المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 30 ص -211-    كتاب الكسب
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله: وإذ قد أجبتكم إلى ما سألتموني من إملاء شرح المختصر على حسب الطاقة وقدر الفاقة بالآثار المشهورة والإشارات المذكورة في تصنيفات محمد بن الحسن رحمه الله لإظهار وجه التأثير وبيان طريق التقدير رأيت أن الحق به إملاء شرح كتاب الكسب الذي يرويه محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن رحمه الله وهو من جملة تصنيفاته إلا أنه لم يشتهر لأنه لم يسمع منه ذلك أبو حفص ولا أبو سليمان رحمهما الله ولهذا لم يذكره الحاكم رحمه الله في المختصر وفيه من العلوم ما لا يسع جهلها ولا التخلف عن عملها ولو لم يكن فيها إلاحث المفلسين على مشاركة المكتسبين في الكسب لأنفسهم والتناول من كديدهم لكان يحق على كل أحد إظهار هذا النوع من العلماء وقد كان شيخنا الإمام رحمه الله بين بعض ذلك على طريق الإيثار فيه فنذكر ما ذكره تبركا بالمسموع منه ونلحق به ما تكلم فيه أهل الأصول رحمهم الله وما يجود به الخاطر من المعاني والإشارات فنقول الاكتساب في عرف اللسان تحصيل المال بما حل من الأسباب واللفظ في الحقيقة يستعمل في كل باب وقد قال الله تعالى:
{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] أي بجنايتكم على أنفسكم وقد سمى جناية المرء على نفسه كسبا وقال جل وعلا في آية السرقة: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] أي باشرا بارتكاب المحظور فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الإطلاق يفهم منه اكتساب المال.
ثم بدأ محمد رحمه الله الكتاب بقوله طلب الكسب فريضة على كل مسلم وفي رواية وقال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة الفريضة بعد الفريضة وقال عليه السلام:
"طلب الحلال كمقارعة الأبطال ومن مات دائبا في طلب الحلال مات مغفورا". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد فيقول لا أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] الآية.
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه فإذا يداه قد أكتبتا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أضرب بالمر والمسحاة لأنفق على عيالي فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال:
"كفان يحبهما الله تعالى".

 

ج / 30 ص -212-    وفي هذا بيان أن المرء باكتساب مالا بدله منه ينال من الدرجات أعلاها وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان فرضا بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة وبيانه من وجوه أحدها أن يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب بالانتهاب والانتهاب يستوجب العقاب وفي التغالب فساد والله تعالى لا يحب الفساد فعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت فقال عليه السلام: "نفس المؤمن بطنته فليحسن إليها" يعني الإحسان بأن لا يمنعها قدر الكفاية وإنما لا يتوصل إلى ذلك إلا بالكسب كما لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بالطهارة ولا بد لذلك من كوز يستقي به الماء أو دلو أو رشا ينزح به الماء من البئر وكذلك لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له ذلك إلا بالاكتساب عادة وما لا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا في نفسه ثم الكسب طريق المرسلين صلوات الله عليهم وقد أمرنا بالتمسك بهداهم قال الله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وبيانه أن أول من اكتسب أبونا آدم عليه السلام قال الله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] أي تتعب في طلب الرزق وقال مجاهد في تفسيره لا تأكل خبزا بزيت حتى تعمل عملا إلى الموت.
وفي الآثار: أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بالحنطة وأمره أن يزرعها فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبريل عليه السلام وقال إن ربك يقرؤك السلام ويقول أن صمت بقية اليوم غفرت لك خطيئتك وشفعتك في أولادك فصام وكان حريصا على تناول ذلك الطعام لينظر يجد له من الطعم ما كان يجد لطعام الجنة فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام.
وكذا نوح عليه السلام كان نجارا يأكل من كسبه. وإدريس عليه السلام كان خياطا وإبراهيم عليه السلام كان بزارا على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"عليكم بالبزر فإن أباكم كان بزارا" يعني الخليل عليه السلام وداود عليه السلام كان يأكل من كسبه على ما روي أنه كان يخرج متنكرا فيسأل عن سيرة أهل مملكته حتى استقبله جبريل عليه السلام يوما على صورة شاب فقال له كيف تعرف داود أيها الفتى فقال نعم العبد داود إلا أن فيه خصلة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال وإن خير الناس من يأكل من كسبه فرجع داود عليه السلام إلى محرابه باكيا متضرعا يسأل الله تعالى ويقول اللهم علمني كسبا تغنيني به عن بيت المال فعلمه الله تعالى صنعة الدرع ولين له الحديد حتى كان الحديد في يده كالعجين في يد غيره قال الله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] وقال عز وجل: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] فكان يصنع الدرع ويبيع كل درع باثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق.

 

ج / 30 ص -213-    وسليمان صلوات الله عليه يصنع المكاييل من الخوص فيأكل من ذلك وزكريا عليه السلام كان نجارا وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه وربما كان يلتقط السنبلة فيأكل من ذلك وهو نوع اكتساب ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يرعى في بعض الأوقات على ما روى أنه عليه السلام قال لأصحابه رضي الله عنهم يوما: "كنت راعيا لعقبة بن معيط وما بعث الله نبيا إلا وكان راعيا".
وفي حديث السائب بن شريك عن أبيه رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي وكان خير شريك لا يداري ولا يماري أي لا يلاحي ولا يخاصم فقيل فبماذا كانت الشركة بينكما فقال في الأدم وازدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة على ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب المزارعة ليعلم أن الكسب طريق المرسلين عليهم السلام ثم الكسب نوعان كسب من المرء لنفسه وكسب منه على نفسه فالكاسب لنفسه هو الطالب لما لا بد له من المباح والكاسب على نفسه هو الباغي لما عليه فيه جناح نحو ما يكون من السارق والنوع الثاني منه حرام بالاتفاق قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] وقال عز وجل: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} [النساء: 112] الآية والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف رحمهم الله أن النوع الأول من الكسب مباح على الإطلاق بل هو فرض عند الحاجة.
وقال قوم من جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف أن الكسب الحرام لا يحل إلا عند الضرورة بمنزلة تناول الميتة وقالوا إن الكسب ينفي التوكل على الله تعالى أو ينقص منه وقد أمرنا بالتوكل قال الله تعالى:
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حراما والدليل على أنه ينفي التوكل قوله عليه السلام: "لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم كما يرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا" وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] وفي هذا حث على ترك الاشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر له من الموعود يأتيه لا محالة وقال عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] الآية والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته، فقد أمروا بالصبر والصلاة وترك الاشتغال بالكسب لطلب الرزق لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وفي الاشتغال بالكسب ترك ما خلق المرء لأجله وأمر به من عبادة ربه وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما أوحى إلى أن أجمع المال وأكون من المتاجرين وإنما أوحى إلي {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] الآية"، وما في القرآن من ذكر البيع والشراء في بعض الآيات ليس المراد به التصرف في المال والكسب بل المراد تجارة العبد مع ربه عز وجل ببذل النفس في طاعته والاشتغال بعبادته فذلك يسمي تجارة وقال الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] الآية. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] الآية، والمراد هذا النوع وهو بذل النفس لنيل الثواب بالجهاد وأنواع الطاعة.
وكذا قد سمى الله تعالى آخذ المال لارتكاب ما لا يحل له في الدين بائعا نفسه قال الله

 

ج / 30 ص -214-    تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102] وقال عز وجل: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9] وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الناس غاديان بائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها" وإن الصحابة رضي الله عنهم لم يشتغلوا بالكسب فالقول مع أصحاب الصفة رضي الله عنهم كانوا يلزمون المسجد فلا يشتغلون بالكسب ومدحوا على ذلك وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أعلى الصحابة رضي الله عنهم لم يشتغلوا بالكسب وهم الأئمة السادة والقدوة القادة وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقال جل وعلا: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الآية. وقال عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وقال جل وعلا: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ} [البقرة: 282] الآية.
ففي بعض هذه الآيات تنصيص على الحل وفي بعضها ندب إلى الاشتغال بالتجارة فمن يقول بحرمتها إنما يخاطبنا بما يفهمه ولفظ البيع والشراء حقيقة للتصرف في المال بطريق الاكتساب والكلام محمول على حقيقة لا يجوز تركها إلى نوع من المجاز إلا عند قيام الدليل كما فيما استشهدوا به من قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] فقد قام الدليل على أن المراد به المجاز ولما لم يوجد مثل ذلك هنا فكان محمولا على حقيقته وقال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] والمراد التجارة وقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يعني التجارة في طريق الحج.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"إن أطيب ما أكلتم من كسب أيديكم وإن أخي داود كان يأكل من كسب يده" والمراد الإشارة إلى قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه: 81] وأقوى ما تعتمده أن الاكتساب طريق المرسلين صلوات الله عليهم وقد قررنا ذلك ولا معنى لمعارضتهم إيانا في ذلك بيحيى وعيسى عليهما السلام فقد بينا أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه رضي الله عنها ثم يقول أن الأنبياء عليهم السلام في هذا ليس كغيرهم فقد بعثوا لدعوة الناس إلى دين الحق وإظهار ذلك لهم فكانوا مشغولين بما بعثوا لأجله ولم يشتغلوا عامة أوقاتهم بالكسب لهذا وقد اكتسبوا في بعض الأوقات ليبينوا للناس أن ذلك مما ينبغي أن يشتغل به المرء وأنه لا ينفي التوكل على الله تعالى كما ظنه هؤلاء الجهال وقد بين هذا عمر رضي الله عنه في حديثه حيث مر بقوم من القراء فرآهم جلوسا قد نكسوا رؤوسهم فقال من هؤلاء فقال هم المتوكلون فقال كلا ولكنهم المتأكلون يأكلون أموال الناس ألا أنبئكم من المتوكلون فقيل نعم فقال هو الذي يلقي الحب في الأرض ثم يتوكل على ربه عز وجل وفي رواية أخرى عنه قال يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم واكتسبوا لأنفسكم ودعواهم أن الكبار من الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يكتسبون دعوى باطل فقد روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان بزارا وعمر رضي الله عنه كان يعمل في الأدم وعثمان كان تاجرا يجلب إليه الطعام فيبيعه وعلي رضي الله عنه كان يكسب على ما روى أنه أجر نفسه غير مرة

 

ج / 30 ص -215-    حتى أجر نفسه من يهودي وقال للوزان: زن وارجح فإن معاشر الأنبياء هكذا تزن وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قعبا وحلسا من يزيد واشترى ناقة من إعرابي وأوفاه ثمنها ثم جحد الأعرابي وقال هلم شاهد قال عليه السلام: "من يشهد لي؟" فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد لك بأنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال عليه السلام: "كيف تشهد لي ولم تكن حاضرا؟" فقال: يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من إيفاء ثمن الناقة فقال عليه السلام من شهد له خزيمة فحسبه ولا حجة لهم في قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فالمراد المطر الذي ينزل من السماء فيحصل به النبات فإن ذلك يسمى رزقا على ما نقل عن بعض السلف: يا بن آدم إن الله تعالى يرزقك ويرزق رزقك ويرزق رزق رزقك يعني ينزل المطر من السماء رزقا للنبات ثم النبات رزق الأنعام والأنعام رزق لبني آدم ولئن حملنا الآية على ظاهرها فنقول في السماء رزقنا كما أخبر الله تعالى ولكن أمر باكتساب السبب ليأتينا ذلك الرزق عند الاكتساب.
بيانه في قوله عليه السلام فيما يأثر عن ربه عز وجل:
"عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق" وقد أمر الله تعالى مريم بهز النخلة كما قال الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ} [مريم: 25] الآية وهو قادر على أن يرزقها من غير هز منها كما كان يرزقها في المحراب فقال عز وجل: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] الآية وإنما أمرها بذلك ليكون بيانا للعباد أنه ينبغي لهم أن لا يدعوا اكتساب السبب وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الرزاق وهذا نظير الخلق فإن الله تعالى هو الخالق قد يخلق لا من سبب ولا في سبب كما خلق آدم صلوات الله عليه وقد يخلق لا من سبب ولا في سبب كما خلق عيسى عليه السلام وقد يخلق من سبب في سبب كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ} [الحجرات: 13] الآية.
ثم الاشتغال بالنكاح وطلب الولد لا ينفي يقين العبد بأن الخالق هو الله تعالى فكذا أمر الرزق ليعلم أن من يزعم أن حقيقة التوكل في تركه الكسب فهو مخالف للشريعة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله للسائل الذي قال أرسل ناقتي وأتوكل فقال عليه السلام:
"لا بل اعقلها وتوكل" ونظير هذا الدعاء فقد أمرنا به قال الله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] ومعلوم أن كل ما قدر لأحد فهو يأتيه لا محالة ثم أحد لا يتطرق بهذا إلى ترك السؤال والدعاء من الله تعالى والأنبياء عليهم السلام كانوا يسألون الجنة مع علمهم أن الله تعالى يدخلهم الجنة وقد وعدهم ذلك وهو لا يخلف الميعاد وكانوا يأمنون العاقبة ثم كانوا يسألون الله تعالى ذلك في دعائهم.
وكذا أمر الشفاء فالشافي هو الله وقد أمرنا بالمداواة قال عليه السلام: "تداووا عباد الله فإن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء إلا السام" أو قال: "الهرم" وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين داوى ما أصابه من الجراحة في وجهه ثم اكتساب السبب بالمداواة لا ينفي التيقن بأن الله هو الشافي فكذا اكتساب سبب الرزق بالتحرك لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو

 

ج / 30 ص -216-    الرازق والعجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجاراته مع علمهم بذلك فلو كان الاكتساب حراما لكان المال الحاصل به حرام التناول لأن ما يتطرق إليه بارتكاب الحرام يكون حراما.
ألا ترى أن بيع الخمر للمسلم لما كان حراما كان تناول ثمنها حراما وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل ثم المذهب عند جمهور الفقهاء من أهل السنة والجماعة رحمهم الله أن الكسب بقدر ما لا بد منه فريضة وقالت الكرامية بل هو مباح بطريق الرخصة لأنه لا يخلو إما أن يكون فرضا في كل وقت أو في وقت مخصوص والأول باطل لأنه يؤدي إلى أن لا يتفرغ أحد عن أداء هذه الفريضة ليشتغل بغيرها من الفرائض والواجبات والثاني باطل لأن ما يكون فرضا في وقت مخصوص شرعا يكون مضافا إلى ذلك الوقت كالصلاة والصوم ولم يرد الشرع بإضافة الكسب إلى وقت مخصوص ثم لا يخلو إما أن يكون فرضا لرغبة الناس إليه أو للضرورة والأول باطل فإن الرغبة ثابتة في جميع ما في الدنيا من الأموال وأحد لا يقول يفترض على كل واحد تحصيل جميع ذلك والثاني باطل أيضا فإن ما يفترض للضرورة إنما يفترض عند تحقق الضرورة وبعد تحقق الضرورة يعجز عن الكسب فكيف تتأخر فريضته إلى حال عجزه ولا يخلو إما أن يفترض جميع أنواعه أو نوع مخصوص منه والأول باطل فإن الأنبياء عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة أوقاتهم وكذا أعلام الصحابة ومن بعدهم من الأخيار ولا يظن بهم أنهم اجتمعوا على ترك ما هو فرض عليهم والثاني باطل لأنه ليس بعض الناس بتخصيصه بهذا الفريضة بأولي من البعض فتبين أن الكسب ليس بفرض أصلا والدليل عليه أنه لو كان أصله فرضا لكان الاستكثار منه مندوبا إليه وكان نقلا بمنزلة العبادات والاستكثار منه مذموم كما قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلى قوله {عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 20] وبهذا الحرف يقع الفرق بينه وبين طلب أهل العلم فإن أصله لما كان فرضا كان الاستكثار منه مندوبا إليه وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] والأمر حقيقة للوجوب ولا يتصور الإنفاق من المكسوب إلا بعد الكسب وما لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا بة يكون فرضا وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] الآية يعني الكسب والأمر حقيقة للوجوب.
فإن قيل: قد روى عن مجاهد ومكحول رحمهما الله أنهما قالا: المراد طلب العلم. قلنا ما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال:
"طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة هي الفريضة بعد الفريضة" وتلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] فلا يترك ذلك بقول مكحول ومجاهد رحمهما الله والظاهر يؤيد ما ذكرنا بدليل ما ذكر بعده وإذا رأوا تجارة الآية وكانوا انفضوا بذلك في حال خطبته فنهوا عن ذلك وأمروا به بعد الفراغ من الصلاة.

 

ج / 30 ص -217-    فإن قيل: الأمر بعد النهي يفيد الإباحة.
قلنا: الأمر حقيقة للإيجاب ولو كان المراد هو الإباحة والرخصة لقال فلا جناح عليكم أن تبتغوا من فضل الله كما قال في باب طريق الحج ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم والدليل عليه أن الله تعالى أمر بالإنفاق على العيال من الزوجات والأولاد والمعتدات ولا يتمكن من الانفاق عليهم إلا بتحصيل المال بالكسب وما يتوصل به إلى أداء الواجب يكون واجبا والمعقول يشهد له فإن في الكسب نظام العالم والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائه وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد وفي تركه تخريب نظامه وذلك ممنوع منه.
فإن قيل: فبقاء هذا النظام يتعلق بالتسافد بين الحيوان وأحد لا يقول بفرضية ذلك.
قلنا: نعم أن الله تعالى علق البقاء بتسافد الحيوانات وركب الشهوة في طباعهم وتلك الشهوة تحملهم على مباشرة ذلك الفعل فلا تقع الحاجة إلى أن يجعل ذلك فرضا عليهم لكيلا يمتنعوا من ذلك فإن الطبع داع إلى اقتضاء الشهوة.
فأما الاكتساب في الابتداء فكد وتعب وقد تعلق به بقاء نظام العالم فلو لم يجعل أصله فرضا لاجتمع الناس عن آخرهم على تركه لأنه ليس في طبعهم ما يدعو إلى الكد والتعب فجعل الشرع أصله فرضا لكيلا يجتمعوا على تركه فيحصل ما هو المقصود وجميع ما ذكروا من التقسيمات يبطل بما أشار إليه محمد رحمه الله في قوله طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة.
فإن هذه التقسيمات تأتي في العلم ومع ذلك كان أصله فرضا بالاتفاق فكذلك طلب الكسب وكان معني الفريضة ما بينا من بقاء نظام العالم به ولا يوجد ذلك في الاستكثار منه على قصد التكاثر والتفاخر وإنما ذم الله تعالى الاستكثار إذا كان بهذه الصفة فقال عز وجل: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ} [الحديد: 20] ثم ينبني على هذه المسألة مسألة أخرى وهي أنه بعد ما اكتسب ما لا بد منه هل الاشتغال بالاكتساب أفضل أم التفرغ للعبادة قال بعض الفقهاء رحمهم الله الاشتغال بالكسب أفضل وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن التفرغ للعبادة أفضل وجه القول الأول أن منفعة الاكتساب أعم فإن ما يكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة والذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه لأنه بفعله يحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه.
وما كان أعم نفعا فهو أفضل لقوله عليه السلام: "خير الناس من ينفع الناس" ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة لأن منفعة ذلك أعم ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لأن ذلك أعم نفعا وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
"العبادة عشرة أجزاء" وقوله عليه السلام: "الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال للإنفاق على العيال" والدليل عليه أنه

 

ج / 30 ص -218-    بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب وفي التفرغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة.
وجه القول الآخر وهو الأصح أن الأنبياء والرسل ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب ومعلوم أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وكذا الناس في العادة إذا أحرجهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم يشتغلون بالعبادات لا بالكسب والناس إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعا فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لا يصح إلا من المؤمنين خاصة وهي العبادة والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال:
"أحمزها" أي أشقها على البدن، وإنما أشار بهذا إلى أن المرء إنما ينال أعلى الدرجات بمنع النفس هواها قال الله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] الآية.
والاشتغال بهذه الصفة في الانتهاء والدوام في العبادات فأما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء ولكنه فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس فلا بد من القول بأن ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداء وانتهاء فهو أفضل ولا يدخل في شيء مما ذكرنا النكاح فإن الاشتغال بالنكاح أفضل عندنا من التخلي لعبادة الله تعالى وهذا المعنى موجود فيه لأنه إنما كان ذلك أفضل لما فيه من تكثير عبادة الله تعالى وأمة رسوله عليه السلام وتحقيق مباهاة رسول الله بهم وذلك لا يوجد هنا فكان التفرغ للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب بعد ما يحصل ما لا بد منه وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهي أن صفة الفقر أعلى أم صفة الغني.
والمذهب عندنا أن صفة الفقر أعلى وقال بعض الفقهاء صفة الغني أعلى وقد أشار محمد رحمه الله في كتاب الكسب في موضعين إلى ما بينا من مذهبنا فقال في أحد الموضعين: ولو أن الناس قنعوا بما يكفيهم وعمدوا إلى الفضول فوجهوها لأمر آخرتهم لكان خيرا لهم وقال في الموضع الآخر وما زاد على ما لا بد منه يحاسب عليه المرء ولا يحاسب أحد على الفقر ولا شك أن ما لا يحاسب المرء عليه يكون أفضل مما يحاسب المرء عليه وأما من فضل الغني فاحتج وقال الغني نعمة والفقر بؤس ونقمة ومحنة ولا يخفى على عاقل أن النعمة أفضل من النقمة والمحنة والدليل عليه أن الله تعالى سمى المال فضلا فقال عز وجل:
{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وما هو فضل الله فهو أعلى الدرجات وسمى المال خيرا فقال عز وجل: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وهذا اللفظ يدل على أنه خير من عنده، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} [سبأ: 10] يعني الملك والمال، حتى روى أنه كانت له

 

ج / 30 ص -219-    مائة سرية فتمنى من الله تعالى الزيادة على ذلك فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ولا يظن بأحد من الرسل عليهم السلام أنه سأل من الله تعالى الدرجة الدنيا دون الدرجة العليا والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الآيدي ثلاثة: يد الله ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة وهي السفلى إلى يوم القيامة" وفي حديث آخر قال عليه السلام: "اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي اليد المعطية" وقال عليه السلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها في مرضه أن أحب الناس إلي غنى أنت وأعزهم علي فقرا أنت فهذا يدل على أن صفة الغنى أعلى من صفة الفقر قال عليه السلام: "كاد الفقر أن يكون كفرا" وقال عليه السلام: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك" وقال عليه السلام: "اللهم إني أعوذ بك من البؤس والتباؤس" البؤس الفقر والتباؤس التمسكن ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتعوذ بالله من أعلى الدرجات.
وحجتنا في ذلك أن الفقر أسلم للعباد وأعلى الدرجات للعبد ما يكون أسلم له وبيان ذلك أنه يسلم بالفقر من طغيان الغني قال الله تعالى:
{كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] الآية. وقال عز وجل: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 11]، الآية وإنما حملهم على ذلك الطغيان الأغنياء يعني الذين ادعوا ما لا ينبغي لأحد من البشر فإنه لم ينقل أن أحدا من الفقراء وقع في ذلك فدل أن الفقر أسلم ثم صفة الغنى مما تميل إليه النفس ويدعو إليه الطبع ويتوصل به إلى اقتضاء الشهوات ولا يتوصل بالفقر إلى شيء من ذلك وأعلى الدرجات ما يكون أبعد من اقتضاء الشهوات. وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59] وقال جل وعلا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 14] الآية والدليل عليه قوله عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وقال عليه السلام: "الفقر أزين بالمؤمن من العداء الجيد على جيد الفرس" وقال عليه السلام: "إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" وفي الآثار: أن آخر الأنبياء عليهم السلام دخولا الجنة سليمان عليه السلام لملكه وقال عليه السلام يوما لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: "ما أبطأك عني يا عبد الرحمن" قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "إنك آخر أصحابي لحوقا بي يوم القيامة فأقول ما حبسك عني فتقول المال كنت محاسبا محبوسا حتى الآن" وكان هو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقد قاسم الله ماله أربع مرات فتصدق بالنصف وأمسك النصف في المرة الأولى وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق بأربعة آلاف وفي المرة الثانية كان ثمانية آلاف دينار فتصدق بنصفها وفي المرة الثالثة كان ستة عشر ألف دينار فتصدق بنصفها وفي المرة الرابعة كان اثنين وثلاثين ألف دينار فتصدق بنصفها ومع ذلك كله قال عليه السلام في حقه ما قال فتبين به أن صفة الفقر أفضل.
وقال عليه السلام:
"عرض علي مفاتيح خزائن الأرض فاستفتيت أخي جبريل عليه السلام

 

ج / 30 ص -220-    بذلك فأشار إلي بالتواضع فقلت أكون عبدا أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت صبرت وإذا شبعت شكرت".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"اللهم احيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل لنفسه أعلى الدرجات وإن الأفضل لنا ما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم" ففي هذا إشارة إلى أن الواجب علينا التمسك بهذا ويتبين بما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تعوذ من الفقر المطلق وإنما تعوذ من الفقر المنسي على ما روى في بعض الروايات أنه عليه السلام قال: "اللهم إني أعوذ بك من فقر منس ومن غنى يطغي" إلا أنه قيد السؤال في بعض الأحوال ومراده ذلك أيضا ولكن من سمع اللفظ مطلقا نقله كما سمع وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء وهو أن الشكر على الغنى أفضل أم الصبر على الفقر واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أربعة أقاويل فمنهم من توقف في جوابها لتعارض الآثار وقال إن أبا حنيفة رحمه الله توقف في أطفال المشركين لتعارض الآثار فيهم وقال إذا فيقتدى به ويتوقف في هذا الفصل لتعارض الآثار أيضا، ومنهم من قال هما سواء واستدلوا بقوله عليه السلام: "الطاعم الشاكر كالجائع الصابر" ولأن الله تعالى اثنى في كتابه على عبدين وأثنى على كل واحد منهما بنعم العبد أحدهما بنعم عليه فشكر وهو داود قال الله: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ} [ص: 30] الآية والآخر ابتلى فصبر وهو أيوب عليه السلام قال الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص: 44] الآية فعرفنا أنهما سواء ومنهم من قال الشكر على الغنى أفضل لقوله عليه السلام: "الحمد لله على كل نعمة" وقال عليه السلام: "لو أن جميع الدنيا صارت لقمة فتناولها عبد وقال الحمد لله رب العالمين كان بما أتى به خيرا مما أوتي" يعني لما في هذه الكلمة من الثناء على الله تعالى وتبين بالحديث الأول أن الشكر يكون بالثناء على الله تعالى فكان أفضل من الصبر والدليل عليه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ: 13] وهذا يعم جميع الطاعات ولا شك أن ما يعم جميع الطاعات فهو أعلى الدرجات وذلك لا يوجد في الصبر على الفقر والمذهب عندنا أن الصبر على الفقر أفضل قال عليه السلام: "الصبر نصف الإيمان".
وقال عليه السلام:
"الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد" ولأن في الفقر معنى الابتلاء والصبر على الابتلاء يكون أفضل من الشكر على النعمة يعتبر هذا بسائر أنواع الابتلاء فإن الصبر على ألم المرض يكون أعظم في الثواب من الشكر على صحة البدن وكذلك الصبر على العمي أفضل من الشكر على البصر قال عليه السلام فيما يأثر عن ربه عز وجل: "من أخذت كريمته وصبر على ذلك فلا جزاء له عندي إلا الجنة أو قال الجنة والرؤية" وهذا الفقه وهو أن للمؤمن ثوابا في نفس المصيبة قال عليه السلام: "يؤجر المؤمن في كل شيء حتى الشوكة تشاكه في رجله".

 

ج / 30 ص -221-    والدليل عليه أن ماعزا رضي الله عنه حين أصابه حر الحجارة هرب وكان ذلك منه نوع اضطراب ثم مع ذلك قال فيه رسول الله: "لقد تاب توبة لو قسمت توبته على جميع أهل الأرض لوسعتهم" فعرفنا أن نفس المصيبة للمؤمن ثواب وفي الصبر عليها ثواب أيضا فأما نفس الغنى فلا ثواب فيه وإنما الثواب في الشكر على الغنى وما ينال به الثواب من الوجهين يكون أعلى مما ينال فيه الثواب من وجه واحد وكما أن في الشكر على الغنى ثناء على الله تعالى ففي الصبر على المصيبة كذا لقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156] الآية.
وحكى أن غنيا وفقيرا تناظرا في هذه المسألة فقال الغني الشاكر أنا أفضل فإن الله تعالى استقرض من الأغنياء فقال عز وجل:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245] الآية. وقال الفقير: إن الله تعالى إنما استقرض من الأغنياء للفقراء وقد يستقرض من الخبيث وغير الخبيث ولا يستقرض إلا الأجل يوضحه أن الغنى يحتاج إلى الفقير ولا يحتاج الفقير إلى الغني لأن الغنى يلزمه أداء حق المال فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئا من ذلك لم يجبروا على الأخذ ويحمدون شرعا على الامتناع من الأخذ فلا يتمكن الأغنياء من إسقاط الواجب عن أنفسهم والله تعالى يوصل الفقراء كفايتهم على حسب ما ضمن لهم فبهذا تبين أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنه من يعتبر الظاهر ولا يتأمل في المعنى ويتضح بما قررنا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر وفي كل خير ثم الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه غنيا أو فقيرا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله عليه السلام: "من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" وقال عليه السلام: لابن خنيس رضي الله عنه فيما يعظه: "لقمة تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها سوأتك فإن كان لك كن يكنك فحسن وان كان لك دابة تركبها بخ بخ".
وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضى به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين مستحق عليه إن كان غنيا قال عليه السلام:
"الدين مقضى وبالاكتساب يتوصل إليه".
وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد صغار فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم غنيا لأن الانفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] معناه فانفقوا عليهن من وجدكم وهكذا في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وقال جل وعلا: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] الآية. وقال عز وجل: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ} [الطلاق: 7] الآية، وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب.
وقال صلى الله عليه وسلم
"كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون" فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض. وقال عليه السلام: "إن لنفسك عليك حقا وإن لا هلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه"

 

ج / 30 ص -222-    ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله عليه السلام: "ثم من تعول" فإن اكتسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة من ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر قوت عياله لسنة بعد ما كان منهيا عن ذلك على ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه: "أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا" والمتأخر يكون ناسخا للمتقدم فإن كان له أبوان كبيران معسران فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما لأن نفقتهما مستحقة عليه بعد عسرته إذا كان متمكنا من الكسب قال عليه السلام للرجل الذي أتاه وقال أريد الجهاد معك: "ألك أبوان؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "ارجع ففيهما فجاهد" يعني اكتسب وأنفق عليهما. وقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وليس من المصاحبة بالمعروف تركهما يموتان جوعا مع قدرته على الكسب ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روى أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم معي دينار فقال عليه السلام: "أنفقه على نفسك" فقال: معي آخر فقال عليه السلام: "أنفقه على عيالك" قال: معي آخر قال عليه السلام: "أنفقه على والديك" الحديث فأما غير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للإنفاق عليهم لأنه لا تستحق نفقتهم عليه إلا باعتبار صفة اليسار ولكنه يندب إلى الكسب والإنفاق عليهم لما فيه من صلة الرحم وهو مندوب إليه في الشرع، قال عليه السلام: "لا خير فيمن لا يحب المال فيصل به رحمه ويكرم به ضيفه ويبر به صديقه".
وقال عليه السلام لعمرو بن العاص رضي الله عنه:
"وأرغب لك رغبة من المال" الحديث إلى أن قال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه" وقطيعة الرحم حرام لقوله عليه السلام: "ثلاث معلقات بالعرش: النعمة والأمانة والرحم" نقول النعمة: كفرت ولم أشكر وتقول الأمانة ضيعت ولم أؤد وتقول الرحم قطعت ولم أوصل.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة من العمر" قال عليه السلام فيما يأثر عن ربه عز وجل: "أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" وفي ترك الإنفاق عليهم ما يؤدى إلى قطيعة الرحم فيندب إلى الاكتساب للإنفاق عليهم وبعد ذلك الأمر موسع عليه فإن شاء اكتسب وجمع المال وإن شاء أبى لأن السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل فعرفنا أن كلا الفريقين مباح أما الجمع فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبها مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان" فدل أن جمع المال على طريق التعفف مباح.
وكان عليه السلام يقول في دعائه:
"اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبرسني وانقضاء عمري" وكان كذا، فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك وسهم بخيبر في آخر عمره.
وأما الامتناع من جمع المال فطريق مباح أيضا لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا

 

ج / 30 ص -223-    التراب، ويتوب الله على من تاب" وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس من الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخت تلاوته وبقيت روايته وقال عليه السلام: "تبا للمال" وفي رواية لصاحب الذهب والفضة وقال صلى الله عليه وسلم: "هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا" يعني يتصدق من كل جانب وقال عليه السلام: "يقول الشيطان لن ينجو مني صاحب المال من إحدى ثلاث إما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله، وإما أن أحقره في عينه فيعطى في غير حله وإما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه".
ففي هذا بيان أن الامتناع من الجمع أسلم ولا عيب على من اختار طريق السلامة ثم بين محمد رحمه الله إن الكسب فيه معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى قال إن كسب فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب الحركة فيه معاونة على الطاعات والقرب فإنه لا يتمكن من أداء الصلاة إلا بالطهارة ويحتاج ذلك إلى كوز يستقى به الماء وإلى دلو ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحركة فعرفنا أن ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة وإليه أشار علي رضي الله عنه في قوله: لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة.
وقال أبو ذر رضي الله عنه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الإيمان فقال الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل كالمتعجب فقال لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعني بأكل الخبز يقيم صلبه فيتمكن من إقامة الطاعة ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله إن المكاسب كلها في الإباحة سواء وقال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الإقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله عليه السلام: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" وقال عليه السلام:
"إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها" والسفساف ما يدنى المرء ويبخسه.
وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام:
"إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ولا الصلاة" قيل: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: "الهموم في طلب المعيشة" وقال عليه السلام: "طلب الحلال كمقارعة الأبطال، ومن بات وانيا من طلب الحلال مات مغفورا له" وقال عليه السلام: "أفضل الأعمال الاكتساب للإنفاق على العيال" من غير تفصيل بين أنواع الكسب ولو لم يكن فيه سوى التعفف والاستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السؤال آخر كسب العبد" أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة.
وقال عليه السلام لحكيم بن حزام رضي الله عنه أو لغيره:
"مكسبة فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك" ثم المذمة في عرف الناس ليست للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة ومعنى البخل ثم المكاسب أربعة: الإجارة والتجارة والزراعة والصناعة وكل ذلك في الإباحة سواء عند جمهور الفقهاء رحمهم الله وقال بعضهم الزراعة مذمومة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيئا من آلات الحرابة في دار قوم فقال: "ما دخل

 

ج / 30 ص -224-    هذا بيت قوم إلا دلوا" وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] أهو التعرب؟ قال: "لا لكنه الزراعة" والتعرب سكنى البادية وترك الهجرة وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا تبايعتم بالعين واتبعتم أذناب البقر ذللتم حتى يطمع فيكم.
وحجتنا في ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ازدرع بالجرف وقال عليه السلام:
"اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض" يعني الزراعة. وقال عليه السلام: "الزارع يتاجر ربه" وقد كان له فدك وسهم بخيبر فكان قوته في آخر العمر من ذلك وعمر رضي الله عنه كان له أرض بخيبر يدعى ثمغ وقد كان لابن مسعود والحسن بن علي وأبي هريرة رضي الله عنهم مزارع بالسواد يزرعونها ويؤدون خراجها وكان لابن عباس رضي الله عنهما أيضا مزارع بالسواد وغيرهما وتأويل الآثار المروية فيما إذا اشتغل الناس كلهم بالزراعة وأعرضوا عن الجهاد حتى يطمع فيهم عدوهم وذلك مروي في حديث بن عمر رضي الله عنهما قال وقعدتم عن الجهاد وذللتم حتى يطمع فيكم فيما إذا اشتغل بعضهم بالجهاد وبعضهم بالزراعة ففي عمل المزارع معاونة للمجاهد وفي عمل المجاهد دفع عن الزارع.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا" ثم اختلف مشايخنا رحمهم الله في التجارة والزراعة فقال بعضهم التجارة أفضل لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20] الآية والمراد بالضرب في الأرض التجارة فقدمة في الذكر على الجهاد الذي هو سنام الدين وسنة المرسلين ولهذا قال عمر رضي الله عنه لان أموت بين شعبتى رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله.
وقال عليه السلام:
"التاجر الأمين مع الكرام البررة يوم القيامة" وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن الزراعة أفضل من التجارة لأنها أعم نفعا فبعمل الزراعة تحصيل ما يقيم به المرء صلبه ويتقوى به على الطاعة وبالتجارة لا يحصل ذلك ولكن ينمو المال وقال عليه السلام: "خير الناس من هو أنفع للناس" فالاشتغال بما يكون نفعه أعم يكون أفضل ولأن الصدقة في الزراعة أطهر فلا بد أن يتناول مما يكتسبه الزارع الانس والدواب والطيور وكل ذلك صدقة له قال عليه السلام: "ما غرس مسلم شجرة فتناول منها إنسان أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة" وفي رواية: "وما أكلت العافية منها فهي له صدقة" والعافية هي الطيور الطالبة لأرزاقها الراجعة إلى أوكارها وإذا كان من عادة الناس ذم الكسب الذي ينعدم فيه التصدق كعمل الحياكة مع إنه من التعاون على إقامة الصلاة عرفنا أن ما يكون التصدق فيه أكثر من الكسب فهو أفضل فأما تأويل ما تعلقوا به فقد روى مكحول ومجاهد رحمهما الله قالا المراد الضرب في الأرض لطلب العلم وبه نقول إن ذلك أفضل فقد أشار محمد رحمه الله إلى ذلك في قوله طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة فتشبيه هذا بذاك دليل على أن طلب العلم أعلى درجة من غيره وبيان فرضية طلب العلم في قوله عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل

 

ج / 30 ص -225-    مسلم" والمراد علم الحلال على ما قيل أفضل العلم علم الحلال وأفضل العمل حفظ الحال وبيان هذا أن ما يحتاج المرء في الحال لأداء ما لزمه يفترض عليه عينا علمه كالطهارة لأداء الصلاة فإن أراد التجارة يفترض عليه تعلم ما يتحرز به عن الربا والعقود الفاسدة وإن كان له مال يفترض عليه تعلم زكاة جنس ماله ليتمكن به من الأداء وإن لزمه الحج يفترض عليه تعلم ما يؤدي به الحج هذا معنى علم الحال.
وهذا علم لأن الله تعالى حكم ببقاء الشريعة إلى يوم القيامة والبقاء بين الناس يكون بالتعلم والتعليم فيفترض التعليم والتعلم جميعا وقد قررنا هذا المعنى في بيان فريضة الكسب والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين لا يعلمون ولا يتعلمون ليرتفع العلم بهم وقال:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من القلوب ولكن بقبض العلماء فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤسا جهالا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
والذي يؤيد هذا كله قوله تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 6] الآية، وفي هذا إشارة إلى أنه يفترض تعليم الكافر إذا طلب ذلك فتعليم المؤمن أولى وبيان قولنا أنه من آكد الفرائض إن الإنسان لو شغل جميع عمره بالتعلم والتعليم كان مفترضا في الكل ولو شغل جميع عمره بالصوم والصلاة كان مشتغلا في البعض ولا شك أن إقامة الفرض أعلى درجة من أداء النفل قال وكما أن طلب العلم فريضة فأداء العلم إلى الناس فريضة لأن اشتغال صاحب العلم بالعمل معروف والعمل بخلافه منكر فالتعليم يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وهو فرض على هذه الأمة.
قال الله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الآية، ويختلفون في فصل وهو أن من يعلم حكما أو حكمين هل يفترض عليه أن يبين ذلك لمن لا يعلمه أم لا فعلى قول بعض مشايخنا رحمهم الله يلزمه ذلك وأكثرهم على أنه لا يلزمه ذلك وإنما يجب ذلك على الذين اشتهروا بالعلم ممن يعتمد الناس قولهم وقد أشار في هذا الكتاب إلى القولين واللفظ المذكور هنا يوجب التعميم وقال بعد هذه فعلى البصراء من العلماء أن يبينوا للناس طريق الفقه فهذا يدل على أن الفرضية على الذين اشتهروا بالعلم خاصة.
وجه القول الأول قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159] وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] الآية فتبين بالآيتين أن الكتمان حرام وإن ضده وهو الإظهار لازم فيتناول ذلك كل من بلغه علم فإنه يتصور منه الكتمان فيما بلغه فيفترض عليه الإظهار. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم آخر هذه الأمة طعن على أولها فمن كان عنده علم فليظهره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد" ولأن تعليم العلم بمنزلة أداء الزكاة وعلى كل أحد أداء الزكاة من نصابه وصاحب النصاب وصاحب المنصب في ذلك سواء وجه القول الآخر أن العلماء في كل زمان خلفاء الرسل عليهم السلام كما قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء هم ورثة الأنبياء" ومعلوم أن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المبين للناس ما

 

ج / 30 ص -226-    يحتاجون إليه من أمر دينهم فإن الله تعالى وصفه بذلك وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ولا يجب على أحد سواه شيء من ذلك بحضرته فكذا في كل حين ومكان إنما يفترض الأداء على المشهورين بالعلم دون غيرهم لأن الناس في العادة إنما يعتمدون قول من اشتهر بالعلم وقلما يعتمدون قول غيرهم وربما يستخف بعضهم بما يسمعه ممن لم يشتهر بالعلم فلهذا كان البيان على المشهورين خاصة.
وقد نقل عن الحسن رضي الله عنه أدركت سبعين بدريا كلهم قد انزووا ولم يشتغلوا بتعليم الناس لأنه كان لا يحتاج إليهم وكذا علماء التابعين رحمهم الله فمنهم من تصدى للفتوى والتعليم ومنهم من امتنع من ذلك وانزوى لعلمه إنه لا يتمكن الخلل بامتناعه وإن المقصود حاصل بغيره وهذا لأن للعلم ثمرتين العمل به والتعليم ومنهم من لا يتمكن منهما جميعا فيكتفي بثمرة العمل به فعرفنا أن ذلك واسع وإن المقصود بالمشهورين من أهل العلم حاصل.
قال: ولو لم يكن طلب العلم فريضة لم يكن للناس مخرج من الإثم يعني أن التحرز عن ارتكاب الإثم فرض قال الله تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] الآية، ولا يتوصل إلى هذا التحرز إلا بالعلم قال ولو ترك الناس العلم لما تميز الحق من الباطل والصواب من الخطأ والبين من الخفي يعني أن التمييز بين الحق والباطل أصل الدين ولا يتوصل إليه إلا بالعلم قال الله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] وقال في آية أخرى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] ولا شك أنه يفترض على كل مخاطب التمييز بين ما أحقه الله تعالى وبين ما محاه الله من الباطل وكذا يجب على كل أحد التمسك بما هو صواب والتحرز عن الخطأ بجهده وطريق التوصل إلى ذلك العلم.
قال: فعلى العلماء إذا ما وصل إليهم ممن قبلهم مما فيه منفعة للناس يعني أن بيان المسموع من الآثار واجب على العلماء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"نضر الله أمرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه". وقال صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع من لم يسمع منكم" وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا فليبلغ الشاهد الغائب"، ثم إنما يفترض بيان ما فيه منفعة الناس وهو الناسخ من الآثار الصحيحة المشهورة فأما المنسوخ فيجب روايته وكذا الشاذ فيما تعم به البلوى فإنه ليس في روايته منفعة للناس وربما يؤدى إلى الفتنة والتحرز عن الفتنة أولى والأصل فيه ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه لو حدثتكم بكل ما سمعت لرميتموني بالحجارة.
وإن معاذا رضي الله عنه كان عنده حديث في الشهادة وكان لا يرويه إلى أن احتضر ثم قال لأصحابه سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا ما حضرني من أمر الله ما رويته لكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة" فكان يمتنع من روايته في صحته لكي لا يتكل الناس ثم لما خاف الفوت بموته رواه لأصحابه فهذا أصل لما بينا.

 

ج / 30 ص -227-    قال: ألا ترى أنه لو لم يفترض الأداء علينا لم يفترض على من قبلنا حتى ينتهي ذلك إلى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يعني: أن الناس في نقل العلم سواء. قال صلى الله عليه وسلم: "ينقل هذا الدين عن كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين" فلو جوزنا للمتأخرين ترك النقل لجوزنا مثل ذلك للمتقدمين فيؤدي هذا إلى القول بما ذهب إليه الروافض إن الله تعالى أنزل آيات في شأن علي رضي الله عنه وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضله والتنصيص على أمامته غير أن الصحابة رضي الله عنهم كتموا ذلك حسدا منهم له وعند أهل السنة رحمهم الله هذا كذب وزور لا يجوز أن يظن بأحد من الصحابة رضي الله عنهم فكيف بجماعتهم ولو كان شيئا من ذلك لاشتهر ولكن ما يذهب إليه الروافض مبنى على الكذب والبهتان فمحمد رضي الله عنه بهذا الاستشهاد أشار إلى أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما تركوا نقل شيء من أمور الدين فعلى من بعدهم الاقتداء بهم في ذلك ثم الفرض نوعان فرض عين وفرض كفاية ففرض العين على كل أحد إقامته نحو أركان الدين وفرض الكفاية ما إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وإن اجتمع الناس على تركه كانوا مشتركين في المأثم كالجهاد فإن المقصود به إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز الدين فإذا حصل هذا المقصود من بعض المسلمين سقط عن الباقين وإذا قعد الكل عن الجهاد حتى استولى الكفار على بعض الثغور اشترك المسلمون في المأثم بذلك وكذا غسل الميت والصلاة عليه والدفن كل ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وإن امتنعوا من ذلك حتى ضاع ميت بين قوم مع علمهم بحاله كانوا مشتركين في المأثم فأداء العلم إلى الناس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو إحياء الشريعة وكون العلم محفوظا بين الناس بأداء البعض وإن امتنعوا من ذلك حتى اندرس شيء بسبب ذلك كانوا مشتركين في المأثم.
قال: وما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل فأداؤه إلى الناس فريضة: ومعنى هذا الكلام إن مباشرة فعل التطوعات وما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بفرض ولا إثم على من امتنع من ذلك ولكن أداء ذلك إلى الناس فريضة حتى إذا اجتمع أهل زمان على ترك نفل كانوا تاركين لفريضة مشتركين في المأثم لأن بترك النفل يندرس شيء من الشريعة وليس في ترك الأداء معني الاندراس ونظير هذا أن من امتنع من صلاة التطوع فلا إثم عليه في ذلك ولو صلى التطوع بغير طهارة كان آثما معاتبا لأن في الأداء بغير طهارة تغيير حكم الشرع وليس في ترك الأداء تغيير حكم الشرع فإن المقصود بالتطوعات أحد شيئين قطع طمع الشيطان عن وسوسته بأن يقول إذا كان هذا العبد يؤدي ما ليس عليه كيف يترك أداء ما هو عليه فينقطع طمعه عن وسوستة بهذا وهو جبر لنقصان الفرائض على ما قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا تمكن في فريضة العبد نقصان يقول الله تعالى لملائكته اجعلوا نوافل عبدي جبرا لنقصان فريضته" وإذا كان في التطوع هذا المقصود فلا يجوز ترك البيان فيه حتى يندرس فيفوت هذا المقصود أصلا فعرفنا أن أداءه إلى الناس فريضة وإن لم يكن مباشرة فعله فريضة.

 

ج / 30 ص -228-    قال: وليس يجب على الفقيه أن يحدث بكل ما سمع إلا لغائب حضر خروجه ممن يعلم أنه لم يشتهر في أهل مصره يعني بهذا إن أصل البيان واجب ولكن الوقت موسع وإنما يتضيق عند خوف الفوت كما بينا في حديث معاذ رضي الله عنه والذي أتاه كان قصده أن يتعلم منه ما لم يشتهر في مصره مما فيه منفعة للناس حتى يفتيهم بذلك إذا رجع إليهم قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] الآية فما لم يعزم على الرجوع كان الوقت في التعليم واسعا على المعلم وإذا عزم على الخروج فقد تضيق الوقت فلا يسعه تأخير البيان بعد ذلك بمنزلة الصلاة بعد دخول الوقت فرض ولكن الوقت واسع فإذا بلغ آخر الوقت تضيق فلا يسعه التأخير بعد ذلك وهذا فيما لم يشتهر في أهل مصر فأما فيما اشتهر فيهم فلا حاجة ولا ضرورة لأن الراجع يتمكن من تحصيل ذلك لنفسه من علماء أهل مصر وأهل مصر يتوصلون إلى ذلك من جهة علمائهم دون هذا الراجع إليهم والمؤمنون كنفس واحدة يعني إذا تألم بعض الجسد تألم الكل وإذا نال الراحة بعض الجسد اشترك في ذلك سائر الأعضاء فإذا كان مشهورا في أهل مصر لا يندرس بامتناع هذا العالم من البيان له وإذا لم يكن مشهورا فيهم فترك البيان يؤدي إلى الاندراس في حقهم فكما لا يحل له أن يترك البيان لأهل مصر حتى يندرس فكذا لا يحل ترك البيان للذي ارتحل إليه من موضع آخر لهذا المقصود وهو غير مشهور في أهل مصر.
ثم أن الله تعالى خلق أولاد آدم عليه السلام خلقا لا تقوم أبدانهم إلا بأربعة أشياء الطعام والشراب واللباس والكن أما الطعام فقال الله تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً} [الأنبياء: 8] الآية، وقال عز وجل {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه: 81] وأما الشراب فقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] وقال جل وعلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187]. وأما اللباس فقال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف: 26] وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الآية وأما الكن فلأنهم خلقوا خلقا لا تطيق أبدانهم معه أذى الحر والبرد ولا تبقى على شدتهما قال الله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28] فيحتاج إلى دفع أذى الحر والبرد عن نفسه لتبقي نفسه فيؤدى بها ما تحمل من أمانة الله تعالى ولا يتمكن من ذلك إلا بكن فصار الكن لهذا بمعنى الطعام والشراب.
قال: وقد دلهم المعاش بأسباب فيها حكمة بالغة: يعني أن كل أحد لا يتمكن من تعلم جميع ما يحتاج إليه في عمره فلو اشتغل بذلك فنى عمره قبل أن يتعلم وما لم يتعلم لا يمكنه أن يحصل لنفسه وقد تعلقت به مصالح المعيشة فيسر الله تعالى على كل واحد منهم تعلم نوع من ذلك حتى يتوصل إلى ما يحتاج إليه من ذلك النوع بعلمه فيتوصل غيره إلى ما يحتاج إليه من ذلك بعلمه أيضا وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:
"المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وبيان هذا في قوله تعالى:
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] الآية، يعني أن

 

ج / 30 ص -229-    الفقير محتاج إلى مال الغني والغني يحتاج إلى عمل الفقير فهنا أيضا الزارع يحتاج إلى عمل النساج ليحصل اللباس لنفسه والنساج يحتاج إلى عمل الزارع ليحصل الطعام والقطن الذي يكون منه اللباس لنفسه، ثم كل واحد منهما فيما يقيم من العمل يكون معينا لغيره فيما هو قربة وطاعة فإن التمكن من إقامة القربة بهذا يحصل فيدخل تحت قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" المسلم وسواء أقام ذلك العمل بعوض شرطه عليه أو بغير عوض فإذا كان قصده ما بينا كان في عمله معنى الطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فإذا نوى العامل بعمله التمكن من إقامة الطاعة أو تمكين أخيه من ذلك كان مثابا على عمله باعتبار نيته بمنزلة المتناكحين إذا قصدا بفعلهما ابتغاء الولد وتكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لهما الثواب على عملهما وإن كان ذلك الفعل لقضاء الشهوة في الأصل ولكن بالنية يصير معنى القربة أصلا ويصير قضاء الشهوة تبعا فهذا مثله.
قال: فإن تركوا الأكل والشرب فقد عصوا لأن فيه تلفا يعني أن النفس لما كانت لا تبقى عادة بدون الأكل والشرب فالممتنع من ذلك قاتل نفسه قال الله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهو معرض نفسه للهلاك وقال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وبعد التناول فقدر ما يسد به رمقه يندب إلى أن يتناول مقدار ما يتقوى به على الطاعة لأنه إن لم يتناول يضعف وربما يعجز عن الطاعة وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير".
ولأن اكتساب ما يتقوى به على الطاعة يكون طاعة وهو مندوب إلى الإتيان بما هو طاعة وإليه أشار أبو ذر رضي الله عنه حين سئل عن أفضل الأعمال فقال الصلوات وأكل الخبز قال وقد نقل عن مسروق رضي الله عنه وغيره أن من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار والمراد تناول الميتة لأن عند الضرورة الحرمة تنكشف فيلحق بالمباح وإذا كان الحكم في الميتة هذا مع حرمتها في غير حالة الضرورة فما ظنك في الطعام الحلال؟.
قال: وستر العورة فريضة لقوله تعالى:
{خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] الآية، والمراد ستر العورة لأجل الصلاة ألا ترى أنه خص المساجد بالذكر والناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد فلا فائدة لتخصيص المساجد بالذكر سوى أن يكون المراد ستر العورة لأجل الصلاة فهذا يدل على أنه من شرائط الصلاة فيكون فرضا ولئن كان المراد ستر العورة لأجل الصلاة فالأمر حقيقة للوجوب فإن كان خاليا في بيته فهو مندوب إلى الستر لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكروا عنده كشف العورة قيل له أرأيت لو كان أحدنا خاليا فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحي منه".
قال: وعلى الناس اتخاذ الأوعية لنقل الماء إلى النساء لأن المرأة تحتاج إلى الماء للوضوء والشرب وإن تيممت للوضوء احتاجت إلى الماء لتشرب ولا يمكنها أن تخرج تستقي الماء من الأنهار والآبار والحياض فإنها أمرت بالقرار في بيتها، قال الله تعالى:
{وَقَرْنَ

 

ج / 30 ص -230-    فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] فعلى الرجل أن يأتيها بذلك لأن الشرع ألزمه حاجتها كالنفقة ولا يمكنه أن يأتيها بكفه فلا بد أن يتخذ وعاء لذلك لأن ما لا يتأتى إقامة المستحق إلا به يكون مستحقا.
قال: ومن فعل شيئا مما ذكرنا فهو مأمور باتمامه لقوله تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92] الآية وهذا مثل ذكره الله تعالى لمن ابتدأ طاعة ثم لم يتمها فيكون كالمرأة التي تغزل ثم تنقض فلا تكون ذات غزل ولا ذات قطن ومن امتنع من الأكل والشرب والاستكنان حتى مات أوجب على نفسه دخول النار لأنه قتل نفسه قصدا فكأنه قتلها بحديدة وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجيء بها نفسه في نار جهنم" ثم تأويل اللفظ الذي ذكره من وجهين أحدهما أنه ذكره على سبيل التهديد وأضمر في كلامه معنى صحيحا وهو أنه أراد الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الآية، والمراد داخلها عند أهل السنة والجماعة والثاني أن المراد بيان جزاء فعله يعني أن جزاء فعله دخول النار ولكنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عفى عنه بفضله وإن شاء أدخله النار بعدله وهذا نظير ما قيل في بيان قول الله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] إن هذا جزاؤه إن جازاه الله به ولكنه عفو كريم يتفضل بالعفو ولا يخلد أحدا من المؤمنين في نار جهنم.
قال: وكل أحد منهى عن افساد الطعام ومن الإفساد الإسراف وهذا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال وعن كثرة السؤال وعن إضاعة المال وفي الإفساد إضاعة المال ثم الحاصل أنه يحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال الإفساد والسرف والخيلاء والتفاخر والتكاثر أما الإفساد فحرام لقوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77] الآية وأما السرف فحرام لقوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الآية وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} [الفرقان: 67] الآية، فذلك دليل على أن الإسراف والتقتير حرام وأن المندوب إليه ما بينهما وفي الإسراف تبذير، وقال الله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26].
ثم السرف في الطعام أنواع فمن ذلك الأكل فوق الشبع لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما ملأ بن آدم وعاء شرا من بطنه" فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس. وقال صلى الله عليه وسلم: "يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ولا يلام على كفاف" ولأنه إنما يأكل لمنفعة نفسه ولا منفعة في الأكل فوق الشبع بل فيه مضرة، فيكون ذلك بمنزلة القاء الطعام في مزبلة أو شر منها ولأن ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض فهو في تناوله جان على حق الغير وذلك حرام ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه فيكون ذلك كجراحته نفسه والأصل فيه ما روى أن رجلا تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "نح عنا جشاءك أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا".

 

ج / 30 ص -231-    ولما مرض ابن عمر رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب مرضه فقيل إنه أتخم قال ومم ذاك فقيل من كثرة الأكل فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنه لو مات لم أشهد جنازته ولم أصل عليه" ولما قيل لعمر رضي الله عنه ألا تتخذ لك جوارشا قال وما يكون الجوارش قيل هو صنف يهضم الطعام فقال سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع إلا أن بعض المتأخرين رحمهم الله استثنى من ذلك حالة وهو أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذ لا بأس بذلك بأن يأتيه ضيف بعد تناوله مقدار حاجته فيأكل مع ضيفه لئلا يخجل وكذا إذا أراد أن يصوم في الغد فلا بأس بأن يتناول بالليل فوق الشبع ليقوى على الصوم بالنهار.
ومن الإسراف في الطعام الاستكتار من المباحات والألوان فإن النبي صلى الله عليه وسلم عد ذلك من أشراط الساعة فقال:
"تدار القصاع على موائدهم واللعنة تنزل عليهم" وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت في ضيافة فأتيت بقصعة بعد قصعة فقامت وجعلت تقول: ألم تكن الأولى مأكولة وإن كانت فما هذه الثانية وفي الأولى ما يكفينا قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مثل هذا إلا أن يكون ذلك عند الحاجة بأن يمل من ناحية واحدة فيستكثر من المباحات ليستوفى من كل نوع شيئا فيجتمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة على ما حكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يشكو إليه ثلاثا العجز عن الأكل وعن الاستمتاع والعي في الكلام فكتب إليه أن استكثر من ألوان الطعام وجدد السراري في كل وقت وانظر إلى أخريات الناس في خطبتك ومن الإسراف أن تضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه الآكل وقد بينا أن الزيادة على مقدار حاجته فيه كان حق غيره إلا أن يكون من قصده أن يدعو الأضياف قوما بعد قوم إلى أن يأتوا علي آخر الطعام فحينئذ لا بأس بذلك لأنه غير مفسد.
ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك هو من حواشيه أما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس كأن يختار لتناوله رغيفا دون رغيف.
ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يمسح به لأن غيره يتقذر ذلك فلا يأكله فأما إذا كان هو يأكل ما يمسح به فلا بأس بذلك ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها بل ينبغي له أن يبدأ بتلك اللقمة فيأكلها لأن في ترك ذلك استخفافا بالطعام وفي التناول اكراما وقد أمرنا باكرام الخبز قال صلى الله عليه وسلم:
"أكرموا الخبز فإنه من بركات السماء والأرض" ومن إكرام الخبز أن لا ينتظر الآدام إذا حضر الخبز ولكن يأخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالادام وهذا لأن الإنسان مندوب إلى شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة وفي ترك اللقمة التي سقطت معنى كفران النعمة، وفي المبادرة إلى تناول الخبز قبل أن يؤتى بالأدام اظهار شكر النعمة.

 

ج / 30 ص -232-    ينبغي أن يكلف تحصيل جميع شهوات عياله ولا أن يمنعها جميع شهواتها ولكن انفاقه بين ذلك فإن خير الأمور أوساطها.
وكذلك لا ينبغي أن يستديم الشبع من الطعام فإن الأول ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه في قوله:
"أجوع يوما وأشبع يوما" وكانت عائشة رضي الله عنها تبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض وتقول يا من لم يلبس الحرير ولم يشبع من خبز الشعير وكانت عائشة رضي الله عنها تقول ربما يأتي علينا الشهر أو أكثر لا نوقد في بيوتنا نارا وإنما هو الأسود إن الماء والتمر.
وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا" فلهذا كان التحرز عن استدامة الشبع في جميع الأوقات أولى.
قال: وليس على الرجل أن يدع الأكل حتى يصير بحيث لا ينتفع بنفسه يعني حتى ينتهي به الجوع إلى حال تضره وتفسد معدته بأن تحترق فلا ينتفع بالأكل بعد ذلك لأن التهاون عند الحاجة حق قبله قال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه
"نفسك مطيتك فارفق بها ولا تجعها" وقال صلى الله عليه وسلم لآخر: "لنفسك عليك حقا ولإهلك عليك حقا ولله عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه".
وقال صلى الله عليه وسلم للمقدام بن معدي كرب: "كل واشرب والبس عن غير مخيلة". والأمر للإيجاب حقيقة ولأن في الامتناع من الأكل إلى هذه الغاية تعريض النفس للهلاك وهو حرام وفيه اكتساب سبب تفويت العبادات ولا يتوصل إلى أداء العبادات إلا بنفسه وكما أن تفويت العبادات المستحقة حرام فاكتساب سبب التفويت حرام فأما تجويع النفس على وجه لا يعجز معه عن أداء العبادات وينتفع بالأكل بعده فهو مباح لأنه إنما يمنع من الأكل لإتمام العبادة إذا كان صائما أو ليكون الطعام ألذ عنده إذا تناوله فكلما كان المتناول أجوع كانت لذته في التناول من الأكل فوق الشبع وهو حرام عليه إلا عند غرض صحيح له في ذلك فليس له بالامتناع إلى أن يصير بحيث لا ينتفع بالأكل غرض صحيح بل فيه اتلاف النفس وحرمة نفسه عليه فوق حرمة نفس أخرى فإذا كان يحق عليه إحياء نفس أخرى بما يقدر عليه ولا يحل له اكتساب سبب اتلافها ففي نفسه أولى وقد قال بعض المتقشفة لو امتنع من الأكل حتى مات لم يكن آثما لأن النفس أمارة بالسوء كما وصفها الله تعالى به وهي عدو المرء قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: "أعدى عدو المرء بين جنبيه" يعني نفسه، وللمرء أن لا يرى عدوه فكيف يصير آثما بالامتناع من تربيته؟.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"أفضل الجهاد جهاد النفس وتجويع النفس مجاهدة لها" فلا يجوز أن نجهل ذلك ولكن نقول أن مجاهدة النفس في حملها على الطاعات وفي التجويع إلى هذه الحالة تفويت العبادة لا حمل النفس على أداء العبادة وقد بينا أن النفس متحملة لأمانات الله تعالى فإن الله تعالى خلقها معصومة لتؤدي الأمانة التي تحملتها ولا تتوصل لذلك إلا بالأكل عند الحاجة وما لا يتوصل إلى إقامة المستحق إلا به يكون مستحقا فأما الشاب الذي يخاف على نفسه من الشبق والوقوع في العيب فلا بأس أن يمتنع من الأكل ويكسر شهوته، فتجويع النفس

 

ج / 30 ص -234-    على وجه لا يعجز عن أداء العبادات مندوب إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ولأنه منتفع بالامتناع من الأكل هنا من حيث أنه يمنع به نفسه عن ارتكاب المعاصي على ما يحكى عن أبي بكر الوراق رحمه الله قال في تجويع النفس اشباعها وفي اشباعها تجويعها ثم فسر ذلك فقال إذا جاعت واحتاجت إلى الطعام شبعت عن جميع المعاصي وإذا شبعت عن الطعام جاعت ورغبت في جميع المعاصي وإذا كان التحرز عن ارتكاب المعصية فرضا وإنما يتوصل إليه بهذا النوع من التجويع كان ذلك فرضا.
قال: ويفترض على الناس اطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز فيه عن الخروج والطلب وهذه المسألة تشتمل على فصول:
أحدها: أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على من يعلم حالة أنه يطعمه مقدار ما يتقوى به على الخروج وأداء العبادات إذا كان قادرا على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو حتى إذا مات ولم يطعمه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعا في المأثم" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل مات جوعا بين قوم أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله" فإذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه ولكنه قادر على الخروج إلى الناس فيخبر بحاله ليواسوه ويفترض عليه ذلك لأن عليه أن يدفع ما يزيل ضعفه بحسب الإمكان والطاعة بحسب الطاقة فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم وإذا قام به البعض سقط عن الباقين وهو نظير الأسير فإن من وقع أسيرا في يد أهل الحرب من المؤمنين وقصدوا قتله يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك وإلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه وإذا قام به البعض سقط عن الباقين بحصول المقصود ولا فرق بينهما في المعنى فإن الجوع الذي هاج من طبعه عدو يخاف الهلاك منه بمنزلة العدو من المشركين فأما إذا كان المحتاج يتمكن من الخروج ولكن لا يقدر على الكسب فعليه أن يخرج ليعلم بحاله ومن علم بحاله إذا كان عليه شيء من الواجبات فليؤده إليه لأنه قد وجد لما استحق عليه مصرفا ومستحقا فينبغي له أن يسقط الفرض عن نفسه بالصرف إليه حتما لأنه أدنى إليه من غيره وهو يندب إلى الإحسان إليه إن كان قد أدى ما عليه من الفرائض لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وقال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245].
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال:
"افشاء السلام، واطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام" فإن كان المحتاج بحيث يقدر على الكسب فعليه أن يكتسب ولا يحل له أن يسأل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سأل الناس وهو غنى عما يسأل كانت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه" وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرق الصدقات فأتاه رجلان يسألانه من ذلك فرفع بصره إليهما فرآهما جلدين قال: "أمانه لا حق لكما فيه وإن شئتما أعطيتكما" معناه لا حق لهما في السؤال.

 

ج / 30 ص -235-    وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" يعني لا يحل السؤال للقوي القادر على التكسب. وقال صلى الله عليه وسلم السؤال آخر كسب العبد ولكنه لو سأل فأعطى حل له أن يتناول لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن شئتما أعطيتكما" فلو كان لا يحل التناول لما قال صلى الله عليه وسلم لهما ذلك وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء} [التوبة: 60] الآية، والقادر على الكسب فقير، وإذا كان عاجزا عن الكسب ولكنه قادر على أن يخرج فيطوف على الأبواب ويسأل فإنه يفترض عليه ذلك وإذا لم يفعل ذلك حتى هلك كان آثما عند أهل الفقه رحمهم الله وقال بعض المتقشفة السؤال مباح له بطريق الرخصة فإن تركه حتى مات لم يكن آثما بل هو متمسك بالعزيمة وهذا قريب مما نقل عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن من كان في السفر ومع رفيق له ماء وليس عنده ثمنه أنه لا يلزمه أن يسأل رفيقه ولو تيمم وصلى من غير أن يسأله الماء جازت صلاته عنده ولم تجز عندنا وجه قوله إن في السؤال ذلا وللمؤمن أن يصون نفسه عن الذل وبيانه فيما نقل عن علي رضي الله عنه:
لنقل الصخر من قلل الجبال
أحب إلي من منن الرجال
يقول الناس لي في الكسب عار
فقلت العار في ذل السؤال
ولأن ما يلحقه من الذل بالسؤال تعين وما يصل إليه من المنفعة موهوم وربما يعطي ما يسأل وربما لا يعطى فكان السؤال رخصة له من غير أن يكون مستحقا عليه إذ الموهوم لا يعارض المتحقق.
وحجتنا في ذلك أن السؤال يوصله إلى ما تقوم به نفسه ويتقوى به على الطاعة فيكون مستحقا عليه كالكسب سواء في حق من هو قادر على الكسب ومعنى الذل في السؤال في هذه الحالة ممنوع.
ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن موسى ومعلمه عليهما السلام أنهما سألا عن الحاجة فقال عز وجل:
{اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77] والاستطعام طلب الطعام وما كان ذلك منهما بطريق الأجرة.
ألا ترى إنه قال:
{لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] فعرفنا أنه كان بطريق البر على سبيل الهدية أو الصدقة على ما اختلفوا أن الصدقة كانت تحل للأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم السلام على ما بين وكذا رسول الله. وقال صلى الله عليه وسلم لقوم: "هل عندكم ما يلت في السن؟ وإلا اكترعنا من الوادي كرعا" وسأل رجلا ذراع شاة وقال: "ناولني الذراع" في حديث فيه طول فلو كان في السؤال عند الحاجة ذلا لما فعل الأنبياء عليهم السلام ذلك فقد كانوا أبعد الناس عن اكتساب سبب الذل ولأن ما يسد به رمقه حق مستحق له في سؤال الناس فليس في المطالبة بحق مستحق له من معنى الذل شيء فعليه أن يسأل فأما إذا كان قادرا على الكسب فليس ذلك بحق مستحق له وإنما حقه في كسبه فعليه أن يكتسب ولا يسأل أحدا من الناس ولكن له أن يسأل ربه كما فعل موسى عليه السلام فقال: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}

 

ج / 30 ص -236-    [القصص: 24] وقد أمرنا بذلك قال الله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وقال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله حوائجكم حتى الملح لقدوركم والشسع لنعالكم".
قال: والمعطى أفضل من الآخذ وإن كان الآخذ يقيم بالأخذ فرضا عليه، وهذه المسألة تشتمل على ثلاث فصول:
أحدها: أن يكون المعطي مؤديا للواجب والآخذ قادرا على الكسب ولكنه محتاج فهنا المعطي أفضل من الآخذ بالاتفاق لأنه في الإعطاء يؤدي للفرض والآخذ في الأخذ متبرع فإن له أن يأخذ ويكتسب ودرجة أداء الفرض أعلى من درجة المتبرع كسائر العبادات فإن الثواب في أداء المكتوبات أعظم منه في النوافل والدليل عليه أن المفترض عامل لنفسه والمتبرع عامل لغيره وعمل المرء لنفسه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ابدأ بنفسك" معنى هذا أنه بنفس الأداء يفرغ ذمة نفسه فكان عاملا لنفسه والآخذ بنفس الأخذ لا ينفع نفسه بل بالتناول بعد الأخذ ولا يدري أيبقى إلى أن يتناول أولا يبقى ولهذا لا منة للغني علي الفقير في أخذ الصدقة لأن ما يحصل به للغني فوق ما يحصل للفقير من حيث أنه يحمل للغني ما لا يحتاج إليه للحال ليصل إليه عند حاجته إلى ذلك والغني محتاج إلى ذلك ليحصل به مقصوده للحال.
ولو اجتمع الفقراء على ترك الأخذ لم يلحقهم في ذلك مأثم بل يحمدون عليه بخلاف ما إذا اجتمع الأغنياء على الامتناع من أداء الواجب فعرفنا أن المنة للفقراء على الأغنياء.
والفصل الثاني: أن يكون المعطى والآخذ كل واحد منهما متبرع إن كان المعطي متبرعا والآخذ قادرا على الكسب فالمعطى هنا أفضل أيضا لأنه بما يعطي سلخ عن الغني ويتماثل إلى الفقير والآخذ بالأخذ يتماثل إلى الغني وبينا أن درجة الفقير أعلى من درجة الغني فمن يتماثل إلى الفقير بعمله كان أعلى من درجة الغني ومن يتماثل إلى الفقير لعمله كان أعلى درجة لأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء قال الله تعالى:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] ومعنى الابتلاء بالإعطاء أظهر منه بالأخذ لأن الابتلاء في العمل الذي تميل إليه النفس وفي نفس كل أحد داعية إلى الأخذ دون الإعطاء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم يحتاج في تصدقه بدرهم إلى أن يكسر شهوات سبعين شيطانا". وإذا كان معنى الابتلاء في الإعطاء أظهر كان أفضل لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: "أحمزها" أي أشقها على البدن. وسئل عن أفضل الصدقة قال: "جهد المقل" والآخذ يحصل لنفسه ما يتوصل به إلى اقتضاء الشهوات والمعطي يخرج من ملكه ما كان يتمكن به من اقتضاء الشهوات وأعلى الدرجات منع النفس عن اقتضاء الشهوات.
والفصل الثالث: إذا كان المعطي متبرعا والآخذ مقترضا بأن كان عاجزا عن الكسب محتاجا إلى ما يسد به رمقه فعند أهل الفقه رحمهم الله المعطي أفضل أيضا وقال أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه رحمهم الله الأخذ أفضل هنا لأنه بالأخذ

 

ج / 30 ص -237-    مقيم به فرضا عليه والمعطى متنفل وقد بينا أن إقامة الفرض أعلى درجة من التنفل ولأن الآخذ لو امتنع من الأخذ هنا كان آثما والمعطى لو امتنع من الإعطاء لم يكن آثما إذا كان هناك غيره ممن يعطيه ما هو فرض عليه والثواب مقابل بالعقوبة.
ألا ترى أن الله تعالى هدد نساء رسوله صلى الله عليه وسلم بضعف ما هدد به غيرهن من النساء فقال عز وجل:
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30] الآية ثم جعل لهن الثواب على الطاعات ضعف ما لغيرهن لقوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] فإذا كان الإثم في حق الآخذ دون المعطي فكذلك الثواب للآخذ أكثر مما للمعطي ولكن هذا كله مشكل برد السلام فإن السلام سنة ورد السلام فريضة ومع ذلك كانت البداءة بالسلام أفضل من الرد على ما قال صلى الله عليه وسلم: "للبادئ بالسلام عشرون حسنة وللراد عشر حسنات" وربما يقولون الآخذ يسعى في إحياء النفس والمعطي يسعى في تحصين النفس أو في إنماء المال وإحياء النفس أعلى درجة من إنماء المال.
وحجتنا في ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"اليد العليا خير من اليد السفلى" من غير تفضيل بين السفلى بالأداء وبين إقامة الفرض.
فإن قيل: المراد باليد العليا يد الفقير لأنها نائبة عن يد الشرع فإن المتصدق يجعل ماله لله خالصا بأن يخرجه من ملكه ثم يدفعه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى والفقير ينوب عن الشرع في الأخذ من العين وبيان هذا في قوله تعالى:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104] الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة تقع في يد الرحمن فيربيها كما يربى أحدكم فلوه حتى يصير مثل أحد" فبهذا تبين أن اليد العليا في المعنى يد الفقير.
قلنا: هذا التأويل بعيد وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الأيدي ثلاثة يد الله ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة" وفي رواية: "ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة" فبهذا بين أن المراد باليد العليا يد المعطي ولأن المعطي يتطهر من الدنس بالإعطاء والآخذ يتلوث وبيان ذلك أن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية فعرفنا أن في أداء الصدقة معنى التطهير والتنزيه وفي الأخذ تلويث وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة أوساخ الناس وسماها غسالة فقال: "يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس" يعني الصدقة ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر الإعطاء بنفسه وكان أخذ الصدقة لنفسه حراما عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لمحمد ولآل محمد".
وتكلم الناس في حق سائر الأنبياء عليهم السلام فمنهم من يقول ما كان يحل أخذ الصدقة لسائر الأنبياء عليهم السلام ولكنها كانت تحل لقراباتهم ثم إن الله أكرم نبينا صلى الله عليه وسلم بأن حرم الصدقة على قرابته اظهارا لفضله لتكون درجتهم في هذا الحكم كدرجة الأنبياء عليهم السلام وقيل بل كانت الصدقة تحل لسائر الأنبياء وهذه خصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم، فكيفما كان

 

ج / 30 ص -238-    يجوز أن يقال في تحريم الصدقة عليه أعلى الدرجات معنى الكرامة والخصوصية له فلو كان الأخذ أفضل من الإعطاء بحال لما كان في تحريم الأخذ عليه وعلى أهل بيته معنى الخصوصية والكرامة والدليل عليه أن الشرع ندب كل أحد إلى التصدق وندب كل أحد إلى التحرز عن السؤال، قال صلى الله عليه وسلم لثوبان رضي الله عنه: "لا تسأل الناس شيئا أعطوك أو منعوك".
وقال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: "إياك أن تسأل أحدا شيئا أعطاك أو منعك" فكان بعد ما سمع هذه المقالة لا يسأل أحدا شيئا ولا يأخذ من أحد شيئا حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض عليه نصيبه مما يعطي فكان لا يأخذ ويقول لست آخذ من أحد شيئا بعد ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وكان عمر رضي الله عنه يشهد عليه ويقول يا أيها الناس قد أشهدتكم عليه أني عرضت عليه حقه وهو يأبى وبهذا تبين أن الإعطاء أفضل من الأخذ وقال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] الآية يعني من التعفف عن السؤال والأخذ. وقال صلى الله عليه وسلم: "من استعف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن فتح على نفسه بابا من الفقر فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر" فإذا كان التعفف في الإمتناع من الأخذ كان في الإقدام على الأخذ ترك التعفف من حيث الصورة فلهذا كان المعطي أفضل من الآخذ وفي كل خير.
قال: وكل ما كان الأكل فيه فرضا عليه فإنه يكون مثابا على الأكل لأنه تمثل به الأمر فيتوصل به إلى أداء الفرائض من الصوم والصلاة فيقول للذي له السعي لأداء الجمعة والطهارة لأداء الصلاة والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في مباضعته أهله" فقيل: إنه يقضي شهوته أفيؤجر على ذلك قال أرأيت لو وضعها في غير حله أما كان يعاقب على ذلك.
وبمثله نستدل هنا فنقول لو ترك الأكل في موضع كان فرضا عليه كان معاقبا عليه وعلى ذلك فإذا أكل كان مثابا عليه. وقال صلى الله عليه وسلم:
"أفضل دينار المرء دينار ينفقه على نفسه فإذا كان هو مثابا فيما ينفقه على غيره ففيما ينفقه على نفسه أولى" قال: ولا يكون محسنا ولا مسيئا في ذلك ولا معاتبا ولا معاقبا لأنه مثاب على ذلك كما هو مثاب على إقامة العبادات فكيف يكون معاتبا عليه أو محاسبا والأصل فيه حديثان.
أحدهما: حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من لحم وخبز شعير هو من النعم التي نسأل عنها يوم القيامة وتلا قوله تعالى:
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إنما ذلك للكفار أما علمت أن المؤمن لا يسأل عن ثلاث" قال وما هي يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: "ما يوارى سوأته وما يقيم به صلبه وما يكن من الحر والبرد ثم هو مسؤول بعد ذلك عن كل نعمة".
والثاني: حديث عمر رضي الله عنه فإنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضيافة رجل فأتى

 

ج / 30 ص -239-    بعذق فيه تمر وبسر ورطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتسألن عن هذا يوم القيامة" فأخذ عمر رضي الله عنه العذق وجعل ينفضه حتى تناثر على الأرض ويقول أو نسأل عن هذا قال صلى الله عليه وسلم: "أي والله لتسألن عن كل نعمة حتى الشربة من الماء البارد إلا عن ثلاث كسرة تقيم بها صلبك أو خرقة توارى بها سوأتك أو كن يكنك من الحر" قال في الكتاب: وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أن المرء لا يحاسب على هذا المقدار وكفى باجماعهم حجة فمن زجى عمره بهذا وكان قانعا راضيا دخل الجنة بغير حساب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من هدي بالإسلام وقنع بما آتاه الله تعالى دخل الجنة بغير حساب" وقيل في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أن المصلح الذي يصير على هذا المقدار الذي لا بد منه ثم بعده التناول إلى مقدار الشبع مباح على الإطلاق لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية فعرفنا أن ذلك القدر ليس بمحرم فإذا لم يكن محرما فهو مباح على الإطلاق وكذلك أكل الخبيص والفواكه وأنواع الحلاوات من السكر وغير ذلك مباح ولكنه دون ما تقدم حتى أن الإمتناع منه والإكتفاء بما دونه أفضل له فكان تناول هذه النعم رخصة والامتناع منها عزيمة فذلك أفضل لحديثين رويا في الباب أحدهما حديث الصديق رضي الله عنه فإنه أتى يوما بقدح تندت بعسل وبرد له فقربه إلي فيه ثم رده وأمر بالتصدق به على الفقراء وقال أرجو أن لا أكون من الذين يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20] الآية، ففي هذا دليل أن تناول ذلك مباح لأنه قربه إلى فيه وفيه دليل أن الامتناع منه أفضل. والثاني حديث عمر رضي الله عنه فإنه اشتري جارية وأمر بها فزينت له وأدخلت عليه فلما رآها بكى وقال أرجو أن لا أكون من الذين يتوصلون إلى جميع شهواتهم في الدنيا ثم دعا شابا من الأنصار لم يكن تحته امرأة فأهداها له وتلا قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] الآية ولأن أفضل مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وقد كان طريقهم الاكتفاء بما دون هذا في عامة الأوقات وكذا نبينا عليه السلام ربما أصاب في بعض الأوقات من ذلك على ما روى أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم: "ليت لنا ملتوتا نأكله" فجاء به عثمان رضي الله عنه في قصعة فقيل إنه أصاب منه وقيل لم يصب وأمر بالتصدق به ثم فيما تقدم من تناول الخبز إلى الشبع لا حساب عليه سوى العرض على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الإنشقاق: 8] قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك العرض يا بنت أبي بكر أما علمت أن من نوقش الحساب عذب؟" ومعنى العرض بيان المنة وتذكير النعمة والسؤال أنه هل قام بشكرها؟.
وقيل في تأيل قوله تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] الآية، أنه العرض بمثل هذا وأما في اقتضاء الشهوات من الحلال وتناول اللذات فهو محاسب على ذلك غير معاقب عليه وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الدنيا: "حلالها حساب وحرامها عقاب" والدليل على أن الإكتفاء بما دون ذلك أفضل حديث الضحاك رضي الله عنه فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 30 ص -240-    وافدا من قومه وكان متنعما فيهم، قال صلى الله عليه وسلم: "ما طعامك يا ضحاك؟" قال: اللحم والعسل والزيت ولب الخبز، قال: "ثم تصير إلى ماذا؟" فقال أصير إلى ما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى ضرب للدنيا مثلا بما يخرج من ابن آدم ثم قال له إياك أن تأكل فوق الشبع" فقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طعامه وإن كان لذيذا طيبا في الابتداء فإنه يصير إلى الخبث والنتن في الانتهاء فهو مثل الدنيا وفي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل وفي حديث الأحنف بن قيس رضي الله عنه أنه كان عند عمر رضي الله عنه فأتى بقصعة فيها خبز شعير وزيت فجعل عمر رضي الله عنه يأكل من ذلك ويدعو الأحنف إلى أكله وكان لا يسعه ذلك، فذكر الأحنف ذلك لحفصة وقال إن الله تعالى وسع الدنيا على أمير المؤمنين فلو وسع على نفسه وجعل طعامه طيبا فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فبكى وقال أرأيت لو أن ثلاثة اصطلحوا فتقدم أحدهم في الطريق والثاني بعده ثم خالفهم الثالث في الطريق أكان يدركهم فقالت لا قال فقد تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصب من شهوات الدنيا شيئا وأبو بكر رضي الله عنه بعده كذلك فلو اشتغل عمر بقضاء الشهوات في الدنيا متى يدركهم ففي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل.
وفي الحاصل المسألة صارت على أربعة أوجه: ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوى على الطاعة هو مثاب غير معاقب وفيما زاد علي ذلك إلى حد الشبع هو مباح له محاسب على ذلك حسابا يسيرا بالعرض وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له فيه محاسب على ذلك مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين وفيما زاد على الشبع هو معاقب عليه فإن الأكل فوق الشبع حرام وقد بينا هذا وفي الكتاب قال أكرهه ومراده التحريم على ما روى أن أبا حنيفة رضي الله عنه قيل له إذا قلت في شيء أكرهه ما رأيك فيه قال إلى الحرمة أقرب والدليل عليه ما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا تجشأ أحدكم فليقل اللهم لا تفتنا" والجشأ من الأكل فوق الشبع ففي هذا بيان أن الأكل فوق الشبع من أسباب الموت وتسبب الموت ارتكاب الحرام وهذا كله فيما اكتسبه من حله فأما ما اكتسبه من غير حلة فهو معاقب على التناول منه ففي غير حالة الضرورة القليل والكثير منه سواء لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به" وقال صلى الله عليه وسلم: "ما اكتسب المرء درهما من غير حله ينفقه على أهله ويبارك له فيه أو يتصدق به فيقبل منه أو يخلفه وراء ظهره إلا كان ذلك زاده إلى النار".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من اكتسب من حيث شاء ولا يبالي أدخله الله تعالى النار من أي باب كان ولا يبالي" وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "طيب طعمتك" أو قال: "أكلتك تستجب دعوتك" وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان حال الناس بعده: "يصبح أحدهم أشعث أغبر يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأني يستجاب له" وقال صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: "الدرهم الحلال

 

ج / 30 ص -241-    فيهم أعز من أخ في الله والأخ في الله أعز فيهم من درهم حلال" قال في الكتاب وكذلك أمر اللباس يعني أنه مأجور فيما يوارى به سوأته، ويدفع أذى الحر والبرد عنه ويتمكن من إقامة الصلوات وما زاد على ذلك مباح له وترك الأجود من الثياب والإكتفاء بما دون ذلك أفضل كما في الطعام لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس يوما ثوبا معلما ثم نزعه وقال: "شغلني علمه عن صلاتي كلما وقع بصري عليه".
وعن عمر رضي الله عنه أنه رفع ثوبه إلى عامله ليرقعه فزاد عليه ثوبا آخر وجاءه بالثوبين فأخذ عمر رضي الله عنه ثوبه ورد الآخر وقال ثوبك أجود وألين ولكن ثوبي أنشف للعرق وعن علي رضي الله عنه أنه كان يكره التزيي بالزي الحسن ويقول أنا ألبس من الثياب ما يكفيني لعبادة ربي فيه فعرفنا أن الاكتفاء بما دون الأجود أفضل له وإن كان يرخص له في لبس ذلك.
ثم حول الكلام إلى فصل آخر حاصله دار على فصل وهو أن مساعي أهل التكليف ثلاثة أنواع نوع منها للمرء كالعبادات ونوع منها عليه كالمعاصي ونوع منها بينهما لا له ولا عليه وذلك المباحات في الأقوال والأفعال كقولك أكلت أو شربت أو قمت أو قعدت وما أشبه ذلك هذا مذهب أهل الفقه رحمهم الله.
وقالت الكرامية: مساعي أهل التكليف نوعان لهم وعليهم وليس شيء من مساعيهم في حد الإهمال لقوله تعالى:
{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] فقد قسم الأشياء قسمين لا فاصل بينهما أما الحق وهو ما يكون للمرء أو الضلال وهو ما على المرء وقال الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وما للتعميم فتبين بهذا أن جميع ما يكتسبه المرء له أو عليه وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] الآية، فتبين بهذا أن عمله لا ينفك عن أحد هذين أما صالح أو سيىء.
وفي كتاب الله تعالى بيان أن جميع ما يتلفظ به المرء مكتوب قال الله تعالى:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: 18] الآية، وفيه بيان أن جميع ما يفعله المرء مكتوب. قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] وفيه دليل أنه يحضر جميع ما عمله في ميزانه عند الحساب قال الله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] وما للتعميم فدل أنه ليس شيء من ذلك هملا والمعنى فيه من وجهين أحدهما أن مواثيق الله على عباده لازمة له في كل حال يعني من قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36] وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ} [الذاريات: 56] الآية، فأما أن يكون هو موقنا بهذا العهد والميثاق فيكون ذلك له أو تاركا فيكون عليه إذ لا تصور لشيء سوى هذا والدليل عليه أن المباح الذي تصورونه إما أن يكون من جنس ماله بأن يكون مقربا له مما يحل ويكون هو مأمورا به أو مبعدا له مما لا يحل فيكون ذلك له أو يكون مقربا له مما لا يحل أو مبعدا له مما يحل ويؤمر به فيكون ذلك عليه فعرفنا أن جميع مساعيه غير خارجة من أن تكو له أو عليه وحجتنا في

 

ج / 30 ص -242-    ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين والعلماء رحمهم الله اتفقوا على أن من أفعال العباد ما هو مأمور به أو مندوب إليه وذلك عبادة لهم ومنه ما هو منهى عنه وذلك عليهم ومنه ما هو مباح وما كان مباحا فهو غير موصوف بأنه مأمور به أو مندوب إليه أو منهى عنه فعرفنا أن هنا قسما ثالثا ثابتا بطريق الإجماع وليس ذلك للمرء ولا على المرء وما كان هذا بين القسمين الآخرين إلا لحكمة وهي أن يكون مهملا لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه لأن ما يكون له فهو مثاب عليه قال الله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] الآية، وقال الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وما يكون عليه فهو معاقب على ذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي فعليها. وإذا كان في أفعاله وأقواله ما لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل والدليل عليه أن الله تعالى قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] فالتنصيص على نفي المؤاخذة في يمين اللغو يكون تنصيصا على أنه لا يثاب عليه وإذا ثبت بالنص أنه لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل.
وقال الله تعالى:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] ولا اشكال إنه لا يثاب على ما أخطأ به وقد انتفت المؤاخذة بالنص فعرفنا أنه مهمل. وقال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي ثلاث: الخطأ والنسيان" الحديث، معناه: أن الإثم مرفوع عنهم ولا شك أنهم لا يثابون على ذلك فإذا ثبت بهذه النصوص إن ما لا ينال به المرء الثواب ولا يكون معاقبا عليه فإنه يكون مهملا لا يوصف بأنه يكون للمرء أو عليه لأن ماله خاص بما لا ينتفع به في الآخرة وما عليه خاص فيما يضره تجاه الآخرة وفي أفعاله وأقواله ما لا ينفعه ولا يضره في الآخرة فكان ذلك مهملا.
ثم اختلف الفقهاء رحمهم الله أن ما يكون مهملا من الأفعال والأقوال هل يكون مكتوبا على العبد أم لا قال بعضهم أنه لا يكتب عليه لأن الكتابة لا تكون من غير فائدة والفائدة منفعته بذلك في الآخرة أو المعاقبة معه على ذلك فما يكون خارجا عن هذين الوجهين فلا فائدة في كتابته عليه وأكثر الفقهاء رحمهم الله على أن ذلك كله مكتوب عليه قال الله تعالى:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 36] الآية/ إلا أنهم قالوا بعد ما يكتب جميع ذلك عليه يبقى في ديوانه ما فيه جزاء وخير أو شر ويمحى من ديوانه ما هو مهمل وبيانه في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا صعد الملكان بكتاب العبد فإن كان أوله وآخره حسنة يمحي ما بين ذلك من السيئات وإن لم يكن ذلك في أوله وآخره يبقي جميع ذلك عليه". والذين قالوا يمحى المهمل من الكتاب اختلفوا فيه قال بعضهم إنما يمحي ذلك في الأثانين والأخمسة وهو الذي وقع عند الناس إنه تعرض الأعمال في هذين اليومين أي يمحى من الديوان فيهما ما هو مهمل ليس فيه جزاء وأكثرهم على أنه إنما يمحى ذلك يوم القيامة والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها وقد ذكره محمد رحمه الله في الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ به وهو ما ليس فيه جزاء خير أو شر،

 

ج / 30 ص -243-    وديوان مظالم العباد فلا بد فيه من الإنصاف والانتصاف والديوان الثالث ما فيه جزاء من خير أو شر" وهذا حديث صحيح مقبول عند أهل السنة والجماعة رحمهم الله ولكنهم اختلفوا في الديوان الذي لا يعبأ به قيل هو المهمل الذي قلنا أنه ليس فيه جزاء خير ولا شر وقيل هو ما بين العبد وبين ربه مما ليس فيه حق العباد فإن الله تعالى عفو كريم قال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] الآية، وقيل بل هو الصغائر فإنها مغفورة لمن اجتنب الكبائر قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية، فهو الديوان الذي لا يعبأ به وقيل المراد بأعمال الكبائر ما هو في صورة الطاعة فإنه لا يعبأ به إذا لم يؤمنوا أي لا ينفعهم ذلك لا الشرك غير مغفور لهم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] ولا قيمة لأعمالهم مع الشرك قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا} [الفرقان: 23] الآية والأظهر هو القول الأول إن الذي لا يعبأ به القسم الثالث الذي بينا أنه مباح ليس للمرء ولا عليه هذا الذي لا يعبأ به فإنه فسر ذلك بقوله وهو ما ليس فيه جزاء خير ولا شر.
وذكر في الكتاب عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد: 39] وثبت أن المراد محو بعض الأسماء من ديوان الأشقياء والإثبات في ديوان السعداء ومحو بعض الأسماء من ديوان السعداء والإثبات في ديوان الأشقياء وأهل التفسير رحمهم الله إنما يروون هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه كما روى عن وائل رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في دعائه اللهم إن كنت كتبت أسماءنا في ديوان الأشقياء فامحها من ديوان الأشقياء واثبتها في ديوان السعداء فإنك قلت في كتابك وقولك الحق: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] الآية فأما ابن عباس رضي الله عنهما فالرواية الظاهرة عنه المحو والإثبات في كل شيء إلا في السعادة والشقاوة والحياة والموت ومن الفقهاء رحمهم الله من أخذ بالرواية الأولى وقال إنا نرى الكافر يسلم والمسلم يرتد والصحيح يمرض والمريض يبرأ وكذا يقول يجوز أن يشقى السعيد ويسعد الشقي من غير أن يتغير علم الله في كل أحد ولله الأمر من قبل ومن بعد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] وأكثرهم على أن الصحيح الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه أقرب إلى موافقة الحديث المشهور السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وتأويل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] محوه لا يعبأ به من ديوان العبد مما ليس فيه جزاء خير ولا شر وإثبات ما فيه الخير على ما بينا من حديث عائشة رضي الله عنها الدواوين عند الله ثلاثة ولأجله أورد محمد رضي الله عنه هذا الحديث على أثر ذلك الحديث وقيل المراد محو المعرفة من قلب البعض وإثباتها في قلب البعض فيكون هذا نظير قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] أو المراد المحو والإثبات في المقسوم لكل عبد من الرزق والسلامة والبلاء والمرض وما أشبه ذلك ثم روى حديث الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكلة أكلتها معك

 

ج / 30 ص -244-    في بيت أبي الهيثم بن التيهان وقد روينا الحديث بتمامه زاد في آخر الحديث فأما المؤمن فشكره إذا وضع الطعام بين يديه أن يقول بسم الله وإذا فرغ يقول الحمد لله وهذه الزيادة لم يذكرها أهل الحديث في كتبهم ومحمد رضي الله عنه موثوق به فيما يروي ويحتمل أن يكون هذا من كلام محمد رضي الله عنه ذكره بعد رواية الحديث.
وقد روى في معنى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا وضع الطعام بين يدي المؤمن فقال بسم الله وإذا فرغ قال الحمد لله تحاتت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر كما يتحات ورق الشجر" وقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله على كل نعمة" وقال صلى الله عليه وسلم: "لو جعلت الدنيا كلها لقمة فابتلعها مؤمن فقال: الحمد لله كان ما أتى به خيرا مما أوتي وهو كذلك" فإن الله تعالى وصف الدنيا بالقلة والحقارة قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وذكر الله تعالى أعلى وأطيب وفي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ذكر الله تعالى بطريق التعظيم والشكر فيكون خيرا من جميع الدنيا.
ثم قال: ويكره للرجال لبس الحرير في غير حالة الحرب وهذه المسألة ليست من مسائل هذا الباب وهي مذكورة في مواضع من الكتب إلا أنها تليق بما تقدم ذكره من المسائل في هذا الكتاب فإنه صنف هذا الكتاب في الزهد على ما حكى أنه لما فرغ من تصنيف الكتب قيل له ألا صنفت في الزهد والورع شيئا فقال صنفت كتاب البيوع ثم أخذ في تصنيف هذا الكتاب فاعترض له داء فخف دماغه ولم يتم مراده ويحكي أنه قيل له فهرس لنا ما كنت تريد أن تصنف ففهرس لهم ألف باب كان يريد أن يصنفها في الزهد والورع ولهذا قال بعض المتأخرين رحمهم الله موت محمد رضي الله عنه واشتغال أبي يوسف بالقضاء على أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه لولا ذلك لصنفا ما أتعب المتبعين وهذا الكتاب أول تصانيفه في الزهد والورع فذكر في آخره بعض المسائل التي تليق بذلك في مثل لبس الحرير والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم والذهب بيمينه والحرير بشماله وقال:
"هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها" ولبس الحرير للرجال في غير حالة الحرب مكروه وفي حالة الحرب كذلك في قول أبي حنيفة وفي قولهما إذا كان ثخينا يدفع بمثله السلاح فلا بأس بلبسه في حالة الحرب وأما ما يكون سداه غير حرير ولحمته حرير فلا يحل للرجال لبسه في غير حالة الحرب نحو القباء وما أشبه ذلك وقد تقدم بيان هذه الفصول في الكتب.
قال: ولا بأس بأن يتخذ الرجل في بيته سريرا من ذهب أو فضة وعليه الفرش من الديباج يتجمل بذلك للناس من غير أن يقعد أو ينام عليه فإن ذلك منقول عن السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين روى أن الحسن أو الحسين رضي الله عنهما من تزوج منهما شاه بانوا على حسب ما اختلف فيه الرواة زينت بيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذهب والفضة فدخل عليه بعض من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فقال: ما هذا في بيتك يا ابن رسول الله؟ فقال: هذه امرأة تزوجتها فأتت بمثل هذه الأشياء ولم أستحسن منعها من ذلك.

 

ج / 30 ص -245-    وعن محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه زين داره ذلك هذا فعاتبه في ذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم فقال إنما أتجمل للناس بهذه ولست أستعمله وإنما أفعل ذلك لكيلا يشتغل قلب أحد ولا ينظر إلى غير حماك فعرفنا أن هذا إذا اتخذه المرء على هذا القصد لم يكن به بأس وإن كان الإكتفاء بما دونه أفضل ويدخل هذا في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية، والذي قال لا يقعد عليه ولا ينام قول محمد أيضا فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فلا بأس بالجلوس والنوم عليه وإنما المكروه اللبس والملبوس يصير تبعا للابس فأما ما يجلس أو ينام عليه فلا يصير تبعا له فلا بأس به.
قال: ولا بأس أن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام رضي الله عنه يقول تحت اللفظ إشارة إلى أنه لا يثاب على ذلك فإنه قال لا بأس وهذا اللفظ لرفع الحرج لا لإيجاب الثواب معناه يكفيه أن ينجو من هذا رأسا برأس وهو المذهب عند الفقهاء رحمهم الله وأصحاب الظواهر يكرهون ذلك ويؤنبون من فعله قالوا لأن فيه مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر من الطريقة فإنه لما قيل له ألا نهد مسجدك ثم نبنيه فقال:
"لا عرش كعرش موسى" أو قال: "عرش كعرش موسى" وكان سقف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد فكان ينكشف إذا مطروا حتى كانوا يسجدون في الماء والطين.
وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزين مزخرف فجعل يقول لمن هذه البيع وإنما قال ذلك لكراهيته هذا الصنع في المساجد ولما بعث الوليد بن عبد الملك أربعين ألف دينار ليزين بها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بها على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال المساكين أحوج إلى هذا المال من الأساطين والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أشراط الساعة أن تزخرف المساجد وتعلى المنارات وقلوبهم خاوية من الإيمان" ولكنا نقول: لا بأس بذلك لما فيه من تكثير الجماعة وتحريض الناس على الاعتكاف في المسجد والجلوس فيه لانتظار الصلاة وفي كل ذلك قربة وطاعة والأعمال بالنيات ثم الدليل على أنه لا بأس بذلك ما روى أن أول من بنى مسجد بيت المقدس داود عليه السلام ثم أتمه سليمان عليه السلام بعده وزينه حتى نصب على رأس القبة الكبريت الأحمر وكان أعز وأنفس شيء وجد في ذلك الوقت فكان يضيء من ميل وكن الغزالات يبصرن ضوءه بالليالي من مسافة ميل والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أول من زين المسجد الحرام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه زين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد فيه وكذلك عثمان رضي الله عنه بعده بنى المسجد بماله وزاد فيه وبالغ في تزيينه فدل أن ذلك لا بأس به وإن تأويل ما روى بخلاف هذا ما أشار إليه في آخر الحديث وقلوبهم خاوية من الإيمان أي يزينون المساجد ولا يداومون على إقامة الصلاة فيها بالجماعة والمراد التزين بما ليس بطيب من الأموال أو على قصد الرياء والسمعة فعلى بعض ذلك يحمل ليكون جمعا بين الآثار وهذا كله إذا فعل المرء هذا بمال نفسه مما اكتسب من حله فأما إذا فعله بمال المسجد فهو آثم في

 

ج / 30 ص -246-    ذلك وإنما يفعل بمال المسجد ما يكون فيه أحكام البناء فأما التزين فليس من أحكام البناء في شيء حتى قال مشايخنا رحمهم الله للمتولى أن يجصص الحائط بمال المسجد وليس له أن ينقش الجص بمال المسجد ولو فعله كان ضامنا لأن في التجصيص أحكام البناء وفي النقش على الجص تزيين البناء لا إحكامه فيضمن المتولي ما ينفق على ذلك من مال المسجد.
قال: ألا ترى أن الرجل قد يبني لنفسه دارا وينقش سقفها بماء الذهب فلا يكون آثما في ذلك يريد به أن فيما ينفق على ذلك للتزين يقصد به منفعة نفسه خاصة وفيما ينفق على المسجد للتزين منفعته ومنفعة غيره فإذا جاز له أن يصرف ماله إلى منفعة نفسه بهذا الطريق فلأن يجوز صرفه إلى منفعته ومنفعة غيره كان أولى وقد أمرنا في المساجد بالتعظيم ولا شك أن معنى التعظيم يزداد بالتزيين في قلوب بعض الناس من العوام فيمكن أن يقال بهذا الطريق يؤجر هو على ما فعله وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يثاب المؤمن على انفاق ماله في كل شيء إلا في البنيان" زاد في بعض الروايات: "ما خلا المساجد" فإن ثبتت هذه الزيادة فهو دليل على أنه يثاب فيما ينفق في بناء المسجد وتزيينه وعلى هذا أمر اللباس فإنه لا بأس للرجل أن يتجمل بلبس أحسن الثياب وأجودها فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة فنك علمها من الحرير فكان يلبسها في الأعياد وللوفود إلا أن الأولى أن يكتفي بما دون ذلك في المعتاد من لبسه على ما روى أن ثوب مهنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كأنه ثوب دهان وكذلك لا بأس بأن يتسرى بجارية حسناء فإنه صلى الله عليه وسلم مع ما كان عنده من الحرائر تسرى حتى استولد مارية أم إبراهيم رضي الله عنهما وعلي رضي الله عنه مع ما كان عنده من الحرائر كان تسري حتى استولد أم محمد بن الحنفية رضي الله عنه فعرفنا أنه لا بأس بذلك والأصل فيه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية.
وقال: ولو أن الناس قنعوا بما دون ذلك وعمدوا إلى الفضول فقدموها لآخرتهم كان خيرا لهم والأصل فيه حديث أبي ذر رضي الله عنه فإنه كان يتعلق بأستار الكعبة في أيام الموسم وينادي بأعلى صوته ألا من قد عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر جندب بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أحدكم إذا أراد سفرا استعد لسفره فما لكم لا تستعدون لسفر الآخرة وأنتم تتيقنون أنه لا بد لكم منه ألا ومن أراد سفرا في الدنيا فإن بدا له أن يرجع تمكن وإن طلب القرض وجد وإن استوهب ربما يوهب له ولا يوجد شيء من ذلك في سفر الآخرة.
وسئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه ما لنا نتيقن بالموت ولا نحبه فقال إنكم أحببتم الدنيا فكرهتم أن تجعلوها خلفكم ولو قدمتم محبوبكم لأحببتم اللحوق به فعرفنا أن الأفضل أن يكتفي من الدنيا بما لا بدله منه ويقدم لآخرته ما هو زيادة على ذلك مما اكتسبه ولكنه لو استمتع بشيء من ذلك في الدنيا بعد ما اكتسبه من حله لم يكن به بأس والقول بتأثيم من ينفق على نفسه وعياله مما اكتسبه من حله وأدى حق الله تعالى منه غير سديد إلا أن أفضل الطريق طريق المرسلين عليهم السلام، وقد بينا أنهم اكتفوا من الدنيا بما لا بد لهم منه

 

ج / 30 ص -247-    خصوصا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لما عرض عليه خزائن مفاتيح الأرض ردها وقال: "أكون عبدا نبيا أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت صبرت وإذا شبعت شكرت" ولكن مع هذا في بعض الأوقات قد كان يتناول بعض الطيبات حتى روى أنه قال"يوما ليت لنا خبز بر قد لت بسمن وعسل فنأكله" فصنع ذلك عثمان رضي الله عنه وجاء به في قصعة فقيل إنه ما تناول من ذلك والصحيح أنه تناول بعضه ثم أمر بالتصدق بما بقي منه وقد أهدى له صلى الله عليه وسلم جدي سمين مشوي فأكل منه مع أصحابه رضي الله عنهم وقد تناول مما أتى به من الشاة المسمومة وحين قدم بين يديه الجدي المشوي قال لبعضهم ناولني الذراع فبهذه الآثار تبين أنه كان يتناول في بعض الأوقات لبيان أن ذلك لا بأس به لنا وكان يكتفي بما دون ذلك في عامة الأوقات لبيان أفضل على ما روى أن عائشة رضي الله عنها كانت تبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: يا من لم يلبس الحرير ولم يشبع من خبز الشعير فصار الحاصل أن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة وما زاد على ذلك من النعم والنيل من اللذات رخصة.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". وقال صلى الله عليه وسلم:"بعثت بالحنيفية السمحة ولم أبعث بالرهبانية الصعبة" فعرفنا أنه إن ترخص بالإصابة من النعم فليس لأحد أن يؤثمه في ذلك وإن زم نفسه وكسر شهوته فذلك أفضل له ويكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب على ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى وعدني أن يدخل سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب" فقيل: من هم يا رسول الله قال: "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" وفي رواية: "ثم زادني معهم سبعين ألفا" وفي رواية: "ثم أضعف لي مع الفريق الأول والآخر سبعين ألفا".
وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وإلى أي محل صرفه فإذا صرف المال إلى ما فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى كان الحساب والسؤال أهون عليه منه إذا صرفه إلى شهوات بدنه".
قال: والذي على المرء أن يتمسك به من الخصال التي يحمد عليها أشياء منها التحرز عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ومنها المحافظة على الفرائض والمداومة على ذلك في أوقاتها ومنها التحرز عن السحت واكتساب المال من غير حله ومنها التحرز عن ظلم كل أحد من مسلم أو معاهد فأما فيما وراء ذلك فقد وسع الله تعالى الأمر علينا فلا نضيق على أنفسنا ولا على أحد من المؤمنين قال محمد بن سماعة رضي الله عنه قال محمد بن الحسن رضي الله عنه وهذا الذي ثبت لك في هذا الكتاب قول عمر وعثمان وعلي وبن عباس وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومن بعدهم من الفقهاء رحمهم الله وبذلك كله نأخذ والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.