المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 27 ص -129-    كتاب الوصايا
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمة الله عليه: اعلم بأن الوصية عقد مندوب إليه مرغوب فيه ليس بفرض ولا واجب عند جمهور العلماء وقال بعض الناس الوصية للوالدين والأقربين إذا كانوا ممن لا يرثونه فرض وعند بعضهم الوصية واجبة على أحد ممن لم يرثوه واستدلوا بقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: من الآية180] والمكتوب علينا يكون فرضا وقال عليه السلام: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر إذا كان له مال يريد الوصية فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" وحجتنا في ذلك أن الوصية مشروعة لنا لا علينا قال عليه السلام: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم فضعوه حيث شئتم" أو قال: "حيث أحببتم".
والمشروع لنا ما لا يكون فرضا ولا واجبا علينا بل يكون مندوبا إليه بمنزلة النوافل من العبادات ثم التبرع بعد الوفاة معتبر بالتبرع في حالة الحياة وذلك إحسان مندوب إليه وكذلك التبرع بالوصية بعد الموت
وأما الآية فقد اتفق أكثر أهل التفسير على أن ذلك كان في الابتداء قبل أن ينزل آية المواريث ثم انتسخ وتكلموا في ناسخه وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول إنما انتسخ بقوله:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: من الآية11] فإنه نص على الميراث بعد وصية منكرة فلو كانت الوصية للوالدين والأقربين ثابتة بعد نزول هذه الآية لذكر الإرث بعد الوصية المعرفة لأن تلك وصية معهودة وهذا قول الشافعي أيضا بناء على مذهبه أنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة والرازي كان لا يجوز نسخ الكتاب إلا بالخبر المتواتر وأكثر مشايخنا رحمهم الله يقولون إنما انتسخ هذا الحكم بقوله عليه السلام: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" وهذا حديث مشهور تلقته العلماء بالقبول والعمل به ونسخ الكتاب جائز بمثله عندنا لأن ما تلقته العلماء بالقبول والعمل به كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو سمعناه يقول لا تعملوا بهذه الآية فإن حكمها منسوخ لم يجز العمل بها ولأجل شهرة هذا الحديث بدأ الكتاب به ورواه عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا وصية لوارث" وفي بعض الرواية قال: "إلا أن يجيزه الورثة" وفي هذه الزيادة بيان أن المراد نفي الجواز لا نفي التحقيق ومن ضرورة نفي الجواز نفي الفرضية والوجوب والحديث مرسل بالطريق الذي رواه ولكن المراسيل حجة عندنا كالمسانيد أو أقوى من المسانيد لأن الراوي إذا سمع الحديث من واحد لا يشق عليه حفظ اسمه فيرويه مسندا وإذا سمعه من جماعة يشق عليه حفظ الرواية فيرسل الحديث فكان الإرسال من الراوي المعروف دليل شهرة

 

ج / 27 ص -130-    الحديث فأما الحديث الذي رواه فهو شاذ فيما تعم به البلوى والوجوب لا يثبت بمثله ثم هو محمول على ما كان ابتداء قبل نزول آية المواريث أو المراد أن ذلك لا يليق بطريق الاحتياط والأخذ بمكارم الأخلاق لقوله عليه السلام: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت شبعان وجاره طاو إلى جنبه" والمراد ما بينا ثم الوصية تتقدر بقدر الثلث من المال وهي مأخوذة من الدين لحديث علي رضي الله عنه قال إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ بالدين قبل الوصية وهكذا نقل عن بن عباس رضي الله عنهما فهذا منهما إشارة إلى معنى التقديم والتأخير في الآية ثم قضاء الدين من أصول حوائج المرء لأنه تفرغ به ذمته والوصية ليست من أصول حوائجه وحاجته مقدمة في تركته.
ألا ترى أنه يقدم جهازه وكفنه لحاجته إلى ذلك فكذلك قضاء الدين ثم زعم بعض أصحابنا أن الوصية بعد الدين تقدم على الميراث لظاهر الآية وأكثرهم قالوا التقديم لا يظهر في الوصية بل الوارث يستحق الثلثين إرثا في الوقت الذي يستحق الموصى له الثلث بالوصية والمراد من الآية تقديم الوصية على الميراث في الثلث لأنه محل للارث إذا لم يوص فيه بشيء فإذا أقضى كانت الوصية في الثلث مقدمة على الميراث والدليل على أن محل الوصية النافذة شرعا ثلث المال ما رواه من حديث سعد بن مالك قال يا رسول الله أوصي بمالي كله
فقال: "لا" قال: فبنصفه قال: "لا" قال: فبثلثه قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس" وفي رواية: "يتكفكفون" وأصل هذا الحديث ما روي أن سعدا رضي الله عنه مرض بمكة عام حجة الوداع فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فقال يا رسول الله أخلف عن دار الهجرة فأموت بمكة فقال: "إني لأرجو أن يبقيك الله ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون" لكن البائس سعد بن خولة يرثى له أن مات بمكة قيل هذا من النبي عليه السلام إشارة إلى ما جرى من الفتوح على يد سعد في زمن عمر رضي الله عنه ثم قال يا رسول الله إني لا يرثني إلا ابنة لي أفأوصى بمالي كله الحديث وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمرء أن يوصي بأكثر من ثلثه لأن النبي عليه السلام ذم المعتدين في الوصية والتعدي في الوصية مجاوزة حدها قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: من الآية229] وفي الحديث: "الحيف في الوصية أكبر الكبائر" والحيف: هو الظلم والميل وذلك بمجاوزة الحد المحدود شرعا بأن يوصي لبعض ورثته أو يوصي بأكثر من ثلث ماله على قصد الإضرار بورثته والدليل على أن محل الوصية الثلث ما روينا من قوله: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" ثم بين المعنى بقوله: "إنك إن تدع عيالك أغنياء" معناه ورثتك أقرب إليك من الأجانب فترك المال خير لك من الوصية فيه وفي هذا دليل أن التعليل في الوصية أفضل وذلك مروي عن أبي بكر وعمر وقال لأن يوصي بالخمس أحب إلينا من أن يوصي بالربع ولأن يوصي بالربع أحب إلينا من أن يوصي بالثلث.
و عن علي رضي الله عنه مثل ذلك وزاد وقال من أوصى بالثلث فلم يترك شيئا يعني

 

ج / 27 ص -131-    لم يترك شيئا مما جعل له الشرع حق الوصية فيه فعرفنا أن القليل في الوصية أفضل لأن ذلك أبعد عن وحشة الورثة فإنه إذا أوصى بجميع الثلث قال الوارث لا منة له علي فإنه ما ترك الوصية بما زاد على الثلث إلا لعجزه عن تنفيذه شرعا وحق الوارث ثبت في ماله شرعا.
قال عليه السلام:
"إن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" حتى إذا بلغ هذا وأشار إلى التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا كان ذلك وإن لم يقل وإنما تحل الوصية بالثلث شرعا لمن يترك مالا كثيرا يستغنى ورثته بثلثيه أما لكثرة المال أو لقلة الورثة هكذا روي أن عليا استأذنه رجل في الوصية لمن يترك خيرا يريد قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: من الآية180] ثم يستدل بظاهر هذا الحديث من يقول بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فإن النبي عليه السلام قدم صفة الغنى لوارثة سعد فقال: "إنك إن تدع عيالك أغنياء" ولكنا نقول: قدم صفة الغنى لهم واختار الفقر لنفسه والأفضل ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، ثم إنما قدم الغني على الفقير الذي يسأل كما قال من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس أي يلحون في السؤال ونحن إنما نقدم الفقير الصابر دون الذي يسأل كما وصفهم الله بقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: من الآية273] وهذا لأن الفقر مع الصبر أسلم للمرء وأزين للمؤمن.
قال عليه السلام:
"الفقر أزين للمؤمن من العذار الجيد على جلد الفرس" فأما الغني فسبب للطغيان والفتنة قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] وروي أن حمزة بن عبد المطلب أوصى إلى زيد بن حارثة يوم أحد وأن عليا رضي الله عنه أوصى إلى الحسن رضي الله عنهم وفيه دليل أن للمرء أن يوصي إلى غيره في القيام بحوائجه بعد وفاته وهذا من نظر الشرع له أيضا فقد يفرط في بعض حوائجه في حياته أو تخترمه المنية فيحتاج إلى من يقوم مقامه في القيام بحوائجه بعد موته والإيصاء إلى الغير كان مشهورا بين الصحابة رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه استخلف عمر وأوصى إلى عائشة رضي الله عنها في حوائجه وعمر أوصى إلى حفصة وتكلم الناس في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أوصى إلى أحد والصحيح عندنا أنه لم يوص إلى أحد بشيء إنما أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وبه استدلوا على خلافته فقالوا ما اختاره لأمر ديننا إلا وهو يرضى به لأمر دنيانا وينبغي أن يوصي إلى من هو أقرب إليه إذا كان أهلا لذلك كما أوصى علي إلى ولده الحسن رضي الله عنه وأوصى حمزة إلى زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما حين قدم المدينة.
وذكر عن بن مسعود أنه سئل عن إنسان أوصى بسهم من ماله فقال هو السدس وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال مطلق لفظ السهم في الوصية والإقرار ينصرف إلى السدس وهو مروي عن جماعة من أهل اللغة منهم إياس بن معاوية قالوا السهم السدس وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا للموصى له سهم مثل أخس سهام الورثة وروي ذلك في الكتاب عن شريح لأن ماله يصير سهاما بين ورثته فذكر السهم ينصرف إلى ذلك وأخس السهام متيقن

 

ج / 27 ص -132-    فيه إلا أن يجاوز السهم فحينئذ لا تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث بدون إجازة الورثة وأبو حنيفة يقول هذا إن لو ذكر السهم معرفا وقد ذكره منكرا بقوله أوصيت لكم بسهم من مالي فينصرف إلى ما فسر أهل اللغة السهم به.
وبيان المسألة يأتي في موضعه وعن عمر رضي الله عنه قال إذا أوصى الرجل بوصيتين فالأخيرة منهما أملك وبظاهره أخذ الشافعي فقال الوصية الثانية بالثلث أو بالعتق للذي أوصى به لغيره يكون دليل الرجوع عن الوصية الأولى ولكنا نقول المراد وصيتان بينهما منافاة بأن يوصي ببيع عبده من إنسان ثم يوصي بعتقه أو على عكس ذلك فإن بين هاتين الوصيتين في محل واحد منافاة فالثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى فأما إذا أوصى إلى إنسان بعبد بعينه ثم أوصى لآخر بذلك العبد فلا منافاة بين الوصيتين في المحل ومراده أن يكون كله لأحدهما إن لم يقبل الآخر الوصية أو لم يبق إلى ما بعد موت الموصي وإن لم يكن مشتركا بينهما إن قبلا جميعا الوصية فلا تكون الثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى وإن لم يستحق الموصى له الأول الترجيح بالسبق فلا أقل من أن يزاحم الموصي له الثاني.
وعن إبراهيم في الرجل يموت ولم يحج قال إن أوصى أن يحج عنه فمن الثلث وإن لم يوص فلا شيء وبهذا نأخذ وقد بينا المسألة في كتاب المناسك فنقول فيما يجب حقا لله تعالى خالصا كالزكاة والحج لا يصير دينا في التركة بعد الموت مقدما على الميراث ولكنه ينفذ من الثلث إن أوصى به كما ينفذ بسائر التبرعات وإن لم يوص به فهو يسقط بالموت في أحكام الدنيا وإن كان مؤاخذا في الآخرة بالتفريط في الأداء بعد التمكن منه وعلى قول الشافعي يصير ذلك دينا في تركته مقدما على الميراث أوصى به أو لم يوص وقد بينا المسألة في كتاب المناسك والزكاة.
وعن إبراهيم في الرجل يوصي بثلث ماله يحج به عنه أو يعتق به رقبة فلم تتم الحجة ولا الرقبة قال يتصدق عنه ولسنا نأخذ بهذا فأين تنفذ الوصية تجب على ما أوجبه الموصي بحسب الإمكان والتحرز عن التبديل واجب بالنص قال تعالى:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: من الآية181] الآية وإنما يحج بثلثه من حيث يبلغ وإن كان الثلث لقلته بحيث لا يمكن أن يحج به عنه فهو لورثته وكان إبراهيم ذهب في ذلك إلى أن مقصود الموصي التقرب إلى الله تعالى بثلث ماله ونيل الثواب في ذلك القدر من المال فيجب تحصيل مقصوده بحسب الإمكان وذلك في التصدق به ولكنا نقول اعتبار التعبير في ألفاظ الشرع يجب لأنها لا تخلو عن حكمة حميدة فأما في أوامر العباد فيعتبر اللفظ.
ألا ترى أنه لو أمر إنسانا بأن يطلق امرأته للسنة فطلقها بغير السنة لم يقع و الشرع أمر بإيقاع الطلاق للسنة ومن طلق امرأته لغير السنة كان طلاقه واقعا؟
وعن إبراهيم قال: لا بأس بأن يوصي المسلم للنصراني أو النصراني للمسلم فيما بينه وبين الثلث وهكذا عن شريح و به نأخذ فإن الوصية تبرع بعد الوفاة بعقد مباشرة فيعتبر

 

ج / 27 ص -133-    بالتبرع في حياته ولا بأس بعقد الهبة بين المسلم والذمي في حال الحياة والأصل فيه قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} إلى قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: من الآية8] وإن أراد بهذا بيان الفرق بين الوصية والميراث فإن الإرث لا يجري مع اختلاف الدين لأن الإرث طريقه طريق الولاية والخلافة على معنى أنه يبقى للوارث المال الذي كان للمورث واختلاف الدين يقطع الولاية فأما الوصية فتمليك بعقد مبتدأ ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي بخلاف الوارث.
وعن إبراهيم في الرجل يستأذن ورثته في الوصية فيأذنون له ثم يرجعون بعد موته قال لهم ذلك إن شاؤوا رجعوا وبه نأخذ فإن الإجازة من الورثة معتبرة في الوصية بما زاد على الثلث أو في الوصية للوارث وإنما تعتبر إجازتهم بعد موت الموصي فأما في حياته فلا تعتبر لأن الإجازة إما أن تكون بمنزلة التمليك منهم أو بمنزلة إسقاط الحق وإنما ثبت ذلك كله لهم بعد موت الموصى فتمليكهم قبل أن يملكوا أو إسقاطهم لحقهم قبل أن يتقرر وجوب الحق لهم يكون لغوا ثم إجازتهم في حالة الحياة لا تكون دليل الرضى منهم بهذا بل الظاهر أنهم كارهون له إلا أنهم احتشموا المورث فلم يجاهروه بالإباء فلو لزمهم حكم الإجازة في حالة الحياة تضرروا بخلاف ما بعد الموت فإجازتهم بعد الموت دليل الرضى منهم.
وعن إبراهيم في رجل أوصى لغير وارث بدين أو أقر به قال هو جائز ولو أحاط بماله ومراده الإقرار بالدين لا الوصية وإنما سماه وصية لذكره إياه فيما بين الوصايا وفي موضع الوصية وبهذا نأخذ فنقول الإقرار لغير الوارث بالدين صحيح وإن أحاط بماله وهو مروي عن بن عمر رضي الله عنه وقد روي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيناه في كتاب الإقرار.
وعن الشعبي أنه سئل عن رجل له ثلاث بنين فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم قال له الربع وبه نأخذ لأن مثل الشيء غيره فهو جعل نصيب أحد البنين معيارا لما أوجب الوصية فيه وجعل وصيته بمثل ذلك
فأما أن يقال يصير الموصى له بالإيجاب كابن آخر له مع البنين الثلاثة فله الربع أويقال ينظر في نصيب أحد البنين فيزاد على أصل السهام مثل ذلك للموصى له والمال بين البنين الثلاثة على ثلاثة أسهم لكل واحد منهم سهم فإذا زدنا للموصى له سهما على الثلاثة كانت السهام أربعة ثم نعطيه ذلك السهم فيكون له الربع ولا يجوز له أن يعطى الثلث بهذا الإيجاب لأن ذلك حينئذ ينفذ الوصية له في نصيب أحد البنين لا في مثل نصيب أحدهم وهو إنما أوصى له بمثل نصيب أحدهم.
و عن إبراهيم والشعبي قالا في رجل أوصى لرجلين بالنصف والثلث فردوا إلى الثلث أن الثلث بينهم على خمسة أسهم لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان وهذا قول أبي يوسف ومحمد وبن أبي ليلى رحمهم الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فالثلث بينهما نصفان والأصل عند أبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة تبطل في حق الضرب بها في الثلث وبيانه إذا أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلث ماله فلم تجز الوصية

 

ج / 27 ص -134-    أو أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بنصف ماله فلم تجز الورثة فعند أبي حنيفة الثلث بينهما نصفان في الفصلين جميعا وعندهما في الفصل الأول يكون الثلث بينهما أرباعا على أن يضرب الموصى له بالجميع بالثلث في سهام جميع المال الثلاثة والموصى له بالثلث بسهم واحد وفي الفصل الثاني يكون الثلث بينهما أثلاثا على أن يضرب الموصى له بالجميع بسهمين والموصى له بالنصف بسهم فهما يقولان ما يوجبه الموصي بعد موته معتبر بما أوجبه الله تعالى من السهام للورثة بعد الموت والله تعالى أوجب للزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث فكان موجب استحقاق كل واحد منهما بما أوجب له عند الانفراد والضرب بجميع ما سمى له بالوصية في محل الميراث عند المزاحمة فكذلك فيما أوجب الموصي المقصود استحقاق كل واحد منهما لما أوجبه له عند الإنفراد وإجازة الورثة.
يوضحه: أن الموصي قصد سلامة ما سمى لكل واحد منهما بكماله وتفضيل أحدهما على الآخر ففي أحد الحكمين تعذر تحصيل مقصوده عند عدم إجازة الورثة وفي الحكم الآخر ما تعذر تحصيل مقصوده فيجب تحصيله كما لو قال أوصيت بهذه الألف لفلان منها بستمائة ولفلان منها بسبعمائة تعتبر تسميته لكل واحد منهما وفي القدر الذي سمى التفضيل بينهما وإن تعذر اعتباره في استحقاق جميع المسمى لكل واحد منهما لضيق المحل ثم وصيته بالنصف والثلث ينصرف كل واحد منهما إلى جزء شائع في جميع ماله وفيما ذهب إليه أبو حنيفة تنفذ وصية أحدهما بجميع الثلث الذي له أن يوصى به وجعل الزيادة فيما أوصى لأحدهما بثلث ماله للآخر خاصة حتى يبطل بعدم إجازة الورثة وذلك خلاف ما أوجبه الموصي.
ألا ترى أنه لو أوصى لأحدهما بثلث ماله ولآخر بسدس ماله ولأحدهما بالثلث وللآخر بالربع إن لكل واحد منهما أن يضرب بجميع ما أوصى به له في الثلث وكذلك لو أوصى لأحدهما بألف درهم وللآخر بألفين وثلث ماله ألف ضرب كل واحد منهما في الثلث بجميع ما سمى له.
وكذلك لو أعتق في مرضه عبدا قيمته ألف وعبدا قيمته ألفان وثلث ماله ألف أو باع من إنسان عبدا وحاباه بألف وباع من أحد شيئا وحاباه بألفين ضرب كل واحد منهما في الثلث بجميع ما حاباه وإن كان أكثر من ثلث ماله فكذلك فيما سبق ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان:
أحدهما: أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة مفسوخة بتغيير الوصية المفسوخة كالمرجوع فلا يستحق الضرب بها كالوصية بمال الجار وإنما قلنا ذلك لأنها كانت موقوفة على إجازة الورثة فتنفسخ بردهم كالبيع الموقوف على إجازة المالك ينفسخ برده وتأثيره أن حق الضرب فيه بناء على صحة الإيجاب وقد بطل ذلك بالانفساخ فلا معنى للضرب به في مزاحمة وصية الإيجاب فيها صحيح ولهذا فارق المواريث فإن ما أوجبه الله

 

ج / 27 ص -135-    تعالى لكل وارث صحيح قطعا ويقينا فعرفنا أن المراد المضاربة بها عند ضيق المحل لعلمنا أن المال الواحد لا يكون له نصفان وثلث وبه فارق الوصية بالثلث والسدس لأن كل واحد منهما إيجاب صحيح لا ينفسخ برد الوارث فإن كل واحد منهما إيجاب بتسمية يوجد ذلك فيما هو محل الوصية وهو الثلث فأما هذا فإيجاب بتسمية لا توجد تلك التسمية إلا فيما هو حق الورثة فيبطل بردهم الإيجاب فيما يتناول حقهم وكذلك الوصية بالألف والألفين فإنها ما وقعت في حق الورثة بهذه التسمية لأن حق الورثة في أعيان التركة دون الألف المرسلة.
ألا ترى أنه يتصور تنفيذ جميع هذه الوصية على ما سمى الموصي من غير إجازة الورثة بأن يكثر مال المورث فكذلك في مسألة العتق فإن ذلك وصية بالبراءة عن السعاية والسعاية بمنزلة الألوف المرسلة.
ألا ترى أنه يتصور تنفيذ الوصية لكل واحد منهما بدون إجازة الورثة بأن يكثر مال الميت وكذلك في مسألة المحاباة فالوصية بالمحاباة تكون من الثمن وذلك بمنزلة المال المرسل حتى يتصور تنفيذه لكل واحد منهما بدون إجازة الورثة عند كثرة المال.
فإن قيل: هذا فاسد فإن الخلاف ثابت فيما إذا أوصى بعبد بعينه لإنسان قيمته ألف وبعبد آخر بعينه لإنسان قيمته ألفان ولا مال له سواهما وهنا يتصور تنفيذ الوصية لكل واحد منهما في جميع ما سمى له بغير إجازة الورثة بأن يكثر مال الميت فيخرج العبدان من الثلث.
قلنا: نعم ولكن وصيتهما بعين التركة حق الورثة فكانت تلك الوصية واقعة في حق الورثة.
ألا ترى أنها لا تصح إلا بعد قيام ملكه في العين عند الوصية بخلاف الوصية بالألف المرسلة فإنها صحيحة إن لم يكن في ملكه مال عند الوصية والطريق الآخر لأبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث وصية ضعيفة حتى لا يجب تنفيذها إلا بإجازة الورثة والوصية بالإرث وصية قوية ولا مزاحمة بين الضعيف والقوي في الاستحقاق ولكن الضعيف في مقابلة القوي كالمعدوم بمنزلة الوصية للوارث مع الوصية للأجنبي فإنه لا تثبت المزاحمة بينهما والمضاربة عند عدم إجازة الورثة وبه فارق المواريث فقد استوت السهام في القوة وكذلك الوصايا في الثلث فقد استوت في القوة لمصادفة كل واحد منهما محل الوصية وكذلك التركة إذا كانت ألفا وفيها دين ألف ودين ألفان لأن الدينين استويا في القوة وكذلك الوصايا في الألوف المرسلة والعتق والمحاباة فإنها استوت في القوة حين لم تصح في حق الورثة على ما بينا وقول الموصي قصد تبين فلنا الفصيل بنا على صحة الإيجاب في حق الاستحقاق وقد بطل ذلك بالرد على الطريق الأول وهو ضعيف على الطريق الثاني فلا يزاحم القوي وبه فارق مسألة الألف لأن مطلق الإضافة إليهما بعقبه تفسير وهو ما سمى من الستمائة لأحدهما والسبعمائة للآخر فيكون الحكم لذلك التفسير استواء الإيجاب في القوة وما قالوا أن الإيجاب ينصرف إلى جزء شائع ها هنا فاسد فإنه إذا أوصى بثلث ماله لابنه

 

ج / 27 ص -136-    استحق الموصى له جميع الثلث ولو انصرف الإيجاب إلى ثلث شائع في جميع المال صار له ثلث الثلث لأن ذلك القدر صادف محل الوصية وحيث استحق جميع الثلث عرفنا أن تسمية الثلث مطلقا تنفيذ محل الوصية لتصحيح إيجابه في جميعه كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصفا مطلقا فإنه ينصرف البيع إلى نصيبه خاصة فهذا مثله.
وعن أبي عاصم الثقفي قال سألني إبراهيم عن رجل أوصى بنصف ماله وثلثه وربعه فأجازوا قلت لا علم لي بها قال لي خذ مالا له نصف وثلث وربع وذلك اثنا عشر فخذ نصفها ستة وثلثها أربعة وربعها ثلاثة فاقسم المال على ذلك وهذا قول أبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة رحمه الله بخلاف ذلك ولم يزد على ذلك حتى اختلفوا في تخريج المسألة على قول أبي حنيفة وهذه مسألة معروفة تدعى الثقفية وربما يمتحن من يدعي التحرز في المقدرات من أصحابنا فأما تخريج قولهما فظاهر لأن القسمة عندهما على طريق العول والمضاربة فالموصى له بالنصف يضرب بنصف المال ستة من اثني عشر والموصى له بالثلث يضرب بأربعة من اثنى عشر والموصى له بالربع يضرب بثلاثة فمبلغ هذه السهام ثلاثة عشر فحينئذ أجازه الورثة يقسم جميع المال بينهم على ذلك وعند عدم الإجازة يقسم الثلث بينهم على ذلك.
وأما عند أبي حنيفة فقسمة المال بينهم عند إجازة الورثة على طريق المنازعة فخرج أبو يوسف رحمه الله قوله على طريق ومحمد رحمه الله على طريق آخر والحسن رحمه الله على طريق آخر وكل واحد منهما روى طريقه عنه وطريق الحسن أوجه فأما طريق أبي يوسف أن الموصى له بالنصف فضل الموصى له بالثلث بسهمين لأن تفاوت ما بين النصف والثلث سهمان ولا منازعة في هذين السهمين لصاحب الثلث والربع فيأخذهما صاحب النصف ثم لا منازعة لصاحب الربع فيما زاد على الربع إلى تمام الثلث وهو سهم وصاحب الثلث والنصف كل واحد منهما يدعي ذلك وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما سهما ففي ثمانية استوت منازعتهم فيها يكون بينهم أثلاثا فانكسر بالأثلاث فيضرب أصل المال اثنا عشر في ثلاثة فيكون ستة وثلاثين صاحب النصف أخذ مرة سهمين ومرة سهما وقد ضربنا ذلك في الثلاثة وهي تسعة وصاحب الثلث أخذ سهما وذلك ثلاثة والباقي أربعة وعشرون بينهم لكل واحد منهم ثمانية فحصل لصاحب الربع ثمانية من ستة وثلاثين ولصاحب الثلث أحد عشر ولصاحب النصف سبعة عشر.
وأما تخريج محمد لقول أبي حنيفة فقريب من هذا ولكنه قال لما أخذ صاحب النصف سهمين بلا منازعة تراجع حقه إلى الثلث فوصاياهم جميعا بعد ذلك اجتمعت في الثلث ومن أصل أبي حنيفة أن الوصايا متى وقعت في الثلث فالقسمة بين أربابها على طريق العول فيضرب صاحب النصف بما بقي من حقه وهو أربعة من اثني عشر وصاحب الثلث بأربعة أيضا وصاحب الربع بثلاثة فيكون بينهم على أحد عشر فالسبيل أن تضرب أصل المال اثنى عشر

 

ج / 27 ص -137-    في إحدى عشر فيكون مائة واثنين وثلاثين كان قد أخذ صاحب النصف سهمين وضربنا سهما في أحد عشر وذلك اثنان وعشرون بقي بعد ذلك مائة وعشرة لصاحب الربع من ذلك ثلاثون ولصاحب الثلث أربعون ولصاحب النصف كذلك فجملة ما حصل لصاحب النصف اثنان وستون ولصاحب الثلث أربعون ولصاحب الربع ثلاثون
فأما تخريج الحسن رحمه الله لقوله فهو أنه اجتمع ها هنا وصيتان وصية في الثلث ووصية فيما زاد على الثلث وأبو حنيفة يرى القسمة على طريق العول في الوصايا في الثلث والقسمة على طريق المنازعة في الوصايا فيما زاد على الثلث فيعتبر كل واحد منهما ويبدأ بقسمة الثلث لأن القسمة على طريق العول تكون عن موافقة فهو أقوى مما ينبني على المنازعة ولأن الوصية في محلها أقوى مما إذا جاوزت محلها فنقول يضرب صاحب النصف في الثلث بجميع الثلث وهي أربعة وصاحب الثلث بمثله وصاحب الربع بينهم فيضرب الثلث بينهم على أحد عشر فيكون جميع المال على ثلاثة وثلاثين ثم يأتي إلى القسمة بطريق المنازعة فنقول صاحب النصف حقه في النصف من جميع المال وذلك ستة عشر ونصف وقد وصل إليه أربعة بقي له من حقه اثنا عشر ونصف وصاحب الثلث كان حقه في أحد عشر وصل إليه أربعة بقي له سبعة فما زاد على سبعة إلى تمام اثنى عشر ونصف لا منازعة فيه لصاحب الثلث فيأخذه صاحب النصف وذلك خمسة ونصف ثم صاحب الربع كان حقه في الربع وذلك ثمانية وربع وصل إليه ثلاثة بقي له خمسة وربع فما زاد على خمسة وربع إلى تمام سبعة لا منازعة فيه لصاحب الربع فصاحب الثلث والنصف كل واحد منهما يدعيه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما سهما وثلاثة أرباع بلا منازعة فجملة ما أخذا من اثنين وعشرين وهو ثلثا المال تسعة مرة خمسة ونصف ومرتين سهم وثلاثة أرباع وذلك ثلاثة ونصف والباقي ثلاثة عشر استوت منازعتهم فيه فيكون بينهم أثلاثا فانكسر بالأثلاث وكان قد انكسر بالأنصاف والأرباع إلا أن الربع يجزئ عن النصف لأن النصف يخرج من مخرج الربع فالسبيل أن يضرب ثلاثة في أربعة فيكون اثني عشر ثم يضرب أصل المال وذلك ثلاثة وثلاثون في اثني عشر فيكون ثلاثمائة وستة وتسعين الثلث من ذلك مائة واثنان وثلاثون كان لصاحب النصف من ذلك أربعة مضروبة في اثنى عشر وذلك ثمانية وأربعون ولصاحب الثلث مثل ذلك ولصاحب الربع ثلاثة مضروبة في اثنى عشر وذلك ستة وثلاثون وكان ما أخذ صاحب النصف من الثلاثين بلا منازعة خمسة ونصف مضروبة في اثنى عشر فذلك ستة وستون وما أخذه صاحب النصف وصاحب الثلث ثلاثة ونصف مضروبة في اثنى عشر وذلك اثنان وأربعون بينهما نصفان لكل واحد منهما أحد وعشرون وكان الذي لا يستقيم بينهم ثلاثة عشر مضروبة في اثنى عشر فيكون ذلك مائة وستة وخمسين بينهم لكل واحد منهم اثنان وخمسون فصاحب الربع ما وصل إليه من الثلثين إلا اثنان وخمسون وصاحب الثلث أخذ مرة اثنين وخمسين ومرة أحدا وعشرين وذلك ثلاثة وسبعون وصاحب النصف أخذ مرة اثنين وخمسين ومرة أحدا وعشرين ومرة ستة وستين

 

ج / 27 ص -138-    فيكون ذلك مائة وتسعة وستين فإذا جمعت بين هذه السهام بلغت سهام ثلثي المال مائتين وأربعة وستين فإذا ضممته إلى الثلث الذي اقتسموه على طريق العول كانت الجملة ثلاثمائة وستة وتسعين فاستقام التخريج.
وعن إبراهيم رحمه الله قال: إذا أوصى الرجل وأعتق بدئ بالعتق وبه نأخذ وهو مروي عن بن عمر رضي الله عنه وهذا لأن العتق أقوى سببا من سائر الوصايا فإنه لا يحتمل الفسخ وهو إسقاط للرق والمسقط يكون متلاشيا وسائر الوصايا يتحمل الفسخ والرجوع عنها وثبوت الحكم بحسب السبب ولا مزاحمة للضعيف مع القوي ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا بظاهر هذا الحديث فقدما العتق على المحاباة المتقدمة وأبو حنيفة رحمه الله خص المحاباة من سائر الوصايا باعتبار أنها أقوى سببا فسببها عقد الضمان وعقد الضمان أقوى من التبرع وقوة العتق باعتبار حكم السبب فعند البداءة بالمحاباة يترجح بالسبق وبقوة السبب فقال يبدأ بها وعند البداءة بالعتق يستويان من حيث أن للعتق قوة السبق وقوة الحكم وللمحاباة قوة السبب والمعتبر أولا السبب فإن الحكم ينبني على السبب فيتحاصان وسيأتي بيان المسألة في موضعها.
وعن إبراهيم في رجل يوصي إلى رجل فيموت الموصى إليه فيوصي إلى رجل آخر فإن وصيتهما جميعا صحيحة وبه نأخذ فإن الوصي بعد موت الموصى قائم مقام الموصي في ولايته في المال وقد كانت ولايته في ماله ومال الموصي الأول فيخلفه وصيه في التصرف في المالين لأن بعد قبول الوصية التصرف في مال الموصي الأول من حوائج الوصي كالتصرف في مال نفسه وإنما يقيم الموصي مقامه فيما هو من حاجته.
وعن إبراهيم في الرجل يوصي لأم ولده في حياته وصحته فيموت قال هو ميراث وإن أوصى عند موته لها بوصية فهو لها من الثلث والمراد بوصيته لها في صحته الإقرار والهبة لا الوصية المضافة إلى ما بعد الموت لأن حالة الصحة وحالة المرض في ذلك سواء وبه نأخذ فنقول الهبة لأم الولد والإقرار لها بالدين باطل من المولي لأنها باقية على ملكه وكسبها له بمنزلة القنة فأما وصيته لها مضافة إلى ما بعد الموت فصحيحة لأنها تعتق بالموت ووجوب الوصية يكون بعد الموت فالوصية لها بمنزلة الوصية لجارية أجنبية.
وعن بن عمر رضي الله عنه قال: إذا أقر الرجل عند موته بدين لوارث فإنه لا يجوز إلا ببينة وإن أقر لغير وارث بالدين جاز ولو أحاط بجميع ماله وبه نأخذ في الفصلين وقد روي في بعض الروايات مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك في الإقرار.
وعن إبراهيم في المرأة يضربها الطلق قال: هي بمنزلة المريض في الوصية والتبرع والطلق اسم لوجع الولادة ويسمى ذلك مخاضا أيضا قال الله تعالى:
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: من الآية23] ومتى أخذها وجع الولادة فهي بمنزلة المريض لأنها أشرفت على

 

ج / 27 ص -139-    الهلاك إلا أنه قد يأخذها الوجع ثم يسكن فباعتبار ذلك الوجع لا تصير في التبرعات كالمريضة بمنزلة مرض يعقبه برء وإنما تصير كالمريضة إذا أخذها الوجع الذي يكون آخره انفصال الولد عنها من سلامتها به أو موتها لأن المعتبر مرض الموت ومرض الموت ما يتصل به ومن أوصى بأكثر من ثلث ماله لم يجز في الفضل على الثلث إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار لأن حقهم تعلق بماله بمرضه ولكن الشرع جعل الثلث محلا لوصية الموصي ليتدارك به ما فرط في حياته فما زاد على ذلك إذا أوصى به فقد قصد الإضرار بورثته بإسقاط حقهم عما تعلق حقهم به وإيثار الأجنبي على من آثره الشرع وهو الوارث فللوارث أن يرد عليه قصده بأن يأبى الإجازة ولا معتبر بإجازته في حياة الموصي عندنا وقال بن أبي ليلى تصح إجازته في حياته وليس له أن يرجع بعد وفاته لأنه سقط حقه بالإجازة وبالمرض قد تعلق حقه بماله فيصح إسقاطه وفقه هذا أن حق الوارث إنما يثبت في ماله بالموت ولكن سبب موته المرض فلما أقيم هذا السبب مقام حقيقة الموت في منع المورث من التصرف المبطل لحق الوارث فكذلك قام مقامه في صحة إسقاط الحق من الوارث بالإجازة ولكنا نقول إسقاط الحق قبل وجود السبب لا يجوز ويعتبر المرض بسبب تعلق حقه بماله بل السبب مرض الموت ومرض الموت ما يتصل به الموت فقبل اتصال الموت لا يكون سببا وهذا الاتصال موهوم فيكون هذا إسقاط الحق قبل تقرر السبب ثم الإجازة من الوارث إنما تعمل لوجود دليل الرضى منه بتصرف المريض وإجازته في حياة الموصي لا تدل على ذلك بل الظاهر أنه احتشم المورث فلم يجاهره بالرد من غير أن يكون راضيا بوصيته بخلاف ما إذا أجازه بعد الموت وفي الإجازة بعد الموت إن لم يكن الوارث من أهله بأن كان صغيرا فهو باطل أيضا لأنه إسقاط الحق بطريق التبرع فأما إذا كان كبيرا فإجازته صحيحة ويسلم المال للموصى له بطريق الوصية من الموصي عندنا وعند الشافعي صحيحة بطريق التمليك من الوارث ابتداء منه حتى لا يتم إلا بالقبض على قوله وعندنا يتم من غير قبض الموصى له والشيوع لا يمنع صحة الإجازة وليس للوارث أن يرجع فيه وجه قوله أن بنفس الموت قد صار قدر الثلثين من المال ملكا للوارث لأن الميراث يثبت من غير قبول الوارث ولا يرتد بالرد فإجازته تكون إخراجا للمال عن ملكه بغير عوض وهذا فيه لا يتم إلا بالقبض كما لو أوصى بمال جاره فأجازه الجار بعد موته ولكنا نقول تصرف الموصي صادف ملكه وامتنع نفوذه بقيام حق الغير فيه إجازة من له الحق تكون إسقاطا كإجازة المرتهن بيع الراهن وكذلك إن أجازوا وصية الوارث.
ولو أوصى بألف درهم من مال رجل أو بعبد أو ثوب فأجاز ذلك الرجل قبل موته أو بعده فله أن يرجع عنه ما لم يدفعه إلى الموصى له فإذا دفعه إليه جاز لأن وصيته من مال غيره بمنزلة الهبة كأنه وهب مال غيره فلا يصح إلا بالتسليم والقبض كما لو وهب مال نفسه بخلاف الوصية من مال نفسه بأكثر من الثلث لأنه أوصى بمال نفسه إلا أنه لم ينفذ لحق

 

ج / 27 ص -140-    الورثة فإذا أجازوا فقد أبطلوا حقهم وجاز من قبل الوصي جواز الوصية فلم يكن التسليم من شرط صحتها وجوازها.
وإذا أوصى الرجل لرجل بعبد ولآخر بثوب ولآخر بدار والثلث يبلغ ألف درهم والوصية تبلغ ألفا وخمسمائة أصاب كل واحد منهم ثلثي وصيته وبطل الثلث لأنه لا بد من إبطال الفضل على الثلث وليس أحدهم بإبطالها أولى من الآخر وقد استووا في استحقاق الثلث فكذا في إبطاله فينقص من وصية كل واحد منهما ثلثها ووجه ذلك أن ينظر إلى مبلغ الوصايا وإلى ثلث ماله فإن كانت الزيادة مقدار الثلث ينقص من نصيب كل واحد منهما الثلث وإن كان نصفا النصف وتفسيره إذا أوصى لرجل بعبد قيمته ألف درهم ولآخر بثوب قيمته ثلاثمائة درهم ولآخر بدار قيمتها مائتان فذلك كله ألف وخمسمائة وثلث ماله ألف فالزيادة مقدار الثلث فينقص من وصية كل واحد منهم مقدار الثلث فلصاحب العبد ثلثا العبد ولصاحب الدار ثلثا الدراهم ولصاحب الثوب ثلثا الثوب فاستقام الثلث والثلثان وإذا أوصى لذوي قرابته بالثلث فإن ذوي قرابته كل ذي رحم محرم منه.
قال رضي الله عنه: هنا خمسة ألفاظ أما أن يوصي لذوي قرابته أو لأقاربه أو لأنسابه أو لأرحامه أو لذوي أرحامه فأبو حنيفة يعتبر خمسة أشياء ذا رحم محرم واثنين فصاعدا ما سوى الوالد والولد ومن لا يرث والأقرب فالأقرب وفي قول أبي يوسف الأول يدخل فيها جميع ذوي رحم محرم منه الأقرب والأبعد في ذلك سواء ثم رجع فقال كل من يجمعه وأباه أقصى أب في الإسلام ويدخل في الوصية ذو الرحم وغير ذي الرحم المحرم كلهم سواء وهو قول محمد والاختلاف في موضعين: أحدهما: أنه يصرف إلى ذوي الرحم المحرم ولا يصرف إلى غيرهم عند أبي حنيفة وعندهما ذو الرحم المحرم وغيره سواء والثاني: أنه يصرف إلى الأقرب فالأقرب عنده وعندهما يستوي فيه الأقرب والأبعد واتفقوا أنه لا يدخل فيها الوصية لوارث لقوله عليه السلام:
"لا وصية لوارث" وكذلك يعتبر الاثنان بالاتفاق لأن ذوي لفظ جمع وأقل الجمع اثنان في الميراث.
ألا ترى أن الأخوين ينقلان الأم من الثلث إلى السدس فكذلك في الوصية إذ هي أخت الميراث فلذلك لا يصرف إلى الولد لأنهما يسميان قرابة لقوله تعالى:
{إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: من الآية180] من بينهما فتبين أن الوالدين غير القرابة فإذا خرج الأب من أن يكون قريبا للابن خرج الابن من أن يكون قريبا للأب وهل يدخل فيها الجدود وولد الولد ففي الزيادات أنه يدخل ولم يذكر فيه خلافا.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الجد وولد الولد لا يدخلان في الوصية وكذا روي عن أبي يوسف لأن الجد بمنزلة الأب وولد الولد بمنزلة الولد وإنما اعتبر أبو حنيفة ذا الرحم المحرم لأن الموصي قصد بالوصية صلة الرحم لأنه مأمور بها قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: من الآية90] وقال جل وعلا: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ

 

ج / 27 ص -141-    أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: من الآية22] فلما كان مأمورا بصلة القرابة وإنما تجب الصلة ممن كان ذا رحم محرم منه فانصرفت الوصية إليه دون غيره لأن القرابة المطلقة قرابة ذي الرحم المحرم لاختصاصها بأحكام مخصوصة من عدم جواز المناكحة والعتق عند الملك وعدم الرجوع في الهبة ووجوب النفقة عند العشرة فانصرفت الوصية إليه وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب لأن كل من كان أقرب إليه فهو أشبه بهذا اللفظ فكان أولى كما في العصبات وذوي الأرحام في الميراث والأقرب في الشفعة.
وجه قول أبي يوسف الأول أنه ينصرف إلى كل ذي رحم محرم منه الأقرب والأبعد منه سواء لأنهم في استحقاق الاسم سواء.
ألا ترى أنه لو أوصى لإخوته وله أخوة بعضهم لأب وأم وبعضهم لأب وبعضهم لأم أنهم في الوصية سواء ولا يعتبر الأقرب.
وجه قوله الآخر وهو قول محمد أنه يدخل فيه ذوو الرحم المحرم وغير ذي الرحم المحرم ويصرف إلى كل من يجمعه وأباه أقصى أب في الإسلام أن هذا اللفظ في الأبعدين أكثر استعمالا من الأقربين.
ألا ترى أنه لا يقال للأخ أو العم هذا قريبي فيدخلون كلهم في الوصية؟
ألا ترى إلى ما روي في الخبر لما نزل قوله تعالى:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرباءه سبعين نفسا وقال لهم: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وكان فيهم ذو رحم محرم وغيره فثبت أن كلهم في الوصية سواء إلا أنه لا يمكن أن يدخل فيه جميع أولاد آدم عليه السلام فيجعل الحد فيه من يجمعه وإياهم أقصى أب في الإسلام لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بأهل الإسلام وكان قبل ذلك يعرف بقبائل الجاهلية وهما إنما قالا ذلك في زمانهما لأن في ذلك الوقت ربما يبلغ إلى ثلاثة آباء أو أربعة آباء ولا يجاوز ذلك فتتبين أقرباؤه أما في زماننا فلا يمكن أن يعتبر ذلك لأن النسبة قد طالت فتقع الوصية لقوم مجهولين فإن ترك عمين وخالين وهم ليسوا بورثة فعند أبي حنيفة الوصية للعمين دون الخالين لأن العم أقرب من الخال لأنه من قبل الأب بدليل الولاية وعندهما الثلث بينهم بالسوية ولو كان له عم واحد وخالان كان للعم النصف والنصف للخالين عنده لأنه أوصى بلفظ الجمع وهو قوله ذوي وأقل الجمع في الوصية اثنان ويصرف النصف إلى الخالين لأنهما يستحقان اسم القرابة فإذا خرج العم من الوسط صار كأنه لم يترك إلا الخالين قال محمد رحمه الله إذا أوصى بثلث ماله لقبيلة دخل الموالي فيه لأنهم ينسبون إلى تلك القبيلة وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال مولى القوم منهم هذا إذا كانوا يحصون فإن كانوا لا يحصون فالوصية باطلة لأن المقصود من هذه الوصية الصلة.
ألا ترى أنه يستوي فيه الغني والفقير فإذا كانوا لا يحصون صاروا مجهولين فبطلت وجه الإحصاء ذكرناه في الشرب والشفعة ولا خلاف في المسألة إلا أنه نص على قول محمد

 

ج / 27 ص -142-    وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أوصى لفقراء أهل بيته فلكل من ينسب إلى أقصى جد في الإسلام من قبل الرجال وكذا لمحتاجي أهل بيته أي إذا أوصى لأهل بيته فإن كان الموصي من أولاد العباس فكل من كان نسبه إلى العباس من قبل الأب دخل فيه سواء كان هو بنفسه ذكر أو أنثى بعد أن يكونا منسوبين إليه من قبل الآباء ومن كان نسبه إليه من قبل الأم لا يدخل فيه لأنه لا يسمى من أهل بيته وإنما يسمى من أهل بيت أخرين وكذلك الوصية لجنس فلان أو لمحتاجي جنسه لأن الجنس وأهل البيت سواء وسواء كانوا يحصون أو لا يحصون لأن هذا سبيل الصدقة لأنه حصر الفقراء والمحتاجين وجهالة المتصدق عليه لا تمنع الصحة فإن قابض الصدقة هو الله تعالى وهذا عندهم إلا أن عند أبي حنيفة يعتبر الأقرب فالأقرب ولا يعطى غير ذي الرحم المحرم وعندهما تصرف إلى الكل.
ولو أوصى بثلث ماله لأخوته وله ستة أخوة متفرقين وله ولد يحوز ميراثه فالثلث بين أخوته سواء لأن الاستحقاق بالاسم وهم في استحقاق الاسم سواء بخلاف ما لو أوصى لأقرباء فلان عند أبي حنيفة لأنه يصح أن يقال هذا أقرب من فلان ولا يصح أن يقال هذا أكثر أخوة من فلان بل كلهم في استحقاق الاسم سواء هذا إذا كان له ولد يحوز ميراثه فإن لم يكن فلا وصية للوارث وللأخوين لأب ثلث ذلك لأنهما لا يرثان.
فإن قيل: وجب أن يصرف جميع الثلث إليهما إذا لم تصح الوصية لهم كما لو أوصى لحي وميت.
قلنا: الإضافة كانت صحيحة إلى الأخوين لأب وأمين ولأخوين لأم.
ألا ترى أنه لو أجازت الورثة جازت إلا أنهم خرجوا بعد الدخول في الوصية فلا يزداد حق الأخ لأب.
ألا ترى أنه لو أوصى لثلاثة نفر فمات اثنان قبل موته كان للباقي ثلث الثلث لصحة الإضافة.
ألا ترى أنه لو قال الثلث الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لوارثه فإنه يكون رجوعا بخلاف ما لو قال لفلان وفلان وأحدهما ميت لأن الميت ليس بمحل بوجه فلا يدخل تحت اللفظ.
ألا ترى أنه لو قال الثلث الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان الميت لا يكون رجوعا وإذا أوصى بثلثه لبني فلان فهذا لا يخلو إما أن يكون الأب هو قبيلة مثل تميم وكليب ووائل أو لا يكون قبيلة بل أب خاص فإن كانت قبيلة خاصة دخل فيه الذكور والإناث لأن المراد النسبة والمرأة تقول أنا من بني فلان كما يقول الرجل لأنه لا حقيقة لهذه النسبة وإنما ينسب إليها مجازا فيتناول جنس من ينسب إليها حقيقة كان أو مجازا.
ألا ترى أنه لو يدخل فيه الحليف والخليل وإذا كانوا يحصون فإن كانوا لا يحصون فهي باطلة لأن في القبيلة أغنياء وفقراء والوصية للأغنياء صلة والصلة للمجهول باطلة أما إذا كان فلان أب صلب فإن كانوا ذكورا دخلوا في الوصية لأن لفظ البنين للذكور حقيقة فينصرف إليه ما

 

ج / 27 ص -143-    أمكن وإن كن إناثا لا يدخل فيه ذكور واحدة منهن لأن اللفظ لا يتناولهن وإن كانوا ذكورا وإناثا فعند أبي حنيفة وأبي يوسف الوصية للذكور دون الإناث وعند محمد يدخل فيه الذكور والإناث وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رواه يوسف بن خالد السمين لأبي يوسف وأبي حنيفة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف أن البنين جمع لابن يقع على الذكور لأنه حقيقة.
ألا ترى أنهم لو كانوا كلهم إناثا لم يدخلوا في الوصية ومحمد يقول البنين إذا ذكروا مطلقا يقع على الذكور والإناث عند اشتراكهم قال الله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: من الآية26] ولم يقصر اللفظ على الذكر خاصة لأن النسب إلى الجد بمنزلة النسب إلى الأب في الحقيقة لأن أكثر الناس ينسب إلى الجد ليعرف دون الأب.
ألا ترى أن بن أبي ليلى ينسب إلى جده وكذلك أبو نصر بن سلامة ينسب إلى جده لأن سلامة جده لا أبوه وإذا كان ينسب إلى الجد صار الحكم أن الصلب والجد سواء ولو أوصى بثلثه لولد فلان وله بنون وبنات كان الثلث بينهم سواء لأن الولد اسم لجنس المولود ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر.
ولو كانت له امرأة حامل دخل ما في بطنها في الوصية لأنه دخل تحت تسمية الولد.
ألا ترى أنه يرث فيدخل تحت الوصية أيضا فإن كانت له بنات وبنو بن فالوصية لبناته دون بني ابنه لأن لفظ الولد يتناول ابنه حقيقة ويتناول أولاد الابن مجازا فمهما أمكن صرفه إلى حقيقته لا يصرف إلى مجازه ولا يدخل أولاد البنات لأنهم من قوم آخرين وليسوا من أولاده لأن النسب للآباء ولو كان له ولد واحد ذكر أو أنثى فجميع الوصية له لأنه هو المستحق للاسم على الحقيقة فلا يصرف إلى مجازه والولد اسم جنس يتناول الواحد فصاعدا.
وإذا أوصى لفخذ فلان أو لبطن فلان فالجواب فيه مثل الجواب في قوله لقبيلة فلان يدخل فيه البنون والبنات وهذا إذا كانوا يحصون فأما إذا كانوا لا يحصون فالوصية باطلة لأنه للمجهول إلا إذا قال لفقرائهم فحينئذ يجوز لأن المقصود به التقرب إلى الله تعالى فإن كانوا يحصون يدفع إلى جميعهم لأنه بمنزلة التسمية لهم وإن كانوا لا يحصون يجوز أن يدفع إلى بعضهم دون بعض غير أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجوز صرفه كله إلى فقير واحد وعند محمد لا يجوز إلا أن يصرف إلى اثنين لأن الوصية أخت الميراث والجمع في باب الميراث اثنان فصاعدا ولهما أن الفقر اسم جنس والجنس يتناول الواحد فصاعدا دل عليه قوله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: من الآية60] الآية ولو دفع إلى فقير واحد جاز ولهذا لو قال إن تزوجت النساء فعبدي حر فتزوج امرأة واحدة يعتق.
ولو أوصى بثلثه لفلان وفلان أو بني فلان وفلان ثم مات الموصي فالمسألة على ثلاثة أوجه إما أن يموت أحدهما قبل موت الموصي أو بعد موته أو كان ميتا وقت الوصية أما إذا مات بعد موته فإنه يكون الثلث بين الحي والميت نصفين ولأن الموصي لما مات أولا فقد وجبت الوصية لهما فإذا مات أحدهما صار نصيبه لورثته وإن مات أحدهما قبل موته صار

 

ج / 27 ص -144-    نصف الثلث للحي ونصفه مردودا إلى ورثة الموصي لأنه مات قبل وجوب الوصية له لأن الوصية تملك بعد الموت وقد مات قبل الملك وإنما يكون للحي نصف الثلث لأن الإضافة إليهما كانت صحيحة وكان لكل واحد منهما نصف الثلث فلا يزاد حقه بموت الآخر فكان لورثة الموصى وأما إذا كان أحدهما ميتا وقت الوصية فإن كان الموصي قال بني فلان وفلان فللحي نصف الوصية ولا شيء لورثة الميت لأن كلمة بين كلمة تقسيم وتجزئة فصار كأنه أوصى لكل واحد منهما بنصف الثلث وإذا بطل نصيب الميت رجع إلى ورثة الموصي ولا يكون للحي إلا النصف ولو قال لفلان وفلان وأحدهما ميت فالوصية كلها للحي سواء علم بموته أو لم يعلم.
ويروى عن أبي يوسف أنه قال: إن كان الموصي علم بموته فالثلث كله للحي وإن لم يعلم فللحي نصفه لأنه إذا لم يعلم بموته كان قصده تمليك نصف الثلث لكل واحد منهما فلا يثبت إلا ذلك بخلاف ماإذا علم بموته لأنه قصد صلة الحي منهما وجه ظاهر الرواية أنه أضاف الوصية إلى اثنين أحدهما تصلح الإضافة إليه والآخر لا تصلح فبطلت الإضافة إلى من لا تصلح إليه الإضافة وتثبت إلى من تصلح الإضافة إليه.
ألا ترى أنه لو قال ثلث مالي لفلان ولهذه الاسراء ولهذه الأسطوانة كان الثلث كله لفلان ولو قال ثلث مالي لفلان ولعقبه فالثلث كله لفلان لأن الإضافة إلى العقب فاسدة لأن عقبه من يعقبه فإذا كان هو حيا لا يكون له عقب وإذا بطلت الإضافة إلى العقب ثبت ثلث المال إليه.
ولو قال: ثلث مالي لفلان وللمساكين كان نصفه لفلان ونصفه للمساكين عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد ثلثه لفلان وثلثاه للمساكين بناء على ما ذكرنا أن عنده المساكين اسم جمع فيتناول الاثنين وعندهما اسم جنس فيقع على الأدنى.
وكذا لو قال: ثلث مالي لفلان وللحج كان نصفه لفلان ونصفه للحج لأن الوصية للحج وصية لله تعالى فصار كأنه أوصى لاثنين.
وإذا قال: حجوا عني حجة وأعتقوا عني نسمة ينفذ من الثلث لأن الوصية نفاذها من الثلث فإذا كان لا يسعها ينظر إن كانت الحجة حجة الإسلام بدئ بها وإن أخره الميت لأن حجة الإسلام أقوى من نسمة التطوع ويعلم أن إسقاط الفرض أهم إليه من غيره إلا أنه أخره ليقبل قلبه وإن كان حجه تطوعا وليس أحدهما بأولى من الآخر فيبدأ بما بدأ به الميت لأنه أهم عنده هذا إذا أوصى بعتق نسمة منه بغير عينها أما إذا كانت النسمة بعينها فإنهما يتحاصان في الثلث لأن الوصية بالعتق وصية للعبد إذا كان معينا والوصية بالحج وصية لله تعالى فصار بمنزلة وصيتين مختلفتين فيتحاصان بخلاف ما إذا كانت النسمة بغير عينها لأنهما وصيتان لله تعالى وإذا أوصى بالثلث لبني فلان وهم أربعة فمات منهم اثنان وولد للأب ولد

 

ج / 27 ص -145-    آخر ثم مات الموصي فالثلث لولده يوم يموت الموصي لأن الوصية تمليك بعد الموت فانصرف إلى الموجودين بعد الموت.
ألا ترى أنه يعتبر ماله يوم الموت لا يوم الوصية وكذا لو قال ثلث مالي لموالي فلان وفلان العربي ثم مات منهم ميت وأعتق فلان منهم عبدا ثم مات الموصي فالثلث لمواليه يوم مات لما ذكرنا.
ولو كان لفلان موالي أعتقهم وموالي أعتقوه فإن لم يكن من العرب ولم يبين لأي الفريقين أوصى فالوصية باطلة لأن الموصى له مجهول لأن المولي يذكر ويراد به المولي الأسفل ويذكر ويراد به الأعلى ولا يمكن الجمع بينهما لاختلاف المقصود لأن المقصود من الوصية للأسفل زيادة إنعام ومن الوصية للأعلى الشكر على النعمة وهما متضادان لا يمكن الجمع بينهما.
وروي عن أبي حنيفة أن الثلث للمولى الأسفل لأن قصده بالوصية البر والناس يقصدون بالبر المولى الأسفل دون الأعلى.
ألا ترى أنه لو وقف على مواليه كان للأسفل دون الأعلى كذلك هنا وروي عنه أيضا أن الثلث بين الفريقين نصفان لأن الاستحقاق بالاسم وهم في استحقاقه سواء.
ألا ترى أنه لو أوصى لأخوته وله أخ لأب وأم وأخ لأب وأخ لأم أن الثلث بينهم لاستحقاق الاسم كذلك ها هنا؟
ولو أوصى بثلث ماله لفلان وله مال فهلك ذلك المال أو لم يكن له مال ثم اكتسب مالا فله ثلث ماله يوم يموت لأن الوصية تمليك عند الموت ولأن الرجل لا يكون ماله أبدا على حالة واحدة فربما يستفيد وربما يهلك فلما أوصى بثلث ماله مرسلا ولم يقيده صار كأنه قال لفلان ثلث مالي الذي يكون وقت الموت.
ألا ترى أنه لو ربح في المال ربحا أو زاد في المال شيئا أن له ثلث جميع المال ولو أوصى له بثلث غنمه فهلكت الغنم قبل موته أو لم يكن له غنم من الأصل فالوصية باطلة وكذا العروض كلها لأن الوصية تعلقت به فالهلاك يبطلها وكذلك إن لم يكن موجودا فاستفاد لأنه علقة بالعين وأنها غير موجودة.
وكذا لو قال: شاة من غنمي أو قفيز من حنطتي ثم مات وليس له غنم ولا حنطة فالوصية باطلة إذا لم يكن له في الأصل غنم ولا حنطة ومثله لو قال شاة من مالي أو قفيز حنطة من مالي أو ثوب من مالي فالوصية جائزة ويعطى له قيمة شاة لأنه أضافها إلى ماله فالمال اسم للجنس يتناول الدراهم والدنانير والعروض ونحوها والشاة ليست من أجزاء هذا المال فعلم أنه أراد قيمة شاة من ماله.
ولو أوصى له بشاة ولم يقل من غنمي ولا من مالي فمات وليس له غنم لم تذكر في هذا الكتاب وينبغي أن يعطى له شاة أو قيمة شاة وقد ذكر في السير الكبير مسألة تدل على هذه

 

ج / 27 ص -146-    الحالة قال: إذا قال الإمام: من قتل قتيلا فله جارية من السبي فإن كان في السبايا جارية فإنه يعطى له وإن لم يكن فإنه لا يعطى له ولو قال من قتل قتيلا فله جارية ولم يقل من السبي فإنه يعطى جارية على كل حال كذلك هنا.
ولو أوصى لرجل بثوب ثم قطعه وخاطه قميصا فهذا لا يخلو إما أن يغيره عن جنسه أو يزيد فيه أو ينقصه أما إذا غيره عن جنسه كان رجوعا كما إذا أوصى له بثوب ثم قطعه وخاطه قميصا أو أوصى له بقطن ثم غزله أو بغزل ثم نسجه أو بحديدة ثم صاغ منها إناء أو سيفا أو بفضة ثم صاغ منها خاتما أو غيره كان رجوعا لأنه لما غيره عن حاله استدل به أنه أراد الرجوع إذا لو كان من قصده البقاء على الوصية لما كان يغيره عن حاله فالذي أوصى به لم يوجد والذي وجد لم يوص به لأنه صار شيئا آخر وأما إذا زاد فيه فإن كانت زيادة لها قيمة مثل الثوب إذا صبغه والسويق إذا لته بالسمن أو أوصى له بدار وليس فيها بناء فبنى فيها كان ذلكرجوعا لأن الموصى له لا يتوصل إليه إلا ببذل وقد جعل وصيته بغير بذل فلما لم يتوصل إليه إلا ببذل يستدل به أنه أبطل الوصية.
وأما إذا زاد شيئا يتوصل به إليه بغير بذل كما إذا أوصى بدار ثم جصصها أو طينها فذلك لا يكون رجوعا لأن ذلك تحسين وتزيين ويتوصل إليه بغير بذل فلم يكن رجوعا وكان ذلك دليل البقاء على الوصية.
وكذلك لو أوصى له بثوب ثم غسله لم يكن رجوعا لأنه ليس بزيادة وإنما ذلك لإزالة الدرن والوسخ
وأما إذا نقصه فإن كان نقصانا يبقى الغير مع ذلك النقصان لا يكون رجوعا كما إذا أوصى له بثوب ثم قطعه ولم يخطه لأن الشيء لم يتغير عن حاله لكن انتقص وإن كان لا يبقى مع ذلك النقصان كان رجوعا كما إذا أوصى له بشاة ثم ذبحها لأن اللحم لا يبقى إلى وقت الموت والإنسان وإن مرض مرضا شديدا فإنه لا ينقضي أجله فلما كان عنده أن اللحم لا يبقى إلى وقت موته فقد قصد الرجوع عن الوصية.
ولو أوصى له بقطن ثم حشا به قباء أو ببطانه ثم بطن بها أو بظهارة ثم ظهر بها ثوبا فذلك رجوع لأن هذا يعد استهلاكا من طريق الحكم.
ألا ترى أن الغاصب لو فعل هذا انقطع حق المالك؟ فالاستهلاك يدل على الرجوع.
ولو أوصى له بعبد أو بثوب ثم باعه ثم اشتراه فبيعه رجوع عن الوصية لأنه لما باعه صار بحال لو أوصى به في هذه الحالة لا يصح لأنه وصية بملك الغير فكان بيعه دليلا على الرجوع.
ولو أوصى لرجل بعبد لا يملكه أن يشتري له ثم تملكه الموصي بهبة أو ميراث أو وصية ثم مات فهو جائز من ثلثه لأنه أوصى بشراء ذلك العبد وبدفعه إلى فلان فإذا ملكه بوجه من أسباب الملك دفع بموته الشراء عن الورثة وليس هذا كما إذا قال أوصيت بهذا العبد لفلان والعبد لغيره ثم ملكه أنه لا تنفذ وصيته لأنه لو لم يشتر في تلك المسألة لا يجب على الورثة شراؤه فإن ذلك بمنزلة هبة عبد الغير إن أجاز صاحبه جاز وإلا فلا.

 

ج / 27 ص -147-    أما في مسألتنا فلو لم يشتر بنفسه يجب على الورثة شراؤه إن قدروا عليه ودفعه إليه فلما اشترى بنفسه أو ملكه بوجه آخر وجب عليهم نصفين لأنه أوصى لكل واحد منهما بجميع العبد إلا أنه لما تضايق عن حقهما يقضي بينهما لاستوائهما هذا كدار بيعت ولها شفيعان ثبت حق الشفعة لكل واحد منهما على الكمال إلا أنه يقضي بينهما لضيق المحل كذلك هنا.
قال في الأصل: أنه متى سمى الوصية الأولى وأوصى بها للثاني كان رجوعا عن الوصية الأولى ومتى سمى الوصية به ولم يسم الوصية الأولى لم يكن رجوعا وكان ذلك بينهما.
وبيانه: إذا أوصى بعبده لرجل ثم قال العبد الذي أوصيت به لفلان أوصيت به لفلان آخر كان رجوعا لأنه سمى الوصية الأولى واستأنف الوصية للثاني فكان رجوعا واستئنافا للوصية للثاني وكذلك لو قال العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان آخر وكذا لو قال العبد الذي أوصيت به لفلان قد أوصيت به لفلان آخر لأنه سمى الوصية الأولى واستأنف الوصية للثاني بحرف قد لأنه للإيقاع والإبلاغ في الاستئناف فكان رجوعا.
وكذا لو قال العبد الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان آخر ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان وقد أوصيت به لفلان كان بينهما نصفين ولم يكن رجوعا لأن الواو للعطف والجمع فقد جمع بينهما في الوصية ولم يستأنف الوصية للثاني أما إذا سمى الموصى به ولم يسم الوصية الأولى لم يكن رجوعا ولكن كان بينهما كما إذا أوصى بعبده لرجل ثم أوصى به لآخر لما ذكرنا ولو لم يوص به لأحد ولكنه جحد وصية الأول وقال لم أوص له فهذا رجوع هكذا ذكر هنا.
وذكر في الجامع: إذا قال اشهدوا أني لم أوص له لا يكون رجوعا وهذه المسألة على قياس تلك المسألة ينبغي أن لا يكون رجوعا وبعضهم فرق لاختلاف الوضع أما من جعل في المسألة روايتين فوجه من قال إنه رجوع أن الوصية تحتمل الرد والنقص فكان الجحود رجوعا كما إذا جحد الموكل الوكالة كان حجرا على الوكيل والمتبايعين إذا جحدا البيع كان إقالة منهما.
ووجه الرواية التي لا تكون رجوعا أن الوصية وجوبها بالموت بدليل أنه يعتبر القبول والرد بعد الوفاة فإذا قال لم أوص له بشيء فهو صادق في مقالته على معنى أنه لم يوجب له الوصية بعد فلا يكون رجوعا ومن فرق لاختلاف الوضع قال هنا جحد الوصية فكان رجوعا وفي الجامع لم يجحد ولكن قال اشهدوا أني لم أوص له بشيء فقد أمر الشهود أن يكذبوا عليه فلا يكون رجوعا.
والأصح ما ذكره المعلى في نوادره أن على قول أبي يوسف الجحود يكون رجوعا عن الوصية وعلى قول محمد لا يكون رجوعا فما ذكر هنا قول أبي يوسف وما ذكر في الجامع قول محمد وجه قوله أن الرجوع فسخ ورفع للعقد الثابت وجحود أصل العقد لا يكون

 

ج / 27 ص -148-    تصرفا فيه بالرفع كما أن جحود النكاح من الزوج لا يكون رفعا له بالطلاق. وجه قول أبي يوسف أنه بالجحود يبقى العقد في الماضي ومن ضرورته نفي العقد في الحال والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص وهو يملك نفي العقد في الحال إن كان لا يملك نفيه في الماضي وبه فارق النكاح لأن نفي النكاح من الأصل يقتضي نفي وقوع الطلاق عن المحل إلا أنه يقتضي إيقاع الطلاق على المحل في الحال.
ولو أوصى له بثلث غنمه أو إبله أو طعامه أو شيء مما يكال أو يوزن من صنف واحد فاستحق الثلثان من ذلك أو هلك وبقي الثلث وله مال كثير يخرج الباقي من ثلثه فللموصي له جميع ما بقي وقال زفر في الاستحقاق كذلك وفي الهلاك للموصى له ثلث ما بقي لأنه بالاستحقاق تتبين أنه عند الوصية ما كان يملك إلا الثلث وأن تصرفه تناول ذلك الثلث لأن وصيته بالعين لا تصح إلا باعتبار ملكه في المحل
فأما بالهلاك فلا يتبين أن الهالك لم يكن على ملكه وقت الإيجاب وإنما وجب له الثلث شائعا فما هلك يهلك على الشركة وما لم يبق يبقى على الشركة ولكنا نقول إن تنفيذ الوصية بعد الموت وعند ذلك محل الوصية هو الباقي في الفصلين جميعا فيستحق جميع ما بقي وهذا لأن الموصي جعل حاجته في هذه العين مقدمة على حق ورثته بقدر ما سمى للموصي له فكان حق الورثة فيه كالتبع وإنما يجعل الهالك من التبع لا من الأصل وهذا بخلاف ما إذا أوصى له بثلث ثلاثة أجناس من المال فاستحق جنسان أو هلك جنسان قبل موت الموصي فإن للموصي له ثلث ما بقي لأن هناك الموصي له لا يستحق جميع ما بقي بما أوجبه له بحال.
ألا ترى أنه لو بقيت الأجناس لم يكن له أن يجبر الورثة على أن يقسم الكل قسمة واحدة فيعطونه أحد الأجناس وفي الجنس الواحد هو مستحق لجميع ما بقي بما أوجبه حتى إذا لم يهلك منه شيء كان له أن يجبر الورثة على القسمة ليأخذ الثلث والباقي هو الثلث.
ولو أوصى له بثلث ثلاثة وبثلاثة من الرقيق واستحق البعض أو هلك لم يكن للموصى له إلا ثلث الباقي ومن أصحابنا من يقول هو عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا يرى قسمة الجبر في الدور والرقيق فهي عنده كالأجناس المختلفة فأما عندهما فينبغي أن يكون للموصى له جميع ما بقي لأنها بمنزلة جنس واحد عندهما في أنها تقسم قسمة واحدة والأصح قولهم جميعا لأنهما لا يقولان بقسمة الجبر في الدور إلا أن يرى القاضي المصلحة في ذلك فلا يكون الموصى له مستحقا للدار الباقية بما أوجب له الموصي وكذلك لا يريان قسمة الجبر في الرقيق إلا عند التساوي في المالية ولا يكون ذلك إلا نادرا فالتفاوت في بني آدم كثير في الظاهر فلهذا لا يكون للموصى له إلا ثلث ما بقي.
ولو أوصى لرجل بعبد قيمته خمسمائة ولآخر بثوب قيمته مائة ولآخر بسيف قيمته مائتان وله سوى ذلك ألف درهم أو عروض بقيمة ألف فإن الورثة إن لم يجيزوا فلكل واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته لأن مبلغ الوصايا ثمانمائة درهم وثلث مال الرجل ستمائة فكان الثلث

 

ج / 27 ص -149-    من مبلغ الوصايا بقدر ثلاثة أرباعه فعند عدم الإجازة يبطل من وصية كل واحد منهم الربع فيسلم لصاحب العبد ثلاثة أرباع العبد وقيمته ثلاثمائة وخمسة وسبعون ولصاحب الثوب ثلاثة أرباع الثوب وقيمته خمسة وسبعون ولصاحب السيف ثلاثة أرباع السيف وقيمته مائة وخمسون فجملة ما نفذت فيه الوصية ستمائة وحصل للورثة ألف درهم وربع العبد قيمته مائة وخمسة وعشرون وربع الثوب قيمته خمسون ذلك ألف ومائتان فاستقام الثلث والثلثان.
ولو أوصى لرجل بسيف قيمته مائة ولآخر بسدس ماله وله خمسمائة درهم سوى السيف كان لصاحب السيف أحد عشر سهما من اثنى عشر سهما من السيف في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه اجتمع في السيف وصيتان وصية بجميعه ووصية بسدسه والقسمة في هذا عند أبي حنيفة على طريق المنازعة فخمسة أسداس السيف تسلم لصاحب السيف بلا منازعة وقد استوت منازعتهما في السدس فكان بينهما نصفين وتبين أن سهام السيف صارت على اثنى عشر لحاجتنا إلى سدس ينقسم نصفين وقيمة السيف مائة فكل مائة من الخمسمائة يكون على اثنى عشر أيضا فذلك ستون سهما للموصي له بالسدس سدس ذلك لأنه أوصى له بسدس ماله فيستحق به السدس من كل مال وذلك عشرة فتبين أن للموصى له بالسدس أحد عشر سهما عشرة من الخمسمائة وسهم من السيف ولصاحب السيف أحد عشر فقد بلغت سهام الوصايا اثنين وعشرين وذلك دون الثلث لأن سهام المال اثنان وسبعون والسالم للورثة خمسون فكان التخريج مستقيما.
وفي قول أبي حنيفة ومحمد قسمة السيف بين الموصى لهما على طريق العول فيضرب فيه صاحب السيف بستة وصاحب السدس بسهم فيكون السيف بينهما على سبعة أسهم والخمسمائة الأخرى تجعل كل مائة على سبعة أيضا فذلك خمسة وثلاثون للموصى له بالسدس سدس ذلك وذلك خمسة وخمسة أسداس سهم فقد نفذت الوصية له في هذا القدر من الخمسمائة وفي سهم من السيف وذلك ستة وخمسة أسداس ولصاحب السيف ستة من السيف كلها فذلك اثنا عشر وخمسة أسداس وجملة سهام المال اثنان وأربعون فكانت الوصية بأقل من الثلث فلا حاجة إلى إجازة الورثة.
ولو كان أوصى مع هذا أيضا بالثلث كان الثلث بينهم يضرب فيه صاحب السدس بسدس خمسمائة وثلث سدس السيف وصاحب السدس بثلث خمسمائة وخمسة أسداس سدس السيف وصاحب السيف بخمسة أسداس السيف إلا سدس سدس السيف فما أصاب صاحب السيف كان في السيف وما أصاب صاحب الثلث كان في الدراهم وفيما بقي من السيف وكذلك ما أصاب صاحب السدس في قياس قول أبي حنيفة وهذا لأنه اجتمع في السيف ثلاث وصايا وصية بجميعه ووصية بثلثه ووصية بسدسه فتكون القسمة على طريق المنازعة وفي الحاصل تصير سهام السيف على ستة وثلاثين لحاجتنا إلى سدس ينقسم أثلاثا فلصاحب الجميع ثلثاه بلا منازعة أربعة وعشرون وسدس وهو ستة لا منازعة فيه لصاحب

 

ج / 27 ص -150-    السدس فهو بين صاحب الثلث والجميع نصفان لكل واحد منهما ثلاثة وقد استوت منازعتهم في السدس فيكون بينهم ستين أثلاثا لكل واحد منهما سهمان فحصل للموصى له بالسيف بلا منازعة أربعة وعشرون وبالمنازعة خمسة فذلك تسعة وعشرون وهو خمسة أسداس السيف إلا سدس سدسه لأن كل سدس منه ستة وحصل لصاحب الثلث بالمنازعتين خمسة وذلك خمسة أسداس سدس السيف وحصل لصاحب السدس سهمان وهو ثلث سدس السيف كما قال في الكتاب ثم المال الآخر وهو خمسمائة تجعل كل مائة منه على ستة وثلاثين فيصير جملته مائة وثمانين للموصى له بالثلث ثلث ذلك وهو ستون وللموصى له بالسدس سدس ذلك ثلاثون فكان لهما تسعون وظهر أن مبلغ سهام الوصايا مائة وستة وعشرون وهو أكثر من الثلث فالسبيل فيه أن يجعل ثلث المال بينهم على هذه السهام والثلثان ضعف ذلك فجملة المال ثلاثمائة وثمانية وسبعون السيف من ذلك سدسه وذلك ثلاثة وستون يأخذ صاحب السيف من ذلك تسعة وعشرين مقدار حقه وصاحب الثلث خمسة وصاحب السدس سهمين ويبقى للورثة من السيف سبعة وعشرون ثم يأخذ صاحب الثلث من سهام الخمسمائة مقدار حقه ستين وصاحب السدس ثلاثين فجملة ما نفذت فيه الوصية لهم مائة وستة وعشرون وحصل للورثة ضعف ذلك مائتان واثنان وخمسون مائتان وخمسة وعشرون من الخمسمائة وسبعة وعشرون من سهام السيف فاستقام الثلث والثلثان ولم يذكر تخريج قولهما في الكتاب وعندهما القسمة على طريق العول فيضرب صاحب السيف في السيف بستة وصاحب الثلث بسهمين وصاحب السدس بسهم فكان السيف بينهم على تسعة وكل مائة من الخمسمائة الباقية تكون على تسعة أيضا فذلك خمسة وأربعون للموصى له بالثلث ثلث ذلك خمسة عشر وللموصى له بالسدس سدس ذلك سبعة ونصف فكان جملة سهام الوصايا أحد وثلاثون ونصف وذلك فوق الثلث فيجعل الثلث بينهم على أحد وثلاثين ونصف والثلثان ضعف ذلك فيكون جملته أربعة وتسعين ونصف السيف من ذلك السدس وذلك خمسة عشر وثلاثة أرباع للموصى له بالسيف ستة كله من السيف وللموصى له بالثلث سهمان وللموصى له بالسدس سهم وبقي للورثة من سهام السيف ستة وثلاثة أرباع يأخذ الموصى له بالثلث مما بقي خمسة عشر والموصى له بالسدس سبعة ونصف فإذا جمعت بين ذلك حصل تنفيذ الوصية لهم في أحد وثلاثين ونصف وحصل للورثة ضعف ذلك ثلاثة وستون فاستقام الثلث والثلثان فإذا أردت إزالة الكسر فلا طريق فيه سوى التضعيف.
قال رحمه الله: وقد خرج شيخنا الإمام الحلواني رحمه الله قولهما على طريق آخر وهو أن السيف لما صار بين الموصى لهم على تسعة باعتبار العول فكل مائة من الخمسمائة الباقية تكون على ستة لأنه لا عول في الخمسمائة الباقية فسهام الخمسمائة الباقية إذن ثلاثون للموصى له بالثلث عشرة وللموصى له بالسدس خمسة فذلك خمسة عشر فإذا ضممت ذلك إلى سهام السيف تسعة كان أربعة وعشرين فيجعل الثلث بينهم على أربعة وعشرين وجميع

 

ج / 27 ص -151-    المال اثنان وسبعون السيف من ذلك اثنا عشر لصاحب السيف ستة ولصاحب الثلث منه سهمان ولصاحب السدس منه سهم يبقى ثلاثة من تسعة للورثة وسهام الخمسمائة ستون للموصى له بالثلث عشرة وللموصى له بالسدس خمسة يبقى للورثة من ذلك خمسة وأربعون فجملة ما سلم للورثة من المال ثمانية وأربعون وقد نفذت الوصية في أربعة وعشرين فاستقام الثلث.
قلت: هذا واضح ولكنه غير مستقيم على طريق أهل الحساب لأن القسمة الواحدة مع تفاوت مقدار السهام لا تكون فإذا كان السيف وقيمته مائة على تسعة أسهم ثم تجعل كل مائة من الخمسمائة على ستة أسهم بين السهام تفاوت في المقدار فكيف تستقيم قسمة الكل بينهم بهذا الطريق قال هو كذلك ولكن صاحب المذهب نص على هذا الطريق وعليه خرج المسائل إلى آخر الباب تأمل في ذلك تأملته فوجدته كما قال.
ومن تلك المسائل قال: لو أوصى لرجل بالثلث ولآخر بعبد قيمته ألف درهم وله ألفا درهم سوى ذلك فإن صاحب الثلث يضرب فيه بثلث الألفين وسدس العبد ويضرب صاحب العبد بخمسة أسداس العبد فما أصاب صاحب العبد فهو في العبد وهو النصف وما أصاب الثلث فهو فيما بقي من العبد والمال فيكون له خمس ما بقي من العبد وخمس المال في قول أبي حنيفة لأنه اجتمع في العبد وصيتان وصية بجميعه وبثلثه فيسلم ثلثاه لصاحب الجميع بلا منازعة والثلث بينهما نصفان لاستواء منازعتهما فيه وإذا صار العبد على ستة فكل ألف من الألفين كذلك فهما اثنا عشر للموصى له بالثلث أربعة فبلغت سهام الوصايا عشرة فيجعل ذلك ثلث المال وجميع المال ثلاثون العبد من ذلك عشرة هو للموصى له بالعبد خمسة وهي نصف العبد وللموصى له بالثلث خمسة أسهم سهم من العبد وهو خمس ما بقي منه وأربعة أسهم من سهام الألفين وذلك خمس العشرين وحصل للورثة من الألفين ستة عشر سهما ومن العبد أربعة أسهم فاستقام الثلث والثلثان وفي قول أبي حنيفة ومحمد يكون لصاحب الثلث ما بقي من العبد وهو سدس العبد وسدس الألفين وإنما يستقيم هذا الجواب عندهما على الطريق الثاني لأن الموصى له بالعبد يضرب في العبد بستة والموصى له بالثلث من ذلك بسهمين فسهام العبد ثمانية وكل واحد من الألفين على ستة باعتبار الأصل للموصى له بالثلث من ذلك أربعة فبلغت سهام الوصايا اثنى عشر وذلك الثلث وجميع المال ستة وثلاثون العبد منه اثنا عشر للموصى له بالعبد ستة نصف العبد وللموصى له بالثلث من العبد سهمان وهو ثلث ما بقي منه وسدس جميع العبد وله من الألفين أربعة من أربعة وعشرين وهو السدس فاستقام التخريج على هذا الطريق.
ثم قال في الأصل: فأي هذين القولين؟ قلت فهو حسن وهو إشارة إلى أن بين الطريقين في المعنى تفاوتا وبهذا اللفظ يستدل من يزعم أن مذهب المتقدمين من أصحابنا أن كل مجتهد مصيب وليس كما زعموا لأنه أراد به أن كل واحد من الطريقين طريق حسن في

 

ج / 27 ص -152-    التخريج عند أهل الحساب لا أن يكون كل واحد من المجتهدين مصيبا للحكم باجتهاده حقيقة.
ولو أوصى بثلث ماله لرجل وبجميع المال لآخر فإن لم تجز الورثة فالثلث بينهما نصفان عند أبي حنيفة رحمه الله وقد بينا هذا وإن أجازوا فجميع المال بينهما أسداسا في قول أبي حنيفة على ما رواه أبو يوسف ومحمد باعتبار طريق المنازعة لأنه يسلم الثلثان لصاحب الجميع وقد استوت منازعتهما في الثلث فكان بينهما نصفين فحصل لصاحب الجميع خمسة أسداس المال ولصاحب الثلث سدس المال وعندهما القسمة بطريق العول فلصاحب الجميع ثلاثة أرباع المال ولصاحب الثلث ربع المال قال الحسن وهو الصحيح عند أبي حنيفة أيضا على طريق المنازعة لا كما روى أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه يبدأ بقسمة الثلث بينهما وقد استوت منازعتهما فيه فكان بينهما نصفين ثم يأتي إلى الثلاثين وقد بقي من حق صاحب الثلث السدس فما زاد على ذلك وهو نصف المال يسلم لصاحب الجميع وفي مقدار السدس استوت منازعتهما فكان بينهما نصفين فحصل لصاحب الثلث مرة السدس ومرة نصف السدس فذلك ربع المال والدليل على فساد ما ذهب إليه من تخريج قوله أنه يؤدي ذلك إلى أن يكون ما يسلم للموصى له بالثلث عند الاجازة وعدم الإجازة سواء والإجازة كما تؤثر في الزيادة في حق صاحب الجميع فكذلك في حق صاحب الثلث ويؤدي ذلك أيضا إلى أن يكون نصيب صاحب القليل عند عدم الإجازة فوق نصيبه عند الإجازة لأنه إذا أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بسدس ماله فعند عدم الإجازة الثلث يكون بينهما أثلاثا فيصيب صاحب الثلث تسع المال وعند وجود الإجازة يأخذ صاحب الجميع خمسة أسداس المال بلا منازعة ثم السدس بينهما نصفان فنصيبه نصف سدس المال وذلك دون تسع المال ومن المحال أن يسلم له عند عدم الإجازة أكثر مما يسلم له عند الإجازة فظهر أن تخريج الحسن لقول أبي حنيفة رحمه الله أصح.
ولو أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بجميع ماله ولآخر بثلث ماله فأجاز ذلك الورثة فالنصف لصاحب الجميع وصاحب النصف نصفان والثلث بينهم أثلاثا في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد القسمة على طريق العول بينهم على أحد عشر سهما لصاحب الجميع ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان وهو قياس ما تقدم.
ولو كان له عبدان قيمتهما سواء ولا مال له غيرهما فأوصى لرجل بأحدهما بعينه ولآخر بثلث ماله فإن الثلث يقسم بينهما على سبعة أسهم لصاحب الثلث ثلاثة في العبدين جميعا اثنان في الذي لا وصية فيه للآخر وواحد في الذي فيه الوصية للآخر ولصاحب العبد أربعة أسهم في قول أبي حنيفة لأنه اجتمع في العبد الموصى بعينه وصيتان بجميعه وبثلثه فللموصى له بالجميع خمسة أسداس على طريق المنازعة وللموصى له بالثلث سدسه والعبد الآخر يصير على ستة أيضا للموصى له بالثلث منه سهمان فكان جملة سهام الوصايا ثمانية إلا أن

 

ج / 27 ص -153-    وصية الموصى له بالعبد زادت على الثلث لأن جميع المال اثنا عشر والثلث منه أربعة ووصيته خمسة فما زاد على الثلث تبطل وصيته فيه عند عدم الإجازة ضربا واستحقاقا كما هو أصل أبي حنيفة في الوصية بالعين فيبقى حقه في أربعة وحق صاحب الثلث في ثلاثة سهم منه في العبد الموصى بعينه وسهمان في العبد الآخر فلهذا قال يقسم الثلث بينهما على سبعة.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد: الثلث بينهما على خمسة أسهم وهذا إنما يستقيم على الطريقة الثانية لهما فإن العبد الموصى بعينه يضرب الموصى له بجميعه بثلاثة فيه والموصى له بالثلث بسهم فيكون بينهما على أربعة والعبد الآخر على ثلاثة أسهم لأنه لا عول فيه للموصى له بالثلث سهم فحصل له سهمان في العبدين ولصاحبه ثلاثة كلها في العبد الموصى بعينه فلهذا كان الثلث بينهما على خمسة أسهم.
ولو أوصى لرجل بعبد وبثلث ماله لآخر وبعبده ذلك أيضا لآخر وبسدس ماله لآخر وقيمة العبد ألف درهم وله ألفان سوى ذلك فإن الثلث يقسم بينهم على اثنين وسبعين سهما يضرب فيه صاحبا العبد بأحد وثلاثين سهما وصاحب الثلث بسبعة وعشرين ونصف وصاحب الثلث بثلاثة عشر ونصف في قول أبي حنيفة لأنه اجتمع في العبد أربع وصايا والقسمة عنده على طريق المنازعة فيه فثلثا العبد بين صاحبي العبد نصفان وسدس بينهما وبين صاحب الثلث أثلاثا والسدس الباقي بينهما أرباعا فعند تصحيح هذه السهام ينتهي الحساب إلى اثنين وسبعين سهما لحاجتنا إلى حساب ينقسم سدسه أثلاثا وأرباعا فيسلم للموصى لهما بالعبد الثلثان ثمانية وأربعون والسدس وهو اثنا عشر بينهما وبين صاحب الثلث أثلاثا والسدس الآخر بينهم أرباعا لكل واحد منهم ثلاثة يحصل لكل واحد من صاحبي العبد أحد وثلاثون ولصاحب الثلث سبعة ولصاحب السدس ثلاثة ثم صار كل ألف من الألفين على اثنين وسبعين فالألفان مائة وأربعة وأربعون سهما لصاحب الثلث من ذلك الثلث ثمانية وأربعون ولصاحب السدس أربعة وعشرون فإذا جمعت ذلك كله بلغت سهام الوصايا مائة وأربعة وأربعين فهو ثلث المال والثلثان ضعف ذلك فجملة المال أربعمائة واثنان وثلاثون العبد من ذلك مائة وأربعة وأربعون لكل واحد من صاحبي العبد من ذلك مقدار حقه واحد وثلاثون كلها في العبد ولصاحب الثلث من العبد سبعة ومن الألفين ثمانية وأربعون فذلك خمسة وخمسون ولصاحب السدس من العبد ثلاثة ومن الألف أربعة وعشرون وذلك سبعة وعشرون.
وفي الكتاب خرجه على النصف من ذلك لأنه جوز الكسر بالأنصاف وجعل الثلث اثنين وسبعين وحصل لصاحبي العبد أحد وثلاثون لكل واحد منهما خمسة عشر ونصف ولصاحب الثلث سبعة وعشرون ونصف ولصاحب السدس ثلاثة عشر ونصف فاستقام التخريج على ما قلنا.

 

ج / 27 ص -154-    وفي قول أبي يوسف ومحمد: الثلث بينهم على أحد وعشرين سهما لأن العبد الموصى بعينه يضرب كل واحد منهما فيه بسهام جميعه ستة والموصى له بالثلث يضرب فيه بسهمين والموصى له بالسدس يضرب فيه بسهم فيكون بينهم على خمسة عشر وكل واحد من الألفين يكون على ستة باعتبار الأصل فللموصى له من الألفين الثلث أربعة من اثنى عشر وللموصى له بالسدس سهمان وإن ضمنها هذه الستة إلى سهام العبد خمسة عشر كان الكل أحدا وعشرين فلهذا كان الثلث بينهم على أحد وعشرين.
ولو أوصى لرجل بعبده ولآخر بنصفه ولآخر بثلث ماله والعبد يساوي ألفا وله ألفان سوى ذلك ولم يجيزوا قسم الثلث بينهم على ثلاثين سهما لصاحب العبد اثنا عشر ونصف في العبد ولصاحب النصف ثلاثة ونصف فيه ولصاحب الثلث أربعة عشر فيما بقي من العبد والمال في قول أبي حنيفة لأن نصف العبد يسلم لصاحب العبد بلا منازعة والسدس بينه وبين صاحب النصف نصفان والثلث بينهم أثلاثا فبلغت سهام العبد ستة وثلاثين للموصى له بالعبد مرة ثمانية عشر ومرة ثلاثة ومرة أربعة فذلك خمسة وعشرون وللموصى له بالنصف مرة ثلاثة ومرة أربعة فذلك سبعة وللموصى له بالثلث أربعة ثم كل ألف من الألفين يصير على ستة وثلاثين أيضا فسهام الألفين اثنان وسبعون ولصاحب الثلث ثلث ذلك وهو أربعة وعشرون فبلغت سهام الوصايا ستين فيجعل الثلث بينهم على ذلك والثلثان ضعف ذلك وجملة المال مائة وثمانون.
وفي الكتاب خرجه على النصف من ذلك فقال: يقسم الثلث بينهم على ثلاثين لصاحب العبد اثنا عشر ونصف ما أعطيناه وهو خمسة وعشرون ولصاحب النصف ثلاثة ونصف نصف ما جعلناه له وهو سبعة كلها في العبد ولصاحب الثلث أربعة عشر نصف ما أعطيناه وهو ثمانية وعشرون وهذه الأربعة عشر له فيما بقي من العبد والمال سدس ذلك في العبد والباقي في المال.
قال عيسى رحمه الله: هذان الحرفان الأخيران خطأ وإنما ينبغي أن يجمع ما بقي من العبد والمال فيقسم ذلك بين الموصى له بالثلث والورثة على أربعة وسبعين سهما فما أصاب أربعة عشر ذلك فهو للموصى له بالثلث وما أصاب ستين سهما فهو للورثة لأن الموصى له بالثلث شريك الورثة في التركة فيضرب هوفيما بقي من التركة بسهام حقه والورثة بسهام حقهم وإن اعتبرنا الأصل فينبغي أن يكون للموصى له بالثلث مما بقي من العبد سبع حقه لا سدسه لأنه كان له من العبد سهمان ومن الألفين اثنا عشر فإذا جمعت الكل كان ماله من العبد سبع حقه.
ولو أوصى لرجل بعبد قيمته أكثر من الثلث ولآخر بعبد قيمته أقل من الثلث ضرب صاحب الأقل بقيمة عبده وضرب الآخر بمقدار الثلث من قيمة عبده في قول أبي حنيفة وفي قولهما يضرب كل واحد منهما بجميع قيمة عبده وهو بناء على اختلافهم في بطلان الوصية فيما زاد على الثلث عند عدم الإجازة في حق الضرب.

 

ج / 27 ص -155-    ولو أوصى لرجل بمائة درهم بعينها ثم وهبها لآخر وسلمها إليه ثم رجع فيها ومات فالوصية باطلة لأنها تعلقت بعين المائة وقد أخرجها عن ملكه بالهبة والتسليم فصار به راجعا والوصية متى بطلت بالرجوع لا تعود إلا بالتجديد ولو كان غصبها غاصب ثم رجعت إليه بعينها لم تبطل الوصية لأنها باقية على ملك الموصي وإن كانت في يد الغاصب واستهلكها الغاصب فقضي عليه بمثلها بطلت الوصية لأنها كانت مقصورة على العين فلا يجوز تنفيذها من محل آخر بخلاف ما إذا استهلكها مستهلك بعد موت الموصي لأن حق الموصى له تأكد فيها بالموت فيثبت في بدلها وما كان حقه متأكدا فيها قبل موته يبطل بفوات العين ولا يتحول إلى البدل كالموهوب قبل التسليم إذا أتلفه إنسان يبطل حق الموهوب له فيه بخلاف ما بعد التسليم.
ولو كان اشترى بها عبدا فاستحق العبد ورجعت إليه المالية بعينها فالوصية باطلة لأنها خرجت عن ملكه فإن بدل المستحق مملوك بالقبض فصارت المائة مملوكة لبائع العبد وإن استحق العبد ولهذا كان عينا بعد تصرفه فيه بعد الاستحقاق والوصية بعد ما بطلت لا تعود إلا بالتجديد والله تعالى أعلم بالصواب.

باب الوصية في الحج
قال رحمه الله: وإذا أوصى الرجل أن يحج عنه بمائة درهم وثلثة أقل من مائة فإنه يحج عنه بالثلث من حيث يبلغ لأن محل الوصية الثلث وللموصى له الوارث المنفعة وهو قصد بهذه الوصية صرف المائة من ماله إلى هذا النوع من القربة فيجب تحصيل مقصوده بحسب الإمكان كما لو أوصى أن يتصدق بمائة من ماله وثلثه أقل من مائة يتصدق عنه بقدر الثلث.
ولو أوصى أن يحج عنه حجة بمائة درهم وهي ثلثة فأحج الوصي بها فبقي من نفقة الحاج وكسوته وإطعامه شيء كان ذلك لورثة الميت لأن الحاج عن الغير له أن ينفق على نفسه من ماله في الذهاب والرجوع ولا حق له فيما يفضل من ذلك على ما بينا في المناسك أن الاستئجار على الحج لا يجوز فما يفضل بعد رجوعه فهو من مال الميت وقد فرغ عن وصيته فيكون لورثته فإن جامع ففسد حجه فعليه الكفارة ورد ما بقي من النفقة والكسوة ويضمن ما أنفق لأنه أذن له في الإنفاق بشرط أن يؤدي بسفره حجة صحيحة وقد فوت هذا الشرط بالأفساد فعليه رد ما بقي وهو ضامن لما أنفق لأنه تبين أنه أنفق بغير رضى الموصي ثم ذكر ما لو اعتمر قبل الحج أو قرن أو اعتمر عن آخر وقد تقدم بيان هذه الفصول في المناسك.
ولو استأجروا رجلا ليحج عنه فحج كان عليه أن يرد ما يفضل في يده من النفقة لأن الاستئجار لم يصادف محله فكان باطلا ومتى بطلت الإجارة بقي مجرد الإذن كما في استئجار النخيل لترك الثمار عليها إلى وقت الأدراك فعليه أن يرد ما فضل في يده وليس عليه شيء مما أنفق لأنه أنفق بإذن صحيح وإن عجزت النفقة عنه كان عليهم أن يكملوا له نفقة مثله

 

ج / 27 ص -156-    وما لا بد منه له وتجزي الحجة عن الميت بمنزلة ما لو أمروه بأن يحج عن الميت من غير استئجار.
وإذا أوصى أن يحج عنه فالأفضل أن يحج من قد حج لأنه أقدر على أداء الأفعال وأبصر بذلك وهو أبعد عن خلاف العلماء واشتباه الآثار وإن حج عنه ضرورة جاز عندنا خلافا للشافعي وقد بيناه في المناسك وإن أحجوا عنه امرأة فإنه يجزيهم ذلك لأن الخثعمية حين استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تحج عن أبيها أذن لها في ذلك واستحسن ذلك منها فدل على أنه يجوز إحجاج المرأة عن الرجل وقد أساءوا في ذلك لنقصان حال النساء في باب الإحرام حتى أن المرأة تلبس المخيط في إحرامها ولا ترفع صوتها بالتلبية ولا ترمل في الطواف ولا تسعى في بطن الوادي وتترك طواف الصدر بعذر الحيض ولا ضرورة لهم في إحجاجها عن الميت لأن فيمن يحج عن الرجال كثرة وإن كانت المرأة هي الموصية فأحجوا عنها رجلا أجزأها لأن الظاهر أن ذلك مجزئ كان مقصودها أو لم يكن مقصودها.
وإذا أوصى بالحج فإنه يحج عنه من بلده لأنه لو عزم على الخروج بنفسه للحج كان يخرج من بلده ويتجهز لسفر الحج من بلده فكذلك إذا أوصى به بعد موته فالظاهر أن مقصوده تجهيز من يحج عنه من بلده وإن مات في الطريق فإن كان خرج للتجارة فإنه يحج عنه من بلده أيضا وإن خرج هو يريد الحج فمات في الطريق يحج عنه من حيث مات وفي الجامع ذكر القياس والاستحسان في المسألة ففي القياس يحج عنه من بلده وفي الاستحسان وهو قولهما يحج عنه من حيث مات.
وجه الاستحسان: أنه باشر بعض العمل بنفسه ولم ينقطع ذلك بموته فيبنى عليه كما إذا وصى بإتمامه وبيان هذا أن خروجه على قصد الحج قربة وطاعة قال الله تعالى:
{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: من الآية100] الآية ولم ينقطع ذلك بموته لما روي أن النبي عليه السلام قال: "من مات في طريق الحج كتب له حجة مبرورة في كل سنة" وهذا بخلاف ما إذا خرج للتجارة فإن سفره ذلك ليس لأداء الحج فلا يصير به مؤديا شيئا من الأعمال.
وبخلاف ما إذا مات بعد ما أحرم لأن إحرامه انقطع بالموت ولهذا يخمر وجهه ورأسه ولا يمكن البناء على المنقطع.
يوضحه: أن في اعتبار هذا الطريق تحصيل مقصوده وفي الأخذ بالقياس تفويت مقصوده لأن الذي يحج عنه من بلده ربما يموت فيحتاج إلى أن يحج آخر من بلده أيضا حتى يفنى في ذلك ماله قبل أن يحصل مقصوده.
وجه قول أبي حنيفة: أن عمله قد انقطع بموته ولا بناء على المنقطع كما لو أحرم ثم مات وأوصى أن يحج عنه وبيان هذا من وجهين أحدهما أن النبي عليه السلام قال
"كل عمل بن آدم ينقطع بموته إلا ثلاثة" والخروج للحج ليس من هذه الثلاثة فينقطع بالموت ثم خروجه

 

ج / 27 ص -157-    إنما يكون قربة بطريق موصل إلى أداء الحج وقد تبين أن هذا الخروج ما كان يوصله إلى ذلك والدليل عليه أنه ظهر بموته أن سفره كان سفر الموت لا سفر الحج لما روي أن النبي عليه السلام قال: "إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة" فكان هذا في المعنى وخروجه للتجارة سواء ثم هناك يحج عنه من بلده فهنا كذلك وإن كان له أوطان مختلفة فمات وهو مسافر وأوصى بالحج عنه فإنه يحج عنه من أقرب الأوطان إلى مكة لأنه هو المتيقن به وبمطلق اللفظ لا يثبت إلا بالتيقن بما هو كامل في نفسه لأن الإطلاق يقتضي الكمال فإن لم يكن له وطن فمن حيث مات لأنه لو تجهز بنفسه للحج إنما يتجهز من حيث هو فكذلك إذا أوصى وهذا لأن من لا وطن له فوطنه حيث حل وإن أحجوا عنه من موضع آخر فإن كان أقرب إلى مكة فهم ضامنون وإن كان بعد فلا ضمان عليهم لأن في الأول لم يحصل مقصوده بصفة الكمال والإطلاق يقتضي ذلك وفي الثاني حصلوا مقصوده وزيادة.
وإن أوصى أن يحجوا عنه فأحجوا رجلا فسرقت نفقته في بعض الطريق فرجع عليهم أن يحجوا آخر من ثلث ما بقي في أيديهم من حيث أوصى الميت في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف إن بقي من ثلث ماله ما يمكن أن يحج به من حيث أوصى فكذلك الجواب في قول محمد إن لم يبق شيء من ثلث عزل للحج تبطل الوصية.
و على هذا الخلاف لو قال: أعتقوا عني نسمة بمائة درهم فاشتروها فماتت قبل أن تعتق كان عليهم أن يعتقوا من ثلث ما بقي في أيديهم وفي قول محمد بطلت الوصية لأن الوصي قائم مقام الموصي والورثة كذلك يقومون مقام المورث في تنفيذ وصيته فكان تعيين الموصي والورثة بعض المال لوصيته كتعيين الموصي ولو عينه بنفسه فهلك ذلك المال بطلت الوصية فكذلك الوصي إذا عين ذلك المال لوصيته وقاسم الورثة ثم هلك بطلت الوصية والدليل عليه أن مقاسمة الوصي مع الموصى له على الورثة يصح فلأن تصح مقاسمته مع الورثة عن الموصى كان أولى لأن الموصي أقامه مقام نفسه باختياره والورثة ما أقاموه مقامهم باختيارهم وأبو يوسف يقول محل الوصية الثلث فمقاسمة الموصي مع الورثة في تمييز محل الميراث من محل الوصية تصح فأما مقاسمته في تمييز محل الوصية عن البعض لا يجوز فما بقي من الثلث شيء فقد بقي محل الوصية فيجب تنفيذ الوصية باعتبار ما بقي وهو نظير مقاسمة الوصي عن الصغير مع الكبير تصح ومقاسمته بين الصغار لتمييز نصيب بعضهم عن بعض لا تصح وأبو حنيفة يقول مقصود الموصي لم يكن المقاسمة وإنما كان لتحصيل القربة له بالعتق ويجعل الهالك على التركة كأن لم يكن فتنفذ الوصية في هذه القسمة من ثلث ما بقي وفيه جواب عما قاله محمد رحمه الله أن الوصي إنما يقوم مقام الموصي فيما فيه تحصيل مقصوده خاصة وهذا بخلاف مقاسمته مع الموصى له لأن فيه تحصيل مقصوده فإن مقصوده تنفيذ الوصية وفي هذه القسمة تنفيذ الوصية وهذه المسألة في

 

ج / 27 ص -158-    الحقيقة نظير الأولى في المعنى فإن السفر كان مقصوده فيدور مع ذلك المقصود جعل ذلك أبو حنيفة وجوده كعدمه وها هنا التعيين والقسمة لمقصود فإذا لم يحصل ذلك المقصود كان وجود القسمة كعدمها.
ولو كان الموصي له بالثلث غائبا فقاسم الموصي الورثة على الموصى له لم تجز قسمته عليه حتى إذا هلك في يده ما عزله للموصى له كان له أن يرجع على الورثة بثلث ما أخذوه بخلاف ما إذا قاسم على الورثة مع الموصى له لأن الورثة يخلفون المورث في العين يبقى لهم الملك الذي كان للمورث ولهذا يرد الوارث بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه مورثه والوصي قائم مقام الموصي فيكون قائما مقام من يخلفه في ملكه.
وأما الموصى له فيثبت الملك له بإيجاب مبتدأ حتى لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي فلا يقوم الموصي مقامه في تعيين محل حقه ولكن ما هلك مما عزله يهلك على الشركة وما بقي يبقى على الشركة والعزل إنما يصح بشرط أن يسلم المعزول للموصى له وإذا أوصى أن يحجوا عنه وارثا لم يجز إلا أن يجيزه الورثة لأن فيه إيثاره بشيء من ماله لنفقته على نفسه وكما أنه لا يجوز إيثاره بشيء من المال تمليكا منه بدون إجازة الورثة فكذلك إباحته له لنفقته على نفسه.
ولو أوصى بأن يحج عنه بمائة درهم وأوصى بما بقي من ثلثه لفلان وأوصى بالثلث من ماله لآخر والثلث بمائة درهم فنصف الثلث للحج ونصفه لصاحب الثلث لاستواء الوصيتين في القوة والمقدار ولا شيء لصاحب ما بقي لأنه لم يبق من الثلث شيء والإيجاب بهذا اللفظ يتناول ما بقي وإذا لم يبق من الثلث شيء بطل الإيجاب لانعدام المحل وهو بمنزلة العصبة مع أصحاب الفرائض فإن للعصبة ما بقي بعد حق أصحاب الفرائض وإذا لم يبق شيء لم يكن له شيء بقول فإن مات الموصى له بالثلث قبل موت الموصي فما بقي من الثلث للموصى له بما بقي لأن وصية الموصى له بالثلث بطلت بموته قبل موت الموصي فكأنها لم تكن ولكن لا يصح هذا الجواب على ما وضعه عليه في الابتداء أن الثلث مائة درهم لأنه أوصى أن يحج عنه بمائة فيجب تنفيذ هذه الوصية أولا ثم لا يبقى من الثلث شيء لأن ذلك لا يكون له بما بقي إلا أن يكون الثلث أكثر من مائة فحينئذ يحج عنه بالمائة والفضل للموصى له بما بقي.
وإذا كانت الوصايا لله تعالى لا يسعها الثلث مثل الحجة والنسمة والبدنة بدئ بالذي بدأ به ما خلا حجة الإسلام أو الزكاة أو شيئا واجبا عليه فإنه يبدأ بالواجب وإن كان الميت أخره استحسن ذلك ودع القياس فيه وقد تقدم في ترتيب الوصايا من البيان ما هو كاف والله أعلم بالصواب.

باب الوصية للوارث والأجنبي والقاتل
قال رحمه الله: قد بينا أن الوصية للوارث لا تجوز بدون إجازة الورثة لقوله عليه السلام لا وصية لوارث إلى أن يجيزه الورثة فإن أوصى لبعض ورثته ولأجنبي جازت حصة الأجنبي

 

ج / 27 ص -159-    وبطلت حصة الوارث لأن الإيجاب تناولها بدليل أن عند إجازة الورثة ثم الاستحقاق لهما فبطلانه في حصة الوارث بعدم الإجازة لا يبطل حصة الأجنبي ولا يزيد في نصيبه بخلاف الوصية لحي وميت فالإيجاب في حق الميت غير صحيح أصلا وهذا بخلاف الإقرار لوارثه ولأجنبي لأن الإقرار إخبار عن واجب سابق وقد أقر بالمال مشتركا بينهما ولا يمكن إثباته بهذه الصفة لما فيه من منفعة الوارث والوصية إيجاب مبتدأ وإنما يتناول إيجابه نصف الثلث في حق كل واحد منهما فأمكن تصحيحه في نصيب الأجنبي كما أوجبه الموصى له وعلى هذا الوصية للقاتل وللأجنبي مع الإقرار لهما لأن صفة القتل في المنع عن الوصية والإقرار كصفة الوراثة على ما نبينه.
ولو أوصى له بشيء وهو وارث يوم أوصي ثم صار غير وارث أو كان غير وارث يوم الوصية ثم صار وارثا ومات الموصي إنما ينظر إلى يوم يموت الموصي فإن كان الموصى له وارثه لم تجز الوصية وإن لم يكن وارثه جازت الوصية لأن الوصية عقد مضاف إلى ما بعد الموت وإنما تحقق الوجوب له عند الموت ولأن المانع صفة الوراثة ولا يعرف ذلك إلا عند الموت لأن صفة الوراثة لا تكون إلا بعد بقاء الوارث حيا بعد موت المورث وكذلك الهبة في المرض والكفالة فإن ذلك في حكم الوصية حتى تعتبر من الثلث في حق الأجنبي ولا يصح للوارث أصلا وقد بينا الفرق بين هذا وبين الإقرار في كتاب الإقرار أن هناك إن صار وارثا بسبب تجدد الإقرار كان الإقرار صحيحا وإن ورثه بسبب كان قائما وقت الإقرار لم يصح الإقرار.
وإذا أوصى لمكاتب وارثه أو لعبد وارثه فهو باطل من أجل أن ذلك ينتفع به الوارث فإن المولى يملك كسب عبده وله حق الملك في كسب مكاتبه.
ولو أوصى لمكاتبه وقد كاتبه في مرضه أو في صحته جازت الوصية لأنه ليس في هذا منفعة لبعض الورثة دون البعض فإنه إن عتق فالوصية سالمة له وهو أجنبي وإن عجز فرقبته وكسبه يكون ميراثا بين جميع الورثة.
قال: وبلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لم يجعل للقاتل ميراثا وعن عمر رضي الله عنه مثله وعن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال لا يورث قاتل بعد صاحب البقرة والوصية عندنا بمنزلة ذلك ولا وصية لقاتل.
أما الكلام في نفي الإرث للقاتل فقد بيناه في الديات وأما الوصية للقاتل فلا تصح عندنا سواء أوصى له قبل الجراحة أو بعدها وقال مالك تصح الوصية له في الوجهين وقال الشافعي إن أوصى له قبل أن يجرحه بطلت الوصية بقتله إياه وأن أوصى بعد ما جرحه صحت الوصية وجه قول مالك أن هذا تمليك المال بالعقد فالقتل لا يبطله كالتمليك بالبيع والهبة وبأن كان يبطل الإرث لا يستدل على أنه يبطل الوصية كالرق واختلاف الدين فإنه ينفي التوريث ولا يمنع الوصية والفرق للشافعي من وجهين.

 

ج / 27 ص -160-    أحدهما: أنه إن كان الجرح بعد الوصية فالظاهر أن الموصي نادم على وصيته راجع عنها وإذا كانت الوصية بعد الجرح فلم يوجد بعد الوصية ما يدل على الرجوع عنها بل الظاهر أنه قصد الانتداب إلى ما ندب إليه وهو مقابلة السيئة بالإحسان.
والثاني: أنه إذا جرحه بعد الوصية فالموصي له قصد الاستعجال بفعل محظور فيعاقب بالحرمان كالميراث فأما إذا أوصى له بعد الجراحة فلم يتوهم قصد الاستعجال في تلك الجراحة ولا بعد الوصية فبقيت الوصية على حالها وجه قولنا ظاهر قوله عليه السلام:
"ليس لقاتل شيء" ويدخل الوصية والميراث جميعا في عموم هذا اللفظ وقال: "ولا وصية لقاتل" ولأن الملك بالوصية يثبت بعد الموت فيكون معتبرا بالملك الثابت بالميراث ولا فرق بينهما في المعنى لأن بطلان الوصية للوارث لدفع المغايظة عن سائر الورثة وبطلان الوصية للقاتل لهذا المعنى أيضا فإنه يغيظهم أن يقاسمهم قاتل أبيهم تركة أبيهم بسبب الإرث أو بسبب الوصية وفي هذا المعنى لا فرق بين أن تتقدم الوصية على الجرح أو تتأخر عنه وبه فارق الرق والكفر فإن الحرمان بهما لانعدام الأهلية للولاية لا لدفع المغايظة عن سائر الورثة ولا معتبر بالأهلية للولاية في الوصية وبخلاف سائر عقود التمليكات لأنها لا تشابه الإرث صورة ولا معنى.
و كذلك لو كان القاتل وارثا فأوصى له لم تجز الوصية وهذا تجوز في العبارة فإن القاتل لا يكون وارثا وإن كان وارثا كالصبي والمعتوه والوصية لمثل هذا القاتل تصح ثم الوجه فيه أنه اجتمع فيه وصفان كل واحد منهما بانفراده يجزئ الوصية فاجتماعهما أولى فإن أجازت الورثة الوصية للقاتل جازت في قول أبي حنيفة ومحمد ولم تجز في قول أبي يوسف ذكر قوله في الزيادات لأن الوصية أخت الميراث ولا ميراث للقاتل وإن أوصى به الورثة فكذلك الوصية وهذا لأن الحرمان كان بطريق العقوبة حقا للشرع فلا يتغير ذلك بوجود الرضى من الورثة والدليل عليه أنه لو أوصى لحربي في دار الحرب لم تجز الوصية لتباين الدارين وإن أجازت الورثة وإنما امتنعت الوصية للحربي لكونه محاربا حكما والقاتل محارب له حقيقة فلأن لا تنفذ الوصية له بإجازة الورثة كان أولى وجه قولهما أن الوصية للقاتل أقرب إلى الجواز من الوصية للوارث لأن الأمر في نفس الوصية للوارث مشهور وفي نفي الوصية للقاتل مسبور والعلماء اتفقوا على أن لا وصية للوارث واختلفوا في جواز الوصية للقاتل ثم بإجازة الورثة تنفيذ الوصية للوارث فكذلك للقاتل والمعنى فيهما واحد وهو أن المغايظة تنعدم عند وجود الرضى من الوارث بالإجازة في الموضعين جميعا بخلاف ميراث القاتل فإن ثبوت الملك بالميراث بطريق الحكم حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد والإجازة إنما تعمل فيما يعتمد القبول ويرتد بالرد وبخلاف الوصية للحربي في دار الحرب لأن بطلانها لانعدام الأهلية في جانب الموصي له فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولهذا تنقطع العصمة بتباين الدارين حقيقة وحكما والميت لا

 

ج / 27 ص -161-    يكون أهلا للوصية له ولا تأثير للإجازة في إثبات الأهلية لمن ليس بأهل وكذلك الوصية لعبد القاتل أو لمكاتبة فإنها كالوصية للقاتل لما يثبت له من حقيقة الملك أو حق الملك في الموصى به.
وقال في الأصل: إذا كانت الوصية لمولاه أو لعبده أبطلناها وقال الحاكم تأويله عندنا إذا كان المولى هو القاتل فأوصى له أو لعبده فأما إذا كان العبد هو القاتل فالوصية لمولاه وصية صحيحة.
ألا ترى أن عبد الوارث إذا قتل المورث لا يحرم المولى ميراثه وهذا لأنه لا حق للعبد في ملك مولاه وليس في حق المولى ما يحرمه الإرث والوصية لابن القاتل وأبويه وغيرهم من قرابته جائزة.
وكذلك لمماليك هؤلاء من عبيدهم ومكاتبيهم ومدبريهم وأمهات أولادهم على قياس الإرث فإن بن القاتل وأبويه يرثون المقتول وإن لم يرثه القاتل وهذا لأنه ليس للقاتل في ملك هؤلاء حق الملك ولا حقيقة الملك.
وإذا أقر لقاتله بدين فإن كان مريضا صاحب فراش حتى مات لم يجز وإن كان يذهب ويجيء فهو جائز لأن الجرح وإن كان سبب الهلاك ولكن لا يصير به في حكم المريض ما لم يصر صاحب فراش فإن المريض إنما يباين الصحيح بهذا لأن الإنسان لا يخلو عن نوع مرض وإن كان صحيحا فإذا لم يصر صاحب فراش كان هو في حكم الصحيح وإذا كان صاحب فراش فهو مريض وإن تكلف لمشيه إلى بعض حوائجه وكذلك الهبة إذا قبضها للقاتل وهو مريض فإن تصرف المريض كالمضاف إلى ما بعد الموت فأما إذا كان يذهب ويجيء فهو صحيح ينفذ تصرفه في الحال مع القاتل كما ينفذ مع غيره وهكذا الجواب في الإقرار للوارث والهبة له.
وإذا ضربت المرأة الرجل بحديدة أو بغير حديدة فأوصى لها ثم تزوجها فلا ميراث لها ولا وصية وإنما لها مقدار صداق مثلها من المسمى وما زاد على ذلك في معنى الوصية فيبطل بالقتل ولو اشترك عشرة في قتل رجل أحدهم عبده وأوصى لبعضهم بعد الجناية وأعتق عبده فالوصية باطلة لأن كل واحد منهم قاتل له على الكمال.
ألا ترى أنه يلزمهم القصاص إذا كان عمدا والكفارة إذا كان خطأ كما لو تفرد به وإن كل واحد منهم يحرم عن الميراث فكذلك الوصية إلا أن العتق بعد ما تعذر لا يمكن رده فيكون الرد بإيجاب السعاية عليه في قيمته والعفو على القاتل في دم العمد جائز لأن الواجب القصاص والقصاص ليس بمال.
ألا ترى أن متلفه بالشهادة باطلة والإكراه على العفو لا يكون ضامنا وأنه لا يعتبر من الثلث بحال فيكون صحيحا للقاتل وجعل العفو في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء أو أقوى منه ولو كان خطأ فعفا عنه كان هذا منه وصية لعاقلته فيجوز من الثلث لأن الواجب في

 

ج / 27 ص -162-    الخطأ الدية على العاقلة وهو مال قلنا أصل الوجوب على القاتل والعاقلة يتحملون عنه فتكون هذه وصية للقاتل قلنا باعتبار المال الوصية تكون للعاقلة وهم المنتفعون بهذه الوصية فإن قيل جزء من الدية على القاتل ففي ذلك الجزء الوصية منه تكون للقاتل قلنا نعم ولكن تتعذر الوصية في ذلك الجزء لأن كل جزء من بدل النفس يتقرر وجوبه على القاتل ففي ذلك الجزء الوصية تتحمله العاقلة كما لو اشترك ألف نفس في قتل رجل فالجزء الواجب على كل واحد منهم مع قلته يتحمله العاقلة وكذلك إن كان القاتل عبدا لأن الوصية بالعفو تقع لمولاه فإن موجب جناية العبد على المولى وهو الذي يخاطب بدفعه أو فدائه.
ألا ترى أن بمد عتق العبد لا يطالب بشيء وإذا أوصى لعبده بثلث ماله صحت الوصية لأن رقبته من جملة ماله فيكون موصيا له بجزء منها فإن قتله العبد فوصيته باطلة غير أنه يعتق ويسعى في قيمته لأنه تعذر رد العتق فيكون الرد بإيجاب السعاية وعلى هذا المدبر إذا قتل مولاه عمدا أو خطأ فعليه أن يسعى في قيمته لرد الوصية وعليه في العمد القصاص فإن كان للمقتول وليان فعفى أحدهما عنه انقلب نصيب الآخر مالا فعليه أن يسعى في نصف قيمته للآخر لأنها إنما صارت مالا بعد ما عتق وصار أحق بمكاسبه إلا أن الواجب بسبب جناية كانت منه في حال رقه فيكون الوجوب عليه من القيمة دون الدية بخلاف ما إذا قتل مولاه خطأ لأنه حين وجب المال بسبب الجناية كان المولى أحق بكسبه وموجب جنايته على غيره يكون على المولى فلا يجب بجنايته على مولاه شيء من ذلك لأنه لو وجب وجب على نفسه وأم الولد إذا قتلت سيدها خطأ فليس عليها سعاية في شيء لأن عتقها ليس بوصية وموجب جنايتها على غير المولى يكون على المولى فلا يلزمه بالجناية على مولاها خطأ شيء وإن قتلته عمدا وليس لها منه ولد كان عليها القصاص فإن عفى أحد الوارثين سعت للآخر في نصف قيمتها لأن نصيب الآخر إنما انقلب مالا بعد ما عتقت وصارت أحق بكسبها وإن كان لها منه ولد بطل عنها القصاص لصيرورة جزء منه لولدها وعليها أن تسعى في قيمتها لأن القصاص إنما انقلب مالا بعد موت المولى حين ورث ولدها جزءا منه وإذا أوصى لقاتله بالثلث وأجاز ذلك الورثة بعد موته جاز وإن إجازته قبل موته فهو باطل بمنزلة الوصية للوارث وقد تقدم بيانه.
ولو أوصى لرجل بوصية فقامت البينة عليه أنه قاتل وصدقهم بذلك بعض الورثة وكذبهم بعضهم فإنه يبرأ من حصة الذين كذبوا من الدية وتجوز وصيته في حصتهم من الثلث ويلزمه حصة الذين صدقوا من الدين وتبطل وصيته في حصتهم من الثلث لأن في حق كل فريق يجعل كأن الفريق الآخر في مثل حاله إذ لا ولاية لبعضهم على البعض.
وإذا قامت عليه بينة بالقتل وأبرأه الميت فإبراؤه عفو منه فيصح من الثلث إن كان القتل خطأ ولا وصية له بعد ذلك لأن القتل ثبت عليه بالبينة فإن في حق الذين كذبوهم حتى لو كذب الورثة الشهود جازت الوصية له بعد وإذا جرح الرجل في مرضه جراحة عمدا أو خطأ

 

ج / 27 ص -163-    فقال المجروح: لم يجرحني فلان ثم مات من ذلك كان القول قوله ولا سبيل للورثة على القاتل لأنهم يخلفونه وبعد ما قال لم يجرحني لا سبيل له عليه في دعوى القتل فكذلك لورثته وإن أقام ورثته البينة على القتل لم تقبل بينتهم لأن قبول البينة ينبني على صحة الدعوى منهم وبعد قول المجروح لم يجرحني فلان لا يصح كما لا يصح الدعوى منه قبل موته بخلاف ما إذا قال لا جراحة لي قبل فلان ثم ادعى عليه القتل وأثبته بالبينة جازت لأنه نفى موجب الجرح ودعواه موجب النفس لا تنافي ما أبقاه من موجب الجرح وفي الأول نفي أصل الجرح ومن ضرورته نفي القتل إذ القتل بدون الجرح لا تصور له أما ظاهرا أو باطنا.
وإذا أوصى الرجل لرجلين بوصية وأقام كل واحد من ورثته البينة على أحد الموصى لهما أنه قتل صاحبهما خطأ كان على كل واحد منهما خمسة آلاف للذي أقام عليه البينة ولا وصية له في حصة الذي أقام عليه البينة بالقتل وتجوز له الوصية في حصة الآخر بالحساب لأن كل واحد منهما يثبت الحق على المشهود عليه لنفسه ولصاحبه وصاحبه مكذب لشهوده فيخرج كل واحد منهما من أن يكون قاتلا في حق من كذب المشهود عليه ويبقى قاتلا في حق الآخر في حكم الدية والوصية جميعا.
وإذا أوصى الرجل لرجلين لكل واحد منهما بالثلث وأوصى لآخر بعبد فشهد الموصى لهما بالثلث على الموصى له بالعبد أنه قاتل فشهادتهما باطلة لأنهما يجزآن الثلث إلى أنفسهما ويسقطان مزاحمة الموصى له بالعبد معهما في الثلث ويلزمه الدية أيضا ولهما من ذلك الثلث فكانا شاهدين لأنفسهما والموصى له بالثلث شريك الوارث في التركة فهذه الشهادة لا تقبل من الورثة للتهمة فكذلك من الموصى له.
وكذلك لو شهدا على وارث أو على أجنبي أنه قتله خطأ لأن المعنى في الكل سواء وإذا أعتق الرجل في مرضه صبيا صغيرا لا مال له غيره ثم قتل الصبي مولاه عمدا فعليه أن يسعى في قيمتين يدفع له من ذلك الثلث وصية له ويسعى فيما بقي لأن الصبي لا يحرم الإرث بسبب القتل فكذلك لا يحرم الوصية ومحل الوصية الثلث فيلزمه السعاية فيما زاد على الثلث والمعتق في المرض ما دام عليه شيء من السعاية فهو بمنزلة المكاتب فلهذا ألزمه السعاية في قيمته بسبب الجناية وفي قيمته بسبب العتق في المرض بعد أن يسلم له من ذلك الثلث.
ولو كان كبيرا فقتل مولاه خطأ سعى في قيمتين للورثة ولا وصية له لأنه قاتل وهذا أقوى وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما عليه السعاية في قيمته لرد الوصية والدية على العاقلة لأن المستسعى حر عندهما ولو قتل غير مولاه خطأ كانت الدية على عاقلته وكذلك إذا قتل مولاه وعند أبي حنيفة هو بمنزلة المكاتب فعليه السعاية في قيمته لأجل الجناية وكذلك قولهما في الصبي أن الدية تجب على عاقلته كما لو قتل غير مولاه

 

ج / 27 ص -164-    لأنه حرفان كان عليه السعاية لم يحسب له قيمته من الثلث بطريق الوصية لأن الصبي لا يحرم الوصية وإن كان قاتلا والله أعلم.

باب الوصية بالغلة والخدمة
قال رحمه الله: والوصية بخدمة العبد أو غلته أو سكنى الدار وغلتها تجوز عندنا وعلى قول بن أبي ليلى لا يجوز شيء من ذلك مؤقتا ولا غير مؤقت لأن الموصي يملك له بإيجابه وذلك لا يصح منه فيما ليس بمملوك له والمنفعة والغلة التي تحدث بعد موته ليست بمملوكة له وبإيجابه لا يتناول المنفعة والغلة التي تحدث في حال حياته فيبطل وصيته بها ولكنا نقول المنفعة تحتمل التمليك ببدل وبغير بدل في حال الحياة فيجعل التمليك بعد الموت أيضا وهذا لأن الموصي تبقى العين على ملكه حتى يجعله مشغولا بتصرفه موقوفا على حاجته فإنما يحدث المنفعة على ملكه فإذا ثبت هذا في المنفعة فكذلك في الغلة لأنها بدل المنفعة والوصية بخلاف الميراث فالإرث لا يجري في الخدمة بدون الرقبة لأن الوراثة خلافة وتفسيره أن يقوم الوارث مقام المورث فيما كان ملكا للمورث وهذا لا يتصور إلا فيما يبقى وقتين والمنفعة لا تبقى وقتين فأما الوصية إيجاب ملك بالعقد بمنزلة الإجارة والإعارة فيما أبقى فإن أوصى بخدمة عبده سنة وليس له مال غيره فإن العبد يخدم الورثة يومين والموصى له يوما حتى يستكمل الموصى له سنة لأن الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث وفي زمان الخدمة تكون يد الورثة مقصورة عن العبد فلا يمكن قصر يدهم عن جميع المال بسبب الوصية والعبد لا يحتمل القسمة في نفسه فتكون القسمة بطريق المهاياة في الخدمة وحق الورثة في سهمين وحق الموصى له في سهم فيخدمهم يومين والموصى له يوما حتى يستكمل الموصى له سنة وصارت الوصية بالخدمة ما لم يستوف الموصى له كمال حقه بمنزلة الوصية بالرقبة.
ولو أوصى بسكنى دار سنة ولا مال له غيرها فإنه يسكن ثلثها سنة ويسكن الورثة الثلثين لأن الدار يمكن قسمتها بالأجزاء وهذا النوع من القسمة أقرب إلى المعادلة لأن كل واحد منهما يستوفي نصيبه من السكنى في الوقت الذي يستوفيه صاحبه بخلاف ما إذا تهايآ عن الزمان فإن هناك يسبق أحدهما بالاستيفاء فلا يصار إليه إلا عند تعذر قسمة السكنى بالأجزاء ولكن ليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي الدار إلا في رواية عن أبي يوسف يقول إن ذلك حقهم على الخلوص فينفذ بيعهم فيه ولكنا نقول حق الموصى له بالسكنى ثابت في سكنى جميعها بدليل أنه لو ظهر للميت مال آخر تخرج الدار من ثلثه كان هو أحق بسكنى جميعها.
ولو خرب ما في يده من الدار كان له أن يزاحم الورثة فيما في أيديهم وفي البيع إبطال حقه فكانوا ممنوعين من ذلك ولو أوصى له بغلة عبده سنة وليس له مال غيره كان له ثلث غلته تلك السنة لأن الغلة عين مال محتمل القسمة فإنما تنفذ الوصية في مقدار الثلث من

 

ج / 27 ص -165-    الغلة في سنة واحدة بخلاف الخدمة فإنها لا تحتمل القسمة بالأجزاء فللموصى له أن يستوفي الخدمة بطريق المهايأة إلى أن يكون ما يستوفيه خدمة سنة كاملة كما أوصى لزيد وكذلك إن أوصى له به وكذلك إن أوصى له بغلة داره فهذا وغلة العبد سواء لأن الغلة في الموضعين جميعا تحتمل القسمة فلا يسلم للموصى له إلا ثلث الغلة في سنة واحدة.
وإن أراد الموصى له قسمة الدار بينه وبين الورثة ليكون هو الذي يستغل ثلثها لم يكن له ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف فإنه يقول الموصي بمنزلة الشريك فيمايجب تنفيذ الوصية فيه فكما أن للشريك أن يطالب بالقسمة ليكون هو الذي يستغل نصيبه فكذلك الموصى له بالغلة ها هنا ولكنا نقول القسمة تبنى على ثبوت حق الموصى له فيما تلاقيه القسمة ولا حق له في عين الدار إنما حقه في الغلة وقسمة الدار لا تكون قسمة للغلة فلا يكون له أن يطالب بها وليس للموصى له بسكنى الدار وخدمة العبد أن يؤاجرهما عندنا وقال الشافعي له ذلك لأن تمليك المنفعة بعقد مضاف إلى ما بعد الموت كتمليك المنفعة في حال الحياة.
ولو تملك المنفعة بالاستئجار في حال الحياة ملك الإجارة من غيره فكذلك إذا تملك المنفعة بالوصية بعد الموت وهذا لأن المنفعة معتبرة بالعين والعين سواء تملكها ببدل أو بغير بدل تملك الاعتياض عنه مع غيره فكذلك المنفعة بخلاف المستعير فإنه لا يتملك المنفعة عندي ولكن الإعارة في حكم الإباحة ولهذا قلت المستعير لا يعير من غيره والدليل على الفرق أن الإعارة لا يتعلق بها اللزوم والوصية بالمنفعة يتعلق بها اللزوم كالوصية بالعين وحجتنا في ذلك أن الموصى له بملك المنفعة يتعلق بها اللزوم كالوصية بالعين وحجتنا في ذلك أن الموصى له ملك المنفعة بغير عوض فلا يملك تمليكها من الغير بعوض كالمستعير وهذا لأن المستعير مالك للمنفعة فإن التمليك في حال الحياة أقرب إلى الجواز منه بعد الموت.
وإذا كانت المنفعة تحتمل التمليك بعد الموت بغير عوض فلأن تحتمل ذلك في حال الحياة أولى وتصح بلفظ التمليك حتى لو قال ملكتك منفعة هذه الدار كانت عارية صحيحة وإنما لا يتعلق بهذا اللفظ اللزوم لكونها متعرية عن البدل وكذلك الوصية إلا أن غير الموصي لا يتمكن من الرجوع بعد موت الموصى والموصى مات فلا يتصور رجوعه فيه وهذا لأن المنفعة ليست بمال وفي تمليكها بمال إحداث معنى المالية فيها فإنما تثبت هذه الولاية فيها لمن يملكها تبعا لملك الرقبة أو لمن يملكها بعقد المعاوضة حتى يكون مملكا لها بالصفة التي تملكها فأما إذا تملكها مقصودة بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكا أكثر مما يملك معنى وليس له أن يخرج العبد من الكوفة إلا أن يكون الموصى له وأهله في غير الكوفة فيخرجه إلى أهله للخدمة هنالك إذا كان يخرج من الثلث لأن الوصية تنفذ على ما يعرف من مقصود الموصي.
فإذا كان الموصي وأهله في موضع آخر عرفنا أن المقصود له أن يحمل العبد إلى أهله

 

ج / 27 ص -166-    ليخدمهم وإذا كانوا في بصرة فمقصوده إلى تمكنه من خدمة العبد من غير أن يلزمه مشقة السفر فلا يكون له أن يخرجه من بلدته وقد بينا هذه المسألة في كتاب الصلح وما فيها من اختلاف الروايات.
ولو أوصى له بخدمة عبده وللآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فالرقبة لصاحب الرقبة والخدمة كلها لصاحب الخدمة لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما وما أوجبه لكل واحد منهما يحتمل الوصية بانفراده فبعطف إحدى الوصيتين على الأخرى لا يتحقق بينهما مشاركة فيما أوجبه لكل واحد منهما ثم لما صحت الوصية لصاحب الخدمة فلو لم يوص في الرقبة بشيء لصارت الرقبة ميراثا للورثة مع كون الخدمة للموصى له فكذلك إذا أوصى بالرقبة لإنسان آخر لأن الوصية قياس الميراث من حيث أن الملك يثبت بها بعد الموت.
ألا ترى أنه لو أوصى بأمة لرجل وبما في بطنها لآخر وهو يخرج من الثلث كان ذلك كما أوصى ولا شيء لصاحب الأمة في الولد.
ولو أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصه كان كما أوصى ولا شيء لصاحب الخاتم من الفص ولو قال هذه القوصرة لفلان وما فيها من الثمر لفلان كان كما أوصى فأما إذا فصل أحد الإيجابين عن الآخر في هذه المسألة فعلى قول أبي يوسف الجواب كذلك وعلى قول محمد تكون الأمة للموصى له بها والولد بينهما نصفان وكذلك الخاتم والفص والقوصرة والثمر.
وجه قول أبي يوسف: أن بإيجابه في الكلام الثاني يبين أن مراده من الكلام الأول إيجاب الأمة للموصى له بها دون الولد وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا لأن الوصية لا تلزمه شيئا في حال فيكون حالة البيان الموصول فيه والمفصول سواء كما في الوصية بالرقبة والخدمة فإن هناك المفصول والموصول سواء في الحكم ومحمد يقول اسم الخاتم يتناول الحلقة والفص جميعا فاسم الجارية يتناولها وما في بطنها وفي القوصرة كذلك ومن أصلنا أن العام موجبة ثبوت الحكم في كل ما يتناوله على سبيل الإحاطة بمنزلة الخاص فاجتمع في الفص الوصية لكل واحد منهما بإيجاب على حدة فيجعل الفص بينهما نصفين ولا يكون إيجاب الوصية للثاني فيه دليل الرجوع عن الأول كما لو أوصى بالخاتم للثاني بخلاف الخدمة مع الرقبة فاسم الرقبة لا يتناول الخدمة ولكن الموصى له بالرقبة إنما يستخدمها لأن المنفعة تحدث على ملكه ولا حق للغير فيه فإذا أوجب الخدمة لغيره لا يبقى للموصى له بالرقبة حق بخلاف ما إذا كان الكلام موصولا لأن ذلك بمنزلة دليل التخصيص أو الاستثناء فتبين أنه أوجب لصاحب الخاتم الحلقة خاصة دون الفص فإذا جنى العبد الموصى له بخدمته ورقبته جناية فالفداء على صاحب الخدمة لأن فيما هو المقصود بالعبد وهو الاستخدام هو المختص به كالمالك وبالفداء تسلم الخدمة له ولا يسلم لصاحب الرقبة شيء في الحال فإذا فداه خدمه على حاله لأنه طهره عن الجناية.

 

ج / 27 ص -167-    وإن مات صاحب الخدمة انتقضت الوصية لأن الحق للموصى له في الخدمة لا يحتمل التوريث لأنها لا تبقى وقتين فلا يتصور أن تكون مملوكة للمورث ثم للوارث فتبطل الوصية بموته عندنا خلافا للشافعي فإنه يرى توريث المنفعة وقد بينا هذا في الإجارات ثم يقال لصاحب الرقبة أد إلى ورثته ذلك الفداء لأنه ظهر أن صاحب الرقبة هو المنتفع بذلك الفداء فإن خدمة العبد تسلم له وقد كان الموصى له مضطرا إلى ذلك الفداء فلا يكون متبرعا فيه فإن أبى أن يرد الفداء على ورثته بيع فيه العبد وكان بمنزلة الدين في عتقه لأنه إنما جنى العبد بذلك الفداء ولولاه لكانت نفسه مستحقة بالجناية.
وإذا أبى صاحب الخدمة في أول الأمر أن يفدي لم يجز على ذلك لأنه لا يملك شيئا من الرقبة وقد رضي ببطلان حقه في الخدمة حين أبى أن يفدي ويقال لصاحب الرقبة ادفعه أو افده فأيهما صنع بطلت وصية صاحب الخدمة لأنه إن دفعه فقد فات محل وصيته وإن فداه فإنما يفديه بما أسلم له من خدمته والموصى له حين أبى أن يفديه فقد رضي بصيرورة العبد مستهلكا فيما لحقه من الجناية والغرم.
ولو قتل رجل العبد خطأ ولم يجن العبد فعلى عاقلة القاتل قيمته يشتري بهاعند عدم صاحب الخدمة لأن القيمة قائمة مقام الرقبة وقد كانت الرقبة للموصى له بها مشغولة بحق الموصى له بالخدمة فيها فكذلك ما يقوم مقامها ولا يقال حق الموصى له بالخدمة في المنفعة والمنفعة لا تتقوم بالإتلاف لأن الوصية بالخدمة وإن تعلقت بالمنفعة فالاستحقاق بها يتعدى إلى العين ولهذا يعتبر خروج العين من الثلث والقيمة بدل العين فيشتري بها ما يقوم مقام العين الأولى ويثبت فيه حق صاحب الخدمة كما كان ثابتا في الأولى.
وإن كان القتل عمدا فلا قصاص فيه إلا أن يجتمع على ذلك صاحب الرقبة وصاحب الخدمة
أما صاحب الرقبة فلأنه هو المالك للعبد وولاية استيفاء القصاص تثبت بملك الرقبة وأما صاحب الخدمة فلأن في استيفاء القصاص إبطال حقه في الخدمة وهو حق لازم له فلا يجوز إبطاله بغير رضاه فإن اختلفا فيه تعذر استيفاء القصاص فوجب قيمته في مال القاتل يشتري بها عبدا فيخدمه مكانه لأن في استيفاء المال مراعاة الحقين.
ولو فقأ رجل عينيه أو قطع يده دفع العبد وأخذت قيمته صحيحا لأن هذه الجناية استهلاك له حكما فيعتبر باستهلاكه حقيقة فيوجب قيمته صحيحا من الجاني بعد تسليم الجثة إليه ويشتري بها عبدا مكانه ولو قطعت يده أو فقئت عينه أو شج موضحة فأدى القاتل أرش ذلك فإن كانت الجناية تنقص الخدمة اشترى بالأرش عبدا آخر يخدم صاحب الخدمة مع العبد الأول لأن الأرش بدل الفائت بالجناية وقد كان حق الموصى له بالخدمة ثابتا في ذلك الجزء ولما كان فواته ينقص الخدمة فيثبت في بدله أيضا أو يباع العبد فيضم ثمنه أيضا إلى ذلك الأرش ويشتري بهما عبد ليكون قائما مقام الأول ولكن هذا إذا اتفقا عليه فإن اختلفا في ذلك لم يبع العبد لأن رقبته لأحدهما وخدمته للآخر فلا يجوز بيعه إلا برضاهما ولكن

 

ج / 27 ص -168-    يشتري بالأرش عبد يخدمه معه فإن لم يوجد بالأرش عبد وقف الأرش حتى يصطلحا عليه فإن اصطلحا على أن يقتسماه نصفين أجزت ذلك بينهما لأن الحق لا يعدوهما فإذا تراضيا فيه على شيء كان لهما ذلك ولا يكون ما يستوفيه الموصى له بالخدمة من نصف الأرش بدلا عن نقصان الخدمة لأنه لا يملك إلا الاعتياض عن الخدمة ولكن يكون إسقاطا لحقه ذلك بالمال الذي يستوفيه بمنزلة ما لو كان العبد قائما على حاله فصالح الموصى له بالرقبة على مال يستوفيه منه ليسلم العبد إليه فإن كانت الجناية لا تنقص الخدمة فالأرش لصاحب الرقبة لأنه بدل جزء فات من ملكه وظهر أنه لم يكن لصاحب الخدمة حق في ذلك الجزء حين لم تنتقص الخدمة بفواته وكل مال وهب للعبد أو تصدق به عليه أو اكتسبه فهو لصاحب الرقبة لأن الكسب يملك بملك الرقبة وهو المختص بملك الرقبة.
ولو كان مكان العبد أمة كان ما ولدت من ولد لصاحب الرقبة لأنه تولد من عينها وعينها ملك صاحب الرقبة ونفقة العبد وكسوته على صاحب الخدمة لأنه إنما يتمكن من استخدامه إذا أنفق عليه فإن العبد لا يقوى على الخدمة إلا بذلك وهو أحق بخدمته فيلزمه نفقته كالمستعير فإنه ينفق على المستعار وينتفع به وإن أبى أن ينفق رده على صاحبه فيلزمه نفقته فهذا كذلك أيضا فإن كان أوصى بخدمة عبد صغير وبرقبته لآخر وهو يخرج من الثلث فنفقته على صاحب الرقبة حتى يدرك الخدمة فإذا خدم صارت نفقته على صاحب الخدمة لأن بالنفقة عليه في حالة الصغر تنمو العين والمنفعة في ذلك لصاحب الرقبة وإذا صار بحيث يخدم فهو بالنفقة يتقوى على الخدمة والمنفعة في ذلك لصاحب الخدمة فلهذا كانت النفقة عليه ثم نفقة المملوك على المالك باعتبار الأصل إلا أن يصير معدا لانتفاع الغير به فحينئذ تكون النفقة على المنتفع كالمولى إذا زوج أمته ولم يبؤها بيتا كانت نفقتها على المولى فإن بوأها مع الزوج بيتا كانت نفقتها على الزوج.
ولو أوصى بدابة لرجل وبظهرها ومنفعتها لآخر كانت مثل العبد سواء لاستوائهما في المعنى وإذا كان لرجل ثلاثة أعبد فأوصى برقبة أحدهم لرجل وبخدمة آخر لرجل آخر ولا مال له غيرهم وقيمة الموصى بخدمته خمسمائة درهم وقيمة الموصى برقبته ثلاثمائة وقيمة الباقي ألف فالثلث بينهما على ثمانية أسهم خمسة لصاحب الخدمة في خدمة العبد الموصي بخدمته فيكون له من خدمته ثلاثة أيام وللورثة يوم ويكون للآخر من رقبة عبده مائتان وخمسة وعشرون لأن الوصية بالخدمة في الاعتبار من الثلث والمضاربة بها بمنزلة الوصية بالرقبة وجملة المال ألف وثمانمائة فوصية كل واحد منهما كانت بأقل من الثلث فيضرب كل واحد منهما بجميع وصيته وقيمة العبد الموصى بخدمته خمسمائة درهم فيضرب صاحبها في الثلث بذلك وصاحب الرقبة بثلث ماله فإذا جعلت كل مائة سهما كان الثلث بينهما على ثمانية ثم ثلث المال بقدر ثلاثة أرباع الوصيتين لأن ثلث المال ستمائة ومبلغ الوصيتين ثمانمائة ويقدر لكل واحد منهما ثلاثة أرباع وصيته في الحال فيجتمع في العبد الموصى بخدمته حق

 

ج / 27 ص -169-    الورثة وحق الموصى له بخدمته حقه في ثلاثة أرباعه وحق الورثة في الربع فلهذا قال يخدم الموصى له بخدمته ثلاثة أيام والورثة يوما ولصاحب الرقبة ثلاثة أرباع رقبة عبده وذلك مائتان وخمسة وعشرون فإذا مات صاحب الخدمة استكمل صاحب الرقبة عبده كله لأن الوصية بالخدمة قد بطلت وجميع العبد للآخر خارج من الثلث وزيادة وكذلك إن مات العبد الذي كان يخدم لأن بموته بطلت الوصية بالخدمة وصار الميت كأن لم يكن فيبقى السالم للورثة عند التساوي ألف درهم فيمكن تنفيذ الوصية في عبد يساوي ثلاثمائة درهم لأن ذلك دون الثلث.
ولو كانت قيمة العبد سواء كان لصاحب الخدمة نصف خدمة العبد ولصاحب الرقبة نصف رقبة الآخر لأن حقهما في الثلث سواء والثلث بقدر رقبة واحدة فينفذ لكل واحد منهما الوصية في نصف الثلث مما أوصى له.
ولو أوصى بالعبيد كلهم لصاحب الرقبة وبخدمة أحدهم لصاحب الخدمة لم يضرب صاحب الرقاب إلا بقيمة واحد منهم ويضرب الآخر بقيمة الآخر فيكون هذا كالباب الذي قبله وهوقول أبي حنيفة بناء على أن الوصية بالعين فيما زاد على الثلث عند عدم الإجازة من الورثة تبطل ضربا واستحقاقا.
ولو كانوا يخرجون من الثلث كان لصاحب الرقبة ما أوصي له به من الرقاب ولصاحب الخدمة ما أوصي له به لاتساع محل الوصية ويجتمع في العبد الواحد الوصية برقبته وبخدمته فإذا مات صاحب الخدمة رجع ذلك إلى صاحب الرقبة ولو لم يكن له مال غيرهم فأوصى بثلث كل عبد منهم لفلان وأوصى بخدمة أحدهم بعينه لفلان فإنه يقسم الثلث بينهما على خمسة لصاحب الخدمة ثلاثة أخماس الثلث في خدمة ذلك العبد وللآخر خمسا الثلث في العبدين الباقيين في كل واحد منهم خمس رقبة لأن حق الموصى له بالخدمة في العبد الموصي بخدمته تقدم على حق الآخر.
ألا ترى: أنه لو كان العبد واحدا فأوصى بخدمته لرجل وبرقبته لآخر لا تثبت المزاحمة لصاحب الرقبة مع صاحب الخدمة فيه فكذلك ها هنا الموصى له بثلث كل عبد لا يزاحم الموصى له بالخدمة في الثلث بشيء من وصيته في هذا العبد وإنما يزاحمه وصيته في العبدين الآخرين وقد أوصى له بثلث كل واحد منهما فإذا جعلنا كل ثلث سهما كان حقه في سهمين وحق الموصى له بالخدمة في ثلاثة فلهذا كان الثلث بينهم على خمسة والثلث بقدر رقبة واحدة فللموصى له بالخدمة ثلاثة أخماس ذلك كله في العبد الموصى بخدمته واجتمع فيه حقه وحق الورثة وذلك في خمسة فلهذا كانت المهاباة في الخدمة على خمسة أيام يخدم الورثة يومين والموصى له ثلاثة أيام ويكون للآخر خمسا الثلث في العبدين الباقيين فيسلم له من كل واحد منهما خمس الرقبة.
ولو كان أوصى بثلث ماله لصاحب الرقاب وبخدمة أحدهم بعينه لصاحب الخدمة ولا

 

ج / 27 ص -170-    مال له غيرهم قسم الثلث بينهما نصفين لأن الموصى له بثلث مال يزاحم الموصى له بالخدمة في الثلث بوصيته في العبد الموصى بخدمته.
ألا ترى: أنه لو كان العبد واحدا فأوصى بخدمته لإنسان وبثلث ماله لآخر تثبت المزاحمة بينهما في العبد بوصيتهما وهذا لأن الخدمة تتناولها الوصية بثلث المال كما تتناول الرقبة لأن ذلك من ماله بخلاف الأول فإن الوصية بالرقبة لا تتناول الخدمة بحال لأن الخدمة غير الرقبة إذا ثبت هذا فنقول حقهم في الثلث على السواء فيقسم الثلث بينهما نصفين فما أصاب صاحب الخدمة فهو في العبد الموصي بخدمته وذلك نصفه وما صاب صاحب الثلث وهو نصف العبد كان له والعبيد الثلاثة في كل عبد ثلث ذلك الثلث فيكون دون الخدمة في العبد الموصى بخدمته في كل ستة أيام يخدم الموصى له بالخدمة ثلاثة والورثة يومين والموصى له بالثلث يوما حتى يموت صاحب الخدمة فإذا مات بطلت وصيته فزالت مزاحمته فيكون الموصى له بثلث المال جميع وصيته وهو ثلث كل عبد من العبيد الثلاثة.
وإذا أوصي بخدمة عبده لرجل وبغلته لآخر وهو يخرج من الثلث فإنه يخدم صاحب الخدمة شهرا ويغل على صاحب الغلة شهرا لاستواء حقهما فيه إلا أنه في الخدمة جعل المناوبة بالأيام لتيسر ذلك وفي الاستغلال جعل النوبة بالشهور لأن استغلال العبد لا يكون عادة فيما دون الشهر ويتعذر استغلاله في كل نوبة إذا جعلت بالأيام وفي كل شهر طعامه على من له منفعته لأن الغرم مقابل بالغنم وبالنفقة يتوصل إلى الخدمة والعمل وكسوته عليهما نصفان لاستواء حقهما فيه وتعذر تجديد الكسوة في كل نوبة وإن جنى العبد جناية قيل لهما أفدياه لأن تمليكهما من استيفاء حقهما يكون بالفداء فإن أبيا ففداه الوارث بطلت وصيتهما لأنهما حين أبيا الفداء فقد رضيا بدفعه وصار في حكم المستهلك في حقهما بمنزلة ما لو دفع بجنايته.
و لو أوصى لرجل من غلة عبده كل شهر بدرهم وللآخر بثلث ماله ولا مال له غير العبد فثلث العبد بينهما نصفان في قول أبي حنيفة لأن الوصية بغلة العبد كالوصية برقبته في الاعتبار من الثلث فالموصى له بالغلة موصى له بجميع المال ومن أصل أبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم الإجازة تبطل في حق الضرب فلهذا قال الثلث بينهما نصفان فما أصاب صاحب الثلث فهو له وما أصاب صاحب الغلة استغل بحسب غلته وينفق عليه منها كل شهر درهم كما لو أوصى وإنما يحبس جميع تلك الغلة لجواز أن يمرض أو يتعطل فلا يعمل في بعض الشهور ويحتاج إلى الإنفاق عليه مما هو محبوس لحقه فإن مات وقد بقي منها شيء رد على صاحب الثلث ويرجع عليه أيضا مما يحبس على صاحب الغلة من رقبة العبد لأن وصيته بطلت بموته فإن حقه في بدل المنفعة وهي الغلة وقد بينا أن وارثه لا يخلفه فيما له من الحق في المنفعة فكذلك في بدلها وهذا لأنه لم يصر مملوكا له ولكن ثبت له حق يستحق أن لو بقي حيا ومثل هذا لا يورث.

 

ج / 27 ص -171-    وإذا بطلت وصيته وزالت مزاحمته سلم جميع الثلث لصاحب الثلث والمحبوس من الغلة بدل منفعة جزء من الثلث فيكون للموصى له بالثلث.
ولو أوصى لرجل بغلة داره ولا مال له غيرها فاحتاجت الورثة إلى سكناها قسمت الدار أثلاثا ويكون للورثة ثلثاها واستغل ثلثها صاحب الغلة لأن الدار تحتمل القسمة وثلثاها خالص حق الورثة فيجب تمكينهم من صرف نصيبهم إلى حاجتهم وهو السكنى وإنما يكون ذلك بالقسمة.
ولو أوصى لرجل بغلة داره ولآخر بعبد ولآخر بثوب فإن ثلث مال الميت يقسم بينهم يضرب فيه كل واحد بما سمي له فما أصاب صاحب الدار كان له غلة ذلك لأن الموصى أوجبه له فيصرف إليه إلى أن يموت صاحب الغلة فحينئذ تبطل وصيته ويقسم الثلث بينهم وبين من بقي من أهل الوصية لزوال مزاحمته إلا أن ها هنا إن كان حصل من الغلة شيء قبل موته فهو لورثته لأنه صار مالكا لما حصل من الغلة حتى يتمكن من استيفائها في الحال وهو عين فيخلفه وارثه فيها.
ولو أوصى بغلة داره وعبده في المساكين جاز ولا يجوز ذلك في السكنى والخدمة إلا لإنسان معلوم لأن الغلة عين مال يتصدق به وهذا وصية بالتصدق على المساكين فأما السكنى والخدمة لا يتصدق بهما بل تعار العين لأجلهما والإعارة لا تكون إلا من إنسان معلوم ثم المساكين محتاجون إلى ما يسد خلتهم ويحصل ذلك لهم بالغلة وقل ما يحتاجون إلى الخدمة والسكنى وقبل ينبغي أن يجوزا على قياس من يجيز الوقف فإن هذا في معنى وقف على المساكين.
ومن أوصى بظهر دابته لإنسان معلوم يركبها في حاجته ما عاش فهو جائز لأنه وصية بالإعارة منه ولو أوصى بظهرها للمساكين أو في سبيل الله تعالى كان باطلا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد هو جائز وهذا لأن من أصل أبي حنيفة أن الوقف لا يتعلق به اللزوم وإن وقف المنقول لا يجوز وإن كان مضافا إلى ما بعد الموت وهو قول أبي يوسف فأما عند محمد وقف المنقول جائز فيما هو متعارف بين ذلك في السير الكبير وروي فيه أن بن عمر رضي الله عنه مات عن ثلاثمائة فرس ونيف ومائتي بعير مكتوب على أفخاذها حبس لله تعالى فجوز ذلك استحسانا ولو لم يوص به لإنسان بعينه وهما أبطلا ذلك إلا أن يوصي به لإنسان بعينه فيجوز حينئذ لحاجته.
ولو قال في صحته: غلة داري هذه أو عبدي هذا صدقة في المساكين فإن ردت بعد موتي فهي وصية من ثلثي تباع ويتصدق بثمنها جاز ذلك لأنا قد بينا أن بن أبي ليلى لا يجوز الوصية بالغلة أصلا فلا يأمن الموصي من أن يرفع ورثته إلى قاض يعتقد قوله فيبطل وصيته فيحرز عن ذلك بما ذكر من الوصية الثانية وعلقها برد الأولى والوصية تحتمل التعليق وهذا التعليق فيه فائدة إبقاء الأولى لأن الورثة لا يحتالون في إبطال الأولى إذا علموا أنهم لا

 

ج / 27 ص -172-    يستفيدون بذلك شيئا ثم المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فإذا ردت الأولى وجب تنفيذ الوصية الثانية فيباع إذا كان يخرج من ثلثه ويتصدق بثمنه.
ولو أوصى بداره أو بأرضه فجعلها حبسا على الآخر والآخر من ورثته لا يباع أبطلت ذلك وجعلتها ميراثا للحديث لا حبس عن فرائض الله تعالى ولأن هذا في معنى الوصية للوارث ولأنه إن جعل في معنى الوقف فالوقف على بعض ورثته بعد موته لا يجوز والتأييد من شرط الوقف ولم يوجد ذلك.
ولو أوصى بغلة داره لإنسان وبسكناها لآخر وبرقبتها لآخر وهي الثلث فهدمها رجل بعد موت الموصي غرم قيمة ما هدم من بنائها وتبنى مساكن كما كانت فتؤجر ويأخذ غلتها صاحب الغلة ويسكنها الآخر لأن حقه كان تعلق بالبناء الأول فيحول إلى البدل وهو القيمة وطريق إبقاء حقهما منه أن تبنى مساكن كما كانت ليكون الثاني قائما مقام الأول.
وكذلك البستان إذا أوصى بغلته فقطع رجل نخله أو شجره والحاصل أن الوصية بغلة البستان تتناول الثمار بغلة الدار والعبد يتناول الأجرة وكذلك بغلة الأرض تتناول الأجرة والحصة من الخارج إذا وقعت مزارعة وبغلة الأمة يتناول الأجرة دون الولد حتى إنها لو ولدت لا يكون الولد للموصى له بالغلة وإن ما تولد من عينها كالثمار ولكن يستحق بمطلق الاسم ما يطلق عليه اسم الغلة في كل شيء عادة واسم الغلة يطلق على الثمار ولا يطلق على أولادها.
ولو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بغلة داره وقيمة الدار ألف وله ألفان سوى ذلك فلصاحب الغلة نصف غلة الدار لأنه موصى له بالثلث معنى كالموصى له الآخر بالثلث بينهما نصفان نصفه لصاحب الغلة كله في الدار فلهذا كان له نصف غلة الدار ولصاحب الثلث نصف الثلث فيما بقي من المال والدار إن شئت قلت خمس ذلك في الدار وأربعة أخماسة في المال لأنه شريك الورثة فيقاسم الورثة بحسب المال والمال المقسوم بينه وبين الورثة نصف الدار وقيمته خمسمائة وألفان فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كانت أخماسا وإن شئت قلت ثلثا ذلك في المال وثلثه في الدار لأن مزاحمة الموصى له بالغلة قد انعدمت في نصف الدار وحق الموصى له بالثلث في ثلث الدار بدليل أنه لولا وصية الآخر لكان يسلم له ثلث الدار فإذا فرغ من حق الآخر مقدار حقه وزيادة أخذ جميع حصته من الدار وهو الثلث مما يستوفيه فإذا مات صاحب الغلة فلصاحب الثلث ثلث الدار والمال لأن وصية صاحب الغلة قد بطلت فإن استحقت الدار بطلت وصية صاحب الغلة لأنها كانت وصية بالعين فلا تبقى بعد استحقاق العين وإن لم تستحق ولكنها انهدمت قيل لصاحب الغلة بن نصيبك منها ويبني صاحب الثلث نصيبه والورثة نصيبهم ليتمكن كل واحد منهم من الامتناع بنصيبهم وأيهم أبى أن يبني لم يجبر على ذلك ولم يمنع الآخر من أن يبني ما يصيبه من ذلك ويؤاجره ويسكنه

 

ج / 27 ص -173-    لأن الأبى منهما قصد الإضرار بنفسه وبغيره وله أن يلزم الضرر في حق نفسه وليس له أن يلزم الضرر غيره.
ولو أوصى لرجل بسكنى داره أو بغلتها فادعاها رجل وأقام البينة أنها له فشهد الموصى له بالغلة أو السكنى أنه أقر أنها للميت لم تجز شهادته لأنه يجر إلى نفسه بذلك نفعا وهو أنه يمهد محل حقه وكذلك لو شهد للميت بدين أو بمال أو بقتل خطأ فشهادته باطلة لأنه له في مال الميت نصيبا وهو متهم في هذه الشهادة فإن مال الميت كلما كثر كان خيرا له وفي وصيته.
ألا ترى أنه لو ظهر على الميت دين كان يقضى من المشهود به ويسلم له وصيته فلهذا لا تقبل شهادته والله أعلم بالصواب.