المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 30 ص -180-    كتاب الحيل
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء: اختلف الناس في كتاب الحيل أنه من تصنيف محمد رحمه الله أم لا كان أبو سليمان الجوزجاني ينكر ذلك ويقول من قال أن محمدا رحمه الله صنف كتابا سماه الحيل فلا تصدقه وما في أيدي الناس فإنما جمعه وراقو بغداد وقال إن الجهال ينسبون علماءنا رحمهم الله إلى ذلك على سبيل التعيير فكيف يظن بمحمد رحمه الله أنه سمى شيئا من تصانيفه بهذا الاسم ليكون ذلك عونا للجهال على ما يتقولون.
وأما أبو حفص رحمه الله كان يقول هو من تصنيف محمد رحمه الله وكان يروي عنه ذلك وهو الأصح فإن الحيل في الأحكام المخرجة عن الإمام جائزة عند جمهور العلماء وإنما كره ذلك بعض المتعسفين لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسنة والدليل على جوازه من الكتاب قوله تعالى:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا تعليم المخرج لأيوب عليه السلام عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة فإنه حين قالت له لو ذبحت عناقا باسم الشيطان في قصة طويلة أوردها أهل التفسير رحمهم الله وقال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 70-76] وذلك منه حيلة وكان هذا حيلة لامساك أخيه عنده حينئذ ليوقف إخوته على مقصوده.
وقال جل جلاله حكاية عن موسى عليه السلام:
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: 69] ولم يقل على ذلك لأنه قيد سلامته بالاستثناء وهو مخرج صحيح قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23].
وأما السنة فما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة:
"فلعلنا أمرناهم بذلك" فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك قال عليه السلام: "الحرب خدعة" وكان ذلك منه اكتساب حيلة ومخرج من الإثم بتقييد الكلام بلعل ولما أتاه رجل وأخبره أنه حلف بطلاق امرأته ثلاثا أن لا يكلم أخاه قال له: "طلقها واحدة فإذا انقضت عدتها فكلم أخاك ثم تزوجها" وهذا تعليم الحيلة والآثار فيه كثيرة من تأمل أحكام الشرع وجد المعاملات كلها بهذه الصفة فإن من أحب أمرأة إذا سأل فقال ما الحيلة لي حتى أصل إليها يقال له تزوجها وإذا هوى جارية فقال ما الحيلة لي حتى أصل إليها يقال له اشترها وإذا كره صحبة امرأته فقال ما الحيلة لي في التخلص منها قيل له طلقها وبعد ما طلقها إذا ندم وسأل الحيلة في ذلك قيل له راجعها وبعد ما طلقها ثلاثا إذا تابت من سوء

 

ج / 30 ص -181-    خلقها وطلبا حيلة قيل لهما الحيلة في ذلك أن تتزوج بزوج أخر ويدخل بها فمن كره الحيل في الأحكام فإنما يكره في الحقيقة أحكام الشرع وإنما يقع مثل هذه الأشياء من قلة التأمل فالحاصل أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق لرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه أو في حق حتى يدخل فيه شبهة فما كان على هذا السبيل فهو مكروه وما كان على السبيل الذي قلنا أولا فلا بأس به لأن الله تعالى قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ففي النوع الأول معنى التعاون على البر والتقوى وفي النوع الثاني معنى التعاون على الإثم والعدوان إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بحديث عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آية من كتاب الله تعالى فقال عليه السلام للسائل: "لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بها" فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخرج إحدى رجليه من المسجد أخبره بالآية قبل أن يخرج الرجل الأخرى فأهل الحديث رحمهم الله يروون هذا الحديث على وجه آخر فإنهم يروون عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يصلي في المسجد إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فلما فرغ من صلاته جاء فقال عليه السلام: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك أما تدري قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] قال: كنت في الصلاة يا رسول الله عليك السلام، فقال عليه السلام: "ألا أنبئك بسورة أنزلت علي ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها؟" فقلت: نعم فقال عليه السلام: "لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بها" ثم شغله وفد عني فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج جعلت أمشي معه وأقول في نفسي لعله نسي يمينه، فلما أخرج إحدى رجليه فقلت: السورة التي وعدتني يا رسول الله فقال عليه السلام: "ماذا تقرأ في صلاتك؟" قلت: أم القرآن قال عليه السلام: "نعم إنها هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها" وفائدة الحديث أنه عليه السلام أخبره بعد إخراج إحدى الرجلين للتحرز عن خلف الوعد فإن الوعد من الأنبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم وللتحرز عن الحنث على ما أشار إليه في حديث أبي رضي الله عنه من قوله لعله نسى يمينه ففيه إشارة إلى أنه كان حلف له وفيه دليل على أنه لا يصير خارجا بإخراج إحدى الرجلين ولا داخلا بإدخال إحدى الرجلين ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله من حلف على زوجته أن لا تخرج من الدار فأخرجت إحدى رجليها لم يحنث في يمينه وهذا لأن الخروج انتقال من الداخل إلى الخارج ولا يحصل ذلك إلا بإخراج القدمين وقد بينا وجوه هذه المسألة في كتاب الإيمان.
ثم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفضيل آية أو سورة على غيرها هو الثواب عند التلاوة فإن القرآن كله كلام الله تعالى غير محدث ولا مخلوق ولا تفاوت بين السور والآي في هذا ولكن يجوز أن يقال أن القارئ ينال الثواب على قراءة سورة ما لا يناله على قراءة سورة أخرى بيانه أنه بقراءة سورة الإخلاص يستحق من الثواب ما لا يستحق بقراءة تبت من حيث

 

ج / 30 ص -182-    أنه في قراءة سورة الإخلاص قراءة القرآن والإقرار بوحدانية الله تعالى والثناء على الله تعالى بما هو أهله وفي قراءة سورة تبت قراءة القرآن ولكن ليس فيها ما بينا من المعاني الآخر.
وما نقل في هذا الباب من الآثار من نحو ما روى إن من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات فكأنما ختم القرآن ومن قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن تأويله ما بينا وأيد ما قلنا اتفاق العلماء رحمهم الله على تعيين الفاتحة للقراءة في كل صلاة عند بعضهم واجبا وعند بعضهم فرضا وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال من معاريض الكلام مايغنى المسلم عن الكذب وفيه دليل على أنه لا بأس باستعمال المعاريض للتحرز عن الكذب فإن الكذب حرام لا رخصة فيه.
والذي يروى حديث عقبة بن أبي معيط رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاثة مواضع في الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب تأويله في استعمال معاريض الرجال الكلام فإن صريح الكذب لا يحل هنا كما لا يحل في غيره من المواضع.
والذي يروي أن الخليل عليه السلام كذب ثلاث كذبات إن صح فتأويل هذا أنه ذكر كلاما عرض فيه ما خفي عن السامع مراده وأضمر في قلبه خلاف ما أظهره فأما الكذب المحض من جملة الكبائر والأنبياء عليهم السلام كانوا معصومين عن ذلك ومن جوز عليهم الكذب فقد أبطل الشرائع لأنه جعل ذلك باختيارهم وإذا جاز عليهم الكذب في خبر واحد جاز في جميع ما أخبروا به وبطلان هذا القول لا يخفى على ذي لب فعرفنا إن المراد استعمال المعاريض.
وقال ابن عباس: ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم فإنما يريد به أن بمعاريض الكلام يتخلص المرء من الإثم ويحصل مقصوده فهو خير من حمر النعم والأصل في جواز المعاريض قوله تعالى:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] الآية فقد جوز الله تعالى المعاريض ونهى عن التصريح بالخطبة بقوله عز وجل: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة: 235].
ثم بيان استعمال المعاريض من أوجه:
أحدها: أن يقيد المتكلم كلامه بلعل وعسى كما قال عليه السلام:
"فلعنا أمرناهم بذلك" ولم يكن أمر به ولم يكن ذلك كذبا منه لتقييد كلامه بلعل.
والثاني: أنه يضمر في لفظه معنى سوى ما يظهره ويفهمه السامع من كلامه وبيانه فيما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتلك العجوز:
"أن الجنة لا يدخلها العجائز" فجعلت تبكي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة جرد مرد مكحلون" أخبرها بلفظ أضمر فيه سوى ما فهمت من كلامه فدل أن ذلك لا بأس به ومن ذلك ما روى عن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال خطب علي رضي الله عنه فقال والله ما قتلت عثمان ولا كرهت قتله وما أمرت ولا نهيت

 

ج / 30 ص -183-    فدخل عليه بعض من الله أعلم بحاله فقال له في ذلك قولا فلما كان في مقام آخر فقال من كان سائلي عن قتل عثمان رضي الله عنه فالله قتله وأنا معه قال بن سيرين رحمه الله هذه كلمة قرشية ذات وجوه أما قوله ماقتلت عثمان رضي الله عنه فهو صدق حقيقة ولا كرهت قتله أي كان قتله بقضاء الله تعالى ونال درجة الشهادة فما كرهت له هذه الدرجة وما كرهت قضاء الله وقدره وأما قوله فالله قتله وأنا معه مقتول أقتل كما قتل عثمان رضي الله عنه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يستشهد بقوله: "وإن أشقى الأولين والآخرين من خضب بدمك هذه من هذه" وأشار إلى عنقه ولحيته وقد كان علي رضي الله عنه ابتلى بصحبة قوم على همم متفرقة فقد كان يحتاج إلى أن يتكلم بمثل هذا الكلام الموجه.
ومنه ما يروى عن سويد بن عفلة أن عليا لما قتل الزنادفة نظر إلى الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين ماذا فنيت به الشيعة منذ اليوم أرأيت نظرك إلى الأرض ثم رفعك إلى السماء ثم قولك صدق الله ورسوله أشيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء رأيته فقال علي هل علي من بأس أن أنظر إلى الأرض فقلت لا فقال وهل علي من بأس أن أنظر إلى السماء فقلت لا فقال هل علي من بأس أن أقول صدق الله ورسوله فقلت لا فقال فإني رجل مكابد وإنما أشار إلى المعنى الذي بينا أنه يحتاج إلى الوقوف على ما يضمره كل فريق من أصحابه وكان يضع مثل هذا الكلام ويتكلم بكلام موجه لذلك ومنه ما روى أنه كان إذا دخله ريبة من كل فريق جعل يمسح جبينه ويقول ما كذبت ولا كدت يوهمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بحالهم فيظهرون له ما في باطنهم ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه قال والله لا أغسل شعري حتى أفتح مصر وأترك البصرة كجوف حمار ميت وأعرك أذن عمار عرك الأديم وأسوق العرب بعصاي فذكروا لابن مسعود رضي الله عنه ذلك فقال إن عليا يتكلم بكلام لا يصدر وها غرة هامته على مثل الطشت لا شعر عليها فأي شعر يغسله بهذه يتبين أن الكبار من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون معاريض الكلام في حوائجهم وكذلك من بعدهم من التابعين رحمهم الله على ما يحكى عن رجل قال كنت عند إبراهيم رحمه الله وامرأته تعاتبه في جاريته وبيده مروحة فقال أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال على ماذا شهدتم قلنا شهدنا على أنك جعلت الجارية لها فقال أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنماقلت لكم أشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة التي كنت أشير إليها وكانوا يعلمون غيرهم ذلك أيضا على ما ذكره في الكتاب عن إبراهيم رحمه الله في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا قال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله تعالى فقال أحلف وأعني مسجد حيك وإنما يحمل هذا على أن إبراهيم رحمه الله علم أن المدعي مبطل وإنما المدعي عليه بريء فعلمه الحيلة وهو أن يحلف بالمشي إلى بيت الله تعالى يعني مسجد حيه فإن المساجد كلها بيوت الله تعالى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، قال

 

ج / 30 ص -184-    عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، ولكن فيه بعض الشبهة فإنه إن كان الرجل بريأ عن الحق ما كان يلزمه شيء لو حلف بالمشي إلى بيت الله من غير هذه النية وإن لم يكن بريأ ما كان له أن يمنع الحق ولا كان يحل لإبراهيم أن يعلمه هذا ليمنع به الحق وما كان ينفعه هذه النية فإن الحالف إن كان ظالما فاليمين على نية من يستحلفه لا على نية الحالف ولا يعتبر بنيته على ما بينته في هذا النوع من الشبهة.
وعن إبراهيم، رحمه الله أن رجلا قال له أن فلانا أمرني أن آتى مكان كذا وأنا لا أقدر على ذلك فكيف الحيلة لي فقال قل والله لا أبصر إلا ما بصرني به غيري وفي رواية إلا ما سدد لي غيري يعني إلا ما بصرك ربك فيقع عند السامع أن في بصره ضعفا يمنعه من أن يأتيه في الوقت الذي يطلب منه فلا يستوجس بامتناعه وهو يضمر في نفسه معنى صحيحا فلا تكون يمينه كاذبة وبيانه فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من كمال العقل موابأة الناس فيما لا يأثم به" وذكر عن بن سيرين رحمه الله أنه قال كان رجل من باهلة عيونا فرأى بغلة لشريح رحمه الله فأعجبته فقال له شريح إما أنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام أي أن الله عز وجل هو الذي يقيمها بقدرته وقال الرجل أف أف وفي هذا الحديث زيادة فإن الرجل لما أبصر البغلة فأعجبته ربضت من ساعتها فقال شريح ماقال فلما قال الرجل أف أف قامت وفي هذا دليل أن العين حق وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين السوء ومنه يقال إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر فأراد شريح أن يرد عينه بأن يحقرها في عينه وقال ما قال وأضمر فيه معنى صحيحا وهو أن الله تعالى يقيمها بقدرته.
وذكر عن النزال بن سيدة قال جعل حذيفة يحلف لعثمان رضي الله عنهما على أشياء بالله ما قالها وقد سمعناه يقولها فقلنا له يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها فقال إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وإن حذيفة رضي الله عنه من كبار الصحابة وكان بينه وبين عثمان رضي الله عنه بعض المداراة فكان يستعمل معاريض الكلام فيما يخبره به ويحلف له عليه فلما أشكل على السامع سأله عن ذلك فقال إني أشتري ديني بعضه ببعض يعني أستعمل معاريض الكلام على سبيل المداراة أو كأنه كان يحلف ما قالها ويعني ما قالها في هذا المكان أو في شهر كذا أو يعني الذي فإن ما قد تكون بمعنى الذي فهذا ونحوه من باب استعمال المعاريض وبيانه فيما ذكر عن إبراهيم رحمه الله قال لي رجل أني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر منه فقال له إبراهيم والله إن الله ليعلم ما قلت لك من ذلك من شيء أي أضمر في قلبك الذي معناه إن الله ليعلم الذي قلت لك من حقك من شيء.
وعن عقبة بن غرار رحمه الله قال كنا نأتي إبراهيم رحمه الله وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لكم علم بمكاني ولا في أي موضع أنا وأعنوا أنكم لا تدرون في أي موضع أنا فيه
 

 

ج / 30 ص -185-    قاعد أو قائم فتكونون قد صدقتم وأتاه رجل في الديوان فقال إني اعترضت على دابة وقد نفقت وهم يريدون يحلفونني أنها الدابة التي اعترضت عليها فكيف أحلف فقال أركب دابة واعترض عليها على بطنك راكبا ثم أحلف لهم أنها الدابة التي اعترضت عليها فيفهمون الغرض وأنت تعني أعترضت عليها على بطنك.
ويحكى عن إبراهيم رحمه الله أنه كان استأذن عليه رجل وهو لا يريد أن يأذن له ركب رشادا وأراد فرس البخت وقال لجاريته: قولي أن الشيخ قد ركب وربما يقول لها اضربي قدمك على الأرض وقولي ليس الشيخ هنا أي تحت قدمي وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ومراده بهذا المبالغة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من حلف بغير الله فكفارته أن يقول: لا إله إلا الله" وقال عليه السلام: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت" فالحلف بغير الله منهى عنه سواء كان كاذبا أو صادقا وليس المراد الرخصة في الحلف بالله كاذبا فإن الكذب حرام من غير أن يؤكده باليمين فكيف يرخص فيه مع التأكيد باليمين وقد أوله بعضهم على أن الحالف بالله تعالى وإن كان كاذبا في خبره فهو معظم اسم الله تعالى في حلفه ويروون فيه حديثا عن رجل من بني إسرائيل عن رجل أنه حلف بالله الذي لا إله إلا هو وكان كاذبا في يمينه فنزل الوحي على نبي ذلك الزمان أنه غفر له ذلك بتوحيده ولكن الأول أصح.
وذكر عن إبراهيم، رحمه الله قال اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوما وإن كان ظالما فعلى نية المستحلف وبه نأخذ ويقول المظلوم يتمكن من دفع الظلم عن نفسه بما تيسر له شرعا في وإنما يحلف له ليدفع الظلم عن نفسه فتعتبر نيته في ذلك والظالم مأمور شرعا بالكف عن الظلم واتصال الحق إلى المستحق فلا تعتبر نيته في اليمين وإنما تعتبر نية المستحلف، وهذا لأن المدعي إذا كان محقا فاليمين مشروعة لحقه حتى يمتنع الظالم عن اليمين لحقه فيخرج من حقه أو يهلك إن حلف كاذبا كما أهلك حقه فيكون أهلاكا بمقابلة إهلاك بمنزلة القصاص وإنما يتحقق هذا إذا اعتبرنا نية المستحلف.
فأما إذا كان الحالف مظلوما فاليمين مشروعة لحقه وهذا رجحان جانب الصدق في حقه وانقطاع منازعة المدعي معه بغير حجة فتعتبر نية الحالف في ذلك ولهذا يعتبر في اليمين علمه أيضا على ما روى عن الشعبي رحمه الله قال من حلف على يمين ولا يستثني فالإثم والبر فيهما على علمه يعني إذا حلف وعنده أن الأمر كما حلف عليه ثم تبين بخلافه لم يكن آثما في يمينه وهو تفسير يمين اللغو عندنا لأنه ما كان ظالما حين كان لا يعلم خلاف ما هو عليه فاعتبرنا ما عنده وإذا كان يعلم خلاف ذلك فهو ظالم في يمينه فيكون آثما ويعتبر فيه نية ما عند صاحب الحق والله أعلم بالصواب.

باب الإجارة
قال رحمه الله: رجل استأجر من رجل دارا سنين معلومة فخاف المستأجر أن يغدر به

 

ج / 30 ص -186-    رب الدار فليسم لكل سنة من هذه السنين أجرا أو يجعل للسنة الأخيرة أجرا كثيرا ومعنى هذا أن المستأجر خاف أن تنقض الإجارة بينهما قبل انتهاء مدة الإجارة بموت رب الدار أو بأن يلحقه دين فادح أو غير ذلك من أنواع العذر وقد لا يكون مقصوده إلا السكنى في آخر المدة فالحيلة ما ذكر وهو أن يجعل الأجر للسنين المتقدمة شيئا قليلا حتى إذا انفسخ العقد قبل حصول مقصوده لا يلزمه من الأجر ما يتضرر به ويمنع رب الدار من الفسخ للعذر كيلا يفوته معظم الأجر بالسكنى في السنة الأخيرة والأحوط أن يجعل العقد في صفقتين لأنه إذا جعل الكل صفقة واحدة وفرق التسمية فربما يذهب بعض القضاة إلى رأى بن أبي ليلى رحمه الله ويوزع المسمى على جميع المدة بالحصة فلا ينظر إلى تفريق التسمية مع اتحاد الصفقة وعند اختلاف الصفقة يأمن من ذلك.
وعلى هذا لو أراد المستأجر أن ينفق على الدار من مرمتها ويخاف أن لا يرد عليه ذلك رب الدار إن انفسخ العقد فإنه ينبغي له أن ينظر إلى مقدار ما يريد أن ينفقه فيضم ذلك إلى أجر الدار في السنة الأخيرة ويقر رب الدار اني استسلفت منه هذا المقدار من أجر السنة الأخيرة حتى إذا انفسخ العقد رجع عليه بما أقر أنه استسلفه من ذلك وإن خاف أن يحلفه رب الدار أنه سلم إليه شيئا كما هو رأى بعض القضاة فإنه ينبغي أن يبيع منه شيئا بذلك القدر حتى إذا حلف لم يكن كاذبا في يمينه فإن كان رب الدار هو الذي يخاف أن ينكر المستأجر بعض السنين ويغدر به بعد ذلك أي يفسخ العقد بغدر فالسبيل أن يجعل أكثر الأجرة للسنة الأولى حتى لايفسخ المستأجر بعد مضيها العقد في بقية المدة لأنه قد لزمه أكثر الأجرة وإن انفسخ العقد لم يتضرر به صاحب الدار وإن خاف أن يغيب المستأجر ويمتنع أهله من رد الدار إليه إذا طلبه لوقته فينبغي أن يؤاجرها من أهله ويضمن له الزوج ردها للوقت الذي يسميه فيؤخذ به حينئذ على الشرط لأنه إذا أجرها من الأهل فعليه ردها إليه عند انتهاء المدة ويصير الزوج ملتزما ردها بالضمان أيضافيطالبه به عند انتهاء المدة قال وفي هذا بعض الشبهة فإنه ليس على المستأجر رد الدار إنما عليه أن لا يمنع الأجر إذا جاء ليأخذها ومثل هذا لا تصح الكفالة به بمنزلة الكفالة برد الوديعة على المودع هذا ولأن الكفالة إنما تصح بما هو مضمون على الأصيل والرد غير مضمون على المستأجر فكيف تصح الكفالة به إلا أن يقر الزوج أنه ضامن له تسليم الدار إليه في وقت كذا بحق لازم صحيح فيكون مؤاخذا بإقراره ولكن هذا كذب لا رخصة فيه فالأحوط أن يأخذ الزوج الدار منها بعد رضاها على طريق الاستيلاء ليصير به ضامنا رد الدار عليها في المدة وعلى مالك الدار بعد مضي المدة ويقر بذلك بين يدي الشهود ويكون لرب الدار أن يطالبه بتسليم الدار إليه بعد انتهاء المدة وفيه وجه آخر وهو أن يؤاجر الدار من المستأجر ثم إن المستأجر يوكل رب الدار في الخصومة مع أهله لاسترداد الدار منهم على أنه كلما عزله فهو وكيل به فإذا غاب المستأجر كان له أن يطالب أهل المستأجر برد الدار عليه بحكم وكالة المستأجر في وقته وإن كان المستاجر غير مليء بالأجر فينبغي

 

ج / 30 ص -187-    للآمر أن يأخذ منه كفيلا بأجر الدار ما سكنها أبدا أو يسمي كل شهر للضامن فتكون هذه كفالة بمال معلوم وهو مضاف إلى سبب الوجوب فيكون صحيحا ويأخذ الكفيل بها إذا تعذر استيفاؤها من المستأجر للإفلاس ودين الأجرة كسائر الديون فكما أن طريق التوثق في سائر الديون الكفالة فكذلك في الأجرة.
رجل استأجر دارا لأبناء فيها فإذن له رب الدار أن يبنيها ويحسب له رب الدار ما أنفق في البناء من الأجر فإن بينه وبين كذا كذا درهما فهو جائز قيل هذا الجواب بناء على قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز لأن الأجر دين على المستأجر وإنما أمره أن يشتري له الآلات بالدين الذي له عليه وأبو حنيفة رحمه الله لا يجوز هذه الوكالة على ما قال في البيوع إذا قال صاحب الدين للمديون سلم مالي عليك في كذا واشتر لي بمالي عليك عبدا والأصح أن هذا قولهم جميعا لأنه أمره بالصرف إلى محل معلوم وهو بناء الدار وهو نظير ما قال في الإجارات إذا أمر صاحب الحمام المستأجر بمرمة الحمام ببعض الأجرة أو استأجره دابة وغلاما إلى مكان معلوم وأمره بأن ينفق بعض الأجرة في علف الدابة ونفقة الغلام فإن ذلك جائز فهذا مثله وإن اختلفا في مقدار ما أنفق فالقول قول رب الدار لأن المستأجر يدعي صرف الزيادة إلى البناء فيما أنفق ورب الدار ينكر فالقول قوله مع يمينه.
ألا ترى أنه لو ادعى تسليم ذلك إلى رب الدار فأنكره رب الدار كان القول قوله وكذلك إن كان رب الدار أشهد أن المستأجر مصدق فيما يقول أنه أنفق فليس ذلك بشيء فالقول قول رب الدار لأنه أشهد على ما هو مخالف لحكم الشرع فإن الأجر دين مضمون له في ذمة المستأجر وإنما يقبل قول الأمين في الشرع ولا يقبل قول الضامن فإذا شهد على تصديق الضامن كان الإشهاد باطلا والقول قول رب الدار.
ألا ترى أنه لو شهد عند الإجارة أن المستأجر مصدق فيما يدعي إنفاقه من الأجرة لم يصدق في ذلك وكذلك لو جحد أن يكون بني فيها وقال: دفعتها إليه وهذا البناء فيها فالقول قوله لأنه منكر استيفاء شيء من الأجر والبناء تبع للأصل فإتفاقهما على أن الأصل ملك له لا من جهة المستأجر يكون دليلا على أن البناء له لا من جهة المستأجر أيضا فإذا ادعى المستأجر أنه هو الذي بني هذا البناء كان عليه أن يثبت ما ادعاه بالبينة فإن أراد المشتري أن يصدق في النفقة عجل له من الأجر بقدر النفقة وأشهد عليه بقبضه ثم يدفعه رب الدار إليه ويوكله بالنفقة على داره فيكون القول قول المستأجر حينئذ في نفقة مثله وفي هذا الهلاك إذا ادعاه لأن بالتعجيل ملك الأجر المقبوض وبرئت ذمة المستأجر منه ثم إذا رده عليه لينفقه في داره كأن أمينا في ذلك والقول قول الأمين في المحتمل مع اليمين كالمودع يدعي رد الوديعة أو هلاكها إلا أنه إنما يصدق في نفقة مثله لأن الظاهر لا يكذبه في ذلك المقدار وفيما زاد على ذلك يكذبه فلا يقبل قوله إلا بحجة كالوصي يدعي الإنفاق على اليتيم من ماله يصدق في نفقة مثله ولا يصدق في الزيادة على ذلك وإذا خاف رب الدار أن يتعبه المستأجر في رد

 

ج / 30 ص -188-    الدار بعد مضي مدة الإجارة وأجرها منه سنة من يومه على أن أجرتها بعد مضي السنة تكون كل يوم دينارا فيجوز العقد على هذا الوجه لأن العقد بعد مضي السنة يكون مضافا إلى وقت في المستقبل وإضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل صحيح فبعد مضي السنة لا يمتنع المستأجر من رد الدار مخافة أن يلزمه كل يوم دينار فإن قال المستأجر أنا لا آمن أن يغيب رب الدار بعد مضي السنة فلا يمكنني أن أردها عليه ويلزمني كل يوم دينار فالحيلة في ذلك أن يجعلا بينهما عدلا ويستأجر المستأجر الدار من العدل بهذه الصفة حتى إذا مضت السنة وتغيب رب الدار يتمكن المستأجر من ردها علي العدل فلا يلزمه الدينار باعتبار كل يوم بعد ذلك وعلى هذا لو استأجر دارا كل شهر بكذا فلزوم العقد يكون في شهر واحد فإذا تم الشهر فلكل واحد منهما أن يفسخ العقد في الليلة التي يهل فيها الهلال فالحيلة أن يمضيه قبل الفسخ ليلزم العقد في رأس الشهر الداخل فإذا خاف المستأجر أن يبعث الأجر في الليلة التي يهل فيها الهلال فالحيلة أن يجعلا بينهما عدلا حتى يتمكن من فسخ الإجارة مع العدل عند رأس الشهر ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول إذا أدى الأجر في وسط الشهر ومن عزمه الفسخ عند مضي الشهر ينبغي أن يقول له إذا جاء رأس الشهر فقد فسخت العقد بيني وبينك وهذا فاسد لأنه تعليق الفسخ بالشرط وذلك لا يجوز ولكن ينبغي أن يقول له فسخت الإجارة بيني وبينك رأس الشهر فتكون هذه إضافة الفسخ إلى وقت في المستقبل ولا تكون تعليقا بالشرط وكما تصح إضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل وإن كان لا يجوز تعليقها بالشرط فكذلك يجوز إضافة الفسخ إلى وقت في المستقبل وهذا يجوز وإن كان لا يجوز تعليقه بالشرط.
وإذا اكترى الرجل أبلا لمتاع له إلى مصر بمائة دينار فإن قصر عنها إلى الرملة فالكراء سبعون دينارا فإن قصر عن الرملة إلى أذرعات فالكراء ستون دينارا فالإجارة فاسدة على هذا الشرط لجهالة مقدار المعقود عليه وجهالة الأجر المسمى عند العقد ولأنه علق البراءة من بعض الأجر بالشرط ولو علق البراءة من جميع الأجر بشرط فيه حظر لم تصح الإجارة فكذلك إذا علق البراءة من بعض الآجر فإن حمله إلى مصر ففي القياس له أجر المثل لأنه استوفي المنفعة بعقد فاسد وفي الاستحسان تجب المائة الدينار لأن المعنى المفسد قد زال وهو نظير القياس والاستحسان الذي تقدم في الإجارات أنه لو استأجر دابة للركوب بأجر معلوم أوثوبا للبس ولم يبين من يركب ومن يلبس كان العقد فاسدا ولو ركبها أو لبسه حتى مضت المدة وجب المسمى استحسانا لانعدام المفسد وهو الجهالة قال والحيلة لهما في ذلك حتى لا يفسد أن يستأجرها إلى أذرعات بخمسين دينارا ويستأجر من أذرعات إلى الرملة بعشرين دينارا ويستأجر من الرملة إلى مصر بثلاثين دينارا فإذا بلغ أذرعات فإن أراد صاحب المتاع أن لا يذهب إلى الرملة كان ذلك عذرا له في فسخ العقد الثاني والثالث وإن أراد أن يحمله إلى الرملة فليس لصاحب الإبل أن يمتنع وكذلك من الرملة إلى مصر، وهذا لأن

 

ج / 30 ص -189-    صاحب الإبل عليه تسليم الإبل ولا يلزمه أن يذهب بنفسه ماشيا وإن أبى فلا يكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة وصاحب المتاع له أن يبيع متاعه باذرعات ولا يخرج منها إلى الرملة فيكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة.
وإذا أراد الرجل أن يؤاجر أرضا له فيها زرع لم يكن له فيها حيلة إلا خصلة واحدة وهي أن يبيعه الزرع ثم يؤاجره الأرض لأن شرط جواز عقد الإجارة أنه يتمكن المستأجر من الانتفاع بالأرض بعد الإجارة وإذا باعه الزرع ثم أجر الأرض فهو يتمكن من الانتفاع بها لأنه يرى زرعه فيها وإذا لم يبعه الزرع لا يتمكن المستأجر من الانتفاع بها وهي مشغولة بزرع الآخر ولا يمكنه التسليم إلا بقلع زرعه وفيه ضرر بين عليه فلهذا كان العقد فاسدا وعلى هذا لو كانت في الأرض أشجارا أو بناء فأراد أن يؤاجرها منه ينبغي له أن يبيع الأشجار والبناء منه أولا ثم يؤاجره الأرض.
وذكر الطحاوي رحمه الله في هذا الفصل أنه يبيع الأشجار بطريقها إلى بابها فإن لم يكن لها باب فإنه ينبغي أن يبين طريقا معلوما لها من جانب من جوانب الأرض حتى يصح الشراء ثم يؤاجر الأرض بعد ذلك فيكون صحيحا لأن صحة الإجارة تنبني على صحة الشراء فإن لم يبين الطريق في الشراء فسد الشراء لأنه لا يملكها قبل القبض ولو قبضها كان الرد مستحقا عليه لفساد العقد فلا يتمكن من الانتفاع بالأرض ما لم يكن الشراء صحيحا فشرط ذلك لبيان الطريق والله أعلم بالصواب.

باب الوكالة
قال رضي الله عنه: رجل وكل رجلا أن يشتري جارية له بعينها بكذا درهما فلما رآها الوكيل أراد أن يشتريها لنفسه فإن اشتراها بمثل ذلك الثمن أو أقل فهو مشتري للآمر وإن نوى الشراء لنفسه عند العقد أو صرح به لأنه ممتثل أمر الموكل فيما باشره من العقد وهو لا يملك عزل نفسه في موافقة أمر الآمر فيكون مشتريا للآمر وإن اشتراها بأكثر مما سمي له من الثمن أو اشتراها بدنانير كان مشتريا لنفسه لأنه خالف أمر الأمر فلا ينفذ تصرفه عليه وهو بعد قبول الوكالة تام الولاية في تصرفه فيصير مشتريا لنفسه لما تعذر تنفيذه على الآمر ولا يكون آثما في ذلك لأن قبول لوكالة لا يلزمه الشراء للآمر لا محالة.
ألا ترى أنه له أن يفسخ الوكالة وأن يمتنع من الشراء أصلا ولا يكون آثما في اكتسابه هذه الحيلة ليشتريها لنفسه ولا يقال إذا اشترى بأكثر مما سمى له ففي حصة ما سمى له ينبغي له أن يكون مشتريا للآمر لأنه إنما أمره بشراء جميعها بالمسمى من الثمن لابشراء بعضها ولأن الوكيل بشراء الجارية لا يملك أن يشتري نصفها للآمر فإن مقصود الأمر لا يحصل بذلك فإنه كان أمره أن يشتريها له ولم يسم ثمنا فإن اشتراها بأحد النقدين فهو للآمر وإن نواها لنفسه أو اشتراها بمكيل أو موزون بعينه أو بغير عينه أو بعرض بعينه فهو مشتر لنفسه لأن مطلق التوكيل بالشراء ينصرف إلى الشراء بالنقد فهو مختص بالشراء فكأنه صرح

 

ج / 30 ص -190-    بذلك لأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص فإن أمر الوكيل رجلا آخر أن يشتريها للوكيل الأول فإن اشتراها بمحضر من الوكيل الأول بالدراهم أو الدنانير كان مشتريا للآمر لأن فعل الوكيل الثاني بمحضر من الوكيل الأول كفعل الأول.
ألا ترى أن بمطلق التوكيل ينفذ هذا التصرف على الآمر فإن اشتراها بغير محضر من الوكيل الأول ليس له أن يوكل غيره ليشتريها بمحضر منه وإذا فعل لا ينفذ شراؤه على الآمر فيكون مخالفا أمر الموكل في هذا العقد فينفذ عليه خاصة إلا أن يكون الآمر الأول قال له اعمل فيها برأيك فحينئذ يكون شراء الوكيل الآخر للآمر الأول لأنه ممتثل أمر الآمر في هذا التوكيل فإنه متى فوض الآمر إلى رأى الوكيل على العموم يملك أن يوكل غيره به ويكون فعل الوكيل الثاني كفعل الوكيل الأول فينفذ على الآمر إذا اشتراها بالنقد ولو كان وكله ببيع جارية بعينها فليس للوكيل أن يبيعها من نفسه فإن أراد أن يجعلها لنفسه فالحيلة في ذلك أن يطلب من الموكل تفويض الأمر إلى رأيه في بيعها على العموم ويقول له ما صنعت في ذلك من شيء فهو جائز فإذا فعل ذلك وكل الوكيل رجلا آخر يبيعها ثم يشتريها من ذلك الوكيل فيصح ذلك لأن ذلك الوكيل الثاني ليس الوكيل الأول ولكنه وكيل صاحب الجارية فقد قال له صاحبها ما صنعت من شيء فهو جائز والتوكيل من صنيعه فيصير الثاني بمنزلة ما لو وكله صاحب الجارية ببيعها فينفذ بيعه إياها من الوكيل الأول وإن أبى صاحب الجارية أن يفوض الأمر إلى رأيه على العموم فالسبيل له أن يبيعها ممن يثق به ثم يستقيله العقد فتنفذ الإقالة على الوكيل خاصة أو يطلب من المشتري أن يوليه العقد فيها أو يشتريها منه ابتداء ولا يأثم بذلك بعد أن لا يدع الاستقصاء في ثمنها في البيع ممن يثق به لأن صاحبها قد أتمنه فعليه أن يؤدي الأمانة كما قال عليه السلام:
"أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك".
وأداء الأمانة في أن لا يدع الاستقصاء في ثمنها فلو اشتراها الوكيل للآمر في مسألة التوكيل بالشراء وقبضها ثم وجد بها عيبا قبل أن يدفعها إلى الآمر كان له أن يردها بالعيب لتمكنه من ردها بكونها في يده والوكيل بالعقد في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه فإذا ردها على البائع بقضاء القاضي انفسخ العقد الأول من الأصل وصار كأن لم يكن وقد بقي هو على وكالته ما لم يحصل مقصود الآمر فلو أراد أن يشتريها لنفسه بعد ذلك فاشتراها وهو عالم بعيبها لم يكن الشراء إلا للآمر لما مر أنه باق على وكالته ما لم يحصل مقصود الآمر إلا أنه عالم بعيبها وهو في الابتداء لو علم بعيبها واشتراها لنفسه كان الشراء للآمر فكذلك في المرة الثانية والوكيل بالبيع يكون خصما في الرد بالعيب بمنزلة البائع لنفسه فإن أراد أن يتحرز عن ذلك فالحيلة فيه أن يأمر غيره ليبيعه بحضرته فينفذ ذلك على الآمر عندنا وخصومة المشتري في الرد بالعيب لا تكون مع الوكيل وإنما تكون مع عاقده فإن أبى المشتري إلا بأن يضمن الوكيل الأول الدرك فينبغي له أن لا يتحرز من ذلك لأن مقصوده حاصل من غير ضمان الدرك فإن المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا فلا خصومة له بالعيب مع الضامن للدرك وإذا رده

 

ج / 30 ص -191-    على البائع بالعيب لم يكن له أن يرجع بالثمن على الضامن للدرك لأن العيب ليس يدرك وإذا خلع الأب ابنته من زوجها بمالها على الزوج من الصداق لم يجز ذلك ولم تطلق البنت سواء كانت صغيرة أو كبيرة إلا على قول مالك رحمه الله فإنه يجوز خلع الأب على ابنته الصغيرة كما يجوز تزويج الأب ابنه الصغير بمال الابن وقد بينا المسألة في النكاح فأن في الخلع المرأة تلتزم مالا بإزاء ما ليس بمتقوم لانه لا يدخل في ملكها بالخلع شيء متقوم وليس للأب هذه الولاية على ابنته صغيرة كانت أو كبيرة فهي في الخلع كأجنبي إلا أن يضمن الدرك للزوج فحينئذ ينفذ الخلع على الوجه الذي بيناه في الشروط.
وإذا خاف الوكيل بشراء متاع من بلد من البلدان يبعث بالمتاع مع غيره أو يستودع المال غيره فيصير ضامنا فالحيلة له في ذلك أن يستأذن رب المال في أن يعمل برأيه فإذا أذن له في العمل برأيه كان له أن يصنع ذلك وجاز له أن يوكل غيره بالتصرف ويدفع المال إليه فإن الموكل أجاز صنيعه على العموم والتوكيل من صنيعه فينفذ ذلك على الموكل كأنه باشره بنفسه والله أعلم بالصواب.

باب الصلح
قال رحمه الله:
رجل له على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة يؤديها إليه في كل شهر كذا فإن لم يفعل فعليه مائتا درهم فذلك جائز عندنا وهو قول أبي يوسف رحمه الله ويبطله غيرنا يعني شريك وبن أبي ليلى رحمهما الله فإنهما كانا يقولان هذا تعليق التزام المال بالحظر لأنه يقول إن لم يفعل فعليه مائتا درهم يعني إن لم يؤد المائة في نجومها ولا يدري أيؤدي أم لا يؤدي وتعليق التزام المال بالحظر لا يجوز فالفقه في ذلك أن يحط رب المال عنه ثمانمائة درهم عاجلا ثم يصالحه من المائتين على مائة درهم يؤديها إليه ما بينه وبين شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما على هذا.
وإذا أراد أن يكاتب عبده على ألف درهم يؤديها إليه في سنة فإن لم يفعل فعليه ألف درهم أخرى فإن هذا لا يجوز لأنه صفقتان في صفقة وشرطان في عقد ولأن فيه تعليق التزام المال بالحظر وهو أن لا يؤدي الألف في السنة وإن أراد الحيلة في ذلك فالحيلة أن يكاتبه على ألفي درهم ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنة فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون العقد صحيحا على بدل مسمى ويكون الصلح صحيحا على ما وقع الاتفاق عليه بينهما لأن عقد الصلح ينبني على التوسع ومثل هذا الصلح يصح بين الحرين فبين المولى ومكاتبه أولى ولأن مثل هذا الشرط في البيع يصح فإنه لو باع على أنه إن لم يؤد الثمن على ثلاثة أيام فلا بيع بينهما كان جائزا على هذا الشرط فلأن يجوز الصلح على شرط أولى.
رجل مات وترك دارا في يد ابنه وامرأته فادعى رجل أنها له فصالحه الابن والمرأة على مائة درهم من غير إقرار منهما كانت المائة عليهما أثمانا والدار بينهما أثمانا لأن الصلح عن الإنكار إنما يجوز باعتبار أنه إسقاط دعوى المدعي حقه وخصومة تلزمه لبعض المصالح،

 

ج / 30 ص -192-    ولهذا جاز مع الأجنبي وإن كان بغير أمر المدعي عليه لو كان منه تمليكا من المدعي عليه لم يجز بغير أمره فإذا صح أنه إسقاط بقيت الدار بينهما يعد الصلح على ما كانت عليه قبل الدعوى وقد كانت أثمانا وإذا ثبت أن الدار بينهما على ثمانية ثبت أن المال عليهما يتوزع على ذلك أيضا لأنه بمطلق قبول العقد إنما يجب المال على من ينتفع فيجب على كل واحد منهما من المال بقدر ما ينال من المنفعة وإن صالحاه بعد إقرارهما بها له وأرادا بالإقرار تصحيح الصلح فالمائة عليهما نصفان والدار بينهما كذلك لأنهما لما أقرا أنها للمدعي ثم صالحاه فكأنهما اشتريا الدار بالمائة وظهر بإقرارهما أن الدار لم تكن ميراثا بينهما وبمطلق الشراء يقع الملك للمشتريين في المنزل نصفين ويكون الثمن عليهما نصفين فإن أرادا أن يكون بينهما أثمانا فالحيلة في ذلك أن يقرا للمدعي بالدار ثم يصالحهما منها على مائة درهم على أن يكون للمرأة ثمن الدار وللابن سبعة أثمانها، فإذا صرحا بذلك كان الملك في الدار بينهما على ما صرحا به والثمن كذلك بمنزلة ما لو اشترياها على أن يكون لأحدهما ثمنها وللآخر سبعة أثمانها.
رجل ادعى في دار رجل دعوى فصالحه على مائة ذراع منها فهو جائز لأن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعى ولهذا لو وقع الصلح على دار كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة وفي زعم المدعي أنه يستوفي من الدار مائة ذراع بملكه القديم إلا أن يتملكها على ذي اليد ابتداء فيكون صحيحا فإن صالحه على مائة ذراع من دار أخرى لم يجز في قول أبي حنيفة وجاز عندهما لأنه يتملك ما وقع عليه الصلح بعوض فهو بمنزلة من اشترى مائة ذراع من دار وذلك فاسد عند أبي حنيفة جائز عندهما.
مريض ادعى على رجل مالا وله به عليه بينة فصالحه منه على دراهم يسيرة وأقر المريض أنه لم يكن له على هذا المطلوب شيء ثم مات جاز إقراره في القضاء ولم يقبل من ورثته بينة على المطلوب بذلك المال أما إذا لم يكن يقر بذلك فيتمكن في هذا الصلح محاباة وهو يعتبر من ثلث المال وأما إذا أقر بذلك فإقراره بما يتضمن براءة الأجنبي معتبر بإقراره للأجنبي وذلك صحيح من جميع ماله فكذلك إقراره أنه لم يكن له على المطلوب شيء يكون صحيحا وبعد صحة الإقرار منه لا تسمع الدعوى من ورثته لأنهم يقومون مقامه وهو لو ادعى بعد ذلك مالا مطلقا عليه لم تسمع دعواه ولم تقبل بينته فكذلك الورثة إذا ادعوا ذلك.
رجل له على رجل دين حال فصالحه على أن ينجمه نجوما عليه وأخذ منه كفيلا على أن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه على أنهما أن أخرا نجما عن محله فالمال عليهما حال فهو جائز لأنه إذا أخذ بالمال كفيلا كان الكفيل مطالبا به كالأصيل فهذا بمنزلة رجل له على رجلين مال وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فنجمه عليهما نجوما على أنهما لو أخرا نجما عن محله فالمال عليهما حال وذلك جائز لأنه تنجيم المال عليهما صلح فقد علق بطلان الصلح بعدم الوفاء بالشرط وذلك جائز فإن كان الطالب إنما أخذ من المطلوب كفيلا بنفسه

 

ج / 30 ص -193-    على أنه إن لم يوف به عند كل نجم فالكفيل ضامن لجميع المال على النجوم التي سميا فإن ذلك جائز عندنا وبعض الفقهاء رحمهم الله يعني بن أبي ليلى لا يجوز تعليق المال بالمال بحظر عدم الموافاة بالنفس وقد بيناه في كتاب الكفالة فالفقه في ذلك أن يضمن الكفيل المال على أنه يبرأ من كل نجم بدفع المطلوب عند محله إلى الطالب فيجوز ذلك في قول الكل لأن إيفاء المطلوب يوجب براءة الكفيل فاشتراط براءته عند إيفاء الكفيل شرط موافق لحكم الشرع فيكون صحيحا.
رجل صالح غريما له على أن يؤجله بما عليه على أن يضمن له فلان المال إلى ذلك الأجل فإن لم يفعل فلا صلح بينهما والمال حل عليه فذلك جائز ولا آمن أن يبطله بعض الفقهاء يعني به أن يبطله على طريق القياس فإن الصلح قياس البيع في بعض الأحكام.
وإذا شرط في البيع ضمان رجل بعينه كان ذلك مبطلا للبيع فكذلك الصلح فالفقه في ذاك أن يكون الكفيل حاضرا فيضمنه لأن على طريق القياس إنما لا يصح هذا العقد لبقاء الغرر فيه وهو أنه لا يدري أيضمن الكفيل المال أو لا يضمن فإذا ضمنه فقد انعدم معنى الغرور وإن لم يكن حاضرا فالفقه فيه أن يصالحه على ما ذكرت علي أن فلانا إن ضمن هذا المال ما بينه وبين قوم كذا فالصلح تام وإلا فلا صلح بينهما فإذا كان العقد بهذه كان تمام الصلح بقدر ما ضمن فلان، ولا يبقى غرر إذا ضمن فلان فالصلح بينهما صحيح.
وإذا كفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به إلى كذا فالمال عليه وأخذ الكفيل من المطلوب رهنا لم يجز الرهن لأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء وما وجب للكفيل على المطلوب ماله والكفالة بالنفس ليست بمال والكفالة بالمال متعلقة بعدم الموفاة بالنفس فكيف يصح الرهن من غير دين له عليه فإن أراد الحيلة في ذلك فالوجه أن يبدأ بضمان المال فيقول أنا ضامن لمالك عليه من المال فإن وافيت به إلى كذا من الأجل فأنا بريء فإن فعل ذلك جاز له أن يرتهن منه رهنا بما ضمنه لأنه كما وجب المال للطالب على الكفيل وجب للكفيل على المطلوب فيجوز أخذ الرهن منه به ولم يذكر في الكتاب ما إذا كانت الكفالة بالنفس فقط وأراد الكفيل أن يأخذ من المطلوب رهنا ولا إشكال إن ذلك لا يجوز بخلاف ما إذا أخذ منه كفيلا فإن صحة الكفالة لا تستدعي دينا واجبا وصحة الرهن تستدعي ذلك ولهذا لا يجوز الرهن بالدرك وتجوز الكفالة بالدرك ثم الحيلة في هذا أن يقر المطلوب أن هذا الكفيل ضمن عنه مالا لرجل من الناس باشره ولا يسمى ذلك الرجل ولا مقدار المال ثم يعطيه رهنا بذلك فيكون صحيحا في الحكم ويكون القول قول المطلوب في مقدار ذلك المال فيمكن بادائه من إخراج الرهن فإن قال الكفيل مقصودي لا يتم بهذا وربما يقول المطلوب بعد كفالتي بالنصف إن المال درهم فيعطيني ذلك ويسترد النصف فالسبيل أن يجعلا بينهما عدلا ثقة يثقان به ويكون ارتهان الكفيل من ذلك العدل بأمر المطلوب فلا يسترد منه الرهن قبل براءته عن الكفالة بالنفس.

 

ج / 30 ص -194-    رجل أخذ من غريمه كفيلا بنفسه على أنه إن لم يواف به يوم كذا فالكفيل ضامن لنفس فلان غريم آخر للطالب فهو جائز عندنا يعني قول أبي حنيفة وأبي يوسف ولا آمن أن يبطله بعض العلماء رحمهم الله يعني أن على قول محمد رحمه الله هذا لا يجوز فالفقه فيه أن يكفل بنفس فلان وفلان على أنه إن وافى بفلان أحدهما ما بينه وبين يوم كذا فهو بريء من الكفالة الأخرى فيكون جائزا عندهم جميعا لأنه علق البراءة على الكفالتين بالموافاة وبنفس أحدهما وكما يجوز تعليق البراءة عن الكفالة بالنفس بالموافاة بالمال فكذلك يجوز تعليق البراءة عن الكفالتين بالموافاة بنفس أحدهما ولو أخذ منه كفيلا بنفسه على أنه إن لم يواف به يوم عدا فما علي المطلوب من المال فهو على الكفيل فلم يواف به فهو ضامن للمال والنفس لأنه كفل بالنفس كفالة مطلقة فلا يبرأ إلا بتسليم النفس وعلق الكفالة بالمال بحظر عدم الموافاة وقد وجد ذلك فإن قال لا آمن أن يبرئه بعض الفقهاء من الكفالة بالنفس ولا يعرف من هذا القائل وله وجه صحيح وهو أن المقصود المال دون النفس وبعد ما حصل المقصود وتمكن الطالب من استيفاء المال من الكفيل لا تبقي الكفالة بالنفس وهذا لأن اللفظ في معنى توقيت الكفالة بالنفس إلى الوقت الذي حصل عدم الموافاة فيه فشرط الكفالة بالمال فلا تبقي الكفالة بالنفس بعد مضي وقتها ثم الفقه في ذلك أن يضمنه المال والنفس على أنه إن وافاه بنفسه لوقت كذا فهو بريء من النفس والمال وإن لم يوافه به لذلك الأجل فالنفس والمال عليه لأنه كفل له كفالة مطلقة.
مسائل متفرقة:
قال: وإذا خاف الوصي جهل بعض القضاة في أن يسأله عما وصل إليه من تركة الميت ثم يسأله البينة على ما أنفق وعمل وإنما سمي هذا جهلا لأنه خلاف حكم الشرع فالوصي أمين والقول في المحتمل قول الأمين وهو متبرع في قبول الوصاية قائم مقام الميت فكما لم يكن للقاضي أن يسأل الموصي عما تركه من المال لا يكون له أن يسأل الوصي عما وصل إليه من المال فمن فعل ذلك من القضاة كان جهلا ولكن رأى بعض القضاة أن يفعلوا ذلك ويعدونه من الاحتياط فبين الحيلة للوصي في ذلك بأن يولي غيره في قبض التركة وبيعها وقضاء الدين وغير ذلك ولا يشهد الوصي على نفسه بوصول شيء إليه ولا يباشرها بنفسه بل يأمر غيره بالبيع وقضاء الدين فلا يكون للقاضي أن يسأله شيئا من ذلك لأنه لم يصل إليه تركة الميت ولا عمل في التركة بنفسه فإن أراد القاضي أن يستحلفه ما قضيت دينا ولا وصل إليك تركة ولا أمرت بشيء منها يباع ولا وكلت به فإذا كان الوصي وضع التركة مواضعها على حقوقها فهو مظلوم في هذه اليمين فيسعه أن يحلف وينوي غير ما استحلف عليه لأنه إذا كان مظلوما فيمينه معتبرة شرعا ليتمكن بها من دفع الظلم عن نفسه والخصاف رحمه الله توسع في كتابه في هذا الباب فقال ينوي ما فعل شيئا من ذلك في وقت كذا لوقت غير الوقت الذي فعل فيه أو في مكان كذا لمكان غير المكان الذي فعل فيه أو مع إنسان غير الذي

 

ج / 30 ص -195-    عامله، وهذا لأن من مذهبه أن نية التخصيص فيما ثبت بمقتضى الكلام صحيحة كما تصح في الملفوظ فإن المقتضى عنده كالمنصوص في أن له عموما فتجوز نية التخصيص فيه وكان يستدل على ذلك بمسألة المساكنة التى أوردها محمد رحمه الله في كتاب الإيمان إذا حلف لا يساكن فلانا وهو ينوي مساكنته في بيت أنه يعمل بنيته والمكان ليس في لفظه فصحت نية التخصيص فيه.
وقال في الجامع: إذا حلف لا يخرج ونوى السفر صحت نيته والموضع الذي يخرج إليه ليس في لفظه وصح نية التخصيص فيه وقال في كتاب الدعوى إذا أقر بنسب غلام صغير فجاءت أم الصغير بعد موته تطلب ميراث الزوجات فإنها تستحق ذلك لأن إقراره بالنسب يقتضي الفراش بين المقروبين أم الصغير فجعل الثابت بمقتضى كلامه كالثابت بالنص ولكن الصحيح من المذهب عندنا أن المقتضى لا عموم له وإن نية التخصيص فيما ثبت بمقتضى الكلام لا تكون صحيحة حتى إذا حلف لا يأكل أو لا يشرب ونوى طعاما بعينه أو شرابا بعينه لم تعتبر نيته لأن المنصوص فعل الأكل فأما المأكول ثابت بمقتضى كلامه وثبوت المقتضي للحاجة إلى تصحيح الكلام ولهذا لا يثبت في موضع يصح الكلام بدونه والثابت بالحاجة لا يعدو موضع الحاجة ولا حاجة إلى إثبات العموم للمقتضى ولا إلى جعله كالمنصوص عليه فيما وراء المحتاج إليه فأما مسألة المساكنة فهناك نية التخصيص في المكان لا تعمل عندنا حتى لو قال عنيت به المساكنة في بيت بعينه لا يعمل بنيته ولكن إنما يعمل بنيته فيما يرجع إلى إكمال المنصوص فالمساكنة تكون تارة في بلده وتارة في محله وتارة في دار وأياما كان من المساكنة أن يكون بينهما في بيت واحد فهو إنما نوى صفة الكمال في المنصوص عليه فلهذا يعمل بنيته وكذلك في مسألة الخروج لا نقول بنيته في تخصيص المكان حتى لو نوى الخروج إلى بغداد لا يعمل بنيته فإذا نوى السفر فإنما نوى نوعا من أنواع الخروج لأن الخروج أنواع شرعا خروج للسفر ولما دون السفر وإنما اختلافهما باختلاف الأحكام فإنما يعمل بنيته في تنوع الخروج في لفظه لأن ذكر الفعل كذكر المصدر وفي مسألة النسب الفراش بينه وبينها ثبت بمقتضى كلامه ولكن ما ثبت بطريق الاقتضاء يثبت حكمه وإن لم يجعل كالمنصوص عليه كالبيع الثابت في قوله أعتق عبدك عني على ألف درهم يثبت حكمه وهو ملك البدلين وإن لم يجعل ذلك كالبيع المصرح به.
إذا عرفنا هذا فنقول: ينبغي أن ينوي شيئا هو من محتملات لفظه أو يكون راجعا إلى تخصيص ما في لفظه حتى يكون عاملا وأسهل طريق قالوا في هذا النوع من الإيمان إن القاضي إذا قال له قل والله ينبغي أن يقول هو الله فدغم الهاء على وجه لا يفطن به القاضي ثم يمضي في كلامه إلى آخره فلا يكون ذلك يمينا ولا يأثم به إذا كان مظلوما وإذا أراد الوصي أن يدفع إلى الورثة أموالهم ويكتب عليهم البراءة من كل قليل وكثير أيهما أوثق له أن يسمى ما جرى على يده وما أعطاهم أولا يسمى قال: الأوثق له أن يكتب البراءة من كل قليل وكثير ولا

 

ج / 30 ص -196-    يسمى شيئا فإنه لا يأمن أن يحضر صاحب دين أو وصية أو وارث فيضمنه ما سمي أنه دفعه إلى الورثة.
وإذا كتب براءته من كل قليل وكثير فليس له ولاية أن يضمنوه شيئا فهذا أوثق للوصي ولكن الأوثق للوارث أن يسمى ذلك فربما يخفي الوصي بعض التركة فإذا كتبوا له البراءة من كل قليل أو كثير لم يكن لهم سبيل على ما ظهر عليه من الجناية بعد ذلك فإذا سموا ما وصل إليهم كان لهم أن يخاصموا فيما يظهر في يده من التركة بعد ذلك.
وذكر عن سالم بن عبد الله أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فانقضت عدتها فتزوجها رجل ليحلها للزوج الأول لم يأمره الزوج بذلك ولا المرأة قال هذا ما يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وبه نأخذ لأنه تزوجها نكاحا مطلقا والنكاح سنة مرغوب فيها وإنما قصد بذلك ارتفاع الحرمة بينهما ليمنعهما بذلك على ارتكاب المحرم ويوصلهما إلى مرادهما بطريق حلال فتكون إعانة على البر والتقوى وذلك مندوب إليه فالظاهر أن كل واحد منهما نادم على ما كان منه من سوء الخلق خصوصا إذا كان بينهما ولد فلو امتنع الثاني من أن يتزوجها ليحلها للأول ربما يحملها الندم أو فرط ميل كل واحد منهما إلى صاحبه على أن يتزوجها من غير محلل فهو يسعى إلى إتمام مرادهما على وجه يندبان إليه في الشرع فيكون مأجورا فيه وفي نظيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من أقال نادما أقاله الله عثراته يوم القيامة" فإذا تقرر هذا تبين أن الحل يحصل بدخول الزوج الثاني بها وإن كان مراده أن يحلها للأول فإذا تزوجها بهذا الشرط بأن قالت المرأة له تزوجني فحللني أو قال له الزوج الأول تزوج هذه المرأة فحللها لي أو قال الثاني للمرأة أتزوجك فأحللك للأول فهذا مكروه وهو معنى قوله عليه السلام: "لعن الله المحلل والمحلل له" وقال عليه السلام: "ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟" قالوا: بلى قال: "هو الرجل يتزوج المرأة فيحللها لزوج كان لها قبله" ولكن مع هذا يجوز النكاح ويثبت الحل للأول بدخول الثاني بها عند أبي حنيفة رحمه الله لأن هذا المنهي لمعني في غير النكاح فلا يمنع صحة النكاح والدخول بالنكاح الصحيح يحلها للزوج الأول ثبت ذلك بالسنة وعلى قول أبي يوسف رحمه الله هذا النكاح فاسد لأنه في معنى التوقيت للنكاح والتوقيت مفسد للنكاح كما لو تزوج امرأة شهرا وإذا فسد النكاح الثاني فالدخول بالنكاح الفاسد لا يوجب الحل للزوج الأول وقال محمد رحمه الله النكاح جائز ولكن الشرط باطل لأن النكاح يهدم الشرط ولا يبطل بالشرط الفاسد إلا أنهما لو قصدا الاستهجان عوضا بالحرمان فلا يثبت به الحل للزوج الأول كما لو قتل مورثه بغير حق وقد تقدم بيان المسألة في كتاب الطلاق.
ولو قال الرجل: إن خطبت فلانة أو تزوجتها فأجازت فهي طالق ثلاثا فله أن يخطبها ثم يتزوجها بعد ذلك ولا يحنث لأنه إذا دخل حرف أو بين الشرطين فيكون الثابت أحدهما وتتحلل اليمين بوجود أحد الشرطين فإن خطبها أولا أنحلت اليمين وهي ليست في نكاحه فلم يقع عليها شيء ثم تزوجها بعد ذلك ولا يمين فلا تطلق بمنزلة ما لو قال إن قبلتها أو تزوجتها

 

ج / 30 ص -197-    فهي طالق فقبلها ثم تزوجها لم تطلق ولو تزوجها قبل أن يخطبها ثم بلغها فأجازت طلقت ثلاثا لأن الموجب هنا شرط التزوج وإتمام ذلك بإجازتها وهي عند تمام الشرط في نكاحه فتطلق ثلاثا بمنزلة قوله إن قبلتها أو تزوجتها ثم تزوجها قبل أن يقبلها وتبين بهذه المسألة أن من قال إن خطبت فلانة فهي كذا أو كل امرأة خطبتها فهي كذا أن يمينه لا تنعقد لأن الخطبة غير العقد وهي تسبق العقد فلا يكون هو بهذا اللفظ مضيفا الطلاق إلى الملك وهذا في لسان العربية فإن عقد يمينه بلسان الفارسية فقال أكر فلانة رابحوا همه ما هودي له بحراهم ففي كل موضع يكون هذا اللفظ يفهم غير الخطبة لا ينعقد اليمين أيضا هكذا العرف بخراسان وما وراء النهر فأما في هذه الديار فإنما يريدون بهذا اللفظ التزوج فينعقد اليمين إذا كان مراده هذا ويقع الطلاق إذا تزوجها.
رجل حلف أن لا يتزوج بالكوفة امرأة فزوجه وكيل له بالكوفة فهو حانث لأن الوكيل بالنكاح سفير ومعبر حتى لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل ولا يتعلق به شيء من حقوق العقد فمباشرة الوكيل له كمباشرته بنفسه في حق الحنث بخلاف البيع فإنه إذا حلف لا يشتري شيأ بالكوفة فاشترى له وكيله لا يحنث لأن الوكيل في الشراء بمنزلة العاقد لنفسه حتى يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل ويتعلق حقوق العقد به ثم الحيلة في مسألة النكاح أن توكل المرأة وكيلا يزوجها منه ثم يخرج الوكيل والزوج إلى الحيرة أو غيرها بعد أن يخرجا من أبيات الكوفة ثم يزوجها منه فلا يحنث لأنه لم يتزوجها بالكوفة.
ألا ترى أن المقيم بالكوفة إذا خرج من أبيات الكوفة على قصد السفر كان مسافرا يقصر الصلاة فعرفنا أن التزوج في هذا الموضع لا يكون تزويجا بالكوفة وإنما ذكر توكيلها لئلا تبتلي بالخروج مع غير المحرم إلى ذلك الموضع.
رجل قال لعبده: قد أذنت لك أن تتزوج كل أمة تشتريها فاشترى العبد أمة فتزوجها ببينة فهو جائز لأن ما اشتراها صارت مملوكة للمولى وقد أقامه المولى مقام نفسه في ذلك ولو زوج بنفسه أمته بمحضر من الشهود جاز فكذلك العبد إذا فعل ذلك وقال أبو حنيفة رحمه الله في رجل له جارية تخرج في حوائجه وهو يطؤها فحملت وولدت وسعه أن يدعيه وأن يبيعه معها وإن كان لا يدعها تخرج لم يسعه ذلك وإن كان يعزل عنها ولا يطلب ولدها لم يسعه ذلك إذا حبسها ومنعها من الخروج وهذا فيما بينه وبين ربه فأما في الحكم لا يلزمه النسب إلا بالدعوى إلا أنه إذا حصنها فالظاهر أن الولد منه سواء كان يعزل عنها أو لا يعزل فعليه الأخذ بالاحتياط والبناء على الظاهر.
وذكر عن علي رضي الله عنه أن رجلا أتاه فقال أن لي جارية أطؤها وأعزل عنها فجاءت بولد فقال علي رضي الله عنه نشدتك بالله هل كنت تعود إلى جماعها قبل أن تبول قال نعم فمنعه من أن ينفيه فهو عندنا على التي قد حصنت ومعنى هذا أنه يتوهم بقاء بعض المنى في إحليله فبالمعاودة يصل إليها إذا عاد في جماعها قبل البول ولهذا قال أبو

 

ج / 30 ص -198-    حنيفة رحمه الله إذا أتى أهله واغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المنى يلزمه الاغتسال ثانيا وكذلك إن كان يعزل عنها فصب الماء من فوق فربما يعود إلى فرجها فتحبل به ولهذا لا يسعه نفي الولد والأصل فيه ما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما سئل عن العزل قال: "إذا أراد الله خلق نسمة من ماء فهو خالقها وإن صببتم ذلك على صخرة فاعزلوا أو لا تعزلوا".
وإذا غاب أحد المتفاوضين فأراد الثاني منهما أن يبطل الشركة فالحيلة له أن يرسل رسولا إليه بأنه قد فارقه ونقض ما بينهما من الشركة فإذا بلغ الرسول ذلك فقد انقضت الشركة بينهما لأن كل واحد منهما ينفرد بنقض الشركة بعد أن يكون ذلك بعلم صاحبه ليندفع الضرر عنه والغرر عن شريكه بذلك وعبارة الرسول في إعلامه كعبارة المرسل وهذا في كل عقد لا يتعلق به اللزوم نحو عزل الوكيل والحجر على العبد المأذون وفسخ المضاربة ونقض ولاء الموالاة إذا كان الأسفل غائبا فأراد الأعلى أن ينقض ولاءه أرسل إليه رسولا يبلغه عنه أنه قد نقض موالاته فيكون تبليغ الرسول إياه كتبليغ المرسل بنفسه وإن أراد ذلك الأسفل فله ذلك قبل أن يعقل عنه الأعلى وإن شاء فعل كذلك وإن شاء إلى غيره فيكون ذلك نقضا للموالاة مع الأول وقد بينا هذا في كتاب الولاء والله أعلم بالصواب.

باب الأيمان
قال رحمه الله: ولو حلف لا يلبس من ثياب فلان شيئا وليس لفلان يومئذ ثوب ثم اشترى ثوبا فلبسه الحالف حنث لأنه عقد يمينه على لبس ثوب مضاف إلى فلان فيعتبر وجود الإضافة عند اللبس كما لو حلف لا يأكل طعام فلان بشرط وجود الإضافة عند الأكل وهذا لأن الذي دعاه إلى اليمين ليس معنى في الثوب والطعام بل لمعنى لحقه من جهة فلان وبذلك المعنى إنما يمتنع من اتحاد الفعل فيه لكونه مضافا إلى فلان وقت اتحاد الفعل لا وقت اليمين.
وفرق أبو يوسف، رحمه الله بين هذا وبين الدار وقال الدار لا يستحدث الملك فيها في كل وقت فلا يتناول يمينه إلا ما كان موجودا في ملك فلان عند يمينه فأما الثوب والطعام فيستحدث الملك فيهما في كل وقت وإنما يتناول يمينه ما كان في ملك فلان عند وجود الفعل.
ولو حلف لا يكسو فلانا فوهب له ثوبا صحيحا وأمره أن يصنع منه قميصا حنث لأنه قد كساه فهذا اللفظ إنما يتناول تمليك الثوب منه لا إلباس الثوب إياه.
ألا ترى أن كفارة اليمين تتأدى بكسوة عشرة مساكين وذلك بالتمليك دون الإلباس ويقال في العادة كسا الأمير فلانا إذا ملكه سواء لبسه فلان أو لم يلبسه فقد يطلق اسم الكسوة على ما لا يتأتى فيه اللبس فعرفنا أن المراد به التمليك.
ولو حلف لا يلبس قميصا لفلان فلبس قميصا لعبده لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف قال الحاكم رحمه الله: يحنث وهذا خلاف ما مضى في كتاب

 

ج / 30 ص -199-    الإيمان أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إذا لم يكن على العبد دين لم يحنث إلا أن ينويه وعلى قول محمد يحنث قال ولكن عندي أن الجواب الذي ذكر في الكتاب فيما إذا كان على العبد دين مستغرق ونواه فإنه لا يحنث عند أبي حنيفة لأنه لا يملك كسبه وعند أبي يوسف يحنث لأنه مالك كسبه فأما عند عدم النية أو عند عدم الدين على العبد فلا خلاف عند أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحنث وإن حلف أنه لا يكسو فلانا فكسى عبده لا يحنث لأنه ما ملك الثوب من فلان وإنما ملكه عبده لأن الملك يقع للمولى على سبيل الخلافة من عبده حكما وذلك ليس شرط حنثه ثم هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله ظاهر فإن عنده لو وهب لعبد أخيه يملك الرجوع فيه ولم يجعل كهبته لأخيه فكذلك إذا كسى عبد فلان لا يجعل في حكم الحنث كأنه كسى فلانا وهما يقولان في حكم الرجوع هبته لعبد أخيه كهبته لأخيه لاعتبار أن الخصومة في الرجوع تكون مع المولى وهو قريب له فرجوعه يؤدي إلى قطيعة الرحم وهنا شرط حنثة نفس الكسوة لا معنى ينبني عليه وقد وجد ذلك مع العبد دون المولى.
ألا ترى أن القبول والرد فيه يعتبر من العبد دون المولى وعلى هذا لو حلف لا يبيع من فلان شيئا فباع من عبده لم يحنث وهذا في البيع أظهر لأنه لو باع من وكيل فلان لم يحنث فكيف يحنث إذا باع من عبد فلان والعبد في الشراء يتصرف لنفسه لا لمولاه.
ولو حلف لا يبيع هذا الثوب من فلان بثمن فباعه بجارية لم يحنث لأن الثمن اسم للنقد الذي يتعين في العقد ولأن البيع بثمن لا يتناول بيع المقابضة فإن في بيع المقابضة يكون كل واحد منهما بائعا من وجه مشتريا من وجه والبيع بثمن ما يكون بيعا من كل وجه.
ولو حلف لا يشتري من فلان ثوبا فأمر رجلا فاشترى له منه لم يحنث لأن الوكيل بالشراء في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه.
ألا ترى أنه يستغني عن إضافة العقد إلى الآمر قالوا وهذا إذا كان الحالف ممن يباشر الشراء بنفسه فإن كان ممن لا يباشر ذلك بنفسه فهو حانث في يمينه لأنه يقصد بيمينه منع نفسه عما لا يباشره عادة وفي اليمين مقصود الحالف معتبر.
وحكي أن الرشيد سأل محمدا رحمه الله عن هذه المسألة فقال أما أنت فنعم يعني إذا كان لا يباشر العقد بنفسه فجعله حانثا بشراء وكيله له وإن وهب المحلوف عليه الثوب للحالف على شرط العوض لم يحنث لأنه ما اشتراه منه فالشراء يوجب الملك بنفسه والهبة بشرط العوض لا توجب الملك إلا بالقبض ثم بالهبة بشرط العوض إنما يثبت حكم البيع بعد اتصال القبض به من الجانبين وهو جعل الشرط نفس العقد وبنفس العقد لا يصير هو مشتريا ولا صاحبه بائعا منه فلهذا لم يحنث.
قال: وسألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل لا يساكن فلانا في دار ولا نية له فسكن معه في دار كل واحد منهما في مقصورة على حده قال لا يحنث حتى يكونا في مقصورة

 

ج / 30 ص -200-    واحدة وفيها قول آخر أنه يحنث وهو رواية هشام عن محمد رحمهما الله وهذه ثلاث فصول:
أحدها: أن يسكنا في محلة واحدة وكل واحد منهما في دار منها لا يحنث بدون النية لأن المساكنة على ميزان المفاعلة فتقتضي وجود الفعل منهما في مسكن واحد وكل دار مسكن على حدة فلم يجمعهما مسكن واحد.
والثاني: أن يسكنا في دار واحدة وكل واحد منهما في بيت منها فإنه يكون حانثا في يمينه لأن جميع هذه الدار مسكن واحد ويسمى في العرف ساكنا مع صاحبه، وإن كان كل واحد منهما في بيت.
والثالث: أن يكون في الدار مقاصير وكل واحد منهما في مقصورة على حدة ومحمد رحمه الله يقول هنا الدار مسكن واحد والمقاصير فيها كالبيوت.
ألا ترى أنه يتخذ المرافق كالمطبخ والمربط فعرفنا أن جميعها في السكنى مسكن واحد وأبو يوسف رحمه الله يقول كل مقصورة مسكن على حدة.
ألا ترى أن السارق من بعض المقاصير لو أخذ في صحن الدار قبل أن يخرج كان عليه القطع وإن ساكن إحدى المقصورتين لو سرق من المقصورة الأخرى متاع صاحبه كان عليه القطع فكانت المقاصير في دار بمنزلة الدور في محلة واحدة بخلاف البيوت فكل بيت من الدار ليس بمسكن على حدة.
ألا ترى أن الكل حرز واحد حتى أن السارق من بيت إذا أخذ في صحن الدار ومعه متاع لم يقطع والضيف الذي هو مأذون بالدخول في إحدى البيتين إذا سرق من البيت الآخر لم يقطع فعرفنا أن الكل مسكن واحد هناك.
ولو حلف لا يدخل على فلان ولا نية له فدخل عليه في دار قال أبو يوسف رحمه الله لا يحنث وجعل الدخول عليه في الدار كالدخول في محلة أو قرية وإنما الدخول على الغير في العرف بأن يدخل بيتا هو فيه أو مقصورة هو فيها على قصد زيارته فما لم يوجد ذلك لا يحنث في يمينه ومشايخنا رحمهم الله قالوا في عرف ديارنا يحنث في يمينه فإن الإنسان كما يجلس في بيته ليزوره الناس يجلس في داره لذلك فكان ذلك مقصودا بيمينه.
قال: وكذلك لو دخل عليه في دهليز لم يحنث في يمينه ومراده من ذلك دهليز إذا رد الباب يبقى خارجا فأما كل موضع إذا رد الباب يبقى داخلا فإذا دخل عليه في ذلك الموضع ينبغي أن يحنث لأن الإنسان قد يجلس في ذلك الموضع ليزوره الناس فيه.
ألا ترى أنه ليس لأحد أن يدخل عليه في ذلك الموضع إلا بإذنه بخلاف الموضع الذي هو خارج الباب فلكل أحد أن يصل إلى ذلك الموضع بغير إذنه ولو دخل عليه في المسجد لم يحنث لأن لكل واحد أن يدخل المسجد بدون إذنه فلم يكن ذلك شرط حنثه ولا يسمى دخولا عليه في العادة.

 

 

ج / 30 ص -201-    ولو حلف لا يدخل على فلان منزلا وحلف الآخر بعد ذلك لا يدخل على الحالف الأول منزلا فدخلا معا لم يحنث واحد منهما لأن كل واحد منهما داخل المنزل ولكن مع صاحبه لا على صاحبه فالدخول عليه أن يكون قصده عند الدخول لقاءه وإكرامه بالزيارة وهذا لا يتحقق إذا كان هو معه فإنه لا يتصور أن يكون كل واحد منهما داخلا على صاحبه في موضع واحد في حالة واحدة وليس أحدهما بأن يجعل داخلا على صاحبه بأولى من الآخر.
ولو حلف لا يطأ منزل فلاذ بقدمه يعني بذلك لا يضع قدمه على أرض منزله فدخله وعليه خفان أو نعلان أو راكبا لم يحنث وإن لم يكن له نية حنث لأن المراد من هذا اللفظ في العرف دخوله منزله فعند الإطلاق يحمل على ذلك وهو داخل سواء كان راكبا أو ماشيا أو حافيا أو منتعلا وإن نوى حقيقة وضع القدم فإنما نوى حقيقة كلامه لأنه إنما يطأ الشيء بقدميه حقيقة من غير فاصل بينهما ولا يحصل ذلك إذا دخلها راكبا أو منتعلا ومن نوى حقيقة كلامه عومل بنيته.
ولو قال لامرأته: إن دخلت دار أبيك إلا بإذني فأنت طالق فالحيلة في ذلك في أن لا يحنث أن يقول لها قد أذنت لك في دخول هذه الدار كلما شئت فتدخل كلما شاءت ولا يحنث لأنه جعل الدخول بإذنه مستثنى من يمينه والإذن بكلمة كلما يتناول مرة بعد مرة ما لم يوجد النهي فهي كل مرة إنما تدخل بإذنه إلا أن يمنعها من الدخول فحينئذ إذا دخلت بعد ذلك كان دخولا بغير إذنه.
ولو قال: أنت طالق إن خرجت من بيتي ولا نية له فخرجت من البيت إلى الحجرة لم يحنث لأنها ليست بخارجة من البيت.
ألا ترى أن المعتدة لا تمنع من ذلك بقوله عز وجل:
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] ولأن مقصوده من هذا أن لا يراها الناس وإنما يكون ذلك بالخروج إلى السكة لا بالخروج إلى الحجرة لأن الحجرة من حرزه لا يدخلها أحد إلا بإذنه لمنزله.
ولو حلف لا يدخل على فلان بيته فدخل حجرته قيل لا يحنث لأنه ما دخل بيته وهو نظير ما تقدم إنه إذا دخل عليه في دار لم يحنث قالوا وفي عرف ديارنا يحنث في يمينه فاسم البيت يتناول السفل.
ألا ترى إن من بات في حجرته إذا قيل له أنذيت البلدة الليلة يستجير أن يقول في بيتي ولو حلف لا يأخذ ماله على فلان إلا جميعا فأخذ حقه جميعا إلا درهما وهبه للمطلوب لم يحنث لأن شرط حنثه أن يأخذ ماله على فلان متفرقا فإنه لما استثنى الأخذ جملة واحدة عرفنا أن المستثنى منه الأخذ متفرقا فإذا وهب له البعض أو أبرأه عن البعض فلم يوجد الأخذ متفرقا فلم يحنث وإن أخذ جميع حقه فوجد فيه درهما متفرقا لم يحنث حتى يستبدله فإن استبدله حينئذ يحنث لأن قبل الاستبدال لم يوجد أخذ جميع الحق متفرقا وإنما الموجود أخذ

 

ج / 30 ص -202-    بعض حقه وليس ذلك شرط حنثه فأما بعد الاستبدال فقد أخذ جميع الحق متفرقا وهذا لأن الستوق ليس من جنس الدراهم ويقبضه لا يصير قابضا ولهذا لا يجوز به الصرف والسلم لم يجز فحين استبدله فقد وجد الآن قبض ما بقي من حقه وقد كان قبض بعضه في الابتداء فعرفنا أنه وجد أخذ جميع الحق متفرقا حتى لو وجد الكل ستوقا فاستبدله لم يحنث لأنه ما أخذ حقه متفرقا وإن حلف لا يتقاضى فلانا فلزمه فلم يتقاضاه لم يحنث لأن الملازمة غير التقاضي فالتقاضي يكون باللسان والملازمة تكون بالبدن والملازمة غير التقاضي في عرف الناس ومبنى الإيمان على العرف ولو حلف المطلوب ليعطيه حقه درهما دون درهم فأعطاه بعض حقه لم يحنث لأن الشرط إعطاء جميع حقه متفرقا فإن قوله درهما دون درهم عبارة عن التفرق عادة وهو بإعطاء بعض الحق إنما أعطاه حقه متفرقا.
ولو حلف الطالب لايفارقه حتى يستوفي ماله عليه فنام الطالب أو غفل فهرب المطلوب لم يحنث في يمينه لأنه عقد يمينه على فعل نفسه وهو ما فارق المطلوب إنما المطلوب فارقه حين هرب منه ولو حلف لا يفارقه فأمره السلطان أن لا يتعرض له وحال بينه وبين لزومه فذهب المطلوب ولم يقدر الطالب على إمساكه لم يحنث لأن الطالب ما فارقه إنما المطلوب هو الذي هرب منه وفعل غيره لا يكون فعلا له ولكونه بأمر السلطان عجز عن إمساكه وبهذا لا يصير مفارقا له.
ولو قال: كل شيء أبايع به فلانا فهو صدقة ثم بايعه لم يلزمه شيء لأن البيع يزيل ملكه فإنما أضاف النذر بالصدقة إلى حال زوال ملكه عما بايع غيره به والمضاف إلى وقت كالمنشأ في ذلك الوقت وبعد ما زال ملكه بالبيع عن العين لو قال لله تعالى على أن أتصدق بهذا العين لم يصح نذره فإن قيل لماذا لم يجعل هذا اللفظ التزاما للتصدق بيمينه قلنا لأنه قال فهو صدقة ولم يقل قيمته صدقة والملتزم للتصدق بالعين لا يكون ملتزما للتصدق بالثمن.
ولو حلف المطلوب أن لا يعطي الطالب شيئا ثم أمر المطلوب رجلا فأعطاه حنث في يمينه لأن الحالف هو المعطي فإن الدافع رسول من جهته بالتسليم إلى فلان فيصير المعطي فلانا.
ألا ترى أنه لو دفع صدقته إلى إنسان ليفرقها على المساكين ثم إن الدافع لم يحضر النية عند التصدق جاز إذا وجدت النية ممن أمره بالصدقة وجعل كأنه هو المعطي فهذا مثله فإن حلف أن يعطيه من يده إلى يده يحنث لأنه جعل شرط حنثه إعطاء مقيدا بصفة وهو أن يكون بالمناولة وهذا لأن الإعطاء من يده إنما يكون من المعطي وهو المباشر للإعطاء فيه حقيقة وحكما وإذا صرح في يمينه بالإعطاء على أتم الوجوه لا يحنث بما دونه.
وإذا أطلق اللفظ يعتبر ما هو المقصود وذلك حاصل سواء أعطاه بيده أو أمر غيره فأعطاه وإن حلف أن لا يعطيه ما عليه درهما فما فوقه فأعطاه حقه كله دنانير وإنما عنى

 

ج / 30 ص -203-    الدراهم لم يحنث لأنه صرح في يمينه بالدراهم ولا بد من اعتبار ما صرح به خصوصا إذا تأيد ذلك بنيته ولأن الإنسان قد يمتنع من إعطاء الدراهم ولا يمتنع من إعطاء الدنانير لماله من المقصود في الصرف والتقييد إذا كان فيه غرض صحيح يجب اعتباره.
ولو قال لرجل: إن أكلت عندك طعاما أبدا فهو كله حرام ينوي بذلك العين فأكله عنده لم يحنث لأنه يجعل الحرام ما أكله وبعد ما أكله لا يتصور أن يجعله حراما وهذا لأن وصف الشيء بأنه حرام بطريق أنه محل لايقاع الفعل الحرام فيه وذلك لا يتحقق بعد الأكل وتحريم الحلال إنما يكون يمينا إذا صادف محله فأما إذا لم يصادف محله كان لغوا ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول أنه بعد ما أكله حرام.
ألا ترى أنه على أي وجه انفصل عنه كان حراما فيقول هو صادف محله في كلامه ولكن هذا ليس بصحيح لأنه كما أن تحريم الحلال يمين فتحريم الحرام يمين حتى إذا قال هذا الخمر علي حرام ونوي به اليمين كان يمينا فعرفنا أن الطريق هو الأول وهو أن هذا التحريم لم يصادف محله أصلا.
ولو حلف لا يذوق طعاما لفلان فأكل طعاما له ولأخر حنث لأنه قد ذاق طعام فلان والطعام المشترك بين اثنين لكل واحد منهما جزء منه والذوق يتم بذلك الجزء كالأكل يتم به ولو حلف لا يأكل طعام فلان فأكل طعاما له ولأخر كان حانثا في يمينه بخلاف ما لو حلف لا يلبس ثوب فلان فلبس ثوبا بينه وبين آخر أو لا يركب دابة فلان فركب دابة بينه وبين آخر لأن الجزء الذي هو مملوك لفلان لا يسمى ثوبا ولا دابة وعلى هذا لو حلف لا يأكل لقمة لفلان فأكل طعاما بينه وبين آخر لم يحنث لأن كل لقمة مشتركة بينه وبين فلان وإنما جعل شرط حنثة أكل لقمة فلان خاصة ولم يوجد ذلك.
ولو حلف لا يشرب الشراب ولا نية له بهذا غير الخمر فإن شرب غيرها لم يحنث يعني غيرها مما لا يسكر فأما ما يشرب للسكر والتلهي به إذا شرب شيئا منه كان حانثا لأن الشراب في الناس إذا أطلق يراد به المسكر والإنسان إنما يمنع من ذلك بيمينه للتحرز عن السكر فيتناول مطلق لفظه ما يسكر ويسقط اعتبار حقيقة لفظه بالاتفاق حتى لا يحنث بشرب الماء أو اللبن وهو شراب فالشراب حقيقة ما يشرب.
ولو حلف لا يزايل حراما فشرب خمرا لم يحنث إلا أن ينويه لأن المراد بهذا اللفظ الفجور عند الإطلاق فينصرف يمينه إليه إلا أن ينوي غيره فالحاصل أن دليل العرف يغلب على حقيقة اللفظ في باب الإيمان ولهذا لو حلف لا يشتري بنفسجا ينصرف إلى دهن البنفسج دون الورق والبنفسج للورق حقيقة فعرفنا أن العرف يعتبر في باب الإيمان وأن مطلق اللفظ يتقيد بمقصود الحالف.
ولو قال لامرأته: أن أمسيت قبل أن أطعم فأنت طالق ولا نية له قال أن غربت الشمس ولم يطعم حنث لأن المراد بهذا اللفظ دخول الليل وذلك بعد غروب الشمس فإن الإمساء قبل

 

ج / 30 ص -204-    الإصباح فإنما يقول الرجل لآخر كيف أصبحت في أول النهار وكيف أمسيت في آخر النهار عند غروب الشمس؟.
ألا ترى أن الصائم يحرم عليه الطعام والشراب من الصباح إلى المساء وينتهي ذلك بغروب الشمس فإذا غربت الشمس ولم يطعم فقد أمسى قبل أن يطعم فيحنث في يمينه.
ولو حلف لا يأكل هذا الجمل فكبر حتى صار مسنا فأكله حنث وقد بينا في الإيمان من الجامع وغيره أن في الحيوان العين لا تتبدل بتبدل الوصف ولهذا لو حلف لا يكلم هذا الصبي وكلمه بعد ما شب أو لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ حنث بخلاف ما لو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرا لم يحنث فهذه المسألة تنبني على ذلك الأصل والله أعلم بالصواب

باب في البيع والشراء
قال رحمه الله: امرأة حامل تريد أن تهب مهرها لزوجها على أنها أن ماتت في نفاسها كان الزوج بريأ من المهر وأن سلمت عاد المهر على زوجها فإنه ينبغي لها أن تشتري من الزوج ثوبا لم تره بأن كان في منديل فتشتريه بجميع مهرها أو نصفه فإن ماتت في نفاسها بريء الزوج وأن سلمت من علتها ردت الثوب بخيار الرؤية وعاد المهر على زوجها وهذا يستقيم إذا بقي الثوب على حاله لأن الرد بخيار الرؤية غير موقت وبه ينفسخ العقد من الأصل فيعود المهر عليه كما كان ولكن الثوب قد يتعيب عندها أو يهلك فيتعذر رده فالسبيل أن تشتري الثوب وتشهد على ذلك من غير أن تقبضه من الزوج حتى لا يتعذر عليها الرد إذا سلمت بوجه من الوجوه.
رجل أمر رجلا أن يشتري دارا بألف درهم وأخبره أنه أن فعل اشتراها الآمر منه بألف ومائة فخاف المأمور أن اشتراها أن لا يرغب الآمر في شرائها قال يشتري الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام فيها ويقبضها ثم يأتيه الآمر فيقول له قد أخذتها منك بألف ومائة فيقول المأمور هي لك بذلك ولا بد له أن يقبضها على أصل محمد رحمه الله فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا حاجة إلى هذا الشرط لجواز التصرف في العقار قبل القبض عندهما والمشتري بشرط الخيار يتمكن من التصرف في المشتري بالاتفاق، وإني اختلفوا أنه هل يملكه مع شرط الخيار أم لا فإنما قال الأمر يبدأ ليتمكن من التصرف في المشتري فيقول أخذت منك بألف ومائة لأن المأمور له لو بدأ قال بعتها منك ربما لا يرغب الأمر في شرائها ويسقط خيار المأمور بذلك فكان الاحتياط في أن يبدأ الأمر حتى إذا قال المأمور هي لك بذلك ثم البيع بينهما وإن لم يرغب الأمر في شرائها يمكن المأمور من ردها بشرط الخيار فيندفع الضرر عنه بذلك.

 

ج / 30 ص -205-    رجل حلف يعتق كل مملوك يملكه إلى ثلاثين سنة وعليه كفارة ظهار فأراد أن يعتق ويجوز عن ظهاره قال يقول الرجل أعتق عبدك عني على ألف درهم فإذا فعل ذلك عتق لأن الملك هنا وأن كان يثبت للأمر فإنما يثبت ذلك في حكم تصحيح العتق عنه لأنه ثابت بطريق الإضمار والمقصود بالإضمار تصحيح الكلام ففيما يرجع إلى تصحيح الكلام يظهر حكم المضمر ولا يظهر فيما وراء ذلك فلا يصير شرط الحنث في اليمين الأولى موجودا بهذا اللفظ فيقع العتق عن الظهار كما أوجبه بالكلام الثاني وهذه المسألة تصير رواية في فصل وهو من قال لعبد الغير ملكتك فأنت حر ثم قال أن ملكتك فأنت حر عن ظهاري ثم اشتراه لا بجزئه عن الظهار لأن عتقه عند دخوله في ملكه صار مستحقا بالكلام الأول على وجه لا يملك أبطاله ولا يملك أبداله بغيره فعند دخوله في ملكه إنما يعتق بالكلام الأول ولم يقترن به نية الظهار ألا ترى أنه تكلف في هذا الفصل فقال يقول الرجل اعتق عبدك عني على كذا ولو كان هو يمكنه اعتاقه عن ظهاره لقال أنه يقول لهذا المملوك: أن ملكتك فأنت حر عن ظهاري ثم يشتريه فلما لم يذكر هكذا عرفنا أن الصحيح في تلك المسألة أن يعتق عند دخوله في ملكه بالإيجاب الأول خاصة.
امرأة طلقها زوجها ولها عليه دين بغير بينة فحلف ما لها عليه حق فأرادت أن تأخذ منه وأنكرت أن تكون عدتها قد انقضت تريد بذلك أن تأخذ منه نفقة بقدر دينها قال يسعها ذلك لأنها لو ظفرت بجنس حقها كان لها أن تأخذه بغير علمه فكذلك أن تمكنت من الآخذ بهذا الطريق وهذا لأن هذا الزوج وأن كان يعطيها بطريق نفقة العدة فهي إنما تستوفي بحساب دينها ولها حق استيفاء مال الزوج بحساب دينها على أي وجه كان منه فإن حلفها القاضي على انقضاء عدتها فحلفت تعنى به شيئا غير ذلك وسعها وقد بينا أنها متى كانت مظلومة تعتبر نيتها فإذا حلفت ما انقضت عدتى تعني به عدة عمرها وسعها ذلك.
ولو أن رجلا أراد أن يدفع مالا مضاربة إلى رجل وأراد أن يكون المضارب ضامنا له فالحيلة في ذلك أن يقرضه رب المال المال إلا درهما ثم يشاركه بذلك الدرهم فيما أقرضه على أن يعملا فما رزقهما الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما على كذا وهذا صحيح لأن المستقرض بالقبض يصير ضامنا للمستقرض متملكا ثم الشركة بينهما مع التفاوت في رأس المال صحيح فالربح بينهما على الشرط على ما قال علي رضي الله عنه الربح على ما اشترطا والوضيعة على المال ويستوي أن عملا جميعا أو عمل به أحدهما فربح فإن الربح يكون بينهما على هذا الشرط وإن شاء أقرض المال كله للمضارب ثم يدفعه المستقرض إلى المقرض مضاربة بالنصف ثم يدفعه المقرض إلى المستقرض بضاعة فيجوز ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن دفعه إلى صاحب المال بضاعة كدفعه إلى أجنبي آخر وفي قول محمد رحمه الله الربح كله للعامل هنا لأن العامل صاحب المال وهو في عمله في ملكه لا يصلح أن يكون نائبا عن غيره وقد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب المضاربة،

 

ج / 30 ص -206-    فهذه الحيلة على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خاصة فالمال كله صار مضمونا عليه بالقبض على جهة القرض ثم هو العامل في المال والربح على شرط المضاربة فأما عند محمد رحمه الله الحيلة هي الأولى.
قال: وسألت أبا يوسف رحمه الله عن الرجل يشتري دارا بألف درهم فخاف أن يأخذها جارها بالشفعة فاشتراها بألفي درهم من صاحبها ثم أعطاه بألف دينار أو ألف درهم قال هو جائز لأن هذه مصادقة بالثمن قبل القبض وذلك جائز لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال ألا يا رسول الله أعلي بأس أني أبيع الإبل بالبقيع وربما أبيعها بالدراهم وأخذ مكانها دنانير فقال عليه السلام: "لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل" فإن حلفه القاضي ما دالست ولا دلست فحلف كان صادقا لأن هذه عبارة عن الغرور والخيانة ولم يفعل شيئا من ذلك وأن أحب أن لا يكون عليه يمين اشتراها كذلك لولده الصغير فلا يكون عليه يمين في ذلك لأن الاستحلاف لرجاء النكول أو الإقرار وهو لو أقر بذلك لم يصح إقراره في حق الصغير فإن لم يكن له ولد صغير فالسبيل أن بأمر بعض أصدقائه أن يشتريها له كذلك ويشهد على الوكالة ويجعله جائز الأمر في ذلك فإن اشتراها لم يكن بين الشفيع والمشتري في ذلك خصومة في قول محمد رحمه الله وفي قول أبي يوسف ما دامت في يده فهو خصم للشفيع ألا أن يشهد على تسليمها للأمر ثم يودعها الأمر منه أو يعيرها.
رجل أحب أن يشتري دارا بعشرين ألف درهم فإن أخذها الشفيع أخذها بعشرين ألف ولو استحق الدار لم يرجع على البائع إلا بعشرة آلاف قال يشتريها بعشرين ألف درهم وينقده تسعة آلاف وتسعين درهما ودينارا فإنما بقي من الثمن فإن رغب فيها الشفيع أخذها بعشرين ألف وإن استحقت يرجع على البائع بما دفع إليه لأنها لما استحقت بطل عقد الصرف لوجود الافتراق قبل قبض أحد البدلين ولا يرجع إلا بما أدى وقبل الاستحقاق الصرف صحيح فلا يأخذ الشفيع الدار إلا بعشرين ألف ولو أعطاه بالباقي مكان الدينار ثوبا أو متاعا رجع عند الاستحقاق بعشرين ألف لأن استحقاق الدار لا يبطل البيع في الثوب والمتاع فيكون قابضا منه عشرين ألفا فيلزمه رد ذلك عند استحقاق الدار، فأما عقد الصرف يبطل باستحقاق الدار فلا يلزمه إلا رد المقبوض فلو لم يستحق ووجد بالدار عيبا ردها بعشرين ألف في جميع ذلك لأنه بالرد بالعيب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجبا قبل القبض وقد بينا في كتاب الشفعة وجوه الحيل لإبطال الشفعة أو لتقليل رغبة الشفيع في الأخذ وذلك لا بأس به قبل وجوب الشفعة عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله هو مكروه أشد الكراهة لأن الشفعة مشروعة لدفع الضرر عن الشفيع فالذي يحتال لإسقاطها بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير وذلك مكروه وأبو يوسف رحمه الله يقول أنه يمتنع من التزام هذا الحق مخافة أن لا يمكنه الخروج منه إذا التزمه وذلك لا يكون مكروها كمن امتنع من جميع المال كيف يلزمه نفقة الأقارب والحج فهذا دفع الضرر عن نفسه لا الإضرار بالغير، لأن في الحجر عليه عن

 

ج / 30 ص -207-    التصرف أو تملك الدار عليه بغير رضاه إضرار به وهو إنما قصد دفع هذا الضرر وعلى هذا الخلاف الحيلة لمنع وجوب الزكاة.
واستدل أبو يوسف رحمه الله على ذلك في الأمالي قال أرأيت لو كان لرجل مائتا درهم فلما كان قبل الحول بيوم تصدق بدرهم منها كان هذا مكروها وإنما تصدق بالدرهم حتى يتم الحول وليس في ملكه نصاب فلا يلزمه الزكاة ولا أحد يقول بأن هذا يكون مكروها أو يكون هو فيه آثما.
قال: وإذا اشترى الرجل دارا لغيره وكتب في الصك ونقد فلان فلانا الثمن كله من مال فلان الأمر فللبائع أن لا يرضي بهذا لما فيه من الضرر عليه فربما يجيء الأمر فيقول قد أخذت مالي وأقررت بذلك حين أشهدت على الصك ولم آمر فلانا بالشراء لي فيسترد ماله ولا يقدر هو على المشتري ليطالبه بثمن الدار وإن لم يكتب هذا ففيه نوع ضرر على الأمر وهو أن يأخذ المشتري الأمر بالمال ويقول نقدت الثمن من مالي فالحيلة أن يكتب وقد نقد فلان فلانا الثمن ولا يكتب من مال من هو فإذا ختم الشهود كانت شهادتهم على البيع وقبض الثمن فقط ثم يقر المشتري بعد ذلك أن ما نقده من الثمن إنما هو من مال الآمر فيكون إقراره حجة عليه للآمر فيندفع الضرر عنهما والله أعلم بالصواب.

باب الاستحلاف
قال رحمه الله: وإذا أراد الرجل أن يغيب فقالت له امرأته كل جارية تشتريها فهي حرة حتى ترجع إلى الكوفة ومن رأيه أن يشتري جارية كيف يصنع قال إذا حلف بهذه الصفة يقول نعم فيريها بهذه الكلمة أنه حلف على الوجه الذي طلبت وهو يعني بني تغلب أو غيره من أحياء العرب أو ينوي بقلبه واحد الأنعام فإنه يقال نعم والإنعام هي الإبل والبقر والغنم قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] الآية فإذا عني هذا لم يكن حالفا فإن أبت إلا أن الزوج هو الذي يقول كل جارية أشتريها فهي حرة قال فليفعل ذلك وليعن بذلك كل سفينة جارية قال الله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} [الرحمن: 24] والمراد السفن فإذا عني ذلك عمل بنيته لأنها ظالمة له في هذا الاستحلاف ونية المظلوم فيما يحلف عليه معتبرة وأن حلفته بطلاق كل امرأة يتزوجها عليها فليقل كل امرأة أتزوجها عليك فهي طالق وهو ينوي بذلك كل امرأة أتزوجها علي رقبتك فيعمل بنيته في ذلك لأنه نوى حقيقة كلامه فلا يحنث إذا تزوج على غير رقبتها فإن كان إنما عنى أن لا أتزوج على اطلاقك فهذه النية تعمل فيما بينه وبين الله تعالى ولا يحنث إذا تزوج امرأة أخرى وكذلك أن عني بقوله فهي طالق من الوثاق فنيته صحيحة فيما بينه وبين الله تعالى وإن قال كل امرأة أتزوجها فأطؤها فهي طالق وعني الوطء بقدمه فهو يدين فيما بينه وبين ربه لأن المنوي من محتملات لفظه وقال بعض مشايخنا رحمهم الله ينبغي أن يدين في هذا الموضع في القضاء لأنه نوى

 

ج / 30 ص -208-    حقيقة كلامه فالوطء يكون بالقدم حقيقة إلا أنا نقول الوطء متى أضيف إلى النساء فهو حقيقة في الجماع دون الوطء بالقدم وإنما يراد الوطء بالقدم إذا ذكر مطلقا غير مضاف إلى النساء فلهذا لا يدين هنا في القضاء وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى.
رجل أتهم جارية أنها سرقت له مالا فقال: أنت حرة أن لم تصدقيني وخاف المولى أن لا تصدقه فتعتق فما الحيلة فيه قال تقول الجارية قد سرقته ثم تقول بعد ذلك لم أسرقه فيتيقن أنها صدقته في إحدى الكلامين ولا تعتق وأن قال لأمرأته أنت طالق أن بدأتك بالكلام وقالت له المرأة بعد ذلك وإن ابتدأتك بالكلام فجاريتي حرة، فالحيلة فيه أن يبدأ الزوج بالكلام لأن المرأة قد كلمته بعد كلامه حين خاطبته بيمينها فلا يكون الزوج مبتدئا لها بالكلام بعد يمينه وإن كانت اليمين منهما جميعا فالحيلة فيه أن يكلم كل واحد منهما صاحبه معا على ما ذكره في الجامع إذا حلف رجلان فقال كل واحد منهما لصاحبه إن ابتدأتك بالكلام فالتقيا وسلم كل واحد منهما على صاحبه معا لم يحنث كل واحد منهما في يمينه لأن المبتدئ بالشيء من يسبق غيره بذلك الشيء فإذا اقترن كلامه بكلام صاحبه لم يكن مبتدئا.
رجل قال: والله أنا لا أجلس فما أقوم حتى أقام يعني حتى يقويني الله على ذلك فيقيمني فإنه لا يحنث وهو صادق في يمينه لأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد مخلوقه الله تعالى قال الله تعالى
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فلا يقوم أحد ما لم يقمه الله تعالى.
وقيل في قوله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] أن المراد هذا وهو أن العبد لا يستغني في شيء من أقواله وحركاته عن الله تعالى وهو نظير ما قال في كتاب الإيمان في الجامع الصغير إذا حلف ليأتينه غدا إلا أن لا يستطيع وهو يعني بذلك القضاء والقدر فإنه تعمل نيته ولا يكون حانثا في يمينه بحال ولو قال لأمته أنت حرة أن ذقت طعاما حتى أضربك فأنفت الأمة فالحيلة أن يهبها لولده الصغير ثم يتناول الطعام فلا يحنث في يمينه لأنه صار قابضا لولده بنفس الهبة فإنما يوجد الشرط وهي ليست في ملكه فلا يتحقق.
قال: وسئل أبو حنيفة رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها اخلعني فقال أنت طالق ثلاثا أن سألتيني الخلع أن لم أخلعك فقالت المرأة جاريتي حرة أن لم أسألك قبل الليل وجاء إلى أبي حنيفة رحمه الله قال أبو حنيفة رحمه الله سليه الخلع فقالت لزوجها أسألك أن تخلعني فقال أبو حنيفة رحمه الله لزوجها قل قد خلعتك على ألف درهم تعطيها لي فقال لها الزوج ذلك فقال أبو حنيفة رحمه الله لها قولي لا أقبله فقالت فقال أبو حنيفة رحمه الله قوما فقد بر كل واحد منكما في يمينه لأن شرط برها في اليمين أن تسأله الخلع وقد سألته وشرط بر الزوج أن يخلعها بعد سؤالها وقد فعل، فإنما عقد يمينه

 

ج / 30 ص -209-    على فعل نفسه خاصة وقد وجد ذلك منه فلم يقع عليها شيء حين ردت الخلع وهذه المسألة تصير رواية فيما إذا قالت المرأة لزوجها اخلعني فقال الزوج خلعتك على كذا أنه لا يقع الفرقة ما لم تقل المرأة قبلت بخلاف ما إذا قالت اخلعني على كذا فقال قد فعلت فإنه لا تقع الفرقة لأنها إذا لم تذكر البدل كان كلامها سؤالا للخلع لا أحد شطري العقد إلا أن في النكاح لا فرق بين أن يذكر البدل وبين أن لا يذكر، فإن وجوب المهر يستغني عن التسمية هناك ولا يعتمد الرضى ووجوب البدل في الخلع لا يكون إلا باعتبار التسمية وباعتبار تمام الرضا فلهذا فرقنا بين ما إذا ذكر البدل وبين ما إذا لم يذكره.
وذكر الخصاف رحمه الله في كتاب الحيل نظير هذه الحكاية فقال أن بعض من كان يتأذى منه أبو حنيفة رحمه الله جرى بينه وبين زوجته كلام فامتنعت من جوابه فقال أن لم تكلميني الليلة فأنت طالق فسكتت وامتنعت من كلامه فخاف أن يقع الطلاق إذا طلع الفجر فطاف على العلماء رحمهم الله في الليل فلم يجد عندهم في ذلك حيلة فجاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وذكر له ذلك فقال هل أتيت أستاذك فجعل يعتذر إليه ويقول لا فرج لي إلا من قبلك فذكر أنه قال له اذهب فقل للذين حولها من أقاربها ادعوها فماذا أصنع بكلامها فإنها أهون علي من التراب وأسمعها من هذا بما تقدر فجاء وقال ذلك حتى ضجرت وقالت بل أنت كذا وكذا فصارت مكلمة له قبل طلوع الفجر وخرج من يمينه وهذه الحكاية أوردها في مناقب أبي حنيفة رحمه الله وقال أنه قال للرجل ارجع إلى بيتك حتى آتيك فاتشفع لك فرجع الرجل إلى بيته وجاء أبو حنيفة رحمه الله في أثره فصعد مأذنة محلته وأذن فظنت المرأة أن الفجر قد طلع فقالت الحمد لله الذي نجاني منك فجاء أبو حنيفة رحمه الله إلى الباب وقال قد برت يمينك وأنا الذي أذنت أذان بلال رضي الله عنه في نصف الليل.
قال: وسئل أبو حنيفة رحمه الله عن أخوين تزوجا أختين فزفت امرأة كل واحد منهما إلى زوج أختها فلم يعلموا بذلك حتى أصبحوا فذكر ذلك لأبي حنيفة رحمه الله وقال ليطلق كل واحد منهما امرأته تطليقة ثم يتزوج كل واحد منهما المرأة التي دخل بها.
وفي مناقب أبي حنيفة رحمه الله ذكر لهذه المسألة حكاية أنها وقعت لبعض الأشراف بالكوفة وكان قد جمع العلماء رحمهم الله لوليمته وفيهم أبو حنيفة رحمه الله وكان في عداد الشباب يومئذ فكانوا جالسين على المائدة إذ سمعوا ولولة النساء فقيل ماذا أصابهن فذكروا أنهم غلطوا فأدخلوا امرأة كل واحد منهما على صاحبه ودخل كل واحد منهما بالذي أدخلت عليه وقالوا إن العلماء على مائدتكم فسلوهم عن ذلك فسألوا فقال سفيان الثوري رحمه الله فيها قضي علي رضي الله عنه على كل واحد من الزوجين المهر وعلى كل واحدة منهما العدة فإذا انقضت عدتها دخل بها زوجها وأبو حنيفة رحمه الله ينكث باصبعه على طرف المائدة كالمتفكر في شيء فقال له من إلى جانبه أبرز ما عندك هل عندك شيء آخر فغضب سفيان الثوري رحمه الله فقال: هل يكون عنده بعد قضاء علي رضي الله عنه يعني في الوطء

 

ج / 30 ص -210-    فقال أبو حنيفة رحمه الله علي بالزوجين فأتى بهما فسار كل واحد منهما أنه هل تعجبك المرأة التي دخلت بها قال نعم ثم قال لكل واحد منهما طلق امرأتك تطليقة فطلقها ثم زوج من كل واحد منهما المرأة التي دخل بها وقال قوما إلى أهلكما على بركة الله تعالى فقال سفيان رحمه الله ما هذا الذي صنعت فقال أحسن الوجوه وأقربها إلى الألفة وأبعدها عن العداوة أرأيت لو صبر على كل واحد منهما حتى انقضت العدة أما كان يبقي في قلب كل واحد منهما شيء بدخول أخيه بزوجته ولكني أمرت كل واحد منهما حتى يطلق زوجته ولم يكن بينه وبين زوجته دخول ولا خلوة ولا عدة عليها من الطلاق ثم تزوجت كل امرأة ممن وطئها وهي معتدة منه وعدته لا تمنع نكاحه وقام كل واحد منهما مع زوجته وليس في قلب كل واحد منهما شيء فعجبوا من فطنة أبي حنيفة وحسن تأملة وفي هذه الحكاية بيان فقه هذه المسألة التي ختم بها الكتاب والله أعلم بالصواب.