المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 30 ص -248-    كتاب الرضاع
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء يوم الخميس الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وأربعمائة: اختلف الناس في كتاب الرضاع هل هو من تصنيف محمد رحمه الله أم لا قال بعضهم هو ليس من تصنيف محمد رحمه الله وإنما صنفه بعض أصحابه ونسبه إليه ليروج به وفي ألفاظه ما يدل على ذلك فقد ذكر في حرمة المصاهرة سبب الوطء الحرام قال والتنزه عنه أفضل إن شاء الله تعالى ومحمد رحمه الله ما كان يصحح الجواب في مصنفاته في الأحكام خصوصا فيما فيه نص من الكتاب والسنة فعرفنا أنه ليس من تصنيفاته ولهذا لم يذكره الحاكم الجليل في المختصر وقال أكثرهم هو من تصنيفاته ولكنه من أوائل تصنفاته ولكل داخل دهشة وقد بينا فيما سبق أنه كان صنف الكتب مرة ثم أعادها إلا قليلا منها فهذا الكتاب من ذلك لأنه حين أعاد اكتفى في أحكام الرضاع بما أورد في كتاب النكاح واكتفى الحاكم رضي الله عنه أيضا بذلك فلم يفرد هذا الكتاب في مختصره.
قال رضي الله عنه: ولكني لما فرغت من إملاء شرح المختصر بحسب الإمكان والطاقة عند تحقق الحاجة والفاقة وأتبعته باملاء كتاب الكسب رأيت الصواب إتباع ذلك باملاء شرح هذا الكتاب ففيه بعض ما لا بد من معرفته وما يحتاج فيه إلى شرح وبيان.
ثم إنه بدأ الكتاب ببيان المحرمات من النساء فقال أسباب حرمة النساء ثلاثة النسب والصهر والرضاع والمحرمات بالنسب سبعة وذلك يتلى في قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23].
والمصاهرة كالنسب في ثبوت الحرمة المؤبدة بها بطريق الإكرام فإن الله تعالى جمع بينهما قال:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54]. والمحرمات بالمصاهرة أربع وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وقال تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] وقال عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22].
ثم حرم بالرضاع مثل هذا العدد الذي حرم بالنسب والصهر وثبوت الحرمة بسبب الرضاع منصوص في قوله تعالى:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وزعم بعض العلماء رحمهم الله أن طريق معرفة هذه المحرمات النص خاصة ولو خلينا والقياس لم نقل بشيء من هذه المحرمات فإن الإناث خلقن للذكور وهذا محل النكاح باعتبار أنهن مكان حرث للولد وإن

 

ج / 30 ص -249-    التناسل بين الذكور والإناث وبهذه الأسباب لا يختل هذا المعنى والأصح أن نقول هذه المحرمات ثابتة بالنص وهي مستحسنة في عقول العقلاء أيضا عند رفض العادات السيئة والعاقل يحرص على حماية أمه وابنته وأخته ودفع العار والشنار عنهما كما يحرص على دفع ذلك عن نفسه والمقصود بالنكاح الاستعراض للوطء والعاقل يأنف من ذلك الفعل في أمه وابنته كما يأنف من ذلك في نفسه.
ألا ترى أن الله تعالى أشار إلى ذلك في الأخبار عن الذين لم يعرفوا الشريعة وكانوا عقلاء فقال جل وعلا:
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} إلى قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 58-59] فإذا كان يأنف من ذلك كيف يستجيز من نفسه أن يباشر فعله وكذا يأنف من ذلك في حق امرأة أبيه التي ربته وهي بمنزلة أمه باعتبار التربية وفي حق امرأة ابنه التي هي له بمنزلة الولد والمتولد منها يكون ولدا له وكذلك يأنف من ذلك باعتبار الرضاع الذي هو أحد سببي الكون فإن النشر والتسوية يحصل به ولهذا كانوا في الجاهلية يعظمون أمر الرضاع كما يعظمون أمر النسب ثم بسبب النسب تتمكن بينهما العصبية أو شبه العصبية وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أولادنا أكبادنا" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن فاطمة بضعة مني إلا ما كان لآدم صلوات الله عليه" وقد كان ذلك بطريق الكرامة لكون الأصل الأول واحدا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] ثم شبهة التعصبية تعتبر بحقيقة العصبية وفي المصاهرة شبهه العصبية باعتبار الواسطة وفي الرضاعة شبهة العصبية باعتبار البنوة وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله: "الرضاع ما أنبت اللحم وانشر العظم" ثم بين نوعا آخر من الحرمة فقال: ومن ذلك ما حرم بالكفر قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 121] وهذا في المعنى ليس نظير ما تقدم فتلك حرمة مؤبدة وهذه حرمة مؤقتة إلى غاية هي الإسلام وهذا النوع من الحرمة سبعة أيضا.
أحدها: إذا كان تحت الرجل امرأة فأختها محرمة عليه إلى غاية وهي أن يفارقها وكذلك ما في معنى الأخت كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت ثبت ذلك بقوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أختها ولا على ابنة أخيها".
والثانية: إذا كان تحته أربعة نسوة فالخامسة محرمة عليه إلى أن يفارق إحدى الأربع ثبت ذلك بقوله تعالى:
{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وباجماع الجمهور من علماء المسلمين رحمهم الله على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نسوة.
والثالثة: إذا كان تحته حرة فالأمة محرمة عليه إلى غاية وهي أن يفارق الحرة ثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تنكح الأمة على الحرة" وهي حرمة ثابتة شرعا عندنا لا لحق المرأة حتى أنها وإن رضيت لم تحل إلا على قول مالك رضي الله عنه فإنه يقول إذا رضيت الحرة جاز وذكر في الكتاب هذا القول منسوبا إلى بعض العلماء ومراده مالك رضي الله عنه.

 

ج / 30 ص -250-    والرابعة: إذا وطىء امرأة بشبهة فأختها محرمة عليه إلى غاية وهي انقضاء عدة هذه باعتبار أن العدة حق من حقوق النكاح كأصل النكاح في إيجاب الحرمة كما يجعل الرضاع بمنزلة النسب في إيجاب الحرمة.
والخامسة: منكوحة الغير أو معتدة الغير فإنها محرمة عليه إلى غاية وهي انقضاء العدة ثبت ذلك بقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] أي أخوات الأزواج وبقوله عز وجل: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235].
والسادسة: مكاتبة الرجل فإنها محرمة عليه لا يطؤها بالملك إلى أن تعتق بالأداء فينكحها أو تعجز فيطؤها بالملك.
والسابعة: المشركة فهي محرمة على المؤمن وزعم مالك رضي الله عنه أن نكاح المشركة لا يجوز لمشرك ولا للمسلم فكان يقول ببطلان أنكحة المشركين أهل الشرك منهم وهو باطل عندنا فإن الله تعالى قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] فلو لم يكن بينهما نكاح لما سماها امرأته وقال صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أحد ممن أسلم وبين زوجته حين أسلمت معه ولم يأمرهما بتجديد العقد بل أقرهما على النكاح فعرفنا أن للأنكحة فيما بينهم حكم الصحة وإن نكاح المشركة حرام على المسلم خاصة لخبثها وكرامة المسلم ففيه معنى الصيانة له عن فراش الخبيثة وبالنكاح ثبت الازدواج وإنما يتحقق ذلك بين المتساويين أو متقاربي الحال ولا مساواة بين المشركة والمسلم فكانت محرمة عليه إلى أن يؤمن.
قال ثم إن الله تعالى أحل نساء أهل الكتاب في قوله عز وجل:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فأحل نساء أهل الكتاب من جملة أهل الكفر وترك باقي أهل الكفر على التحريم في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ومن الناس من قال هذا الكلام مختل فإن اسم المشركة لا يتناول الكتابية حتى يقال إنها خرجت من هذه الحرمة بالنص.
ألا ترى أن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فقال عز وجل:
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] وإنما يعطف الشيء على غيره ولكنا نقول ما ذكره الكتاب صحيح فإن أهل الكتاب في الحقيقة مشركون وإن كانوا يدعون التوحيد قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله عز وجل: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30-31] وعطف المشركين على أهل الكتاب لا يدل على أنهم غير مشركين قال الله تعالى: {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17] فقد عطف أهل الشرك على المجوس والمجوس مشركون تتناولهم الجهة الثابتة في قوله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] فعرفنا أن أهل الكتاب خصوا من هذه الحرمة بالنص وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يخص أهل الكتاب من هذه الحرمة وكان يقول معنى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ

 

ج / 30 ص -251-    مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] اللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فعلى هذا التأويل لا يبقى للآية فائدة لأن نكاح المسلمة حلال للمسلم سواء كانت كتابية وأسلمت أو لم تكن وإنما المراد بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] العفائف منهن أو الحرائر منهن والله أعلم

باب تفسير التحريم بالنسب
وهو ما نصه الله تعالى في كتابه وما حرمته السنة وأجمع عليه المسلمون فأما ما نص الله تعالى في كتابه فتحريم الأم وحرمت السنة والإجماع أم الأم وأم الأب وإن بعدت من قبل الأمهات كانت أو من قبل الآباء وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن ثبوت حرمة الجدات بالنص أيضا فاسم الأم يتناول الجدات قال الله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] فدل على أن الجدة أم وإن الجواب ما ذكره في الكتاب وهو أصح فإن اسم الأم يتناول الجدة مجازا حتى ينفي عنها هذا الاسم باثبات غيره فيقال إنها جدة وليست بأم ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز من أداتي لفظ واحد فإن قيل لا كذلك فمن أصول علمائنا رحمهم الله الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد حتى إذا حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو منتعلا ماشيا أو راكبا كان حانثا في يمينه وهذا اللفظ للنهار حقيقة ويتناول الليل مجازا.
وقال في السير الكبير: إذا استأمن الحربي على بنيه دخل في الأمان بنو بنيه مع بنيه لصلبه والاسم لبنيه حقيقة ولبني بنيه مجاز قلنا لا كذلك فالحقيقة استعمال الشيء في موضعه والمجاز استعارة الشيء واستعماله في غير ما وضع له ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه ومستعارا كما لا يتصور أن يكون الثوب على اللابس ملكا له وعارية في يده في حالة واحدة فأما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان فذلك عبارة عن الدخول علم ذلك بالعرف ثم يحنث في الوجوه كلها لأنه دخول لا لاعتبار الحقيقة والمجاز وكذلك اليوم فيما لا يمتد عبارة عن الوقت الذي هو ظرف له فيحنث في الوجهين لوجود وقت القدوم لا للحقيقة والمجاز فلهذا قلنا أن فيما يمتد يحمل ذكر اليوم على بياض النهار ليكون معيارا له وفي مسألة الأمان روايتان كلاهما في السير وفي القياس لا يدخل بنو الابن وإنما أدخلهم استحسانا لأن أمر الأمان مبني على التوسع وأدنى الشبه يكفي لإثباته والسبب الداعي له إلى طلب هذا الأمان شفقته عليهم وشفقته على بنيهم كشفقته على بنيه فلهذا أدخلهم في إحدى الروايتين فإذا ثبت أنه لا يراد باللفظ الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عرفنا أن حرمة الجدات ثبتت بالسنة والإجماع كما أشار إليه وعلى هذا حرمة الإبنة ثابتة بالنص وحرمة ابنة البنت وابنة الابن ثابتة بالإجماع والسنة.
قال: وحرم الله تعالى الأخوات وبنات الأخت وبنات الأخ بالنسب وحرمت السنة أسفل من ذلك من ولد الأخت والأخ إلى أسفل الدرجة وحرم الله تعالى العمة بالنسب، وحرمت

 

ج / 30 ص -252-    السنة والإجماع أم العمة وإن كانت أمها أم الأب أو غير أم الأب لأن العمة إن كانت لأب وأم أو لأم فإن العمة أمها أم الأب وهي محرمة عليه وإن كانت العمة لأب فأمها امرأة أب الأب وهي محرمة بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وأقامت السنة امرأة الجد مقام امرأة الأب وعمة العمة حرام إذا كانت العمة لأب وأم أو لأب لأنها أخت أبي الأب لأن العمة بمنزلة الأم كما أن العم بمنزلة الأب قال الله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] وهو كان عما وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوني في بقية آبائي" يعني العباس رضي الله عنه فإذا كانت العمة بمنزلة الأم أو الأب فعمة العمة، بمنزلة عمة الأب فإذا كانت العمة أخت الأب لأم فعمة عمتها ليست بمحرمة لأن أباها رجل أجنبي ليس بذي رحم محرم وحرم الله تعالى الخالة وحرمت السنة والإجماع أم الخالة لأن أم الخالة هي الجدة أم الأم وإن كانت لأب فأم الخالة امرأة أب الأم والجدة بالسنة قائمة مقام الأب فامرأة الجد أبي الأم كامرأة الأب في الحرمة وخالة الخالة محرمة عليه إذا كانت الخالة لأب وأم أو لأب كما بينا في عمة العمة فإن كانت الخالة لأب فخالتها تكون أجنبية عنها على نحو ما ذكرنا في عمة العمة فأما ابنة العم وابنة العمة وابنة الخالة وابنة الخال فمن جملة المحللات وذلك يتلى في سورة الأحزاب قال الله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] ويتلى في سورة النساء أيضا فإن الله تعالى بين المحرمات ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فما تناوله نص التحريم تناوله هذا النص وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
ومنكوحة الأب من جملة المحرمات على الابن وعلى بن الابن وإن سفل باعتبار السنة والإجماع ويستوي إن دخل بها أو لم يدخل بها لأنها مبهمة في كتاب الله وقال ابن عباس رضي الله عنهما أبهموا ما أبهمه الله تعالى وكذلك أمهات النساء فأما الربائب فلا يحرمن إلا بالدخول بالأم قال الله تعالى:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] والحجر ليس بشرط وذلك ثابت في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وذكر الحجر في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] بطريق العادة لا أن يكون الحجر مؤثرا في هذه الحرمة.
ألا ترى أن الإنسان قد يكون في بيته امرأة لها ولد يعولها وينفق عليها ثم يتزوج الابنة إذا كبرت فيجوز ذلك لأن أمها لم تكن في نكاحه وإن كانت هي في حجره فعرفنا أنه لا تأثير للحجر وأنه مذكور على طريق العادة بمنزلة قوله تعالى:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] والمباشرة حرام على المعتكف في المسجد كان أو في غير المسجد وذكر المساجد للعادة إذ الاعتكاف في العادة يكون في المساجد وحليلة الابن من النسب حرام بالنص وزعم بعض أهل العلم أن حليلة الابن من الرضاعة لا تكون حراما للقيد المذكور في قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ولكن نقول:

 

ج / 30 ص -253-    حليلة الابن من الرضاعة كحليلة الابن من النسب ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" والمراد بقوله عز وجل: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] يعني حرمة حليلة الابن من التبني فقد كان التبني معروفا فيما بين أهل الجاهلية وكان مشروعا في الابتداء ثم نسخه الله تعالى بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وتبني رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ثم تزوج زينب امرأة زيد بعد ما فارقها وفيه نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] فالمراد بالتقييد نفي حرمة حليلة الابن من التبني ثم تحريم حليلة بن الابن وإن سفل بالسنة والإجماع.
فإن قيل: كيف ثبت ذلك مع قوله عز وجل:
{الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] فإن بن ابنه ليس من صلبه.
قلنا: لا كذلك بل يتناوله هذا الاسم باعتبار أن أصله من صلبه قال الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر: 67] والمخلوق من التراب هو الأصل والله أعلم.
وما سوى هذا من المسائل المذكورة إلى تفسير لبن الفحل قد تقدم بيانه في كتاب النكاح وبعض هذه الفصول قد تقدم بيانه هناك أيضا فلهذا لم تستقص هنا والله أعلم بالصواب.

باب تفسير لبن الفحل
قال رحمه الله: ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل يكون له امرأتان أو أمتان قد ولدتا منه فترضع أحداهما صبيا والأخرى صبية قال ابن عباس رضي الله عنهما اللقاح واحد وبه نأخذ فنقول تحرم المناكحة بين هذين الصبيين بسبب الأخوة لأب من الرضاع ومن العلماء من يقول لا تثبت فقالوا حرمة الرضاع إنما تثبت من جانب الآباء فما لم يجتمع صغيران على ثدي واحد لا تثبت بينهما الأخوة من الرضاعة وهذا لأن السبب هو الإرضاع وإنما يتحقق ذلك من جهة النساء دون الرجال وثبوت الحرمة بسبب البعضية تشبهه حرمة اللبن لقرب بعضها إلى بعض.
ولو باشر الرجل الإرضاع بأن نزل اللبن في ثندؤته فأرضع صبيين لا تثبت الأخوة بينهما فبارضاع غيره كيف تثبت الإخوة في جانبه؟.
وحجتنا في ذلك حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أفلح بن أبي قعيس استأذن عليها فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
"ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة" فقالت: إنما أرضعتني المرأة دون الرجل، فقال: "ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة".
وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة رضي الله عنها فقالت يا رسول الله هذا رجل يستأذن على حفصة فقال: "ما أحسبه إلا بداح عمها من الرضاعة" فقالت: أرأيت لو كان فلان عمي من الرضاعة حيا أكان يدخل علي فقال: "نعم". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الرضاعه بالنسب والحرمة بالنسب

 

ج / 30 ص -254-    تثبت من الجانبين، فكذلك سبب الإرضاع لأن وطء الزوج كما كان سببا لولادتها كان سببا لنزول اللبن لها وما ينزل من ثندؤة الرجل ليس بلبن على الحقيقة لأن اللبن إنما يتصور ممن تتصور منه الولادة وعلى هذا نقول في الأخوين إذا أرضعت امرأة أحدهما صبية فليس للأخ الآخر أن يتزوجها لأنها ابنة أخيه والأصل فيه ما روي أن عليا رضي الله عنه لما عرض ابنة حمزة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة".
ولو أرضعت امرأتا أخوين كل واحدة منهما رضيعا أحدهما صبي والأخرى صبية تجوز المناكحة بينهما لأن الصغيرة ابنة عم الصغير من الرضاعة وابنة العم من النسب حلال فكذلك من الرضاعة.
ولو أرضعت امرأة صغيرين فكبرا ثم أن أحدهما تزوج ابنة صاحبه لم يجز لأنها ابنة أخيه من الرضاعة والأصل فيه أنه لما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال:
"لو لم تكن ربيبتي في حجري كانت تحل لي أرضعتني وإياها ثويبة".
قال ولو أن رجلا له بن وابنة فجاءت امرأة أخيه فأرضعت الابن والابنة جميعا لم يكن للابن الذي أرضعته المرأة أن يتزوج أحدا من ولد تلك المرأة قبل الرضاع أو بعده من بنات العم كن أو من غيره وامرأة الأخ والأجنبية في هذا سواء فإنهما لما اجتمعا على ثدي واحد ثبتت الإخوة بين هذا الابن والابنة وبين جميع أولاد الرجل ما كان من هذه المرأة أو من غيرها من النساء أو السراري كان قبل الرضاع أو بعده بخلاف ما وقع عند الجهال أن الحرمة إنما تثبت بينهما وبين الأولاد الذين يحدثون بعد ذلك دون ما انفصلوا قبل الإرضاع وهذا لأن ثبوت هذه الحرمة تثبت الإخوة وهو يجمع الكل ولم يكن لأحد من ولد الرجل ولا من ولد المرأة من يتزوج تلك الجارية ولا ولد ولدها ولا لولد ولد العم أن يتزوجوا تلك الجارية فإنهم إخوة أولاد إخوة وأخوات فإن كان للجارية المرضعة ولد وللغلام المرضع ولد ولأولاد المرضعة التي أرضعتها أولاد ولأولاد زوجها أولاد جازت المناكحة فيما بينهم لأن الأنثى منهم ابنة عم للذكر من الرضاعة.
قال: ولو أن رجلا له بن فأرضعت امرأة ذلك الولد لم يكن للولد أن يتزوج أحدا من ولد تلك المرأة ولا من ولد خاله ما كان قبل الرضاع أو بعده إذا كان اللبن من الخال فإن كان من غيره حرم ولد المرأة عليه ولم يحرم ولد الخال من غيرها لانعدام سبب الحرمة بينه وبينها.
ولو أن رجلا له امرأتان فأرضعت إحداهما صبية والأخرى صبيا لم يكن لأخي ذلك الرجل لأب وأم أو لأب أو لأم أن يتزوج تلك الصبية لأنها ابنة أخيه ولا لعمه أن يتزوجها لأنها ابنة بن أخيه ولا لابن ذلك الرجل ولا لابن ابنه وإن سفل أن يتزوجها لأنها عمته من الرضاعة وكذلك لا يجوز لخال ذلك الرجل أن يتزوجها لأنها بنت بن أخته ولا يجوز لهذا الصبي المرضع أن يتزوج أم المرضعة ولا جدتها ولا أختها ولا خالتها ولا عمتها اعتبارا للرضاع بالنسب.

 

ج / 30 ص -255-    وإذا أرضعت امرأة صبية لم يكن لابنها ولا لابن ابنها ولا لابن ابنتها أن يتزوجها لأنها أخته وعمته.
ولو أن امرأة أرضعت صبيا فكبر ذلك الصبي وتزوج امرأة ثم فارقها قبل الدخول أو بعده لم يكن لزوج المرضعة أن يتزوج تلك المرأة لأنها حليلة ابنه من الرضاعة وقد بينا أنه يحرم حليلة الابن من الرضاعة كما يحرم من النسب وقد قال بعض أهل العلم أنها لم تحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
قال: وليس بينه وبين امرأة ابنه نسب وإنما حرمت على الأب بسبب النسب وليس في الحديث يحرم من الرضاع ما يحرم بسبب النسب ولكن نقول معنى الحديث إن الحرمة بسبب الرضاع تعتبر بحرمة النسب وهذه الحرمة تثبت بالنسب فكذلك بالرضاع.
قال: وأكثر أهل العلم على هذا والتنزه عنها أفضل وبمثل هذا الكلام يستدل على أن الكتاب ليس من تصنيف محمد رضي الله عنه.
قال: وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا فإنها تكون أمه من الرضاعة لأن السبب وهو الإرضاع قد تحقق.
فإن قيل: كيف يتصور أن تكون أما وهي بكر وكما لا تتصور الأمية من حيث النسب مع بقاء صفة البكارة فكذلك لا تتصور الأمية من الرضاعة مع بقاء صفة البكارة.
قلنا: هذا تلبيس فإن الحكم مبني على السبب والأمية من النسب سببية الولادة ولا تتصور الولادة مع بقاء صفة البكارة وتتصور الأمية من الرضاع مع بقاء صفة البكارة وثبوت الحكم يتقرر بسببه.
ولو أن امرأة طلقها زوجها أو مات عنها فأرضعت صبيا بعد انقضاء عدتها فإنها تثبت حرمة الرضاع بين هذا الصبي وبين زوجها بمنزلة ما لو كان الإرضاع في حال قيام النكاح بينهما لأن سبب نزول اللبن لها كان وطء ذلك الزوج فما بقي ذلك اللبن يكون مضافا إلى ذلك السبب فإن تزوجت بعد ذلك ثم أرضعت صبيا فكذلك الجواب ما لم تحبل من الثاني لأن التزوج ليس سببا لنزول اللبن لها فوجوده كعدمه فإن حبلت من الثاني ثم أرضعت صبيا فكذلك الجواب عند أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تثبت الحرمة بين الصبي والزوج الأول ما لم تلد من الثاني فإن ولدت من الثاني ثم أرضعت فحينئذ يكون حكم الرضاع للثاني وعند أبي يوسف رضي الله عنه إذا ازداد لبنها بسبب الحبل فهو وما لو ولدت سواء في أنه تثبت الحرمة من الثاني وينقطع حكم الأول وعند محمد رضي الله عنه تثبت الحرمة منهما جميعا استحسانا لأن الاحتياط في باب الحرمة واجب وقد علمنا أن أصل الابن من الأول وازداد سبب الحبل من الثاني فيجعل بمنزلة ما لو خلط امرأتان اللبن بأن حلبتا لبنهما وأوجرتا صبيا وأبو يوسف رحمه الله يقول لما حبلت من الثاني ونزل لها اللبن كان هذا ناسخا للسبب الذي كان من الزوج الأول لأنه اعترض عليه ما هو مثله أو أقوى منه وأبو حنيفة رحمه الله يقول: نزول

 

ج / 30 ص -256-    اللبن في العادة إنما يكون بعد الولادة فما لم تلد من الثاني لا ينسخ السبب الأول وهذا لأن كون اللبن من الأول متيقن به وهذه الزيادة يحتمل أن تكون بسبب الحبل من الثاني ويحتمل أن تكون بقوة طبعها واليقين لا يزول بالشك.
ولو أخذ لبن امرأة في قارورة ثم ماتت المرأة فأوجر بعد موتها صبيا تثبت الحرمة بين هذا الصبي وبينها عندنا وللشافعي رضي الله عنه قول أن حرمة الرضاع لا تثبت بالإيجار أصلا وهذا باطل فإن ثبوت الحرمة بشبهة البعضية وفي هذا لا فرق بين الإيجار وبين الارتضاع من الثدي وعلى القول الظاهر إذا حلب لبنها وهي حية في قارورة ثبت حرمة الرضاع بإيجار هذا اللبن صبيا سواء أوجر قبل موتها أو بعد موتها فأما إذا ماتت المرأة وفي ثديها لبن فارتضع صبي منها أو حلب اللبن بعد موتها فأوجر به صبي عندنا ثبتت الحرمة أيضا وعنده لا تثبت لأصلين له أحدهما أن اللبن يتنجس بالموت عنده لأن فيه حياة فيحيله الموت والثاني إن الحرام عنده لا يحرم الحلال وعندنا لا حياة في اللبن.
ألا ترى أنه يحلب من الحي فلا يتنجس به وما فيه حياة إذا بان من الحي فهو ميت والثاني أن الحرمة لا تمنع حكم الرضاع بمنزلة لبن وقع فيه قطرة خمر فأوجره صبي وهذا لأن الحرمة باعتبار شبهة البعضية وبالموت لا تنعدم لأن اللبن وإن تنجس بالموت فهو غذاء يحصل به انبات اللحم وانتشار العظم كما أن اللحم بالموت لا يخرج من أن يكون غذاء وإن تنجس والسعوط والوجور موجب للحرمة بمنزلة الارتضاع من الثدي عندنا خلافا للشافعي وهذا بناء على الأصل الذي بينا في كتاب النكاح أن عنده يعتبر العدد في الرضعات ليحصل به انبات اللحم وانتشار العظم وهذا بالسعوط والوجور لا يحصل وعندنا لا يعتبر العدد وإنما يعتبر وصول اللبن إلى باطنه على وجه تحصل به التربية وذلك بالسعوط والوجور يحصل فإنه يصل إلى الدماغ والدماغ أحد الجوفين.
ولو صب اللبن في أذن صبي أو صبية فإنه لا تثبت به الحرمة، وكذلك لو احتقن صبي بلبن امرأة عند محمد رحمه الله إنه تثبت الحرمة في الموضعين جميعا لأنه يصل اللبن إلى أحد الجوفين.
ألا ترى أن الصوم يفسد بهذا وفي ظاهر الرواية يقول معنى انبات اللحم إنما يصل بما يصل إلى جوفه من الجانب الأعلى لا من الجانب الأسفل وثبوت الحرمة باعتبار هذا المعنى ثم ذكر ما إذا جعل لبن امرأة في دواء أو طعام وما يكون من الإرضاع بعد مضي الحولين وقد بينا هذه الفصول في كتاب النكاح.
ولو أن صبيين شربا من لبن شاة أو بقرة لم تثبت به حرمة الرضاع لأن الرضاع معتبر بالنسب وكما لا يتحقق النسب بين آدمي وبين البهائم فكذلك لا تثبت حرمة الرضاع بشرب لبن البهائم وكان محمد بن إسماعيل البخاري صاحب التاريخ رضي الله عنه يقول تثبت الحرمة وهذه المسألة كانت سبب اخراجه من بخارا فإنه قدم بخارا في زمن أبي حفص

 

ج / 30 ص -257-    الكبير رحمه الله وجعل يفتي فنهاه أبو حفص رحمه الله وقال لست بأهل له فلم ينته حتى سأل عن هذه المسألة فأفتى بالحرمة فاجتمع الناس وأخرجوه.
قال: والرضاع في دار الإسلام ودار الحرب سواء في ثبوت الحرمة على قياس النسب فإن الأنساب تثبت في دار الحرب فكذلك حكم الرضاع ولو أن رجلا تزوج صبية فأرضعت الصبية أم الرجل من النسب أو من الرضاع أو أخته فهذه المسألة تشتمل على أحكام أربعة حكم الحرمة وحكم وجوب الصداق وثبوت الرجوع على المرضعة وحرمة التزوج أما حرمة الفرقة فنقول وقعت الفرقة بينهما بسبب الرضاع لأنها صارت أخت الزوج وإذا ثبتت له اختيته يغرم لها نصف الصداق لأن فعل الصبي غير معتبر شرعا في بناء الحكم عليه وإنما وقعت الفرقة من جهتها قبل الدخول فيكون لها نصف الصداق ويرجع به على التي أرضعتها إن كانت تعمدت الفساد وإن لم تتعمد الفساد فلا شيء عليها إلا في رواية عند محمد أنه يرجع عليها على كل حال لأنها تسببت في تقرير نصف الصداق عليه وكان بعرض السقوط فكأنها ألزمته ذلك ومجرد التسبب عند محمد سبب لوجوب الضمان كما قال فيمن فتح باب القفص فطار الطير وعندنا التسبب إنما يكون موجبا للضمان إذا كان المسبب متعديا في التسبب ولم يطرأ عليه مباشرة فأما إذا لم يكن متعديا أو طرأ عليه مباشرة من مختار لم يكن موجبا للضمان وهنا إذا تعمدت الفساد فهي غير متعدية في التسبب لأنه إذا كان يخاف الهلاك على الرضيع فارضاعه مندوب إليه أو مأمورة فلا يكون تعديا ولا طريق لمعرفة تعمدها الفساد إلا بالرجوع إليها فيقبل قولها في ذلك لأن ما يكون في باطن المرء لا يوقف عليه إلا من جهته فيقبل قوله في ذلك فإن قالت تعمدت الفساد ضمنت وإلا فلا شيء عليها ثم لا يحل له أن يتزوجها أبدا لأنها صارت أخته أو ابنة أخته.
ولو كانت أرضعت هذه الصبية خالة الرجل أو عمته لم يحرم عليها لأنها صارت ابنة خالته أو ابنة عمته وابتداء المناكحة بينهما يجوز فالبقاء أولى وإن أرضعتها امرأة أبيه فإن كان لبنها من أبيه حرمت عليه لأنها صارت أخته لأبيه وإن كان لبنها من غير أبيه لم تحرم عليه وكذلك لو أرضعتها امرأة أخيه أو امرأة ابنه.
قال: ولو أن رجلا له امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة بانتا جميعا لأنهما صارتا أختين من الرضاعة ثم يكون للكبيرة جميع الصداق إن كان دخل بها وإن كان لم يدخل بها فلها نصف الصداق لأن الفرقة وقعت لا بسبب من جهتها وللصغيرة أيضا نصف الصداق لما بينا ويرجع بما غرم لها قبل الدخول على المرضعة إن تعمدت الفساد وإن لم تتعمد لم يرجع عليها بشيء كما في الفصل الأول وإن كان قد دخل بالكبيرة لم يرجع عليها بشيء من مهرها على كل حال ثم إن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن يتزوج من ساعته أيتهما شاء ولا يجمع بينهما وليس له أن يتزوج المرضعة لأنها أم امرأته وإن كان قد دخل بالكبيرة فليس له أن يتزوج الصغيرة ما لم تنقض عدة الكبيرة لأنها أخت معتدته وله أن يتزوج الكبيرة

 

ج / 30 ص -258-    في الحال لأن الصغيرة ليست في عدته والكبيرة تعتد منه وعدته لا تمنع نكاحه وبعد انقضاء عدة الكبيرة له أن يتزوج أيتهما شاء وليس له أن يتزوج أم الكبيرة ولا واحدة من حذائها من قبل الأم أو من قبل الأب وإن كانت ابنة الكبيرة أرضعت الصغيرة فإن كان قد دخل بالكبيرة فقد حرمتا عليه لأن الصغيرة صارت ابنة بنت الكبيرة والجمع بين الجدة والنافلة في النكاح حرام ثم بمجرد العقد على الصغيرة تحرم جدتها عليه على التأبيد كما تحرم أمها والدخول بالجدة يحرم ابنة الابنة عليه على التأبيد فليس له أن يتزوج واحدة منهما قط ولا للمرضعة أيضا لأنها من وجه أم امرأته ومن وجه ابنة المرأة التي دخل بها ولو لم يكن دخل بالكبيرة فإن المرضعة لا تحل له قط لأنها أم امرأته ولا تحل له الكبيرة قط لأنها أم أم امرأته وتحل له الصغيرة لأنها ابنة ابنة امرأته ولم يدخل بها وكما أن ابنة المرأة لا تحرم إلا بالدخول فكذلك ابنة الابنة فإن كانت أرضعتها أخت الكبيرة بانتا أيضا لأن الكبيرة صارت خالة للصغيرة والجمع بين الخالة وابنة الأخت حرام كالجمع بين الأختين فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن يتزوج أيتهما شاء والحكم في هذا كالحكم في الأختين ولو أرضعتهما خالة الكبيرة أو عمتها لم تحرم عليه، لأن الجمع بين المرأة وابنة عمتها وابنة خالتها حلال ولو كان له امرأتان صغيرتان فجاءت أم إحداهما فأرضعت الأخرى بانتا جميعا لأنهما صارتا أختين ولكل واحدة منهما نصف الصداق وحكم الرجوع كما بينا ولو جاءت أختيه فأرضعتهما معا أو احداهما بعد الأخرى بانتا جميعا لأن الأختية إنما تثبت بينهما بعد ارضاعهما فلا فرق بين أن ترضعهما معا أو على التعاقب وحكم الصداق والرجوع والحرمة كما بينا.
وكذلك لو جاءت الصبيتان إلى امرأة وهي نائمة فشربتا من لبنها لأن فعل الصغيرة لا يعتبر في بناء الحكم عليه فيكون لكل واحدة منهما نصف الصداق ولكن لا رجوع على المرأة بشيء هنا لأنه لم يوجد منها جناية تسبيبا ولا مباشرة.
ولو كانت امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا جميعا لأنهما صارتا أما وبنتا وللصغيرة نصف الصداق ولا شيء للكبيرة إن لم يدخل بها تعمدت الفساد أو لم تتعمد لأن الفرقة جاءت من قبلها والفرقة من جهتها قبل الدخول تسقط جميع الصداق على كل حال سواء كانت متعدية في التسبيب أو لم تكن متعدية كالمعتقة إذا اختارت نفسها إلا أن الزوج يرجع عليها بما غرم للصغيرة إن كانت تعمدت الفساد لكونها متعدية في التسبيب وله أن يتزوج الصغيرة إذا لم يدخل بالكبيرة وليس له أن يتزوج الكبيرة لأن بمجرد العقد على الابنة تحرم الأم على التأبيد والعقد على الأم لا يحرم الابنة قبل الدخول وإن كان قد دخل بالكبيرة لم يتزوج واحدة منهما قط لوجود العقد الصحيح على الابنة والدخول بالأم.
ولو كان تحته صغيرتان وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرتين واحدة بعد أخرى ولم يكن دخل بالكبيرة فإنما تبين الكبيرة والصغيرة التي أرضعتها أولا لأنهما صارتا أما وابنتين ولا تبين التي أرضعتها أخيرا لأنه حين أرضعتها لم يكن في نكاحه غيرها وإنما وجد مجرد العقد على

 

ج / 30 ص -259-    أمها. ولو كانت أرضعتهما معا بن جميعا منه لأنها صارت أما وبنتين له أن يتزوج الكبيرة وله أن يتزوج إحدى الصغيرتين شاء ومن العلماء من يقول في هذه الفصول له أن يتزوج الكبيرة أيضا إن شاء لأنه حين عقد على الصغيرتين لم تكن الكبيرة أما لها والنص إنما أوجب حرمة أمهات النساء وبعد ثبوت الأمية بالرضاع لم يبق النكاح على واحدة من الصغيرتين ولكنا نقول هذه الحرمة تثبت بسببين النكاح والأمية ولا فرق بين أن تثبت الأمية أولا ثم النكاح أو النكاح ثم الأمية لأن الحكم الثابت بعلة ذات وصفين إنما ثبتت عند ثبوت الوصفين جميعا وقد وجدا سواء تقدم النكاح أو الأمية، ولو كان دخل بالكبيرة والمسألة بحالها بن جميعا منه سواء أرضعتهما معا أو على التعاقب أما إذا أرضعتهما معا فغير مشكل وكذلك إن أرضعتهما على التعاقب لأنه حين أرضعت الثانية فقد صارت ابنة للمرضعة وقد دخل هو بها.
ولو كان تحته ثلاث نسوة صغيرتان وكبيرة لم يدخل بها فأرضعت الكبيرة الصغيرتين على التعاقب فإنما تقع الفرقة بينه وبين الكبيرة والصغيرة الأولى والتي أرضعتها آخرا لا تبين منه لأنه ليس في نكاحه أختها فإن الصغيرة الأخرى لم ترضعها الكبيرة إلا والأولى قد بانت فلهذا لا تقع الفرقة بينه وبين التي أرضعت آخرا وإن كانت أرضعتهما معا بن جميعا ولا تبين التي لم ترضع لأنه لم يوجد في حقها سبب يوجب الفرقة وحكم الصداق والرجوع والحرمة على قياس ما بينا فيما سبق من الفرق بينهما إذا كان دخل بالكبيرة أو لم يدخل وإن كانت أرضعت الثلاث على التعاقب ولم يدخل بالكبيرة بن جميعا لأنها حين أرضعت الأولى فقد صارتا أما وبنتا ثم بارضاع الثانية لا تقع الفرقة بينه وبينها ولكن حين أرضعت الثالثة صارتا أختين فتقع الفرقة بينه وبينها أيضا وحكم الصداق والرجوع كما بينا.
ولو كانت أرضعت اثنتين معا ثم الثالثة بانت الكبيرة والتي أرضعتها معا ولا تبين الثالثة لأنه حين أرضعتها لم يكن في نكاحه غيرها ومجرد العقد على الأم لا يحرمها قبل الدخول ولو أرضعت إحدى الصغار على الانفراد ثم الآخرتين معا فقد صارتا أختين ولو كان تحته صغيرة وثلاث نسوة كبار ولم يدخل بهن فأرضعت إحدى الكبار الصغيرة بانتا لأنهما صارتا أما وبنتا والباقيتان تحته على حالهما فإن أرضعتهما إحدى الباقيتين أيضا بانت هي منه لأنها صارت أم الصغيرة وقد كانت الصغيرة في نكاحه ومجرد العقد على الابنة يحرم الأم على التأبيد فإن أرضعتها الكبيرة الثالثة بانت هي أيضا لما بينا وله أن يتزوج الصغيرة وليس له أن يتزوج واحدة من المرضعات بحال ولو كان دخل بالكبار لم يكن له أن يتزوج الصغيرة أيضا لوجود الدخول بالأم.
ولو كان تحته صغيرة وكبيرة وطلق الكبيرة قبل الدخول ثم جاءت فأرضعت الصغيرة فنكاح الصغيرة على حاله لأنهما حين صارتا أما وبنتا فليست الأم في نكاحه ومجرد العقد عليها لا يوجب حرمة الابنة ولو كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة سواء أرضعتها قبل انقضاء العدة أو بعده لوجود الدخول بالأم.

 

ج / 30 ص -260-    ولو كان طلق الصغيرة دون الكبيرة ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة بانت الكبيرة دخل بها أو لم يدخل بها لأن الصغيرة قد كانت في نكاحه والعقد على الابنة يحرم الأم ولو كان طلقهما جميعا ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة فإن كان دخل بالكبيرة فليس له أن يتزوج واحدة منها بحال وإن كان لم يدخل بها فله أن يتزوج الصغيرة وليس له أن يتزوج الكبيرة لأن مجرد العقد على الأم لا يحرم الابنة.
ولو أن امرأة جاءت إلى رجل فأرضعت ولده الصغير كان له أن يتزوجها لأنها أم ولده وأم ولده ليست من المحرمات عليه وكذلك لو أرضعت خالته الصغيرة أو عمته الصغيرة أو ابنة ابنه وهي صغيرة فالجواب في الكل سواء لما بينا ولو أرضعت أمه جارية لها أخوة وأخوات كان له أن يتزوج أخوات تلك الجارية لأن التي أرضعتها الأم أخته من الرضاعة ولا سبب بينه وبين أخواتها وإذا كان يجوز للرجل أن يتزوج أخت أخيه من النسب فكذلك أخت أخته من الرضاع وبيانه أنه إذا كان للرجل أخ لأب وأخت لأم يجوز لأخيه لأبيه أن يتزوج أخت أخيه لأمه.
ولو أن امرأتين لإحداهما بنون وللأخرى بنات فأرضعت التي لها البنات ابنا من بني الأخرى فإنما تحرم بناتها على ذلك الابن بعينه لأنه صار أخا لهن من الرضاعة ولا يحرم أحد من بناتها على سائر بني المرأة الأخرى لأنه لم يوجد بينهم الأخوة من الرضاعة حيث لم يجتمعوا على ثدي واحد.
ولو كانت المرأة التي لها البنون أرضعت إحدى بنات الأخرى حرمت تلك الابنة على بني المرضعة وغيرها من بناتها يحل على المرضعة ولو كانت أم البنات أرضعت أحد البنين وأم البنين أرضعت إحدى البنات لم يكن للابن المرتضع من أم البنات أن يتزوج واحدة منهن وكان لأخوته أن يتزوجوا بنات الأخرى إلا الابنة التي أرضعتها أمهم وحدها لأنها أختهم من الرضاعة.
قال: ولو أن رجلا اشترى ثلاث أخوات متفرقات كان له أن يطأ الأخت من الأب والأخت من الأم لأن كل واحدة من هاتين أجنبية من الأخرى فإن كان وطىء الأخت من الأب ولأم لم يكن له أن يطأ واحدة من هاتين لأنه يصير جامعا بين الأختين وطئا بملك اليمين وذلك لا يحل وإن وطىء الأخت من الأب أولا والأخت من الأم لم يكن له أن يطأ الأخت من الأب والأم لأنه يصير جامعا بين الأختين وطأ وكان له أن يطأ الأخرى لأنها أجنبية من التي وطئها ولو كان كل واحدة منهن ابنة لاشترى البنات دون الأمهات فإن له أن يطأهن جميعا لأن الجمع بين هؤلاء نكاحا حلال فكذلك الجمع بينهن وطئا بملك اليمين.
ولو اشترى البنات والأمهات كلهن كان له أن يطأ البنات وحدهن إن شاء فإن شاء أن يطأ من الأمهات الأخت من الأب والأخت من الأم وإن شاء الأخت من الأب والأم وحدها دون الأخرتين، وإن أراد أن يطأ بعض الأمهات فله أن يطأ الأخت من الأب والأخت من الأم،

 

ج / 30 ص -261-    وله أن يجمع بين الأخت من الأب وابنة الأخت من الأم وبين الأخت من الأم وابنة الأخت من الأب على قياس الجمع بينهما نكاحا.
ولو وطىء الأخت من الأب والأم لم يكن له أن يطأ بعده واحدة من الأخرتين ولا واحدة من البنات لأنه إن وطىء واحدة من البنات فقد صار جامعا بين الأم والابنة أو بين المرأة وابنة الأخت وطأ بملك اليمين وذلك حرام فإذا أخرج الأخت من الأب والأم من ملكه ببيع أو نكاح أو هبة كان له أن يطأ الأختين من الأم والأخت من الأب وإن شاء ابنة الأخت من الأب وابنة الأخت من الأم وليس له أن يطأ ابنه الأخت من الأب والأم لأنه قد وطىء أمها فحرمت هي على التأبيد وإن كان وطىء من البنات ابنة الأخت من الأب والأم لم يكن له أن يطأ واحدة من الأمهات قبل أن يحرم الموطوءة على نفسه وكان له أن يطأ ابنه الأخت من الأب وابنة الأخت من الأم لأن الجمع بينهن نكاحا حلال فكذلك الجمع بينهن وطأ بملك اليمين.
وإذا تزوج امرأة فشهدت امرأة أنها أرضعتهما فهذه المسألة على أربعة أوجه أما أن يصدقها الزوجان أو يكذبانها أو يصدقها الزوج دون المرأة أو المرأة دون الزوج فإن صدقاها وقعت الفرقة بينهما لا بشهادتها بل بتصادق الزوجين على بطلان النكاح بينهما فإن كان ذلك قبل الدخول بها فلا مهر لها ولا عدة عليها وإن كان قبل الدخول فلها مقدار مهر مثلها من المسمى لأنهما تصادقا على أنه دخل بما يشبه النكاح من غير عقد صحيح فبحسب الأقل من المسمى ومن مهر المثل وعليها العدة وإن كذباها في ذلك فهي امرأته على حالها وقد بينا هذا في الاستحسان والنكاح وإن شهادة المرأة الواحدة على الرضاع لا تتم حجة الفرقة عندنا إلا أنه يستحب له من طريق التنزه أن يفارقها إذا وقع في قلبه أنها صادقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف وقد قبل؟" فإن كان قبل الدخول طلقها وأعطاها نصف المهر وإن كان بعد الدخول أعطاها كمال المسمى والأولى أن لا تأخذ منه شيئا قبل الدخول وبعد الدخول لا تأخذ الزيادة على مهر مثلها بل تبرئ الزوج من ذلك وإن صدقها الزوج وكذبتها المرأة فإنه تقع الفرقة بينهما بإقرار الزوج لأنها أقرت بحرمتها على نفسه وهو يملك أن يحرمها على نفسه وعليه نصف المهر إن كان قبل الدخول وجميع المسمى إن كان بعد الدخول وإن صدقتها المرأة دون الزوج فهي امرأته على حالها لأنها أقرت بالحرمة وليس في يدها من ذلك شيء إلا أنها إذا علمت صدقها في ذلك فإنه ينبغي لها أن لا تمكنه من نفسها ولكن تفدي نفسها بمال فتختلع منه.
وإن شهد رجلان أو رجل وامرأتان بالرضاع لم يسعهما أن يقيما على النكاح بعد ذلك لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي فرق بينهما وكذلك إذا شهدا به عند النكاح ولا فرق في الفصلين بين أن تكون الشهادة بعد عقد النكاح أو قبله.
قال: ولو أن رجلا له امرأة كبيرة وامرأة صغيرة ولابنه امرأة كبيرة وامرأة صغيرة فأرضعت 
 

 

ج / 30 ص -262-    امرأة الأب امرأة الابن وأرضعت امرأة الابن امرأة الأب واللبن منهما فقد بانت الصغيرتان من زوجيهما ولا تحل واحدة منهما للأب وللابن لأن امرأة الأب لما أرضعت امرأة الابن بلبن الأب فقد صارت امرأة الابن أخته لأبيه ولما أرضعت امرأة الابن بلبنه امرأة الأب فقد صارت ابنة ابنه من الرضاعة ولكل واحدة من الصغيرتين نصف المهر على زوجها ويرجع بذلك على المرضعة إن كانت تعمدت الفساد ونكاح الكبيرتين ثابت على حاله لأن بهذا الإرضاع لم يوجد سبب الحرمة بين الكبيرتين وبين زوجيهما وإن كان مكان الابن والأب أخوان فكذلك الجواب لأن كل واحدة من الرضيعتين صارت بنت أخي زوجها ولو كان رجل وعمه مكان الأخوين بانت امرأة العم الصغيرة من زوجها لأنها صارت ابنة بن أخيه ونكاح امرأة بن الأخ ثابت على حاله لأنها صارت ابنة عمه من الرضاعة.
ولو كانا رجلين غريبين لم تبن كل واحدة منهما من زوجها لأن كل واحدة منهما صارت ابنة الزوج الآخر من الرضاع وليس بين الزوجين قرابة ولو كان اللبن الذي أرضع به من النساء ليس من الأزواج لم تثبت الحرمة في شيء من الفصول لما بينا والله أعلم بالصواب.

باب نكاح الشبهة
قال: ولو أن أخوين تزوجا أختين فأدخلت امرأة كل واحد منهما على أخيه فوطئها فعلى كل واحد من الواطئين مهر مثل الموطوءة وعليها العدة ولا يطأ واحد منهما امرأته حتى تحيض عنده ثلاث حيض لأن كل واحد منهما وطىء امرأة أخيه بشبهة وقضى علي رضي الله عنه في الوطء بالشبهة بسقوط الحد ووجوب مهر المثل على الواطئ والعدة على الموطوءة ثم العدة من الوطء بشبهة وأضعف من النكاح الصحيح فلا تكون له رافعة فترد كل واحدة على زوجها ولكن لا يطؤها لمعنيين أحدهما إنها معتدة من غيره والثاني إن أختها في عدته فإن حاضت إحداهما ثلاث حيض دون الأخرى فليس لزوجها أن يطأها أيضا لأن أختها في عدته ولو ولدت كل واحدة منهما ولدا فإن الولد يلزم الذي وطىء إذا جاءت به لستة أشهر أو أكثر ما بينها وبين أربع سنين ما لم تقر بانقضاء العدة وهذا الجواب بناء على قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله فأما عند أبي حنيفة فيثبت نسب ولدها من الزوج لأن فراشه صحيح وفراش الواطئ فاسد وأصل المسألة في كتاب الدعوة إذا نعى إلى المرأة زوجها فتزوجت بزوج آخر وولدت منه ثم رجع الزوج الأول حيا ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر وقد وطئها لم يثبت النسب من الواطئ بالاتفاق لأن هذا العلوق سبق وطأه وإنما يثبت النسب من الزوج لأنها علقت به على فراشه.
ولو أن أحد الأخوين دخل بامرأة أخيه فوطئها والآخر أدخلت عليه فلم يطأها فإن الواطئ يغرم مهر مثل الموطوءة وترد على زوجها ولكن لا يطؤها زوجها حتى تنقضي عدتها من الواطئ ولا مهر على الآخر التي أدخلت عليه لأنه ليس بينه وبينها نكاح وبمجرد الخلوة بالأجنبية لا يلزمه المهر لأن الخلوة إنما تقام مقام الوطء بعد صحة النكاح لضرورة وجوب

 

ج / 30 ص -263-    التسليم فترد على زوجها ولكن لا يدخل بها زوجها حتى تنقضي عدة الأخرى لأن أختها في عدته وكذلك لو كان وطئها فيما دون الفرج لم يجب عليه المهر لأن الوطء فيما دون الفرج لا توجب الحد إذا تعرى عن التسمية ولا يوجب المهر ولا العدة عند تمكن الشبهة أيضا.
قال: وقد استحسن بعض العلماء إذا كان كل واحد منهما قد وطىء المرأة التي أدخلت عليه أن يطلق امرأته التي لم يدخل بها ويغرم لها نصف المهر ويتزوج كل واحد منهما الموطوءة فيغرم لها مهر مثلها بالدخول الأول والمهر بالنكاح وهذا الفصل منقول عن أبي حنيفة رضي الله عنه وقد بينا حكاية هذه المسألة في كتاب الحبل فبهذا استدلوا على أن الكتاب ليس من تصنيف محمد رضي الله عنه فإنه في تصنيفاته لا يستر قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقد ستره هنا بقوله وقد استحسن بعض العلماء ولو كان هذان الأخوان تزوجا أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها فهذا وما تقدم سواء إلا في خصلة واحدة إذا حاضت إحداهما ثلاث حيض دون الأخرى كان للزوج الذي حاضت امرأته أن يطأها لأن في المسألة الأولى إنما كان لا يطؤها في هذا الفصل لأن أختها في عدتها وهنا التي في عدته أجنبية من زوجته فيكون له أن يطأ زوجته إذا انقضت عدتها من غيره.
ولو أن أجنبيين تزوجا أختين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج أختها كان الجواب فيها مثل ابنة وأمها أدخلت كل واحدة منهما على غير زوجها ودخل بها فإن الذي دخل بالابنة بانت منه امرأته لأنه وطىء ابنة امرأته وذلك يحرم أمها عليه على التأبيد وعليه للابنة مهر مثلها بدخوله بها شبهة وللأم نصف المهر لأنها بانت منه قبل أن يدخل بها وأما الذي وطىء الأم فقد بانت منه امرأته أيضا لأنه وطىء أم امرأته وذلك يحرمها عليه على التأبيد فيغرم للابنة نصف المهر لوقوع الفرقة بينهما قبل الدخول من جهته ويغرم للأم مهر مثلها لوطئه إياها شبهة وليس للذي وطىء الأم أن يتزوج واحدة منهما قط لأن الابنة كانت في نكاحه بعقد صحيح وذلك يحرم الأم عليه وقد وطىء الأم وذلك يحرم ابنتها عليه وأما الذي وطىء الابنة فله أن يتزوج الابنة لأن الأم كانت في نكاحه ولكن فارقها قبل الدخول ومجرد العقد على الأم لا يوجب حرمة الابنة.
ولو أن رجلا وابنه تزوجا امرأتين أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها فإن كان الابن هو الذي دخل بامرأة أبيه أولا فإنه يغرم لها مهر المثل بدخوله بها وتبين من الأب ولا يغرم لها الأب شيئا لأن وطء الابن إياها يحرمها على الأب على التأبيد وإنما جاءت الفرقة من جهتها قبل الدخول حين طاوعت بن زوجها فلهذا لا يكون لها على الأب شيء ثم الأب يغرم لامرأة ابنه التي دخل بها مهرا بدخوله بها وتبين من الابن لأن أباه قد وطئها وذلك يحرمها عليه ولا يغرم الابن لامرأته شيئا لأن الفرقة جاءت بسبب من قبلها حين طاوعت أب الزوج وليس لواحد منهما أن يتزوج واحدة من المرأتين بحال لأن إحداهما موطوءة الأب والأخرى موطوءة الابن ولو كان الابن وطىء امرأة أبيه ولم يمس

 

ج / 30 ص -264-    الأب امرأة ابنه فإن الابن يغرم للتي وطئها المهر بالدخول وترد عليه امرأته على النكاح الأول لأن أباه لم يمسها إنما خلا بها ومجرد الخلوة لا يوجب حرمة المصاهرة وأما التي وطئها الابن فقد بانت من الأب ولا مهر لها على الأب وليس لواحد منهما أن يتزوجها لأنها كانت في نكاح الأب فلا تحل للابن بحال وهي موطوءة الابن فلا تحل للأب بحال ولو كان الأب هو الذي وطىء امرأة الابن ولم يطأ الابن امرأة الأب فالتي وطىء الأب يغرم لها مهر مثلها وتبين من الابن ولا يغرم لها الابن شيئا ولا يكون لواحد منهما أن يتزوجها لأنها كانت في نكاح الابن فلا يتزوجها الأب وقد وطئها الأب فلا يتزوجها الابن ويرد امرأة الأب إليه بالنكاح الأول لأن ابنه خلا بها فقط وذلك لا يوجب حرمة المصاهرة.
قال: ولو أن رجلا تزوج امرأة وتزوج ابنه ابنتها فأدخلت امرأة الأب على الابن وامرأة الابن على الأب فهذه المسألة على ثلاثة أوجه إما أن يكون الابن هو الذي وطىء أولا أو الأب أو كان الوطء منهما معا فإن كان الابن هو الذي وطىء أولا فعليه للتي وطئها مهر مثلها وتبين امرأته ولها عليه نصف المهر لأن الابن وطىء أم امرأته وذلك يوجب الفرقة وتبين امرأته بسبب من جهته فيكون لها عليه نصف المهر ثم يكون على الأب للتي وطئها مهر مثلها ولا يغرم لامرأته شيئا لأنها قد بانت منه حين طاوعت الابن حتى وطئها فإنما بانت بسبب من جهتها فإن كان الأب هو الذي وطئها أولا فإنه يغرم للتي وطئها مهرها وتبين منه امرأته لأنه وطىء ابنة امرأته ولها نصف المهر لأن الفرقة كانت بسبب من جهته قبل الدخول ثم الابن يغرم للتي وطئها مهر مثلها ولا يغرم لامرأته شيئا لأنها بانت منه حين طاوعت الأب حتى وطئها فإنما جاءت الفرقة بسبب من جهتها قبل الدخول ولو كان الوطء منهما جميعا معا أو كان لا يعلم أيهما أول فهو بمنزلة ما لو وطئا معا لأن كلا الأمرين ظهر ولا يعرف التاريخ بينهما فيجعلا كأنهما وقعا معا ثم يغرم كل واحد منهما للتي وطئها مهر مثلها ولا يكون لواحدة منهما على زوجها شيء فإن السبب المسقط لصداق كل واحدة منهما قد ظهر وهو مطاوعتها أب الزوج أو ابنه.
يوضحه أن المسقط والموجب إذا اقترنا ترجح المسقط باعتبار أن المسقط يرد على الموجب ولا يرد على المسقط ولأن وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط لجميع الصداق في الأصل وإنما تركنا هذا الأصل فيما إذا كانت الفرقة من جهة الزوج بالنص إذ تعارض السببين يمنع إضافة الفرقة إلى الزوج على الإطلاق فيجب التمسك فيه بما هو الأصل ولا يكون لواحد منهما أن يتزوج واحدة من المرأتين لأن إحداهما موطوءة الأب والأخرى موطوءة الابن.
ولو أن رجلين بينهما جارية جاءت بولد فادعياه فهو ابنهما يرثهما ويرثانه ولا يكون لواحد منهما أن يطأ الجارية لأنها بقيت مشتركة بينهما وصارت أم ولديهما ولا يحل لواحد من الشريكين وطء الجارية المشتركة ولا يغرم واحد منهما لصاحبه شيئا لأن كل واحد منهما ألزم

 

ج / 30 ص -265-    نصف العقر لصاحبه فيكون أحدهما قصاصا بالآخر فإن مات أحدهما عتقت الجارية وسعت في نصف قيمتها لأنها أم ولد الآخر وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فأم الولد لا تسعى لمولاها في شيء وقد بينا هذا في العتاق.
ولو كان ادعى أحدهما الولد دون صاحبه فإنه يثبت نسبه منه وتكون أم ولد له ويغرم لشريكه نصف عقرها ونصف قيمتها وهذا ظاهر.
ثم ذكر وطء الأب جارية ابنه ووطء الابن جارية أبيه ووطء الرجل جارية أخيه وغير ذلك من الأقارب فقد قدمنا هذه الفصول في كتاب النكاح والدعوى.
ولو أن رجلا له أم ولد فزوجها من صبي ثم أعتقها فخيرت فاختارت نفسها ثم تزوجت زوجا آخر فأولدها فجاءت إلى الصبي الذي كان زوجها فأرضعته فإنها تبين من زوجها لأنها حين أرضعت الصبي صار ابنها من الرضاعة وبن زوجها أيضا لأن لبنها منه وقد كانت امرأة هذا الرضيع وامرأة الابن حرام على الأب على التأبيد وقد قررنا أنه لا فرق بين أن تعترض البنوة على النكاح وبين أن يعترض النكاح على البنوة فتبين من زوجها ولا تحل للغلام لأنها صارت أمه من الرضاعة ويجوز لمولاها أن يتزوجها لأن الإبن لم يكن من مولاها ولو لم يكن من زوجها الثاني ولكنها أرضعته من بن مولاها الذي كان أعتقها فإنها لا تحرم على زوجها ولا يحل لمولاها أن يتزوج بها قط لأن الرضيع قد صار بن المولى من الرضاعة وقد كانت هي في نكاحه مرة ولم يصر بن الزوج من الرضاعة حين لم يكن اللبن منه.
قال: ولو أن رجلا له امرأتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة وللكبيرة لبن من غيره ولم يدخل بها فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا منه بغير طلاق لأنهما صارتا أما وبنتا وذلك ينافي النكاح ابتداء وبقاء والفرقة بمثل هذا السبب تكون بغير طلاق فإن تزوج بعد ذلك الصغيرة كانت عنده على ثلاث تطليقات وله أن يتزوجها لأن مجرد العقد على الأم لا يحرم الابنة من النسب فكيف يحرم الابنة من الرضاعة وهذا اللبن ليس منه لأنه لم يدخل بها ولا تصير الصغيرة ابنته من الرضاعة وليس للكبيرة عليه من الصداق شيء لأن الفرقة جاءت من قبلها حين أرضعت الصغيرة وللصغيرة نصف الصداق لأن الفرقة لم تكن من قبلها فإن فعلها الارتضاع وذلك لا يصلح لبناء الحكم عليه وفي اسقاط جميع الصداق إذا جاءت الفرقة من قبلها معنى العقوبة من وجه فلا يثبت ذلك بفعل الصغيرة كما لا يثبت حرمان الميراث بقتل الصغيرة ويستوي إذا كانت الكبيرة تعلم إن الصغيرة امرأة زوجها أولا تعلم ذلك فيما بينا من الحكم إلا أنها إذا كانت تعلم وقد تعمدت الفساد فإنه يرجع الزوج عليها بنصف مهر الصغيرة وهذا إذا أقرت إنها تعمدت الفساد وإن لم تتعمد الفساد أو لم تعلم أنها امرأته فلا شيء عليها وفيها قول آخر إنه يرجع عليها بنصف الصداق سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمده وقد بينا أن هذه رواية عن محمد وهو قول أبي يوسف وأحد قولي الشافعي رحمه الله لأن السبب قد تقرر وإن لم يعلم به، إلا أنا نقول: المسبب إذا لم يكن متعديا في التسبيب لا يكون

 

ج / 30 ص -266-    ضامنا، كحافر البئر في ملك نفسه وإن اختلفا فقال الزوج تعمدت الفساد وقالت المرأة ما تعمدت ذلك فالقول قولها لأن الزوج يدعي عليها الضمان وهي منكرة ولو كانت الكبيرة مصابة فأرضعت الصغيرة في جنونها بانتا منه ولكل واحدة منهما نصف الصداق لأنه كما لا يعتبر فعل الصغيرة فيما فيه معنى العقوبة لا يعتبر فعل المجنونة ولا يرجع الزوج على الكبيرة لأنها غير متعدية في السبب لكونها مصابة وكذلك لو جاءت الصغيرة إلى الكبيرة وهي نائمة فارتضعت من ثديها كان لكل واحدة منهما نصف الصداق لأنه لم يوجد من الكبيرة فعل في الفرقة ولا معتبر بفعل الصغيرة.
ولو أن رجلا جاء وأخذ من لبن الكبيرة في مسعط فأوجر به الصغيرة ولا يعلم الكبيرة أي شيء يريد فإنهما يبينان منه وعلى الزوج نصف الصداق لكل واحدة منهما.
فإن أقر الرجل أنه أراد الفساد رجع الزوج بجميع ما غرم لهما لكونه متعديا في التسبب وإن قال لم أتعمد الفساد فالقول قوله ولا يرجع عليه الزوج بشيء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وفي القول الآخر يرجع وهذا يبين لك أن القول الآخر قول محمد رحمه الله.
وإن كان الزوج هو الذي فعل ذلك يعني الإيجار بانتا منه وعليه نصف الصداق لكل واحدة منهما ولا رجوع له على أحد لأن الفرقة إنما وقعت بسبب من جهته قبل الدخول.
ولو أن رجلا تحته امرأة تصاب في بعض الأيام فتجن وتفيق فدعت ابن زوجها إلى أن يفجر بها في حال جنونها ففعل بانت من زوجها وكان عليه نصف الصداق لأن تمكينها في حال جنونها غير معتبر في إسقاط الصداق وكذلك لو تزوج امرأة لم تبلغ ومثلها يجامع فدعت بن زوجها إلى أن يأتيها ففعل بانت وكان عليه نصف الصداق لأن فعل الصغيرة غير معتبر فيما فيه معنى العقوبة قال فإن أقر الابن الذي أمر أنه أراد الفساد يرجع الزوج عليه بنصف الصداق الذي يلزم للصغيرة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وفي قوله الآخر يرجع به عليه أراد الفساد أو لم يرد ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا التقسيم في الإرضاع صحيح فإن المرضعة قد تكون محسنة في الإرضاع بأن تخاف على الصبي الهلاك فأما في الزنى لا يتحقق هذا التقسيم فإن الزنى فساد كله ليس فيه من معنى الصلاح شيء حتى يقال أراد الزاني الفساد أو لم يرد ولكنا نقول ما ذكره صحيح لأن الزنى فساد من حيث إنه كبيرة ولكن قد يكون مفسدا للنكاح وقد لا يكون فإنما أراد بهذا أنه إذا تعمد فساد النكاح يرجع الزوج عليه بنصف الصداق وإذا لم يتعمد ذلك بأن لم يعلم أنها امرأة أبيه لم يرجع الأب عليه بشيء، وهذا كما يقال إن من زنا في رمضان ناسيا لصومه فهو مرتكب للكبيرة مستوجب للعقوبة ولكن لا يفسد به صومه لأنه لم يكن عالما بالصوم ولا قاصدا إلى الجناية عليه وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في الأمالي أن الابن إذا زنا بامرأة أبيه قبل الدخول وقد تعمد الفساد بأن أكرهها على ذلك لم يرجع الأب على الابن بما يغرم لها من نصف الصداق وإذا قبلها وهي نائمة أو مكرهة رجع الأب عليه بما غرم من نصف الصداق لأنه إذا زنا بها فعليه الحد،

 

ج / 30 ص -267-    والحد والمهر لا يجتمعان فلا يغرم شيئا من المهر وإذا قبلها لم يلزمه الحد فيكون للأب أن يرجع عليه بنصف المهر ولكن هذا ضعيف فإن المهر لا يجب لها مع وجوب الحد على الواطئ وهنا نصف المهر على الواطئ إنما يجب للأب ومثل هذا يجتمع مع الحد لفقه وهو إن المهر لها لا يجب إلا بالوطء وقد وجب الحد بالوطء فلا يجب المهر وأما حق الرجوع للأب على الواطئ فيثبت بالتقبيل والمس من غير وطء فهناك إن الحد وجب عليه بالوطء فيمكن إثبات الرجوع له عليه باعتبار فعل آخر وهو التقبيل أو المس فاستقام الجمع بينهما والله أعلم بالصواب.
نحمدك يا من جعلت الشريعة الغراء كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ونصلي ونسلم على نهاية خلاصة الأصفياء، وذخيرة نخبة العظماء من الأنبياء سيدنا محمد الصادق الأمين، القائل: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وعلى آله وأصحابه الذين نجموا في جبهة الدنيا بدور هدى وكانوا رضوان الله عليهم خير قدوة لمن اقتدى، وعلى التابعين من الأئمة المرشدين القائمين بعهده، الراشدين برشده.
وبعد: فإن من المقرر عند ذوي البصائر، إن ظهور الإنسان بمظهر الشرف في الدارين، ونيله درجات الكمال في الكونين، إنما هو بتحلية الظاهر بالأعمال الصالحة الدينية بعد تزكية الباطن بالعقائد اليقينية، فالعلم المتكفل من بين العلوم ببيان الأولى لا ريب يكون بالاشتغال أولى وهو علم الفقه الذي اعتنى بشأنه في كل عصر عصابة هم أهل الإصابة، فبينوا المعقول فيه والمنقول واستخرجوا أغصان الفروع من شعب الأصول وأبرزوا حقائقه بعد أن أحرزوا دقائقه وقنصوا شواره ونظموا قلائده وذللوا مصاعبه وقربوا مطالبه وألفوا فأجادوا وصنفوا فأفادوا وأسنى ما ألف فيه وأبدعه وأعذبه موردا وأحكمه وأجمعه "كتاب المبسوط" في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان أنزل الله عليه غيث الرحمة وشآبيب الرضوان تصنيف العلم النحرير ذي الاتقان والتحرير والحجة لمن بعده والبرهان الذي يوقف عنده شمس الأئمة وحبر الأمة أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله وجعل دار النعيم مثواه، كتاب يعلم الله إنه جمع فأوعى، وأحاط بالنوادر والأشباه والنظائر جنسا ونوعا، واستخرج من بحار كتب ظاهر الرواية درها وقرب للمجتني أزهارها وأثمارها وأبرز دقائقها وكنوزها وحل غوامضها ورموزها ونظمها في سموط أبواب كتابه أبدع نظام وأدرجها في أدراج فصوله مع حسن انسجام.
وبالجملة: فهذا هو الكتاب الذي بظهوره في عالم المطبوعات سدت فرجة واسعة في مؤلفات فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان فإن جميع الكتب المؤلفة في مذهبه هي منه بمنزلة الفروع وهو الأصل، والأبعاض وهو الكل، والجداول وهو البحر الزاخر، وذلك إن هاتيك الكتب إذا وردت فيها مسائل تستعصي على الفهم، وتختلف فيها أقوال العلماء، وآراء الفقهاء أحالوا الحكم فيها على كتاب "المبسوط" على أن الحصول كان عليه عسيرا، وكم

 

ج / 30 ص -268-    طرق فقهاء هذا المذهب أبواب المكاتب، وطالما نقبوا عنه في أدراج الكتب خانات فما عثروا عليه ولا اهتدوا إليه، وما أحوج علماء الفقه إلى كتب تجمع أقوال الأئمة الكبار، يكون الرجوع إليها والاعتماد عليها.
وكتاب "المبسوط" جمع كل المسائل التي دونها الإمام الأعظم ومحمد وأبو يوسف وزفر والإمام الحسن البصري وأعلام المذهب الذين يعبأ بكلامهم فلله در هذا الكتاب ولله براعة عباراته ولطافة إشاراته، وتنبيهاته النافعة، وتنويراته الساطعة، الشاهدة له بعلو درجته وزيادة مزيته ولمؤلفه بسعة اطلاعه وطول باعه وطالما تشوق العلماء إلى بزوغ بدره وتشوف الفقهاء إلى ترشف ثغره وبقيت النفوس متطلعة إلى طلعة بدره الكاملة والأنظار متوجهة إلى تخلصه من حجبه الحائلة حتى وفق الله له صاحب الأعمال المشكورة والهمة العلية المشهورة "حضرة المحترم الحاج محمد أفندي الساسي المغربي" فأخذ حفظه الله في أسباب تسهيله باذلا همته في طبعه لعموم نفعه وقسمه إلى ثلاثين جزأ وكلها بحمد الله تمت طبعا مع كمال التصحيح والتحرير والتنقيح بمباشرة عصابة أولى نجابه، وبراعة وإصابه فبذل كل منهم جهده بقدر ما لديه هذا وكان طبعه الناضر ووضعه الباهر، بمطبعة السعادة، الثابت مركزها بجوار محافظة مصر إدارة مهذب الطبع ذي القدر الجليل، حضرة المحترم محمد أفندي إسماعيل منحه الله من الثواب الجزيل، وكان لطبعه الختام ولبسه وشاح التمام في شعبان من عام 1331 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام، آمين.