المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 26 ص -53-       كتاب الديات
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله اعلم بأن القتل بغير حق من أعظم الجنايات بعد الإشراك بالله تعالى قال الله تعالى:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] وقال النبي عليه السلام: "ألا أن أعباء الناس ثلاثة رجل قتل غير قاتل أبيه ورجل قتل قبل أن يدخل الجاهلية ورجل قتل في الحرم" وقال في خطبته بعرفات "ألا إن دماءكم ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا".
ولما قتل محلم بن جنامة رجلا من أهل الجاهلية قال النبي عليه السلام:
"لا يرحم" فدفن بعد موته فلفظته الأرض ثم دفن فلفظته الأرض فقال "أما أنها تقبل من هو أعظم جرما منه ولكن الله أراكم حرمة القتل" وفي قتل النفس إفساد العالم ونقض البنية ومثل هذا الفساد من أعظم الجنايات ومعلوم أن الجاني مأخوذ عن الجناية إلا أنه لو وقع الاقتصار على الزجر بالوعيد في الآخرة ما انزجر إلا أقل القليل فإن أكثر الناس إنما ينزجرون مخافة العاجلة بالعقوبة وذلك بما يكون متلفا للجاني أو مجحفا به فشرع الله القصاص والدية لتحقق معنى الزجر وهذا الكتاب لبيان ذلك وقد سماه محمد رحمه الله كتاب الديات لأن وجوب الدية بالقتل أعم من وجوب القصاص فإن الدية تجب في الخطأ وفي شبه العمد وفي العمد عند تمكن الشبهة.
وكذلك الدية تتنوع أنواعا والقصاص لا يتنوع فلهذا رجح جانب الدية في نسبة الكتاب إليها واشتقاق الدية من الأداء لأنها مال مؤدى في مقابلة متلف ليس بمال وهو النفس والأرش الواجب في الجناية على ما دون النفس مؤدى أيضا وكذلك القيمة الواجبة في سائر المتلفات إلا أن الدية اسم خاص في بدل النفس لأن أهل اللغة لا يطردون الاشتقاق في جميع مواضعه لقصد التخصيص بالتعريف وسمى بدل النفس عقلا أيضا لأنهم كانوا اعتادوا ذلك من الإبل فكانوا يأتون بالإبل ليلا إلى فناء أولياء المقتول فيعقلونها فتصبح أولياء القتيل والإبل معقولة بفنائهم فلهذا سموه عقلا.
ثم بدأ الكتاب فقال قال أبو حنيفة رحمه الله القتل على ثلاثة أوجه عمد وخطأ وشبه العمد والمراد به بيان أنواع القتل بغير حق فيما يتعلق به من الأحكام كان أبو بكر الرازي يقول القتل على خمسة أوجه عمد وشبه عمد وخطأ وما أجري مجرى الخطأ وما ليس بعمد ولا خطأ ولا أجري مجرى الخطأ.

 

ج / 26 ص -54-       أما العمد: فهو ما تعمدت ضربه بسلاح لأن العمد هو القتل وقصد إزهاق الحياة وهي غير محسوسة لقصد أخذها فيكون القصد إلى إزهاق الحياة بالضرب بالسلاح الذي هو جارح عامل في الظاهر والباطن جميعا ثم المتعلق بهذا الفعل أحكام منها المأثم وذلك منصوص عليه في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [المائدة: 93] الآية
ومنها: القصاص وهو ثابت في قوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وما أخبر الله تعالى أنه كتبه على من قبلنا فهو مكتوب علينا ما لم يقم دليل النسخ فيه وقد نص على أنه مكتوب علينا فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ثم بين وجه الحكمة فيه بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] وفيه معنيان أحدهما أنه حياة بطريق الزجر لأن من قصد قتل عدوه فإذا تفكر في عاقبة أمره أنه إذا قتله قتل به انزجر عن قتله فكان حياة لهما والثاني أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك فإن القاتل بغير حق يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه منهم فهو يقصد إفناءهم لإزالة الخوف عن نفسه والشرع مكنهم من قتله قصاصا لدفع شره عن أنفسهم وإحياء الحي في دفع سبب الهلاك عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"العمد قود" أي موجبه القود فإن نفس العمد لا يكون قودا وقال صلوات الله عليه وسلامه: "كتاب الله القصاص" أي حكم الله والقصاص عبارة عن المساواة وفي حقيقة اللغة هو اتباع الأثر قال الله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] واتباع أثر الشيء في الإتيان بمثله فجعل عبارة عن المساواة لذلك ومن حكمه حرمان الميراث ثبت ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة" وفي رواية: "لا شيء للقاتل" أي من الميراث.
ومن حكمه وجوب المال به عند التراضي أو عند تعذر إيجاب القصاص للشبهة ثبت ذلك بقوله تعالى:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أي فمن أعطى له من دم أخيه شيء لأن العفو بمعنى الفضل قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] والمراد به إذا رغب القاتل في أداء الدية فالمولى مندوب إلى مساعدته على ذلك وعلى القاتل أداؤه إليه بإحسان إذا ساعده الولي وهذه الدية تجب في مال القاتل إذا كان بطريق الصلح والتراضي فكأنه هو الذي التزمه بالعقد وأما إذا كان عند تعذر استيفاء القصاص فلأن في الدية الواجبة عليه معنى الزجر ومعنى الزجر إنما يتحقق فيما يكون أداؤه مجحفا به وهو الكثير من ماله ويختلفون في وجوب الدية بهذا الفصل عند وجوب القصاص به فالمذهب عندنا أنه لم تجب الدية بالعمد الموجب للقصاص إلا أن يصالح الولي القاتل على الدية.
وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان في أحد القولين موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية يتعين ذلك باختيار المولى وفي القول الآخر موجبه القصاص إلا أن للولي أن يختار

 

ج / 26 ص -55-       أخذ الدية من غير رضا القاتل واحتج في ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" فهذا تنصيص على أن كل واحد منهما موجب القتل وإن الولي مخير بينهما.
ولما أتى بالقاتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام للولي:
"أتعفو؟" فقال: لا, فقال: "أتأخذ الدية؟" فقال: لا, فقال: "القتل؟" فقال: نعم.
ففي هذا بيان أن الولي يستبد بأخذ الدية كما يستبد بالعفو والقتل والمعنى فيه أن هذا إتلاف حيوان متقوم فيكون موجبا ضمان القيمة كإتلاف سائر الحيوانات وقيمة النفس الدية وهذا لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثال وإتلاف المقوم مما لا مثل له يوجب القيمة وقيمة النفس الدية بدليل حالة الخطأ فإن الدية إنما تجب بالإتلاف لا بصفة الخطأ لأنه عذر مسقط والمتلف في حالة العمد ما هو المتلف في حالة الخطأ إلا أن الشرع أوجب القصاص بمعنى الانتقام وشفاء الصدر للولي ودفع الغيظ عنه فكان ذلك بخلاف القياس لأنه إتلاف والإتلاف لا يكون واجبا بمقابلة الإتلاف وهو ليس بمثل.
ألا ترى أن الجماعة يقتلون بالواحد ولا مماثلة بين العشرة والواحد فعرفنا أنه ممنوع بمعنى زيادة النظر للولي وذلك في أن لا يسقط حقه في الواجب الأصلي بل يكون متمكنا فيه كما لو قطع يد إنسان ويد القاطع شلاء أو ناقصة بإصبع فإن القصاص واجب ولصاحب الحق أن يأخذ الأرش بغير رضا الجاني لهذا المعنى ولأن النفس محترمة بحرمتين وفي إتلافها هتك الحرمتين جميعا حرمة حق الله تعالى وحرمة حق صاحب النفس وجزاء حرمة الله تعالى العقوبة زجرا وجزاء هتك حرمة العبد الغرامة جبرا ولكن تعذر الجمع بينهما ها هنا لأن كل واحد منهما يوجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث عنه ويسقط بإذنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير وقلنا: إن شاء مال إلى جانب هتك حرمة حق الله تعالى واستوفى العقوبة وإن شاء مال إلى جهة حرمة حق العباد فاستوفى الدية ولا خلاف أن أحد الشريكين في الدم إذا عفا أن للآخر أن يستوفي المال.
ولو لم يكن المال واجبا له بنفس القتل لما وجب بالعفو لأن العفو مسقط ولو وجب بالعفو لوجب على العافي وإن كان محسنا كضمان الإعتاق يجب على المعتق إذا كان موسرا ولما وجب المال للآخر على القتل عرفنا أنه كان واجبا بنفس القتل ولما ظهر ذلك عند العفو في حق من لم يعف فكذلك يظهر في حق العافي إذا عفا عن القصاص فقلنا: يتمكن من أخذ المال ولأن القاتل في الامتناع من أداء الدية بعد ما استحقت نفسه قصاصا ملق نفسه في التهلكة فيكون ممنوعا شرعا كالمضطر إذا وجد طعاما يشتريه ومعه ثمنه يفترض عليه شراؤه شرعا لهذا المعنى فكذا ها هنا.
وحجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
"العمد قود" فقد أدخل الألف واللام في

 

ج / 26 ص -56-       العمد وذلك للمعهود فإن لم يكن فللجنس وليس ها هنا معهود فكان للجنس وفيه تنصيص على أن جنس العمد موجب للقود فمن جعل المال واجبا بالعمد مع القود فقد زاد على النص وإلى هذا أشار بن عباس رضي الله عنه في قوله: "العمد قود ولا مال له فيه" وعن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في دم عمد بين شريكين عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر مالا فتخصيصهما غير العافي بوجوب المال له دليل على أن العافي لا شيء له فأما ما روي من قوله: "فأهله بين خيرتين" فقد اختلفت الرواية فيه فإن في بعض الروايات: "إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فادوا" والمفاداة على ميزان المفاعلة يقتضي وجود القتل بين اثنين بالتراضي وذلك أخذ الدية بطريق الصلح وتأويل الرواية التي قال وإن أحبوا أخذوا الدية من جهتين إحداهما أنه إنما لم يذكر رضا القاتل لأن ذلك معلوم ببديهة العقل فإن من أشرف على الهلاك إذا تمكن من دفع الهلاك عن نفسه بأداء المال لا يمتنع من ذلك إلا من سفهت نفسه لأن امتناعه لإبقاء منفعة المال سفه ولا يتصور ذلك بعد ما تلفت نفسه وهو نظير قوله عليه الصلاة والسلام: "خذ سلمك أو رأس مالك" وهو في أخذ رأس المال يحتاج إلى رضا المسلم إليه ولم يذكره لا لأنه غير محتاج إليه بل لأنه معلوم بطريق الظاهر والثاني أن المراد أن لا يجبر الولي على أخذ الدية شاء أو أبى لا أن له أن يجبر غيره على أداء الدية بدليل قصة الحديث فإنه روي أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل يوم فتح مكة بعد ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عن القتل فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أما أنتم يا معاشر خزاعة فقد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلته" فوداه بمائة من الإبل من عند نفسه ثم قال: "فمن قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين" فقد أجبر الولي على أخذ الدية ثم تبين بهذا اللفظ أن الحكم قد انتسخ وأن الولي لا يجبر على أخذ الدية بعده وفي الحديث الآخر عرض الدية على الولي وهذا لا ينفى كون رضا القاتل مشروطا فيه ولكنه إما أن يكون قصد التبرع بأداء الدية من عنده ولم يعتبر رضا القاتل في هذه الحالة أو أراد أن يعلم رغبة المولى في أخذ الدية ثم يشتغل باسترضاء القاتل كمن سعى بالصلح بين اثنين يسترضي أحدهما فإذا تم له ذلك حينئذ استرضى الآخر.
والمعنى في المسألة أنه أتلف شيئا مضمونا فيتقدر ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال وتفويت حقوق الله تعالى من الصوم والصلاة والزكاة يكون الواجب فيها المثل إذا أمكن وهذا لأن ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص قال الله تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن الزيادة على المثل ظلم على المتعدي وفي النقصان يحسن بالمتعدى عليه والشرع إنما يأمر بالعدل وذلك بالمثل إذا ثبت هذا فنقول الدية ليست بمال للمتلف والقصاص مثل أما بيان أن الدية ليست بمثل فلان المماثلة بين الشيئين تعرف صورة أو معنى ولا مماثلة بين المال والآدمي صورة ولا معنى والنفس مخلوقة لإماتة الله تعالى والاشتغال بطاعته ليكون خليفة في الأرض والمال مخلوق لإقامة مصالح الآدمي به ليكون

 

ج / 26 ص -57-       مبتذلا في حوائجه فأما القصاص من حيث الصورة فلأنه قتل بإزاء قتل وإزهاق حياة بإزهاق حياة ومن حيث المعنى فالمقصود بالقتل ليس إلا الانتقام والثاني في معنى الانتقام كالأول وبهذا سمي قصاصا ثم المثل واجب بطريق الجبر ولا يجعل جبران الحياة بالمال وإنما جبران الحياة بحياة مثلها وذلك في القصاص فإن الله تعالى نص على أن في القصاص حياة فعلينا أن نعتقد هذا المعنى في القصاص عقلناه أو لم نعقله ثم هو معقول من الوجه الذي ذكرنا أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك ولكن للولي الذي هو قائم مقام المقتول كما أن المال في الموضع الذي يجب إنما ينتفع به الذي هو قائم مقام المقتول ولا حاجة بنا إلى إثبات المماثلة في القصاص لأن ذلك واجب بالقصاص وهو محض حق العبد ولا حق للعبد إلا في المثل فأما أجزية الأفعال المحرمة فتجب حقا لله تعالى وإنما حاجتنا إلى أن يثبت أن المال ليس بمثل للنفس وقد أثبتنا ذلك فقلنا: لا يجب بمقابلة النفس المتلفة قتلا إلا في الموضع الذي يجب بتعذر إيجاب المثل فحينئذ يجب المال بالنص بخلاف القياس وهو في حالة الخطأ لأن المثل نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا والخاطئ معذور فتعذر إيجاب المثل عليه ونفس المقتول محرمة لا يسقط جزء منها بعذر الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة الخطأ لصيانة النفس المحرمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس به عن الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم.
وإذا ثبت أن وجوب المال بهذا الطريق ففي الموضع الذي يتمكن فيه من استيفاء مثل حقه لا معنى لإيجاب المال وكما ثبت هذا المعنى في الخطأ قلنا: في كل موضع من مواضع العمد بتحقق هذا المعنى نوجب هذا المال أيضا لأن المخصوص من القياس بالنص يلحق به ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر إيجاب القصاص لحرمة الأبوة وإذا عفى أحد الشريكين يجب للآخر المال لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في القاتل وهو أنه حتى يقص نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر ولا يجب للعافي لأنه إنما تعذر استيفاء القصاص على العافي بإسقاطه من جهته لا بمعنى في القاتل ثم إقدام العافي على العفو يكون تعيينا منه لحقه في القصاص لأن العفو يعترف فيه بالإسقاط وذلك لا يكون إلا بعد تعيين حقه فيه ومع تعيين حقه في القصاص لا يجب له المال.
وإذا مات من عليه القصاص إنما لا نوجب المال لأن هذا ليس في معنى الخاطئ من كل وجه فإن تعذر إيجاب استيفاء القصاص بعد موته كان لفوات المحل فلو ألحقنا هذا بالخاطئ لمعنى التعذر كان قياسا والمخصوص من القياس لا يقاس عليه غيره وإذا كانت يد القاطع شلاء فالمجني عليه ها هنا عاجز عن استيفاء مثل حقه بصفته لا لفوات المحل بل لمعنى في الجاني فإن شاء تجوز بدون حقه وإن شاء مال إلى استيفاء الأرش بمنزلة من

 

ج / 26 ص -58-       أتلف على آخر كر حنطة ولم يجد عنده إلا كرا رديئا فإنه يتخير بين أن يتجوز بدون حقه وبين أن يطالب بالقيمة لتعذر استيفاء المثل بصفته بخلاف ما إذا قطعت يد القاطع ظلما لأن تعذر الاستيفاء ها هنا لفوات المحل فلم يكن في المعنى الأول وهو بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة أو قصاص فإنه يجب الأرش لأن المحل هناك في معنى القائم حكما حين قضي به حقا مستحقا عليه فيكون كالسالم له حكما فمن هذا الوجه هو في معنى الخطأ وما قال إن في النفس حرمتين فنقول في نفس القاتل حرمتان كما في نفس المقتول فإذا أوجبنا القصاص يحصل به مراعاة الحرمتين جميعا ثم القصاص لا يجب إلا باعتبار الحرمتين جميعا وإذا اعتبرناهما لإيجاب القصاص لا يبقى حرمة أخرى تعتبر لإيجاب المال ولو كان المعنى الذي قاله صحيحا لوجب أن يجمع بينهما استيفاء كمن قتل صيدا مملوكا في الحرم يجمع بين وجوب الكفالة لحرمة حق الله تعالى ووجوب الضمان لحق المالك وفيما قررنا جواب عما قال أن القصاص واجب بخلاف القياس فإنه لما كان المثل صورة ومعنى هو القصاص علم أنه هو الموجب الأصلى والذي قال إنه بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه في التهلكة ضعيف فإن إلقاء النفس في التهلكة إنما كان بالقبيل السابق فأما بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه لإيفاء حق مستحق عليه ويمتنع من أداء ما ليس عليه فلا يكون به ملقيا نفسه في التهلكة.
وأما شبه العمد: فهو ما تعمدت ضربه بالعصا أو السوط أو الحجر أو اليد فإن في هذا الفعل معنيين العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب ومعنى الخطأ باعتبار انعدام القصد منه إلى القتل لأن الآلة التي استعملها آلة الضرب للتأديب دون القتل والعاقل إنما يقصد كل فعل بآلته فاستعماله آلة التأديب دليل على أنه غير قاصد إلى القتل فكان في ذلك خطأ لشبه العمد صورة من حيث أنه كان قاصدا إلى الضرب وإلى ارتكاب ما هو محرم عليه وكان مالك رحمه الله يقول لا أدري ما شبه العمد وإنما القتل نوعان عمد وخطأ وهذا فاسد فإن شبه العمد ورد الشرع به على ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا وفيه مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها" والصحابة اتفقوا على شبه العمد حيث أوجبوا الدية فيه مغلظة مع اختلافهم في صفة التغليظ على ما نبينه وقال علي رضي الله عنه شبه العمد الضربة بالعصا والعزقة بالحجر العظيم.
فأما بيان أحكام شبه العمد فنقول إنه لا قصاص فيه لتمكن الشبهة والخطأ من حيث انعدام القصد إلى القتل والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وهي تعمد المساواة ولا مساواة بين قتل مقصود وقتل غير مقصود ثم هذا القتل لما اجتمع فيه معنيان أحدهما يوجب القصاص والآخر يمنع ترجح المانع على الموجب لأن السعي في إبقاء النفس واجب ما أمكن فإن الإبقاء حياة حقيقة وفي القصاص حياة حكما فلهذا لا يوجب القود في شبه العمد وإذا تعذر إيجاب القود وجبت الدية وهي مغلظة كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:

 

ج / 26 ص -59-       "أربعون خلفة في بطونها أولادها" وهو مروي عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا الدية مغلظة في شبه العمد وهذا التغليظ إنما يظهر في أسنان الإبل إذا وجبت الدية منها لا في شيء آخر وهذه الدية على عاقلة القاتل بمنزلة الدية في الخطأ وهو قول عامة العلماء وكان أبو بكر الأصم يقول لا تجب الدية على العاقلة بحال لظاهر قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 15] ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حين دخل عليه مع ابنه: "أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" أي لا يؤخذ بجنايتك ولا تؤخذ بجنايته ولأن ضمان الاتلاف يجب على المتلف دون غيره بمنزلة غرامات الأموال وهذا أولى لأن جناية المتلف في إتلاف النفس أعظم من جنايته في إتلاف الأموال ولكنا نستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقل جناية كل بطن من الأنصار عليهم.
وفي حديث حمدان بن مالك بن نابغة قال كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما بطن صاحبتها بعمود فسطاط أو بمسطح خيمة فألقت جنينا ميتا فاختصم أولياؤها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: لأولياء الضاربة:
"دوه" فقال أخوها عمران بن عويمر الأسلمي أيدي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل فقال عليه الصلاة والسلام: "أسجع كسجع الكهان" وفي رواية: "دعني وأراجيز العرب قوموا فدوه" الحديث ففيه تنصيص على إيجاب الدية على القاتل ثم هو معقول المعنى من أوجه:
أحدها: أن مثل هذا الفعل إنما يقصده القاتل بزيادة قوة له وذلك إنما يكون بالتناصر الظاهر بين الناس ولهذا التناصر أسباب منها ما يكون بين أهل الديوان باجتماعهم في الديوان ومنها ما يكون بين العشائر وأهل المحال وأهل الحرف فإنما يكون تمكن الفاعل من مباشرتهم بنصرتهم فيوجب المال عليهم ليكون زجرا لهم عن غلبة سفهائهم وبعثا لهم على الأخذ على أيدي سفهائهم لكيلا تقع مثل هذه الحادثة هذا في شبه العمد وكذلك في الخطأ لأن مثل هذا الأمر العظيم قلما يبتلي به المرء من غير قصد إلا لضرب استهانة وقلة مبالاة تكون منه وذلك بنصره من ينصره ثم الدية مال عظيم وفي إيجاب الكل على القاتل إجحاف به فأوجب الشرع ذلك على العاقلة دفعا لضرر الإجحاف عن القاتل كما أوجب النفقة على الأقارب بطريق الصلة لدفع ضرر الحاجة ولهذا أوجب عليهم مؤجلا على وجه يقل ما يؤديه كل واحد منهم في كل نجم ليكون الاستيفاء في نهاية من التيسير عليهم ولأن كل واحد منهم يخاف على نفسه أن يبتلي بمثل ذلك فهذا يواسي ذلك إذا ابتلي به وذلك يواسي هذا فيدفع ضرر الإجحاف من كل واحد منهم ويحصل معنى صيانة دم المقتول عن الهدر ومعنى الإعسار لورثته بحسب الإمكان وبهذا يتبين أنا لا نجعل وزر أحد على غيره وإنما نوجب ما نوجبه على العاقلة بطريق الصلة في المواساة وبهذا لا نوجب ذلك إن كان المتلف مالا لأن الواجب قل ما يعظم هناك بل يتقدر بقدر المتلف فلا يؤدي إلى الإجحاف بالمتلف أن لو ضن به وهذا لا نوجب القليل من الأرش وهو ما دون إرش الموضحة على العاقلة.

 

ج / 26 ص -60-       ومن موجب شبه العمد أيضا حرمان الميراث لأنه جزاء أصل الفعل وهو ما لا يندرئ بالشبهات ومن موجبه الكفارة أيضا باعتبار هذا المعنى لأنه جزاء أصل الفعل وهو مما لا يندرئ بالشبهات وبهذا ثبت في الخطأ المحض ففي شبه العمد أولى.
وأما الخطأ: فهو ما أصبت مما كنت تعمدت غيره والخطأ نوعان أحدهما أن يقصد الرمي إلى صيد أو هدف أو كافر فيصيب مسلما فهذا خطأ من حيث أنه انعدم منه القصد إلى المحل الذي أصاب والثاني أن يرمي شخصا يظنه حربيا فإذا هو مسلم أو يظنه صيدا فإذا هو مسلم فهذا خطأ باعتبار ما في قصده وإن كان هو قاصدا إلى المحل الذي أصابه وحكم الخطأ أنه لا يجب فيه القصاص لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع قال الله تعالى:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وقال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإذا تعذر إيجاب القصاص وجبت الدية بالنص قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وبينا المعنى فيه لصيانة دم المقتول عن الهدر فاستحقاق صيانة نفسه لا يسقط بعذر الخاطئ ومن موجبه الكفارة فإنها تثبت بهذا النص أيضا والمعنى فيه معقول فإن القتل أمر عظيم قلما يبتلي به المرء من غير قصد ما لم يكن به تهاون في التحرز وعلى كل أحد المبالغة في التحرز لكيلا يبتلى بمثل هذا الأمر العظيم فإذا ترك ذلك كان هو ملتزما بترك التحرز فنوجب عليه الكفارة جزاء على ذلك ولأن مثل هذا الأمر العظيم لا يبتلى به المرء إلا بنوع خذلان وهذا الخذلان لا يكون إلا عن ذنوب سبقت منه والحسنة تذهب السيئة قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فنوجب عليه الكفارة لتكون ماحية للذنوب السابقة فلا يبتلي بمثل هذا الأمر العظيم بعدها.
وفي سيئة العمد معنى إيجاب الكفارة أظهر لما يلحقه من المأثم بالقصد إلى أصل الفعل وفيه حديث واثلة بن الأسقع حيث قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب النار بالقتل فقال عليه السلام:
"اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو عضوا منه من النار" وإيجاب النار لا يكون إلا بالإقدام على قتل محرم وقد قامت الدلالة على أن الكفارة لا تجب في العمد المحض فعرفنا أن المراد شبه العمد ثم قال الشافعي المعنى في وجوب الكفارة بالقتل أنه نقص من عدد المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمع والجماعات فعليه إقامة نفس مقام ما أتلف ولا يمكنه ذلك إحياء فعليه إقامة مقام النفس المتلفة تحريرا لأن الحرية حياة والرق تلف وبهذا أوجب الكفارة على العامد وقلنا: نحن إنما أوجب الكفارة عليه لأن الشرع سلم له نفسه شكرا لله حين أسقط عنه القود بعذر الخطأ مع تحقق إتلاف النفس منه فعليه إقامة نفس مقام نفسه شكرا لله وذلك في أن تحرر نفس منه لتشتغل بعبادة الله وإن عجز عن ذلك فعليه صوم شهرين متتابعين شكرا لله حيث سلم له نفسه وبهذا لا نوجب الكفارة على العامد لأن الشرع أوجب عليه القصاص ونوجبها في شبه العمد لأن الشرع سلم

 

ج / 26 ص -61-       له نفسه تخفيفا عليه وترجيح أحد المعنيين على الآخر يبين في مسألة كفارة العمد إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى وليس في هذه الكفارة إطعام عندنا.
وفي أحد قولي الشافعي: إذا عجز عن الصوم يطعم ستين مسكينا بالقياس على كفارة الظهار وهو بناء على أصله أن قياس المنصوص على المنصوص يجوز فإن المطلق والمقيد في حادثتين يحمل أحدهما على الآخر وذلك غير جائز عندنا وموضع بيانه أصول الفقه فأما ما أجري مجرى الخطأ على ما ذكره الرازي فهو النائم إذا انقلب على إنسان فقتله وهذا ليس بعمد ولا خطأ لأنه لا تصور للقصد من النائم حتى يتصور منه ترك القصد أو ترك التحرز ولكن الانقلاب الموجب لتلف ما انقلب عليه يتحقق من النائم فيجري هذا مجرى الخطأ حتى تجب الدية على عاقلته والكفارة ويثبت به حرمان الميراث ليوهم أن يكون متهاونا ولم يكن نائما قصدا منه إلى استعجال الميراث وأظهر من نفسه القصد إلى محل آخر فأما ما ليس بعمد ولا خطأ ولا أجري مجرى الخطأ فهو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق فليس بمباشر للقتل لأن مباشرة القتل بإيصال فعل من القاتل بالمقتول ولم يوجد وإنما اتصل فعله بالأرض فعرفنا أنه ليس بقاتل عمد ولا شبه عمد ولا خطأ ولا ما أجري مجرى الخطأ بل هو بسبب متعد فنوجب الدية على عاقلته للحاجة إلى صيانة النفس المتلفة عن الهدر ولا يجب عليه الكفارة ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه في بابه قال وفي النفس الدية معناه بسبب إتلاف النفس فإن حرف في للظرف حقيقة والنفس لا تكون ظرفا للدية بل قتلها سبب لوجوب الدية كما يقال في النكاح حل وفي الشراء ملك وهذا لقوله تعالى:
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقال عليه السلام: "في النفس مائة من الإبل" وقال علي رضي الله عنه في النفس الدية وما لا يعرف بالرأي والمنقول عنه فيه كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي الأنف الدية" والحاصل أن ما لا ثاني له في البدن من أعضاء أو معان مقصودة فإتلافها كإتلاف النفس في أنه يجب بها كمال الدية والأعضاء التي هي أفراد ثلاثة الأنف واللسان والذكر وذلك مروي في حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قال: "في الأنف الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية" وهكذا روي عن علي بن أبي طالب ثم قطع الأنف تفويت جمال كامل ومنفعة كاملة وامتياز الآدمي من بين سائر الحيوانات فات بهما فتفويتهما في معنى تفويت النفس فكما تجب الدية بقطع جميع الأنف بحيث يقطع المارن لأن تفويت الجمال به يحصل وكذلك تفويت المنفعة لأن المنفعة في الأنف اجتماع الروائح في قصبة الأنف لنقله منها إلى الدماغ وذلك تفويت بقطع المارن والمارن ما دون قصبة الأنف وهو ما لأن منه.
وكذلك في اللسان الدية لأن الآدمي قد امتاز من بين سائر الحيوانات باللسان وقد من الله تعالى به على عباده فقال تعالى:
{خَلَقَ الْإنْسَان عَلَّمَهُ الْبَيَانََ} [الرحمن: 3 -4] وذلك يفوت بقطع اللسان ففيه تفويت أعظم المقاصد في الآدمي وكذلك في قطع بعض اللسان إذا

 

ج / 26 ص -62-       منع الكلام وإن كان بحيث يمنع بعض الكلام دون البعض فالجواب الظاهر أن فيه حكومة عدل لأنه لم يتم تفويت المقصود بهذا القدر وإنما تمكن فيه نقصان فيجب باعتباره حكومة عدل وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله إن الدية تقسم على الحروف فحصة ما يمكنه أن يصححه من الحروف تسقط عنه وحصة ما لا يمكنه أن يصححه من الحروف تجب عليه ولكن على هذا القول لا يعتبر في القسمة إلا الحروف التي تكون باللسان فأما الهاء والحاء والعين لا عمل للسان فيها فلا يعتبر ذلك في القسمة وفي الكتاب روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في اللسان بالدية وفي الأنف بالدية قال وفي الذكر دية لأن في الذكر تفويت منفعة مقصودة من الآدمي وهي منفعة النسل ومنفعة استمساك البول والرمي به عند الحاجة وكذلك في الحشفة الدية كاملة لأن تفويت المقصود يحصل بقطع الحشفة كما يحصل بقطع جميع الذكر ووجوب الدية الكاملة باعتباره والمعاني التي هي أفراد في البدن العقل والسمع والبصر والذوق والشم ففي كل واحد منها دية كاملة هكذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى لرجل على رجل بأربع ديات بضربة واحدة كان ضرب على رأسه فأذهب عقله وسمعه وبصره ومنفعة ذكره وكان المعنى فيه أن العقل من أعظم ما يختص به الآدمي وبه ينتفع بنفسه في الدنيا والآخرة وبه يمتاز من البهائم فالمفوت له كالمبدل لنفسه الملحق له بالبهائم وكذلك منفعة السمع فإنها منفعة مقصودة بها ينتفع المرء بنفسه وكذلك منفعة البصر فإنها مقصودة.
ألا ترى أن الناس يقولون للذي لا بصر له بمنزلة الميت الذي لم يدفن وكذلك منفعة الشم منفعة مقصودة في البدن ومنفعة الذوق كذلك فتفويتها من وجه استهلاك باعتبار أن فيه منفعة مقصودة فيوجب كمال الدية وكذلك في الصلب الدية كاملة إذا منع الجماع لما فيه من تفويت منفعة مقصودة وهي منفعة النسل وكذلك إذا حدث فإن فيه تفويت جمال كامل لأن الجمال للآدمي في كونه منتصب القامة قيل في معنى قوله تعالى:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] منتصب القامة وذلك يفوت إذا حدب والجمال للآدمي مطلوب كالمنفعة فتفويت الجمال الكامل يوجب دية كاملة فإن عاد إلى حاله ولم ينقصه ذلك شيئا إلا أن فيه أثر الضربة ففيه حكومة عدل لأنه نفى بعض الشيئين ببقاء أثر الضربة فيجب باعتباره حكم عدل ومن هذه الجملة الإفضاء في المرآة إذا كانت بحيث لا تستمسك البول فإنه يوجب كمال الدية لأن فيه تفويت منفعة كاملة لا ثاني لها في البدن وهي منفعة استمساك البول.
وذكر المبرد أن النبي عليه السلام قال:
"في الصعر الدية" وفسر المبرد ذلك بتعويج الوجه وفيه تفويت جمال كامل وأما ما يكون زوجا في البدن ففي قطعهما كمال الدية وفي أحدهما نصف الدية وأصل ذلك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام قال: "في العينين الدية وفي إحداهما نصف الدية وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية" وهكذا روي عن علي رضي الله عنه قال الأعضاء التي هي أزواج في البدن العينان والأذنان الشاخصتان والحاجبان والشفتان واليدان وثديا المرأة والأنثيان والرجلان أما

 

ج / 26 ص -63-       في العينين إذا فقئا الدية كاملة بتفويت الجمال والمنفعة المقصودة وأما في الأذنين الشاخصتين فالدية كاملة لأن في قطعهما تفويت الجمال الكامل وتفويت المنفعة أيضا فإن الأصوات تجتمع فيها وتنفذ إلى الدماغ وبهما تقي الأذى عن الدماغ ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية وكذلك في الحاجبين إذا حلقهما على وجه أفسد المنبت أو نتفهما فأفسد المنبت لأن فيه تفويت جمال كامل فيجب فيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية عندنا خلافا للشافعي رضي الله عنه على ما نبينه في فصول الشعر إن شاء الله.
وفي الشفتين معنى الجمال الكامل والمنفعة الكاملة فبقطعهما تجب الدية كاملة وبقطع إحداهما نصف الدية والعليا والسفلى في ذلك سواء وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال في السفلى ثلثا دية وفي العليا ثلث الدية لأن في العليا جمالا فقط وفي السفلى جمالا ومنفعة وهي استمساك الريق بها.
وكذلك في اليدين فإن منفعة البطش في الآدمي منفعة مقصودة ففي قطعهما تفويت هذه المنفعة وفي قطع إحداهما تنقيصه وكذلك في ثديي المرأة منفعة مقصودة كاملة وهي منفعة رضاع الولد وكما تجب الدية بقطع ثدييها تجب بقطع حلمتيها لأن تفويت المنفعة يحصل بقطع الحلمة كما يحصل بقطع جميع الثدي فهو نظير ما ذكرنا في الحشفة مع الذكر والمارن مع الأنف وفي الأنثيين منفعة مقصودة وهي منفعة الأمناء والنسل ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية.
وفي الرجلين منفعة مقصودة وهي منفعة المشي وانتفاع المرء بنفسه إنما يكون إذا تمكن المرء من المشي فقطع الرجلين بمنزلة استهلاكه حكما وأما ما يكون أرباعا في البدن فهو أشفار العينين يجب في كل شفر ربع الدية ويستوى إن نتف الأهداب فأفسد المنبت أو قطع الجفون كلها بالإشفار لأن تفويت الجمال يتم بذلك وكذلك تفويت المنفعة لأن الأهداب والجفون تقي الأذى عن العينين وتفويت ذلك بنقص من البصر ويكون آخره العمى فيجب فيها كمال الدية وهي أرباع في البدن فتوزع الدية عليها في كل واحدة منها ربع الدية فأما ما يكون أعشارا في البدن كالأصابع يعني أصابع اليدين أو الرجلين فإن قطع أصابع اليد يوجب كمال الدية لما فيها من تفويت منفعة البطش والبطش بدون الأصابع لا يتحقق وفي كل أصبع عشر الدية هكذا روي في حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قال:
"وفي كل أصبع عشر من الإبل" وجميع ما ذكرنا مذكور فيما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم وفيها "وفي كل أصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من الإبل" وهكذا رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر رضي الله عنه في الابتداء يقول في الخنصر ست من الإبل وفي البنصر تسع من الإبل وفي الوسطى عشر وفي السبابة والإبهام خمس وعشرون ثم لما بلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى الحديث فقال الأصابع كلها سواء والذي تبيناه في أصابع اليد كذلك في أصابع الرجل لأن في قطعها تفويت منفعة

 

ج / 26 ص -64-       المشي ومنفعة المشي كمنفعة البطش والصغير والكبير في جميع ما ذكرنا سواء لأن في أعضائه عرضة لهذه المنافع ما لم يصبها آفة ففي تفويتها تفويت المنفعة كما في حق الكبير وأما ما يزيد على ذلك في البدن فهي الأسنان يجب في كل سن نصف عشر الدية لما روينا من الحديث ويستوي في ذلك الأنياب والنواجذ والضواحك والطواحين ومن الناس من فضل الطواحين على الضواحك لما فيها من زيادة المنفعة ولسنا نأخذ بذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في كل سن خمس من الإبل" من غير تفصيل ثم إن كان في بعضها زيادة منفعة ففي بعضها زيادة جمال والجمال في الآدمي كالمنفعة حتى قيل إذا قلع جميع أسنانه فعليه ستة عشر ألفا لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنا فإذا الواجب في كل نصف عشر الدية خمسمائة بلغت الجملة ستة عشر ألفا وليس في البدن جنس يجب بتفويته أكثر من مقدار الدية سوى الأسنان فإن قلع جميع أسنان الكوسج فعليه أربعة عشر ألفا لأن أسنانه ثمانية وعشرون هكذا حكي أن امرأة قالت لزوجها يا كوسج فقال إن كنت كوسجا فأنت طالق فسئل أبو حنيفة رحمه الله عن ذلك فقال تعد أسنانه فإن كانت اثنين وثلاثين فليس بكوسج وإن كانت ثمانية وعشرين فهو كوسج قال وبلغنا عن علي رضي الله عنه قال في الرأس إذا حلق ولم ينبت الدية كاملة وبهذا أخذ علماؤنا رحمهم الله وقال إذا حلق شعر رأس إنسان حتى أفسد المنبت فعليه كمال الدية الرجل والمرأة في ذلك سواء.
وقال الشافعي في شعر الرأس حكومة عدل وكذلك في اللحية إذا حلقت فلم تنبت كمال الدية عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه حكومة عدل لأنه شعر مستمد من البدن بعد كمال الخلقة فلا يتعلق بحلقه كمال الدية كشعر الصدر والساق وهذا لأنه ليس في حلق الشعر تفويت منفعة كاملة إنما فيه فقط تفويت بعض الجمال فإنه يلحقه نوع شين على الوجه الذي لغير الكوسج بقلة شعره ووجوب كمال الدية يعتبر بتفويت منفعة كاملة والدليل عليه أن ما يوجب في الحر كمال الدية يوجب في العبد كمال القيمة وبالاتفاق لو حلق لحية عبد إنسان لا يلزمه كمال القيمة وإن أفسد المنبت وإنما يلزمه النقصان فكذلك في حق الحر.
وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه فإن ما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك لا يستدرك بالرأي والمعنى فيه أنه فوت عليه جمالا كاملا فيلزمه كمال الدية كما لو قطع الأذنين الشاخصتين وبيان ذلك أن في اللحية جمالا كاملا في أوانه وكذلك في شعر الرأس جمال كامل.
ألا ترى أن من عدم ذلك خلقة تكلف لستره وإخفائه ولا شك أن في شعر الرأس جمالا كاملا وبعض المنفعة أيضا فما يحصل لها بالجمال من المنفعة أعظم وجوه المنفعة وكذلك في اللحية والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن لله تعالى ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالقرون والذوائب" ثم تفويت المنفعة يوجب كمال الدية كما إذا ضرب على ظهره حتى انقطع ماؤه فكذلك تفويت الجمال الكامل يوجب كمال الدية،

 

ج / 26 ص -65-       لأن الغرض للعقلاء في الجمال أكثر مما هو في المنفعة بخلاف شعر الصدر والساق فليس في حلقه تفويت جمال كامل فلهذا لم يؤثر ذلك في النقصان فلا يجب شيء فأما في لحية العبد فروايتان روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب كمال القيمة وفي ظاهر الرواية يجب نقصان القيمة وهو نظير الروايتين في قطع الأذنين الشاخصتين من العبد ففي رواية الحسن قال القيمة في العبد كالدية في الحر فما يجب بتفويته كمال الدية في الحر يجب بتفويته كمال القيمة في العبد وفي ظاهر الرواية قال الجمال غير مقصود للمولى من عبده وإنما المقصود منفعة الاستخدام وبحلق لحيته أو قطع الأذنين الشاخصتين منه لا يفوت هذا المقصود فلهذا لا يجب به كمال القيمة فأما الجمال فمقصود في الأحرار وبتفويته يجب كمال الدية.
وتكلموا في حلق لحية الكوسج والأصح في ذلك ما فصله أبو جعفر الهندواني رحمه الله إن كان الثابت على ذقنه شعرات معدودة فليس في حلق ذلك شيء لأن وجود ذلك لا يزينه وربما يشينه وإن كان أكثر من ذلك فكان على الذقن والخد جميعا ولكنه غير متصل ففيه حكومة عدل لأن في هذا بعض الجمال ولكنه ليس بكامل فيجب بتفويته حكومة عدل وإن كان متصلا ففيه كمال الدية لأنه ليس بكوسج وفي لحيته معنى الجمال الكامل وهذا كله إذا فسد المنبت فإن نبت حتى استوى كما كان لا يجب فيه شيء لأنه لم يبق لفعل الجاني أثر فهو بمنزلة الضربة التي لا يبقى أثرها في البدن ولكنه يؤدب على ذلك لارتكاب ما لا يحل له وإن نبتت بيضاء فقد ذكر في النوادر أن عند أبي حنيفة لا يلزمه شيء لأن الجمال يزداد ببياض شعر اللحية وعندهما يجب حكومة عدل لأن بياض الشعر جمال في أوانه فأما في غير أوانه فيشينه فيجب حكومة العدل باعتباره وقد بينا أن في أحد العينين نصف الدية ويستوي الجواب إن انخسفت أو ذهب بصرها وهي قائمة أو ابيضت حتى ذهب البصر لأن المنفعة المقصودة من العين تفوت في هذا كله وقيل ذهاب البصر بمنزلة فوات العين فلا معتبر ببقائها بعد ما ذهب البصر.
ألا ترى أن من خنق إنسانا حتى مات عليه كمال الدية وإن كانت النفس باقية على حالها وكذلك اليد إذا شلت حتى لا ينتفع بها ففيها أرشها كاملا إما لأن الشلل دليل موتها أو لأن ما هو المقصود وهو منفعة البطش تحقق فواته بصفة الكمال فهو وما لو قطعت اليد سواء في إيجاب الأرش.
قال: وفي الموضحة نصف عشر الدية والكلام في معرفة الشجاج أن يقول الشجاج الخارصة وهي التي تشق الجلد ومنه يقال حرص القصار الثوب ثم الدامغة وهي التي يخرج منها قدر الدمع من الدم ثم الدامية وهي التي يخرج منها قدر الدمع من الدم ثم الباضعة وهي التي تبضع بعض اللحم ثم المتلاحمة وهي التي تقطع أكثر اللحم وروي عن محمد رحمه الله أن المتلاحمة قبل الباضعة وهو اختلاف في مأخذ الكلم لا في الحكم فمحمد،

 

ج / 26 ص -66-       رحمه الله ذهب إلى أن المتلاحمة مأخوذة من قولك التحم الشيئان إذا اتصل أحدهما بالآخر والمتلاحمة ما تظهر اللحم ولا تقطعه والباضعة بعدها وفي ظاهر الرواية المتلاحمة ما تعمل في قطع أكثر اللحم فهي بعد الباضعة ثم السمحاق وهي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم فتلك الجلدة تسمى سمحاقا ومنه سمى العظم الرقيق سماحيق ثم الموضحة وهي التي توضح العظم حتى يبدو ثم الهاشمة وهي التي تكسر العظم ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظم أو تجعل العظم كالنقلة وهي كالحصى ثم الآمة وهي التي تظهر الجلد بين العظم والدماغ وتسمى تلك الجلدة أم الرأس ثم الدامغة وهي التي تجرح الدماغ إلا أن محمدا رحمه الله لم يذكر الدامغة لأن النفس لا تبقى بعدها عادة فيكون ذلك قتلا لا شجة ولم يذكر الحارصة والدامية لأن الظاهر أنه لا يبقى لهما أثر وبدون بقاء الأثر لا يجب شيء فأما بيان الأحكام فنقول أما في الموضحة فيجب نصف عشر الدية هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "في الموضحة خمس من الإبل" وهكذا روي في حديث عمرو بن حزم وفيما يرويه سعيد بن المسيب وهذا إذا كانت الموضحة خطأ فإن كانت عمدا ففيها القصاص لأن اعتبار المساواة فيها ممكن فإن عملها في اللحم دون العظم والجنايات فيما دون النفس توجب القصاص إذا أمكن اعتبار المساواة فيها فأما قبل الموضحة من الشجاج ففيها حكومة عدل إذا كانت خطأ.
وكذلك إن كانت عمدا في رواية الحسن عن أبي حنيفة فإنه لا قصاص فيما دون الموضحة لأنه يتعذر اعتبار المساواة فيها من حيث المقدار فربما يبقى من أثر فعل الثاني فوق ما يبقى من أثر فعل الأول وفي ظاهر الرواية يقول فيها القصاص لأن عملها في الجلد أعظم والمساواة فيها ممكنة بأن يسبر غورها بالمسبار ثم يتخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع وإيجاب حكومة العدل في هذه الشجاج مروي عن إبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز رحمهما الله قالا ما دون الموضحة من الشجاج بمنزلة الخدوش ففيها حكومة عدل وقد جاء في الحديث أن عليا رضي الله عنه قضى في السمحاق بأربع من الإبل وإنما يحمل على أن ذلك كان مقدار حكومة عدل ثم اختلف المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله في معرفة حكومة العدل فقال الطحاوي السبيل في ذلك أن يقوم لو كان مملوكا بدون هذا الأثر ويقوم مع هذا الأثر ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين كم هو فإن كان بقدر نصف العشر يجب نصف عشر الدية وإن كان بقدر ربع العشر يجب ربع عشر الدية وكان الكرخي يقول هذا غير صحيح فربما يكون نقصان القيمة بالشجاج التي قبل الموضحة أكثر من نصف العشر فيؤدي هذا القول إلى أن يوجب في هذه الشجاج من الدية فوق ما أوجبه الشرع في الموضحة وذلك لا يجوز ولكن الصحيح أن ينظركم مقدار هذه الشجة من نصف عشر الدية لأن وجوب نصف فعشر الدية ثابت بالنص وما لا نص فيه يرد إلى المنصوص عليه باعتبار المعنى فيه فأما في الهاشمة عشر الدية وفي المنقلة عشر ونصف عشر الدية وفي

 

ج / 26 ص -67-       الآمة ثلث الدية وتسمى المأمومة أيضا وذلك فيما كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم قال: "في الهاشمة عشر من الإبل وفي المنقلة خمسة عشر وفي الآمة ثلث الدية" والجائفة كالآمة يجب فيها ثلث الدية لأن الجائفة واصلة إلى أحد الجوفين وهو جوف البطن فتكون كالواصلة إلى جوف الرأس وهي الدماغ وإن نفذت الجائفة ففيها ثلث الدية لأنها بمنزلة الجائفتين إحداهما من جانب البطن والأخرى من جانب الظهر فيجب في كل واحدة منهما ثلث الدية وفي كل مفصل من الأصابع ثلث دية الأصبع إذا كان فيها ثلاثة مفاصل وإن كان فيها مفصلان ففي كل مفصل نصف دية الأصبع لأن المفاصل للأصبع كالأصابع لليد فكما أن دية اليد تتوزع على الأصابع على التساوي فكذلك دية الأصبع تتوزع على المفاصل على التساوي فالأصبع إذا كانت ذات مفصلين كالإبهام فإنه يجب في كل مفصل نصف دية الأصبع وإذا كانت ذات ثلاث مفاصل ففي كل مفصل ثلث دية الأصبع وذلك مروي عن علي وابن عباس قالا لا يفضل شيء منها على شيء وابن مسعود قال في دية الخطأ أخماسا عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون بن مخاض والكلام ها هنا في فصول أحدها أنه لا خلاف أن الدية من الإبل مائة على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" واختلفوا في أن الدراهم والدنانير في الدية أصل أم باعتبار قيمة الإبل فالمذهب عندنا أنهما أصل وفي قول الشافعي يدخلان على وجه قيمة الإبل وتتفاوت بتفاوت قيمة الإبل.
ويحكى عن أبي بكر الرازي أنه كان يقول أولا وجوبهما على سبيل قيمة الإبل ولكنهما قيمة مقدرة شرعا بالنص فلا يزاد عليها ولا ينقص عنها ثم رجع عن ذلك وقال هما أصلان في الدية واحتج الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل قيمة كل بعير أوقية ثم غلب الإبل فصارت قيمة كل بعير أوقية ونصفا ثم غلبت فصارت قيمة كل بعير أوقيتين فما زالت تعلو حتى جعلها عمر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام:
"قضى في الدية بمائة من الإبل قيمتها أربعة آلاف درهم أو أربعمائة دينار" وحجتنا في ذلك حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قال "دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار" وذكر الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب لما دون الدواوين جعل الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وقضاؤه ذلك كان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع منهم والمعنى فيه أن للقاضي أن يقضي بالدية من الدراهم أو الدنانير مؤجلا في ثلاث سنين.
فلو كان الأصل في الدية الإبل وهي دين والدراهم والدنانير بدل عنها كان هذا دينا بدين ونسيئة بنسيئة وذلك حرام شرعا يوضحه أن الآدمي حيوان مضمون بالقيمة كسائر

 

ج / 26 ص -68-       الحيوانات والأصل في القيمة الدراهم والدنانير إلا أن القضاء بالإبل كان بطريق التيسير عليهم لأنهم كانوا أرباب الإبل وكانت النقود تتعسر منهم ولأنهم كانوا يستوفون الدية على أظهر الوجوه ليندفع بها بعض الشر عنهم وذلك في الإبل أظهر منه في النقود فكانت بخلاف القياس بهذا المعنى ولكن لا يسقط بها ما هو الأصل في قيمة المتلفات.
ثم لا خلاف أن الدية في الخطأ من الإبل تجب أخماسا كما ذكره بن مسعود والسن الخامس عندنا بن مخاض وعند الشافعي بن لبون فمذهبنا مروي عن عمر وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم واحتج الشافعي بما روي أن النبي عليه السلام قضى في الدية بمائة من إبل الصدقة يعني من الأسنان التي تؤخذ في الصدقة وابن مخاض لا مدخل له في الصدقة ولابن اللبون مدخل قال عليه السلام:
"في خمس وعشرين بنت مخاض فإن لم يكن فابن لبون" وحجتنا في ذلك حديث حذيفة بن مالك الطائي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دية الخطأ أخماس عشرون جذعة وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض".
وقال عليه السلام:
"في النفس المؤمنة مائة من الإبل" واسم الإبل مطلقا يتناول أدنى ما يكون منه وابن المخاض أدنى من ابن اللبون ولأن الشرع جعل ابن اللبون بمنزلة بنت المخاض في الزكاة فإيجاب ابن اللبون ها هنا في معنى إيجاب أربعين من بنت المخاض وذلك لا يجوز بالإجماع.
فأما الحديث الذي رواه فالمراد إعطاء الدية من إبل الصدقة على وجه التبرع عن عاقلة القاتل لحاجتهم لا أن يكون المراد من الأسنان التي توجد في الصدقة ثم بن المخاض يدخل في الصدقة عندنا على الوجه الذي يدخل بن اللبون لأن بن اللبون عندنا يستوفي باعتبار القيمة فكذلك ابن المخاض.
وأما في شبه العمد فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف تجب مائة من الإبل أرباعا خمسة وعشرون ابنة مخاض وخمس وعشرون بنت بن لبون وخمسة وعشرون حقة وخمسة وعشرون جذعة وهو قول بن مسعود وقال الشافعي ومحمد تجب أثلاثا ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل وكلها خلفة والخلفة هي الحامل وهو قول عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وقال علي رضي الله عنه تجب أثلاثا ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة وقال عثمان رضي الله عنه تجب أثلاثا من هذه الأسنان من كل سن ثلاثة وثلاثون.
واحتج محمد والشافعي بحديث النعمان بن بشير أن النبي عليه السلام قال في خطبة عام حجة الوداع
"ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها" وعن عمر أنه قضى بذلك في شبه العمد وقضاؤه كان بمحضر من الصحابة وأبو حنيفة وأبو يوسف احتجا بحديث السائب بن يزيد: "أن النبي عليه السلام قضى في الدية

 

ج / 26 ص -69-       بمائة من الإبل أرباعا", ومعلوم أنه لم يرد به الخطأ لأنها في الخطأ تجب أخماسا فعرفنا أن المراد به شبه العمد.
وقال في النفس المؤمنة مائة من الإبل والمراد به أدنى ما يكون منه وما قلناه أدنى والمعنى فيه أنه إنما تجب الدية عوضا عن المقتول والحامل لا يجوز أن تستحق في شيء من المعاوضات فكذلك لا تستحق في الدية لوجهين أحدهما أن صفة الحمل لا يمكن الوقوف على حقيقتها والثاني أن الجنين من وجه كالمنفصل فيكون هذا في معنى إيجاب الزيادة على المائة عددا وبالاتفاق صفة التغليظ ليست من حيث العدد بل من حيث السينما.
ثم الديات تعتبر بالصدقات والشرع نهى عن أخذ الحوامل في الصدقات لأنها كرائم أموال الناس فكذلك في الديات وهذا لأن شبه العمد يجب على العاقلة بطريق الصلة منهم للقاتل بمنزلة الصدقات فأما الحديث الذي روي فلا يكاد يصح لأن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع كان بمحضر من جماعة من الصحابة ولم يرو هذا الحديث إلا النعمان بن بشير وهو في ذلك الوقت كان في عداد الصبيان وقد خفي الحديث على كبار الصحابة حتى اختلفوا بينهم على أقاويل كما بينا ولم تجر المحاجة بينهم بالحديث فلو كان صحيحا لما اختلفوا مع هذا النص ولا احتج به بعضهم على بعض.
ومن أصل أبي حنيفة أن العام المتفق على قبوله أولى بالأخذ به من مثل هذا الخاص ولا خلاف أن صفة التغليظ في الدية لا تثبت إلا في أسنان الإبل وبه يستدل الشافعي على أن الأصل في الدية الإبل فقط ولكنا نقول ما عرفنا صفة التغليظ إلا بالنص فإن الدية بدل عن المتلف ولا يختلف التلف بالخطأ وشبه العمد وإنما نثبت صفة التغليظ بما ورد به الشرع خاصة قال وبلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جعل الدية على أهل الإبل مائة وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الحلل مائتي حلة والحلة اسم لثوبين وبه نأخذ فنقول الدية من الدراهم تتقدر بعشرة آلاف درهم مما تكون الفضة فيها غالبة على الغش وقد بينا ذلك في كتاب السرقة وقال مالك والشافعي من الدراهم اثنا عشر ألف درهم لحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال:
"من سبح في كل يوم وليلة مثل ديته اثني عشر ألف تسبيحة فكأنما حرر رقبة من ولد إسماعيل".
وفي كتاب عمرو بن حزم:
"أن النبي عليه السلام جعل الدية من الدراهم اثني عشر ألفا" ولأنه لا خلاف أنها من الدنانير ألف دينار وكانت قيمة كل دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما بيانه في حديث السرقة فإنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم بعد ما قال: "القطع في ربع دينار" وإنما يكون ثلاثة دراهم ربع دينار إذا كانت قيمة كل درهم اثني عشر درهما وحجتنا في ذلك حديث دهثم أن رجلا قطع يد رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى عليه بنصف الدية خمسة آلاف درهم وقضى عمر رضي الله عنه في تقدير الدية بعشرة

 

ج / 26 ص -70-       آلاف وقد كان بمحضر من الصحابة ولم يحتج عليه أحد منهم بحديث بخلاف ذلك فلو كان فيه حديث صحيح خلاف ما قضى به عمر لما خفي عليهم ولما تركوا المحاجة به ثم المقادير لا تعرف بالرأي فما نقل عن عمر من التقدير بعشرة آلاف درهم ومساعدة الصحابة معه على ذلك بمنزلة اتفاق جماعتهم على رواية هذا المقدار عن صاحب الشرع عليه السلام ولأن الدية من الدنانير ألف دينار وقد كانت قيمة كل دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم بدليل النص المروي في نصاب السرقة حيث قال لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم.
وقال علي رضي الله عنه حين ضجر من أصحابه ليت لي بكل عشرة من أهل العراق واحدا من أهل الشام صرف الدنانير بالدراهم ونصاب الزكاة منهما على أن قيمة كل دينار كانت عشرة دراهم.
ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا بظاهر حديث عمر وقالا الدية من الأصناف الستة فإن عمر رضي الله عنه جعلها من هذه الأصناف وقدر كل صنف منه بمقدار ومعلوم أنه ما كان يتفق القضاء بذلك كله في وقت واحد فعرفنا أن المراد بيان المقدار من كل صنف وأبو حنيفة قال الدية من الإبل والدراهم والدنانير وقد اشتهرت الآثار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخذ عمر من البقر والغنم والحلل في الابتداء لأنها كانت أموالهم فكان الأداء منها أيسر عليهم وأخذها بطريق التيسير عليهم فظن الراوي أن ذلك كان منه على وجه بيان التقدير للدية في هذه الأصناف فلما صارت الدواوين والإعطاءات جل أموالهم الدراهم والدنانير والإبل فقضي بالدية منها ثم لا مدخل للبقر والغنم في قيمة المتلفات أصلا فهي بمنزلة الدور والعبيد والجواري وهكذا كان ينبغي أن لا تدخل الإبل إلا أن الآثار اشتهرت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركنا القياس بذلك في الإبل خاصة.
وقد ذكرنا في كتاب المعاقل ما يدل على أن قول أبي حنيفة كقولهما فإنه قال صالح الولي من الدية علي أكثر من ألفي شاة أو علي أكثر من مائتي بقرة أو علي أكثر من مائتي حلة لا يجوز الصلح فهذا دليل على أن هذه الأصناف في الدية أصول مقدرة عنده كما هي عندهما قال وبلغنا عن علي أنه قال في دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وما دونها وبه نأخذ وقال بن مسعود هكذا إلا في أرش الموضحة وأرش السن فإنها تستوي في ذلك بالرجل وكان زيد بن ثابت يقول أنها تعادل الرجل إلى ثلث ديتها يعني إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دون ذلك فالرجل والمرأة فيه سواء فإن زاد على الثلث فحينئذ حالها فيه على النصف من حال الرجل وبيانه فيما حكى عن ربيعة قال قلت لسعيد بن المسيب ما تقول فيمن قطع أصبع امرأة قال عليه عشر من الإبل قلت فإن قطع أصبعين منها قال عليه عشرون من الإبل قلت فإن قطع ثلاثة أصابع قال عليه ثلاثون من الإبل قلت فإن قطع أربعة أصابع منها قال عليه عشرون من الإبل قلت سبحان الله لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها قال أأعرابي أنت فقلت لا بل جاهل مسترشد أو عاقل

 

ج / 26 ص -71-       مستفت فقال إنه السنة فبهذا أخذ الشافعي وقال السنة إذا أطلقت فالمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروون حديثا أن النبي عليه السلام قال:
"تعادل المرأة الرجل إلى ثلث الدية" وحجتنا في ذلك ما ذكره ربيعة فإنه لو وجب بقطع ثلاثة أصابع منها ثلاثون من الإبل ما سقط بقطع الأصبع الرابع عشر من الواجب لأن تأثير القطع في إيجاب الأرش لا في إسقاطه فهذا معني يحيله العقل ثم بالإجماع بدل نصفها على النصف من بدل نفس الرجل والأطراف تابعة للنفس وإنما تكون تابعة إذا أخذنا حكمها من حكم النفس إلا إذا أفردناها بحكم آخر.
وقول سعيد: أنه السنة يعني سنة زيد وقد أفتى كبار الصحابة بخلافه والحديث الذي رووا نادر ومثل هذا الحكم الذي يحيله عقل كل عاقل لا يمكن إثباته بالشاذ النادر وأما بن مسعود فكان يقول في التسوية بينهما في أرش السن والموضحة استدلالا بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين فإنه قضى بغرة عبد أو أمة قيمتها خمسمائة ويسوى بين الذكر والأنثى في ذلك وبدل الجنين نصف عشر الدية فلهذا سوى بينهما في مقدار نصف عشر الدية وذلك أرش السن والموضحة ولكنا نقول في الجنين إنما قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يتعذر الوقوف على صفة الذكورة والأنوثة في الجنين خصوصا إذا لم يتم خلقه ولأن الوجوب هناك باعتبار قطع السر فقط والذكر والأنثى في ذلك سواء وها هنا الوجوب باعتبار صفة المالكية وحال الأنثى فيه على النصف من حال الذكر فالذكر أهل لمالكية النكاح والمال جميعا والأنثى أهل لمالكية المال دون النكاح على ما نبينه وفي هذا أرش الموضحة وما زاد على ذلك سواء.
قال: وفي ذكر الخصي ولسان الأخرس واليد الشلاء والرجل العرجاء والعين القائمة العور والسن السوداء وذكر العنين حكم عدل بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لأن إيجاب كمال الأرش في هذه الأعضاء باعتبار تفويت المنفعة الكاملة وذلك لا يوجد لأن منافع هذه الأعضاء كانت فائتة قبل جنايته.
ألا ترى أن من ضرب على يد إنسان حتى شلت أو على عينه حتى ذهب بصره يجب عليه الأرش فلولا تفويت المنفعة لما حل بها لما لزمه كمال الأرش فلو أوجبنا بالقطع بعد ذلك أرشا كاملا مرة أخرى أدى إلى إيجاب أرشين كاملين عن عضو واحد وقال مالك رضي الله عنه يجب في هذه المواضع الأرش كاملا ونقول في قطعها تفويت الجمال الكامل والجمال مطلوب من الآدمي كالمنفعة بل الجمال يرغب فيه العقلاء فوق رغبتهم في المنفعة ولكنا نقول في الأعضاء التي يكون فيها المقصود المنفعة والجمال تبع فباعتباره لا تتكامل الجناية في الأرش ثم في العين القائمة العوراء جمال عند من لا يعرف حقيقة الحال فأما عند من يعرف ذلك فلا فعرفنا أن معنى الحال في هذه الأعضاء غير كاملة بعد فوات المنفعة فلوجود بعض الجمال فيها أوجبنا حكم عدل فلانعدام الكمال فيها لا يوجب كمال الأرش

 

ج / 26 ص -72-       وفي الضلع حكم عدل وفي الساعد إذا كسر أو كسر أحد الزندين حكم عدل وفي الساق إذا انكسرت حكم عدل وفي الترقوة حكم عدل على قدر الجراحة والحاصل أنه لا قصاص في شيء من العظام إذا كسرت إلا في السن خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قصاص في العظم" لأن القصاص ينبني على المساواة ولا تتحقق المساواة في كسر العظم لأنه لا ينكر من الموضع الذي يراد كسره وبدون اعتبار المماثلة لا يجب القصاص فإذا تعذر إيجاب القصاص وليس فيها أرش مقدر كان الواجب فيها حكم عدل فأما في السن فيجب القصاص وهو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قضى في القصاص في السن" وبين الأطباء كلام في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس فمنهم من ينكر كون السن عظما لأنه يحدث وينمو بعد تمام الخلقة ويلين بالحل فعلى هذا لا حاجة إلى الفرق بينه وبين سائر العظام متى ثبت أنه ليس بعظم.
ولئن قلنا: أنه عظم وفي سائر العظام لتعذر اعتبار المساواة لا يجب القصاص وذلك لا يوجد ها هنا لأنه يمكن أن يبرد بالمبرد بقدر ما كسر منه.
وكذلك إن كان قلع السن فإنه لا يقلع منه قصاصا لتعذر اعتبار المماثلة فيه فربما تفسد به لهاته ولكن يبرد بالمبرد إلى موضع أصل السن فأما إذا كان خطأ فالواجب فيه الأرش كما بينا وهو المعنى في الفرق بينه وبين سائر العظام لأنه ليس لسائر العظام أرش مقدر وإنما يجب القصاص فيما يكون له أرش مقدر شرعا ولهذا قلنا: في أصح الروايتين على ما ذكره الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لا قصاص فيما دون الموضحة لأنه ليس فيه أرش مقدر شرعا.
ثم إن ضرب على سنه حتى اسودت أو احمرت أو اخضرت فعليه أرش السن كاملا لأن الجمال والمنفعة يفوت بذلك وقال السواد في السن دليل موتها فإذا اصفرت فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل وذكر هشام في نوادره عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل وفي الحر لا شيء وفي المملوك حكم عدل وعن محمد رحمه الله فيها حكم عدل وهو قول أبي يوسف لأن الجمال على الكمال في بياض السن فبالصفرة ينقص معنى الجمال فيها ولهذا يجب في المملوك حكم عدل فكذلك في الحر وأبو حنيفة رحمه الله يقول الصفرة من ألوان السن فلا يكون دليل موت السن والمطلوب بالسن في الأحراز المنفعة وهي قائمة بعد ما اصفرت فأما حق المولى في المملوك فالمالية وقد تنتقص باصفرار السن وعلى هذا لو قلع سن فنبتت صفراء أو نبتت كما كانت فلا شيء عليه في ظاهر الرواية لأن وجوب الأرش باعتبار فساد المنبت وحين نبتت كما كانت عرفنا أنه ما فسد المنبت ثم وجوب الأرش باعتبار بقاء الأثر ولم يبق أثر حين نبتت كما كانت.
وقد روي عن محمد في الجراحات التي تندمل على وجه لا يبقي لها أثر تجب حكومة بقدر ما لحقه من الألم وعن أبي يوسف رحمه الله يرجع على الجاني بقدر ما احتاج إليه

 

ج / 26 ص -73-       من ثمن الدواء وأجرة الأطباء حتى اندملت وأبو حنيفة رحمه الله قال لا يجب شيء لأنه لا قيمة لمجرد الألم.
ألا ترى أن من ضرب ضربة تألم بها ولم يؤثر فيه شيء لا يجب شيء أرأيت لو شتمه شتيمة أكان عليه أرش باعتبار إيلام حل فيه قال وفي اليد إذا قطعت من نصف الساعد دية اليد وحكم عدل فيما بين الكف إلى الساعد وإن كان من المرفق كان في الذراع بعد دية اليد حكم عدل أكثر من ذلك وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يجب فيه إلا أرش اليد إذا قطعها من نصف الساعد وكذلك روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيما إذا قطعها من المنكب أنه لا يجب إلا أرش اليد واحتج في ذلك بقوله عليه السلام:
"وفي اليدين الدية وفي أحدهما نصف الدية" واليد اسم للجارحة من رؤوس الأصابع إلى الآباط وقد روينا في حديث عمران بن جارنة: "أن النبي عليه السلام قضى على قاطع اليد بنصف الدية خمسة ألاف" من غير تفصيل وقد روي في بعض الروايات أنه قطعها من نصف الساعد ولأن الساعد ليس له أرش مقدر فيكون تبعا لما له أرش مقدر كالكف فإن بالإجماع يجب نصف الدية بقطع الأصابع.
ثم لو قطع الكف مع الأصابع لا يلزمه إلا نصف الدية وتجعل الكف تبعا للأصابع لهذا المعنى فكذلك إذا قطع من نصف الساعد أو المرفق أو المنكب لأنه ليس من هذه الأعضاء بدل مقدر سوى الأصابع.
ألا ترى أنه لو قطع المارن أو الحشفة يلزمه الدية ولو قطع جميع الأنف أو جميع الذكر لا يجب عليه أكثر من دية واحدة وأبو حنيفة ومحمد قالا ما زاد على الكف من الساعد إما أن يجعل تبعا للأصابع أو الكف ولم يمكن جعله تبعا للأصل لأن الكف حائل بينه وبين الأصابع والتابع ما يكون متصلا بالأصل ولا يمكن جعله تبعا للكف لأن الكف في نفسه تبع للأصابع ولا تبع للتبع فإذا تعذر جعله تبعا ولا يجوز إهداره عرفنا أنه أصل بنفسه وليس فيه أرش مقدر فيجب حكم عدل كما لو قطع يده من المفصل أولا فبرأت ثم عاد فقطع الساعد ولا حجة في الحديثين لأن اليد إذا ذكرت في موضع القطع فالمراد به من مفصل الزند بدليل آية السرقة والذي روى أن القطع كان من نصف الساعد شاذ لا يعتمد على مثله في الأحكام فإذا كسر الأنف ففيه حكم عدل لما أن كسر الأنف جناية ليس فيها أرش مقدر فيجب فيها حكم عدل ككسر الساعد والساق فإن قطع اليد وفيها ثلاثة أصابع فعليه ثلاثة أخماس دية اليد ويدخل أرش الكف في أرش الأصابع ها هنا بالاتفاق لأن أكثر الأصابع لما كانت قائمة جعل كقيام جميعها فيكون الكف تابعا لها وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع فأما إذا كان على الكف أصبعان أو أصبع فقطع الكف فعند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه أرش ما كان قائما من الأصابع ويدخل أرش الكف في ذلك.
وعند أبي يوسف ومحمد ينظر إلى أرش ما بقي من الأصابع وإلى أرش الكف وهو

 

ج / 26 ص -74-       حكومة عدل فأيهما كان أكثر يدخل الأقل فيه لأن أكثر الأصابع ها هنا فائتة فيجعل ذلك كفوات الكل.
ولو قطع الكف وليس عليها شيء من الأصابع كان عليه حكم عدل فهذا مثله وهذا لأن ببقاء أكثر الأصابع تبقى منفعة البطش وإن كان يتمكن فيها نقصان فيعتبر تفويت ذلك في إيجاب الأرش وأما ببقاء أصبع واحد فلا يبقى منفعة البطش ولا يمكن اعتبار ذلك في إيجاب الأرش فيجب حكم عدل إلا أنه لا بد من اعتبار أرش الأصبع المقطوعة بالنص ومن اعتبار حكومة العدل في الكف لما قلنا: ولا وجه إلى الجمع بينهما بالإتلاف فاعتبرنا الأكثر منهما فجعلنا الأقل تابعا للأكثر وهو أصل في الشرع في باب الأرش وأبو حنيفة يقول أرش الأصبع مقدر شرعا وليس للكف أرش مقدر شرعا وما ليس بمقدر شرعا يجعل تبعا لما هو مقدر شرعا ولهذا جعل الكف تبعا لجميع الأصابع وهذا لمعنيين أحدهما أن المقدر شرعا ثابت بالنص وما ليس فيه تقدير فهو ثابت بالرأي والرأي لا يعارض النص والمصير إلى الترجيح بالكثرة عند المساواة في القوة والثاني أن المصير إلى الرأي والتقويم لأجل الضرورة وهذه الضرورة لا تتحقق عند إمكان إيجاب الأرش المقدر بالنص.
وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان إحداهما: أنه كان يقول أولا عليه أرش الأصبع وحكومة العدل في الكف يجمع بينهما لأن جعل الكف تبعا للأصابع باعتبار أن معنى البطش يكون بهما وذلك لا يوجد في الأصبع الواحد ولا يمكن جعل الأصبع تبعا للكف لأن للأصبع أرشا مقدرا شرعا فلا يجوز النقصان عن ذلك بالرأي فإذا لم يمكن اتباع أحدهما الآخر كان كل واحد منهما أصلا فيجب أرشهما وعنه في رواية أخرى أنه يلزمه أرش الأصبع القائمة وموضعها من الكف يكون تبعا له ويلزمه حكومة عدل فيما وراء ذلك من الكف لأن الأصابع لو كانت قائمة كان موضع كل أصبع من الكف تبعا لذلك الأصبع فعند قيام البعض يعتبر البعض بالكل ثم في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة وإن لم يبق إلا مفصل من أصبع فإنه يجب أرش ذلك المفصل ويجعل الكف تبعا له لأن أرش ذلك المفصل مقدر شرعا وما بقي شيء من الأصل فإن قل فلا حكم للتبع كما إذا بقي واحد من أصحاب الخطة من المحلة لا يعتبر السكان.
وروى الحسن عن أبي حنيفة قال إذا كان الباقي دون أصبع فإنه يعتبر فيه الأقل والأكثر فيدخل الأقل في الأكثر لأن أرش الأصبع منصوص عليه فأما أرش كل مفصل فغير منصوص عليه وإنما اعتبرنا ذلك بالمنصوص عليه بنوع رأي وكونه أصلا باعتبار النص فإذا لم يرد النص في أرش مفصل واحد اعتبرنا فيه الأقل والأكثر لما بينا ولكن الأول أصح.
قال: وفي ثدي الرجل حكم عدل ويسمى الثندوة أيضا لأنه ليس فيه منفعة مقصودة ولا جمال كامل فإنه مستور بالثياب عادة لكن فيه بعض الجمال وفيما يبقى من أثره بعد القطع بعض الشين فيجب بحكم عدل باعتباره وفي الأذن إذا يبست أو انخسفت وربما تقول

 

ج / 26 ص -75-       انخنست حكم عدل لأن المنفعة المقصودة لا تفوت به وهو إيصال الصوت إلى الصماخ وكذلك لا يفوت به الجمال كله بل يتمكن فيه النقصان لأجله يجب حكم عدل.
قال: وبلغنا عن إبراهيم أنه لا تعقل العاقلة إلا خمسمائة درهم فصاعدا وبه نأخذ وكل شيء من الخطأ يبلغ نصف عشر دية الرجل خمسمائة أو نصف عشر دية المرأة مائتين وخمسين فهذا على العاقلة في شبه العمد وما دون ذلك في مال الجاني حالا لحديث بن عباس موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة" ولأن ما دون أرش الموضحة في معنى ضمان المال فإنه لا يجب إلا باعتبار التقويم وهو غير مقدر شرعا وضمان الجناية إنما يفارق ضمان المتلفات في كونه مقدرا شرعا وأدنى ذلك أرش الموضحة فما دون ذلك بمنزلة ضمان المتلفات فيكون عليه حالا في ماله وأرش الموضحة فما زاد عليه إلى ثلث الدية يكون على العاقلة مؤجلا في سنة واحدة فإن زاد على ذلك أخذ الفضل في سنة أخرى إلى تمام الثلثين فإن زاد على الثلثين أخذ ذلك الفضل في السنة الثالثة إلى تمام الدية.
بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من فرض العطاء وجعل الدية في ثلاث سنين الثلث في سنة والنصف في سنتين والثلثين في سنتين وقد ثبت باتفاق العلماء التأجيل في جميع الدية إلى ثلاث سنين وأنه يستوفي كل ثلث في سنة ولما ثبت التأجيل في ثلث الدية سنة واحدة ثبت في أبعاض ذلك الثلث مما يكون في معناه اعتبارا للبعض بالكل وكذلك الثلث الثاني لما ثبت التأجيل في جميعه السنة الثانية فكذلك في أبعاضه.
قال: ودية أهل الذمة من أهل الكتاب وغيرهم مثل دية المسلمين رجالهم كرجالهم ونساؤهم كنسائهم وكذلك جراحاتهم وجناياتهم بينهم وما دون النفس في ذلك سواء فإن كانت لهم معاقل يتعاقلون على عواقلهم وإن لم يكن لهم معاقل ففي مال الجاني وهذا لأنهم بعقد الذمة التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت فيما بينهم من الحكمة ما هو ثابت بين المسلمين وديتهم مثل دية أحرار المسلمين عندنا.
وقال مالك: دية الكتابي على النصف من دية المسلم وهو أحد قولي الشافعي وقال في قول آخر دية الكتابي على الثلث من دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم استدلالا بالآيات الدالة على نفي المساواة بين المسلمين والكفار لقوله تعالى:
{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] ولقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وقال عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فدل أن دماء غيرهم لا تكافئ دماءهم وفي حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قضى في دية الكتابي بثلث دية المسلم وفي رواية بنصف دية المسلم.
وعن عمر أنه قضى في دية المجوسي بثمانمائة درهم ولأن نقصان الكفر فوق نقصان الأنوثة وإذا كانت الدية تنقص بصفة الأنوثة فبالكفر أولى وإنما انتقصت بصفة الأنوثة لنقصان

 

ج / 26 ص -76-       دين النساء كما وصفهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنهن ناقصات عقل ودين".
وتأثير عدم الدين فوق تأثير نقصان الدين يدل عليه أن بدل النفس ينتقص بالرق والرق أثر من آثار الكفر وأثر الشيء دون أصله فلأن ينتقص بأصل الكفر كان أولى ويتفاحش النقصان إذا انضم إلى كفره عدم الكتاب نسبة فتناهى النقصان نسبة حتى لا يوجب إلا ما قضى به عمر رضي الله عنه وهو ثمانمائة درهم.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] والمراد منه ما هو المراد من قوله في قتل المؤمن ودية مسلمة إلى أهله.
وفي حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكانا مستأمنين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرين مسلمين وقال عليه السلام:
"دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار".
وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا دية الذمي مثل دية الحر المسلم وقال علي رضي الله عنه إنما أعطيناهم الذمة وبذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا وما نقلوا فيه من الآثار بخلاف هذا لا يكاد يصح فقد روي عن معمر رضي الله عنه قال سألت الزهري عن دية الذمي فقال مثل دية المسلم فقلت إن سعيدا يروي بخلاف ذلك قال ارجع إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فهذا بيان أن الرواية الشاذة لا تقبل فيما يدل على نسخ الكتاب ثم تأويله أنه قضى بثلث الدية في سنة واحدة فظن الراوي أن ذلك جميع ما قضى به وعند تعارض الأخبار يترجح المثبت للزيادة وقوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" لا يدل على أن دماء غيرهم لا تكافئهم فتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه والمراد بالآثار نفي المساواة بينهما في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا فإنا نرى المساواة بيننا وبينهم في بعض أحكام الدنيا ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الله تعالى والكلام من حيث المعنى في المسألة من وجهين: أحدهما: أن أهل الذمة يستوون بالمسلمين في صفة المالكية فيستوون بهم في الدية كالفساق مع العدول وهذا لأن نقصان الدية باعتبار نقصان المالكية ولهذا تنصفت بالأنوثة لتنصف المالكية فإن المرأة أهل ملك المال دون ملك النكاح وانتقص عن ذلك بصفة الاجتنان في البطن لأنه ليس بأهل للمالكية في الحال وإن كان فيه عرضية أن يصير أهلا في الثاني وانتقص بنقصان الرق بخروجه من أن يكون أهلا لمالكية المال ومالكية النكاح بنفسه وهذا لأن وجوب الدية لإظهار خطر المحل وصيانته عن الهدر وهذا الخطر باعتبار صفة المالكية وبصفة المملوكية يصير متبدلا إذا ثبت هذا فنقول لا تأثير للكفر وعدم الكتاب في نقصان المالكية فتستوي دية الكافر بدية المسلم.
والثاني: أن وجوب الدية باعتبار معنى الإحراز والإحراز يكون بالدار لا بالدين،

 

ج / 26 ص -77-       والإحراز بالدين من حيث اعتقاد الحرمة وإنما ظهر ذلك في حق من نعتقده دون ما لا نعتقد فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيظهر في حق أهل الكتاب وأهل الذمة ساووا المسلمين في الإحراز بالدار ولهذا يستوي بينهم وبين المسلمين في قيمة الأموال فكذلك في قيمة النفوس ولا يدخل عليه الإناث فإنهم في الإحراز يساوين الذكور ولكن تنصف الدية في حقهن باعتبار نقصان المالكية ولأنهن تباع في معنى الإحراز لأن النصرة لا تقوم بهن وقصدنا بالتسوية بين أهل الذمة والمسلمين وقد سوينا في حق الرجال والنساء جميعا وجنايات الصبي والمعتوه والمجنون عمدها وخطؤها كلها على العاقلة إذا بلغت خمسمائة فإن كانت أقل من خمسمائة ففي أموالهم لأن ما دون الخمسمائة في معنى ضمان المال والإتلاف الموجب للمال يتحقق من هؤلاء كما يتحقق من العقلاء البالغين فأما الخمسمائة فصاعدا فهي على عاقلتهم العمد والخطأ في ذلك سواء.
بلغنا أن مجنونا سعى على رجل بسيف فضربه فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فجعله على عاقلته وقال عمده وخطؤه سواء وهو على أحد قولي الشافعي وفي قوله الثاني قال عمده عمد حتى تجب الدية عليه في ماله لأن العمد لغة القصد لأنه ضد الخطأ فمن يتحقق منه الخطأ يتحقق منه العمد إلا أنه ينبني على هذا القصد حكمان أحدهما القود والآخر الدية في ماله حالا والصبي ليس من أهل أحد الحكمين وهو العقوبة لأن ذلك ينبني على الخطاب وهو غير مخاطب وهو من أهل الحكم الآخر وهو وجوب الضمان في ماله كما في غرامات الأموال فيلزمه ذلك بمنزلة فعل السرقة يتعلق به حكمان أحدهما عقوبة وهي القطع والصبي ليس بأهل له والآخر غرامة وهو الضمان والصبي أهل لذلك فيسوى بالبالغ.
وحجتنا في ذلك أن العمد في باب القتل ما يكون محظورا محضا ولهذا علق الشرع به ما هو عقوبة محضة لقوله عليه السلام:
"العمد قود", وفعل الصبي لا يوصف بذلك لأنه ينبني على الخطاب فلا يتحقق منه العمد شرعا في باب القتل والثاني أن العمد عبارة عن قصد معتبر في الأحكام شرعا فأصل القصد يتحقق من البهيمة ولا يوصف فعلها بالعمدية وقصد الصبي كذلك لأنه غير صالح لبناء أحكام الشرع عليه فاعتبار قصده شرعا فيما ينفعه لا فيما يضره ولهذا كان عمده بمنزلة الخطأ دون خطأ البالغ لأن البالغ انعدم منه القصد مع قيام الأهلية للقصد المعتبر شرعا.
وفي حق الصبي والمجنون انعدمت الأهلية لذلك ثم خطأ البالغ إنما كان على عاقلته لمعنى النظر والتخفيف على القاتل بعذر الخطأ والصبي في ذلك أقوى من صفة الخطأ ولكون فعل الصبي دون خطأ البالغ في الحكم قلنا: لا يلزمه الكفارة بالقتل ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه.
وإذا ضرب الرجل بطن المرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة عبد أو أمة يعدل ذلك بخمسمائة والغرة عند بعض أهل اللغة المملوك الأبيض ومنه غرة الفرس وهو البياض الذي

 

ج / 26 ص -78-       على جبينه ومنه قوله عليه السلام: "أمتي غر محجلون يوم القيامة" وعند بعضهم الغرة الجيد يقال هو غرة القبيلة أي كبير أهلها ثم القياس في الجنين أحد شيئين إما أن لا يجب فيه شيء لأنه لم تعرف حياته وفعل القتل لا يتحقق إلا في محل هو حي والضمان بالشك لا يجب ولا يقال الظاهر أنه حي أو معد للحياة لأن الظاهر حجة لدفع الاستحقاق دون الاستحقاق به وبهذا لا يجب في جنين البهيمة إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقصان وإن لم يتمكن لا يجب شيء والقياس أن يجب كمال الدية لأن الضارب منع حدوث منفعة الحياة فيه فيكون كالمزهق للحياة فيما يلزمه من البدل كولد المغرور فإنه حر بالقيمة لهذا المعنى وهو أنه منع حدوث الرق فيه ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة فيجعل كالحي في إيجاب الضمان بإتلافه كما يجعل بيض الصيد في حق المحرم كالصيد في إيجاب الجزاء عليه بكسره ولكنا تركنا القياس بالسنة وهو حديث حمل بن مالك كما روينا.
وروي أن عمر رضي الله عنه خوصم إليه في إملاص المرأة فقال أنشدكم بالله هل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا فقدم المغيرة بن شعبة وروى حديث الضرتين فقال عمر من يشهد معك فشهد معه محمد بن سلمة بمثل ذلك فقال عمر رضي الله عنه لقد كدنا أن نقضي ما رأينا فيما فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قضى بالغرة.
وعن عبد الرحمن بن فليح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة".
ثم هذه الآثار دليل لنا على أن الدية تتقدر بعشرة آلاف لأن بدل الجنين بالاتفاق نصف عشر الدية وقد قدر ذلك بخمسمائة فعرفنا أن جميع الدية عشرة آلاف وفيه دليل على أن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة ثبوتا صحيحا بل باعتبار صفة المالية لأنه كما أوجب في الجنين عبدا أو أمة نص على مقدار المالية وهو خمسمائة وفيه دليل أن الواجب بدل نفس الجنين وأن الأصل في الإبدال المقدرة النفوس وإن ما يجب في بدل الجنين بمنزلة ما يجب في بدل المنفصل حيا لأنه قضى بذلك على العاقلة ولهذا قال عامة العلماء أن بدل الجنين يكون موروثا عنه لورثته إلا أن الضارب إن كان أباه لم يرث شيئا لأنه قاتل وقال الليث بن سعد يكون لأمه لأنه في حكم جزء من أجزائها والدليل عليه أنه يكون مؤجلا في سنة وبدل الطرف هو الذي يتأجل في سنة وأما بدل النفس فيكون في ثلاث سنين قل أو كثر كما لو اشترك عشرون رجلا في قتل رجل يجب على كل واحد منهم نصف عشر الدية في ثلاث سنين وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام:
"دوه" أي أدوا ديته فقد جعله في حكم النفوس وسمي الواجب في بدله دية وهو اسم لبدل النفس والدليل عليه أن بدل الجزء لا يجب بدون بقاء النقصان حتى لو قلع سنا فنبت مكانه سن أخرى لم يجب شيء وها هنا يجب بدل الجنين وإن لم يكن في الأم نقصان دل أن وجوبه باعتبار معنى النفسية وبدل النفس يكون موروثا عن صاحبها وهي في الحقيقة نفس مودعة في الأم حتى تنفصل عنها حية فالجناية

 

ج / 26 ص -79-       عليها قبل الانفصال معتبرة بالجناية عليها بعد الانفصال إلا أنه من وجه نسبة الجزء فلا يثبت من التأجيل فيه إلا القدر المتيقن به وعلى هذا الأصل قلنا: لا تجب الكفارة على الضارب إلا أن يتبرع بها احتياطا هكذا نقل عن محمد رحمه الله وعند الشافعي تجب الكفارة لأنه في حكم النفوس وإتلاف النفس موجب الكفارة ولكنا نقول هو جزء من وجه واعتبار صفة الجزئية يمنع وجوب الكفارة ومع الشك لا تجب الكفارة ولكن اعتبار معنى الجزئية لا يمنع وجوب الضمان فأوجبنا الضمان وألحقناه في ذلك بالنفوس ثم وجوب الكفارة بطريق السكر حيث سلم الشرع نفسه له فلم يلزمه القود بعذر الخطأ كما بينا وذلك لا يوجد ها هنا فإتلاف الجنين لا يوجب القصاص بحال فلهذا لا يلزمه الكفارة ومذهب الشافعي لا يستقر على شيء في الجنين لأنه يجعله في حكم الكفارة كالنفوس ثم يقول البدل الواجب فيه معتبر بأمه لا بنفسه حتى يكون الواجب عشر بدل الأم وعندنا هو معتبر بنفسه وإنما تبين ذلك في جنين الأمة فالواجب عندنا نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كانت أنثى وعند الشافعي الواجب عشر قيمة الأم ذكرا كان أو أنثى قال لأنه إنما يجب البدل باعتبار معنى الجزئية دون النفسية.
ألا ترى أنه يتنصف بالأنوثة؟ وهذا لأن اعتبار النفسية في الجنين ليس يبنى على سبب معلوم حقيقة فلا يجب المصير إليه عند الضرورة وذلك في حكم الكفارة لأنها لا تجب باعتبار معنى الجزئية فأما في حكم البدل لا ضرورة فإيجابه ممكن باعتبار الجزئية وهي معلومة حقيقة فكان الواجب عشر دية الأم إذا ثبت هذا في جنين الحرة فكذلك في جنين الأمة لأن القيمة في حق المماليك كالدية في حق الأحرار وفيما ذهبتم إليه تفضل الأنثى على الذكر في ضمان الجنايات ولكنا نقول الجنين في حكم البدل بمنزلة النفوس حتى يكون بدله موروثا عنه وذلك يختص ببدل النفس وبدل النفس يعتبر بحال صاحب النفس والدليل عليه أن جنين أم الولد من المولى يجب فيه الغرة.
ولو كان الوجوب باعتبار صفة الأم لم يجب لأنها مملوكة وكذلك النصرانية إذا كانت في بطنها جنين من زوج مسلم فيضرب إنسان بطنها يلزمه الغرة ولو كان المعتبر حالها لم يجب على أصله لأن دية النصرانية عنده على الثلث من دية المسلم وكذلك لو كانت مجوسية وما في بطنها مسلم بإسلام أبيه فثبت أن المعتبر حاله بنفسه إلا أنه يسوى بين الذكور والإناث لأنه يتعذر في الجنين التمييز بين الذكر والأنثى خصوصا قبل أن يتم خلقه فإن وجوب البدل لا يختص بما بعد تمام الخلقة وكما لا يجوز تفضل الأنثى على الذكر في ضمان الجنايات لا تجوز التسوية باعتبار الأصل ثم جازت التسوية ها هنا بالاتفاق فكذلك التفضيل وهذا لأن الوجوب قطع التسوية لا باعتبار صفة المالكية لأنه لا مالكية في الجنين والأنثى في معنى النشو يسوى بالذكر وربما يكون الأنثى أسرع نشوا كما بعد الانفصال فلهذا جوزنا تفضيل الأنثى على الذكر .

 

ج / 26 ص -80-       ثم وجوب البدل في جنين الأمة قول أبي حنيفة ومحمد وهو الظاهر من قول أبي يوسف وعنه في رواية أنه لا يجب إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقص وإن لم يتمكن لا يجب فيها شيء كما في جنين البهيمة ولكنا نقول وجوب بدل جنين الآدمية لتحقيق معنى الصيانة عن الهدر وجنين الأمة في ذلك كجنين الحرة وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على اختلافهم في ضمان الجناية على المماليك فإن عند أبي يوسف هو بمنزلة ضمان المال يجب بالغا ما بلغ وعند أبي حنيفة ومحمد هو بدل عن النفس ولهذا لا يزاد على مقدار الدية بحال على ما يأتيك بيانه.
وإن خرج الجنين حيا بعد الضربة ثم مات ففيه الدية كاملة لأنه لما انفصل حيا كان نفسا من كل وجه وقتل النفس المؤمنة يوجب الدية والكفارة قال الله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أهْلِهِ} [النساء: 92] ولو قتلت الأم ثم خرج الجنين بعد ذلك منها ميتا ففي الأم الدية ولا شيء في الجنين عندنا وعلى قول الشافعي تجب الغرة في الجنين لأن في إتلاف الجنين لا فرق بين أن ينفصل ميتا وهي حية أو وهي ميتة وقد تبين أن الضارب أتلف بفعله نفسين فيلزمه بدل كل واحد منهما ولكنا إنما أوجبنا البدل في الجنين بالنص بخلاف القياس وورود النص به فيما إذا انفصل منها وهي حية لأنه قال فألقت جنينا ميتا وإنما أضاف الإلقاء إليها إذا كانت حية فبقي ما إذا انفصل بعد موتها على أصل القياس ثم يتمكن الاشتباه في هلاكه إذا انفصل بعد موتها فربما كان ذلك بالضربة وربما كان بانحباس نفسه بهلاكها ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان بخلاف ما إذا كانت حية حين انفصل الجنين ميتا عنها ثم هذا على أصل أبي حنيفة ظاهر لأنه لا يجعل ذكاة الأم ذكاة الجنين فكذلك لا يجعل قتل الأم قتلا للجنين والشافعي جعل ذكاة الأم ذكاة الجنين فكذلك يجعل قتل الأم قتلا للجنين وأبو يوسف ومحمد قالا القياس ما قاله أبو حنيفة ولكنا تركنا ذلك في حكم الذكاة بالسنة ولأن الذكاة تنبني على الوسع فبقي القياس معتبرا في حكم القتل فلا يكون قتل الأم قتلا للجنين وإن كان في بطنها جنينان فخرج أحدهما قبل موتها وخرج الآخر بعد موتها وهما ميتان ففي الذي خرج قبل موتها خمسمائة درهم وليس في الذي خرج بعد موتها شيء اعتبارا لكل واحد منهما بما لو كان وحده وهذا لأنه لا سبب لموت الذي خرج قبل موتها سوى الضربة واشتبه السبب في الذي خرج بعد موتها ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان ثم الذي خرج قبل موتها ميتا لا يرث من دية أمه لأن شرط التوريث بقاء الوارث حيا بعد موت المورث ولها ميراثها منه لأنها كانت حية بعد ما وجب بدل هذا الجنين بانفصاله ميتا فلها ميراثها منه.
وإن كان الذي خرج بعد موتها خرج حيا ثم مات ففيه الدية أيضا لأن الاشتباه زال حين انفصل حيا وقد مات بالضربة بعد ما صار نفسا من كل وجه فتجب فيه الدية كاملة وله ميراثه من دية أمه ومما ورثت أمه من أخيه وإن لم يكن لأخيه أب حي فله ميراثه من أخيه

 

ج / 26 ص -81-       لأنه كان حيا بعد موتهما فيكون له الميراث منهما ولا قصاص على الأبوين والأجداد والجدات من قبل الآباء والأمهات عندنا.
وقال مالك: إن رمى الأب ولده بسيف أو سكين فقتله فلا قصاص عليه وإن أخذه فذبحه فعليه القصاص لأن وجوب القصاص باعتبار تغليظ الجناية ولهذا اختص بالعمد وجناية الأب أغلظ من جناية الأجنبي لأنه انضم إلى تعمده القتل بغير حق وارتكابه ما هو محظور مع قطيعة الرحم فإذا وجب القصاص على الأجنبي باعتبار تغليظ جنايته فعلى الأب أولى وهو نظير من زنا بابنته فإنه يلزمه من الحد ما يلزمه إذا زنا بالأجنبية لتغليظ جنايته ها هنا بكونها محرمة عليه على التأبيد إلا أن مع شبهة الخطأ لا يجب القود وعند الرمي يتمكن شبهة الخطأ فالظاهر أنه قصد تأديبه لا قتله لأن شفقة الأبوة تمنعه من ذلك بخلاف الأجنبي فليس هناك بينهما ما يدل على الشفقة فجعلنا الرمي من الأجنبي عمدا محضا فأما إذا أخذه فذبحه فليس ها هنا شبهة الخطأ بوجه والدليل عليه أن القصاص يجب على الابن بقتل أبيه فكذلك على الأب بقتل ابنه لأن في القصاص معنى المساواة ومن ضرورة كون أحدهما مساويا للآخر أن يكون الآخر مساويا له وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام:
"لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده" وقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في من قتل ابنه عمدا بالدية في ماله ومنهم من استدل بقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" فظاهر هذه الإضافة يوجب كون الولد مملوكا لأبيه.
ثم حقيقة الملك تمنع وجوب القصاص كالمولى إذا قتل عبده فكذلك شبهة الملك باعتبار الظاهر وكان ينبغي باعتبار هذا الظاهر أن لا يلزمه الحد إذا زنا بها ولكن تركنا القياس في حكم الحد لأن الحد محض حق الله تعالى وهو جزاء على ارتكاب ما هو حرام محض وبإضافة الولد إلى الوالد تزداد معنى الحرمة فلا يسقط الحد به ولهذا سقط الحد عنه إذا وطى ء جارية الابن لأن إضافة الجارية إليه بالملكية وحقيقة الملك فيها توجب الحل بظاهر الإضافة ويوجب شبهة أيضا فأما حقيقة الملك في محل الحرمة لا يورث الحل فالإضافة لا تورث الشبهة.
يوضحه: أن الملك كما يبيح الوطء يبيح الإقدام على القتل فإن ولي الدم لما ملك نفس من عليه في حكم القصاص كان له أن يستوفى فالإضافة إليه بالملكية توجب شبهة في الفصلين فأما الملك في محل الحرمة فلا يوجب حل الوطء فلا يصير شبهة في إسقاط الحد والمعنى في المسألة أن القصاص يجب للمقتول أو لوليه على سبيل الخلافة عنه والابن ليس من أهل أن يستوجب ذلك على أبيه وبدون الأهلية لا يثبت الحكم وبيان ذلك أنه ليس للابن أن يقتل أباه شرعا بحال ابتداء سواء كان مشركا أو مرتدا أو زانيا وهو محصن لأن الأب كان سبب إيجاد الولد فلا يجوز للولد أن يكتسب سبب إفنائه وفي وجوب القود عليه إتلاف حكما والمقصود منه الاستيفاء دون الوجوب بعينه وهذا لأنه مأمور شرعا بالإحسان

 

ج / 26 ص -82-       إليهما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] وعليه أن يصاحبهما بالمعروف وإن كانا مشركين لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] وليس القتل من الإحسان والمصاحبة بالمعروف في شيء فكل ذلك ثبت للوالد عليه شرعا ليعرف العاقل بحق الوالد عظيم حق الله تعالى فإن الوالدين كانا سببين لوجوده وتربيته والله تعالى هو الخالق الرازق على الحقيقة فيعرف العاقل بهذا أن مراعاة حق الله أوجب عليه.
وإذا ثبت أنه لا يجب القصاص على الوالد بقتل الولد ثبت أنه لا يجب على الوالدة لأن حقها أوجب فكذلك الأجداد والجدات من قبل الرجال والنساء لمعنى الولادة والحرية بينهم وبين المقتول فإن كان بواسطة فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فعملت الشبهة فيه عمل الحقيقة بخلاف الولد إذا قتل والده فالولد ما كان سببا لإيجاد والده والولد يقابل ما عليه من مراعاة حرمة الوالد بضده فعليه القصاص وهو بمنزلة العبد إذا قتل مولاه يلزمه القصاص والمولى إذا قتل عبده لا يلزمه القصاص وإن منع مالك هذا بغير الكلام فيه فنقول لو وجب القصاص إنما يجب له كما لو قتله غيره ولا يجوز أن يجب له على نفسه.
ألا ترى أنه لو قتل عبده خطأ لم يجب عليه ضمان لأنه لو قتله غيره كان الضمان للمولى فإذا قتله المولى لا يجوز أن يجب له على نفسه ثم على الآباء والأجداد الدية بقتل الابن عمدا في أموالهم في ثلاث سنين.
وقال الشافعي: تجب الدية حالة وإنما لا يعقله العاقلة لقوله عليه السلام:
"لا تعقل العاقلة عمدا" يعني الواجب بالعمد ثم قال الشافعي الأصل أن ضمان المتلف يكون على المتلف في ماله حالا كسائر المتلفات إلا أن التأجيل في الدية عند الخطأ ثبت للتخفيف على الخاطئ وعلى عاقلته والعامد لا يستحق ذلك التخفيف فيكون الواجب عليه حالا.
ألا ترى أن الوجوب على العاقلة لما كان للتخفيف على القاتل بخلاف القياس لم يثبت ذلك في العمد وهذا لأن وجوب الضمان بمعنى الجبران وحق صاحب النفس في نفسه كان ثابتا حالا فلا جبران في حقه إلا ببدل هو حال ولأن القود سقط شرعا إلى بدل فيكون ذلك البدل حالا كما لو سقط بالصلح على مال وهذا على أصله مستقيم فإنه يجعل فعل الأب موجبا للقود على ما نبينه.
وحجتنا في ذلك أن هذا ما وجب بنفس القتل فيكون مؤجلا كما لو وجب بقتل الخطأ وشبه العمد وهذا لأن المتلف ليس بمال وما ليس بمال لا يضمن بالمال أصلا وإنما عرفنا تقوم النفس بالمال شرعا والشرع إنما قوم النفس بدية مؤجلة في ثلاث سنين والمؤجل أنقص من الحال.
ألا ترى أن في العرف يشتري الشيء بالنسيئة بأكثر مما يشترى بالنقد فإيجاب المال حالا بالقتل يكون زيادة على ما أوجبه الشرع معنى وكما لا يجوز باعتبار صفة العمدية الزيادة في الدية على قدر الحال فكذلك لا يجوز إثبات الزيادة فيه وصفا وبهذا تبين أن التأجيل

 

ج / 26 ص -83-       ليس لمعنى التخفيف على الخاطئ بل لأن قيمة النفس شرعا دية مؤجلة بخلاف الإيجاب على العاقلة لأنه لا فرق في قيمة النفوس بين أن تكون مستوفاة من العاقلة أو من القاتل فكان الإيجاب على العاقلة لمعنى التخفيف على القاتل وهذا بخلاف المال الواجب بالصلح فإن ذلك يجب بالعقد ولهذا لا يتقدر بمقدار شرعا حتى لو وقع الصلح بأكثر من الدية قدرا جاز فكذلك إذا التزمه بمطلق العقد يكون ذلك حالا بمنزلة الأعواض في سائر العقود وإن كان الوالد قتل ولده خطأ فالدية على عاقلته وعليه الكفارة في الخطأ ولا كفارة عليه في العمد عندنا لأن فعله محظور محض كفعل الأجنبي والمحظور المحض لا يصلح سببا لإيجاب الكفارة عندنا على ما نبينه.
فإن قيل: فأين ذهب قولكم إن وجوب الكفارة بطريق السكر لما سلم الشرع له نفسه فأسقط القود عنه فقد وجد هذا المعنى ها هنا وقلتم بأنه لا تجب الكفارة؟.
قلنا: إسقاط القود عنه شرعا متى كان بطريق العذر له والتخفيف عليه كان موجبا للكفارة وها هنا امتناع وجوب القود عليه لانعدام الأهلية فيمن يجب له لا بطريق التخفيف والعذر للأب فبقي فعله حراما محضا لا شبهة فيه فلا يكون موجبا للكفارة وكذلك إن كان المولى قتل مملوكه عمدا وكذلك إن كان الولد مملوكا لإنسان فقتله أبوه عمدا فلا قصاص عليه لمولاه لأن وجوب القصاص للمولى بطريق الخلافة عن المقتول فإنه ينزل من المملوك منزلة وارث الحرمة.
فإذا اشترك الرجلان في قتل رجل أحدهما بعصا والآخر بحديدة فلا قصاص على واحد منهما هكذا نقل عن إبراهيم وهذا لأن القتل بالعصا لا يصلح أن يكون موجبا للقصاص لأن القصد به التأديب والآلة آلة التأديب فهو بمنزلة فعل الخاطئ والخاطئ والعامد إذا اشتركا في القتل لم يجب القصاص عليهما لأنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فقد انزهقت الروح عقيب فعلين أحدهما ليس بسبب لوجوب العقوبة ولا يدرى أنه بأي الفعلين أزهق الروح فيمكن الشبهة من هذا الوجه فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وبعد سقوط القصاص يجب المال فيتوزع عليهما نصفان وليس أحدهما بإضافة القتل إليه بأولى من الآخر ولا يقال ينبغي أن يضاف القتل إلى فعل من استعمل السلاح فيه لأن السلاح آلة للقتل دون العصا وهذا لأن الإنسان قد يسلم من الجرح بالحديد ويتلف من الضرب بالعصا فهو بمنزلة ما لو جرحه رجلان أحدهما جراحة واحدة والآخر عشرة جراحات فإنه يجعل القتل مضافا إليهما على السواء لهذا المعنى ثم كل واحد منهما فيما لزمه من نصف الدية يجعل كالمنفرد به فنصف الدية على صاحب الحديدة في ماله ونصفها على صاحب العصا على عاقلته.
وكذلك لو قتلاه بسلاح وأحدهما صبي أو معتوه فلا قصاص عليهما عندنا وهو أحد قولي الشافعي وفي قوله الآخر يجب القود قياسا على العاقل البالغ بناء على قولين في عمد الصبي على ما بينا فأما الأب مع الأجنبي أو المولى مع الأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد

 

ج / 26 ص -84-       والمملوك فلا قصاص على واحد منهما عندنا وقال الشافعي يجب القصاص على الأجنبي لأنهما قاتلاه عمدا محضا مضمون فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به في حكم القصاص كالأجنبيين عفا عن أحدهما أو بسقوط القود عن أحدهما لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كالأجنبيين إذا عفا عن أحدهما وتفسير العمد من وجهين أحدهما أنه عبارة عن فعل يترتب على قصد صحيح إليه وبالأبوة والملك لا ينعدم القصد الصحيح إلى الفعل وهذا لأن ضد العمد الخطأ فإذا كان الخطأ ما يكون عن غير قصد من الفاعل إليه بعينه عرفنا أن العمد ما يكون عن قصد وعلى هذا نقول يجب القصاص على شريك الصبي والمجنون لأن للصبي والمجنون قصدا صحيحا فكان فعلهما عمدا وللعمد تفسير آخر في القتل شرعا وهو أنه محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة لأن المتعلق به شرعا العقوبة.
 قال عليه السلام:
"العمد قود" ولا تجب العقوبة إلا جزاء على فعل هو محظور محض وفعل الأب والمولى محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة لأن في حق الأب قد انضم إلى ارتكاب الفعل المحرم معنى قطيعة الرحم وفي حق المولى انضم إلى الفعل المحرم الإتيان بضد ما أمر به من الإحسان إلى المماليك والقتل لا يحل بملك المالكية بحال فلا يتمكن بسببه شبهة فيه بمنزلة من شرب خمر نفسه يلزمه الحد لأنه لا أثر للملك في إباحة شرب الخمر فلا يخرج الفعل باعتباره من أن يكون محظورا محضا وعلى هذا الطريق لا يجب القود على شريك الصبي والمعتوه لأن فعلهما لا يوصف بأنه محظور محض.
وفي الحقيقة: الكلام ينبني على أن فعل الأب موجب للقود عنده ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الآخر لأن عند أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر والدليل على ذلك أن سبب القود شرعا هو العمد وثبوت الحكم بثبوت السبب فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع ثبوت الحكم أيضا وإنما لا يستوفى لكيلا يكون الولد سبب إفناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب إيجاده وهذا في حقيقة الاستيفاء دون الوجوب فيثبت الوجوب حكما للسبب ثم يتعذر الاستيفاء لهذا المعنى فيسقط شرعا والدليل عليه أن عندكم لا تجب الكفارة على الوالد ولو لم يكن الفعل موجبا للقود لوجبت الكفارة به وأن الأب لو قتل ابنه عمدا كان الولد شهيدا لا يغسل وإنما لا يغسل إذا كان القتل غير موجب للمال بنفسه وهذا بخلاف الخاطئ مع العامد لأن فعل الخاطئ غير موجب فاختلط الموجب بغير الموجب في المحل فيمكن الشبهة لاتحاد المحل يقرره أن الخطأ معنى في الفعل.
ألا ترى أنه يوصف الفعل به فيقال قتل خطأ وقد اجتمع الفعلان في محل واحد فأما الأبوة فمعنى في الفاعل.
ألا ترى أن الفاعل يوصف به فيقال أب قاتل فأحد الفاعلين متميز عن الآخر وحجتنا في ذلك أن هذا القتل ثم موجب للدية فلا يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا

 

ج / 26 ص -85-       اشتركا وبيان الوصف أن الواجب على الأب بهذا الفعل الدية لا غير فإنه هو الذي يستوفى منه وإنما يراد بالوجوب الاستيفاء فإذا كان لا يستوفى منه إلا الدية عرفنا أنه موجب للدية والدليل على أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص أن السبب لا ينعقد موجبا لحكمه إلا في محل صالح له وبعد صلاحية المحل لا يكون موجبا للحكم إلا باعتبار الأهلية فيمن يجب له وفيمن يجب عليه.
ألا ترى أن الإتلاف كما لا يكون موجبا للضمان بدون محل صالح له وهو المال المتقوم لا يكون موجبا بدون الأهلية فيمن يجب له وفيمن يجب عليه حتى أن المسلم إذا أتلف مال مسلم لا أمان له أو الحربي إذا أتلف مال المسلم لا يجب الضمان والبيع كما لا ينعقد شرعا إلا في محل صالح لا ينعقد إلا بعد وجوب الأهلية فيمن يباشره إذا عرفنا هذا فنقول العمد موجب للقود بشرط الأهلية فيمن يجب له وعليه وذلك لا يوجد في قتل الصبي والمجنون لانعدام الأهلية فيمن تجب عليه العقوبة ولا في قتل الأب لانعدام الأهلية فيمن تجب له على ما بينا أن الولد لا يكون من أهل أن يجب له القتل على والده لأن في الإيجاب استحقاق نفسه شرعا وإذا لم يكن هو أهلا لمباشرة إتلافه حقيقة بصفة الإباحة لا يكون أهلا لاستحقاق إتلافه شرعا فلا يكون فعله موجبا للقصاص لانعدام الأهلية ولهذا كان موجبا الدية المغلظة في ماله لأنه خرج من أن يكون موجبا للقود لانعدام الأهلية فيمن يجب له وذلك لا يوجد في الدية ولهذا لم يكن موجبا للكفارة لأن انعدام وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له الشبهة في أصل الفعل فلا يخرج من أن يكون محظورا وفي غسله روايتان في إحدى الروايتين عن أبي يوسف يغسل لأن الغسل موجب للمال وفي الرواية الأخرى لا يغسل لأن امتناع وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له وذلك لا يتعدى إلى حكم الغسل فإن قيل: هذا ممنوع فإن الولد يرث القصاص على أبيه حتى يسقط وبدون الأهلية لا يجب الحق للوارث.
قلنا: هذا فاسد لأنه إنما لم يكن أهلا لإيجاب القود على الأب لما فيه من إتلافه حكما وهذا لا يوجد في الوراثة لأن الإتلاف الحكمي كان ثابتا قبل أن يرثه الولد بل في ثبوت الإرث للولد إحياء للأب حقيقة وحكما فإنه يسقط القود إذا ورثه الابن ولا يسقط إذا لم يرثه وهو نظير الولد في أنه لا يسترق والده ثم يشتري والده المملوك فيعتق عليه والدليل عليه أن الأبوة لو طرت على قصاص موجب أسقطته وإذا اقترنت بالسبب دفعت الوجوب بطريق الأولى لأن تأثير الشيء في الحكم مقترنا بالسبب أقوى من تأثيره طارئا على السبب.
وإذا ثبت أن فعل الأب غير موجب عرفنا أنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فكان كالخاطئ مع العامد بخلاف ما إذا عفا عن أحد القاتلين وقوله الأبوة معنى في الفاعل لا معتبر به فإنه وإن كان في الفاعل فقد تعدى إلى الفعل حتى أخرجه من أن يكون موجبا فهو نظير الخطأ في الفاعل بأن رمى إلى إنسان يظنه كافرا وهو مسلم فإن الخطأ ها هنا

 

ج / 26 ص -86-       باعتبار معنى في الفاعل ولكن لما تعدى إلى الفعل صار ذلك شبهة في حق شريكه في الفعل فكذلك ها هنا.
والدليل عليه أن مسلمين لو رميا إلى صيد أحدهما بسهم والآخر ببندقة لم يحل تناول الصيد وكذلك لو رمى مسلم ومجوسي إلى الصيد وفي أحد الموضعين الحرمة باعتبار معنى في الفعل وفي الموضع الآخر باعتبار معنى في الفاعل وهو كونه مجوسيا لكن لما تعدى إلى الفعل التحق بالمعنى الذي هو في الفعل في إيجاب الحرمة فهذا مثله.
ولو اشترك عشرة رهط في قتل رجل خطأ كانت الدية على عاقلتهم في ثلاث سنين لأن وجوب الدية لصيانة المحل عن الهدر فالمحل واحد وبإيجاب دية واحدة عليهم يتم معنى الصيانة ثم الواجب على كل واحد منهم جزء مما هو مؤجل في ثلاث سنين وهو بدل النفس فهو بمنزلة ما لو اشترى عشرة نفر شيئا بثمن مؤجل إلى ثلاث سنين فإنه ثبت تمام الأجل في حق كل واحد منهم وهذا لأن كل ثلث من بدل النفس مؤجل في سنة والواجب على كل واحد منهم عشر كل ثلث إلا أن يكون الواجب على بعضهم من الثلث الذي هو مؤجل إلى سنة أو من الثلث الثاني خاصة.
ولو أقر رجل بقتل خطأ أو شبه عمد كانت الدية عليه في ماله في ثلاث سنين لأن العاقلة لا تعقل ما يجب بالاعتراف لقوله عليه السلام:
"ولا اعترافا" وهذا لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإنما يحمل على الصدق في حق المقر خاصة لانتفاء التهمة فأما في حق عاقلته فهو محمول على الكذب وله ولاية على نفسه في الالتزام قولا دون عاقلته وكل جناية عمد فيما دون النفس لا يستطاع فيها القصاص أو شبه عمد فالأرش في مال الجاني مغلظا أما في العمد فلا يشكل وأما في شبه العمد فلأن شبه العمد لا يتحقق فيما دون النفس وإنما يتحقق في النفس خاصة فإن ذلك حكم ثابت بالنص وإنما ورد النص به في أبو حنيفة رحمه الله لا يكفي لأن ذكر الصناعة ليس بشيء فقد يتحول الإنسان من صناعة إلى صناعة فإن كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وإن لم يعرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لأن المقصود إعلام عدالتهم للقاضي المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وإن حلاهم فحسن وإن ترك التحلية لم يضر لأن المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم والنسب إلا أنه إذا كان من رأي الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك ما لا يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فإن أراد الذي جاء به من المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لأن شهادة الشهود تثبت عنده بالكتاب فكأنه تثبت بسماعه منهم.
وكما جوزنا الكتاب من القاضي الأول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لأن الخصم قد يهرب إلى بلدة أخرى قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه وإذا سمع القاضي شهادة الشهود وكتب بها إلى قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه لم يحكم بذلك 

 

ج / 26 ص -87-       عليه، لأن سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع إذا استقصى بعد ما شهد الأصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضي بذلك وهذا لأن جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لا بينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا يكون ذلك إلا بمحضر من الخصم بعد إنكاره أو سكوته القائم مقام إنكاره فإن أعاد المدعي تلك البينة بمحضر من الخصم فالآن يقضي له بها لأن شرط قبول البينة للقضاء إنكار الخصم وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الأداء وجوده كعدمه.
وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه إلا أن يكون من رأيه لأن الأول لم يحكم به وإنما نقل الشهادة بكتابه إلى مجلسه فلا يحكم به إلا إذا كان ذلك من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده على شهادة الأصول وهذا بخلاف ما إذا كان الأول قد قضى به وأعطى الخصم سجلا فالثاني ينفذ ذلك وإن لم يكن من رأيه لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ.
ألا ترى أنه ليس للأول أن يبطل قضاءه وإن تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب الأول ما قضى بشيء.
ألا ترى أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى الثاني وإن الخصم لو حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيء فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه إلا أن يكون ذلك من رأيه ولا يقبل كتاب القاضي في شيء من الحدود والقصاص لأن ذلك مما يندرئ بالشبهات الشرع ما أمرنا بالانتظار إضرارا بالمضروب فلو لم يقبل قوله فيما يظهر في ذلك المحل أنه حادث بتلك الضربة لرجع ذلك إلى الإضرار به.
ولو شج رجلا موضحة فصارت منقلة فقال المضروب صارت منقلة من ذلك وقال الضارب حدثت فيها من غير فعل أحد فالقول قول الضارب بخلاف السن على طريقة الاستحسان لأن ها هنا فعل المضارب إنما عمل في اللحم دون العظم والمنقلة ما يكون عاملا في العظم فالضارب ينكر فعله في هذا المحل والظاهر يشهد له لأن الفعل في المحل لا يؤثر فعلا آخر إلا نادرا فأما في الأول فإنما اسودت السن التي حلت الضربة بها فالظاهر شاهد للمضروب هناك.
وإذا قلع الرجل سن رجل أو صبي ثم نبتت فلا شيء على القالع لأنه لم يبق لفعله أثر وعن أبي يوسف رحمه الله قال يلزمه حكومة عدل باعتبار الألم الذي لحقه وكذلك الظفر إذا قلعه فنبت فليس فيه حكومة عدل ولا أرش لأنه لم يبق فيه أثر وإن نبتت السن سوداء ففيها أرش كامل لأن الثابتة قائمة مقام المقلوعة فكأن الأولى باقية قد اسودت وإن نبت الظفر أغور ومتغيرا ففيه حكومة عدل بمنزلة الأول لو أغور بالضربة أو تغير وهذا لأنه ليس في الظفر منفعة مقصودة وإنما يكون فيه مجرد الجمال فإذا اسود أو تغير ينتقص معنى الجمال ولا يكون السواد في الظفر دليل موت الظفر.

 

ج / 26 ص -88-       ألا ترى أن في أنواع بني آدم من يكون ظفرهم أسود خلقة حتى قالوا إذا كان المضروب من ذلك النوع ينبغي أن لا يجب شيء لأنه لا ينتقص في حقه معنى الجمال قال وإذا قلع الرجل سن رجل خطأ فأخذ المقلوع سنه فأثبتها مكانها فثبتت فعلى القالع أرشها لأنها وإن ثبتت لا تصير كما كانت.
ألا ترى أنها لا تتصل بعروقها ولهذا جعل محمد رحمه الله تلك السن كالميتة حتى قال إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته معها وفرق أبو يوسف رحمه الله بين ما إذا أثبت في موضعها سن نفسه أو سن غيره في حكم جواز الصلاة وقال بينهما فرق ولا يحضرني وكذلك الإذن إذا أعادها إلى مكانها لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل وإن التصقت.
فأما إذا ابيضت العين من ضربة رجل ثم ذهب البياض منها فأبصر فليس على الضارب شيء لأنه عاد إلى ما كان عليه في الأصل ولم يبق إلا الألم الذي لحقه بالضربة وباعتبارها لا يجب شيء وإنما يجب باعتبار الأثر في المحل ولم يبق ولو شجه موضحة خطأ فسقط منها شعر رأسه كله فلم ينبت فعلى عاقلته الدية تامة لإفساد المنبت ويدخل أرش الشجة في ذلك عندنا وقال زفر رحمه الله لا يدخل لأن الشجة موجبة للضمان بنفسها وكذلك إفساد منبت الشعر جناية على حدة ولا تدخل في أرش الجنايات فيما دون النفس ولكنا نقول وجوب أرش الموضحة باعتبار ذهاب الشعر دليل أنه لو نبت الشعر على ذلك الموضع واستوى كما كان لا يجب شيء.
وإذا وجب كمال بدل النفس باعتبار ذهاب الشعر لا يجب ما دونه باعتباره أيضا فإن كان ذهب من الشعر بعضه فعلى الجاني الأكثر من أرش الشعر ومن أرش الشجة ويدخل الأقل في ذلك لأن إيجاب الأكثر يتحقق باعتبار السبب معنى كما بينا وكذلك إن كان في الحاجب فإن الموضحة في الوجه والرأس سواء والآمة لا تكون إلا في الرأس أو الموضع الذي يتصل بالدماغ من الوجه والجائفة لا تكون إلا في الظهر والبطن والجنب أو في الموضع الذي يتصل بالجوف حتى لو جرحه بين ذكره ودبره جراحة واصلة إلى جوفه تكون جائفة فأما في الفخذ والعضد فلا تتحقق الجائفة وكذلك في العنق وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله قال إذا وصلت الجراحة إلى موضع يحصل الفطر للصائم بوصول المفطر إليه تكون جائفة وإن كان لا يحصل له الفطر بوصول المفطر إليه لا تكون جائفة ولو شجه فذهب من ذلك عقله فإنه يلزمه الدية باعتبار ذهاب العقل ويدخل فيه أرش الموضحة عندنا وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يدخل لاختلاف محل الجناية فإن محل الموضحة غير محل العقل بخلاف الشعر مع الموضحة ولكنا نقول ذهاب العقل في معنى تبديل النفس وإلحاقه بالبهائم فيكون بمنزلة الموت ولو شجه موضحة فمات من ذلك لزمه كمال الدية ودخل فيه أرش الشجة فأما إذا ذهب من الشجة سمعه أو بصره أو كلامه يلزمه الدية باعتبار هذه الأشياء ولا يدخل أرش

 

ج / 26 ص -89-       الشجة في ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال وفي السمع والكلام يدخل أرش الشجة في الدية وفي البصر لا يدخل لأن البصر ظاهر كالموضحة فقد يباين المحل حقيقة وحكما فأما السمع والكلام فمعنى باطن بمنزلة العقل فكما يدخل أرش الموضحة في الدية الواجبة بإذهاب العقل فكذلك فيما تجب بإذهاب السمع والكلام ولكنا نقول محل السمع غير محل الشجة وكذلك محل الكلام وبتفويتهما لا تتبدل النفس وإنما تجب الدية لتفويت منفعة مقصودة منهما فيكون بمنزلة ذهاب البصر بالشجة فإن ذهب بالشجة العقل والسمع والكلام والبصر فإنه يجب عليه أربع ديات.
وقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على رجل بأربع ديات والمجني عليه حي
فإن قيل: كيف يستقيم هذا ولو مات من الشجة لا يلزمه إلا دية واحدة وبموته فاتت هذه المنافع ثم لم يلزمه إلا دية واحدة فبفوات هذه قد ذكروا أكثر الحدود وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد إعلام الطول يصير معلوما أيضا وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفى بذكر الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لأن المشهود به بما ذكروا صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعى شراء شيء بثمن منقود فإن الشهادة على ذلك تقبل وإن سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن.
ولو ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وإن لم يحدوها ونسبوها إلى اسم معروف لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن التعريف بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب في الآدمي ثم هناك الشهرة تغني عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فأما مقدار المشهود به لا يصير معلوما إلا بذكر الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا أن الدار المشهودة قد يزاد فيها وينتقص منها ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيه ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى إعلام أصله بالشهرة يصير معلوما.
ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان ابن فلان الفلاني كذا كذا أجرته لأن المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة تتعطل بالرق وإنما ينسب إلى مالكه ألا ترى أن الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الاسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك إن نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية فكذلك في العبد وإن جاء بالكتاب أن العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل.

 

ج / 26 ص -90-       قال: وقال محمد رحمه الله لا يجوز عندنا كتاب القضاة في شيء بعينه لا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فأما فيما سوى ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لأن الإشارة إلى عينه عند الدعوى والشهادة شرط ولهذا لا بد من إحضاره بمجلس القضاء.
وإذا أتى كتاب القاضي إلى القاضي وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه لأنه لو كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه وإنما يصير معلوما المحلان من نفس واحدة في معنى نفسين فكما أنه إذا قطع يد إنسان فأصاب السكين يد آخر فقطع يده يجب الأرش للثاني والقصاص للأول فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه جناية وسرايتها وقد تعذر إيجاب القصاص باعتبار سرايتها فلا يجب القصاص باعتبار أصلها كما لو قطع مفصلا فشلت الأصبع وهذا لأن السراية أثر الجناية وهو مع أصل الجناية في حكم فعل واحد فالدليل على أنه سرايتان أن فعله أثر في نفس واحدة والسراية عبارة عن آلام تتعاقب من الجناية على البدن وذلك يتحقق في نفس واحدة في موضعين منها كما يتحقق في الطرف مع أصل النفس إذا مات من الجناية بخلاف النفسين فإن الفعل في النفس الثانية مباشرة على حدة ليس بسراية الجناية الأولى إذ لا تتصور السراية من نفس إلى نفس فلا بد من أن يجعل ذلك في حكم فعل على حدة وهو خطأ ثم يعتبر حكم كل فعل بنفسه والدليل عليه أن منفعة كل أصبع تتصل بمنفعة الأخرى كما أن منفعة الأصابع تتصل بمنفعة الكف وكذلك هذا في اليدين من نفس واحدة بخلاف النفسين فلا اتصال لمنفعة إحداهما بالأخرى.
وذكر في الجامع الصغير أنه لو شجه موضحة عمدا فذهب من ذلك بصره فلا قصاص عليه في الموضحة عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن عليه الأرش فيهما ونقل عن أبي يوسف ومحمد أن عليه القصاص في الموضحة والدية في البصر وهو نظير ما بينا وقد روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في هذا الفصل أنه يجب القصاص فيهما لأن إذهاب البصر عمدا يوجب القصاص وقد بينا أن سراية الفعل لا تخالف أصل الفعل في الصفة بخلاف الشلل فإن الشلل غير موجب للقصاص فعلى هذه الرواية عن محمد لو قطع أصبعا منه عمدا فقطعت أصبع أخرى يجب القصاص فيها أيضا بخلاف ما إذا شلت أخرى لأن في تفويت أصل الأصبعين عمدا القصاص والسراية بصفة أصل الفعل وليس في تفويت المنفعة بالشلل قصاص فمن هذا الوجه يقع الفرق.
ولو شجه موضحة فصارت منقلة أو كسر بعض سنه فاسود ما بقي أو قطع الكف فشل الساعد فلا قصاص في شيء من ذلك لأن محل السراية ها هنا متصل بمحل الجناية فكان الفعل واحدا حقيقة وحكما وباعتبار ماله يتعذر إيجاب القصاص إذ لا قصاص في كسر العظم وسواد السن والشلل وقيل يلزمه الأرش في جميع ذلك.

 

ج / 26 ص -91-       وإذا شجه منقلة عمدا وهو من أهل الإبل غلظ عليه في الأسنان فجعل عليه عشر من الإبل أرباعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وكذلك على هذا القياس في الآمة وغيرها اعتبارا للجزء بالكل فإن صفة التغليظ ثابتة في جميع الدية باعتبار صفة العمدية فثبت في أبعاضها وإن كان ذلك خطأ وجب الأرش أخماسا اعتبارا للبعض بالكل إلا أن في العمد تجب في ماله وفي الخطأ يجب على عاقلته إذا بلغ الواجب أرش الموضحة وكذلك ينبغي على طريقة القياس منها دون أرش الموضحة أن يكون على العاقلة وبالقياس أخذ الشافعي رضي الله عنه لأنه اعتبر الجزء بالكل واعتبر ضمان إتلاف النفس بضمان إتلاف المال فإنه لا فرق فيه بين القليل والكثير في حق من يجب عليه ولكنا استحسنا فجعلنا ما دون أرش الموضحة عليه في ماله لما روينا من الأثر فيه.
وإذا كان القاتل خطأ من أهل الإبل فصالح على أكثر من عشرة آلاف درهم أو أكثر من ألف دينار نقدا أو نسيئة لم يجز أن يعطى أكثر من الدية لأن مقدار الواجب من الدية ثابت بالنص فلا تجوز الزيادة عليه لما في الصلح على الزيادة من معنى الربا وبأن كان القاتل من أهل الإبل لا تخرج الدراهم والدنانير من أن تكون أصلا في الدية في حقه وعند الصلح على الدراهم يجعل كأنهما عينا الدراهم أولا ثم صالحه على أكثر من ذلك فيكون ربا وكذلك لو كان من أهل الورق فصالح على أكثر من ألف دينار أو أكثر من مائة من الإبل فالصلح باطل لأن عند الاتفاق على أحد الأصناف يتعين ذلك الصنف الواجب منه مقدر شرعا فالزيادة عليه تكون ربا.
فأما في العمد الموجب للقود إذا أوقع الصلح على أكثر من الدية يجوز عندنا وفي أحد قولي الشافعي لا يجوز بناء على ما تقدم أن في أحد قوليه الواجب في العمد أحد شيئين يتعين ذلك باختيار الولي وإذا اختار الدية وهي مقدرة شرعا لا تجوز الزيادة عليها بطريق الصلح وعندنا الواجب هو القود لا غير فالمال الذي يلتزمه يكون عوضا عن القود ولا ربا بين ما ليس بمال وبين ما هو مال والدليل على جواز هذا الصلح ما روي أن فارسا من فرسان المسلمين قتل رجلا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فلما خرج ليقتل رأت الصحابة الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا وصالحوا أولياء القتيل على ديتين دية يعطيها القاتل ودية يتبرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدائها فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو صالحه في الخطأ أو العمد على خمسين من الإبل جاز أما في العمد فلا يشكل وفي الخطأ لأنه أسقط بعض الواجب ولو أسقط الكل بالعفو لجاز فكذلك إذا أسقط البعض.
وكذلك لو صالحه على خمسمائة دينار قبل أن يقضي عليه بالدراهم وقال إنما صالحتك عن الدية على ذلك فهو جائز بطريق الإسقاط كأنهما عينا الدنانير ثم أسقط عنه النصف ورضي بالنصف ويكون الباقي مؤجلا في ثلاث سنين سواء ذكر الأجل أو لم يذكره أما إذا لم

 

ج / 26 ص -92-       يذكر الأجل فلأن هذا الصلح إبراء عن البعض وليس فيه تعرض لما بقي فيبقى ما بقي على الوجه الذي كان عليه الكل في الابتداء وهو أنه مؤجل في ثلاث سنين وكذلك إن شرط الأجل فيما بقي من ثلاث سنين لأن هذا الشرط يقرر مقتضى مطلق العقد ولا يقال هذا في معنى نسيئة بنسيئة لأن ذلك عند تمكن المبادلة ولا مبادلة ها هنا إنما هو إسقاط نصف الواجب فقط فأما إذا كان من أهل الإبل فقضي عليه بالإبل فصالحه من ذلك على شيء من العروض أو الحيوان بعينه بعد أن لا يكون مما فرض عليه الدية كان جائزا وإن كان أكثر من الدية أضعافا ويأخذه حالا لأن هذا استبدال بدين لا يستحق قبضه في المجلس ولا هو في حكم المبيع فيكون ذلك صحيحا وبنفس الاستبدال يملكه عينا والأجل في العين لا يتحقق.
وكذلك لو كان من أهل الورق أو الذهب فقضى عليه بشيء من ذلك ثم صالحه على عين من جنس آخر جاز وإن جعل لما وقع عليه الصلح أجلا بأن صالحه على طعام موصوف في الذمة مؤجل لا يجوز لأنه بدل عما قضي عليه به من الدراهم أو الدنانير فيكون هذا شراء دين بدين وذلك حرام وكذلك إن قضى عليه بدراهم ثم صالحه على دنانير بعينها أكثر من ألف دينار أو أقل من ألف دينار يجوز بعد أن يقبض ذلك في المجلس وإن صالحه على دنانير مؤجلة لا يجوز لأنه صرف ولأنه دين بدين.
وإذا أقر الرجل أنه قتل رجلا خطأ وادعى وليه العمد فله الدية في ماله استحسانا وفي القياس لا شيء له وهو قول زفر رحمه الله وجه القياس أن الولي ادعى عليه القود وهو منكر وهو أقر له بالمال وقد كذبه الولي في ذلك فلا يجنب شيء.
ألا ترى أنه لو أقر بالعمد وادعى الولي الخطأ لم يجب شيء فكذلك ها هنا وجه الاستحسان أن الولي يتمكن من أخذ المال الذي أقر له به القاتل مع إصراره على دعواه بأن يقول حقي في القصاص ولكنه طلب مني أن آخذ المال عوضا عن القصاص وذلك جائز فعرفنا أنه ما صار مكذبا له فيما أقر به فأما إذا ادعى الولي الخطأ وأقر القاتل بالعمد فإن الولي لا يمكنه أن يأخذ المال لأن القاتل يجحد موجب ذلك ولا يمكنه أن يأخذ القصاص مع إصراره على الدعوى لأن استيفاء القصاص عوض عن المال.
يوضح الفرق أن الولي حين ادعى العمد فقد ادعى أصل القتل والصفة والمقر بالخطأ صدقه فيما ادعى من أصل القتل وجحد ما ادعى من صفة العمدية فلا يعتبر تصديقه في أصل القتل بعد ما كذبه في الصفة لأن موجب الأصل الذي صدقه فيه يخالف موجب الأصل بالصفة التي كذبه فيها وكذلك هذا الحكم فيما دون النفس مما يجب في العمد منه القصاص.
وإذا قتل النائم إنسانا بأن سقط عليه أو كان بيده شيء فضربه وهو نائم فعلى عاقلته الدية وعليه الكفارة قال وهذا خطأ وقد بينا أنه في معنى الخطأ في الحكم دون الخطأ حقيقة فإن النائم ليس من أهل القصد أصلا إلا أنه أوجب عليه الكفارة وجعله محروما من الميراث لتوهم أن يكون تناوم ولم يكن نائما حقيقة وهذا معتبر في حرمان الإرث وأما الكفارة فلتركه

 

ج / 26 ص -93-       التحرز في موضع يتوهم أن يصير قاتلا لإنسان في نومه بهذه الطريق وقد بينا أن الكفارة في الخطأ إنما وجبت لترك التحرز والله أعلم بالصواب.

باب الشهادة في الديات
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بالقتل خطأ وشهد الآخر على إقرار القاتل بذلك فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به فإن أحدهما شهد بفعل والآخر بقول والقول غير الفعل وواحد منهما لا يثبت عند القاضي إلا باتفاق الشاهدين عليه.
وكذلك لو شهدا على القتل واختلفا في الوقت أو المكان فإن الشهادة لا تقبل لأن الفعل لا يحتمل التكرار خصوصا القتل في محل واحد فكل واحد منهما يشهد بفعل غير ما يشهد به صاحبه وذلك يمنع قبول الشهادة كشهود الغصب إذا اختلفوا في المكان والزمان ثم ها هنا القاضي يوقن بكذب أحدهما لأنه بعد ما قبل في يوم وفي مكان لا يتصور أن يقبله في مكان آخر في يوم آخر وبعد ما تيقن القاضي بكذب الشاهد لا يجوز له أن يقضي بشهادته.
وكذلك لو اختلفا فيما قتله به فقال أحدهما كان بحجر وقال الآخر بعصا لأنهما اختلفا في المشهود به فالقتل بالحجر غير القتل بالعصا حقيقة وإن كان حكمهما واحدا وكذلك لو قال أحدهما قتله عمدا وقال الآخر قتله خطأ فقد اختلفا في المشهود به لأن الخطأ غير العمد وحكمهما مختلف.
وكذلك لو قال أحدهما: قتله بعصا وقال الآخر: لا أحفظ الذي كان به القتل لأن الذي قال لا أحفظ ضيع بعض شهادته ولأنه شاهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه.
ألا ترى أنه يتمكن من أن يبين أنه قتله بالسلاح ولا يكون هذا البيان منه مخالفا لأول كلامه ولو قال الآخر مثل ذلك كان مناقضا في كلامه فعرفنا أنه شاهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه فلا تقبل الشهادة وإن قالا جميعا لا ندري بم قتله فهو مثل الأول في القياس لأنهما أقرا أنهما ضيعا شهادتهما ولأن شرط قبول الشهادة اتفاقهما على فعل واحد ولا يكون ذلك إلا بأن يتفقا على آلة واحدة لأن الفعل بدون الآلة لا يتحقق واتفاقهما على آلة واحدة لا يثبت بدون التنصيص فأما إذا قالا لا ندري فبهذا اللفظ لا يثبت الاتفاق على آلة واحدة لجواز أنهما إذا بين كل واحد منهما ولم يكن بيانه ذلك مخالفا لأول كلامه والمحتمل لا يثبت إلا بحجة ولكنا نستحسن أن نجيز شهادتهما ونوجب عليه الدية في ماله لأن الشرط اتفاقهما فيما صرحا به في شهادتيهما وذلك أصل القتل وقد ثبت بنص لا احتمال فيه وأصل القتل موجب للدية فاتفاقهما عليه يكون اتفاقا على هذا الموجب فأما القصاص فإنما يجب باعتبار صفة العمدية ولم يتعرض الشهود لذلك وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص فتوهم اختلاف الآلة إنما يعتبر في المنع من الحكم بالقصاص لا في المنع من الحكم بالمال

 

ج / 26 ص -94-       فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولكن الدية هنا في ماله لأن في تحمل العاقلة عنه معنى الشك والاحتمال فإنه إذا كان عمدا لا تتحملها العاقلة ومع الشك يتعذر إيجابها على العاقلة فكانت في ماله.
يوضحه: أن الظاهر أن الشاهدين عرفا الآلة وأن الفعل كان عمدا بسلاح لأنهما شهدا بقتل مطلق والفعل المطلق يكون بآلته وآلة القتل السلاح وكذلك الفعل المطلق يكون من العامد إلا أنهما سترا ذلك لدرء القود ويحمل الولي على أن يكتفي بالدية وقد ندبا إلى ذلك بالشرع فلا يكون مبطلا شهادتهما بل يقضي بالدية في مال القاتل كما هو موجب شهادتهما وشهادة امرأتين مع رجل جائزة في قتل الخطأ وفي كل ما ليس فيه قصاص ولا تجوز فيما فيه قصاص.
وكذلك الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي لأن القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وفي شهادة النساء ضرب شبهة لأن الضلالة والنسيان يغلب عليهن وكذلك في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي لأنهما بدل وفي البدل القائم مقام الأصل ضرب شبهة فلا يثبت به ما يندرئ بالشبهات ويثبت به ما لا يندرئ بالشبهات وهو المال ثم بهذه الشهادة إذا تعذر القضاء بالقصاص لا يقضي بالمال بخلاف مسألة الإقرار فإن القاتل إذا أقر بالخطأ بعد ما ادعى الولي العمد يقضى بالمال لأن ها هنا تعذر القضاء بالقود لمعنى من جهة الولي وهو اشتغاله بإقامة حجة فيها شبهة والولي لا ينفرد بأخذ المال بدون رضا القاتل وهناك تعذر القضاء بالقود لمعنى من جهة القاتل وهو إقراره بالخطأ فينزل ذلك منزلة الرضا منه بأخذ المال وللولى أن يأخذ المال مكان القصاص برضا القاتل.
يوضحه: أن الإقرار موجب للحق بنفسه من غير قضاء القاضي فيتمكن الولي من أخذ ما أقر به القاتل وهو المال فأما الشهادة فلا توجب شيئا بدون قضاء القاضي والقاضي إنما يقضي بما شهد به الشهود وقد تعذر عليه القضاء بذلك ها هنا لمكان الشبهة فلا يقضي بشيء.
وإن شهد عليه رجلان بالعمد حبس حتى يسأل عنهما لأنه صار متهما بالدم والسبيل في المتهم أن يحبس لما روي:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في التهمة" وروى أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يعدو عليه ويقول أجرني يا أمير المؤمنين فقال من ماذا فقال من الدم فقال احبسوه الحديث.
وقد بينا في أول كتاب الحدود أن أخذ الكفيل في العقوبات غير ممكن لما في ذلك من معنى التوثق والاحتياط وأنه يصار فيه إلى الحبس فإن شهد عليه رجل واحد عدل حبسه أيضا أياما لأنه صار متهما بالدم فإن خبر الواحد وإن كان لا يتم بالحجة فتثبت به التهمة خصوصا إذا كان المخبر عدلا ولأن للشهادة شرطين العدد والعدالة وقد وجد أحد الشرطين ها هنا وهو العدالة فهو بمنزلة ما لو تم عدد الشهود ولم تظهر عدالتهم فكما يحبس هناك فكذلك يحبس

 

ج / 26 ص -95-       ها هنا فإن جاء شاهد آخر والا خلى سبيله والعمد في ذلك والخطأ وشبه العمد سواء وكان ينبغي في القياس أن لا يحبس في الخطأ وشبه العمد لأن الواجب فيهما المال وفي الديون التي هي غير المؤجلة لا يحبس ما لم تتم الحجة لظهور عدالة الشهود ففيما يكون مؤجلا إلى العاقلة أولى ولكنه ترك القياس لما ذكرنا أن المتهم بالدم يحبس فإن القتل أمر عظيم إلى أن يتبين موجبه لظهور عذر القاتل أو انتفاء عذره.
فإذا ادعى ولي القتل بينة حاضرة في المصر والقتل خطأ أخذ به من المدعى عليه كفيلا إلى ثلاثة أيام بخلاف ما إذا زعم أن بينته غيب لأن الدعوى دعوى الدين فالخطأ موجب الدية دينا وأخذ الكفيل بالنفس في دعوى الديون صحيح إذا ادعى بينة حاضرة في المصر فأما في العمد فلا يصار إلى أخذ الكفيل قبل إقامة البينة ولا بعدها ولكن قبل إقامة البينة يلازمه المدعي وبعد إقامة البينة يحبسه على سبيل التعزير فإن ظهرت عدالة الشهود كان القتل موجبا للقود وقضي عليه بالقود والله أعلم بالصواب.

باب القسامة
قال رحمه الله: وإذا وجد الرجل قتيلا في محلة قوم فعليهم أن يقسم منهم خمسون رجلا بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم يغرمون الدية بلغنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا أحاديث مشهورة منها حديث سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة خرجوا في التجارة إلى خيبر وتفرقوا بحوائجهم فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر يتشحط في دمه فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه فأراد عبد الرحمن وهو أخو القتيل أن يتكلم فقال عليه الصلاة والسلام: "الكبر الكبر" فتكلم أحد عميه حويصة ومحيصة وهو الأكبر منهما وأخبره بذلك قال: "ومن قتله؟" قالوا ومن يقتله سوى اليهود قال: "تبركم اليهود بأيمانها" فقالوا لا نرضى بأيمان قوم كفار لا يبالون ما حلفوا عليه قال عليه السلام: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" فقالوا كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة.
وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب أن القسامة كانت من أحكام الجاهلية فقررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وجد في حي ليهود وذكر الحديث إلى أن قال فألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الدية والقسامة وفي رواية فكتب إليهم:
"إما أن يدوه أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله".
وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خيبر:
"أن هذا قتيل وجد بين أظهركم فما الذي يخرجه عنكم؟" فكتبوا إليه أن مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل فأنزل الله على موسى عليه السلام أمرا فإن كنت نبيا فاسأل الله مثل ذلك فكتب إليهم أن الله تعالى أراني أن أختار منكم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم يغرمون الدية قالوا لقد قضيت فينا بالناموس يعني بالوحي.

 

ج / 26 ص -96-       وروى حنيف عن زياد بن أبي مريم قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان فقال: "اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا" قال: وليس لي من أخي إلا هذا قال نعم ومائة من الإبل.
وفي الحديث: أن رجلا وجد بين وادعة وأرحب وكان إلى وادعة أقرب فقضى عليهم عمر رضي الله عنه بالقسامة والدية فقال حارث بن الأصبع الوادعي يا أمير المؤمنين لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا فقال حقنتم دماءكم بإيمانكم وأغرمكم الدية لوجود القتيل بين أظهركم فهذه الآثار تدل على ثبوت حكم القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة على أهلها ونوع من المعنى يدل عليه أيضا وهو أن الظاهر أن القاتل منهم لأن الإنسان قلما يأتي من محلة إلى محلة ليقتل مختارا فيها وإنما تمكن القاتل منهم من هذا الفعل بقوتهم ونصرتهم فكانوا كالعاقلة فأوجب الشرع الدية عليهم صيانة لدم المقتول عن الهدر وأوجب القسامة عليهم لرجاء أن يظهر القاتل بهذا الطريق فيتخلص غير الجاني إذا ظهر الجاني ولهذا يستحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم على أهل كل محلة حفظ محلهم عن مثل هذه الفتنة لأن التدبير في محلتهم إليهم فإنما وقعت هذه الحادثة لتفريط كان منهم في الحفظ حين تغافلوا عن الأخذ على أيدي السفهاء منهم أو من غيرهم فأوجب الشرع القسامة والدية عليهم لذلك ووجوب القسامة والدية على أهل المحلة مذهب علمائنا.
وقال مالك رضي الله عنه: إذا كان بين أهل القتيل وأهل المحلة عداوة ظاهرة ولوث وتأثيره وكان العهد قريبا بدخوله في محلتهم إلى أن وجد قتيلا يؤمر الولي بأن يعين القاتل منهم باعتبار اللوث وتفسير اللوث أن يكون عليه علامة القاتلين أو يكون هو مشهورا بعداوته ثم يحلف الولي خمسين يمينا بالله أنه قتله فإذا حلف اقتص له من القاتل وهو قول الشافعي في القديم وقال في الجديد فإذا حلف قضي له بالدية في ماله.
وإذا انعدمت هذه المعاني أو أبى الولي أن يحلف فالحكم فيه ما هو الحكم في سائر الدعاوى واحتج مالك رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن أبي حثمة:
"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وفي رواية: "تحلفون وتستحقون" وهذا تنصيص على أن اليمين على الولي وأنه يستحق القصاص.
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قضى بالقود في القسامة" وقضى به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وعن بعض الصحابة قال قتلنا قاتل ولينا في القسامة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا حجة سوى اللوث وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة" ففي هذا الاستثناء تنصيص على أن في القسامة اليمين على المدعي فإذا حلف ترجح معنى الصدق في جانبه فيستحق المدعى وهو القود ثم قال الشافعي رضي الله عنه نرجح جانبه ولكن بحجة فيها ضرب شبهة والقصاص عقوبة يندرئ بالشبهة فيجب المال وهذا لأن اليمين حجة من يشهد له الظاهر كما في سائر الدعاوى فإن

 

ج / 26 ص -97-       الظاهر يشهد للمدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته فأما في القسامة فالظاهر يشهد للمدعي عند قيام اللوث وقرب العهد فيكون اليمين حجة له.
وحجتنا ما روينا من الآثار المشهورة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو أعطى الناس بدعواهم" الحديث.
وقد بينا في كتاب الدعوى أن اليمين ليست بحجة صالحة لاستحقاق فلس بها فكيف تكون حجة لاستحقاق نفس خصوصا في موضع يتيقن بأن الحالف مجازف يحلف على ما لم يعاينه بحال محتمل في نفسه وهو اللوث وإنما اليمين مشروعة لإبقاء ما كان على ما كان فلا يستحق بها ما لم يكن مستحقا فأما قوله:
"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" فلا تكاد تصح هذه الزيادة وقد قال جماعة من أهل الحديث أوهم سهل بن أبي حثمة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الإنكار عليهم لا على طريق الأمر لهم بذلك فإنه لو كان على سبيل الأمر لكان يقول أتحلفون فتستحقون دم صاحبكم فأما قوله: "أتحلفون وتستحقون" فعلى سبيل الإنكار كقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:165 -166] الآية وكذلك قوله: "تحلفون" معناه: "أتحلفون" كقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] معناه أتريدون وكان عليه الصلاة والسلام رأى منهم الرغبة في حكم الجاهلية حين أبوا أيمان اليهود وبقولهم لا نرضى بيمين قوم كفار فقال ذلك على سبيل الزجر فلما عرفوا كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك رغبوا عنه بقولهم كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى محلتهم فصاروا مدعى عليهم فلهذا عرض عليهم اليمين.
والحديث الآخر لا يكاد يصح لما روي عن أيوب مولى أبي قلابة قال كنت عند عمر بن عبد العزيز وعنده رؤساء الناس فخوصم إليه في قتيل وجد في محلة وأبو قلابة جالس عند السرير أو خلف السرير فقال الناس قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقود في القسامة وأبو بكر وعمر والخلفاء بعدهم فنظر إلى أبي قلابة وهو ساكت فقال ما تقول قال عندك رؤساء الناس وأشراف العرب أرأيتم لو شهد ثم رجلان من أهل دمشق على رجل من أهل حمص أنه سرق ولم يرياه أكنت تقطعه فقال لا قال أرأيتم لو شهد أربعة من أهل حمص على رجل من أهل دمشق أنه زنى ولم يروه أكنت ترجمه فقال لا فقال والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسا بغير نفس إلا رجلا كفر بالله بعد إيمانه أو زنا بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة والدية على أهل خيبر في قتيل وجد بين أظهرهم فانقاد عمر بن عبد العزيز لذلك وهذا لأن أمراء بني أمية كانوا يقضون بالقود في القسامة على ما روي عن الزهري قال القود في القسامة من أمور الجاهلية أول من قضى به معاوية فلهذا بالغ أبو قلابة في إنكار ذلك وقوله أو عليه الصلاة والسلام:
"إلا في القسامة" يعني الأيمان مكررة في

 

ج / 26 ص -98-       القسامة بخلاف سائر الدعاوى معناه لا تنقطع الخصومة باليمين في القسامة بل يقضي بالدية بعدها بخلاف سائر الدعاوى ثم إنما يقضي بالدية على عاقلة أهل المحلة في ثلاث سنين لأن حالهم هنا دون حال من باشر القتل خطأ وإذا كانت الدية هناك على عاقلته في ثلاث سنين فها هنا أولى فإن لم يكمل العدد خمسون رجلا كررت عليهم الأيمان حتى يكملوا خمسين يمينا لما روي أن الذين جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه من أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلا منهم فحلفهم ثم اختار منهم واحدا فكرر عليه اليمين وهذا لأن عدد اليمين في القسامة منصوص عليه ولا يجوز الإخلال بالعدد المنصوص عليه ويجوز تكرار اليمين من واحد كما في كلمات اللعان ولأولياء القتيل أن يختاروا في القسامة صالحي العشيرة من الذين وجد بين أظهرهم القتيل فيحلفونهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأخ القتيل: "اختر منهم خمسين رجلا" فدل أن الخيار إليه وهو حقه يستوفي بطلبه وإليه تعيين من يستوفي منه حقه وله أن يختار الشبان والفسقة منهم لأن تهمة القتيل عليهم أظهر وله أن يختار المشايخ والصلحاء منهم لأنهم يتحرزون عن اليمين الكاذبة أكثر مما يتحرز الفسقة فإذا علموا القاتل منهم أظهروه ولم يحلفوا.
وفي ظاهر الرواية: القسامة على أهل المحلة والدية على عواقلهم وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول زفر القسامة والدية على عاقلة أهل المحلة قياسا لأحد الموجبين على الآخر وعلى قول أبي يوسف لا قسامة على العاقلة لأن التحمل يجري في الدية ولا يجري التحمل في اليمين ولو اختاروا في القسامة أعمى أو محدودا في قذف كان ذلك لهم لأنهم أسوة غيرهم في الأهلية لليمين والنكول والخيار فيه إليهم دون الإمام لأن الحق لهم وإنما أراد بهذا الفرق بين هذا وبين اللعان فإن اللعان شهادة والمحدود في القذف والأعمى ليس لهما شهادة الأداء فأما هذه فيمين محضة قال في الأصل وكل ما يلزم العاقلة يلزم أهل الديوان والمعاقلة من أهل الديوان ولا يلزم النساء والذرية من ذلك شيء ولا يؤخذ من الرجل في كل سنة إلا ثلاثة دراهم أو أربعة لما روي أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين وفرض الأعطيات جعل المعاقل عليهم في أعطياتهم على كل رجل في كل سنة ثلاثة دراهم أو أربعة وهذا عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه العاقلة هم العشيرة على ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألا ترى أنه قال في حديث الجنين لأولياء الضاربة:
"قوموا فدوه" ولكنا نقول ما كانت الدواوين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يتناصرون بالقرابة بعد الدين فلما دون عمر رضي الله عنه الدواوين جعل التعاقل بالديوان لأنه باعتبار التناصر والتناصر بالديوان دون القبيلة فإن أهل الديوان وإن كانوا من قبائل شتى يقوم بعضهم بنصرة بعض وربما تظهر العداوة مع من هو من قبيلته من أهل ديوان آخر أكثر مما تظهر مع غيره على ما روي أنه في الجمل وصفين كان يقوم أهل كل قبيلة من أحد الصفين بمقاتلة تلك القبيلة من الصف الآخر ثم الأخذ من

 

ج / 26 ص -99-       العاقلة على وجه لا يؤدي إلى الإجحاف بهم وذلك في أن يؤخذ منهم في كل سنة القدر الذي سمي فإن لم يسع ديوان أولئك القوم ضم إليهم أقرب القبائل إليهم في النسب حتى لا يقع على كل واحد منهم إلا ثلاثة دراهم أو أربعة ولا يدخل في ذلك النساء والذراري لأنهم أتباع لا تقوم النصرة بهم وتمام بيان هذا الكلام في هذا الفصل في كتاب المعاقل والقبائل  والذي حلف في القسامة والذي لم يقبل ولم يشهد في ذلك كل سواء الدية عليهم على أهل الديوان لأنها مأخوذة من أعطياتهم وقد استوى في الأعطيات من شهد منهم ومن غاب وكذلك في ظاهر الرواية من كان غائبا ومن كان حاضرا من أهل المحلة في القسامة سواء.
 وعن أبي يوسف رحمه الله قال من علمت أنه كان غائبا حين وقعت هذه الحادثة لا أدخله في القسامة لأنه ليس عليه من تهمة القتل شيء ولم يكن قائما في حفظ المحلة والتدبير فيها حين وقعت هذه الحادثة  ووجه ظاهر الرواية أن السبب كونه من أهل المحلة لا تهمة القتل فإن الفقهاء والمشايخ وصالحي أهل المحلة يحلفون وليس عليهم من تهمة القتل شيء وهذا السبب لا ينعدم بكونه غائبا عن المحلة.
وإذا وجد القتيل بين قريتين أو سكتين فإلى أيهما كان أقرب كان عليهم القسامة والدية لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن قتيلا وجد بين قريتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أن يمسح بينهما فوجد إلى إحدى القريتين أقرب بشبر فقضى عليهم بالقسامة والدية  وعن عمر رضي الله عنه في القتيل الموجود بين وادعة وأرحب أمر بأن يقاس بين القبيلتين وكان إلى وادعة أقرب فجعلها عليهم ولأن من يقرب من موضع فهو أحق بحفظ ذلك الموضع والتدبير فيه ممن يكون أبعد من ذلك الموضع  فإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه فإذا امتنع منه فإنه يحبس ليوفي كما كلمات اللعان.
وإذا وجد القتيل في قرية أصلها لقوم شتى فيهم المسلم والكافر فالقسامة على أهل القرية المسلم منهم والكافر فيه سواء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة على أهل خيبر وكانوا من اليهود ثم يعرض عليهم الدية فما أصاب المسلمين من ذلك فعلى عواقلهم وما أصاب أهل الذمة  فإن كانت لهم معاقل فعليهم وإلا ففي أموالهم كما لو باشروا بأيديهم القتل خطأ. 
وإذا وجد القتيل في قبيلة بالكوفة وفيها سكان وفيها من قد اشترى من دورهم فالقسامة والدية على أهل الخطة دون السكان والمشترين  وهذه فصول أحدها أنه ما بقي في المحلة أحد من أصحاب الخطة فليس على المشترين من ذلك شيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله  وفي قول أبي يوسف وهو قول ابن أبي ليلى المشترون في ذلك كأصحاب الخطة لأنهم قاموا مقام البائع ولأنهم ملاك لبعض المحلة كأصحاب الخطة وفيما يجب باعتبار الملك لا يختلف باختلاف سبب الملك كاستحقاق الشفعة.
ألا ترى أن في القتيل الموجود في دار رجل لا فرق بين أن يكون صاحب الدار مشتريا

 

ج / 26 ص -100-    أو صاحب خطة فكذلك في القتيل الموجود في المحلة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا صاحب الخطة أخص بتدبير المحلة من المشترين.
ألا ترى أن المحلة تنسب إلى أصحاب الخطة دون المشتريين وأن المشتريين قل ما يزاحمون أهل الخطة في التدبير والقيام بحفظ المحلة فكان صاحب الخطة أخص بحكم القسامة والدية من المشتريين أيضا بمنزلة صاحب الدار في القتيل الموجود في داره مع أهل المحلة لما كان هو أخص بالتدبير في داره كان موجب ذلك عليه ثم المشترون اتباع لأصحاب الخطة وما بقي شيء من الأصل يكون الحكم له دون التبع  وقيل إنما أجاب أبو حنيفة رحمه الله بهذا بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في زمانه أن أصحاب الخطة في كل محلة هم الذين يقومون بتدبير المحلة ولا يشاركهم المشترون في ذلك فأما إذا لم يبق من أصحاب الخطة أحد وفيها سكان ومشترون فهي عليهم وهو قول ابن أبي ليلى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها على أهل خيبر وقد كانوا سكانا.
ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أجلاهم منها إلى الشام وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن التدبير في أهل المحلة إلى أصحاب الملك دون السكان لأن السكان يتنقلون في كل وقت من محلة إلى محلة دون أصحاب الملك والدليل عليه أن ما ينبني من الغنم شرعا على القرب يختص به أصحاب الملك دون السكان وهو الشفعة فكذلك ما يكون من الغرم شرعا ولا حجة في حديث خيبر فإنهم كانوا ملاكا قد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه استثنى بقوله:
"أقركم ما أقركم الله" فلهذا أجلاهم عمر رضي الله عنه وما وظف عليهم كان بطريق الخراج إلا أن يقال يملك عليهم الأراضي وقد بينا هذا في المزارعة. 
ومن فروع هذه المسألة إذا وجد قتيل في السجن فعند أبي حنيفة ومحمد على بيت المال وعند أبي يوسف رحمه الله على أهل السجن لأنهم بمنزلة السكان في ذلك الموضع وهم الذين يقومون بتدبير ذلك الموضع ما داموا فيه ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا أهل السجن مقهورون في المقام في ذلك الموضع وهم قل ما يقومون بحفظه والتدبير فيه إلا بقدر حاجتهم ثم ذلك الموضع معد لمنفعة المسلمين فدية القتيل الموجود فيه تكون على المسلمين في بيت مالهم. 
ولو وجد القتيل في دار رجل قد اشتراها وهو من غير أهل الخطة فأهل الخطة برآء من ذلك والقسامة على صاحب الدار وعلى قومه الدية لأن التدبير في حفظ الملك الخاص إلى المالك دون أصحاب الخطة من أهل المحلة والقتيل الموجود في ملك خاص يجعل كأن صاحب الملك هو القاتل له في حكم القسامة والدية فلهذا كانت القسامة عليه والدية على عاقلته. 
وإذا كانت الدار بين رجلين فوجد فيها قتيل وأحدهما أكثر نصيبا من الآخر فالدية على عواقلهما نصفين لأن القيام بحفظ المكان والتدبير فيه يكون باعتبار أصل الملك لا باعتبار قدر الملك وقد استويا في أصل الملك.

 

 

ج / 26 ص -101-    ألا ترى أنه في المغنم المستحق بسبب الملك يعتبر أصل الملك وهو الشفعة؟ فكذلك في الغرم.
وإذا وجد الرجل قتيلا في دار نفسه فعلى عاقلته الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله  وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليهم لأنه لو وجد غيره قتيلا في هذه الدار جعل هو كالمباشر لقتله في حكم الدية فإذا وجد هو قتيلا فيها يجعل كأنه باشر قتل نفسه ومن قتل نفسه كان دمه هدرا والدليل عليه أن المكاتب إذا وجد قتيلا في دار من كسبه لا يجب فيه شيء لهذا المعنى وكذا لو أن عبده وجد قتيلا فيه كان موجبه عليه فإذا وجد هو فيها قتيلا لا يجب له على نفسه شيء فكذلك في الحر ولا ينظر إلى كون الدار في الحال لورثته لأن الوجوب باعتبار أصل الجناية وعند الجناية كانت الدار مملوكة.
ألا ترى أنه لا تجب القسامة ها هنا ولو كان المعتبر هو الحال لكانت الدية على عاقلة ورثته  وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يترك في الإسلام مفرح" أي مهدر الدم  والمعنى فيه أنه وجد قتيلا في موضع لو وجد غيره قتيلا في ذلك الموضع كانت الدية عليه وعلى عواقله فإذا وجد هو قتيلا فيه كانت الدية على عواقله كما لو وجد واحد من أهل المحلة قتيلا في المحلة تجب الدية والقسامة على أهل المحلة بهذا المعنى ولهذا لا تجب القسامة ها هنا لأنه لو وجد غيره فيه قتيلا لكانت القسامة عليه دون عاقلته  فإذا وجد هو قتيلا فيه يتعذر إيجاب القسامة بخلاف الدية  وحقيقة المعنى فيه أن السبب وجود القتيل في ذلك المكان كما نص عليه عمر رضي الله عنه وإنما أغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم وحين وجد هو قتيلا الدار مملوكة لورثته لا له لأنه ليس من أهل الملك فتكون الدية عليهم وإنما قال الدية على عاقلته بناء على الظاهر وهو أن عاقلة الوارث والمورث تتحد  فإن كان في موضع تختلف العاقلة فينبغي على قياس هذه الطريقة أن تكون الدية على عاقلة الورثة وهو الأصح وعلى قياس الطريقة الأولى على عاقلة القتيل. 
ثم إذا وجد غيره قتيلا في داره إنما يجعل الدية والقسامة عليه باعتبار الظاهر لأن الظاهر أن غيره لا يتمكن من ذلك في ملكه وهذا لا يوجد فيما إذا وجد هو قتيلا فيها فالظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فلهذا يجعل كأن غيره قتله وعند القتل كان التدبير في حفظ ذلك الموضع إليه فإذا فرط في ذلك وجبت الدية على عاقلته لورثته. 
فإن قيل: إذا قلتم تجب الدية على عاقلة الورثة فكيف يستقيم أن تعقلوا عنهم؟. 
قلنا: لأن الدية تجب للمقتول حتى أنه يقضي منها ديونه وتنفذ وصاياه ثم يخلفه الوارث وهو نظير الصبي أو المعتوه إذا قتل أباه فإنه تجب الدية على عاقلته ويكون ميراثا له وهذا بخلاف المكاتب يوجد قتيلا في دار نفسه لأن هناك إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له باعتبار عقد الكتابة وعقد الكتابة باق بعد ما وجد هو فيه قتيلا فلهذا جعل كأنه قتل نفسه فأما ها هنا إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له لقيام ملكه في الدار حين وجد القتيل

 

ج / 26 ص -102-    وذلك غير موجود فيما إذا وجد هو قتيلا فيه فإن الملك منتقل إلى ورثته فلهذا افترقا  والقتيل عندنا كل ميت به أثر فإن لم يكن به أثر فلا قسامة فيه ولا دية إنما هذا ميت لأن حكم القسامة ثبت شرعا في المقتول والمقتول إنما مات حتف أنفه بالأثر فمن لا أثر به فهو ميت فلا حاجة بنا إلى صيانة دمه عن الهدر بخلاف من به أثر وهو نظير من وجد في المعركة وبه أثر يكون شهيدا لا يغسل فإن لم يكن به أثر غسل.  وكذلك إن كان الدم يخرج من موضع يخرج الدم منه عادة من غير جرح في الباطن كالأنف فلا قسامة فيه وإن كان لا يخرج الدم منه عادة إلا بجرح في الباطن كالأذن فهو قتل وقد بينا هذا في الشهيد. 
وإن ادعى أهل القتيل على بعض أهل المحلة الذين وجد القتيل بين أظهرهم فقالوا قتله فلان عمدا أو خطأ لم يبطل هذا حقه وفيه القسامة والدية لأنهم ذكروا ما كان معلوما لنا بطريق الظاهر وهو أن القاتل واحد من أهل المحلة  ولكنا لا نعلم ذلك حقيقة  وكذلك بدعوى الأولياء على واحد منهم بعينه لا يصير معلوما لنا حقيقة أنه هو القاتل  فإذا لم يستفد بهذه الدعوى شيئا لا يتغير به الحكم فتبقى القسامة والدية على أهل المحلة كما كان.
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أسقط القسامة عن أهل المحلة لأن دعوى المولى على واحد منهم بعينه يكون إبراء لأهل المحلة عن القسامة في قتيل لا يعرف قاتله فإذا زعم الولي أنه يعرف القاتل منهم بعينه صار مبرئا لهم عن القسامة وذلك صحيح منه  فإن أقام الولي شاهدين من غير أهل المحلة على ذلك الرجل فقد أثبت عليه القتل بالحجة فيقضى عليه بموجبه  وإن أقام شاهدين من أهل المحلة عليه بذلك لا تقبل شهادتهما لأن أهل المحلة خصماء في هذه الحادثة ما بقيت القسامة والدية عليهم فكانوا متهمين في هذه الشهادة وكانوا بمعنى الشاهدين لأنفسهم  وإذا لم تقبل شهادتهما قال أبو يوسف رحمه الله إن اختار الولي الشاهدين من جملة من يستحلفهم يحلفهما بالله ما قتلنا لأنهما زعما أنهما يعلمان القاتل فلا معنى لاستحلافهما على العلم وإنما يستحلفان على البتات بالله ما قتلنا  وقال محمد رحمه الله يحلفان بالله ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا سوى فلان لأن ما هو المقصود يحصل بهذا الاستثناء فلا يجوز إسقاط اليمين على العلم في حقهما كما لا يجوز في حق غيرهما. 
وإن ادعى الأولياء على غير أهل المحلة فقد أبرؤوا أهل المحلة من ذلك حتى لا تسمع دعواهم بعد ذلك على أهل المحلة للتناقض  فإن أقاموا شاهدين بذلك على المدعى عليه من أهل المحلة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل شهادتهما  وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل شهادتهما على القاتل بذلك. 
وجه قولهما: أن أهل المحلة حين وجد القتيل بين أظهرهم بعرض أن يكونوا خصماء لو ادعى الولي عليهم  فإذا ادعى على غيرهم فقد زالت هذه العرضية وتبين أنهم لم يكونوا

 

ج / 26 ص -103-    خصماء في هذه الحادثة أصلا فوجب قبول شهادتهم فيها كالشفيع إذا شهد بالبيع بعد ما سلم الشفعة فإنه تقبل شهادته. 
والوكيل بالخصومة إذا عزل قبل أن يخاصم ثم شهد في تلك الحادثة تقبل شهادته لهذا المعنى ولأن البراءة قد وقعت لأهل المحلة بدعوى الولي على غيرهم على البتات بدليل أنهم لا يطالبون بشيء بسبب هذه الحادثة بعد هذا الحال فكانوا بمنزلة غيرهم في الشهادة فيها ولأنا إنما كنا نحلفهم على العلم ليظهروا القاتل إن علموا فيستحيل أن يظهروا ذلك حسبة بالشهادة ولا يكون مقبولا منهم بخلاف ما إذا كانت الدعوى على واحد منهم لأن هناك لا يظهرونه حسبة بالشهادة بل يسقطون به القسامة والدية عن أنفسهم فكانوا متهمين فيها  وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول أهل المحلة صاروا خصماء في حادثة لا تقبل شهادتهم فيها وإن خرج من الخصومة كالوكيل إذا خاصم في المجلس يعني مجلس الحكم ثم عزل فشهد وإنما قلنا: ذلك لأن السبب الموجب للدية والقسامة عليهم وجود القتيل بين أظهرهم كما قال عمر رضي الله عنه وإنما أغرمكم الدية لوجود القتيل بين أظهركم وبدعوى الولي على غير أهل المحلة لا يتبين أن هذا السبب لم يكن ولكن خرجوا من الخصومة بعد أن كانوا خصماء لكون الولي مناقضا في الدعوى عليهم بعد ذلك وتأثيره أنه يحتمل أنهم قصدوا بالشهادة تأكيد تلك البراءة وأن الولي قصد بتلك البراءة تصحيح شهادتهم له وكذلك تتمكن تهمة المواضعة بينهم وبين الولي فتواضعهم على أن يدعي على غيرهم ليشهدوا له فلتمكن التهمة من هذا الرجل امتنع قبول الشهادة لأنها ترد بالتهمة.
 وإن ادعى أهل المحلة على رجل من عندهم أنه هو الذي قتله وأقاموا عليه بينة من غيرهم قبلت بينتهم لأنهم يسقطون بهذه البينة الخصومة عن أنفسهم ومن ادعى نفي الخصومة عن نفسه وأثبته بالبينة كان مقبولا منه كما لو أقام ذو اليد البينة أن العين وديعة في يده لفلان ثم ادعاه الأولياء على ذلك الرجل أخذوه بالدم وإن لم يدعوا عليه ذلك لم يكن عليه ولا على أهل المحلة شيء لأن أهل المحلة خصماء في إسقاط القسامة والدية عن أنفسهم لا في إثبات موجب القتل على غيرهم إنما الخصم في ذلك الولي فلا بد من دعواه ليقضى بموجب القتل على ذلك الرجل.
وإذا وجد بدن القتيل أو أكثر من نصف البدن أو نصف البدن ومعه الرأس في محلة فعلى أهلها القسامة والدية لأن هذا قتيل وجد في محلتهم وللأكثر حكم الكمال وإن وجد نصفه مشقوقا بالطول أو وجد أقل من النصف ومعه الرأس أو وجدت رجله أو يده أو رأسه فلا شيء عليهم فيه لأن الموجود ليس بقتيل إذ الأقل لا يجعل بمنزلة الكل ثم هذا يؤدي إلى تكرار القسامة والدية في قتيل واحد فإنا لو أوجبنا بوجود النصف في هذه المحلة القسامة والدية على أهلها لم نجد بدا من أن نوجب إذا وجدنا النصف الآخر في محلة أخرى القسامة والدية على أهلها وتكرار القسامة والدية في قتيل واحد غير مشروع وهذا نظير ما تقدم في حكم الصلاة عليه.

 

ج / 26 ص -104-    وإذا وجد العبد أو المكاتب أو المدبر أو أم الولد قتيلا في محلة وجبت القسامة والقيمة على عاقلتهم في ثلاث سنين لأن القيمة في المماليك بمنزلة الدية في الأحرار ولنفس المملوك من الحرمة ووجوب الصيانة عن الهدر ما لنفس الحر بدليل مباشرة القتل وأما الدواب والبهائم والعروض فلا قسامة فيها ولا قيمة لأنه مال مبتذل ليس له من الحرمة ما للنفس ولا تجب صيانته عن الإهدار لا محالة وفي الحكم الثابت شرعا بخلاف القياس إنما يلحق بالمنصوص ما يكون في معناه من كل وجه فأما ما ليس في معناه من كل وجه فلا يلحق به. 
وإن وجد فيهم جنين أو سقط فليس عليهم شيء لأن هذا بمنزلة الجزء من وجه كاليد والرجل  وإن كان تاما وبه أثر فهو قتيل وفيه القسامة والدية لأن لنفس الصغير من الحرمة ما لنفس الكبير فكان هذا في معنى المنصوص عليه من كل وجه. 
ولو وجد الحر قتيلا في دار أبيه أو أمه أو المرأة في دار زوجها ففيه القسامة والدية على العاقلة ولا يحرم الميراث لأن حرمان الميراث جزاء مباشرة القتل بصفة الخطر وذلك لم يثبت على صاحب الدار لوجود القتيل في داره وإنما جعل وجود القتيل في داره بمنزلة مباشرته في حكم القسامة والدية خاصة للصيانة عن الهدر فهو نظير التسبب الذي قام مقام المباشرة في حكم الدية خاصة دون حرمان الميراث. 
وإن وجد العبد قتيلا في دار مولاه فلا شيء فيه لأنه ماله فهو بمنزلة ما لو باشر قتله بيده إلا أن يكون عليه دين فحينئذ يجب على المولى قيمته حالة في ماله لغرمائه كما لو قتله بيده لأن ماليته حق الغرماء  وإذا وجد المكاتب قتيلا في دار مولاه فالقيمة على مولاه في ماله كما لو باشر قتله بيده وهذا لأن المكاتب مملوك له فبدله من وجه مملوك له والعاقلة لا تتحمل عنه له فيكون في ماله ولكن تجب القيمة بالقتل فيكون مؤجلا في ثلاث سنين ثم يستوفى منه ما بقي من مكاتبه ويحكم بحريته وما بقي يكون ميراثا.
وإذا وجد الرجل قتيلا على دابة يسوقها رجل أو يقودها أو هو راكبها فهو على الذي معه لأنه هو المختص بتدبير هذه الدابة وباليد عليها.
ألا ترى أنها لو وطأت إنسانا كان ذلك عليه  وكذلك إذا وجد عليها قتيلا فإن لم يكن مع الدابة أحد فهو على أهل المحلة الذين وجد فيهم القتيل على الدابة لأن وجوده على الدابة كوجوده في الموضع الذي فيه الدابة موقوفة فإنهم أحق الناس بتدبير تلك البقعة وتدبير ما فيها مما لا يعرف في غيرهم وكذلك الرجل يحمل قتيلا فهو عليه لأن يده على نفسه أقوى من يده على داره  وإذا وجد في داره قتيلا كانت القسامة والدية عليه فإذا وجد القتيل على ظهره أو على رأسه أولى.
وإذا وجد القتيل في سفينة فالقسامة على من في السفينة من الركاب وغيرهم من أهلها من الذين هم فيها والدية عليهم أما عند أبي يوسف رحمه الله فلا يشكل لأنه يجعل

 

ج / 26 ص -105-    السكان والملاك في القتيل الموجود في المحلة سواء فكذلك في القتيل الموجود في السفينة  وأما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ففي المحلة السكان لا يشاركون الملاك لأن التدبير في المحلة إلى الملاك دون السكان وفي السفينة الظاهر أنهم في تدبيرها سواء إذا حزبهم أمر يوضحه أن السفينة تنقل فيكون المعتبر فيها اليد دون الملك فإنها مركب كالدابة فكما أن المعتبر في القتيل الموجود على الدابة هو اليد دون الملك فكذلك في القتيل الموجود في السفينة وهم في اليد عليها سواء. 
وإذا وجد القتيل في نهر عظيم يجري الماء به فلا شيء فيه لأن مثل هذا النهر لا يد لأحد عليه فقهر الماء يمنع قهر غيره عليه فهو كالقتيل الموجود في المغارة في موضع لا حق لأحد فيه إلا أن يكون نهرا صغيرا لقوم معروفين فهو عليهم لأنه منسوب إليهم.
ألا ترى أن التدبير في كريه وإجراء الماء فيه إليهم وهم أحق الناس بالانتفاع بمائه سقيا لأراضيهم فكان بمنزلة المحلة والفرق بين النهر العظيم والصغير ما بينا في الشفعة فهو نهر عظيم مثل الفرات وجيحون  فإن كان إلى جانب الشاطئ محبسا فهو على أقرب القرى إليه والأرضين فعليهم القسامة والدية لأن الحبس إلى جانب الشاطئ كالملقى على الشاطئ والذين هم بقرب ذلك الموضع أخص بالتدبير فيه لأنهم يسقون الماء منه ويسوقون دوابهم إلى ذلك الموضع للسقي وإذا كانوا بالقرب من ذلك الموضع بحيث يسمعون صوت من وقف على ذلك الموضع فإن كانوا لا يسمعون ذلك فلا شيء عليهم فيه هكذا فسره الكرخي.
وإن وجد قتيلا في فلاة فليس فيه شيء  قال الكرخي رحمه الله وهذا إذا لم يكن ذلك الموضع قريبا من العمران فإن كان قريبا من العمران بحيث يبلغ أعلى صوته أهل العمران في ذلك الموضع فهو عليهم لأنه الموضع الذي ينتهي إليه صوته من العمران وهم أحق بالتدبير فيه لرعي مواشيهم.
ألا ترى أنه ليس لأحد أن يبني في ذلك الموضع بغير رضاهم فأما ما وراء ذلك فهو من جملة الموات لا حق لأحد فيه فلا يجب فيه شيء  وإن وجد في سوق المسلمين أو مسجد جماعتهم فهو على بيت المال والمراد سوق العامة والمسجد الجامع لأن ذلك لجماعة المسلمين وهم في التدبير في ذلك الموضع والقيام بحفظه سواء وما يجب على جماعة المسلمين يؤدى من بيت مالهم لأن مال بيت المال معد لذلك وليس فيه قسامة لأن المقصود بالقسامة نفي تهمة القتل وذلك لا يتحقق في جماعة من المسلمين  فأما إذا كان في سوق خاص لأهل صنعة ينسب ذلك السوق إليهم فهو بمنزلة المحلة المنسوبة إلى قوم مخصوصين  وكذلك إن كان في مسجد محلة فهو على أهل تلك المحلة لأنهم أحق الناس بالتدبير فيها من حيث فتح الباب وإغلاقه ونصب المؤذن والإمام فيه بمنزلة الموجود في محلتهم. 
وإن كان في دار رجل خاص يملكها في السوق فعلى عاقلته القسامة والدية لأن المالك

 

ج / 26 ص -106-    هو المختص بتدبير ملكه وبالأمر بحفظ ملكه لكيلا يقع فيه مثل هذه الحادثة وفي هذا المعنى لا فرق بين أن يكون ملكه في السوق أو في المحلة. 
وإذا جرح الرجل في محلة أو أصابه حجر لا يدري من رماه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعلى أهل تلك القبيلة القسامة والدية فإن كان صحيحا يجيء ويذهب فلا شيء فيه وعلى قول ابن أبي ليلى لا شيء عليهم في الوجهين وهو قول أبي يوسف الآخر لأن القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة والجريح غير القتيل ولو جعل موته محالا على تلك الجراحة لما افترق الحال بين ما إذا كان صاحب فراش أو كان يذهب ويجيء بعد تلك الجراحة كما لو كان الجارح معلوما  وجه قولنا أنه إذا كان صاحب فراش فهو مريض والمرض إذا اتصل به الموت يجعل كالميت من أول سببه.
ألا ترى أن في حكم التصرفات جعلت هذه الحال كالحال بعد موته فكذلك في حكم القسامة والدية يجعل كأنه مات حين جرح في ذلك الموضع فأما إذا كان صحيحا يذهب ويجيء فهو في حكم التصرفات لم يجعل كالميت من حين جرح فكذلك في حكم القسامة والدية وعلى هذا الجريح إذا وجد على ظهر إنسان يحمله إلى بيته فمات بعد يوم أو يومين  فإن كان صاحب فراش حتى مات فهو على الذي كان يحمله كما لو مات على ظهره  وإن كان يذهب ويجيء فلا شيء على من حمله وفي قول ابن أبي ليلى لا شيء في الوجهين. 
وإذا وجد القتيل في العسكر والعسكر في أرض فلاة فهو على القبيلة التي وجد في رحالهم لأنهم سكان في ذلك الموضع ما داموا نازلين وأهل كل قبيلة ينزلون في موضع لا ينازعهم غيرهم في تدبير ذلك الموضع فكانوا كأهل المحلة والموضع الذي لا ملك لأحد فيه المعتبر هو اليد وأهل القبيلة الذين وجد القتيل في رحالهم هم المختصون باليد في ذلك الموضع  فإن كان العسكر في ملك رجل فعلى عاقلة صاحب الأرض القسامة والدية لأن المالك هو المختص بالتدبير في ملكه وولاية حفظ ملكه إليه وقد بينا أن لا معتبر بالسكان مع الملاك  وقيل في قياس قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن يكون على النازلين في ذلك الموضع لأن عنده السكان كالملاك  وإن كان العسكر بفلاة من الأرض فوجد القتيل في فسطاط رجل فعليه القسامة وتكون عليه الأيمان وعلى عاقلته الدية لأنه مختص بحفظ الفسطاط والتدبير فيه بمنزلة صاحب الدار في داره ولم يذكر في الكتاب في القتيل الموجود في المحلة إذا كان فيها خمسون رجلا أو أكثر وأراد أن يعين واحدا منهم ليكون عليه اليمين خمسين مرة هل له ذلك أم لا؟.
وقد روي عن محمد رحمه الله أنه ليس له ذلك لأن تكرار اليمين على واحد ليس فيه فائدة وإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ها هنا وإنما الضرورة في القتيل الموجود في دار رجل أو فسطاطه. 
وإن وجد القتيل بين قبيلين من العسكر فعليهما جميعا القسامة والدية إذا كان القتيل

 

ج / 26 ص -107-    إليهما سواء بمنزلة الموجود بين المحلتين إذا كان إليهما سواء  وإن كان أهل العسكر قد لقوا عدوهم فلا قسامة في القتيل ولا دية لأن الظاهر أنه قتيل الأعداء عندما التقى الصفان للقتال والظاهر أن الإنسان بعد اللقاء إنما يقتل من يعاديه لا من يوازره  وإنما كنا نوجب القسامة والدية على أهل المحلة باعتبار نوع من الظاهر وقد انعدم ها هنا  فإن كان العسكر مختلطا فوجد في طائفة منهم قتيل فهو على أقرب أهل إلا خبية إليه على من في الخباء جميعا لأن تدبير ذلك الموضع إليهم وقد بينا أن القرب معتبر في حكم القسامة والدية. 
وإذا وجد القتيل في قبيلة فإنه لا يقبل في القسامة النساء والصبيان والمماليك من المكاتبين وغيرهم ومعتق البعض في قول أبي حنيفة رحمه الله كالمكاتب لأن هؤلاء أتباع في السكنى  والظاهر أنهم لا يزاحمون أهل القبيلة في التدبير في قتيلهم ولأنهم لا يقومون بحفظها دون الرجال البالغين ثم المعتبر في القسامة والدية النصرة والنصرة لا تقوم بالنساء والصبيان. 
وإذا وجد القتيل في دار امرأة في مصر ليس فيه من عشيرتها أحد فإن الأيمان تتكرر على المرأة حتى تحلف خمسين يمينا ثم تفرض الدية على أقرب القبائل منها وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله  وهو قول أبي يوسف ومحمد الأول ثم رجع أبو يوسف وقال يضم إليها أقرب القبائل منها فيقسمون ويعقلون  وجه قوله الآخر أن المرأة في حكم القسامة كالصبي بدليل أن في القتيل الموجود في المحلة لا يدخل النساء والصبيان ثم إذا وجد القتيل في دار الصبي فالقسامة والدية على عاقلته فكذلك في دار المرأة وعاقلتها هم أقرب القبائل إليها لأنها ليست من أهل النصرة والديوإن  ووجه قوله الأول أن وجوب القسامة في القتيل الموجود في الملك باعتبار الملك والمرأة في الملك كالرجل.
ألا ترى أنها تختص بالتدبير في ملكها وأن الولاية في حفظ ملكها إليها فكانت كالرجل في حكم القسامة بخلاف الصبي لأنه لا تدبير له في ملك نفسه ولا يقوم بحفظ ملكه بنفسه ثم للمرأة قول ملزم في الجناية كالرجل حتى يصح منها الإقرار بالقتل  وليس للصبي قول ملزم في الجناية والقسامة في معنى قول ملزم فيثبت ذلك في حق المرأة دون الصبي بخلاف القتيل الموجود في المحلة فالمرأة في المحلة مثل الصبي من حيث أنها لا تقوم بحفظ المحلة والدفع عنها والتدبير فيها.
ثم ظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه ليس عليها شيء من الدية وإنما الدية على أقرب القبائل منها  وهو اختيار الطحاوي في مباشرة القتل أيضا فإنه يقول إذا كان القاتل من جملة العاقلة فعليه جزء من الدية  فإن كان القاتل غيره فلا شيء عليه من الدية والمرأة تدخل في جملة العاقلة إذا كان القاتل غيرها  ومن أصحابنا من يقول هي لا تدخل في جملة العاقلة لأن النصرة لا تقوم بها فأما إذا كانت هي المباشرة للقتل فعليها جزء من الدية لأن القاتل أحق من العواقل باعتبار مباشرته فإنه لما وجب على غير المباشر فعلى المباشر أولى أن

 

ج / 26 ص -108-    يجب جزء منها فكذلك ها هنا وجوب جزء على المالك باعتبار أن التدبير في ملكه إليه وفي هذا الرجل والمرأة سواء. 
وكذلك إن كانت القرية لرجل من أهل الذمة فإنه تكرر عليه الأيمان وعليه الدية لأنه في تدبير ملكه كالمسلم.
ولو كان الذمي نازلا في قبيلة من القبائل فوجد فيها قتيلا لم يدخل الذمي في القسامة ولا في الغرامة لأن أهل الذمة لا يزاحمون المسلمين في التدبير في القبيلة والمحلة ولكنهم أتباع بمنزلة السكان مع الملاك أو بمنزلة النساء مع الرجال. 
وإذا كانت مدينة ليس فيها قبائل معروفة وجد في بعضها قتيل فعلى أهل المحلة الذين وجد القتيل بين أظهرهم القسامة والدية لأنهم مختصون بتدبير المحلة والظاهر أن تناصرهم بالمجاورة ها هنا لما لم تجمعهم قبيلة معروفة ولا ديوان والمعتبر هو معنى النصرة فلهذا ألزمناهم الدية والقسامة  وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والأيمان مقصودة ها هنا فيحبسون لإيفائها.
وإذا وجد القتيل في دار عبد مأذون له في التجارة فالقسامة والدية على عاقلة المولى أما إذا لم يكن على العبد دين فالدار مملوكة للمولى وإن كان عليه دين فالعبد إنما يقوم بالتدبير في هذه الدار باستدامة المولى الإذن له في التجارة والمولى أخص بهذه الدار من الغرماء فإن له أن يقضي دينهم من مواضع أخر ويستخلص الدار منهم لنفسه وهذا مستحسن قد بيناه في المأذون.
ولو وجد في دار المكاتب فعليه الأقل من قيمته ومن دية القتيل بمنزلة ما لو باشر القتل بيده وهذا لأن المكاتب في حكم الجناية كالحر من حيث إن له فيه قولا ملزما بخلاف المأذون فإنه ليس له قول ملزم في الجناية حتى لو أقر على نفسه بالجناية خطأ لم يعتبر إقراره وللمولى عليه قول ملزم في ذلك فيجعل القتيل الموجود في داره كالموجود في دار المولى. 
ولو وجد القتيل في قرية ليتامى صغار وليس في تلك البلاد من عشيرتهم أحد فليس على اليتامى قسامة ولا دية ولكن على عاقلتهم الدية والقسامة بمنزلة ما لو باشروا القتل بأيديهم فإن كان أحدهم مدركا فعليه القسامة تكرر عليه اليمين لأن له قولا ملزما في الجناية ثم على أقرب القبائل منهم الدية في الوجهين جميعا لأنهم عاقلة اليتامى فإن اليتامى ليسوا من أهل الديوان والتناصر بالديوان فحالهم في ذلك كحال النساء والله الموفق للصواب.

باب القصاص  
قال رحمه الله: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا قود إلا بالسيف" وهذا تنصيص على نفي وجوب القود واستيفاء القود بغير السيف والمراد بالسيف السلاح هكذا فهمت الصحابة رضي الله عنهم من هذا اللفظ حتى قال علي رضي الله عنه العمد السلاح وقال

 

ج / 26 ص -109-    أصحاب بن مسعود رضي الله عنه لا قود إلا بالسلاح وإنما كني بالسيف عن السلاح لأن المعد للقتال على الخصوص بين الأسلحة هو السيف فإنه لا يراد به شيء آخر سوى القتال وقد يراد بسائر الأسلحة منفعة أخرى سوى القتال وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة" يعني السلاح الذي هو آلة القتال فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله أن القود لا يجب إلا بالسلاح حتى إذا قتل إنسانا بحجر كبير أو خشبة عظيمة لم يلزمه القصاص في قول أبي حنيفة رحمه الله  وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يلزمه القصاص لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] والمراد بالسلطان استيفاء القود بدليل أنه عقبه بالنهي عن الإسراف في القتل فالتقييد بكون الآلة جارحة زيادة على النص وفي الحديث أن يهوديا رضخ رأس جارية على أوضاح فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرضخ رأسه بين حجرين  والمعنى فيه أنه عمد محض لأنه قصد قتله بما لا يقصد به إلا القتل ولا يعرف محض العمد إلا بهذا والآلة الجارحة إذا حصل القتل بها كان عمدا لأن ذلك فعل مزهق للروح وما لا تلبث ولا تطيق النفس احتماله في كونه مزهقا للروح أبلغ من الفعل الجارح لأن هذا مزهق للروح بنفسه والفعل الجارح مزهق للروح بواسطة الجراحة والجرح وسيلة يتوسل بها إلى إزهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه يكون أبلغ مما يكون عاملا بواسطة وكذلك من حيث العرف في قصد الناس إلى قتل أعدائهم بإلقاء الأسطوانة أو رفع حجر الرحاء عليهم يكون أبلغ من القصد إلى ذلك بالجرح في بعض الأعضاء فإذا جعل ذلك موجبا للقصاص فهذا أولى ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ الدية". 
وفي حديث الحجاج بن أرطأة: أن رجلا قتل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة فقضى عليه بالدية  والمعنى فيه أن هذه الآلة لا تجرح ولا تقطع فالقتل بها لا يكون موجبا للقصاص كالقتل بالعصا الصغيرة وتحقيقه من وجهين أحدهما أن وجوب القصاص يختص بقتل هو عمد محض وصفة التمحض أن يباشر القتل بآلته في محله وآلة القتل هي الآلة الجارحة لأن الجرح يعمل في نقض البينة ظاهرا وباطنا وما سواها يدق بنقض البينة باطنا لا ظاهرا وقوام البينة بالظاهر والباطن جميعا فالقتل الذي هو نقض البينة إذا كان مما يعمل في الظاهر والباطن يكون قتلا من كل وجه  وإن كان مما يعمل في الباطن دون الظاهر يكون قتلا من وجه دون وجه والثابت من وجه دون وجه يكون قاصرا في نفسه فيصلح أن يجب به ما يثبت مع الشبهات ولا يصلح أن يجب به ما يندرئ بالشبهات  وما ادعوا من أن الجرح وسيلة يتوسل به إلى إزهاق الروح غلط فإن إزهاق الروح بنقض البينة وكمال الجناية مما ينقض البينة من كل وجه ونقض البينة بجرح في الروح لا يتأنى لأنه لا يحس ويفعل في الجسم ما لا يكون كاملا فإنما الكامل منه ما يكون بفعل في النفس التي بها قوام الآدمي وذلك الفعل الجارح المؤثر في تسييل والدليل عليه حكم الذكاة  فإن الحل بالذكاة إنما

 

ج / 26 ص -110-    يحصل بفعل جارح مسيل للدم بهذا المعنى ولا يحصل بما يعمل في الجسم فلا يكون ناقضا للبينة ظاهرا وهو الفعل الذي يدق ولا فرق بينهما لأن الحل مبني على الاحتياط فلا يثبت عند تمكن الشبهة كالقود ويخرج عليه النار فإنها تعمل في الظاهر والباطن جميعا وقيل في الذكاة أيضا إذا قرب النار من مذبح الشاة حتى انقطع بها الأوداج وسال الدم تحل وإن لم يسل لا تحل لأن ما هو المقصود بالذكاة وهو تمييز الطاهر من النجس لم يحصل. 
والوجه الأخير أن آلة القتل الحديد قال الله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] والمراد القتل، وكذلك خزائن أسلحة الملوك تكون من الحديد فأما الخشب والأحجار فمعدة للأبنية والحديد هو المستعمل في القتال وإنما ينصب المنجنيق لتخريب الأبنية.
ألا ترى أن الحديد إذا حصل القتل به وجب القصاص صغيرا كان أو كبيرا حتى أنه لو غرزه بمسلة أو إبرة في مقتله يلزمه القصاص وما سوى الحديد الصغير منه لا يوجب القصاص.
وإن تحقق به القتل والفعل لا يتم إلا بآلته فبقصور في الآلة تتمكن شبهة النقصان في الفعل وذلك يمنع وجوب القصاص  فعلى هذا الطريق يقول القتل بمثقل الحديد يوجب القصاص نحو ما إذا ضربه بعمود حديد أو بصنجات الميزان لأن الحديد في كونه آلة القتل منصوص عليه وفي المنصوص عليه يعتبر عين النص فأما في غير المنصوص عليه فالحكم يتعلق بالمعنى فيعتبر كونه محددا نحو سن العصا والمروة وليطة القصب ونحو ذلك  وعلى الطريق الأول يقول لا يجب القصاص إلا بما هو محدد والحديد وغيره فيه سواء وهو رواية الطحاوي في كتاب الشروط. 
وتأويل الحديث أنه أمر بذلك على طريق السياسة لكونه ساعيا في الأرض بالفساد معروفا بذلك الفعل  بيانه فيما روي أنهم أدركوها وبها رمق فقيل لها أقتلك فلان فأشارت برأسها لا حتى ذكروا اليهودي فأشارت برأسها أن نعم وإنما يعد في مثل تلك الحالة من يكون متهما بمثل ذلك الفعل معروفا به.
وعندنا إذا كان بهذه الصفة فللإمام أن يقتله بطريق السياسة  فأما الدم العصا الصغيرة إذا والى بها في الضربات حتى مات لم يلزمه القصاص عندنا  وعلى قول الشافعي رضي الله عنه يجب عليه القصاص وكذلك الخلاف فيما إذا ضربه جماعة كل واحد منهم بسوط أو عصا وهو يقول القصد بالعصا الصغيرة عند الموالاة القتل فيكون الفعل بها عمدا محضا بمنزلة القتل بالسيف بخلاف العصا الصغيرة إذا ضربه بها مرة أو مرتين لأن القصد هناك التأديب والغالب معه السلامة ولا يكون القتل بها إلا نادرا فيكون في معنى الخطأ فأما مع الموالاة فالقصد منه القتل.
ألا ترى أن التهديد بالضرب بالسوط مع الموالاة كالتهديد فالقتل في حكم الإكراه

 

ج / 26 ص -111-    بخلاف التهديد بضرب سوط واحد ويستوي في ذلك حصول الضربات من واحد أو من جماعة لأن شرط القتل كون النفس معمودة لا التيقن بكون فعل كل واحد منهم مزهقا للروح لأن ذلك لا طريق إلى معرفته.
والدليل على الفرق بين الضربة والضربات أن شرب القليل من المثلث لا يكون موجبا للحد فإن استكثر منه حتى سكر لزمه الحد باعتبار أن القليل منه ممرئ للطعام والكثير مسكر وإذا حصل السكر بالكثير منه لا يميز بعض الفعل عن البعض بل يجعل الكل كفعل واحد حتى يتعلق به ما يندرئ بالشبهات وهو الحد فهذا مثله. 
وأصحابنا رحمهم الله استدلوا بحديث النعمان ابن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل" فيكون نصبا على التفسير وبالرفع قتيل السوط والعصا فيكون خبرا للابتداء وفي كليهما بيان أن قتيل السوط والعصا يكون قتيل خطأ العمد وأن الواجب فيه الدية  والمعنى فيه أن القتل حصل بمجموع أفعال لو حصل بكل واحد منها على الانفراد لا يتعلق به القصاص فكذلك إذا حصل بمجموعها.
كما لو جرح رجلا جراحات خطأ أو اشترك جماعة في قتل رجل خطأ وهذا لأن كل واحد من هذه الأفعال غير موجب للقصاص إذا انفرد فانضمام ما ليس بموجب إلى ما ليس بموجب كيف يكون واجبا لما يندرئ بالشبهات ولو انضم ما هو موجب إلى ما ليس بموجب كالخاطئ مع العامد لا يجب القصاص  فإذا انضم ما هو موجب إلى ما ليس بموجب أولى بخلاف الإقداح فهناك لو حصل السكر بالقدح الأول يجب الحد وإنما لم يجب الحد إذا لم يسكر به لانعدام السبب الموجب وهنا لو حصل القتل بالضربة الأولى لا يجب القصاص فعرفنا أن هذا الفعل في نفسه غير موجب فلا يدخل على هذا شهادة الشاهدين بالقتل العمد فإنها توجب القصاص وكل واحد منهما بانفراده لا يوجب لأن شهادة الشاهدين حجة واحدة وشهادة كل واحد منهما شطر الحجة وشطر الحجة لا يثبت به شيء من الحكم فأما ها هنا فكل فعل صالح لكونه علة تامة وهو على أصله أظهر فإن عنده لو حصل من كل واحد من الجماعة ضربة واحدة يجب عليهم القصاص وما لم تتكامل العلة في حق كل واحد منهم لا يلزمه القصاص.
وقوله: بأن الضربة الواحدة يقصد بها التأديب قلنا: حقيقة القصد لا يمكن الوقوف عليها وإنما ينبني الحكم على السبب الظاهر.
ألا ترى أن قطع اليد لا يقصد به القتل أيضا ولهذا كان مشروعا في موضع كان القتل حراما وكذلك الجرح اليسير مشروع على قصد الاستشفاء كالقصد والحجامة ومع ذلك إذا حصل القتل به وجب القصاص لأن حقيقة القصد يتعذر الوقوف عليها فيعتبر السبب الظاهر  فكذلك ها هنا كان ينبغي أن يجب القصاص إذا حصل القتل بالضربة والضربتين بالسوط وحيث لم يجب بأن كل فعل من هذه الأفعال بانفراده غير موجب وحقيقة الفقه فيه ما ذكرنا

 

ج / 26 ص -112-    في المسألة الأولى ويمكن الاستدلال بهذا الحرف أيضا فيقال العصا الكبير مجموع أجزاء لا يتعلق القصاص بكل جزء منها وإن حصل القتل فكذلك بمجموعها  فأما بيان نفي استيفاء القود بغير السيف وبها يقول علماؤنا رحمهم الله فإن القصاص متى وجب فإنه يستوفى بطريق حز الرقبة بالسيف ولا ينظر إلى ما به حصل القتل. 
وقال الشافعي رضي الله عنه: ينظر إلى القتل بماذا حصل فإن كان بطريق غير مشروع بأن سقاه الخمر حتى قتله أو لاط بصغير حتى قتله فكذلك الجواب يقتل بالسيف وإن كان بطريق مشروع يفعل به مثل ذلك الفعل ويمهل مثل تلك المدة فإن مات وإلا تحز رقبته نحو ما إذا قطع يد إنسان عمدا فمات من ذلك واستدل بما روينا أن النبي عليه الصلاة والسلام:
"أمر برضخ رأس اليهودي بين حجرين" وكان ذلك بطريق القصاص.
ألا ترى أنه روي في بعض الروايات فاعترف اليهودي فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وأمر بأن يرضخ رأسه بين حجرين ولأن المعتبر في القصاص المساواة ولهذا سمي قصاصا مأخوذ من قول القائل التقى الدينان فتقاصا أي تساويا أصلا ووصفا وما قلناه: أقرب إلى المساواة لما فيه من اعتبار المساواة في الفعل والمقصود بالفعل يجب اعتباره إلا إذا تعذر وتعذره أن يكون صورة الفعل بخلاف المشروع بأن يكون حراما أو أن لا يحصل القتل به فحينئذ يجعل ما يكون متمما له فيما هو المقصود ويكون الثاني متمما للأول.
ألا ترى أن من قطع يد إنسان خطأ ثم قتله لم يلزمه إلا دية واحدة وجعل الفعل الثاني تتميما للأول. 
وحجتنا في ذلك ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا قود إلا بالسيف" وهو تنصيص على نفي استيفاء القود بغير السيف والمعنى فيه أنه قتل مستحق شرعا فيستوفى بالسيف كقتل المرتد وهذا لأنه إنما يستوفى المستحق بالطريق الذي يتيقن أنه طريق له وحز الرقبة يتيقن بأنه طريق استيفاء القتل فأما قطع اليد فلا يكون طريقا لذلك إلا بشرط وهو السراية وذلك لضعف الطبيعة عن دفع أثر الجراحة ولا يعرف ذلك عند القتل وما يتعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل الشرط فقبل السراية هذا الفعل غير القتل فلا يكون مشروعا فضلا عن أن يكون مستحقا وصورة الفعل غير مقصودة وإنما المقصود إزهاق الروح عرفا لمعنى الانتقام واستحقاق القتل شرعا فيجب مراعاة ذلك المقصود  ولا يقال لا يقمع الناس في الابتداء من أن يكون هذا الفعل مؤثرا في تحصيل المقصود ما لم يبرأ منه لأنه وإن كان لا يقمع الناس عن ذلك فإنه يؤدي إلى تأخير تحصيل المقصود وكما لا يجوز إبطال مقصود صاحب الحق لا يجوز تأخيره ثم هذا اعتبار معادلة توقعنا في الظلم في الانتهاء لأنه إذا تراخت يده تحز رقبته والفعل الثاني بعد البرء لا يكون إتماما للأول بدليل الخطأ فيؤدي إلى الزيادة على ما كان منه وإلى المثلة وذلك حرام.
 فإن قيل: بأي طريق تسقط حرمة ذبح القاتل ولم يوجد منه فعل في مذبح المقتول؟. 

 

ج / 26 ص -113-    قلنا: بالطريق الذي يسقط عندكم حرمة مذبحه إذا تراخت يده وهو استحقاق القتل عليه وذلك موجود قبل قطع اليد وتأويل الحديث ما بينا.
والذي روى أنه قضى بالقصاص شاذ لا يعتمد عليه أو قاله الراوي بناء على ما وقع عنده أنه كان بطريق القصاص وفي الحقيقة إنما كان ذلك بطريق السياسة  وإن اجتمع رهط على قتل رجل بالسلاح فعليهم فيه القصاص بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قضي بذلك وهو استحسان  والقياس أن لا يلزمهم القصاص وقد ذكر في كتاب الإقرار لأن المعتبر في القصاص المساواة لما في الزيادة من الظلم على المتعدي ولما في النقصان من البخس بحق المتعدى عليه ولا مساواة بين العشرة والواحد وهذا شيء يعلم ببداهة العقول فالواحد من العشرة يكون مثلا للواحد فكيف تكون العشرة مثلا للواحد وأيد هذا القياس قوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس واحدة  ولكنا تركنا هذا القياس لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ولأن شرع القصاص لحكمة الحياة وذلك بطريق الزجر كما قررنا ومعلوم أن القتل بغير حق في العادة لا يكون إلا بالتغالب والاجتماع لأن الواحد يقاوم الواحد فلو لم نوجب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لأدى إلى سد باب القصاص وإبطال الحكمة التي وقعت الإشارة إليها بالنص. 
يوضحه: أنه لا مقصود في القتل سوى التشفي والانتقام وذلك حاصل لكل قاتل بكماله كأنه ليس معه غيره وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله الواحد إذا قتل جماعة فإنه يقتل بهم جميعا على سبيل الكفاءة. 
وقال الشافعي رضي الله عنه: إن قتلهم على التعاقب يقتل بأولهم ويقضى بالديات لمن بعد الأول في تركته وإن قتلهم معا يقرع بينهم ويقضى بالقود لمن خرجت قرعته وبالدية للباقين واستدل بقوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فقد جعل الله تعالى النفس بمقابلة النفس قصاصا فلا يجوز أن يجعل النفس بمقابلة النفوس قصاصا بالرأي  ولأنا قد بينا أنه لا مساواة بينهما إلا أنا أوجبنا القصاص على العشرة بقتل الواحد لرد عليه القتل بغير حق وهذا لا يوجد في القتل قصاصا لأن ذلك يكون بقوة السلطان فلا تقع الحاجة فيه إلى التعاون والتغالب ولأن في إيجاب القصاص هناك تحقيق معنى الزجر وذلك لا يوجد هنا فإنه بعد ما قتل الواحد إذا علم أنه وإن قتل جميع أعدائه لا يلزمه القصاص أخذ يتجاسر على قتل الأعداء.
وإذا علم أنه يستوفى الديات من تركته يتحرز من ذلك لإبقاء العناء لورثته فكان معنى الزجر فيما قلنا:  وحقيقة المعنى في الفرق أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قتل عشره فوجب عليه القصاص بقدر ما أتلف إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإسقاط ما بقي من حرمة نفسه فيسقط ذلك لضرورة الحاجة إلى استيفاء القصاص كما إذا غصب ساحة

 

ج / 26 ص -114-    وبنى عليها سقط حرمة بنائه لوجوب رد الساحة وكذلك عندي في الساحة فأما ها هنا فكل واحد من المقتولين قد استحق على القاتل نفسا كاملة وليس في نفسه وفاء بالنفوس فلا يمكن أن يقتل بهم جميعا ولكن يترجح أولهم بالسبق فإن حقه ثبت في محل فارغ وإذا قتلهم معا رجح بالقرعة كما هو مذهبي في نظائره  والدليل على أن كل واحد من القاتلين يستوفى الجزاءات في الخطأ يجب على كل واحد منهم جزء من الدية وأنه لو كان بعض الفاعلين مخطئا لم يجب القصاص على واحد منهم بخلاف ما إذا قتل جماعة بعضهم عمدا وبعضهم خطأ فإنه يلزمه القصاص لمن قتله عمدا وإن كان واحدا  وحجتنا في ذلك أن العشرة إذا قتلوا واحدا يقتلون به وكانوا مثلا له جزاء لدمه فكذلك إذا قتل واحدا يقتل بهم ويكون مثلا لهم لأن المثل اسم مشترك فمن ضرورة كون أحد الشيئين مثلا للآخر أن يكون الآخر مثلا له كاسم الأخ فإن من ضرورة كون أحد الشخصين أخا للآخر أن يكون الآخر أخا له فلا يجوز أن يقال يلزمهم القصاص لرد غلة القتل بغير حق من غير اعتبار المماثلة فإن الزيادة في القدر أبلغ من الزيادة في الوصف.
وإذا كان لا يقتل المسلم بالمستأمن وعلى قوله بالذمي والحر بالعبد لانعدام المماثلة مع الحاجة إلى رد القتل عليه بغير حق فلأن لا يقتل العشرة بالواحد أولى  وكذلك في كل موضع يتعذر اعتبار المماثلة نحو كسر العظام لا يوجب القصاص والحاجة إن رد عليه الجناية ها هنا بغير حق يتحقق هنا ومع ذلك يوهم الزيادة بمنع القصاص فتحقق الزيادة لأن يمنع من ذلك كان أولى فعرفنا أنه إنما يقتل العشرة بالواحد بطريق المماثلة  وبيان ذلك وهو أن القتل مما لا يتجزأ.
وإذا اشترك الجماعة فيما لا يحتمل التجزي فأما أن ينعدم أصلا أو يتكامل في حق كل واحد منهم  والدليل عليه أن كل واحد منهم لو حلف أن لا يقتله كان حانثا في يمينه بهذا الفعل ولا يجب إلا بوجوب كمال الشرط وفي الخطأ يجب على كل واحد منهم الكفارة كاملة ولا تجب الكفارة إلا بقتل كامل فأما الدية بمقابلة المحل فلصيانته عن الإهدار لا أن يكون ذلك جزاء الفعل والمحل واحد فلا يجب بمقابلته إلا دية واحدة والدليل عليه أن القتل يخرج ببعضه زهوق الروح لأن الروح لا يمكن أخذه حسا فطريق أثرها فيه قصدا هذا وقد تحقق من كل واحد منهم والحكم إذا حصل عقيب علل يضاف جميعه إلى كل علة فيجعل زهوق الروح محالا به على فعل كل واحد منهم فكان كل واحد منهم قاتلا على سبيل الكمال بمنزلة الأولياء في التزويج بتكامل الولاية لكل واحد منهم وفي هذا المعنى القتل الذي هو عدوان والقتل الذي هو جزاء سواء فإن الأولياء إذا اجتمعوا وقتلوا كان كل واحد منهم قاتلا بكماله  والدليل عليه أن فيما هو المقصود بالقتل وهو التشفي والانتقام لا فرق بين الجزاء والعدوان وهو يتكامل لكل واحد من الأولياء كما يتكامل لكل واحد من العبدين فعرفنا أن كل واحد منهم مستوف حقه بكماله فلا حاجة إلى المصير إلى الدية  وبه فارق

 

ج / 26 ص -115-    النكاح فإن المرأة لو زوجت نفسها من جماعة لا يثبت النكاح لكل واحد منهم على هذه المرأة لأن المقصود الفراش والنسل وذلك ينعدم بالاشتراك فلا يتكامل لكل واحد منهم.
ثم هناك لما لم يحتمل التجزي في المحل انعدم أصلا عند الاشتراك وها هنا لم ينعدم القتل فعرفنا أنه تكامل في حق كل واحد منهم  وما قالبأن الواجب على كل منهم عشر القتيل كلام غير معقول لأن القصاص في نفس واحدة كما لا يحتمل التجزي استيفاء لا يحتمل التجزي وجوبا فلا يجوز أن يستحق بعض نفسه قصاصا  وكيف يستقيم هذا؟.
ولو عفى أحد الأولياء حتى حي جزء من المقتول سقط القصاص كله فإذا كان القصاص الواجب يسقط إذا لم يبق مستحقا في بعض النفس بعد العفو فلان لا يجب ابتداء في بعض النفس دون البعض أولى  وتبين بهذا التحقيق أنه لا طريق سوى ما قلنا: أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قاتل له على الكمال  وكذلك الأولياء إذا اجتمعوا واستوفوا القصاص كان كل واحد منهم قاتلا له على الكمال مقدار حقه ليحيوه بدفع شر قاتل أبيه عن نفسه وكان ليس معه غيره فلا حاجة إلى القضاء بالدية ولا إلى الترجيح بالسبق أو إلى القرعة.
قال: وإذا قتل الحر المملوك عمدا فعليه القصاص عندنا وقال الشافعي لا قصاص عليه لقوله تعالى:
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ومقابلة الحر بالحر يقتضي نفي مقابلة الحر بالعبد وهذا على وجه التفسير للقصاص المذكور في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فيكون بيان أن المساواة التي هي معتبرة إنما تكون عند مقابلة الحر بالحر لا عند مقابلة الحر بالعبد. 
وعن ابن عمر وبن الزبير رضي الله تعالى عنهم قالا السنة أن لا يقتل لعبد بالحر  والمعنى فيه أن هذا أحد نوعي القصاص فلا يجب على الحر بسبب المملوك كالقصاص في الأطراف بل أولى لأن حرمة الطرف دون حرمة النفس فالأطراف تابعة للنفس.
وإذا كان طرف الحر لا يقطع بطرف العبد مع خفة حرمة الطرف فلأن لا يقتل الحر بالعبد مع عظم حرمة النفس كان ذلك أولى  وتأثيره أن القصاص ينبني على المساواة ولا مساواة بين الأحرار والعبيد فإن العبد مملوك مالا والحر مالك والمالكية في نهاية من العز والكمال والمملوكية في نهاية من الذل والنقصان  والدليل عليه أن المملوك قائم من وجه هالك من وجه فإن الحرية حياة والرق تلف ولهذا كان المعتق منسوبا بالولاء إلى المعتق لأنه أحياه بالإعتاق حكما ولا مساواة بين القائم من كل وجه وبين القائم من وجه والهالك من وجه  والدليل عليه أن التفاوت ظاهر بينهما في بدل النفس وهو المال وبه تبين أن الرق أثر في النفسية ولهذا المعنى لا يجب القصاص على المولى بقتل عبده  ولو لم يؤثر الرق في النفسية لكان المولى كالأجنبي في قتل العبد فيلزمه القصاص ولأن المقتول كان بعرض أن يصير من خول القاتل بأن يشتريه فيمنع ذلك القصاص المساواة بينهما في حكم القصاص كالمسلم مع المستأمن. 

 

ج / 26 ص -116-    وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فهذا يقتضي وجوب القصاص بسبب كل قتل إلا ما قام عليه الدليل فأما قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] فهو ذكر بعض ما شمله العموم على موافقة حكمه فلا يجب تخصيص ما بقي.
ألا ترى أنه كما قابل العبد بالعبد قابل الأنثى بالأنثى ثم لا يمنع ذلك مقابلة الذكر بالأنثى وفي مقابلة الأنثى بالأنثى دليل على وجوب القصاص على الحرة بقتل الأمة  وفائدة هذه المقابلة ما نقل عن بن عباس رضي الله عنه قال كانت المقابلة بين بني النضير وبين بني قريظة وكانت بنو النضير أشرف وكانوا يعدون بني قريظة على النصف منهم فتواضعوا على أن العبد من بني النضير بمقابلة الحر من بني قريظة والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم وبيانا أن الحر بمقابلة الحر والعبد بمقابلة العبد والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا. 
وعن علي بن أبي طالب قال يقتل الحر بالعبد  وما روي عن بن عمر وبن الزبير محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من كان يوجب القصاص ويستدل بقوله عليه السلام:
"من قتل عبده قتلناه" فإنما قال ذلك ردا على من يقول منهم لا يقتل السيد بعبده  والمعنى فيه أن دم العمد مضمون بالقصاص فيستوي أن يكون قاتله حرا أو عبدا كدم الحر  وبيان الوصف أن العبد إذا قتل عبدا يلزمه القصاص والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيستدعي وجوبها انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة الحر والعبد فيه سواء وسنقرر هذا الكلام في مسألة قتل المسلم الذمي والذي يختص بهذه المسألة حرفان:
أحدهما: أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الذمي وقد تحقق ذلك فالرق والمملوكية لا يؤثر في الدم لأن الرق إنما يؤثر فيما يتصور ورود القهر عليه وذلك أجزاء الجسم فأما الحياة فلا تدخل تحت القهر والدليل عليه أن العبد فيه يبقى على أصل الحرية حتى لا يملك المولى التصرف فيه إقرارا عليه به ولا استيفاء منه إلا أن المولى إذا قتله لا يلزمه القصاص لانعدام المستوفى لأنه لو كان القاتل غيره كان هو المستوفى بولاية الملك والقتل لا يحرمه ذلك ولا يكون هو مستوفيا العقوبة من نفسه ونقصان بدل الدم كنقصان صفة المملوكية في محله لا في غيره كنقصان بدل الدم بسبب الأنوثة إنما يكون للملوكية في محله فأما الحياة فلا تحلها الأنوثة. 
والثاني: أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الإحراز والإحراز إنما يكون بالدار أو بالدين والمملوك في ذلك مساو للحر والحكمة في شرع القصاص الحياة وفي ذلك المعنى الحر والمملوك سواء.
وليست النفوس قياس الأطراف لأن وجوب القصاص هناك يعتمد المساواة في الجزء المبان ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء والرق ثابت في أجزاء الجسم فتنعدم بسببه المساواة

 

ج / 26 ص -117-    بينهما في الأطراف مع أن طرف العبد في حكم المال عندنا ولهذا لا يكون مضمونا بالقصاص على أحد عبدا كان أو حرا بخلاف النفس فالمعتبر فيه المساواة في الحياة ولهذا لا نقتل النفس الصحيحة بالنفس الزمنة وقد تحققت المساواة ها هنا  وعلى هذا لو قتل رجل صبيا فعليه القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة وكذلك لو قتل رجل امرأة  وروي عن علي رضي الله عنه يتخير أولياؤها بين أن يستوفوا ديتها وبين أن يعطوا القاتل نصف ديته ثم يقتلونه قصاصا  وهذا بعيد لا يصح عن علي رضي الله عنه وقد كان أفقه من أن يقول القصاص لم يكن واجبا ثم يجب بإعطاء المال. 
وعلى هذا لو قتل العبد الحر عمدا والمرأة الرجل فعليهما القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة  والشافعي لا يخالفنا في هذا فإنه يرى استيفاء الأنقص بالأكمل قصاصا وإنما يأبى استيفاء الأكمل بالأنقص  فإذا تبين هذا في حالة الانفراد فكذلك عند الاشتراك حتى إذا اشترك جماعة من الرجال في قتل حرة أو أمة فعليهم القصاص كما لو اشتركوا في قتل رجل حر. 
وكذلك لو قتل المسلم الذمي عمدا فعليه القصاص عندنا وعند الشافعي لا قصاص عليه  وأما الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل فعليه القصاص بالاتفاق  ويحكى أن أبا يوسف رحمه الله قضى بالقصاص على هاشمي بقتل ذمي فجعل أولياء القاتل يؤذونه بألسنتهم ويقولون يا جائر يا قاتل مؤمن بكافر فشكاهم إلى الخليفة فقال أرفق بهم فلما علم مراد الخليفة خرج وأمر بإعادتهم إليه ثم قال لأولياء القتيل هاتوا بينة من المسلمين أن صاحبكم كان يؤدي الجزية طوعا فإن هؤلاء يدعون أنه كان ممتنعا من أداء الجزية فلهذا قتله ولا قتل عليهم إلا ببينة من المسلمين فعجزوا عن ذلك فدرأ القود به ودخل على الخليفة فأخبره بذلك فضحك وقال من يقاومكم يا أصحاب أبي حنيفة  واستدل الشافعي بقوله تعالى:
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] فالقصاص يبنى على المساواة وبعد ما انتفت المساواة بينهما بالنصوص الظاهرة لا يجب عليه القصاص.
وقال عليه السلام:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" فهذا دليل على أن دماء غيرهم لا يكافئ دماءهم ثم قال في آخر الحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" وبالإجماع ليس المراد نفي الاستيفاء فعرفنا أن المراد نفي الوجوب  والمعنى فيه أن المقتول منقوص بنقص الكفر فلا يجب القصاص على المسلم بقتله كالمستأمن وهذا لأن الكفر من أعظم النقائص فالكافر كالميت من وجه قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]  أي كافرا فرزقناه الهدى فلا مساواة بين من هو ميت من وجه وبين من هو حي من كل وجه بخلاف الذمي إذا قتل ذميا فقد وجدت المساواة هناك فوجب القصاص ثم الإسلام بعد ذلك زيادة حصلت على حق الأولياء فلا يمنعهم من الاستيفاء كالمستأمن إذا قتل مستأمنا يلزمه القصاص منصوص عليه في السير الكبير في النفس والطرف جميعا.

 

ج / 26 ص -118-    ثم لو أسلم القاتل بعد ذلك لا يسقط عنه القصاص ولأن الكفر مهدر للدم مؤثر في الإباحة فإذا وجد ولم يبح يصير شبهة كالملك فإنه مبيح فإذا وجد في الأخت من الرضاعة ولم يبح فيصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات والدليل على أن الكفر مهدر للدم أن من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والذراري إذا قتلهم إنسان لا يغرم شيئا لوجود المهدر وما ذلك إلا الكفر والدليل عليه أنا أمرنا بقتل الكفار لكفرهم قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] يعني فتنة الكفر وقال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وهذا الكفر قائم بعد عقد الذمة إلا أنه غير عامل في إباحة الدم بمعنى الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه على ما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فبقي باعتباره شبهة ينتفي بها المساواة بينه وبين المسلم بمنزلة طهارة المستحاضة مع طهارة الأصحاء فإن سيلان الدم الذي هو ناقض للطهارة موجود مع طهارة المستحاضة ولكنه غير عامل في الوقت ومع هذا لا تكون طهارتها طهارة الأصحاء حتى لا تصلح لإمامة الأصحاء وهذا بخلاف المال فإنه يجب القطع بسرقة مال الذمي لأن المبيح وهو الكفر ليس في المال وإنما هو في النفس فهو نظير حقيقة الإباحة بسبب القضاء بالرجم فإنه لا يكون مؤثرا في المال حتى يجب القطع بسرقة ماله ولا يجب القصاص على أحد بقتله ولهذا أوجب القطع بسرقة مال المستأمن أيضا. 
يوضحه: أن القطع في السرقة خالص حق الله تعالى فوجوبه يعتمد الجناية على حق الله تعالى دون المساواة ومعنى الجناية يتحقق في سرقة مال الذمى والمستأمن بثبوت إلا من لهما حقا لله تعالى فما كان القطع إلا نظير الكفارة والكفارة تجب بقتل الذمى والمستأمن كما تجب بقتل المسلم. 
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أقاد مسلما بذمي وقال "أنا أحق من وفى بذمته" وهذا التعليل تنصيص على وجوب القود على المسلم بقتل الذمي واستيفاء القود منه. 
وفي بعض الروايات أن رجلا مسلما قتل ذميا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال:
"أنا أحق من وفى بذمته"  وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل رجل مسلم برجل من أهل الحيرة ذمي ثم بلغه أنه فارس من فرسان العرب فكتب فيه أن لا يقتل يعني يسترضوا الأولياء فيصالحوا على الدية.  وأن عبيد الله بن عمر لما قتل هرمزان بتهمة دم أبيه استقر الأمر على عثمان فطلب منه علي رضي الله عنه أن يقتص من عبد الله وكان يدافع في ذلك أياما ثم قال هذا رجل قتل أبوه بالأمس فأنا أستحي أن أقتله اليوم وأن هرمزان رجل من أهل الأرض أنا وليه أعفو عنه وأؤدي الدية فهذا اتفاق منهما على وجوب القصاص وقضى علي رضي الله عنه بالقصاص على مسلم بقتل ذمي ثم رأى الولي بعد ذلك فقال ماذا صنعت قال إني رأيت أن أقتل أباه لا برد

 

ج / 26 ص -119-    أخي وقد أعطوني المال فقال فلعلهم خوفوك فقال لا فقال علي رضي الله عنه إنما أعطيناكم الدية وتبذلون الجزية لتكون دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا  والمعنى فيه أن دم الذمي مضمون بالقصاص حتى إذا كان القاتل ذميا يلزمه القصاص به بالإجماع وذلك دليل على انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة يستوي أن يكون القاتل مسلما أو ذميا ولا يدخل عليه الأب إذا قتل ابنه لأن امتناع وجوب القود عليه عندنا ليس لقيام الشبهة في دم الابن بل لأن فضيلة الأبوة تخرج الولد من أن يكون مستوجبا القود على والده كما يمنعه من قتله شرعا وإن كان الأب مباح الدم بأن كان مرتدا أو حربيا أو زانيا وهو محصن والدليل على أن الأبوة إذا طرأت تمنع استيفاء القصاص والشبهة إنما تؤثر إذا اقترنت بالسبب الموجب.
وحيث كان طريان الأبوة مانعا من الاستيفاء عرفنا أن المعنى فيه ما ذكرنا  فأما المستأمن إذا قتل مستأمنا ففي وجوب القصاص على المسلم بقتل المستأمن قياس أو استحسان في القياس يلزمه القصاص ذكره في هذا الكتاب وهو رواية أحمد بن عمران أستاذ الطحاوي عن أصحابنا  ورواه بن سماعة عن أبي يوسف فقالوا ما ذكره في السير بناء على جواب القياس أن الشبهة المبيحة عن الدم تنفى بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن والمسلم جميعا فأما على جواب الاستحسان فيقول بقيت الشبهة المبيحة في دمه وهو كونه حربيا لأنه ممكن من الرجوع إلى دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب فلا يجب القصاص بقتله على أحد سواء كان القاتل مستأمنا أو ذميا أو مسلما ولأن الذمي محقون الدم على التأبيد فيجب القصاص بقتله على المسلم كالمسلم وتحقيقه أن القصاص يعتمد المساواة في الحياة لأنه إزهاق الحياة وهو مشروع لحكمة الحياة وإنما تتحقق المساواة في ذلك شرعا لوجود التساوي في حقن الدم وقد وجد ذلك بين المسلم والذمي  فإن حقن كل واحد منهما مؤبد بسبب مشروع وهو عقد الذمة خلف عن الإسلام في معنى الحقن والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل وهذا الحقن والتقوم إنما يثبت بالإحراز والإحراز يكون بالدار لا بالدين لأن الإحراز بالدين إنما يكون في حق من يعتقده فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيكون في حق الكل والذمي في الإحراز مساو للمسلم لأنه من أهل دارنا حقيقة وحكما  والدليل عليه أن الإحراز يؤثر في المال والنفس جميعا ثم في المال إحراز الذمي كإحراز المسلم حتى يجب القطع بسرقة مال الذمي وحد السرقة أقرب إلى السقوط عند تمكن الشبهة من القصاص ولا يدخل عليه المقضي عليه بالرجم لأنا لا نقول يباح قتله لنقصان في إحراز كل جزء على جريمته فأما الإحراز فقائم في المال والنفس جميعا وها هنا إن سلم لنا أن الإحراز في حق المسلم والذي سواء يتضح الكلام فإنه لا يمكنه أن يدعي بعد ذلك بقاء الشبهة بسبب إصراره على الكفر لأن المبيح كان هو القتال دون الكفر كما قال الله تعالى:
{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]. 

 

ج / 26 ص -120-    ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال: "هاه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت؟". والقتال ينعدم بالإحراز في حق الذمي أصلا كما ينعدم في حق المسلم وقد قررنا هذا في السير  وإذا ثبت انتفاء الشبهة والمساواة في الإحراز ثبتت المساواة بينهما في حكم القصاص فلا يجوز أن تكون فضيلة الإسلام في القاتل مانعا لأن طريان هذه الفضيلة لا تمنع الاستيفاء فلو كان اقترانها بالسبب يمنع الوجوب لكان طريانها يمنع الاستيفاء كفضيلة الأبوة وفضيلة الإسلام في المنكوحة فإنه لما كان يمنع ابتداء النكاح عليها للكافر يمنع الوطء إذا طرأ بعد النكاح فأما المسلم إذا قتل مستأمنا فلا قصاص عليه على طريق الاستحسان لانعدام المساواة في الإحراز فالمستأمن غير محرز نفسه بدار الإسلام على التأبيد ولهذا لا يوجب القطع بسرقة ماله لبقاء الشبهة المبيحة وهي المحاربة فإنه ممكن من أن يرجع إلى دار الحرب فيعود حربا للمسلمين  وبهذا الطريق نقول لا يقتل الذمي بالمستأمن أيضا خلافا للشافعي لأن الذمي محرز نفسه بدارنا على التأبيد فلا تتحقق المساواة بينه وبين المستأمن فأما الآيات في نفي المساواة بين الكفار والمؤمنين فالمراد بها في أحكام الآخرة وذلك مبين في آخر كل آية. 
وأما قوله عليه السلام:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" فمن أصلنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون هذا بيان أن دماء غير المسلمين لا تكافئ دماء المسلمين  وأما قوله عليه السلام: "لا يقتل مؤمن بكافر" فهو غير مجري على ظاهره بالاتفاق لأن القاتل إذا أسلم يقتل قصاصا وفيه قتل مؤمن بكافر ثم المراد به الحربي يعني من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والصبيان فإنه لا يقتل المؤمنون بهم بدليل قوله: "ولا ذو عهد في عهده" أي ولا يقتل ذو العهد بالكافر وإنما لا يقتل ذو العهد بالكافر الحربي  فإن قيل: هذا ابتداء أي لا يقتل ذو العهد في مدة عهده  قلنا: ابتداء الواو حقيقة للعطف خصوصا فيما لا يكون مستقلا بنفسه  فإن قيل: قد روي ولا بذي عهد فيفهم منه أن المؤمن لا يقتل بذي العهدة  قلنا: إن ثبتت هذه الرواية فهي محمولة على المستأمن وبه نقول أن المسلم لا يقتل بالمستأمن.
وكذلك لو اجتمع نفر من المسلمين على قتل ذمي قتلوا به لأنهم في حكم القصاص كالمسلمين وكل قطع من مفصل ففيه القصاص في ذلك الموضع لأن المعتبر في القصاص المساواة وفي القطع من المفاصل يمكن اعتبار المساواة فيجب القصاص  فأما كل قطع لا يكون من مفصل بل يكون بكسر العظم فإنه لا يجب القصاص فيه عندنا  وفي أحد قولي الشافعي يجب القصاص لأن القصاص مشروع لمعنى الزجر والجناية بغير حق في الغالب إنما تكون بهذه الصفة وقل ما يكون من المفصل.
فلو قلنا: لا يجب القصاص في ذلك أدى إلى إبطال الحكمة  ولكنا نستدل بقوله عليه السلام:
"لا قصاص في العظم" ولأنه لا تتأتى مراعاة المساواة في العظام لأنه لا ينكسر في الموضع الذي بريء كسره وبدون اعتبار المساواة لا يجب القصاص ما خلا السن فالقصاص

 

ج / 26 ص -121-    يجب فيه وقد بيناه ولا تقطع اليسار باليمين ولا اليمين باليسار ولا اليد بالرجل ولا الإبهام بغيرها من الأصابع ولا أصبع من يد بأصبع من الرجل لانعدام المساواة بين هذه الأعضاء فإن فيما هو المقصود بها لا مساواة يعني مقصود منفعة البطش في اليد والعمل بها وبين اليمين واليسرى في ذلك تفاوت. 
وكذلك في الخلقة والهيئة يظهر التفاوت بين الإبهام وغيرها من الأصابع وبين اليد والرجل وأصابع اليد وأصابع الرجل فيمتنع جريان القصاص بينهما ولا يقتص من عظم ما خلا السن والأصل في جريان القصاص في الأسنان قوله تعالى:
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].
وروي أن الربيع عمة أنس بن مالك كسرت سن جارية فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقاله أنس بن النضر أو يكسر سن الربيع بسن جارية فرضوا بالأرش فقال عليه السلام:
"إن لله عبادا لو أقسموا عليه لأبرهم منهم أنس بن النضر" والأصل في جريان القصاص فيما دون النفس اعتبار المماثلة في الفعل وفي المحل أما المأخوذ بالفعل فلأن المماثلة في ضمان العد وأن منصوص عليها فيجب اعتبارها في كل ما يتأتى والمتأتى اعتبار المماثلة في هذه الأشياء ويعنى بالمماثلة في المأخوذ بالفعل المساواة في المنفعة والمساواة في البدل لأن التفاوت في المنفعة المقصودة دليل اختلاف الجنس  وإن اتحد الأصل فلأن تنعدم المماثلة أولى ولهذا لا تقطع اليمين باليسار والتفاوت في البدل دليل ظاهر على انعدام المساواة لأن البدل بمقابلة المبدل وهو قيمته فالتفاوت فيه دليل على التفاوت في المبدل  وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله لا يجري القصاص بين الرجال والنساء في الأطراف  وقال ابن أبي ليلى يجري وهو قول الشافعي ويسلكون في الباب طريقا سهلا وهو اعتبار الأطراف بالنفوس لأنها تابعة للنفس وثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل فكما يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفوس فكذلك في الأطراف  ولكنا نقول لا مماثلة بين طرف الرجل وطرف المرأة في المنفعة ولا في البدل والمماثلة معتبرة في القصاص في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تستوفى بالشلاء للتفاوت بينهما في البدل والمنفعة ولا معنى لقولهم أن الشلاء ميتة لا روح فيها لأن استيفاءها في القصاص جائز وبقطعها يتألم صاحبها ويجب حكومة العدل لقطعها فعرفنا أن الحياة فيها باقية ولكن التفاوت في البدل فلا تقطع الصحيحة بها بخلاف النفوس فالمعتبر هناك المساواة في الفعل حتى تستوفى النفس الصحيحة بالزمنة. 
فإن قيل: التفاوت في البدل يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص ولا يمنع استيفاء الانقص بالأكمل حتى أن الشلاء تقطع بالصحيحة وعندكم في هذا الموضع لا تقطع يد المرأة بالرجل. 
قلنا: نعم إذا كان التفاوت بسبب حسي كالشلل وفوات بعض الأصابع فهو كما قلنا: فأما إذا كان التفاوت بمعنى حكمي فإنه يمنع استيفاء كل واحد منهما لصاحبه كاليمين مع اليسار وهذا المعنى وهو أن في التفاوت إذا كأن ابنقصان حسي فمن له الحق إذا رضي بالاستيفاء

 

ج / 26 ص -122-    يجعل هو بالبعض حقه مستوفيا لما بقي وذلك جائز ولهذا لا يستوفى الأكمل بالأنقص وإن رضي به القاطع لأنه بالرضا يكون باذلا للزيادة ولا يجوز استيفاء الطرف بالبدل  فأما إذا كان التفاوت لمعنى حكمي فلا وجه لتمكنه من الاستيفاء ها هنا بطريق إسقاط البعض ولا بطريق البدل وعلى هذا قال الشافعي تقطع يد العبد بيد الحر كما يقتل العبد بالحر وكذلك تقطع يد العبد بيد العبد كما يقتل أحدهما بالآخر قصاصا ولا تقطع يد الحر بيد العبد كما لا يقتل الحر بالعبد عنده وعندنا لا يجري القصاص بين العبيد والأحرار ولا بين العبيد فيما دون النفس لانعدام المساواة في البدل أما فيما بين العبيد والأحرار فظاهر  وكذلك بين العبيد إذا اختلفت القيم فيهم وكذلك إذا استوت لأن طريق معرفة القيمة الحرز والمماثلة المشروطة شرعا لا تثبت بطريق الحرز كالمماثلة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها ولا يقال نصاب السرقة يعرف بالتقويم وإن كان يتعلق به ما يندرئ بالشبهات فكذلك المماثلة في القيمة ها هنا لأنا لا ننكر معرفة القيمة بالحرز والظن وإنما ننكر ثبوت المساواة بالحرز قطعا وفي باب السرقة الحاجة إلى معرفة القيمة لا إلى المساواة ولا يقال إذا كانت قيمة كل واحد من العبدين أكثر من عشرة آلاف فها هنا المساواة بينهما في البدل ثابتة شرعا ومع ذلك لا يجري القصاص بينهما في الأطراف لأن التقدير في بدل نفس العبد  فأما بدل طرفه فلا يدخله التقدير شرعا ولكن تجب قيمته بالغة ما بلغت فيتحقق التفاوت بينهما فيه وبهذا تبين أن أطراف العبد يسلك بها مسلك الأموال ولا مدخل للقصاص في الأموال. 
وعلى هذا الأصل قلنا: يجري القصاص بين المسلم والذمي فيما دون النفس للمساواة بينهما في البدل  وعند الشافعي يقطع طرف الذمي بطرف المسلم ولا يقطع طرف المسلم بطرف الذمي اعتبارا بالنفسية على قوله  وعلى هذا الأصل لا يقطع يدان بيد واحدة عندنا للتفاوت في البدل والتفاوت في المقدار وتأثير التفاوت في المقدار فيما يعتبر فيه المماثلة أكثر من تأثير التفاوت في الصفة.
ألا ترى أن في الأموال الربوية التفاوت في المقدار يمنع جواز العقد والتفاوت في الصفة لا يمنع ثم التفاوت في الصفة ها هنا يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص كالصحيحة بالشلاء فالتفاوت في المقدار أولى  وعند الشافعي يقطع يدان بيد واحدة إذا وضعا السكين من جانب واحدة اعتبارا للقصاص في الطرف بالقصاص في النفس إلا أن في الأطراف إذا وضع أحدهما السكين من جانب والآخر من جانب وأمرا حتى التقى السكينان يجب القصاص لأن القتل إزهاق للحياة وهو لا يحتمل الوصف بالتجزي بحال فباختلاف محل الفعل لا يثبت التجزؤ بل كل واحد منهما قاتل على الكمال كما لو اتحد محل فعلهما  فأما القطع فإنه جزء محسوس وذلك يتنوع نوعين نوع منه يتجزأ وهو عند اختلاف محل الفعل لأنه لو لم يوجد من كل واحد منهما إمرار السلاح إلا على بعض العضو ونوع منه لا يحتمل الوصف بالتجزي وهو ما اتحد محل الفعل لأن كل واحد منهما أمر السلاح على جميع العضو.

 

ج / 26 ص -123-    ألا ترى أنه لا يمكن أن يشار إلى شيء من المحل فيقال القطع بفعل هذا دون فعل ذلك وعند اختلاف محل الفعل يقال هذا الجانب انقطع بفعل هذا والجانب الآخر انقطع بفعل الآخر  فإذا كان غير متجزىء كان قياس النفس يجعل كل واحد منهما قاطعا بجميع اليد حكما فيلزمه القصاص لاعتبار معنى الزجر كما يعتبر ذلك في النفس. 
والدليل على الفرق أن عند تميز محل الفعل يجب على كل واحد منهما حكومة العدل وعند اتحاد محل الفعل يجب على كل واحد منهما عندكم نصف دية اليد في ماله وكذلك قلتم لو أن محرمين قتلا صيدا بضربة واحدة فإن على كل واحد منهما قيمته صحيحا. 
ولو جرحه كل واحد منهما في محل على حدة ضمن كل واحد منهما قيمته مجروحا بجراحة صاحبه فبه يتضح هذا الفرق  ولكنا نقول كل واحد منهما قاطع بعض اليد سواء اختلف محل الفعل أو اتحد لأن القطع هو الفعل بين متصلين ولهذا يطلق هذا الاسم على الخشب والنبات والجبال ونحن نتيقن أن ما انقطع بفعل أحدهما لم ينقطع بفعل الآخر ولا معتبر بإمرار كل واحد منهما السلاح على جميع العضو لأن إمرار السلاح من غير حصول القطع به وجوده كعدمه وما انقطع بقوة أحدهما لم ينقطع بقوة الآخر هذا شيء يعرفه كل عاقل فعرفنا أن كل واحد منهما قاطع بعض اليد ولا يجوز أن يقطع جميع يده بقطعه بعض اليد لأن المساواة في الفعل معتبرة لا محالة  والدليل عليه أن القطع في الجملة مما يحتمل الوصف بالتجزي وما يحتمل الوصف بالتجزي إذا اشترك فيه اثنان يضاف إلى كل واحد منهما بعضه وإن حصل على وجه غير متجزي.
كما لو اشتركا في تمزيق ثوب أو في استهلاك درة أو في جمل حبسه يضاف نصفه إلى كل واحد منهما وإن حصل على وجه غير متجزئ  فأما النفس فالقياس فيها هكذا  ولكن تركنا القياس بالأثر وهو حديث عمر والمخصوص من القياس بالأثر لا يلحق به إلا أن يكون في معناه من كل وجه لأن الفعل في النفس لا يحتمل الوصف بالتجزي بحال والفعل في الطرف يحتمل الوصف بالتجزي.
ألا ترى أنه يتحقق أن يقطع بعض اليد ويترك ما بقي وفي النفس لا يتحقق إزهاق بعض الحياة دون البعض فلعدم احتمال التجزؤ هناك يجعل كاملا في حق كل واحد منهما ولاحتمال التجزؤ ها هنا يجعل كل واحد منهما قاطعا للبعض. 
يوضح الفرق أن الفعل في النفس يكمل بسراية فعله فإنه لو جرح فسرى إلى النفس كان مباشرا قتله والفعل في الطرف لا يكمل بسراية الفعل وأنه لو قطع فسرى إلى ما بقي حتى سقط لا يلزمه القصاص وسراية فعله أقرب إلى فعله من فعل شريكه فإذا لم يجز تكميل فعله بسراية فعله في حكم القصاص فلأن لا يجوز تكميله بفعل شريكه أولى ولا معنى لاعتبار الزجر فإن معنى الزجر معتبر بعد وجود المماثلة بدليل أنه لا تقطع يد الحر بيد العبد ولا

 

ج / 26 ص -124-    الصحيحة بالشلاء لانعدام المماثلة وإن وقعت الحاجة إلى الزجر ولأن المشتركين في أدنى ما يتعلق به القطع لا يلزمهما القطع.
كما لو اشترك رجلان في سرقة نصاب واحد لا يقطع واحد منهما  وإن كان المسروق درة لا تحتمل التجزؤ وبه فارق النفس فإن المشتركين في أدنى ما يوجب القتل حقا لله تعالى يلزمهما القتل نحو ما إذا اشتركا في قتل رجل في قطع الطريق فيعتبر حق العبد بحق الله تعالى في الفصلين جميعا  وإذا ثبت أنه لا يجب القصاص عليهما قلنا: يجب على كل واحد منهما نصف دية اليد في ماله لأنا نتيقن أن كل واحد منهما قاطع للنصف والفعل عمد  وكذلك إذا وضع كل واحد منهما السكين من جانب فإنا إن علمنا أن كل واحد منهما قطع نصف اليد يلزمه نصف الدية وإنما يصار إلى حكومة العدل إذا لم يعلم أن كل ما قطعه كل واحد منهما قدر النصف.
ولو قطع رجل يد رجل من نصف الساعد أو رجله من نصف الساق عمدا لم يكن عليه في ذلك قصاص لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة في الفعل والمحل فإن فعله كان في كسر العظم دون القطع من المفصل وفيما يلزمه من الدية وحكومة العدل اختلاف بين أصحابنا وقد تقدم بيانه. 
ولو قطع رجل يدي رجل اليمنى واليسرى قطعت يداه بهما وكذلك إن قطعهما من واحد لأن المماثلة المشروطة في الفعل والمحل والمأخوذ بالفعل موجود  فإن قيل: هو ما فوت على كل واحد منهما منفعة الجنس وإذا قطعنا يده كان فيه تفويت منفعة الجنس فلا يتحقق المماثلة  قلنا: في حق كل واحد منهما يعتبر ما يستوفيه هو وليس في استيفائه منفعة الجنس ثم هذا المعنى إنما يعتبر في السرقة لأن تفويت منفعة الجنس استهلاك حكما والاستهلاك الحقيقي في حد السرقة غير مشروع فكذلك الحكمي فأما في القصاص فالاستهلاك الحقيقي مشروع إذا كانت المماثلة فيه فكذلك الاستهلاك الحكمي. 
ولو قطع رجل يميني رجلين قطعت يمينه بهما وغرم دية يد منهما عندنا سواء قطعهما معا أو على التعاقب  وقال الشافعي إن قطعهما على التعاقب يقطع بالأولى منهما وللثاني الأرش وإن قطعهما معا يقرع بينهما ويكون القصاص لمن خرجت قرعته والأرش للآخر  لأنه حين قطع يد أحدهما فقد صارت مشغولة بحقه مستحقة له قصاصا والمشغول لا يشغل كمن رهن عينا من إنسان وسلمها إليه ثم رهنها من آخر فإنه لا يصلح الثاني مع بقاء حق الأول وهنا حق الأول باق فمنع ذلك ثبوت حق الثاني في اليد بخلاف ما إذا عفى الأول لأن المانع قد زال إذ لم يبق له حق في المحل وكذلك إذا بادر الثاني واستوفى لأنه لم يبق للأول حق في المحل لفواته فكان الثاني مستوفيا حقه  فإذا حضرا جميعا فحق الأول قائم فيترجح بالسبق  والدليل عليه أنه ليس في عينه وفاء بحقهما بالاتفاق حتى أن عندكم يقضي بأرش يد بينهما وإن قطعا جميعا. 

 

ج / 26 ص -125-    ولو كان في عينه وفاء بحقهما لم يجب لهما شيء آخر بعد استيفائه كما قلتم في النفس إذا ثبت أن في عينه وفاء بحق أحدهما لم يكن بد من ترجيح أحدهما على الآخر فرجحنا بالسبق أو بخروج القرعة إذا حصل الفعلان جميعا كما هو أصل ثم فيما قلتم جمع بين القصاص والأرش لكل واحد منهما بسبب فعل واحد وذلك لا يجوز على أصلكم. 
وحجتنا في ذلك أن حق كل واحد منهما ثابت في جميع اليد لأن السبب تقرر في حق كل واحد منهما وهو القطع المحسوس وكونه مشغولا بحق الأول لما لم يمنع تقرر السبب في حق الثاني لا يمنع ثبوت حكمه.
ألا ترى أن ملك المولى في عبده لا يمنع وجوب القصاص عليه إذا تقرر سببه وهو القتل والحق دون الملك بخلاف الرهن فإن ثبوت السبب هناك بطرق الحكم واشتغال المحل بحق الأول يمنع ثبوت السبب في حق الثاني حكما  والدليل عليه أنه لو عفى الأول كان للثاني أن يستوفي القصاص وتأثير العفو في الإسقاط فلو لم يجب له القصاص بأصل الفعل لم يجب بالعفو  والدليل عليه أن الثاني لو بادر واستوفى كان مستوفيا للقصاص فعرفنا أن حق كل واحد منهما ثابت في جميع اليد والمساواة في سبب الاستحقاق توجب المساواة في الاستحقاق كالغريمين في التركة والشفيعين في الشقص المشفوع إلا أنه إذا قطعت يده بهما فقد صار كل واحد منهما مستوفيا نصف حقه لما بينا أن القطع يقع متجزئا فإن القطع الذي هو ظلم يقع من اثنين بصفة التجزي فكذلك القطع الذي هو جزء بخلاف النفس فإن ما هو ظلم هناك لا يقع متجزيا فكذلك ما هو جزء.
وإذا صار كل واحد منهما مستوفيا نصف اليد فقد قضى بنصف طرفه حق كل واحد منهما ومن عليه القصاص في الطرف إذا قضي بطرفه حقا مستحقا عليه يقضى لمن له القصاص بالأرش كما لو قطعت يده في سرقة وبهذا تبين أن المعنى الذي يجب به نصف الأرش لكل واحد منهما غير ما يجب به القصاص فلا يكون هذا جمعا بين القصاص والأرش بسبب واحد وبه فارق النفس فإن هناك لو قضى بنفسه حقا مستحقا عليه بأن قتل رحما لا يقضى لمن له القصاص بشيء  إذا عرفنا هذا فنقول لو عفى أحدهما عنه قبل القصاص اقتص منه للباقي ولا شيء للعافي لأن المزاحمة بينهما في القطع لثبوت حق كل واحد منهما في المحل وقد انعدم ذلك بعفو أحدهما فكان للآخر القصاص فقط.
ولو حضر أحدهما دون صاحبه لم ينتظر الغائب ويقتص لهذا الحاضر لأن حقه ثابت في جميع اليد ومزاحمة الآخر معه في الاستيفاء موهوم عسى يحضر وعسى لا يحضر فلا يؤخر استيفاء المعلوم لمكان الموهوم كأحد الشفيعين إذا حضر والآخر غائب يقضى له بجميع المبيع بالشفعة لهذا المعنى ثم إذا قدم الغائب كان له الدية لأنه قضي بجميع طرفه حقا مستحقا عليه فيقضى للآخر بالأرش بخلاف النفس فإن هناك لو حضر أحدهما واستوفى

 

ج / 26 ص -126-    القصاص ثم حضر الآخر لا يقضى له بشيء لأن هناك في نفسه وفاء بحقهما فإنما لم يستوف هذا المعنى من جهته وإن لم يحضر وليس في الطرف الواحد وفاء بحقهما فإنما تعذر على الثاني للاستيفاء بقضائه بطرفه حقا مستحقا عليه.
 يوضحه: أن في النفس وإن قضى بها حقا مستحقا عليه فلا يمكن جعلها سالمة بعد موته ولا يمكنه تقوم نفسه عليه بعد ما مات فأما في الطرف فيمكن أن يجعل الطرف كالسالم له حين قضي به حقا مستحقا عليه وأن يتقوم عليه ذلك لأنه كالحابس لطرفه حكما فلهذا يقضى للثاني بالأرش  وإن اجتمعا فقضي لهما بالقصاص والدية فأخذ الدية ثم عفى أحدهما عن القصاص جاز عفوه ولم يكن للآخر أن يستوفي القصاص وإنما له نصف الدية لأنهما ملكا الأرش بالقبض وبعد تمام ملك كل واحد منهما في نصف اليد يستحيل أن يبقى حق كل واحد منهما في جميع القصاص فعرفنا أن حق كل واحد منهما إنما بقي في نصف القصاص والقصاص المشترك بين اثنين إذا سقط نصيب أحدهما بعفوه انقلب نصيب الآخر مالا  فأما إذا لم يستوفيا الدية حتى عفى أحدهما بعد ما قضى القاضي فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف للآخر أن يستوفي القصاص كما لو عفى أحدهما قبل قضاء القاضي وهو القياس  وعند محمد وزفر ليس للآخر أن يستوفي القصاص استحسانا كما لو عفى أحدهما بعد استيفاء الأرش وذلك لأن قضاء القاضي بالقصاص وبالأرش بينهما قد نفذ ومن ضرورته ضرورة القصاص مشتركا بينهما  فإذا أسقط أحدهما نصيبه يبقى حق الآخر في نصف القصاص ولا يتصور استيفاء نصف اليد قصاصا والدليل عليه أن الأرش بقضاء القاضي صار مملوكا بينهما فهو كما لو ملكا الأرش بالاستيفاء بخلاف ما قبل القضاء فإنهما لم يملكا الأرش بعد فيبقى حق كل واحد منهما في جميع القصاص.
والدليل على الفرق بين ما قبل القصاص وبين ما بعده أن أحد الشفيعين لو سلم قبل أن يقضي القاضي لهما بالدار كان للآخر أن يأخذ جميع الدار بالشفعة ولو سلم أحدهما بعد قضاء القاضي لم يكن للآخر أن يأخذ إلا النصف. 
وكذلك لو ادعى رجلان كل واحد منهما شراء عين من ذي اليد وأقاما البينة ثم أسقط أحدهما حقه قبل قضاء القاضي فإنه يقضى للآخر بالبيع في جميع العين وبعد ما قضى القاضي لهما لو رد أحدهما البيع في نصيبه لم يكن للآخر إلا النصف  وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا القاضي إنما قضى بما كان على ما كان فنزل ذلك منزلة الفتوى  ولو استفتيا فأفتى لهما القاضي أن القصاص بينكما أو أن الأرش بينكما ثم عفى أحدهما كان للآخر استيفاء القصاص فكذلك إذا قضى به القاضي وهو نظير من مات وترك ابنا وبنتا فقضى القاضي بينهما بالميراث أثلاثا كان هذا كفتوى المفتي.
ولو تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا فقضى القاضي لها بمهر المثل كان هذا كفتوى المفتي حتى لو طلقها قبل الدخول بها كان لها المتعة وفي تفسير هذا الوصف نوعان من الكلام.
أحدهما: أن حق كل واحد منهما كان في جميع القصاص على أن يستوفى كل واحد

 

ج / 26 ص -127-    منهما النصف إذا زاحمه الآخر وبقي كذلك بعد قضاء القاضي بدليل أنه لو حضر أحدهما واستوفي كان مستوفيا للقصاص ويكون الأرش للآخر بخلاف ما بعد استيفاء الأرش فإن هناك لو حضر أحدهما لا يتمكن من استيفاء القصاص ما لم يحضر الآخر وهذا لأن القضاء قول من القاضي والقصاص الذي هو غير المشترك لا يصير مشتركا بقول بحال كما لو جعل نصف القصاص لغيره وقضى القاضي بذلك كان ذلك لغوا بخلاف استيفاء الأرش فإنه فعل وبالفعل يصير القصاص مشتركا والقاضي وإن قضى بالأرش بينهما فالملك لكل واحد منهما لا يتم بالقضاء قبل الاستيفاء لأن الأرش في معنى الصلات فإنما يتم الملك فيها بالقبض لا بالقضاء كمنفعة الزوجة تصير بالقبض لا بنفس القضاء  والدليل عليه أن السبب الموجب للأرش لكل واحد منهما قضاؤه بطرفه حقا مستحقا عليه وذلك لا يتم بالقضاء قبل استيفاء القصاص  فأما إذا استوفيا الأرش فسبب الملك في المقبوض هو القبض وقد تم ذلك وبهذا فارق فصل الشفعة والبيع فالقاضي بقضائه هناك غير الآمر عما كان عليه لأنه فسخ بيع كل واحد منهما في النصف وأبطل حق كل واحد من الشفيعين في النصف الذي قضى به الآخر. 
والوجه الآخر: أن القصاص وجب مشتركا بينهما والأرش كذلك أما إذا حصل الفعلان معا فهو ظاهر وكذلك إن حصلا على التعاقب لأنه يجعل في الحكم كأنهما كانا معا وهذا لأنا لو قلنا: أن حق كل واحد منهما في جميع القصاص لكان القاضي مسقطا حق كل واحد منهما عن نصف القصاص بولاية شرعية والقصاص لا يحتمل الوصف بالتجزي إسقاطا.
ألا ترى أن صاحب الحق لو عفا عن النصف سقط جميع حقه وها هنا لما نفذ قضاء القاضي بالقصاص بينهما عرفنا أن القصاص كان مشتركا بينهما بشرط مزاحمة كل واحد منهما مع صاحبه فتقرر ذلك بقضاء القاضي ثم بالعفو زالت مزاحمته فيكون حق الآخر في القصاص لانعدام شرط الشركة كما لو زالت مزاحمته بالعفو قبل قضاء القاضي  والطريق الأول أصح.
ولو لم يكونا أخذا المال وأخذا به كفيلا ثم عفا أحدهما فالمسألة على الخلاف أيضا لأن تأثير الكفالة في توجه المطالبة بالأرش على الكفيل وذلك لا يكون أقوى من توجه المطالبة لهما بالأرش على الأصيل بقضاء القاضي  ثم هناك لو عفا أحدهما كان للآخر القصاص فهذا مثله. 
ولو كانا أخذا بالمال رهنا كان هذا بمنزلة قبض المال إذا عفا أحدهما بعد ذلك لم يكن للآخر أن يستوفى القصاص وهذا استحسان  وكان ينبغي في القياس أن لا يقع بينهما شركة أبدا ما لم يقبضا  ولم يذكر غير هذا في رواية أبي حفص  وفي رواية أبي سليمان قال كان ينبغي في القياس أن لا يقع بينهما شركة أبدا سواء قبضا المال أو لم يقبضا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف  وفي رواية أبي سليمان أشار إلى أن القياس والاستحسان في فصل استيفاء الأرش

 

ج / 26 ص -128-    والارتهان بالأرش جميعا وفي رواية أبي حفص أشار إلى أن القياس والاستحسان في فصل الارتهان بالأرش وهذا هو الأصح. 
وجه القياس: أن الرهن وثيقة بالأرش كالكفالة فكما إن عفو أحدهما بعد كفالة الكفيل بالأرش لا يمنع الآخر من الاستيفاء أي استيفاء القصاص فكذلك بعد الرهن لأن بالارتهان لم يتم ملكهما في الأرش ولا في بدله وجه الاستحسان أن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء لهما.
ألا ترى أنه يتم استيفاؤهما بهلاك الرهن وأنه يعتبر قيمة الرهن وقت القبض فتقام يد الاستيفاء مقام حقيقة الاستيفاء في إيراث الشبهة بخلاف الكفالة فإن بالكفالة تزداد المطالبة ولا تثبت يد الاستيفاء فبقي كل حق واحد منهما بعد الكفالة في جميع القصاص كما كان قبله. 
وإذا قطع الرجل أصبع رجل من المفصل من يمناه ثم قطع يمينا أخرى وبدأ باليد ثم قطع الأصبع ثم حضرا جميعا فإنه يقطع أصبعه أولا بأصبع الآخر ثم يخير صاحب اليد فإن شاء قطع ما بقي وإن شاء أخذ دية يده لأن في البداءة يحق صاحب اليد إيفاء الحقين فإنه لا يفوت به محل حق صاحب الأصبع فمهما أمكن إيفاء الحقين لا يجوز إبطال حق أحدهما ثم حق صاحب الأصبع في الأصبع مقصود وحق صاحب اليد في الأصبع تبع بدليل أنه لو أراد قطع الأصابع أو بعضها وترك الكف منع من ذلك ولا مساواة بين التبع والمقصود فهو نظير ما لو قطع يد إنسان وقتل آخر فإنه يبدأ بحق صاحب اليد فيقتص له أولا ثم يقتل بالآخر. 
وإذا قطع صاحب الأصبع أصبعه يخير صاحب اليد بمنزلة ما لو كانت يد القاطع ناقصة بأصبع ومن قطع يد إنسان ويد القاطع ناقصة بأصبع يتخير المقطوعة يده لعجزه عن استيفاء حقه بصفة الكمال فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء قطع ما بقي ولا شيء له سوى ذلك عندنا وعند الشافعي له أن يقطع ما بقي ويضمنه خمس دية اليد لأن كل أصبع خمس اليد بدليل أن أرش كل أصبع يكون خمس أرش اليد فهو إنما استوفى أربعة أخماس حقه فيقضى له بالأرش فيما بقي كمن أتلف على آخر خمسة أقفزة حنطة فوجد عنده أربعة أقفزة واستوفاها كان له أن يستوفي قيمة القفيز الخامس ولكنا نقول استوفى محل حقه بكماله فلا يرجع مع ذلك بشيء من الأرش كما لو قطع يدا صحيحة ويد القاطع شلاء فاستوفى القصاص وهذا لأن الأصابع صفة لليد.
ألا ترى أن المقصود باليد منفعة البطش وبفوات الأصبع ينتقص معنى البطش ولا ينعدم والدليل عليه أنه لو أراد صاحب اليد استيفاء بعض الأصابع لم يكن له بعد ذلك ولكن إما أن يقطع من مفصل اليد أو يترك فعرفنا أن الأصابع في حقه بمنزلة الوصف ومن تجوز بحقه مع نقصان الصفة لا يكون له أن يرجع بشيء آخر كما لو أتلف عليه كرا جيدا فوجد عنده كرا رديئا وقبضه بخلاف القفزان فإنه مقدار وليس بصفة.

 

ج / 26 ص -129-    ألا ترى أن له أن يبرئ عن بعض الأقفزة ويستوفي البعض وها هنا ليس له أن يعفو عن بعض الأصابع ويستوفي البعض  فإن جاء صاحب اليد أولا قطعت له اليد لأن حقه ثابت معلوم فلا يتأخر استيفاؤه لمكان حق موهوم لغائب لا يدري أيطلب أو يعفو؟.
ثم إذا حضر الآخر قضى له بالأرش لأن من عليه الحق قضى بمحل حقه حقا مستحقا عليه فيكون له الأرش. 
فإن قيل: كيف يستقيم هذا مع قولكم أن الأصبع وصف وتبع؟.
قلنا: نعم ولكن باعتبار فوات هذا الوصف كان يتخير من له الحق وإنما لم يتخير ها هنا لبقاء الأصبع فكان هو من هذا الوجه قاضيا بالأصبع حقا مستحقا عليه بخلاف النفس فإن هناك لو حضر من له القصاص في النفس أولا واستوفى لم يكن لمن له القصاص في الطرف شيء لأن هناك ما قضى بالطرف حقا مستحقا عليه.
ألا ترى أن فوات الطرف لا يثبت الخيار لصاحب النفس  ولو قطع من أصبع رجل مفصلا ومن أصبع رجل آخر مفصل ذلك الأصبع ومن رجل ثالث الأصبع كلها ثم اجتمعوا عند القاضي فإنه يقطع المفصل الأعلى لصاحب الأعلى لأنه ليس في بداءته بحقه تفويت محل حق الآخرين وبالبداءة بأخذ حق الآخرين تفويت محل حقه ولأن حقه في المفصل الأعلى مقصود وحق الآخرين فيه تبع. 
وإذا قطع هذا المفصل تخير صاحب المفصلين  فإن شاء قطع المفصل الأوسط بجميع حقه لأنه وجد محل حقه ولكنه مع النقصان  وإن شاء أخذ ثلثي دية أصبعه من مال القاطع لعجزه عن استيفاء كمال حقه ثم يخير صاحب الأصبع فإن شاء أخذ ما بقي من أصبعه لوجود محل حقه وإن كان ناقصا  وإن شاء أخذ دية أصبعه من مال القاطع لعجزه عن استيفاء كمال حقه. 
وكذلك لو قطع كف رجل من مفصل ثم قطع يد آخر من المرفق ثم اجتمعا فإن الكف يقطع لصاحب الكف لأنه ليس في البداءة بحقه تفويت محل حق الآخر ثم يخير صاحب المرفق  فإن شاء قطع ما بقي بحقه لوجود محل حقه  وإن شاء أخذ الأرش لعجزه عن استيفاء حقه بكماله وفي جميع هذه الوجوه لا يثبت للثاني الخيار قبل استيفاء الأول لأن صفة الكمال قائمة في طرفه ولا تنعدم بثبوت حق الأول فيه وإنما ينعدم ذلك باستيفائه فلهذا كان خياره بعد استيفاء الأول. 
وإذا شج الرجل الرجل موضحة فأخذت ما بين قرني المشجوج وهي لا تأخذ ما بين قرني الشاج لكبر رأس الشاج فإن المشجوج يخير فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له يبدأ من أي الجانبين أحب حتى يبلغ مقدارها في طولها إلى حيث تبلغ ثم يكف وليس له أن يشجه شجة تأخذ ما بين قرنيه  وذكر الطحاوي عن الرازي الكبير أن له ذلك ولا خيار له لأن في القصاص فيما دون النفس تعتبر المساواة في المحل ولا ينظر إلى الصغر والكبر.

 

ج / 26 ص -130-    ألا ترى أن من قطع يد إنسان ويد القاطع أكبر من يد المقطوع أنه يجب القصاص فهذا مثله  ولكنا نقول الأصل في الشجاج أنه تعتبر المساواة في المساحة والسبر لأن البدل يختلف بحسب الاختلاف في ذلك والمساواة في البدل معتبرة في القصاص فيما دون النفس فها هنا لو شجه شجة تأخذ ما بين قرني الشاج كان في المساحة أكثر من الأول وكذلك في الألم. 
ولو شجه مثل الأول وفي المساحة كان في السبر دون الأول لأن الشجة الأولى أخذت ما بين قرنيه وذلك القدر لا يأخذ ما بين قرني الشاج فقد عجز عن استيفاء حقه بكماله فثبت له الخيار إن شاء استوفى الأرش وإن شاء استوفى القصاص بقدر الأولى في المساحة وتجوز بدون حقه في السبر بخلاف اليد فإن المعتبر هناك منفعة البطش فلعل هذه المنفعة في اليد الصغيرة أكثر من اليد الكبيرة.
ألا ترى أن أرش اليد لا يختلف باختلاف اليد في الصغر والكبر بحال فإن لم يأخذ ما بين قرني المشجوج لكبر رأسه وهي تأخذ ما بين قرني الشاج وتفضل فإنه يخير أيضا لأنه إن استوفى مثل حقه في المساحة كان هذا أزيد في السبر من الأول وإن اقتصر على ما يكون مثل الأول في السبر كان دون حقه في المساحة فيتخير فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له ما بين القرنين من الشاج لا يزاد على ذلك  وإن كانت الشجة في طول رأس المشجوج وهي تأخذ من رأس الشاج من جبهته إلى قفاه فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له مقدار شجته إلى مثل موضعها من رأسه لا أزيد على ذلك لأنه لو شجه مثل شجته في الطول كان هذا في معنى السبر أزيد من الأول ولا سبيل له إلى استيفاء الزيادة  وإن شجه إلى مثل ذلك الموضع من رأسه كان دون حقه في الطول فيخير لذلك  وإن كانت أخذت من المشجوج ما بين جبهته إلى قفاه ولا تبلغ من رأس الشاج إلا إلى نصف ذلك فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له بمقدار شجته إلى حيث تبلغ ويبدأ من أي الجانبين أحب لما قلنا: وقدمنا فيما سبق حكم القصاص في الشجاج وما فيها من اختلاف الروايات أنه لا يقتص في شيء من ذلك حتى يبرأ ولا قصاص في الهاشمة والمنقلة والآمة والجائفة لأن هذه الجراحات في العظم فاعتبار المماثلة فيها غير ممكن.
وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا قصاص في عظم وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال ولا قصاص في آمة ولا جائفة ولا منقلة ولا عظم يخاف عليه تلف وكل عظم كسر من ساعد أو ساق أو ضلع أو ترقوة أو غير ذلك ففيه حكم عدل ولا قصاص فيه لتعذر اعتبار المساواة فيه وللتفاوت في الأرش فإن حكم العدل إنما يظهر بتقويم المقومين فلا يكون ذلك مقطوعا به.
 وإذا قطع رجل يد رجل عمدا ويد القاطع شلاء أو ناقصة أصبعا قيل له اقطع يده إن شئت وإلا فخذ الأرش لأنه وجد جنس حقه ولكنه ناقص في الصفة فيتخير لذلك  فإن سقطت يده قبل أن يختار من له القصاص شيئا فلا شيء له عندنا وله الأرش عند الشافعي  وكذلك

 

ج / 26 ص -131-    لو كانت يد القاطع صحيحة فسقطت لأكلة أو قطعت ظلما فلا شيء لمن له القصاص  وعند الشافعي له الأرش. 
وكذلك في النفس لو مات من عليه القصاص أو قتل فهو بناء على ما سبق أن عنده الواجب أحد شيئين إما القصاص أو الأرش وإذا تعذر استيفاء أحدهما لفوات محله تعين الآخر  وعندنا الواجب هو القصاص لا غير وقد سقط لفوات محله حقيقة وحكما والحق الثابت في محل مقصور عليه لا يبقى بعد فواته بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة لأنه لما قضي بيده حقا مستحقا عليه كان ذلك كالسالم له حكما إذا ثبت هذا فيما إذا كانت يده صحيحة فكذلك إذا كانت يده شلاء لأن حقه كان في القصاص وقد فات محله حين سقطت يده. 
فإن قيل: هو مخير بين استيفاء القصاص واستيفاء الأرش فإذا تعذر عليه استيفاء أحدهما تعين الآخر. 
قلنا: لا كذلك بل كان حقه في القصاص لا غير إلا أنه كان له أن يستوفي الأرش لعجزه عن استيفاء كمال حقه بدليل أنه لو زال الشلل قبل أن يستوفى الأرش لم يكن له إلا القصاص وقد فات محل حقه فلم يبق له شيء. 
ولو قطعت أصبع من أصابع القاطع لغير قصاص لم يكن للمقطوعة يده إلا أنه يقطع ما بقي ولا أرش له بخلاف ما إذا قطعت أصبع من أصابعه في قصاص لأن الأصبع جزء من اليد فيعتبر الجزء بالكل في الفصلين جميعا  وإذا اقتص الرجل من الرجل في عضو أو شجة فمات المقتص منه من ذلك فديته على عاقلة المقتص له في قول أبي حنيفة  وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شيء عليه.
والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم كان عمر وعلي يقولان الحق قبله ولا شيء على أحد وكأن ابن مسعود يقول يضمن دية النفس ويسقط من ذلك أرش العضو الذي هو حقه وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول عليه الدية  وكان يروى في ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من استقاد من إنسان فمات المستقاد منه وبرئ المستقيد ضمن المستقيد ديته" وجه قولهما: أن هذا قطع بحق أو قطع مستحق فالسراية المتولدة منه لا تكون مضمونة كالإمام إذا قطع يد السارق فمات من ذلك  وتأثيره أن السراية أثر الفعل فلا تنفصل عن أصل الفعل ولما اتصل أصل الفعل بالخفية فكذلك أثره ثم نفس من عليه القصاص صارت في حكم نفسه على معنى أن الفعل في محل حقه يكون حقا مباحا وفيما وراء ذلك يكون عدوانا وأن محل حقه صار مملوكا له في حكم الاستيفاء وما وراء ذلك غير مملوك له والفعل في محل حقه جزاء وفيما سوى ذلك عدوان  فإذا تميز أحد المحلين عن الآخر حكما يجعل كالتمييز حسا ولا تنوب السراية من بدن إلى بدن فباعتبار هذا المعنى يجعل عقيب القطع كأنه تم البرء فلا تعتبر السراية بعد ذلك ولأن هذا فعل مأذون فيه فالسراية المتولدة منه

 

ج / 26 ص -132-    لا تكون مضمونة كمن قال لغيره اقطع يدي أو قال من عليه القصاص لمن له القصاص اقطع يدي قصاصا فقطع وسرى فإنه لا يجب شيء  وكذلك النزاع والفصاد والحجام والختان لا يضمن واحد منهم بالسراية شيئا لهذا المعنى ولأن هذا قطع لو اقتصر لم يكن مضمونا فلا تكون السراية مضمونة كقطع يد المرتد وهذا لأن الشرع أثبت له حق قطع اليد وليس في وسعه التحرز عن السراية فلا يجوز أن يكون مؤاخذا به والسراية إنما تكون لعجز الطبيعة عن دفع أثر الجراحة والبرء وبقوة الطبيعة عن دفع أثرها وشيء من ذلك ليس في وسع المستوفي لحقه. 
يوضحه: أن طرفه كان سالما بلا خطر فلا يتميز إلا بمثله وهو طرف يسلم له بالاستيفاء من غير خطر  ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أن هذا قتل بغير حق فيكون مضمونا  وبيانه أن القتل اسم لجرح يعقبه زهوق الروح وقد وجد ذلك ولا شك أن القطع غير القتل فالقطع اسم لفعل يكون مؤثرا في إباحة جزء من الجملة والقتل اسم لفعل يكون مؤثرا في إزهاق الروح وإنما يتعين ذلك باعتبار المآل ولهذا يعتبر في الجنايات مآلها حتى إذا قطع يد امرأة أو يد رجل من نصف الساعد لم يكن عليه القصاص  فإن سرى إلى النفس يجب القصاص فبهذا يتبين أن عند السراية تبين أن أصل الفعل كان قتلا لا أن يقال كان قطعا فصار قتلا لأن الفعل لا يتصور أن يكون على صفة ثم يصير على صفة أخرى إذ لا بقاء له ولا يتبين أنه كان قتلا في الأصل وهو بمنزلة تحريك الخشبة إن لم يصب شيئا كان تحريكا وإن ألقاها على ما انكسر بها كان كسرا وإن ألقاها على حيوان فمات بها كان قتلا وها هنا لما انزهق الروح بهذا الفعل عرفنا أنه كان قتلا من الأصل ولا حق له في القتل فيكون هذا قتلا بغير حق بمنزلة ما لو حز رقبته ولهذا كان القياس أن يلزمه القصاص عند أبي حنيفة إلا أنه أوجب عليه الدية استحسانا بمنزلة الخطأ فإنه ما قصد قتله وإنما قصد استيفاء حقه بإقامة فعل هو حق فيكون بمنزلة ما لو رمى إلى صيد أو حربى فأصاب مسلما. 
يوضحه: أن الفعل من حيث الصورة حقه وباعتبار المآل كان غير حقه والحكم وإن كان يبنى على ما يظهر في الحال فنسبة ذلك الفعل لصورته وصفة الحقية في صورته تكون شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات  وما ادعوا من تمييز أحد المحلين حكما كلام لا معنى له لأن هذا التمييز في حكم القطع الذي هو قصاص فقط فأما فيما وراء ذلك فنفس من عليه وأطرافه كشيء واحد وقد بينا أن هذا ليس باستيفاء لحقه.
وكذلك الفعل إنما يكون جزاء إذا كان قطعا لا إذا كان قتلا وطرف من عليه غير مملوك لمن له القصاص حكما حتى إذا قطع كان البدل لمن عليه لا لمن له القصاص ولكن في حق المتمكن من استيفاء حقه جعل كأنه له واستيفاء حقه يكون بفعل هو قطع لا بفعل هو قتل قوله التحرز عن السراية ليس في وسعه قلنا: نعم ولكن العفو والترك في وسعه وهو مندوب إليه قال الله تعالى:
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وإنما يتقيد بالوسع ما

 

ج / 26 ص -133-    يكون مستحقا عليه فأما ما يكون مباحا له كالمشي في الطريق والرمي إلى الصيد وتعزير الزوج زوجته فمقيد بشرط السلامة وإن لم يكن في وسعه إيجاد ذلك لأن ذلك غير مستحق عليه ثم عجزه لا يجوز أن يكون مسقطا حرمة صاحب النفس في نفسه وأكثر ما في الباب أن يتقابل حقان حق هذا في طرف يسلم له بلا خطر وحق الآخر في نفس محترمة متقومة فتترجح حرمة النفس على حرمة الطرف أو يعتبر الحرمتان فلحقه في الطرف يتمكن من الاستيفاء ولمراعاة حق الآخر في النفس يتقيد عليه بشرط السلامة وهو بمنزلة ما لو قلع سن إنسان فاستؤني حولا فلم ينبت فإنه يمكن من استيفاء القصاص فإن استوفى القصاص ثم نبت السن المقلوع أولا وجب عليه أرش سن القالع لهذا المعنى وهذا بخلاف قطع الإمام يد السارق لأن ذلك مستحق عليه إقامته فيتقيد بما في وسعه. 
يوضحه: أن المأمور به هناك قطع مطلق وفعله في الصورة قطع فيصير به ممتثلا للآمر ويخرج من عهدته فيصير كالمسلم إلى من له القصاص عامل لنفسه الحق فإذا مات من ذلك فإنما قتله من له الحق بعد ما خرج الإمام من عهدة فعله فأما هنا فمن له القصاص عامل لنفسه فلا يخرج من عهدته قبل البرء وإنما أذن له في قطع مقيد بكونه قصاصا والقصاص عبارة عن المساواة فإذا تبين أنه لم يكن قصاصا كان مضمونا عليه  ولهذا قلنا: في قوله اقطع يدي فقطع فسرى لا يجب شيء لأنه أنابه مناب نفسه في قطع مطلق فكما أن به تحول فعله إلى الآمر وخرج القاطع من عهدته وكذلك النزاع والفصاد والحجام إنما أمروا بفعل مطلق وكما فرغوا من ذلك خرجوا من عهدتهم وصار مسلما إلى من أمرهم بذلك.
فأما قول من عليه القصاص لمن له القصاص اقطع يدي قصاصا غير معتبر لأن من له القصاص عامل لنفسه بعد هذا القول وقبله كيف وقد قيد الأمر بقوله اقطع قصاصا فإذا سرى إلى النفس فهذا على الخلاف  والحرف الآخر لأبي حنيفة أن هذه سراية تولدت من قطع مضمون فيكون مضمونا كما لو قطع يد إنسان ظلما  وبيان ذلك أن القصاص محض حق العباد فيكون واجبا بطريق الجبران وما يستوفى جبرا يكون على المستوفي بما كان استوفي منه فإن معنى الجبران لا يتحقق إلا به كمن استهلك على إنسان مالا فاستوفي منه مثله كان المستوفى مضمونا على المستوفى وهذا مثله.
فإذا كان أصل الفعل مضمونا والسراية أثره فتكون مضمونة أيضا وعليه يخرج قطع يد السارق لأنه أقامه حدا فلا يكون مضمونا على الإمام.
ألا ترى أن ذلك قضاء منه وفيما يكون مضمونا عليه لا يكون نافذ القضاء وكذلك إذا قال لغيره اقطع يدي فإنه غير مضمون عليه لأنه عامل للآمر لأمره في محل مملوك له وكذلك قطع يد المرتد وأما فعل الفصاد والنزاع فإنه مضمون ضمان عقد ولكن لا يتولد ضمان الجناية من ضمان العقد وقد قررنا هذا في مسألة الأجير المشترك.
ولو لم يمت المقتص منه ومات المقتص له قتل به المقتص منه لأنه لما مات تبين أن

 

ج / 26 ص -134-    الواجب له القصاص في النفس ومن له القصاص في النفس إذا قطع يد من عليه القصاص لا يسقط به حقه في النفس فلهذا قتل به قصاصا. 
ولو قتل رجل رجلا فدفع إلى وليه فقطع يده عمدا أو مثل به في غير ذلك الموضع لم يكن عليه في ذلك أرش لأنه كانت له نفس واليد من النفس.
ألا ترى أن استيفاء النفس باق على ذلك كله ولكن تعذر لما باشره من المثلة فإن المثلة حرام بنهي النبي عليه السلام عن المثلة وما كان يمنع من هذا الفعل فذاك لا يدل على أنه مضمون عليه كما لو حرقه بالنار فإنه لا يكون مضمونا عليه وإن كان هو ممنوعا منه والأطراف تابعة للنفس  فإذا كان فعله في النفس على وجه يكون ممنوعا منه لا يوجب الضمان عليه فكذلك في الطرف. 
ولو أن الولي بعد ما قطع يده عمدا أو خطأ عفا عنه كان عليه دية اليد في قول أبي حنيفة  ولا شيء عليه في قول أبي يوسف ومحمد لأنه استوفى طرفا من نفس لو استوفاها لم يضمن فكذلك إذا استوفى جزءا منها لم يضمن كما لو قطع يد مرتد وهذا لأن الأطراف تابعة للنفس فمن ضرورة ثبوت حقه في النفس ثبوت حقه في الأطراف لأن الحق في التبع إنما يثبت بثبوته في الأصل ولهذا لم يكن استيفاء الطرف موجبا للضمان عليه قبل العفو فكذلك بعد العفو ولأن العفو إسقاط فإنما ينصرف إلى الباقي لا إلى المستوفى كمن قطع يد إنسان ثم قطع من له القصاص أصبعا من أصابعه ثم عفا عن اليد لم يضمن أرش الأصبع والأصابع للكف بمنزلة الأطراف للنفس والدليل عليه أنه لو أعقب القطع قتلا لم يضمن شيئا وكان ذلك باعتبار ثبوت حقه في الطرف فكذلك إذا أعقبه عفوا لأنه في العفو محسن وإحسانه لا يكون موجبا عليه الضمان. 
يوضحه: أنه بعد العفو لو سرى إلى النفس لم يضمن شيئا والقطع الساري أفحش من المقتصر وإذا كان لا يضمن بعد العفو إذا سرى شيئا فإذا اقتصر أولى أن لا يضمن  وأبو حنيفة يقول استوفى طرفا لا حق له في استيفائه من نفس متقومة فيكون مضمونا عليه  وبيانه أن نفس من عليه القصاص متقومة في حق سائر الناس فكذلك في حق من له القصاص إلا أن تقومها سقط في حق الاستيفاء بما سبق ولا حق لمن له القصاص في استيفاء الطرف لأن استيفاء الطرف قطع وقد بينا أن حقه في القتل والقطع غير القتل  والدليل عليه أنه يمنع من الاستيفاء مع أن القطع طريق مشروع لاستيفاء القصاص في النفس فإنما يمنع هناك لأنه مخطئ في الطريق وها هنا غير مخطئ في الطريق ثم يمنع من الاستيفاء فعرفنا أنه لا حق له في الطرف وهذا لأن حقه في النفس والأطراف تابعة للنفس فإنما يثبت له الحق في استيفائها تبعا لا مقصودا  فإذا استوفى الطرف مقصودا كان مستوفيا ما ليس بحق له إلا أنه قبل العفو متمكن من أن يجعله تبعا للنفس بأن يقتله فيكون كل واحد من الفعلين قتلا ويصير الطرف تبعا للنفس فلا يضمن شيئا فأما بعد العفو فقد سقط حقه في النفس وبقي

 

ج / 26 ص -135-    الطرف مقصودا بالاستيفاء ولا حق له فيه مقصودا فكان مضمونا عليه  والدليل عليه أن من وجب له القصاص على امرأة فرمى بها يلزمه الحد والمستوفي بالوطء في حكم جزء من العين فلو ثبت من له الحق في أطرافها مقصودا لصار ذلك شبهة في إسقاط الحد ومن له القصاص على عبد إنسان إذا تصرف في ماليته كان هو في ذلك كأجنبي آخر وإن كان حقه ثبت في ماليته تبعا على معنى أن باستيفاء النفس يصير مستوفيا للمالية. 
والدليل على أن من له القصاص في النفس لا حق له في الطرف أنه لو كان عليه قصاص في أطرافه لإنسان وفي نفسه لآخر فجاء من له القصاص في النفس فقطع طرفه لم يضمن من عليه شيئا لصاحب الطرف ولو كان حق من له القصاص في النفس ثابتا في الطرف لصار هو قاضيا بطرفه حقا مستحقا عليه فيغرم الأرش لصاحب الطرف وهو بخلاف الأصبع مع الكف فإن حق من له القصاص ثابت في الأصابع هناك بدليل أن فوات بعض الأصابع يثبت له الخيار وإن الكف تابعة للأصابع بدليل حكم الأرش فأما هنا ففوات الأطراف لا يثبت الخيار لصاحب النفس ولا ينقص بدل النفس بفوات الأطراف فعرفنا أن الأطراف تابعة للنفس  وقد قيل إن تلك المسألة مذكورة في الزيادات والجواب قول محمد خاصة وهذا بخلاف ما لو سرى القطع إلى النفس بعد العفو لأن بالسراية يتبين أن أصل فعله كان قتلا وأنه كان مستوفيا حقه وإنما أسقط بعد الاستيفاء وهذا بخلاف ما إذا أعقب القطع قتلا لأن الفعل الثاني يكون متمما للمقصود بالفعل الأول فيتبين به أن كل واحد منهم قتل والقتل حقه فلا يكون مضمونا عليه.
ثم إذا قتله فقد تقرر حقه في النفس وذلك يمنع وجوب ضمان الطرف عليه بخلاف ما إذا عفا  ولا معنى لقولهم إن عفوه ينصرف إلى ما بقي لأنه بقطع اليد ما صار مستوفيا شيئا من القتل حتى يقال ينصرف عفوه إلى ما بقي.
قال: وفي العين القصاص وفي السن القصاص إذا قلعت أو كسر بعضها ولم يسود ما بقي  وقد بينا حكم القصاص في السن وإنما بقي منه حرف وهو أنه إذا كسر بعض السن فاسود ما بقي لا يجب القصاص فإنه عاجز عن فعل مثل الفعل الأول فإنه لا يمكنه أن يكسر بعض السن على وجه يسود ما بقي فلهذا لا يلزمه القصاص. 
يوضحه: أن الفعل كله في محل واحد وآخره موجب للأرش فيمنع ذلك وجوب القصاص في جميعه  وفرق أبو يوسف ومحمد بين هذا وبين ما إذا قطع أصبع إنسان فشلت بجنبها أخرى وهذا لأن كل أصبع محل على حدة ووجوب الأرش بالفعل في أحد المحلين لا يمنع وجوب القصاص بالفعل في المحل الآخر وهنا المحل كله واحد فإذا خرج آخره من أن يكون موجبا للقصاص يخرج أوله من أن يكون موجبا  فأما في العين إذا ذهب نورها بالضربة ولم تخسف فعليه القصاص وصورته أن تحمي له مرآة ثم تقرب منها حتى يذهب نورها ويربط على عينه الأخرى وعلى وجهه قطن هكذا روي عن علي رضي الله عنه فإن هذه

 

ج / 26 ص -136-    الحادثة وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه فشاور الصحابة في ذلك فلم يجد عندهم شيئا حتى قضى علي رضي الله عنه بالقصاص وبين طريق الاستيفاء بهذه الصفة فاتفقوا على قوله فأما إذا انخسفت أو قلعت الحدقة فلا قصاص فيها لأنه لا يتأنى اعتبار المماثلة في السن والمحل فهو بمنزلة كسر العظم وأنه لا يتعلق به القصاص. 
وإذا أحرق رجل رجلا بالنار فعليه القصاص لأن النار تعمل عمل السلاح في تفريق الأجزاء والتأثير في الظاهر والباطن ثم يقتله المولى بالسيف عندنا  وعند الشافعي يقتله بمثل ما قتله به  والدليل على أنه لا يحرقه بالنار قوله عليه السلام:
"لا يعذب بالنار إلا ربها" وقال: "لا تعذبوا بعذاب الله أحدا". 
وإذا طعنه برمح لا سنان له فأجافه فمات فعليه القصاص لوجود الجرح في الظاهر والباطن وقد بينا أن غير الحديد إذا كان يعمل عمل الحديد في القطع والجرح فالفعل به يكون عمدا محضا  وكذلك لو شق بطنه بعود أو ذبحه بقصبة فهو بمنزلة السلاح يجب القصاص به وفي مثقل الحديد والنحاس اختلاف الروايات كما بينا والكلام في القتل بالحجر والعصا قد تقدم.
وإذا غرق رجل رجلا في ماء فلا قصاص عليه وإن كان يعلم أنه لا ينقلب منه بلغنا ذلك عن عمر رضي الله عنه ومراده الحديث الذي روينا في كتاب الإكراه  وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجب عليه القصاص إذا جاء من ذلك ما يعلم أنه لا يعيش من مثله بمنزلة القتل بالحجر الكبير على قولهم ويعتمدون فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام:
"من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه"  ولكن أبو حنيفة قال هذا لا يثبت مرفوعا وإنما هذا كلام زياد ذكره في خطبه ألا ترى أنه قال فيه: "ومن قتل عبده قتلناه" وبالإجماع من قتل عبده لا يقتل ثم الماء ليس في معنى السلاح.
ألا ترى أنه لا يؤثر في تفريق الأجزاء في الظاهر فهو بمنزلة الحجر والعصا على قولهم  يوضحه: أن الغريق يجتذب الماء بنفسه فيكون كالمعين على نفسه فيكون ذلك شبهة في إسقاط القود. 
ولو خنق رجلا فمات أو طرحه في بئر أو ألقاه على ظهر جبل أو سطح فمات لم يكن فيه قصاص عند أبي حنيفة  وعندهما إذا كان شيء من ذلك يعلم أنه لا يعيش من مثله فهو عمد محض يجب به القصاص وإن كان خناقا معروفا قد خنق غير واحد فعليه القتل لأنه ساع في الأرض بالفساد والإمام يقتل الساعي في الأرض بالفساد حدا لا قصاصا. 
وذكر في النوادر أنه لو حبسه في البيت فطبق عليه الباب حتى مات لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة ولكن يعزر على ما صنع وعندهما يضمن ديته لأنه مسبب لإتلافه على وجه متعد فيه فيكون بمنزلة حافر البئر في الطريق  وأبو حنيفة يقول حبسه وتطبيق الباب عليه لا يوجب إتلافه وإنما يتلفه معنى آخر وهو الجوع الذي هاج من طبعه وبعد الطعام عنه ولا صنع للجاني في ذلك فلو ضمن إنما يضمن بجنايته عليه بتأخير حبسه والحر لا يضمن باليد.

 

ج / 26 ص -137-    ولو سقى رجلا سما أو أوجره إيجارا فقتله لم يكن عليه قصاص والدية على عاقلته وفي بعض النسخ قال سقاه سما أو أوجره إيجارا فقد صار متلفا له  وهذا هو الأصح لأنه إذا دفعه إليه حتى شرب بنفسه لم يضمن شيئا لأن الشارب مختار به في شربه فيكون قاتلا نفسه ومن أعطاه غره حين لم يخبره بما فيه من السم ولكن بالغرور لا يجب عليه ضمان النفس  والأصل فيه أن اليهودية حين أتت بالشاة المسمومة هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل من ذلك بشر بن البراء فمات ثم لم يضمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته لأن تناوله باختياره  فأما إذا أوجره إيجارا فقد صار متلفا له فيكون ضامنا ديته وقيل هذا إذا كان سما قد يقتل وقد لا يقتل فيكون ذلك بمنزلة الخطأ فأما إذا كان سما ذعافا يعلم أنه يقتله لا محالة فإنه يجب عليه القصاص عند أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما تقدم من الفعل الذي لا يلبث. 
وإذا جرح الرجل الرجل عمدا بالسيف فأشهد المجروح على نفسه أن فلانا لم يجرحه ثم مات المجروح من ذلك فلا شيء على فلان ولا تقبل البينة عليه بالجناية لأن قبول البينة يبنى على دعوى صحيحة والوارث في الدعوى قائم مقام المورث فكما لا تصح الدعوى من المورث بعد إقراره أنه لم يجرح فكذلك لا تصح من الوارث لأنه نفى أصل الجرح ومن ضرورته نفي القتل  ولو لم يقر المجروح بذلك ولكنه عفى عن الجارح قبل موته ثم مات ففي القياس عفوه باطل لأن القصاص في النفس إنما يجب بعد موته ويكون للوارث لا للمورث فالوارث هو الذي ينتفع به دون المورث فيكون المورث بعفوه مسقطا حق الغير ومسقطا للحق قبل الوجوب وذلك باطل والدليل عليه أن عفو الوارث قبل موت المورث عن القصاص صحيح. 
ولو كان القصاص يجب للمورث لا يصح عفو الوارث كالإبراء عن الدين وجه الاستحسان أن الوراثة خلافة وإنما يجب القصاص على وجه الخلافة عن المورث لا ابتداء ولهذا لو انقلب مالا يقضى منه دين المورث وتنفذ وصاياه فأصل الحق كأنه ثابت للمورث فيصح بعد ما وجد سبب وجوب الحق وإن لم يجب بعد كما يجوز التكفير بعد الجرح قبل زهوق الروح ثم عفوه في الانتهاء كإذنه في الابتداء وإذنه في الابتداء مسقط للقود عن الجاني حتى إذا قال اقطع يدي فقطعه فسري لا يجب شيء كذلك عفوه في الانتهاء.
  ولو عفا الولي قبل موت المجروح ففي القياس لا يصح عفوه أيضا لأنه لم يأن حقه بعد فإن ثبوت حقه بطريق الخلافة وذلك بعد موت المورث  وإذا أسقط حقه قبل أو إنه كان باطلا كما إذا أبرأ عن دين واجب لمورثه في حياته  وجه الاستحسان أن السبب يجعل قائما مقام حقيقة وجوب الحق في صحة العفو وهذا السبب انعقد موجبا للقصاص للوارث   كان بطريق الخلافة عن المورث فيقام مقام حقيقة وجوب الحق في تصحيح عفوه

 

ج / 26 ص -138-    يوضحه: أن باعتبار أصل السبب الحق للمورث لأن السبب جناية على حقه وهو من أهل أن يجب له الحق بعد هذا السبب وباعتبار نفس الواجب الحق للوارث لأن القصاص في النفس لم يجب إلا بعد الموت وبعد الموت المورث ليس بأهل أن يجب له الحق فيجب للوارث وكل واحد من الجانبين مراعى فلمراعاة السبب صححنا عفو المورث استحسانا ولمراعاة الواجب بالسبب صححنا عفو الوارث استحسانا وهذا لأن العفو مندوب إليه قال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: من الآية237] وقال: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: من الآية45] فيجب تصحيحه ما أمكن والله أعلم. 

باب العفو عن القصاص 
  قال رحمه الله: العفو عن القطع والضربة والشجة والجراحة يكون عفوا عن السراية وبيانه أن من قطع يد إنسان أو شجه موضحة فقال المجني عليه عفوت عن القطع أو عن الشجة فإن اقتصر جاز العفو بالاتفاق  وإن سرى إلى النفس فالعفو باطل في قول أبي حنيفة وفي القياس يلزمه النقصان  وفي الاستحسان تلزمه الدية في ماله  وقال أبو يوسف ومحمد العفو صحيح ولا شيء عليه  وأما إذا قال عفوتك عن الجناية أو الشجة وما يحدث منها أو عن القطع وما يحدث منه صح العفو بالاتفاق  وهما يقولان عفا عن حقه لأنا قد بينا أن بعد السراية الحق ثابت في الطرف فقبل السراية أولى  والدليل عليه أن العفو في الانتهاء كالإذن في الابتداء بدليل أنه لو اقتصر فيهما جميعا لم يضمن شيئا ثم الإذن في الابتداء بهذه الألفاظ يسقط ضمان السراية فكذلك العفو في الانتهاء وهو بمنزلة ما لو كان العفو بلفظ الجناية  والدليل عليه هو أن سبب ثبوت الحق الشجة ولولاه لما صح العفو عن الجناية أو عن الجراحة وما يحدث منها فإذا عفي عن الشجة صار أصل السبب هدرا فالسراية التي تنبني عليه تكون هدرا أيضا  والدليل عليه أن معنى قوله عفوتك عن الشجة أي عن موجب هذه الشجة وموجبها القصاص في الشجة إذا اقتصر  وفي النفس إذا سرى فيصرف العفو إليهما كما لو قال المغصوب منه للغاصب أبرأتك عن الغصب يكون ذلك إبراء عن الضمان الواجب بالغصب وهو رد العين عند قيامها ورد القيمة بعد هلاكها  .
وكذلك المشتري إذا أبرأ البائع عن العيب يكون ذلك إبراء عن موجب العيب وهو الرد عند الإمكان والرجوع بالنقصان عند تعذر الرد  والدليل عليه ما قال في الجامع الصغير لو أن عبدا قطع يد إنسان فصالح مولاه عن القطع على أن يدفع العبد إليه فأعتقه المجني عليه ثم مات قال العتق نافذ والعبد صلح بالجناية فإذا كان الصلح على القطع صلحا عن السراية فكذلك العفو.
  وقال في الزيادات: لو ادعى رجل شجة مع السراية وشهد له شاهدان أحدهما بالشجة والآخر بها وبالسراية تقبل شهادتهما على الشجة ولو لم تكن الشجة حقه بعد السراية لما قبلت الشهادة لاختلاف الشاهدين في المشهود به  وأبو حنيفة يقول عفا عن غير حقه فلا

 

ج / 26 ص -139-    يصح لأن العفو إسقاط الحق فإذا صادف ما ليس بحقه كان باطلا  وبيانه أنه عفا عن اليد وحقه في النفس لما بينا أن بالسراية يتبين أن أصل الفعل كان قتلا وموجب القتل القصاص في النفس دون اليد  والدليل عليه أن المعتبر في الجنايات مآلها لا حالها .
ألا ترى أن أصل الفعل قد يكون موجبا للقصاص وبالسراية يتبين أنه كان غير موجب كما لو قطع يده من المفصل فسرى إلى نصف الساعد فباعتبار المال ها هنا يتبين أنه لم يكن حقه في اليد قصاصا ألا ترى أنه بعد السراية لو قال الولي عفوتك عن اليد لم يصح فكذلك قبل السراية  .
ولو قال المجني عليه: عفوتك عن القتل ثم اقتصر لم يصح فكذلك إذا قال عفوتك عن اليد فسرى ولا معنى لما قال أنه عفا عن موجب اليد لأنه لما قال عفوتك عن القطع فمعناه عن قطع واجب مقابل هذا القطع لا عن هذا القطع الذي تحقق لأن العفو عنه لا يتحقق وقد تبين أنه لم يكن قطع واجب بمقابلة هذا القطع وقوله بأن هذا القطع سبب حقه قلنا: القطع سبب حقه في اليد لا سبب حقه في النفس بل حقه في النفس القتل لأن القطع الساري لا يقول أنه قطع ثم قتل أو قطع يصير قتلا بمنزلة قنص يصير صيدا ولكنه يتبين أنه كان قتلا في الأصل لأن القتل فعل مزهق للروح وإنما انزهق هذا الروح عقيب هذا الفعل فعرفنا أنه قتل ولهذا صح العفو بلفظ الجناية لأن اسم الجناية يتناول القتل وما دونه .
ألا ترى أنه لو قال: لا جناية في قتل فلان ثم ادعى عليه النفس أو ما دون النفس لم تسمع بخلاف القطع فهو اسم حائز لما دون النفس حتى لو قال لا قطع لي قبل فلان ثم ادعى عليه النفس صحت الدعوى وكذلك إذا قال عفوتك عن القطع وما يحدث منه لأن ذلك عبارة عن النفس وقد تبين أن حقه كان في النفس فصح العفو وهذا بخلاف المأذون في الابتداء لأن الإذن صادف محلا هو حقه فيصير المأذون قائما مقام الإذن في إقامة الفعل فيه فكأنه فعل بنفسه وبخلاف ما لو اقتصر لأنه تبين هناك أن فعله كان قطعا وإن حقه في قطع واجب بمقابلة هذا القطع  فأما إذا دفع العبد باليد فالصلح هناك باطل عند أبي حنيفة إذا سرى قبل أن يعتقه إلا أن عتقه إنما ينفذ لأنه مقبوض بحكم صلح فاسد فيصير مملوكا فينفذ فيه العتق ثم من حيث الظاهر إنما دفع العبد باليد ومن حيث المعنى قصد المولى دفعه بالجناية  فإذا لم يتصل به ما لا يمكن فسخه وهو العتق اعتبرنا الظاهر وقلنا: إذا سرى فالصلح باطل  وإذا اتصل به ما لا يمكن فسخه اعتبرنا المقصود وهو الدفع بالجناية فقلنا: العتق نافذ والعبد صلح بالجناية.
  يوضحه: أن هناك نفذ العتق لكونه مملوكا له وإن كان بسبب فاسد ويضمن قيمته لمولاه ثم المجني عليه يستوجب القيمة على المولى أيضا لأنه دفعه على وجه لم يصر به مختارا فكان مستهلكا فيلزمه قيمته فتقع المقاصة بين القيمتين فلهذا قال العتق نافذ والعبد صلح بالجناية 

 

ج / 26 ص -140-    وأما مسألة الجامع فقيل إنه قول محمد ثم إنما يتبين أن الحق في النفس إذا ثبتت السراية ولم تثبت لأن الشاهد بها واحد وبدون السراية الحق في الشجة وقد اتفق الشاهدان عليه ولا يقال المدعي يتبرأ من الشجة لأنه إنما يتبرأ منها إذا ثبت حقه في النفس ولم يثبت فهو بمنزلة ما لو ادعى بيع عين من إنسان بثمن وأنكر المشتري وحلف بنفي العين عن ملك المدعي لأنه إنما يتبرأ من ملك العين إذا ثبت حقه في اليمين ولم يثبت ثم في القياس يجب القصاص عند أبي حنيفة لأن العفو لما حصل من غير حقه كان وجوده كعدمه  ولكن في الاستحسان قال حقه في الصورة عند العفو ما أضاف إليه العفو وإن تبين في الأخيرة أنه غيره وكذلك ما أضاف إليه العفو هو السبب لثبوت حقه في النفس ظاهرا ليصير ذلك شبهة في رد القود  وقد قال في مسألة الجامع الصغير لو لم يعتق العبد حتى سرى فالصلح باطل والقصاص واجب عند أبي حنيفة قيل ما ذكر هذا حق بسبب القياس وقيل بل أبو حنيفة يفرق فيقول هناك الصلح مضاف إلى العبد والعبد ليس بسبب لثبوت حقه في النفس فيصير ذلك شبهة في إسقاط القود .
ثم بنى على هذا الفصل مسألة التزويج على الجراحة بالجناية وقد تقدم بيانها في كتاب الصلح والعفو عن دم العمد جائز في المرض من جميع المال لأن دم العمد ليس بمال وبالمرض إنما يلحقه الحجر عن التصرف في ماله لحق ورثته ففيما ليس بمال المرض والصحة فيه سواء والقاتل وغير القاتل فيه سواء ألا ترى أنه لو أعان إنسانا بيديه لا يعتبر ذلك من ثلث ماله وإن كان ذلك الرجل قاتلا له  وعلى قول الشافعي عفوه في القصاص صحيح ولكن في حق المال باطل لأن العمد عنده موجب للمال ولا وصية للقاتل  والعفو عن أحد القاتلين لا يبطل القود عن الآخر وكذلك الصلح مع أحدهما لأن القصاص لزمهما بالقتل ثم سقط أحدهما بالعفو ودم أحدهما متميز عن دم الآخر فسقوطه عن أحدهما لا يورث شبهة في حق الآخر بخلاف ما لم إذا لم يجب القصاص على أحد القاتلين لأن هناك الفعلان اجتمعا في محل واحد وأحدهما موجب والآخر غير موجب ودم المقتول لا يتميز بعضه عن بعض.
  قال: ولكل وارث في دم العمد نصيب بميراثه يجوز فيه عفوه وصلحه أما الدية إذا وجبت بالقتل فلكل وارث فيها نصيب عندنا وقال مالك لايرث الزوج الزوجة من الدية شيئا لأن وجوبها بعد الموت والزوجية تنقطع بالموت  .
وحجتنا في ذلك حديث الضحاك بن سفيان الكلابي أنه أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم  وقد كان عمر يقول لا ميراث للزوج والزوجة من الدية ثم رجع إلى هذا الحديث  وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقسم الدية على من أحرز الميراث  وعنه قال إذا أوصى الرجل بثلثه دخلت ديته في تلك الوصية ولأن بدل نفسه كسائر أمواله حتى يقضي منه دينه فيرث منه جميع ورثته كسائر الأموال  وكذلك يثبت

 

ج / 26 ص -141-    حق الزوج والزوجة في القصاص عندنا  وعلى قول ابن أبي ليلى لا يثبت حقهما في القصاص لأن سبب استحقاقهما العقد والقصاص لا يستحق بالعقد .
ألا ترى أن حق الموصى له لا يثبت في القصاص وهذا لأتان المقصود في القصاص التشفي والانتقام وذلك يختص به الأقارب الذين ينصر بعضهم بعضا  .
وحجتنا في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام:
"من ترك مالا أو حقا فلورثته" والقصاص حقه لأنه بدل نفسه فيكون ميراثا لجميع ورثته كالدية  والدليل عليه أن استحقاق الإرث بالزوجية كاستحقاقه بالقرابة حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد وبه فارق الوصية وبهذا تبين أن الاستحقاق ليس بالعقد  .
وإذا كان دم العمد بين رجلين فعفي أحدهما فلا قود على القاتل لما روي أن هذه الحادثة وقعت في زمن عمر رضي الله عنه فشاور فيها بن مسعود فقال أرى هذا قد أحيا بعض نفسه فليس للآخر أن يتلفه فأمضى عمر رضي الله عنه القضاء على رأيه وهو المعني فإن العافي أسقط حقه وهو من أهل الإسقاط فصح إسقاطه وبإسقاطه حق بعض نفس القاتل والآخر يعجز عن استيفاء حقه لأن القتل لا يحتمل التجزي في نفس واحدة استيفاء ثم القصاص في نفس واحدة كما لا يتجزأ وجوبا لا يتجزأ سقوطا .
 وإذا ثبت أن الآخر تعذر عليه استيفاء حقه قلنا: إنما تعذر استيفاؤه لمعنى في القاتل وهو مراعاة الحرمة لبعض نفسه فكان في معنى الخطأ فيجب المال للآخر ولا يجب للعافي شيء لأن تعذر استيفاء القصاص في حقه كان بإسقاطه ثم للآخر نصف الدية في مال القاتل لأن سببه العمد المحض  ويكون في ثلاث سنين عندنا  وقال زفر في سنتين لأنه ما وجب للآخر إلا نصف الدية ونصف الدية يكون مؤجلا في سنتين كما لو قطع يد إنسان  ولكنا نقول حقهما في بدل النفس وبدل النفس مؤجل في ثلاث سنين إذا وجب بالقتل كالأب إذا قتل ابنه عمدا والذي وجب للآخر جزء من بدل النفس فكل جزء منه كذلك .
وإذا كان دم العمد بين اثنين فشهد أحدهما على الآخر أنه قد عفي فهذا على أربعة أوجه إن صدقه في ذلك القاتل والمشهود عليه فللشاهد نصف الدية لأن ثبوت العفو من الآخر بتصادقهما عليه كثبوته بالمعاينة  وإن كذباه في ذلك فللمشهود عليه نصف الدية ولا شيء للشاهد لأنه تعذر على المشهود عليه استيفاء نصيبه من القود لا لمعنى من جهته بل بشهادة الشريك عليه بالعفو وهو فيما يشهد به عليه متهم فيكون كاذبا في حقه ويجعل ذلك بمنزلة إنشاء العفو من الشاهد فيسقط حق الشاهد ويجب نصف الدية للمشهود عليه  وإن صدقه القاتل وكذبه المشهود عليه فلكل واحد منهما نصف الدية في مال القاتل أما المشهود عليه نصف الدية لما قلنا: فإن القاتل والشاهد لا يصدقان عليه في إسقاط حقه وأما الشاهد فقد زعم أن نصيبه انقلب مالا بعفو شريكه وصدقه القاتل بذلك  وأما إذا كذبه القاتل وصدقه المشهود عليه ففي القياس لا شيء لواحد منهما على القاتل لأن حق الشاهد قد سقط بغير

 

ج / 26 ص -142-    عوض فإن شهادته بالعفو في حق من كذبه وهو القاتل بمنزلة إنشاء العفو وأما المشهود عليه فلأنه قد أقر بالعفو المسقط لحقه.
 وفي الاستحسان: يجب نصف الدية للشاهد لأنه لما كذب القاتل الشاهد فقد وجب نصف الدية على القاتل للمشهود عليه بدليل أن المشهود عليه لو لم يصدق الشاهد كان له من المشهود عليه على القاتل نصف الدية فالمشهود عليه بهذا التصديق حول ذلك النصف إلى الشاهد وزعم أن نصف الدية للشاهد على القاتل لا له  .
ومن أقر لإنسان بشيء فأقر المقر له لغيره به لا يصير رد الإقرار الأول ولكن يخول الحق إلى الثاني بإقراره أو كان شهد معه آخر لأن الشاهد من الوليين بشهادته على العفو متهم فإنه يقصد بشهادته أن يحول نصيبه إلى المال فلم يكن مقبول الشهادة وبشهادة الواحد لا يثبت العفو على الشريك  .
ولو شهد كل واحد منهما على صاحبه أنه قد عفا والقاتل لا يدعي ذلك ولا ينكره  فإن شهدا على التعاقب فالذي شهد أول مرة قد بطل حقه لأن شهادته بمنزلة عفوه ووجب لصاحبه نصف الدية فلا يبطل ذلك بشهادته بعد ذلك على شريكه بالعفو  وإن شهدا معا فلا شيء لواحد منهما في هذا الفصل لأن كل واحد منهما بمنزلة العافي فيسقط حقهما منه بغير عوض وكذلك لو كذبهما القاتل.  وإن صدق القاتل أحدهما وكذب الآخر أعطي الذي صدق نصف الدية وبطل حق الآخر لأن كل واحد منهما يدعي لنفسه نصف الدية عليه وقد صدق أحدهما فيلزمه نصف الدية له وكذب الآخر وهو قد صار في حقه كالعافي  وإن صدقهما أنهما قد عفوا ينبغي في قياس هذا القول أن يضمن الدية لهما لأنه صار يقر لكل واحد منهما بنصف الدية على نفسه كما إذا صدق أحدهما ولكن في الاستحسان لا ضمان عليه لواحد منهما لأن في تصديقه إياهما تكذيبهما فكل واحد منهما يزعم أنه ما عفا وإنما عفا شريكه وهو إذا زعم أنهما عفوا فقد صار مكذبا لكل واحد منهما وقد يثبتان أنه لو كذبهما جميعا لم يكن لكل واحد منهما عليه شيء من الدية  .
ولو كان الدم بين ثلاثة نفر فشهد اثنان على الثالث أنه قد عفا فشهادتهما باطلة لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا بشهادتهما فإن نصيبهما من القصاص ينقلب مالا بها وقد سقط القود لإقرارهما بذلك  فإن كذبهما القاتل أعطي المشهود عليه ثلث الدية ولم يكن للشاهدين شيء لما بين أن شهادتهما كإنشاء العفو منهما وإن صدقهما أعطاهما الدية أثلاثا لإقراره للشاهدين بما ادعيا عليه من ثلثي الدية وإن لم يصدق ولم يكذب فهو بمنزلة التكذيب والشهادة على الصلح بذلك كالشهادة على العفو  فإن كان معهم شريك رابع لم يشهد ولم يشهد عليه فله حصته من الدية لأنه تعذر عليه استيفاء القود لا بمعنى من جهته مع بقاء المحل ثم العفو عن

 

ج / 26 ص -143-    القود مما يثبت مع الشهادة فيثبت بالإبذال مع الحجج كالمال وإن ادعى القاتل العفو على الورثة ولا بينة له حلف الوارث على ذلك لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه فإن حلف أحد بالقصاص لا يحلف بل بالقتل السابق ولكن يحلفه كما انتفى ما ادعاه من العفو وإن نكل عن اليمين بطل حقه لأن نكوله كإقراره ولشركائه حصتهم من الدية كما لو أقر الناكل العفو وإن شهد شاهدان للقاتل أنه صالح على الدية وإنهما كفلا عنه بعد ذلك في غير صلح والولي منكر لذلك لم تجز شهادتهما إن ذكرا أن الكفالة كانت في الصلح لأن الصلح المشروط فيه كفالة الكفيل بعينه لا يتم إلا بقبوله فإنما يشهدان على عقد تم بهما وهو الصلح الذي تم بكفالتهما فيكون هذا شهادة على فعل أنفسهما فلا تقبل.
 وإن ذكرا أنها بعد الصلح فشهادتهما على الصلح جائزة لأنهما أجنبيان لا تهمة في شهادتهما ويؤخذان بالكفالة بإقرارهما على أنفسهما ولا يرجعان بذلك على الذي كفلا عنه إلا أن يكون أمرهما بذلك لأن الكفيل بغير الآمر متبرع فيما يلزم ويؤدى وإن ادعى الولي شهادتهما وجحد ذلك القاتل جازت شهادتهما على أنفسهما لأن القود قد سقط بدعوى الولي الصلح وقد أقر بوجوب المال عليهما وعلى القاتل ويلزمهما ما أقرا به على أنفسهما ولا يرجعان على القاتل بشيء لأن إقرارهما ليس بحجة عليه  .
وإذا شهد شاهدان على العفو وقضى القاضي ثم رجعا فلا ضمان عليهما لأن القود ليس بمال والشاهد عند الرجوع إنما يضمن ما أتلف من المال بشهادته فأما ما ليس بمال فيما هو مبتذل لا يكون مضمونا بالمال عند الإتلاف وقد بينا هذا في الرجوع عن الشهادات  وإن لم يقض القاضي بشهادتهما حتى رجعا فالقصاص كما هو على حاله لأن الشهادة لا توجب شيئا ما لم يتصل بها القضاء فإذا لم يقض القاضي ها هنا لم يسقط القود فانعدم المانع من استيفاء القود واختلاف شهود العفو في الوقت والمكان لا يمنع قبول الشهادة لأن العفو قول يعاد ويكرر فيكون الثاني هو الأول.  ولو شهدا على أحد الورثة بالعفو ولم يعرفوا أنه هو فشهادتهما باطلة لأن المشهود عليه مجهول وجهالته تمنع القاضي من القضاء بالشهادة فيبقى القصاص كما كان  ولو شهد أحدهما أنه عفا على ألف درهم وشهد الآخر أنه عفا على غير جعل فالشهادة باطلة لاختلافهما في المشهود به وهو نظير الطلاق والعتاق إذا اختلف الشاهدان فيه بهذه الصفة وكذلك إن شهد أحدهما بالصلح بألف والآخر بخمسمائة لأن القاتل لا بد أن يدعي شهادة أحدهما وهو الذي شهد بخمسمائة فيكون مكذبا شهادة الآخر وهو شهادة من شهد بألف  وإن لم يدعه القاتل وادعاه ولي الدم فقد جاز العفو بإقرار الولي بسقوط حقه في القود ثم لا يقضي بشيء من المال عند أبي حنيفة لما ذكرنا أن المدعي مكذب أحد الشاهدين وعندهما يقبل في الأقل لأن مدعي ألف مدع بخمسمائة ضرورة فهذا بمنزلة اختلافهم في دعوى المال مطلقا  وكذلك إن شهد أحدهما بالصلح على عبد والآخر بالصلح على ألف درهم لأن كل واحد منهما شهد بعقد

 

ج / 26 ص -144-    آخر والمدعي لا بد أن يدعي أحد العقدين فيكون مكذبا شهادة الآخر وعفو الأب والوصي عن قصاص واجب للصغير باطل لأنه فوض إليهما استيفاء حقه شرعا لا إسقاطه وإسقاطه القصاص كإسقاطه دينا واجبا للصبي  فأما استيفاء القصاص فيؤل للأب أن يستوفي القصاص الواجب للصغير في النفس وما دون النفس عندنا  وقال الشافعي ليس له ذلك لأن من أصله أن الابن يتخير بين استيفاء القصاص واستيفاء الدية والأب بهذا الاستيفاء يقطع عليه خياره وذلك لا يصلح منه ثم المقصود من القصاص التشفي والانتقام وذلك لا يحصل للصغير باستيفاء أبيه  والدليل عليه أن الصغير إذا بلغ ربما يميل إلى العفو فلو استوفاه الأب كان ذلك استيفاء مع شبهة العفو  وأصحابنا رحمهم الله يقولون ولاية الأب على ولده الصغير في استيفاء حقوقه كولايته على نفسه.
 ألا ترى أنه يجمع المال والنفس جميعا وإنما تثبت له هذه الولاية نظرا للصبي وفي استيفاء القود نظر له لأنه ربما يفوت بموت القاتل أو بهربه فالظاهر أنه إذا لم يستوف القصاص على فور القتل فعل ما لا يتمكن من استيفائه بعد ذلك ثم المقصود يحصل للصبي باستيفاء أبيه إذا بلغ لأنه إذا لم ير قاتل وليه بعد البلوغ وعلم أنه قتل قصاصا حصل التشفي نظير ما لو زوجه الأب فإنه يصح  وإن كان المقصود يحصل له بعد البلوغ على أن المقصود أن يندفع عنه شر القتل وذلك يحصل باستيفاء أبيه في الحال وشبهة عفو بتوهم وجوده في الحال تمنع استيفاء القود فأما شبهة عفو بتوهم اعتراضه في الثاني فلا يمنع لأنه ما من ولي إلا ويتوهم أن يبدو له فيعفو ولا معنى لما قال أن فيه قطع خياره لأن للأب أن يبيع مال ولده  ولو بلغ الصبي قبل البيع كان مخيرا بين استيفاء العين وبين إزالته بالبيع ثم لم يكن بيعه قطعا لخياره فهذا مثله.
 وليس للوصي أن يستوفي القصاص في النفس لأن تصرف الولي مقصور على المال والقصاص في النفس ليس بمال  وفي استيفاء الوصي القصاص في الطرف روايتان أظهرهما أن له أن يستوفي لأن الطرف يسلك به مسلك الأموال بدليل أنه يعتبر فيه التساوي في البدل  وفي الرواية الأخرى ليس له أن يستوفي لأن القصاص في الطرف ليس بمال كالقصاص في النفس  فإن صالح الأب على ابنه جاز صلحه لأنه يملك الاستيفاء وهو في ذلك كالقصاص الواجب له فكذلك الصلح على الدية  وإن حط من الدية لم يجز حطه واليسير والفاحش في ذلك سواء بخلاف البيع لأن البدل هناك غير مقدر شرعا وهنا مقدر وهو الدية فالنقصان عنه يكون إسقاطا فلا يصح منه قل أو كثر .
وصلح الوصي عن النقصان في النفس على الدية يجوز في رواية هذا الكتاب ولا يجوز في رواية الصلح وقد بينا الروايتين  وإذا لم يكن للمقتول ولي سوى السلطان فقد بينا الكلام فيه في اللقيط  وإن كان للدم وليان أحدهما غائب فادعى القاتل أن الغائب عفا عنه وأقام البينة على ذلك وأبى قتله وأجيز العفو من الغائب لأن الحاضر خصم عن الغائب فانتصب هنا

 

ج / 26 ص -145-    الحاضر خصما عن الغائب  وإذا قضى بالعفو ثم حضر الغائب لم يعد عليه لأن القضاء اتصل بالبينة على من هو خصم ويكون للحاضر حصته من الدية  .
وإذا ادعى عفو الغائب ولم يكن له بينة فأراد أن يستحلف فإنه يؤخر حتى يقدم الغائب فيحلف لأنه لو استحلف الحاضر على ذلك كان بطريق النيابة والنيابة لا تجري في الأيمان وليس للحاضر استيفاء القود ما لم يقدم الغائب قبل دعوى العفو فبعد دعوى العفو أولى  فإذا قدم فحلف اقتص منه فإن ادعى بينة حاضرة على العفو أجله الحاكم ثلاثة أيام لأنه لا يتمكن من إقامة الحجة إلا بمهلة وإنما لم يحضر شهوده في المجلس الأول على ظن أن الخصم لا ينكر العفو فلا بد من إمهاله إلى المجلس الثاني وقد كان القاضي فيهم يجلس بنفسه في كل ثلاثة أيام إذ الثلاثة مدة حسنة لإيلاء الأعذار كما في شرط الخيار  فإن مضت الثلاثة ولم يأت بهم وادعى بينة غائبة فهما سواء في القياس  وينبغي في قياس قولنا أن يمضي القضاء عليه بالقصاص كما في المال إذا ادعى بينة غائبة على الإبراء وهذا لأن السبب المطلق لاستيفاء القصاص قد ظهر والمانع موهوم والموهوم لا يعارض المتحقق فليس كل غائب يؤوب  .
قال: ولكني أستعظم ولا أعجل فيه بالقصاص حتى أثبت فيه وأستأني به ولا أعجله لأن استيفاء القصاص إذا وقع الغلط فيه لا يمكن التدارك والتلافى وعلى الإمام أن يتثبت في مثله ثم القصاص لا يستوفى مع الشبهة فباعتبار توهم حضور شهوده يتأنى فيه القاضي حتى لا يكون مستوفيا مع الشبهة بخلاف المال  .
وإذا شهد شاهدان على أحد الورثة بعينه بالعفو أو بأنه أقر أن فلانا لم يقتل فالشهادة جائزة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة  ولو عايناه عفا أو أقر بذلك سقط القصاص سواء أقر بذلك في صحته أو مرضه لأن العفو عن القود ليس بمال  وإذا كان الدم بين اثنين فعفا أحدهما ثم قتله الآخر عمدا  فإن لم يعلم بعفو الشريك أو علم بذلك ولم يعلم أن يعفو أحدهما يسقط القود فعليه الدية كاملة في ماله عندنا  وقال زفر عليه القصاص  وإن كان فقيها يعلم أن القود يسقط بعفو أحد الشريكين فعليه القصاص  أما زفر فيقول القود سقط بعفو أحدهما علم الآخر أو لم يعلم اشتبه عليه حاله أو لم يشتبه فإنما بقي مجرد الظن في حق الآخر والظن غير مانع من وجوب القصاص بعد ما تقرر سببه كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا كان عليه القصاص  .
وحجتنا في ذلك أنه قد علم وجوب القصاص وما علم ثبوته فالأصل بقاؤه ما لم يعرف المسقط فإذا لم يعلم العفو كان القصاص واجبا في حقه ظاهرا والظاهر يصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وكذلك إذا علم بالعفو ولم يعلم أن القود سقط به لأن الظاهر أن تصرف الغير في حقهم غير نافذ وسقوط القود عند عفو أحدهما باعتبار معنى خفي وهو أن القصاص لا يحتمل التجزي فإنما اشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير ذلك بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة بخلاف ما إذا علم بالعفو فإن هناك قد ظهر المسقط عنده وأقدم على القتل مع

 

ج / 26 ص -146-    العلم بالحرمة وقد يجوز أن يسقط القود باعتبار ظنه كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا فإذا هو مسلم  وإذا سقط القود عنه بالشبهة لزمه الدية في ماله لأن فعله عمد ثم يحسب له منها نصف الدية لأن بعفو الشريك وجب له نصف الدية على هذا الذي قتله فيكون نصف الدية قصاصا بنصف الدية ويؤدى ما بقي  .
وإذا وجب القصاص على رجل فقتله ولي الدم بسيف أو عصا أو وقع في بئر حفرها في الطريق أو عثر بحجر وضعه في الطريق لم يكن عليه في ذلك شيء لأن دم من عليه القصاص في حق من له القصاص كالمباح فإن الدم لا يملك وإنما يتمكن من استيفاء القصاص بطريق الإباحة وذلك يمنع وجوب الضمان عليه إذا صار قاتلا له بالمباشرة أو بالسبب  يوضحه: أن هذا بمنزلة استيفاء القصاص منه وإن لم يكن بطريقه لأن استيفاء القصاص بفعل يتصل به زهوق الروح وقد وجد ذلك منه بطريق التسبب أو بطريق المباشرة  فإن كان له وليان فعفا أحدهما ثم أصابه هذا الأحد بعد العفو فعلى عاقلته الدية في جميع ذلك إلا بالسيف فإنها في ماله لأن القود سقط بعفو أحدهما وصار في حكم القتل الموجب للمال عليه كان ما سبق لم يكن .
 فإذا أخذ الدية أولياء القتيل خطأ رجع هذا القاتل خطأ بنصف الدية التي أخذها أولياء المقتول خطأ لأنه بعفو شريكه انقلب نصيبه مالا وكان ذلك في ذمة القاتل وبدل نفسه بمنزلة تركته فيستوفى منه ما كان واجبا له في ذمته ولا مقاصة ها هنا لاختلاف المحل فإن بدل نفسه على عاقلة ولي الدم الذي لم يعف ولو قتله غير الولي بغير أمر الولي عمدا أو خطأ بطل دم الأول ولا شيء لوليه ويكون على القاتل الآخر القصاص في العمد والدية على عاقلته في الخطأ لأن حرمة نفسه في حق غير الولي قائمة كما كانت وسقط حق المولى لفوات محله وقد بينا أن الثابت في حقه إباحة الاستيفاء أو الملك في حق الاستيفاء خاصة وذلك لا يتحول إلى البدل كملك الزوج في زوجته لا يثبت فيه البدل إذا وطئت بالشبهة  .
وإذا قتله فقال الولي أنا كنت أمرته فإن أقام بينة على هذا فلا شيء على القاتل الثاني لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة  فإن لم يكن له بينة فعليه القصاص في العمد والدية على عاقلته في الخطأ لأنه أقر بما لا يملك استيفاءه لأن حقه قد سقط لفوات المحل فهو فيما يدعي بعد ذلك كأجنبي آخر وبدل نفس المقتول الثاني واجب لورثته لا قول لولي الأول في إسقاط حقهم قصاصا كان أو مالا والله أعلم بالصواب.

 باب العفو في الخطأ وغير ذلك 
  قال رحمه الله رجل قتل رجلا خطأ فالدية بين جميع الورثة والموصى له بالثلث كسائر التركة لأن الدية مال هو بدل نفسه فيكون تركة له بعد موته كسائر أمواله وقد بينا الاختلاف في الزوج والزوجة وقد كان في السلف من يقول لا شيء للأخوة للأم من الدية وإنما الدية للعصبات خاصة وقيل هو قول عمر رضي الله عنه الأول ولهذا ذكر في الأصل عن علي

 

ج / 26 ص -147-    رضي الله عنه أنه كان ينسب عمر رضي الله عنه إلى الظلم مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينما دار عمر فالحق معه" وفي رواية "أينما دار الحق فعمر معه" وقد صح رجوع عمر عن هذا حيث روى له الضحاك بن سفيان الكلابي الحديث كما روينا ولا حق للموصى له بالثلث في دم العمد لأن موجبه القصاص وليس بمال ولا يحتمل التمليك بالعقد وكما لا يثبت له حق الشركة في الاستيفاء فكذلك لا يعتبر عفوه فيه  فإن صولح القاتل على مال دخل فيه الموصي له لأنه الواجب بدل نفسه فيكون تركة له يقضي منه ديونه وينفذ وصاياه بمنزلة الواجب في قتل الخطأ ثم هو شريك الورثة في التركة فيجوز عفوه بعد الصلح في نصيبه كما يجوز عفو الوارث.
 وليس للغرماء عفو في عمد ولا خطأ أما العمد فلأن موجبه ليس بمال ولا حق للغرماء فيه وأما الخطأ فلأنه ليس في عفوهم عن الدية إسقاط شيء من ديتهم وإنما ولاية التصرف لهم في محل حقهم فإذا لم يلاق هذا التصرف منهم محل حقهم كان باطلا  وإذا عفا الرجل عن دمه وهو خطأ ثلثه في مرضه الذي مات فيه جاز عفوه من ثلثه لأن الواجب الدية على عاقلته فيكون عفوه وصية منه للعاقلة وذلك صحيح من ثلثه وما فيه من الإشكال بيناه في الوصايا  .
فإن كان أوصى مع ذلك بوصايا تحاص أهل الوصايا والعاقلة في ثلثه فسقط عن العاقلة حصتهم وما سوى ذلك من نصيب أصحاب الوصايا والورثة يكون مؤجلا على العاقلة في ثلاث سنين اعتبارا للبعض بالكل وهذا تبيان أن الواجب على العاقلة لأنه لو كان على القاتل لكان الأجل سقط بموته  فإن أعتق عبدا بدئ به من الثلث لأن العتق أقوى سببا من سائر الوصايا ومن العفو فإنه إسقاط للرق بمنزلة الإبراء عن دين آخر  وإن لم يعف الميت ولكن عفا بعض الورثة بطلت حصة العافي إلا أن يكون على الميت دين مستغرق وهو بمنزلة الإبراء عن دين آخر .
إذا شهد شاهدان من الورثة على بعضهم أنه عفا عن حصته والقتل خطأ فشهادتهما جائزة لأنهما لا يجران إلى أنفسهما شيئا بشهادتهما بخلاف العمد فهناك ينقلان حقهما من القصاص إلى الدية بشهادتهما  ولو كان الشاهدان أخذا طائفة من الدية ثم شهدا بذلك لم تجز شهادتهما لأنهما يدفعان حق الثالث عن أنفسهما وقد كان للوارث الآخر حق المشاركة معهما فيما أخذا وإنما يسقطان ذلك بشهادتهما لأنهما ولو لم يأخذا شيئا حتى شهدا على الثالث أنه أخذ مالا وصالح عليه لم تجز شهادتهما لأنها يجران بها إلى أنفسهما مغنما فإنه يثبت لهما حق المشاركة مع القابض في المقبوض وشهادة جار المغنم أو دافع المغرم لا تقبل  .
وإن شهد وارثان على القتيل أنه عفا عند موته عن القاتل فشهادتهما جائزة والعفو من ثلثه فإنه لا تهمة في شهادتهما  فإذا شهد شاهدان على عفو الورثة وهم كبار فأجازه القاضي وأبرأ القاتل ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الدية لأن الواجب كان هو المال للورثة وقد أتلفا ذلك عليهم بشهادتهما فيضمنان عند الرجوع كما لو شهدا بالإبراء عن دين آخر

 

ج / 26 ص -148-    ولو شهد شاهدان في دم العمد على أحد الورثة بعينه أنه أخر القاتل اليوم إلى الليل على ألف درهم لم يكن ذلك عفوا ولا مال له لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وليس في هذا التأخير إسقاط شيء من القود والقود الواجب له في حكم العين فالتأجيل فيه يكون باطلا ولا مال له لأن القاتل لم يستفد شيئا بهذا التأخير  وإن شهدا أنه أخذ منه ألف درهم على أن يعفو عنه يوما إلى الليل فهذا عفو وهو صلح جائز لأن العفو إسقاط للقود وهو لا يقبل التوقيت فيلغو التوقيت منه ويصح العفو بالمال المسمى بمنزلة الطلاق  .
وذكر عن زيد بن وهب قال وجد رجل مع امرأته رجلا فقتلهما بالسيف فاستحيا بعض أخوتها مما فعلت فعفا عنه فجعل عمر رضي الله عنه للذي لم يعف حصته من الدية  .
ولو أن رجلا أخذ السكين فوجأبه رأس إنسان فأوضحه ثم جر السكين قبل أن يرفعها حتى شجه أخرى فهذه موضحة واحدة وعليه فيها القصاص إن كانت عمدا وأرش موضحة واحدة إن كانت خطأ لأن الفعل واحد لاتحاد محله فالتوسع مبالغة منه في ذلك الفعل فلا يعطى له حكم فعل آخر  ولو رفع السكين ثم وجأ إلى جهة أخرى اتصل أو لم يتصل فهذه موضحة أخرى اقتص منه في العمد وعليه أرش موضحتين في الخطأ لأنهما فعلان مختلفان باختلاف المحل واختلاف المباشرة فكأنهما حصلا من اثنين ثم اتصال إحداهما بالأخرى على وجهين  فإن كان ذلك بفعله فلا شك أن عليه القصاص فيهما  وإن كان ذلك بأن تأكل ما بينهما حتى اتصلت إحداهما بالأخرى فعلى قول أبي حنيفة لا قصاص فيهما  وعلى قول محمد يجب القصاص وهو بناء على ما سبق فمن أصل أبي حنيفة أن باعتبار السراية فيما دون النفس يمتنع وجوب القصاص في محل واحد وفي مجلس لأن العمد المحض فيما دون النفس لا يتحقق بالسراية  وعلى قول محمد إذا كانت السراية بحيث يمكن إيجاب القصاص فيها لم يمتنع استيفاء القصاص بسببها وقد بينا ذلك فيما إذا قطع أصبعا فشلت إلى جنبها أخرى أو سقطت وإذا فقأ الرجل عين الرجل وفي عين الفاقى ء فالمفقوءة عينه بالخيار لأن نقصان البصر في العين بمنزلة الشلل أو فوات الأصبع في اليد وقد بينا أن هناك إن كان النقصان في جانب الجاني فالمجني عليه بالخيار بين استيفاء القصاص وبين استيفاء الدية  وإن كان النقصان في جانب المجني عليه لم يجب القصاص فهذا مثله.
 وإذا لم يجب القصاص كان الواجب فيها حكم عدل لأن كمال الأرش باعتبار تفويت البصر الكامل ولم يوجد والقدر الباقي من البصر مع النقصان غير معلوم فيكون الواجب فيها حكم عدل كمن قطع يد أشلاء  ولو قطع يد رجل وفيها ظفر مسود لو خرج لا ينقصها فعليه القصاص لأن ما حدث في يده لم ينقص من منفعة البطش شيئا ومثله لا يمكن نقصانا في بدله كالصغر وسواد اليد أصلا.
 وإذا ثبتت المساواة في الأرش ثبت وجوب القصاص  وإذا قطع الرجل من كف الرجل أظفار يده ففيها حكم عدل لأن هذه الجناية لا تفوت منفعة البطش ولكن يتمكن فيها نقصان

 

ج / 26 ص -149-    فيجب باعتباره حكم عدل  وإذا علم أن الواجب حكم العدل ظهر أنه لا قصاص فيها لأن القصاص ينبني على معرفة المساواة في البدل حقيقة.
  ولو قطع من كف رجل أصبعا زائدة ففيها حكم عدل لأن الأصبع الزائدة نقصان معنى فتفويتها لا يمكن نقصانا في البطش وإنما يلحق به ألما وشينا في الظاهر باعتبار الأثر فيجب حكم عدل باعتباره ولا قصاص فيها  وإن كان للقاطع مثل تلك الأصبع لانعدام المساواة في البدل فبدل اليد ينقسم على الأصابع الخمس أخماسا ولا ينقسم على الأصبع الزائدة وإنما الأصبع الزائدة كالثؤلول  وإن قطع الكف كله فإن كانت تلك الأصبع توهي الكف وتنقصها فلا قصاص فيها وفيها حكم عدل لأن هذا نوع شلل من حيث أنه يمكن نقصانا في منفعة البطش وإن كان لا ينقصها ولا يوهيها ففيها القصاص وفي الخطأ الأرش كاملا لأن ما لا يمكن نقصانا في منفعة البطش فهو بمنزلة الصغر والضعف بسبب المرض  .
وإذا قطع الرجل يد الرجل من المفصل وبرأت واقتص وبرأ المقتص منه ثم قطع أحدهما ذراع صاحبه من تلك اليد فلا قصاص فيه وإن كانا سواء إلا في رواية عن أبي يوسف قال إذا استويا يجب القصاص لأنه قطع من المفصل فيمكن اعتبار المساواة فيه  ولكنا نقول الواجب في الذراع بعد قطع الكف حكم عدل فطريق معرفته التقويم فلا يعلم به حقيقة المساواة بينهما في البدل وبدون ذلك لا يجب القصاص والله أعلم بالصواب. 

باب الشهادة في القصاص 
  قال رحمه الله: إذا شهد رجلان على رجل أنه ضرب رجلا بالسيف فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القصاص بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فقد ظهر بموته هذا السبب ولم يعارضه سبب آخر فيجب إضافة الحكم إليه والروح لا يمكن أخذه مشاهدة وإنما طريق الوصول إلى إزهاق الروح هذا وهو أن يجرحه فيموت قبل أن يبرأ.
  يوضحه: أنه لا طريق لنا إلى حقيقة معرفة كون الموت من الضربة وما لا طريق لنا إلى معرفته لا تبنى عليه الأحكام وإنما يبنى على الظاهر المعروف وهو أنه يضربه ويكون صاحب فراش بعده حتى يموت ولا ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود هل مات من ذلك أم لا لا في العمد ولا في الخطأ لأنه لا طريق لهم إلى معرفة ذلك  .
ولو شهدوا بذلك كانوا قد شهدوا بما يعلم القاضي أنهم فيه كذبة فكيف يحملهم على الكذب بالسؤال عن ذلك ولكنهم إن شهدوا أنه مات من ذلك لم تبطل شهادتهم وجازت إن كانوا عدولا لأنهم اعتمدوا في ذلك دليلا شرعيا وهو الظاهر كما قررنا  وإن كان بهذا الطريق يحصل علم القضاء للقاضي ويحصل له أيضا علم الشهادة إلا أنه لا حاجة بالقاضي أن يسألهم عن ذلك لأنه يعرف ذلك بدون شهادتهم فلا يسألهم عنه.
  ولو شهدوا به لم يبطل شهادتهم لأن المشهود به الكلام الأول فهذه الزيادة لا تكون

 

ج / 26 ص -150-    قدحا فيها بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا ابنه ووارثه لا وارث له غيره  وإذا شهدوا أنه ضربه بالسيف حتى مات ولم يزيدوا على ذلك فهذا عمد لأن كل فاعل يكون قاصدا إلى فعله في المحل الذي باشر الفعل فيه إلا أن القاضي إذا سألهما أتعمد ذلك فهو أوثق لأن صفة العمدية  وإن ثبتت بأول كلامهما من حيث الظاهر ولكن لم ينقطع احتمال الخطأ.
 ألا ترى أن الشهود لو بينوا أن ذلك كان خطأ كان ذلك بيانا موافقا لأول الكلام فسؤالهما عن العمدية لإزالة هذا الاحتمال يكون أوثق وهكذا يوثق فيما إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه والقاضي مندوب إليه.
 وكذلك إن شهدا أنه طعنه برمح أو رماه بسهم أو نشابة فهذا كله عمد.
 أرأيت لو شهدا أنه ذبحه أو شق بطنه بالسكين حتى مات أما كان ذلك عمدا فكذلك ما سبق لأن الأسلحة في كونها آلة القتل سواء.
  وإن شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه طعنه برمح أو أنه ذبحه بالسكين أو شهد أحدهما أنه رماه بسهم والآخر أنه رماه بنشابة أو اختلفا في مكان القتل أو وقته أو موضع الجراحة من بدنه فالشهادة باطلة لأن الفعل يختلف باختلاف الآلة والمحل والوقت والمكان فإنه لا يحتمل التكرار ولم يوجد على كل فعل إلا شهادة شاهد واحد  .
ولو شهد شاهدان أنه قطع يده عمدا من مفصله وشهد شاهد أنه قطع رجله من المفصل ثم شهدوا جميعا أنه لم يزل صاحب فراش حتى مات والولي يدعي ذلك كله عمدا فإني أقضي على القاتل بنصف الدية في ماله لأن قطع الرجل لم يثبت عند القاضي فإن الشاهد به واحد وقد ثبت قطع اليد من المفصل عند القاضي بشهادة الشاهدين ولكن قد أقر الولي أنه مات من ذلك الفعل ومن فعل آخر لم يعلم فاعله فيكون ذلك شبهه في إسقاط القود ويتوزع بدل النفس نصفين فيلزمه نصف الدية في ماله لأن فعله كان عمدا فلا يعقله العاقلة وإقرار الولي حجة عليه في حقه  .
وكذلك لو شهد على الرجل شاهدان فلم يزكيا لأن الحجة في الرجل لا تتم بدون عدالة الشهود فهما وما لو كان الشاهد به واحدا سواء  ولو زكى أحد شاهدي اليد وأحد شاهدي الرجل لم يؤخذ القاتل بشيء لأن واحدا من الفعلين لم يثبت عند القاضي فإن العدل من الشهود بكل فعل واحد  ولا يقال قد اتفق العدلان على الحكم وهو القصاص فينبغي أن يقضي به لأنه لا يمكن القضاء بالحكم إلا بعد القضاء بالسبب وقد تعذر القضاء بذلك.
 ألا ترى أنه لو شهد عليه رجل أنه قطع أصبعا له وشهد الآخر أنه استهلك له ألف درهم لم يقض القاضي عليه بشيء  فإن اتفقا على وجوب الألف له في ماله فإن نكلوا جميعا قضيت عليه بالقصاص لأن الفعلين ظهرا بالحجر عند القاضي فإن طلب الولي أن يقتص من اليد والرجل لم يكن له ذلك لأنه لما اتصلت بفعله السراية كان ذلك قتلا فيكون حقه في القصاص في النفس مقصودا دون الأطراف وقد بينا خلاف الشافعي في هذا 

 

ج / 26 ص -151-    ولو شهد الشاهدان عليه أنه قطع يده من المفصل عمدا ثم قتله عمدا كان لوارثه أن يقتص من يده ثم يقتله  فإن قال القاضي له اقتله ولا تقتص من يده فذلك حسن أيضا وهذا قول أبي حنيفة  وقال أبو يوسف ومحمد يأمره بقتله ولا يجعل له القصاص في يده لأن الجنايتين تواليا من واحد وهما من جنس واحد فيكونان كجناية واحدة.
 ألا ترى أن في الخطأ لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب إلا دية واحدة لهذا المعنى وهذا لأن قبل البرء الجناية الأولى كانت موقوفة في حق الحكم على السراية فالفعل الثاني يكون إتماما لما يوقف عليه الجناية الأولى فيجعلان كجناية واحدة بخلاف ما إذا تخلل بين الجنايتين برء فإن هناك الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبرء فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين لأن الفعل من الأول ما توقف على أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص آخر فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول وبخلاف ما إذا كان أحد الفعلين عمدا والآخر خطأ لأن باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل.
  وإيضاح جميع ما ذكرنا في فصل الخطأ أنه لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب إلا دية واحدة كذا هنا وأبو حنيفة يقول أن القصاص يبنى على المساواة في الفعل والمقصود بالفعل في القتل والقطع جميعا مراعاة المساواة في صورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما إلى أن يقطع الإمام عليه هذا الخيار بأن يأمره باعتبار المقصود وهو القتل وإن يترك الاستيفاء بمراعاة الصورة وهذا منه اجتهاد في موضعه فعليه أمره به وبه فارق الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الإهدار لا صورة الفعل لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا ثم مبنى العمد على التغليظ والتشديد ولهذا يقتل العشرة بالواحد وفيه مراعاة صورة الفعل مع التغليظ أيضا فيجوز اعتبار ذلك في العمد بخلاف الخطأ فإنه مبني على التخفيف.
 ألا ترى أن الدية لا تتعدد بتعدد القاتلين وفي العمد المقصود هو التشفي والانتقام وفي التمكن من القطع والقتل جميعا زيادة تحقيق في هذا المقصود.
 وكما أن القتل بعد القطع يكون إتماما للفعل الأول من وجه فقد يكون قطعا لموجب الفعل الأول بمنزلة البرء من حيث أن المحل يفوت به ولا تصور للسراية بعد فوت المحل فيجعل كالبرء من هذا الوجه فللاحتمال أثبتنا الجناية للأول تغليظا لحكم العمد ولا يعتبر ذلك في الخطأ لأنه مبني على التخفيف.
  ولو كانت إحدى الجنايتين خطأ والأخرى عمدا أخذ بهما جميعا  فإن كانت الأولى خطأ فإنه يجب دية اليد على عاقلته ويقتل قصاصا  وإن كانت الثانية خطأ فعليه القصاص في اليد والدية على عاقلته في النفس لأنه لا احتمال لجعل الثاني إتماما للأول عند اختلاف صفة الفعل وموجبه فيجعل بمنزلة ما لو تخلل بالجنايتين برء.
  ولو كان لكل واحدة من الجنايتين جان على حدة وهما جميعا عمد أو خطأ أو إحداهما

 

ج / 26 ص -152-    عمد والأخرى خطأ أخذ كل واحد منهما بجنايته لما بينا أن الفعل الثاني من غير الفاعل الأول لا يمكن أن يجعل إتماما للأول فكأنه تخلل بين الفعلين برء فيؤخذ كل واحد منهما بجنايته  ولو شهد شاهدان أن هذا قطع يده من مفصل الكف وشهد آخر على آخر أنه قطع تلك اليد من المرفق ثم مات من ذلك كله والقطع عمد فعلى قاطع الكف القصاص في اليد وعلى الآخر القصاص في النفس عندنا  وقال زفر والشافعي القصاص في النفس عليهما جميعا لأنه صار مقتولا بفعلين كل واحد منهما عمد محض فيلزمهما القصاص كما لو قطع أحدهما يده عمدا والآخر رجله ومات من ذلك وهذا لأن بقطع يده حدث في البدن آلام وبقطع الآخر اليد من المرفق لا تنعدم تلك الآلام بل تزداد وإنما حصلت السراية لضعف الطبيعة عن دفع الآلام التي توالت عليه وفي هذا لا فرق بين أن يقطع الثاني تلك اليد أو يقطع عضوا آخر  وأصحابنا قالوا فعل الثاني بمنزلة البرء في حق الأول تنقطع به سراية الفعل الأول فكأنه انقطع بالبرء وإنما قلنا: ذلك لأن السراية أثر الفعل ولا يتصور بقاؤها بدون بقاء محل الفعل إذ الأثر لا يقوم بنفسه وبفعل الثاني فات محل الفعل الأول وانقطاع السراية بفوات المحل أقوى من انقطاعها بالبرء لأن البرء يحتمل النقص وفوات المحل لا يحتمل النقص وبه فارق ما إذا كان فعل كل واحد منهما في محل آخر لأن الفعل من الثاني في محل آخر لا يفوت محل لفعل الأول فلا يمكن أن يجعل كالبرء في حق الأول.
 وكذلك لو كان الفعلان خطأ كانت دية اليد على الأول ودية النفس على الثاني عندنا والعمد والخطأ في هذا سواء بمنزلة البرء وكذلك على هذا الخلاف لو قطع أحدهما يده عمدا ثم حز الآخر رقبته بالسيف يجب القصاص في النفس على الثاني والقصاص في اليد على الأول وعند زفر والشافعي يجب عليهما القصاص في النفس لأن الروح انزهقت عقيب فعلهما فيكون مضافا إلى فعل كل واحد منهما ولا معتبر بالتفاوت في صفة الفعل ولا في مقداره.
 كما لو قطع أحدهما أصبعا من أصابعه وجرحه الآخر عشر جراحات نحو قطع اليد والرجل وما أشبه ذلك فإنه يجب القصاص عليهما إذا مات من ذلك للمعنى الذي قلنا: وأصحابنا قالوا حز الرقبة قتل بيقين لأنه لا توهم للحياة معه فأما قطع اليد فقيل يشترط أن تتصل السراية به.
 ألا ترى أن الغالب فيه السلامة؟ فإن القطع مشروع في موضع كان القتل حراما وهو القصاص والتعارض لا يقع بين فعلين بهذه الصفة فيجعل القتل مضافا إلى ما هو مشروع له بيقين وهو حز الرقبة ويكون هذا في حق اليد بمنزلة البرء لتفويت المحل به فلهذا كان القصاص في اليد على الأول والقصاص في النفس على الثاني  وكذلك لو كان الأول خطأ والثاني عمدا كان على الأول دية اليد وعلى الثاني القصاص 

 

ج / 26 ص -153-    ولو شهدا على رجلين أنهما قتلا رجلا أحدهما بسيف والآخر بعصا ولا يدريان أيهما صاحب العصا لم تجز شهادتهما لأنهما لم يثبتا بشهادتهما سببا يمكن القاضي من القضاء به.
 ألا ترى أن على صاحب العصا نصف الدية على عاقلته وعلى صاحب السيف نصف الدية في ماله فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء على واحد منهما بعينه في ماله أو على عاقلته.
  وكذلك لو شهدا على رجل واحد بقطع أصبع وعلى آخر بقطع أخرى من تلك اليد ولا يميز أن قاطع هذه الأصبع من قاطع الأخرى لأن القاضي لا يتمكن من القضاء بفعل معين على واحد منهما فإن ذلك لا يكون بدون تعيين محل فعله  وكذلك لو شهدا عليهما بالخطأ لا يتمكن القاضي من القضاء بالحكم بدون السبب.
  ولو شهدا على رجل أنه قطع إبهام هذا عمدا وشهدا على صاحب الإبهام أنه قطع كف القاطع ذلك عمدا ثم برأ فإنه يخير صاحب الكف فإن شاء قطع ما بقي من يد القاطع بيده وإن شاء أخذ دية يده وبطلت الأصبع أما بطلان الأصبع فلفوات محلها بالفعل الثاني وأما ثبوت الخيار للثاني فلأن مقطوع الإبهام قطع يده الصحيحة ويد المقطوعة الإبهام ناقصة بأصبع وفي هذا يثبت له الخيار للمقطوعة يده.
  ولو شهدا على رجل أنه قطع يد رجل من المفصل وشهد آخران أنه جرحه سبع أو سبعان أو جرح نفسه أو جرحه عبد له أو عثر فانكسرت رجله فمات من ذلك كله فلا قصاص على قاطع اليد وعليه نصف دية اليد  والأصل أن النفس تتوزع على عدد الجناة لا على عدد الجنايات لأن الإنسان قد يتلف بجراحة واحدة وقد يسلم من جراحات ثم ما اتحد حكمه من الجراحات في كونه هدرا يجعل في حكم فعل واحد لأن حكم الكل واحد وهو الإهدار.
  وإذا صار بعض النفس هدرا امتنع وجوب القصاص في شيء منه فيجب فيما هو معتبر حصته من الدية وعلى هذا يخرج ما ذكرنا من المسائل  وكذلك لو قطع رجل يد رجل خطأ وجرحه سبع وجرحه عبد له وجرح نفسه فمات من ذلك فعلى قاطع اليد ربع دية اليد لأن النفس تلفت من أفعال أربعة مختلفة الحكم فإن جراحة السبع هدر غير معتبرة في حق الإثم والحكم جميعا وجرحه نفسه معتبر في حق الإثم غير معتبر في حق الحكم لأنه ليس بسبب الحكم وجرح عبده له معتبر في الإثم والحكم جميعا إذا كان عمدا حتى يجب القصاص فلهذا توزع بدل نفسه أرباعا فيكون ربعه على قاطع اليد خطأ.
 ولو جرحه سبع وخرجت به قرحة ونهشته حية وقطع رجل يده وآخر رجله فمات من ذلك كله فعلى الرجلين ثلثا الدية لأن فعل السبع والحية وما خرج به من القرحة كشيء واحد فكل ذلك هدر في حق الإثم والحكم وإنما تتوزع النفس أثلاثا فيهدر الثلث من ذلك وعلى الرجلين ثلث الدية  وكذلك لو أصابه حجر وضعه رجل أو حائط تقدم إلى أهله فيه مع

 

ج / 26 ص -154-    جراحة الرجل والسبع فعلى الرجل ثلث الدية وعلى صاحب الحجر ثلث الدية والثلث هدر لأن النفس تلفت بمعان ثلاثة جراحة الرجل وحكمه معتبر وإصابة الحجر أو الحائط وحكم ذلك معتبر أيضا وفعل السبع وهو هدر فيتوزع بدل النفس على ذلك أثلاثا والله أعلم.

باب الوكالة في الدم  
قال رحمه الله: وتقبل الوكالة في إثبات دم العمد من جانب المدعي والمدعى عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف الآخر لا تقبل  وقول محمد رحمه الله مضطرب فيه ذكره مع أبي يوسف رحمه الله ها هنا  وفي بعض المواضع مع أبي حنيفة وجه قول أبي يوسف أن الوكيل نائب عن الموكل ولا مدخل للنايب في إثبات دم العمد حتى لا يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال والدليل عليه أن المقصود هو الاستيفاء ثم التوكيل بما هو المقصود لا يجوز هنا مع أنه يجزئ فيه النساء فكذلك لا يصح التوكيل إنما يتوصل به إلى المقصود  وأبو حنيفة يقول هذا أحد بدلي النفس فيجوز التوكيل بإثباته كالدية وهذا لأن كل واحد منهما محض حق العباد والنساء تجزي بين العباد في حقوقهم لحاجة صاحب الحق إلى ذلك فقد يكون عاجزا عن إثبات حقه بنفسه والغلط متى وقع في الإثبات أمكن تداركه سواء كان الثابت القصاص أو المال وبه فارق الاستيفاء فإن هناك إذا وقع الغلط فيه لا يمكن تداركه وتلافيه ولهذا لم يجز التوكيل فيه حال غيبة الموكل  فأما إذا وكل باستيفاء القود فليس للوكيل أن يستوفي إلا بمحضر من الموكل عندنا  وقال الشافعي له أن يستوفي بغير محضر منه لأنه محض حقه ويدخله النيابة في الاستيفاء فيكون بمنزلة المال  ولكنا نقول القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فلا يجوز استيفاؤها مع الشبهة ويجوز في استيفاء الوكيل مع غيبة الموكل وقد تتمكن شبهة العفو لجواز أن يكون الموكل عفا والوكيل لا يعلمه بذلك ومتى وقع الغلط في الاستيفاء لا يمكن تداركه  فأما إذا كان الموكل حاضرا فشبهة العفو تنعدم بحضوره وقد تمس الحاجة إلى ذلك فمن الناس من لا يهتدي إلى القتل ومنهم من لا يتجاسر عليه فللحاجة جوزنا التوكيل بالاستيفاء عند حضرة الموكل والقصاص فيما دون النفس كالقصاص في النفس في ذلك.
وإذا أقر وكيل الطالب عند القاضي أن صاحبه يطلب باطلا أو أنه قد عفا صح إقراره بأنه قد عفا لأن الوكيل في مجلس الحكم قام مقام الموكل في الإقرار بعد صحة الوكالة  وكذلك وكيل المطلوب لو أقر بوجوب القصاص على صاحبه ففي القياس يصح إقراره لقيامه مقام موكله في الإقرار في مجلس الحكم  ولكنا نستحسن فلا نوجب القود على الموكل بإقرار الوكيل لأن الإقرار في الحقيقة ضد الخصومة  ونحن وإن حملنا مطلق التوكيل على الجواب الذي هو خصومته مجازا فتبقى الحقيقة شبهة والقصاص يسقط به ففي إقرار وكيل الطالب إسقاط القود وذلك لا يندرئ بالشبهات وفي إقرار وكيل المطلوب إيجاب القود وذلك يندرئ بالشبهات 

 

ج / 26 ص -155-    ولا ينبغي للقاضي أن يمضي القضاء بالقود إلا بحضرة الورثة كلهم إذا كانوا بالغين لتمكن شبهة العفو والصلح لمن هو غائب منهم  فإن مات أحد الورثة والقاتل وارثه بطل القود عليه لأنه تحول إليه نصيب مورثه من القود فيسقط عنه إذ الإنسان كما لا يجب له القصاص على نفسه لا ينفي وعليه حصة سائر الورثة من الدية لأنه تعذر عليهم استيفاء حقهم لمعنى في القاتل وهو أنه حي بعض نفسه فهو كما لو عفا أحد الشركاء.
  وإن كان ورثه بن القاتل بطل القود أيضا لأن الابن كما لا يستوجب القصاص على أبيه ابتداء لا يبقى له على أبيه قصاص لأنه لا يتمكن من استيفائه بحال ولكن عليه الدية لجميع الورثة فإن نصيب الابن ها هنا يتحول إلى الدية كنصيب سائر الورثة لأنه من أهل أن يستوجب المال على أبيه ويستوفيه والوكالة في دم الخطأ وفي العمد من الجراح التي لا قصاص فيها بمنزلة الوكالة بالمال لأن المستحق ها هنا هو المال وهو مما يثبت مع الشبهة  وإذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه والأسباب مطلوبة لأحكامها وعند اعتبار الحكم هذا دين كسائر الديون فيجوز التوكيل بإثباته واستيفائه ويكون إقرار الوكيل به في مجلس الحكم نافذا على موكله.
  وإذا قتل الرجل عمدا وله ورثة صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا القاتل قصاصا في قول أبي حنيفة رحمه الله  وقال ابن أبي ليلى ليس لهم أن يقتلوه حتى يكبر الصغار وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي  وقول مالك كقول أبي حنيفة بناء على مذهبه وهو أن استيفاء القصاص باعتبار الولاية دون الوراثة والولاية للكبير دون الصغير ولهذا لم يجعل للزوج والزوجة والأخوة لأم حق استيفاء القصاص  فأما عند أصحابنا فاستيفاء القصاص بطريق الخلافة إرثا ثم وجه قولهم أن القصاص أحد بدلي الدم فلا ينفرد الكبير باستيفائه كالدية بل أولى لأن المال يجري فيه من المساهلة في الإثبات والاستيفاء مالا يجري في العقوبات ولأن هذا قصاص مشترك بين الكبير والصغير ولا ولاية للكبير على الصغير فلا يملك استيفاءه كما لو قتل عبدا مشتركا بينهما  والدليل عليه أنهما لو كانا كبيرين وأحدهما غائب لم يكن للحاضر أن ينفرد بالاستيفاء لانعدام ولايته على الغائب فكذلك إن كان أحدهما صغيرا وهذا لأن الواجب قصاص واحد فإن المقتول نفس واحدة فيجب بمقابلتها قصاص واحد ويكون ذلك واجبا للمقتول بمنزلة الدية ولهذا إذا انقلب مالا فإنه يقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه ثم الورثة يخلفونه في استيفاء ما وجب له فكل واحد منهم في ذلك بمنزلة الشطر للعلة أو كل واحد منهما إنما يرث جزءا منه لأن استحقاق الميراث سهام منصوص عليها يسقط كالنصف والثلث والربع وبملك بعض القصاص لا يتمكن من استيفاء الكل والدليل عليه أنه لو عفا أحدهم يسقط القصاص.
  ولو كان الواجب لكل واحد منهم قصاصا كاملا لما تعذر الاستيفاء على أحدهم بعد عفو الآخر وبالعفو ينقلب نصيب الآخر مالا وهذا الكلام يصح فيما إذا كان القصاص واجبا

 

ج / 26 ص -156-    للمورث فمات وورثه جماعة والخلاف ثابت في الفصلين ولا إشكال أن ها هنا إنما يرث كل واحد بعض القصاص  وأبو حنيفة استدل بما روي أن عبد الرحمن بن ملجم لما قتل عليا رضي الله عنه قتله الحسن رضي الله عنه به قصاصا وقد كان في أولاد علي صغار ولم ينتظر بلوغهم وإنما فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه على ما روي أنه لما بلغه أن ابن ملجم أخذ قال للحسن إن عشت رأيت فيه رأيي وإن مت فاقتله إن شئت وقال واضربه ضربة كما ضربني  وفي رواية وإياك والمثلة فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولا يقال إنما قتله لأنه كان مريدا مستحلا لقتله إمام المسلمين على ما روي أنه قتله وهو يتلو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية207] لأنه وإن كان إمام المسلمين وكان قتله ذنبا عظيما فلا يصير به القاتل مرتدا إنما ذلك للأنبياء خاصة واستحلاله كان بالتأويل فإنه كان من جملة أهل البغي وهم يستحلون دماء أهل العدل وأموالهم.
 ألا ترى أنه علقه عتبة فقال اقتله إن شئت وأخره إلى ما بعد موته  ولو كان مرتدا لما أخر علي قتله ولا يقال قتله حد السعية في الأرض بالفساد حتى قتل إمام المسلمين لأن الساعي بالفساد بقتل الإمام لا يقتل قصاصا.
 ألا ترى أنه اعتبر المماثلة بقوله فاضربه ضربة كما ضربني؟  وقد ذكر المزني عن الشافعي قال قتل بن ملجم عليا متأولا فأقيد به فدل أنه قتل قصاصا  ولا يقال قتله بغير رضا الكبار من ورثته فقد قال له الحسين لا تقتله بيننا فإنا لا نجعله سواء بيننا وبالاتفاق عند إباء بعض الكبار وليس للبعض حق الاستيفاء وروي أنه مثل به مع نهي علي إياه عن المثلة فبه تبين أنه ما قتله قصاصا وهذا لأن الحسين رضي الله عنه إنما قال ما قال على وجه الإهانة والاستخفاف به لا على وجه كراهة قتله قصاصا والمثلة ما كانت عن قصد من الحسن ولكنه لما رفع السيف ليضربه أبقاه بيده فأصاب السيف أصابعه وبهذا لا يخرج من أن يكون قتله إياه استيفاء للقصاص  والمعنى فيه أن حق الكبير ثابت في استيفاء جميع القصاص وليس في استيفائه شبهة عفو متحقق فيتمكن منه كما لو كان الوارث واحدا وإنما قلنا: ذلك لأن القصاص يجب للورثة على سبيل الخلافة عن المورث فإن وجوبه بعد موت المقتول وقد خرج المقتول من أن يكون أهلا لوجوب الحق له بعد موته إلا أن ما يحصل فيه مقصوده من قضاء الدين وتنفيذ الوصية يجعل كالواجب له حكما وهو الدية فأما ما لم يحصل به مقصود المقتول فيجعل واجبا للوارث الذي هو قائم مقامه والمقصود بالقود تشفي الغيظ ودفع سبب الهلاك عن نفسه وذلك يحصل للوارث فعرفنا أنه يجب له ولكن على سبيل الخلافة لأن السبب انعقد على حق الميت وقد خرج عن ثبوت الحكم من أن يكون أهلا للوجوب له فيجب للولي القائم مقامه كما يثبت الملك للمولى في كسب العبد إثباتا على سبيل الخلافة عن العبد ولهذا قلنا: إذا انقلب مالا ثبت فيه حق الميت لأن قضاء حوائجه

 

ج / 26 ص -157-    يحصل به وهو بمنزلة الموصي له بالثلث لا حق له في القصاص فإذا انقلب مالا يثبت حقه فيه وأيد ما قلنا: قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الاسراء: من الآية33] بين أن القصاص للولي القائم مقام المقتول  إذا ثبت هذا فنقول القصاص لا يحتمل التجزي وقد ثبت سبب لا يحتمل التجزي فأما أن يتكامل فيه حق كل واحد منهم أو ينعدم لأنه لا يمكن إثباته متجزئا ولم ينعدم باتفاق فعرفنا أنه تكامل فيه حق كل واحد منهم لا على أنه تعدد القصاص في المحل ولكن بطريق أنه يجعل كل واحد منهم كأنه ليس معه غيره بمنزلة الأولياء في النكاح ينفرد كل واحد منهم بالتزويج كأنه ليس معه غيره  والدليل عليه أنه لو استوفي من أحدهم القصاص فإنه لم يضمن للباقين شيئا ولا للقاتل ولو لم يكن جميع القصاص واجبا له لكان ضامنا باستيفاء الكل وهذا بخلاف ما إذا عفا أحدهم لأن الواجب بعد العفو المال للباقين والمال يحتمل التجزؤ فيظهر حكم التجزؤ عند وجوب المال وهذا لأنا لو أثبتنا القصاص لأحدهما بعد عفو الآخر كان من ضرورته تعدد القصاص الواجب في المحل وهو غير متعدد في المحل  فأما قبل العفو لو قلنا: كل واحد منهم يكون متمكنا من استيفائه لا يكون من ضرورته مقدر القصاص في المحل  وهذا بخلاف ما إذا كان أحدهما غائبا لأن هناك جميع القصاص واجب للحاضر ولكن في استيفائه شبهة عفو موجود لجواز أن يكون الغائب عفا والحاضر لا يشعر به وعفو الغائب صحيح سواء علم بوجوبه أو لم يعلم ويحتمل أن يكون الغائب مات وورثه القاتل لسبب بينهما  وإن كنا لا نعرفه فلأجل الشبهة يمتنع الاستيفاء وهذا المعنى لا يوجد عند صغر بعض الورثة لأن الصغير ليس من أهل العفو فإنما يتوهم عفوه بعد ما يبلغ وشبهة عفوه بتوهم اعتراضه لا تمنع استيفاء القصاص وهذا بخلاف ما إذا قتل عبدا مشتركا بين الصغير والكبير لأن السبب هناك الملك وهو غير متكامل لكل واحد منهما  فإن ملك الرقبة يحتمل التجزؤ ولهذا لم يكن لأحد الموليين في الأمة ولاية تزويجها بانفراده بخلاف ما نحن فيه فالسبب هناك القرابة وهو مما لا يحتمل التجزيء. وكذلك هذا في قصاص كان واجبا للمورث لأن كل واحد استحق جزءا منه بعد موته بالنص وذكر الجزء فيما لا يحتمل الوصف بالتجزي كذكر الكل فيثبت لكل واحد منهم الكل باعتبار أن السبب لكل واحد منهم وهو القرابة كامل وهذا بخلاف المال فإنه لا يحتمل الوصف بالتجزي.
 ألا ترى أن الكبير هناك يملك استيفاء نصيبه خاصة وفي هذا الموضع لا يتمكن من استيفاء بعض القصاص ثم عندهما الإمام هو الولي في نصيب الصغير لأنه لا ولاية للأخ الكبير على الصغير في نصيبه من المال فكذلك في القصاص وإنما الولاية للإمام فإن شاء صالح على الدية وإن شاء انتظر وليس له أن يقتص وقد بينا هذا في وصي الأب فكذلك في حق القاضي.
  ولو كان مكان الصغير معتوه أو مجنون فهو على الخلاف أيضا بخلاف ما إذا كان

 

ج / 26 ص -158-    مغمى عليه لأن المغمى عليه بمنزلة الغائب وهو من أهل العفو ولو كان الوصي وصى الأب كان له أن يأخذ في حق الصغير مع الكبار في القول الأول أراد به قول أبي حنيفة لأن عنده للكبير أن يقتص وإن لم يكن معه وصي  فإن كان معه وصي فهو أولى أما على قولهما فليس للكبير ولاية استيفاء القصاص قبل بلوغ الصغير إذا لم يكن له وصي فكذلك مع الوصي لأنه ليس للوصي حق استيفاء القصاص في النفس.
  وإن قطعت يد الصغير عمدا كان للوصي أن يقتص وأن يصالح على أرش اليد وليس له أن يعفو ولو كان القصاص في النفس ليس له أن يقتص في الروايات كلها ولا أن يعفو وفي الصلح روايتان  وكذا لو قتل عبد الصغير لم يكن للوصي أن يقي وأما الأب فإن له أن يستوفي القصاص الثابت للصغير في النفس وفيما دون النفس وله أن يصالح وليس له أن يعفو.
 ولو صالح على أقل من قيمته لم يجز وكان للصبي أن يرجع بتمام القيمة لأنه أمر بقربان ماله بالتي هي أحسن ولهذا لا يجوز بيع الأب ماله بأقل من قيمته لأن الأب استوفى بعض القيمة فكان له أن يستوفي تمام القيمة بعد البلوغ حتى يصل إليه تمام حقه وقد ذكرناه في كتاب الصلح.
  فإذا قتل الرجل عمدا فأقام أخوه البينة أنه وارثه لا وارث له غيره وأقام القاتل البينة أن له ابنا فإني لا أعجل بقتله حتى أنظر فيما جاء به القاتل وأبلو فيه عذرا لأعلم مصداقه لأن القصاص أمر مستعظم إذا نفذ لا يمكن تداركه  فإن أقام القاتل البينة أن له ابنا وأنه صالحه على الدية وأنه قبضها منه درأت القصاص حتى أنظر فيما قال لأنه ادعى الصلح وأقام البينة فتقبل بينته في حق سقوط القصاص لأن الأخ بنى القصاص وأنكر أن له ابنا فيقبل في حق سقوط القصاص  فإن جاء الابن وأنكر الصلح كلفت القاتل إقامة البينة على الصلح ولا أجبر البينة التي قامت على الأخ لأن الأخ ليس بخصم عن الابن في حق الصلح فلم تقبل في حق الصلح وقبلت في حق سقوط القصاص وبمثله لو كانا أخوين فأقام القاتل البينة على أحدهما أنه قد صالح أخاه الغائب على خمسمائة درهم أجزت ذلك ولا أكلفه إعادة البينة لأن كل واحد منهما خصم في إثبات القصاص فالبينة قامت على خصم حاضر فيتضمن النفاذ على الغائب وللغائب نصف الدية لأن الصلح لم يثبت في حقه أما الأخ فلأنه ليس بخصم مع قيام الابن.
  وإذا ادعى بعض الورثة دم أبيه على رجل وأخوه غائب وأقام البينة أنه قتل أباه عمدا فإني أقبل ذلك وأحبس القاتل  فإذا قدم أخوه كلفهم جميعا أن يعيدوا البينة في قول أبي حنيفة  وقال أبو يوسف ومحمد لا يكلفهم إعادة البينة ولو كان هذا في دم خطأ لم يكلفوا إعادة البينة في قولهم جميعا وأجمعوا أن الحاضر لا يستوفي القصاص لتوهم العفو منه لهما إذ كل واحد منهما من الورثة خصم عن نفسه وعن أصحابه فيما يدعي للميت ويدعى عليه كما في

 

ج / 26 ص -159-    الخطأ وغيره من الحقوق ولأن القصاص حق الميت بدليل أنه لو عفا عن الجارح صح وإنقلب مالا تقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه ويورث عنه  ولهذا لو أقام القاتل البينة على صلح الغائب أو عفوه تقبل بينته ولو لم يكن الحق للميت لما قبلت لما فيه من القضاء على الغائب  وإذا كان حق الميت فأقام الواحد مقام الجميع فكانت البينة قائمة على الخصم فلا يكلف إعادتها  ولأبي حنيفة أن القصاص حق الميت من وجه وحق الورثة من وجه ولو كان كله حق الورثة يكلف إعادة البينة لأن بعض الورثة لا يقوم مقام الكل فيما هو من خالص حقهم.
  ولو كان حق الميت من كل وجه لا يكلف إعادة البينة فلما كان لكل واحد منهما حق كان المصير إلى الاحتياط استعظاما لأمر الدم واجبا ولأن القصاص معدول به عن سائر الأحكام للاستقصاء.
 ألا ترى أن القاتل إذا ادعى العفو وقال لي بينة على ذلك وأجله القاضي أياما ولم يقدر على إقامتها فإنه لا يعجل بالقصاص ويتأنى بعد ذلك أياما هكذا ذكره محمد رحمه الله في الأصل بخلاف سائر الحقوق ولهذا لا يجوز إقرار وكيل القاتل على موكله بالقصاص بخلاف سائر المواضع والاحتياط أن يلحق هذا بالحقوق التي هي للورثة حتى أنه يؤمر بإقامة البينة فربما يعجز عن إقامتها فيسقط القصاص  وإنما قلنا: أنه يشبه حق الميت لما ذكر  وبيان أنه يشبه حق الورثة أنهم لو عفوا عن الجارح في حياة المورث جاز عفوهم ولو لم يكن لهم حق لا يجوز كما لو أبرى ء عن الدين في حياته بخلاف الصلح والعفو لأنه يثبت مع الشبهات والقصاص من وجه كالمورث لأن ثبوته للوارث على سبيل الخلافة ومن وجه هو ثابت للوارث ابتداء وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما ففيما يثبت مع الشبهات يجعله كالموروث وفيما يندرئ بالشبهات نجعله كالواجب لكل واحد منهما ابتداء فلا يكون أحد منهما خصما عن الآخر في إقامة البينة عليه وهذا بخلاف الخطأ فإن موجبه المال وهو موروث للورثة عن الميت بعد ما تفرغ عن حاجته فكان بمنزلة سائر الورثة ينتصب كل وارث خصما عن الميت وعن سائر الورثة في إثباته على أن الخطأ ليس مبناه على التغليظ بدليل قبول شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة.
  ولو حضر الورثة جميعا وأقاموا البينة بالقتل العمد على رجلين أحدهما غائب قبلت البينة على الحاضر وقضيت عليه بالقود  فإذا حضر الغائب كلفهم إعادة البينة عليه لأن الحاضر ليس بخصم عن الغائب وليس من ضرورة ثبوت القتل عليه ثبوته على الغائب  وإن امتنع القضاء به على الغائب فذلك لا يمنع استيفاء القود من الحاضر كما لو عفا الورثة عن أحد القاتلين أو صالحوه على مال كان لهم أن يقتلوا الحاضر وهذا لأن القاتلين يهربون عادة فقل ما يظفر بهم جميعا فلو قلنا: بأنه يمتنع استيفاء القصاص من واحد منهم بسبب غيبة من غاب أدى ذلك إلى سد باب القصاص والإضرار بصاحب الحق

 

ج / 26 ص -160-    أرأيت لو مات الغائب أو فقد فلم يوقف على أثره أكان يمتنع استيفاء القصاص من هذا الحاضر  ولا يقال في هذا استيفاء مع الشبهة لجواز أن يكون للغائب حجة يدرأ بها القتل عن نفسه وعن صاحبه لأنه ما من حجة تقبل من الغائب إذا حضر إلا وهي مقبولة من الحاضر لو أقامها.
  ولو أن أخوين أقاما شاهدين على رجل أنه قتل أباهما عمدا فقضى القاضي بذلك وقتلاه ثم إن أحدهما قال قد شهدت الشهود بالزور وأبونا حي غرمته نصف الدية وهذا عندنا  وقال الشافعي عليه القصاص لأنهما أقرا أنهما تعمدا قتلا بغير حق وإقرارهما حجة عليهما فيلزمهما القصاص بذلك وكذلك إذا أقر به أحدهما لأن المقر يعامل في حقه كأنما أقر به حق  وإن كان لا يصدق على غيره فلا يجوز أن يجعل قضاء القاضي شبهة في إسقاط القود عنهما لأن قضاء القاضي إنما يكون شبهة في حق من لا يعلم الأمر بخلاف ما قضي به فأما في حق من يعلم ذلك فلا يعتبر قضاء القاضي كما لو رجع أحد شهود الزنى بعد ما رجم المشهود عليه فإنه يلزمه حد القذف ولا يصير قضاء القاضي بالرجم شبهة في حقه لهذا المعنى  وأصحابنا قالوا أنهما قتلاه بشبهة والقتل بشبهة يوجب المال دون القصاص وبيان ذلك أنهما قتلاه بناء على قضاء القاضي لهما بالقود وهذا قضاء لو كان حقا لكان مبيحا لهما القتل فظاهره يوجب شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات كالنكاح الفاسد يكون مسقطا للحد لأنه لو كان صحيحا كان مبيحا للوطىء فظاهره يورث شبهة وهذا الظاهر يورث شبهة في حق من يعلم حقيقة الأمر وفي حق من لا يعلم كما في النكاح الفاسد وهذا لأن القضاء لما كان حقيقة مبيحا فظاهره يمكن شبهة في المحل والشبهة في المحل تؤثر في حق من يعلم وفي حق من لا يعلم كمن وطىء جارية أبيه لا يلزمه الحد وإن كان يعلم حرمتها عليه  وهذا بخلاف حد القذف فإن حقيقة القضاء بالزنى هناك لا تبيح شبهة من غير فائدة فكذلك ظاهره لا يورث شبهة.
 ثم الفرق ما بيناه في كتاب الصوم أن هناك إنما يلزمه الحد بسبب سابق على القضاء وهو الشهادة على الزنى لأنه نسبه إلى الزنى لما انتزع معنى الشهادة من كلامه برجوعه وقد كان ذلك سابقا على القضاء هناك فأما هنا فالسبب الموجب للقود مباشرة القتل وذلك وجد منهما بعد القضاء فيكون صورة القضاء شبهة  ويتضح كلامنا فيما إذا أقر بذلك أحد الاثنين وجحد الآخر لأنهما باشرا القتل والجاحد منهما محق حتى لا يلزمه قصاص ولا دية فيكون هذا أقوى في التأثير من الخاطئ إذا شارك العامد في القتل وهناك لا يجب القود على واحد منهما فهنا أولى.
  وإذا سقط القود وجب على الراجع منهما نصف الدية في ماله لإقراره بالقتل بغير حق وما يجب بالإقرار لا تتحمله العاقلة ولو كان أحد الأخوين قتل القاتل قبل القضاء لهما عليه بالقتل أو قبل أن تقوم لهما بينة على ذلك ثم أقر هو أنه قتله بغير حق وأن الأب حي فعليه

 

ج / 26 ص -161-    القصاص لأنه لم يقترن بالسبب الموجب للقصاص عليه شبهة قضاء مانع  وإن لم يقل هو شيئا ولكن الآخر قال قد كنت عفوت أو كنت أريد أن أعفو أو كنت صالحت ولا بينة له على ذلك فإنه لا يصدق على أخيه لأن إقراره بذلك حينئذ متمثل بين الصدق والكذب فيجعل في حق غيره كذبا إذ لا ولاية له على غيره في أنه يلزمه شيئا بقول قاله ولا شيء على أخيه  وإن كان أخذ غير حقه من قبل الشركة يعني أنه إذا كان هذا بعد ما قامت البينة لهما على القتل وقضى القاضي بذلك ثم هو ظاهر على أصل أبي حنيفة لأن عنده قد وجب حق كل واحد منهما في جميع القود كأنه ليس معه غيره فيكون مستوفيا حقه وعندهما الواجب لكل واحد منهما بعض القود إلا أنه لا يلزمه شيء لأجل الشركة وهو أنه لا يتمكن من استيفاء نصيبه إلا باستيفاء ما بقي وفعله في نصيبه استيفاء غير موجب للضمان عليه  فإذا خرج بعض فعله من أن يكون واجبا موجبا للضمان عليه خرج جميعه من أن يكون موجبا للضمان عليه لأنه لا يحتمل الوصف بالتجزي وبعد ما لم يكن أصل فعله موجبا للضمان عليه لا يصير موجبا بإقرار أخيه.
فإن أقام ورثة المقتول بينة على هذا أنه قد كان صالح على كذا قبل أن يقتل الآخر أو كان عفا أجزت ذلك لأن الثابت بالبينة التي يقيمها من هو خصم كالثابت باتفاق الخصوم ثم القاتل يكون ضامنا للدية لأنه تبين أنه باشر القتل بغير الحق وقد سقط القود عنه للشبهة حين لم يكن عالما بصلح أخيه وعفوه ويجب له من ذلك نصف الدية لأن بعفو أخيه انقلب نصيبه مالا على القاتل وقد استوجب القاتل عليه كمال الدية في ماله أيضا فيكون النصف قصاصا  فإن كان قتل بعد عفو أخيه أو صلحه وبعد ما علم بأن الدم قد حرم عليه فعليه القصاص لانتفاء الشبهة وله نصف الدية في مال القاتل لأن نصيبه كان انقلب مالا لو مات القاتل فيستوفى من تركته فكذلك إذا قتله والله أعلم. 

باب رجوع الشهود عن القتل
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل عمدا وقبلت شهادتهما ثم رجعا فعليهما الدية في مالهما في قول علمائنا رحمهم الله وقال الشافعي عليهما القصاص.
وكذلك إذا رجع أحدهما  واحتج الشافعي بحديث علي رضي الله عنه حيث قال لشاهدي السرقة حين رجعا لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما  والمعنى فيه أنهما باشرا قتلا بغير حق لأنهما ألجآ القاضي إلى القضاء بالقتل فإنه يخاف العقوبة إذا امتنع من ذلك والملجئ مباشر حكما في وجوب القود عليه كالمكره والدليل عليه أن الدية تجب مغلظة في مالهما عندكم وذلك لا يكون إلا بمباشرة القتل.
وحجتنا في ذلك أن الشاهد سبب للقتل والسبب لا يوجب القصاص كحفر البئر وهذا لأنه يعتبر في القصاص المساواة ولا مساواة بين السبب والمباشرة  وبيان الوصف أن المباشر هو الولي وهو طائع مختار في هذه المباشرة فعرفنا أن الشاهد غير مباشر حقيقة ولا

 

ج / 26 ص -162-    حكما ولا معنى لما ذكره من الإلجاء لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة وبه لا يصير ملجأ إلى ذلك بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا نسلم أن الدية تجب مغلظة على الشهود فكل واحد يقيم الطاعة خوفا من العقوبة على تركها ولا يصير به مكرها.
ثم إن وجد هذا الإلجاء في حق القاضي فبمجرد القضاء ما صار المقضي عليه مقتولا وإنما صار مقتولا باستيفاء الولي وهو غير ملجأ إلى ذلك بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا يسلم أن الدية تجب مغلظة على الشهود بل إنما تجب مخففة بمنزلة الواجب على حافر البئر إلا أنها تجب على الحافر البئر في ماله لأنها وجبت بإقراره وإقراره غير مقبول في حق العاقلة ولم يثبت لهم أن الشاهد مباشر حكما فقد بينا أن المباشر حقيقة ها هنا لا يلزمه القصاص وهو الولي لشبهة قضاء القاضي فالمباشر حكما أولى أن لا يلزمه شيء من ذلك  وإنما قال علي رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد فقد صح من مذهب على أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة وقد تقدم بيان هذا في كتاب الرجوع  فإذا لم يجب القود عليهما كان عليهما الدية إن رجعا وإن رجع أحدهما فعليه نصف الدية لأن كل واحد منهما سبب لإتلاف نصف النفس  فإن رجع الولي معهما أو جاء المشهود بقتله حيا فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشاهدين الدية وبين أن يضمن القاتل لأن القاتل متلف للنفس حقيقة والشهود متلفون له حكما والإتلاف الحكمي في حكم الضمان كالإتلاف الحقيقي فكان له أن يضمن أيهما شاء  فإن ضمن الولي الدية لم يرجع على الشاهدين بشيء لأنه يضمن بفعل باشره لنفسه باختياره  وإن ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي أيضا في قول أبي حنيفة  وقال أبو يوسف ومحمد ثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا لأنهما ضمنا بشهادتهما وقد كانا عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان كما لو شهدا بالقتل الخطأ أو بالمال فقضى القاضي واستوفى المشهود له ثم رجعوا جميعا وضمن المشهود عليه الشاهدين كان لهما أن يرجعا على المشهود له ولا يقال هناك قد ملك المقبوض بالضمان وها هنا لم يملكاه لأن القصاص لا يملك بالضمان والمشهود به هو القصاص وهذا لأنهما وإن لم يملكا بعد فقد قام مقام من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه آخر منه ثم ضمن المالك الغاصب الأول فإنه يرجع بالضمان على الثاني  وإن لم يملك المدبر بالضمان ولكنه قام مقام من ضمنه وهذا لأن القصاص مما يملك في الجملة وله بدل متقوم محتمل التمليك فيكون السبب معتبرا على أن يعمل في بدله عندنا لتعذر إعماله في الأصل كاليمين على أن تعمل في بلده حتى يرجع بالضمان من أن يكون متعقدا في إيجاب الكفارة التي هي خلف عن البر لما كان الأصل وهو البر متوهم الوجود في الجملة وعلى هذا غاصب المدبر فإن المدبر متقوم مملوك في الجملة فينعقد السبب للغاصب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى يرجع بالضمان على الغاصب الثاني.
وكذا شهود الكتابة إذا رجعوا وضمنهم الولي القيمة كان له أن يرجعوا على المكاتب

 

ج / 26 ص -163-    ببدل الكتابة ولم يملكوا رقبة المكاتب ولكن لما كان المكاتب مملوكا رقبة للمكاتب انعقد السبب في حقهم على أن يكون عاملا في بدل وهو بدل الكتابة بذلك  وإن لم يملكوا رقبة المكاتب فهذا مثله وأبو حنيفة يقول الشهود ضمنوا لإتلافهم المشهود عليه حكما والمتلف لا يرجع بما يضمن بسببه على غيره كالولي وهذا لأنهم لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع مباشرة الإتلاف لأن مجرد السبب يسقط اعتباره في مقابلة المباشرة.
ألا ترى أنه لو وقع إنسان في بئر حفرها غيره في الطريق كان الضمان على الحافر ولو دفعه غيره حتى وقع فيه كان الضمان على الدافع دون الحافر وها هنا لما ضمن الشهود عرفنا أنهم جناة متلفون للنفس حكما  وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء الولي فإن استيفاء الولي بمنزلة شرط بقدر جنايته ومن ضمن بجنايته على النفس لا يرجع على غيره فأما في الخطأ فإنما رجع لأنه ملك المقبوض وهو الدية وقد أتلفه المستوفى بصرفه إلى حاجته وهذا سبب آخر موجب للضمان عليه للشاهد وكذلك الشاهد بالمال  قولهما إن في هذا الموضع يجعل هو قائما مقام من ضمنه  قلنا: هذا أن لو بقي حق من ضمنه قبل الولي واختياره فتضمين الشاهد إبراء منه للولي فكيف يقوم الشاهد مقامه في الرجوع عليه  وقوله بأنه ينعقد السبب موجبا للملك له أن يعمل في بدله  قلنا: هذا أن لو كنا في الأصل نتوهم الملك في الضمان وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال فلا ينعقد السبب باعتبار الحلف كيمين الغموس  ثم لو كان القصاص ملكا لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولى بالعفو وقتل من عليه القصاص إنسان آخر فليس له القصاص قبل الضمان وانعقاد السبب لا يكون أقوى من ثبوت الملك حقيقة.
وإذا كان المتلف للقصاص لا يضمنه للمالك فكيف يضمنه لمن انعقد له السبب وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة فإن هناك لو كان مالكا حقيقة لم يضمنه المتلف عليه فكذلك إذا جعل كالمالك حكما باعتبار انعقاد السبب فيكون له أن يرجع بالبدل لذلك.
ولو رجع الشاهدان دون الولي فقال الولي أنا أجيء بشاهدين آخرين يشهدان على ذلك وقد قتل القاتل لم ألتفت إلى ذلك لأن الولي لا يثبت لنفسه شيئا بهذه البينة فإنه قد استوفى القصاص ولا سبيل لأحد عليه إذا كان مصرا على دعواه ولم يظهر القتيل فلو قبلت هذه البينة إنما تقبل لإسقاط ضمان الدية على الراجعين وهما لا يدعيان ذلك بل يكذبان الشاهدين ويقران على أنفسهما بالدية لنسبتهم للقتل بغير حق فلا فائدة في قبول هذه البينة.
ولو شهد أحد شاهدي الدم مع آخر على صاحبه أنه كان محدودا في قذف أو عبدا فشهادتهما باطلة لأن هذه الشهادة تقوم لإبطال قضاء القاضي لا لإثبات ملك أو حق لأحد بعينه والشهادة على إبطال قضاء القاضي لا تقبل ولا شيء على واحد منهما لأن الشاهد بهذا لا يصير راجعا فقد يكون هو محقا في شهادته  وإن كان صاحبه عبدا أو محدودا في قذف وأما المشهود عليه فهو ثابت على شهادته منكر لما شهد به صاحبه عليه

 

ج / 26 ص -164-    ولو شهد أنه عبد لهذا المدعي فيصير به عبدا له لأن هذه البينة تقوم لإثبات الملك للمدعي فإذا قبلت تبين بطلان القضاء الأول وأن القاضي أخطأ في قضائه بغير حجة فيكون ضمان ذلك على من وقع الضمان له وهو الولي وتجب الدية على عاقلته لأنه ظهر أنه كان مخطئا في القتل وإنما ظهر بما هو حجة عليه وعلى عاقلته وبهذا الفصل تبين أنه إذا لم يرجع الشهود والولي ولكن جاء المشهود بقتله حيا فإن الدية تجب على عاقلة الولي والشهود ويتخير ولي القتيل في ذلك وهكذا ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وإنما تجب في مالهم إذا رجعوا لأن وجوب ذلك بالاعتراف.
وإذا قضى القاضي بالدم بشهادة الشاهدين فلم يقتل حتى رجعا استحسنت إن ادرأ القصاص عنه وهو قول أبي حنيفة الآخر وكان يقول أولا يستوفي القصاص وهو القياس لأن القصاص محض حق العبد فيتم القضاء بنفسه والرجوع بعد القضاء لا يمنع الاستيفاء كالمال والنكاح  فإن القاضي إذا قضى بالنكاح ثم رجع الشهود لا يمنع استيفاء الوطء على الزوج وإن كان في القصاص يحتاط في الاستيفاء فكذلك في الوطء.
وجه قوله الآخر أن القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات والغلط فيه لا يمكن تداركه فيكون بمنزلة الحدود فكما أن في الحدود لا يتم القضاء بنفسه ويجعل رجوع الشهود مع القضاء قبل الاستيفاء بمنزلة الرجوع قبل القضاء فكذلك في القصاص بخلاف المال فإنه يثبت مع الشبهات وبخلاف النكاح لأن العقد هناك ينعقد بقضاء القاضي ظاهرا وباطنا وها هنا ما لم يكن واجبا من القصاص لا يصير واجبا بقضاء القاضي ولا بد من قيام الحجة عند الاستيفاء وأصل شهادة الشهود  فإذا لم يبق حجة بعد رجوعهم يمتنع الاستيفاء وكل دية وجبت بغير صلح فهي في ثلاث سنين لأنها وجبت بالقتل وتقوم الدم بالمال ثابت شرعا بخلاف القياس وإنما قومه الشرع بمال مؤجل فكما لا يزاد في قدر ذلك بحال فكذلك لا يزاد في صفته بأن يجعل حالا.
وإذا شهد شاهدان بالدم فاقتص من القاتل ثم قالا أخطأنا إنما القاتل هذا لم يصدقا على الثاني لأنهما شهدا على أنفسهما بالقتل وغرما الدية للأول لأنهما رجعا عن الشهادة عليه ونحو ذلك مروي عن علي بن إبراهيم يعني في السرقة  ولو شهدا بدم على رجلين فقتلا بشهادتهما ثم رجع أحدهما في أحد الرجلين فعليه نصف دية هذا الرجل الواحد في ثلاث سنين ولا يضمن من دية الآخر شيئا لأنه لم يرجع عن شهادته فيه وقد بقي على الشهادة في حق الآخر من يقوم به نصف الحق فيجب على الراجع نصف ديته  ولو لم يرجع وادعى عليه أولياء المقتص منه أنه رجع وسألوا يمينه على ذلك فليس عليه يمين لأنهم لو أقاموا البينة عليه بالرجوع لم تقبل فكيف يستحلف عليه وهذا لأن الرجوع في غير مجلس الحكم لا يتعلق به حكم فكانت هذه دعوى باطلة منهم.
وإن رجع الشاهد فلزمه نصف الدية في ماله في ثلاث سنين فمات أخذ ذلك من ماله

 

ج / 26 ص -165-    حالا لوقوع الاستغناء له عن الأجل بالموت وإن كان الرجوع منه في المرض وعليه دين في الصحة بين بدئ بدين الصحة لأن رجوعه إقرار على نفسه بالدية والمريض إذا أقر على نفسه وعليه دين في صحته بدئ بدين الصحة.
ولو شهد شاهد أن على دم عمد ولهما على المقتول دين أجزت شهادتهما لأنهما يثبتان القود بشهادتهما ولا منفعة لهما في ذلك الدم  فإن رجعا عن شهادتهما بعد القتل ضمنا الدية ويقبضان دينهما من الثلث فإن كان على الميت دين سوى ذلك خاصهم فيه  قال الحاكم رحمه اللهولا تصح هذه المسألة أن يحمل على أن الدين على المقتول قصاصا وهو كما قال فإن الدين إذا كان لهما على الأول والدية عند الرجوع تجب عليهما للمقتول قصاصا فكيف يستوفيان دينهما من هذه الدية وإن كان دينهما على المقتول قصاصا فبدل نفسه واجب عليهما عند الرجوع ودينه يقضى من بدل نفسه والله أعلم بالصواب.

باب جناية الصبي والمعتوه  
قال رحمه الله: وإذا أمر الصبي الحر الصبي الحر أن يقتل إنسانا فقتله فالدية على عاقلة القاتل وليس على الآمر شيء لأن قول الصبي هدر فيما يلزمه الغرم فيكون وجوده كعدمه فبقي مباشرة القتل من الصبي القاتل.
ولو أمر رجل صبيا فقتل رجلا كانت الدية على عاقلة الصبي كمباشرته القتل باختياره يرجعون بها على عاقلة الآمر لأن الآمر جان في استعماله الصبي وأمره إياه بالقتل وهو الذي تسبب لوجوب الضمان على عاقلة الصبي فثبت لهم حق الرجوع بها على عاقلته  فإن قيل: أمره قول وما يجب على المرء بقوله من ضمان الجناية لا تعقله العاقلة  قلت متمثلا نعم إذا كان ذلك القول خبرا محتملا الصدق والكذب ليكون محمولا على الكذب في حق العاقلة فأما إذا كان ذلك أمرا فلا تردد في كونه تسببا واستعمالا  وإذا ثبت السبب في حق العاقلة ثبت الحكم وإذا أعطى الرجل صبيا عصا أو سلاحا يمسكه له ولم يأمره فيه بشيء فعطب الصبي بذلك بأن سقط من يده فوقع على رجله فمات فضمانه على عاقلة الرجل لأنه جان في استعمال الصبي في إمساك ما دفع إليه وهو سبب لهلاكه متعد في ذلك السبب  وإن قتل الصبي نفسه بذلك أو قتل رجلا لم يضمن الدافع شيئا لأنه أمره بإمساكه لا باستعماله وإنما وجب الضمان على عاقلته لاستعماله وهو مختار في ذلك غير مأمور به من جهة الدافع فكذلك إذا قتل به نفسه فإنما تلف باستعماله لا بإمساكه بخلاف ما إذا وقع على رجله لأنه ثمة حصل الهلاك لا بمباشرته بل بإمساكه الذي هو حكم دفع الدافع وهو متعد في الدفع فيضمن بخلاف ما إذا حصل التلف بمباشرته وحدث من جهة الصبي باختياره لأنه طرأت المباشرة على التسبيب فينقطع حكم التسبيب وهذه المباشرة ليست حكم ذلك التسبيب فلا يثبت الرجوع بخلاف ما إذا أمره بالقتل حكما.
وإذا غصب الرجل الصبي الحر فذهب به فهو ضامن له إن قتل أو أصابه حجر أو أكله

 

ج / 26 ص -166-    سبع أو تردى من حائط عندنا استحسانا  وفي القياس لا شيء عليه وهو قول زفر والشافعي  وجه القياس أن ضمان الغصب يختص بما هو مال متقوم والصبي الحر ليس بمال متقوم فلا يضمن بالغصب كالميتة والدم والدليل عليه أنه لو مات حتف أنفه أو أصابته حمى فمات أو مرض فمات أو خرجت به قرحة فمات لم يضمن الغاصب شيئا بالاتفاق والدليل عليه أنه لو غصب مكاتبا صغيرا فمات في يده ببعض هذه الأسباب لم يضمن الغاصب شيئا فالحر أولى  وكذلك لا يضمن أم الولد بالغصب وإن تلفت بهذه الأسباب لأنه لم يبق لرقها قيمة فلان لا يضمن الحر بهذه الأسباب كان أولى.
وحجتنا في ذلك أنه سبب لإتلافه بغير حق والمسبب إذا كان متعديا في سبب فهو ضامن والدية على عاقلته كحافر البئر وواضع الحجر في الطريق  وبيان الوصف أنه أزال يد حافظه عنه في حال حاجته إلى الحفظ ولم يقم بحفظه بنفسه فكان مسببا لإتلافه وهو متعد في ذلك لأنه ممنوع شرعا من إزالة يد حافظه  ومعنى قولنا أن لم يقم بحفظه بنفسه لأنه تلف بأمر يمكن التحرز عنه بخلاف ما إذا مات لأن ذلك لا يستطاع الامتناع عنه فلا يكون دليلا على تركه الحفظ أو على أنه كان سببا لإزالة حافظه عنه فأما التردي من الحائط ونهش الحية وإصابة الحجر فإنه يمكن التحرز عنه في الجملة  وبهذا تبين أن هذا الضمان ضمان جناية لا ضمان غصب والحر يضمن بالجناية تسبيبا كان أو مباشرة وهذا بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه صغيرا كان أو كبيرا فهو بفعله ما حال بينه وبين نفسه وبخلاف أم الولد فإنها تقوم بحفظ نفسها فلا يكون هو جانيا بإزالة الحفظ عنها فلهذا لا يضمن نقصها.
ولو قتل الصبي في يد الغاصب رجلا فليس على الغاصب في ذلك شيء لأنه لم يأمره بالقتل ولكنه أنشأ القتل باختياره فلو ثبت للعاقلة حق الرجوع على الغاصب كان ذلك باعتبار يده على الصبي والحر لا يضمن باليد  وكذلك لو قتل الصبي نفسه في يد الغاصب فلا شيء على الغاصب كما لو قتل غيره وعلى قول أبي يوسف تجب ديته على عاقلة الغاصب لأنه تلف بسبب يمكن حفظه من ذلك السبب عادة فهو كما لو نهشته حية.
وإذا حمل الرجل الصبي الحر على دابة فقال له امسكها لي وليس بيده حبل فسقط عن الدابة فمات فالدية على عاقلة الرجل لأنه سبب لإتلافه حين حمله على الدابة فكان متعديا في تسبيبه  فإذا تلف بذلك السبب كان ضامنا لديته ويستوي إن كان الصبي ممن يركب أو لا يركب.
فإن سار الصبي على الدابة فأوطأ إنسانا فقتله فإن كان هو ممن يستمسك عليها فديته على عاقلة الصبي لأنه متلف للرجل بدابته حين أوطأها إياه ولا شيء على عاقلة الذي حمله عليها لأنه أحدث السير باختياره فهو كما لو قتل رجلا في يد الغاصب باختياره  وإن كان مما لا يسير على الدابة لصغره ولا يستمسك عليها فدم القتيل هدر لأن هذه الدابة بمنزلة المنفلتة فإنها سارت من غير أن يسيرها أحد والدابة المنفلتة إذا وطئت إنسانا فدمه هدر

 

ج / 26 ص -167-    وهذا الذي حمل الصبي على الدابة لم يسيرها فلا يكون هو قائدا للدابة ولا سائقا والصبي الذي لا يستمسك على الدابة بمنزلة متاع موضوع عليها فلا يكون هو مسيرا للدابة بخلاف ما إذا كان يستمسك عليها.
وإذا حمل الرجل معه الصبي على الدابة ومثله لا يصرفها ولا يستمسك عليها فوطئت الدابة إنسانا فقتلته فالدية على عاقلة الرجل خاصة لأنه هو المسير للدابة والصبي الذي لا يستمسك بمنزلة المتاع معه على الدابة فالدية على عاقلته وعليه الكفارة لأن الراكب يجعل متلفا لما أوطأ بدابته مباشرة فإنه إنما تلف بفعله والكفارة جزاء مباشرة القتل وسيأتي بيان هذا في الباب الذي يلي هذا.
ولو كان الصبي يصرف الدابة ويسير عليها فالدية على عاقلتهما جميعا لأن كل واحد منهما مسير للدابة ها هنا فكانا جانيين على الرجل فتجب الدية على عاقلتهما ولا ترجع عاقلة الصبي على عاقلة الرجل بشيء لأن هذا بمنزلة جناية الصبي بيده والرجل لم يأمره بذلك.
ولو سقط الصبي فمات فديته على عاقلة الرجل لأنه هو الذي حمله عليها  وقد بينا أن حامل الصبي على الدابة ضامن لديته إذا سقط سواء كان سقوطه بعد ما سير الدابة أو قبل أن يسيرها وكان هو ممن يستمسك عليها أولا يستمسك عليها.
وإذا حمل العبد صبيا حرا على دابة فوقع الصبي عنها فمات فديته في عنق العبد يدفع به أو يفدى لأنه صار مسببا لهلاكه والعبد يضمن بالجناية تسببا كان أو مباشرة وموجب جناية العبد الدفع أو الفداء  وإن كان معه على الدابة فسارا عليها فوطئت إنسانا فمات فعلى عاقلة الصبي نصف الدية وفي عنق العبد نصفها يدفع به أو يفدى لأنهما جانيان على المقتول فعلى كل واحد منهما موجب جنايته ويجعل في ذلك الحكم كأنه تفرد به  وإذا حمل الحر الكبير العبد الصغير على الدابة ومثله يصرفها ويستمسك عليها ثم أمره أن يسير عليها فأوطأ إنسانا فذلك في عنق العبد يدفعه به مولاه أو يفديه بمنزلة جنايته بيده ويرجع مولاه بالأقل من قيمته ومن الأرش على الغاصب لأنه حين حمله على دابته فقد صار غاصبا له ويبقى حكم غصبه ما بقي على الدابة والعبد المغصوب إذا جنى في يد الغاصب كان للمولى أن يرجع على الغاصب بالأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأنه غصبه فارغا ورده مشغولا بالجناية بخلاف ما تقدم فالمحمول على الدابة هناك حر والحر لا يضمن بالغصب  ولو حمله عليها وهو لا يصرف الدابة ولا يستمسك عليهما فسارت الدابة فأوطأت إنسانا فدمه هدر لأن الذي حمله عليها ليس بقائد للدابة ولا سائق لها وإنما هذه دابة منفلتة  وإن كانت واقفة حيث أوقفها ولم تسر حتى ضربت رجلا بيدها أو رجلها أو بذنبها أو كدمته فلا شيء على الصبي لأن الصبي بمنزلة المتاع حين كان لا يستمسك على الدابة وعلى الذي أوقفها الضمان على عاقلته لأنه متعد في هذا التسبب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة في الطريق إلا أن يكون أوقفها في

 

ج / 26 ص -168-    ملكه فحينئذ لا ضمان عليه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه والمتسبب إذا لم يكن متعديا في تسببه لا يضمن شيئا كمن حفر بئرا أو وضع حجرا في ملكه والله أعلم. 

باب جناية الراكب  
قال رحمه الله: وإذا سار الرجل على دابة أي الدواب كانت في طريق المسلمين فوطئت إنسانا بيد أو رجل وهي تسير فقتلته فديته على عاقلة الراكب والأصل في هذا أن السير على الدابة في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي فإن الحق في الطريق لجماعة المسلمين وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة لأن حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء ودفع الضرر عن الغير واجب عليه فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه لأن ما يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع ولأنا لو شرطنا عليه السلامة عما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه لأنه لا يمتنع من المشي والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه  فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صفة السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزمه به نوع احتياط في الاستيفاء  إذا عرفنا هذا فنقول التحرز عن الوطء على شيء في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك فإذا لم يسلم كان جانيا وهذه جناية منه بطريق المباشرة لأن القتل إنما حصل بفعله حين كان هو على الدابة التي وطئت فتجب عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية وإن نفحته برجلها وهي تسير فلا ضمان على الراكب لقوله عليه السلام "الرجل جبار" أي هدر والمراد نفحة الدابة بالرجل وهي تسير وهذا لأنه ليس في وسعه التحرز من ذلك لأن وجه الراكب أمام الدابة لا خلفها وكذلك النفحة بالذنب ليس في وسعه التحرز عن ذلك.
وقال ابن أبي ليلى: هو ضامن لجميع ذلك وقاس الذي يسير على الدابة بالذي أوقف دابته في الطريق فنفحت برجلها أو يدها فكما أن هناك يجب ضمان الدية على عاقلته فكذلك هنا  ولكنا نقول في الفرق بينهما هو ممنوع من إيقاف الدابة على الطريق لأن ذلك مضر بالمارة ولأن الطريق ما أعد لإيقاف الدواب فيه فيكون هو في شغل الطريق بما لم يعد الطريق له متعديا والمتعدي في التسبب يكون ضامنا فلهذا يسوي فيه بين ما يمكن التحرز عنه وبين ما لا يمكن وهذا لأنه إن كان لا يمكن التحرز عن النفحة بالرجل والذنب فهو يمكنه التحرز عن إيقاف الدابة بخلاف الأول فإن السير على الدابة في الطريق مباح له لأن الطريق معد لذلك ولأنه لا يضر بغيره وهو محتاج إلى ذلك فربما لا يقدر على المشي فيستعين بالسير على الدابة وإذا لم يكن نفس السير جناية قلنا: لا يلزمه ضمان ما لا يستطاع الامتناع منه.
 ألا ترى أن الماشي في الطريق لا يكون ضامنا لما ليس في وسعه الامتناع منه بخلاف الجالس والنائم في الطريق ولو كدمت أو صدمت أو خبطت أو ضربت بيدها إنسانا وهو يسير

 

ج / 26 ص -169-    عليها فذلك كله مما يمكن التحرز عنه فيكون موجبا للدية على عاقلته بمنزلة ما لو وطئت إلا أن هذه الأسباب لا تلزمه الكفارة عندنا لأن الكفارة جزاء مباشرة القتل فلا تجب بالتسبب على ما نبينه.
وإن ضربت بحافرها حصاة أو نواة أو حجرا أو شبه ذلك فأصاب إنسانا وهي تسير فلا ضمان عليه لأن هذا لا يمكن التحرز عنه فهو بمنزلة التراب والغبار المنبعث من سنابكها إذا فقأ عين إنسان إلا أن يكون حجرا كبيرا فيضمن لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه وإنما ينبعث الحجر الكبير بخرق منه في السير  ولو راثت أو بالت في السير فعطب إنسان بذلك لم يكن عليه ضمان لأنه لا يمكنه التحرز عن ذلك قالوا وكذلك إذا وقفت لتبول أو لتروث لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك حتى يقف فهذا مما لا يستطاع الامتناع عنه  وكذلك اللعاب يخرج من فيها.
ولو وقع سرجها أو لجامها أو شيء محمول عليها من أداتها أو متاع الرجل الذي معه يحمله فأصاب إنسانا في السير كان ضامنا لأن هذا مما يمكن التحرز عنه وإنما سقط لأنه لم يشد عليها أو لم يحكم ذلك فكأنه ألقاه بيده على الطريق  وكذلك من عطب به بعد ما وقع على الأرض فإن عثر به أو تعقل فهو ضامن له بمنزلة ما لو وضعه بيده على الطريق والراكب والرديف والسائق والقائد في الضمان سواء لأن الدابة في أيديهم وهم يسيرونها ويصرفونها كيف شاؤوا وذلك مروي عن شريح رحمه الله إلا أنه لا كفارة على السائق والقائد فيما وطئت لأنهما مسببان للقتل والكفارة جزاء مباشرة القتل  فأما الراكب والمرتدف فمباشر أن القتل بفعلهما فعليهما الكفارة كالنائم إذا انقلب على إنسان فقتله.
وإذا أوقف دابته في طريق المسلمين أو في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فما أصابت بيد أو رجل أو ذنب أو كدمت أو سال من عرقها أو لعابها على الطريق فزلق به إنسان فضمان ذلك على عاقلته لأنه متعد في هذا التسبيب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة في ملك غيره بغير إذنه وكذلك في طريق المسلمين هو ممنوع من إيقاف الدابة خصوصا إذا كان يضر بالمار ولكن لا كفارة عليه لانعدام مباشرة القتل منه.
وإذا أرسل الرجل دابته في الطريق فما أصابت في وجهها فهو ضامن له كما يضمن الذي سار به ولا كفارة عليه لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن إرساله فإذا عدت يمينا أو شمالا فلا ضمان عليه لأنها تغيرت عن حالتها أنشأت سيرا آخر باختيارها فكانت كالمنفلتة إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أحدثت فيه فحينئذ يكون ضامنا على حاله لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنه أن يسير فيه وإنما سارت في ذلك الطريق فكان هو سائقا لها ووقفت ثم سارت فيه بريء الرجل من الضمان إذا لأنها لما وقفت فقد انقطع حكم إرساله ثم أنشأت بعد ذلك سيرا باختيارها فهي كالمنفلتة  فإن ردها فالذي ردها ضامن لما أصابت في فورها ذلك لأنه سائق لها في الطريق الذي ردها فيه  وإذا حل عنها وأوقفها ثم سارت هي فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انقطع بما أنشأت من السير باختيارها

 

ج / 26 ص -170-    قال: وإذا اصطدم الفارسان فوقعا جميعا فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه عندنا استحسانا وفي القياس على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه وهو قول زفر والشافعي  وجه القياس أن كل واحد منهما إنما مات بفعله وفعل صاحبه لأن الاصطدام فعل منهما جميعا فإنما وقع كل واحد منهما بقوته وقوة صاحبه فيكون هذا بمنزلة ما لو جرح نفسه وجرحه غيره  ولكنا استحسنا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل دية كل واحد من المصطدمين على عاقلة صاحبه  والمعنى فيه أن كل واحد منهما موقع لصاحبه فكأنه أوقعه عن الدابة بيده وهذا لأن دفع صاحبه إياه علة معتبرة لإتلافه في الحكم فأما قوة المصطدم فلا تصلح أن تكون علة معارضة لدفع الصادم فهو بمنزلة من وقع في بئر حفرها رجل في الطريق يجب الضمان على الحافر وإن كان لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر وكذلك لو دفع إنسان غيره في بئر حفرها رجل في الطريق فالضمان على الدافع دون الحافر  وإن كان لولا حفره لذلك الموضع لما أتلفه بدفعه.
وعلى هذا الأصل قالوا لو أن رجلين تجاذبا حبلا فانقطع الحبل فماتا جميعا فإن مات كل واحد منهما بفعل صاحبه بأن وقع على وجهه فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه لأنه إنما وقع على وجهه بجذب صاحبه إياه  وإن وقع كل واحد منهما على قفاه فلا شيء على واحد منهما لأن سقوطه على قفاه بقوة نفسه لا بجذب صاحبه إياه  وإن سقط واحد منهما على وجهه والآخر على قفاه فدية الساقط على وجهه على عاقلة صاحبه.
ولو قطع إنسان الحبل بينهما فسقط كل واحد منهما على قفاه ومات فديتهما على عاقلة القاطع للحبل لأنه كالدافع لكل واحد منهما.
ولو كان الصبي في يد أبيه فجذبه رجل من يده فمات فديته على عاقلة الجاذب لأن الأب محق في إمساكه والجاذب متعد في تسبيبه  وكذلك لو تجاذبا صبيا يدعي أحدهما أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فالدية على عاقلة الذي يدعي أنه عبده لأن الشرع جعل القول قول من يدعيه ابنه فيكون هو محقا في إمساكه والآخر متعديا في جذبه.
ولو جذب ثوبا من يد إنسان وهو يدعى أنه ملكه فتخرق الثوب من جذبهما ثم أقام المدعي البينة أنه كان له فله نصف قيمة الثوب على صاحبه لأنه كان يكفيه الإمساك باليد وما كان يحتاج إلى الجذب فيجعل التخريق محالا به على فعلهما جميعا.
ولو عض ذراع إنسان فنزع ذراعه من فيه فسقطت إنسان العاض فهو هدر  ولو انقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك على العاض لأنه محتاج إلى جذب الذراع من فيه فإن العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر متعديا في العض  ولو أخذ بيد إنسان فجذب صاحب اليد يده فعطبت يده فإن كان أخذ بيده ليصافحه فلا ضمان

 

ج / 26 ص -171-    على الذي أخذ لأن الجاذب ما كان يحتاج إلى ما صنع فيكون هو الجاني على يد نفسه  وإن كان أخذ يده ليعصره فالضمان على الآخذ لأن الجاذب محتاج إلى الجذب لدفع الألم عن نفسه.
ولو جلس على ثوب إنسان فقام صاحبه فتخرق الثوب من جذبه فالضمان على الجالس عليه لأنه متعد في الجلوس على ذيل الغير بغير إذنه والذي بينا في اصطدام الفارسين فكذلك الجواب في اصطدام الماشيين  فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فقيمة العبد على عاقلة الحر ثم يأخذها ورثة الحر لأن كل واحد منهما صار قاتلا لصاحبه فيجب على عاقلة الحر قيمة العبد ثم إن تلف العبد الجاني وأخلف بدلا فيكون بدله لورثة المجني عليه وهو الحر.
وإذا أوقف الرجل دابته في ملكه فما أصابت بيد أو رجل أو غير ذلك فلا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه وكذلك إن كان الملك له ولغيره لأن لكل واحد من الشريكين أن يوقف دابته في الملك المشترك ويستوي إن قل نصيبه فيها أو كثر.
أرأيت لو قعد في الملك المشترك أو توضأ فعطب إنسان بوضوئه أكنت أضمنه ذلك لا أضمنه شيئا من هذا.
وإذا سار الرجل على دابته فضربها أو كبحها باللجام فنفحت برجلها أو بذيلها لم يكن عليه شيء لأنه يحتاج إلى ضربها أو كبحها باللجام في تسييرها ولا يمكنه التحرز عن النفحة بالرجل والذنب  ولو خبطت بيد أو رجل أو كدمت أو صدمت فقتلت إنسانا فالضمان على الراكب سواء كان يملكها أو لا يملكها لأن التحرز عن هذا كله ممكن ولو سقط عنها ثم ذهبت على وجهها فقتلت إنسانا لم يكن عليه شيء لأنها منفلتة فالذي سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"العجماء جبار" وهي المنفلتة عندنا ذكره في الأصل والله أعلم.