فصاحب الدين أحق بالقيمة من صاحب الجناية لأن بدل رقبته بمنزلة كسبه في وجوب صرفه إلى الدين ولأن دين نفسه مقدم على دين مولاه في مالية رقبته وحق صاحب الجناية على مولاه فلهذا كان صاحب الدين أحق بالقيمة من صاحب الجناية سواء كان المولى حيا أو ميتا.
قال: وإذا قتل المدبر رجلين أحدهما عمدا والآخر خطأ فعليه القصاص وعلى المولى قيمته لأصحاب الخطأ فإن عفا أحد وليي العمد فالقيمة بين الذي لم يعف وبين ولي الخطأ يقسم على طريق العول أثلاثا في قول أبي حنيفة وفي قولهما على طريق المنازعة أرباعا.
وكذلك لو كان القاتل قنا دفعه المولى وقد بينا نظير هذه المسألة في المأذون وجميعها وأضدادها ونظيرها في كتاب الدعوى فهما يقولان حق الذي لم يعف ثابت في النصف دون النصف فيسلم لولي الخطأ النصف الذي هو حصة العافي لفراغ ذلك النصف عن حق الذي لم يعف والنصف الآخر حقهما فيه سواء فيكون بينهما نصفان.
وهذا بخلاف ما إذا قتل العبد أو المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر لأن هناك حق صاحب العين ثابت في الكل بدليل أنه لو انفرد كان المولى مخاطبا بدفع جميع العبد إليه أو الفداء.
وكذلك في الدين يدفع إليه جميع القيمة إلا أن يكون الأرش أقل من ذلك وها هنا حق الذي لم يعف في النصف دون النصف بدليل حالة الإنفراد وأبو حنيفة يقول أصل كل واحد منهما في الأرش وحق ولي الخطأ عشرة آلاف وحق الذي لم يعف من ولي الدم خمسة آلاف وإنما وجب قسم ألفين بينهما بسبب حق الدين في الذمة فيضرب كل واحد منهما بحقه بمنزلة الغرماء في التركة وبمنزلة صاحب النفس من صاحب العين.
وعلى هذا الخلاف لو قتل المدبر رجلا عمدا وله وليان فعفا أحدهما ثم قتل آخر خطأ فعلى المولى القيمة وقسمتها بينهما على الخلاف الذي بينا وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله أن لولي القتيل نصف القيمة وللذي لم يعف من ولي العمد ربع القيمة ويسقط ربع القيمة عن المولى بعفو العافي وهو قول زفر وهو القياس وقد بينا

 

ج / 27 ص -69-       الخلاف فيما إذا جنى العبد المغصوب عند الغاصب وعند مولاه ففي المدبر الحكم على ذلك التفصيل أيضا لأن القيمة في جناية المدبر بمنزلة الرقبة في جناية القن.
يقول: فإن غصب رجل مدبرا فقتل عنده قتيلا واستهلك لرجل مالا ثم رده على المولى فقتل عنده رجلين خطأ فعلى المولى قيمته بين أصحاب الجنايات أثلاثا ثم يرجع المولى على الغاصب بثلث القيمة وهو ما استحقه ولي القتيل الأول بجنايته عند الغاصب فيدفع ذلك إلى الأول ثم يرجع بثلث القيمة أيضا فيدفعه إلى الأول حتى يسلم له قيمة تامة كما استحقه ثم يرجع بمثله على الغاصب فيدفع نصفه إلى الثاني لأن حق الثاني ثبت في نصف القيمة وقد سلم له الثلث فيدفع إليه نصف الثلث ولا يرجع به على الغاصب لأن هذا استحق بجنايته عند المولى وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بثلث القيمة فيسلم له ويسعى المدبر لصاحب الدين في دينه فإذا قضاه يرجع المولى بالأقل من قيمته ومن الدين على الغاصب لأنه إنما قضى الدين من كسب مملوك للمولى وكان استحقاق ذلك كان منه عند الغاصب فيرجع المولى به على الغاصب إلا أن تكون قيمته أقل من ذلك فحينئذ لا يرجع إلا بقدر القيمة لأن الغاصب إنما يصير ضامنا باعتبار أن الرد لم يسلم فيجعل كالهالك في يده.
قال: وإذا قتل المدبر رجلا خطأ ثم غصبه رجل فقتل عنده رجلا عمدا ثم رده إلى المولى فإنه يقتل قصاصا وعلى المولى قيمته لصاحب الخطأ بالجناية التي كانت منه عند المولى ويرجع على الغاصب بقيمته لأنه قتل بجناية كانت منه عند الغاصب فلم يسلم الرد للمولى فإن عفا أحد وليي العمد كانت القيمة بينهم أرباعا في قول أبي يوسف ومحمد وأثلاثا في قول أبي حنيفة ثم يرجع على الغاصب بما أخذه صاحب العمد منه لأن ذلك القدر استحق بجنايته عند الغاصب ثم يدفع ذلك إلى صاحب الخطأ لأن حقه كان يثبت في جميع القيمة فلا يسلم للمولى شيء من قيمته ما لم يصل إليه كمال حقه.
ولو قتل عند الغاصب أولا رجلا عمدا ثم رده إلى المولى فقتل عنده رجلا خطأ بعد ما عفا أحد وليي الدم فعلى المولى قيمته كما بينا ثم يرجع على الغاصب بما أخذه الذي لم يعف من ولي العمد فيدفعه إلى صاحب العمد الذي لم يعف إلى تمام نصف القيمة لأن حقه لما ثبت في نصف القيمة فعليه أن يدفع إليه ما يأخذه من قيمته حتى يصل إليه كمال حقه في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف ثم يرجع بمثله على الغاصب لأن قبضه ينتقض فيما يستحق من يده بجنايته عند المولى أو عند الغاصب.
وإذا غصب رجل مدبرا فأقر عنده بقتل رجل عمدا وزعم أن ذلك كان عند المولى أو عند الغاصب فهو سواء وإذا قتل بذلك بعد الرد فعلى الغاصب قيمته لأنه مصدق في الإقرار غير مصدق في الإسناد وإنما استحق نفسه بسبب كان منه عند الغاصب وهو الإقرار فيظهر به أن الرد لم يسلم للمولى.

 

ج / 27 ص -70-       ولو عفا أحد الوليين فلا شيء للآخر لأن الآخر لو استحق المال إنما يستحقه بإقراره وإقرار المدبر والقن في الجناية التي توجب الإرش باطل لأن ذلك إقرار منه على مولاه ولو كان أقر عند الغاصب بسرقة أو ارتد عن الإسلام ثم إنه رده فقتل في الردة فعلى الغاصب قيمته أو قطع في السرقة فعلى الغاصب نصف قيمته لأن استحقاق ذلك بإقرار كان منه عند الغاصب بمنزلة استحقاقه بمباشرة سببه عند الغاصب.
قال: وقياس هذا عندي البيع لو باع عبدا مرتدا فقتل عند المشتري يرجع بجميع الثمن وكذلك لو باعه وقد أقر بقتل عمدا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد في البيع خاصة يقوم مرتدا أو غير مرتد وسارقا أو غير سارق فيرجع بحصة ذلك من الثمن وقد بينا الفرق لهما بين الغصب والبيع في كتاب البيوع ولو قتل المدبر عند الغاصب رجلا خطأ أو أفسد متاعا ثم قتله رجل خطأ فعلى عاقلة القاتل قيمته لصاحب الدين لأن بدل رقبته إذا قتل بمنزلة كسبه وعلى المولى قيمته لولي القتيل بسبب جنايته ويرجع بذلك كله على الغاصب لأن استحقاق كل واحدة من الجنايتين بسبب كان منه عند الغاصب.
قال: ولو غصب عبدا أو مدبرا فاستهلك عنده مالا ثم رده على المولى فمات عنده فلا شيء لأصحاب الدين لفوات محل حقهم من ذلك الكسب أو مالية الرقبة ولا للمولى على الغاصب لأن الرد قد سلم للمولى حين لم يستحق من يده بسبب كان عند الغاصب وإنما هلك بسبب حادث عنده.
ولو مات عند الغاصب قبل أن يرده فعلى الغاصب قيمته لأنه تعذر عليه رد عينه فإذا أخذها المولى دفعها إلى الغرماء لأنه فات وأخلف بدلا ثم يرجع المولى على الغاصب بمثل ذلك لاستحقاق المقبوض من يده بسبب كان منه عند الغاصب ولو كان قتل عند المولى خطأ فقيمته لأصحاب الدين على عاقلة القاتل يقبضها المولى ويدفعها إليهم ثم يرجع بها على الغاصب لأنها استحقت من يده بسبب كان من المدبر في ضمان الغاصب.
ولو استهلك المدبر مالا عند المولى ثم غصبه رجل فحفر عنده بئرا في الطريق ثم رده إلى المولى فقتله رجل خطأ فغرم قيمته للمولى وأخذها أصحاب الدين ثم وقع في البئر دابة فعطبت شارك صاحبها أصحاب الدين الذين أخذوا القيمة في تلك القيمة بالحصة لأن عند وقوع الدابة فيها صار متلفا لها بالحفر السابق وصارت قيمتها دينا في ذمته بمنزلة الدين الآخر فتكون قيمة نفسه بين غرمائه بالحصص ثم يرجع المولى بذلك على الغاصب فيدفعه إلى صاحب الدين الأول لأن حقه كان ثابتا في جميع القيمة فإن وقع في البئر إنسان آخر فمات فعلى المولى قيمة المدبر لأنه صار جانيا عليه بالحفر السابق وجناية المدبر على النفوس توجب القيمة على المولى سواء كان بطريق السبب أو المباشرة ثم يرجع بها على المولى ثم يرجع بها على الغاصب لأن هذه القيمة لزمته لسبب كان في ضمان الغاصب والله أعلم.

 

ج / 27 ص -71-       باب جناية المدبر بين اثنين
قال رحمه الله: وإذا كان المدبر بين رجلين فقتل أحد مولييه ورجلا خطأ بدئ بالرجل قبل المولى فعلى المولى الباقي نصف قيمته وفي مال المقتول نصف قيمته ثم يكون لولي المقتول ربع القيمة وللآخر ثلاثة أرباعها وهذا ظاهر عندهما وكذلك عند أبي حنيفة لأن مولى القتيل لا حق له فيما ضمن فإن جناية المدبر على مولاه خطأ هدر فكذلك النصف من القيمة يسلم لولي الأجنبي ولصاحبه في النصف الآخر فيضرب هو فيه بخمسة آلاف والآخر بخمسة آلاف فكان ذلك النصف بينهما نصفان وعلى المدبر أن يسعى في قيمته نصفها لورثة المقتول لأنه قاتل ولا وصية له ونصفها للمولى الحي لأنه لما عتق بسبب المقتول كان حق المولى الحي باستسعائه في نصف قيمته.
ولو كان قتل المولى عمدا والمسألة بحالها فعلى المولى الباقي وفي مال المقتول قيمته تامة لولي الخطأ لأن حق ولي العمد في القود فلا مزاحمة له مع ولي الخطأ في القيمة ويسعى المدبر في قيمته بين الموليين لما قلنا ويقتل بالعمد فإن عفا أحد وليي العمد سعى المدبر للذي لم يعف في نصف قيمته لأنه حين انقلب نصيب الآخر مالا كان بمنزلة المكاتب والحر فإنما يجب له نصف القيمة عليه فيستسعيه في ذلك ولا مزاحمة له في ولي الخطأ في القيمة الأولى.
قال: وإذا قتل المدبر رجلا عمدا وله وليان فعفا أحدهما ثم قتل أحد مولييه خطأ فعلى المولى الباقي نصف قيمته فيكون نصف ذلك النصف لولي القتيل والنصف الباقي من ذلك النصف بينه وبين الذي لم يعف من أصحاب العمد نصفين وفي مال القتيل ربع قيمة المدبر للذي لم يعف لأن نصيب الذي لم يعف انقلب مالا وذلك نصف القيمة على الموليين فلهذا كان في مال الميت ربع القيمة للذي لم يعف وقد وجب للمولى الحي نصف قيمته بالجنايتين إلا أنه لا حق للذي لم يعف في نصف ذلك النصف فيسلم لولي مولى القتيل وحقهما في النصف سواء فكان بينهما نصفين ويسعى المدبر في قيمته تامة للحي ولورثة الميت لما قلنا.
قال: وإذا قتل المدبر مولييه معا خطأ سعى في قيمتهما لورثتهما لرد الوصية ولا شيء لواحد منهما على صاحبه لأن جنايته على كل واحد منهما في نصفه هدر وفي نصف صاحبه موجب بنصف القيمة عليه ولكن نصف القيمة قصاص.
ولو غصب المدبر أحد مولييه فقتل عنده قتيلا خطأ ثم رده فقتل رجلا عمدا له وليان فعفا أحدهما فعليهما قيمة تامة لصاحب الخطأ ثلاثة أرباعها وللذي لم يعف من ولي الدم ربعها وهذا على نحو ما بينا ثم يرجع المولى للذي لم يعف على الغاصب بثلاثة أرباع نصف قيمة المدبر وهو مقدار ما غرم هو لولي الخطأ لأنه إنما غرم ذلك بجناية كانت عند المدبر في حال كون الشريك غاصبا له ضامنا ثم يرد على صاحب الخطأ من ذلك من قيمة العبد لأن

 

ج / 27 ص -72-       صاحب الخطأ استحق عليه نصف قيمته فارغا وإنما سلم له من جهته ثلاثة أرباع ذلك النصف وقد أخلف نصيبه عوضا فيرجع في العوض بما بقي من حقه وذلك من الجميع وهو ربع نصف القيمة ثم يرجع هو بذلك على الغاصب لأنه استحق من يده بجناية كانت عند الغاصب.
قال: وإذا قطع رجل يد المدبر وقيمته ألف درهم فبرئ وزاد حتى صارت قيمته ألفين ثم فقأ عينه آخر ثم انتقض البرء فمات منهما والمدبر بين اثنين فعفا أحدهما عن اليد وما حدث منها وعفى الآخر عن العين وما حدث منها فللذي عفا عن اليد على صاحب العين ستمائة وخمسون درهما على عاقلته إن كان خطأ وفي ماله إن كان عمدا وللذي عفا عن العين على صاحب اليد ثلاثمائة واثنا عشر ونصف في ماله إن كان عمدا وعلى عاقلته إن كان خطأ لأن القاطع قطع يده وقيمته ألف فكان عليه نصف قيمته خمسمائة ثم فقأ الآخر عينه وقيمته ألفان فكان عليه نصف قيمته ألف فلما مات منهما صار صاحب اليد ضامنا لمائة وخمسة وعشرين من قيمته مع الخمسمائة التي عليه لأنه لا معتبر بالزيادة في حقه فكان ألفا في فقء عينه وقيمته خمسمائة فصار به متلفا نصف ما بقي وإنما الباقي مائتان وخمسون وقد تلف بالجنايتين فنصفه وهو مائة وخمسة وعشرون تلف بفعل صاحبه فلهذا صار هو ضامنا ستمائة وخمسة وعشرين ونصف ذلك للعافي فيسقط ونصفه للذي لم يعف وهو ثلاثمائة واثنا عشر ونصف وأما العافي صار ضامنا بجنايته ألف وبسراية جنايته نصف ما بقي وذلك خمسمائة بين الموليين نصفين وقد سقط حق أحدهما بالعفو إذ للذي لم يعف منهما عليه نصيبه سبعمائة وخمسون وأم الولد في حكم الجناية بمنزلة المدبر على ما ذكرنا.
قال: ولو قتلت أم الولد مولاها عمدا ولا ولد لها فعفا أحد ابني المولى عنها سعت للآخر في نصف قيمتها لأنها حرة حين انقلب نصيب الآخر مالا إلا أن أصل الجناية كان منها في حالة الرق فعليها نصف القيمة للآخر وكذلك عبد قتل رجلا عمدا فأعتقه المولى ثم عفا أحد وليي الدم وهذا لأن المولى بالإعتاق لا يصير ضامنا شيئا لأن حقهما كان في القصاص ولا يختلف ذلك بالرق والحرية.
قال: وإذا كاتب الرجل أم ولده أو مدبره ثم قتلت مولاها خطأ سعت في قيمتها من قبل الجناية لأنها جنت وهي مكاتبة وجناية المكاتبة على مولاها كجنايتها على غيره لا موجب جنايتها في كسبها وهي أحق بكسبها ثم قد بطلت عنها الكتابة لأنها عتقت بموت المولى فإن عتق أم الولد ليس بوصية فلا يمتنع بسبب القتل.
قال: ألا ترى أنها لو استقرضت منه مالا ثم مات المولى بطلت عنها الكتابة ولزمها الدين وإنما استشهد بهذا السبب أنه وإن ألزمها القيمة بسبب الجناية فإن ذلك دين عليها كسائر الديون فلا يمتنع بطلان الكتابة عنها بسبب العتق وأما المدبرة فعليها أن تسعى في قيمتها من قبل الجناية وتسعى في قيمة أخرى لرد الوصية فإن كانت مكاتبتها أقل من قيمتها سعت في

 

ج / 27 ص -73-       مكاتبتها بمنزلة ما لو كانت مدبرته ثم مات وعليه دين يحيط بماله فإنها تسعى في الأقل من مكاتبتها ومن قيمتها لأن حق المولى في الأقل.
وإذا أسلمت أم ولد النصراني فاستسعاها في قيمتها فقتلته خطأ وهي تسعى فعليها قيمتها من قبل الجناية لأنها بمنزلة المكاتبة ويبطل عنها سراية الرق ولأنها عتقت بموت المولى فإن كان القتل عمدا فعليها القصاص وإن كان لها منه ولد صغير فلا شيء لولدها من ذلك لأن الولد مسلم مع أبيه والمسلم لا يرث الكافر ولهذا كان عليها القصاص لورثة الأب.
وإذا قتلت أم الولد مولاها عمدا وهي حبلى منه ولا ولد لها فلا قصاص عليها من قبل أن ما في بطنها من جملة ورثته ومن قبل أن الحبلى لا تقتل بالقصاص حتى تضع فإن ولدته حيا وجبت القيمة عليها لجميع الورثة لأن جزأ من القصاص صار ميراثا لولدها وإن ولدته ميتا كان عليها القصاص لورثة الأب لأن الذي ينفصل ميتا ليس من جملة الورثة فإن ضرب إنسان بطنها وألقته ميتا ففيه غرة لأن الجنين الذي في بطنها كان حرا والواجب في الجنين الحر الغرة ولها ميراثها من تلك الغرة لأنها عتقت بموت المولى فهي وارثة حين وجبت الغرة بالضربة وتقتل هي بالمولى لأن الجنين انفصل ميتا فلا تكون من جملة الورثة سواء كان انفصاله بالضربة أو بغير الضربة وإيجاب الغرة لا يكون حكما بكون الجنين حيا في ذلك الوقت فإن وجوبها بسبب قطع السر ولهذا يستوي فيه الذكر والأنثى ثم نصيبها من الغرة ميراث لبني مولاها لأنهم عتقا ولا يحرمون الميراث لأنهم قتلوها بحق والله أعلم.

باب جناية المكاتب في الخطأ
قال رحمه الله: وإذا قتل المكاتب رجلا خطأ وله وارثان فقضى عليه القاضي لأحدهما بنصف القيمة ولم يقض للآخر بشيء ثم قتل الآخر فجاء الآخر فخاصم إلى القاضي وهو مكاتب بعد وفائه فإنه يقضي له بثلاثة أرباع القيمة لأن النصف المقضي فيه للأول قد فرغ من الجناية الأولى فيتعلق به حق الآخر فيقضي له عليه بنصف القيمة لذلك والنصف الباقي يقضي له بنصفه لأنه اجتمع فيه حقه وحق الذي لم يقض له من ولي الجناية الأولى فإن عجز المكاتب وجاء الأوسط فإنه يدفع إليه ربع العبد أو يفديه مولاه بنصف الدية لأن حقه في نصف الدية والجناية في حقه باقية في ربع الرقبة لانعدام المحول إلى القيمة وهو قضاء القاضي فلهذا يدفع إليه ربع العبد بعد العجز ويفديه مولاه بنصف الدية.
قال: فلو قتل المكاتب رجلا خطأ ثم اعور ثم قتل آخر فعليه قيمته صحيحا للأول نصفها لأن حق الثاني إنما يثبت في قيمته عند الجناية عليه وهو أعور في هذه الحالة فلهذا كان نصف قيمته صحيحا للأول خاصة والنصف الآخر يضرب فيه الأول بالدية إلا ما أخذ والآخر بكمال الدية فيكون بينهما على ذلك وكذلك لو فقأ عينه إنسان أو نقصت قيمته من سعر أو عيب لأن المعتبر في حق كل واحد منهما قيمته حين جنى عليه.
قال: ولو قتل رجلا خطأ وحفر بئرا في الطريق فوقع فيها إنسان فمات أو أحدث في

 

ج / 27 ص -74-       الطريق شيئا فقضى عليه بالقيمة للذي وقع في البئر ولولي القتيل وسعى فيها بينهما ثم عطب مما أحدث في الطريق إنسان فمات فإنه يشاركهم في تلك القيمة للذي وقع في البئر ولولي القتيل وسعى فيها لأنه أحدثه في الطريق قبل أن يقضي عليه بالقيمة وإنما صار جانيا بذلك التسبب وجنايات التسبب والمباشرة لا تلزمه إلا قيمة واحدة ما لم يقض عليه بها وكذلك لو وقع في البئر إنسان آخر فمات.
ولو حفر بئرا أخرى في الطريق بعد ما قضى عليه بالقيمة فوقع فيها إنسان فمات قضى القاضي بقيمة أخرى لأن جنايته بالتسبيب ابتداء بعد القضاء بالقيمة في الجناية الأولى بمنزلة جنايته بالمباشرة فيلزمه باعتبارها قيمة أخرى لأن الرقبة قد فرغت من قبل قضاء القاضي بالقيمة فيشغل بالجناية المبتدأة بعد ذلك فيلزمه القيمة لأجلها.
ولو وقع في البئر الأول فرس فعطب كان عليه قيمته دينا يسعى فيه بالغا ما بلغ ولا يشاركه أهل الجناية ولا يشاركونه لأن الواجب لصاحب الفرس ضمان مال وقد بينا أنه لا مشاركة بين ضمان المال وضمان النفس ولا مشابهة بينهما في الحكم.
ألا ترى أنه لو قتل إنسانا خطأ فاستهلك مالا قضى عليه بالقيمة في القتل وبالمال بالغا ما بلغ وكل من يكاتب على المكاتب فهو في حكم الجناية بمنزلة المكاتب فيما يلزمه من السعاية وكذلك أم ولده التي ولدت منه في المكاتبة لأن دفعها بالجناية متعذر بسبب الكتابة فهي بمنزلة المكاتبة فيما يلزمها بالجناية.
ولو جنى عبده خوطب المكاتب فيه بالدفع أو الفداء وهو بمنزلة الحر فالتدبير في كسبه ولهذا لو كان القتل من العبد عمدا فصالح المكاتب على مال جاز صلحه لأنه قصد به تخليص ملكه.
قال: وإذا أقر المكاتب بقتل عمدا ثم أنه عفا أحد الوليين عنه قضى عليه بنصف القيمة للآخر فإن عجز قبل أن يؤدى بطل ذلك عنه في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد إذا قضى عليه قبل أن يعجز صار دينا عليه يباع فيه وكذلك لو قتل المكاتب رجلا عمدا ثم صالح عن نفسه على مال فهو جائز ويلزمه المال ما لم يعجز فإذا عجز قبل أداء المال بطل عنه المال في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد هو لازم يباع فيه لأن هذا دين لزمه في حال الكتابة فيكون بمنزلة سائر ديونه يباع فيه بعد العجز إلا أن يقضي المولى عنه وأبو حنيفة يقول لا تأثير لعقد الكتابة في إطلاق الحجر عنه في الجناية والصلح عن دم العمد فكان هو في حق المولى بمنزلة العبد المحجور عليه إلا أن في حال قيامه بالكتابة المال إنما يؤدى من كسبه وهو أحق بكسبه فكان إقراره معتبرا في حقه.
وكذلك قبوله بسبب الصلح فإذا عجز صار الحق لمولاه وإقراره في حق المولى باطل وكذلك قبوله المال بالصلح عن دم العمد لأنه ملتزم مالا لا بإزاء مال وذلك غير صحيح في

 

ج / 27 ص -75-       حق المولى فلا يطلب بشيء منه ولا يباع فيه بخلاف سائر الديون فإن ذلك لزمه بسبب صار هو بعقد الكتابة منفك الحجر فكذلك السبب في حق المولى.
قال: وإذا قتل المكاتب رجلا عمدا وله وليان فعفا أحدهما يسعى للآخر في نصف القيمة فإن وقع رجل في بئر حفرها المكاتب في الطريق قبل القتل فعليه نصف قيمة أخرى لصاحب البئر لأنه قد غرم نصف القيمة وجناياته لا تلزمه إلا قيمة واحدة فكان عليه نصف قيمة أخرى لصاحب البئر وشاول صاحب البئر صاحب القتيل فيأخذ منه نصف ما أخذ في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة قسمت القيمة بينهما أثلاثا كما بينا.
وإذا قتل بن المكاتب رجلا خطأ ثم أن المكاتب قتل ابنه وهو عبد وقتل آخر خطأ فعليه القيمة يضرب فيها أولياء القتيل الآخر بالدية وأولياء قتيل الابن بقيمة الابن لأن الجنايتين إذا حصلتا من المكاتب قبل قضاء القاضي لا يلزمه إلا قيمة واحدة وإنما يضرب كل واحد منهما في تلك القيمة بمقدار حقه وحق أولياء الحر في الدية وحق أولياء قتيل الابن كان في الدية ولكن بجناية الابن فأما بجناية المكاتب فلا حق لهم قبله إلا في قيمة الابن لأن المكاتب ما جنى على وليهم إنما جنى على الابن الذي كان مستحقا لهم بجنايته فلهذا ضربوا في قيمته بقيمة الدين.
قال: وإذا جنى المكاتب جناية ثم اختلف المكاتب وولي الجناية في قيمة المكاتب وقد علم أنها ازدادت أو نقصت فالقول في القيمة قول المكاتب لإنكاره الزيادة وعلى المولى إثبات الزيادة بالبينة وإنما شرط العلم بأنها زادت أو نقصت لأنه إذا لم يعلم ذلك ففي قول أبي يوسف الأول يحكم بقيمته في الحال على قياس المدبر كما بينه في أول الجنايات وكذلك لو فقئت عين المكاتب فقال المكاتب جنيت بعد ما فقئت عيني فالقول قوله لأن المولى يدعي سبق تاريخ في جنايته إلى ما قبل فقء العين وهو منكر ولأن الولي يدعي ثبوت حقه في العين المفقوءة والمكاتب منكر لذلك والقول قول المنكر مع يمينه وعلى المولى إثبات ما يدعيه بالبينة والله أعلم بالصواب.