المبسوط للسرخسي دار المعرفة

 [كِتَابُ الذَّبَائِحِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لَا يَحِلُّ مَا ذُبِحَ بِسِنٍّ، أَوْ ظُفْرٍ غَيْرِ مَنْزُوعٍ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَتَخْنِيقٌ، وَلَيْسَ بِذَبْحٍ) فَفِي الذَّبْحِ الِانْقِطَاعُ بِحِدَةِ الْآلَةِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِانْقِطَاعُ بِقُوَّتِهِ لَا بِحِدَةِ الْآلَةِ، وَلِأَنَّ آلَةَ الذَّبْحِ غَيْرُ الذَّابِحِ وَسِنُّهُ وَظُفْرُهُ مِنْهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا عِنْدَنَا، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ مَا خَلَا السِّنِّ وَالظُّفْرِ فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ» ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ غَيْرُ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ سِنَّهُمْ وَظُفْرَهُمْ قَبْلَ النَّزْعِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا خَلَا الْعَضِّ بِالسِّنِّ وَالْقَرْضِ بِالظُّفْرِ وَالْعَضُّ وَالْقَرْضُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَنْزُوعِ عَادَةً، ثُمَّ الْمَنْزُوعُ آلَةٌ مُحَدَّدَةٌ يَحْصُلُ بِهَا تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ فَكَانَتْ كَالسِّكِّينِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِهَا لِزِيَادَةِ إيلَامٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْحَيَوَانِ.
وَلَا يُعَدُّ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبْحِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذَّبْحَ» الْحَدِيثَ.

قَالَ (وَمَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُذْبَحَ بِهِ حَدِيدًا كَانَ، أَوْ قَصَبًا، أَوْ حَجَرًا مُحَدَّدًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ «عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ صَادَ أَحَدُنَا صَيْدًا، وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ فَذَبَحَهُ بِشِقِّ الْعَصَا، أَوْ بِالْمَرْوَةِ أَيَحِلُّ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت وَكُلْ» ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِكُلِّ آلَةٍ مُحَدَّدَةٍ

. ثُمَّ تَمَامُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ فَإِنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ كَقَطْعِ الْجَمِيعِ فِي الْجُلِّ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ ثَلَاثًا مِنْهَا أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ

(12/2)


وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ قَطْعِ الْجَمِيعِ. فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ يُتَوَهَّمُ الْبَقَاءُ فَلَا تَتِمُّ الذَّكَاةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ، وَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْوَدَجَيْنِ حَلَّ وَشُرِطَ ثَلَاثَةٌ فِيهَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَرِيءَ مَجْرَى النَّفَسِ وَالْوَدَجَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَبِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ. فَأَمَّا قَطْعُ مَجْرَى النَّفَسِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ.
وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ وَإِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ حَلَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ الْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجَسِ وَبِدُونِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ. قَالَ (وَإِذَا ذُبِحَتْ شَاةٌ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا فَقَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ حَلَّتْ) لِتَمَامِ فِعْلِ الذَّكَاةِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْأَكْثَرِ لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِالْجَرْحِ لَا بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ وَيُكْرَهُ هَذَا الْفِعْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهَا بِسَيْفٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا حَلَّتْ وَيُكْرَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ ذَبَحَهَا مُتَوَجِّهَةً لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَلَّتْ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ) ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الذَّبْحِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ هَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ بِأُضْحِيَّتِهِ الْقِبْلَةَ لَمَّا أَرَادَ ذَبْحَهَا» وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ رُبَّمَا كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمْ الْأَصْنَامَ فَأَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَكِنَّ تَرْكَهُ لَا يُفْسِدُ الذَّبِيحَةَ بِخِلَافِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ فِي التَّسْمِيَةِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فَرْضٌ. فَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِلْكَرَاهَةِ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلذَّبِيحَةِ.

[نَحَرَ الْبَقَرَةَ]
قَالَ (وَإِنْ نَحَرَ الْبَقَرَةَ حَلَّتْ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَقَرَةِ الذَّبْحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] (بِخِلَافِ الْإِبِلِ فَالسُّنَّةُ فِيهَا النَّحْرُ) ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّحْرِ مِنْ الْبَعِيرِ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَلْقِهِ عَلَيْهِ لَحْمٌ غَلِيظٌ فَكَانَ النَّحْرُ فِي الْإِبِلِ أَسْهَلَ. فَأَمَّا فِي الْبَقَرِ أَسْفَلَ الْحَلْقِ وَأَعْلَاهُ فَاللَّحْمُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْغَنَمِ فَالذَّبْحُ فِيهِ أَيْسَرُ وَالْمَقْصُودُ تَسْيِيلُ الدَّمِ وَالْعُرُوقُ مِنْ أَسْفَلِ الْحَلْقِ إلَى أَعْلَاهُ فَالْمَقْصُودُ يَحِلُّ بِالْقَطْعِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا حَلَّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» ، وَلَكِنْ تَرْكُ الْأَسْهَلِ مَكْرُوهٌ فِي كُلِّ جِنْسٍ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ.

قَالَ (وَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ فَاضْطَرَبَتْ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ، أَوْ تَرَدَّتْ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَضُرَّهَا شَيْءٌ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِيهَا فَإِنَّمَا انْزَهَقَ حَيَاتُهَا بِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ

(12/3)


بِاضْطِرَابِهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الذَّكَاةِ فَهَذَا لَحْمٌ وَقَعَ فِي مَاءٍ، أَوْ سَقَطَ مِنْ مَوْضِعٍ.

قَالَ (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ عَدَدًا مِنْ الذَّبَائِحِ لَمْ تُجْزِ التَّسْمِيَةُ لِلْأُولَى عَمَّا بَعْدَهَا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبْحِ وَذَبْحُهُ لِلشَّاةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ ذَبْحِهِ لِلشَّاةِ الْأُولَى.

قَالَ (وَلَوْ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ وَسَمَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أَلْقَى تِلْكَ السِّكِّينَ وَأَخَذَ أُخْرَى فَذَبَحَ بِهَا تُؤْكَلُ) لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ مِنْهُ عَلَى فِعْلِ الذَّبْحِ بِخِلَافِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ سَهْمًا وَسَمَّى عَلَيْهِ وَوَضَعَهُ وَأَخَذَ سَهْمًا آخَرَ جَدَّدَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ التَّسْمِيَةُ عَلَى فِعْلِ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ يَحِلُّ وَالسَّهْمُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَهُنَا الشَّرْطُ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبْحِ دُونَ السِّكِّينِ وَفِعْلُ الذَّبْحِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَذْبُوحِ لَا بِاخْتِلَافِ السِّكِّينِ فَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ تَرَكَ تِلْكَ الشَّاةَ وَذَبَحَ أُخْرَى بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ.

قَالَ (وَلَوْ كَلَّمَ إنْسَانًا، أَوْ شَرِبَ مَاءً، أَوْ حَدَّ سِكِّينًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَكْثُرْ، ثُمَّ ذَبَحَ جَازَ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ) لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ فَبِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ لَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ بِخِلَافِ مَا إذَا طَالَ الْحَدِيثُ، أَوْ طَالَ الْعَمَلُ، ثُمَّ ذَبَحَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ وَبِالْيَسِيرِ لَا يَنْقَطِعُ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ.

قَالَ (وَإِنْ قَالَ مَكَانَ التَّسْمِيَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ يُرِيدُ بِهِ التَّسْمِيَةَ أَجْزَأَهُ) ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّعْظِيمِ، وَقَدْ حَصَلَ.
وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا الذِّكْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَهُنَاكَ الْمَأْمُورُ بِهِ التَّكْبِيرُ وَبِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّحْمِيدَ دُونَ التَّسْمِيَةِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبْحِ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ الذِّكْرُ عَلَى الذَّبْحِ وَغَيْرِهِ يَقْصِدُ مِنْهُ التَّسْمِيَةَ. فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ التَّسْمِيَةَ لَا يَحِلُّ حَتَّى إذَا عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ التَّحْمِيدَ عَلَى الْعُطَاسِ لَمْ يَحِلَّ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخَطِيبِ إذَا عَطَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهُنَا الْمَأْمُورُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الذَّبْحِ وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ، وَقَدْ نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ) وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَبْلُغَ الْحَدُّ النُّخَاعَ وَهُوَ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي وَسَطِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِنُقْصَانٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِلذَّبْحِ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ بَلْ لِزِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ الشَّاةَ إلَى مَذْبَحِهَا) ، وَقَدْ

(12/4)


بَيَّنَّا النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَحُدَّ الشَّفْرَةَ بَعْدَ مَا أَضْجَعَهَا، وَقَدْ رَوَيْنَا النَّهْيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَّا أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِنُقْصَانٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِلذَّبْحِ فَلَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا فَيَقُولُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ عِنْدَ الذَّبْحِ قُبِلَ فَمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الذَّبْحِ، أَوْ بَعْدَهُ كَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَالَ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَإِلَيْك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَذْبَحُ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

[ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ]
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ) ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ يَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ وَيَضْبِطُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ إسْلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَهُوَ شَرْطُ الْحِلِّ فَهَذَا لَا خَيْرَ فِي ذَبِيحَتِهِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ أَهْلَ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ ذَبَائِحَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَالْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

[ذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ]
قَالَ (وَذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ حَلَالٌ مُسْلِمًا كَانَ، أَوْ كِتَابِيًّا) ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي. فَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ النَّاسِي تُقَامُ مِلَّتُهُ مَقَامَ تَسْمِيَتِهِ فَفِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَوْلَى.

قَالَ (وَمَا أَدْرَكْت مِنْ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وَنَظَائِرُ هَذَا فَذَكَّيْته حِلٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً حِينَ ذُبِحَتْ حَلَّتْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَيَاةُ فِيهَا مُتَوَهَّمَةَ الْبَقَاءِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَهَّمَةِ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ بِفِعْلِ ذَكَاةٍ، وَقَدْ حَصَلَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ تَحِلُّ بِالذَّكَاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ تَوَهُّمُ الْبَقَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا نَقَرَ الذِّئْبُ بَطْنَ شَاةٍ وَأَخْرَجَ مَا فِيهَا، ثُمَّ ذُبِحَتْ لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ تَعِيشَ بَعْدَهَا فَمَا بَقِيَ فِيهَا إلَّا اضْطِرَابُ مَذْبُوحٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.

قَالَ (وَمَنْ ذَبَحَ شَاةً، أَوْ غَيْرَهَا فَخَرَجَ مِنْ

(12/5)


بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ لَمْ يُؤْكَلْ الْجَنِينُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُؤْكَلُ. إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا يُؤْكَلُ الْجَنِينُ إذَا أَشْعَرَ وَتَمَّتْ خِلْقَتُهُ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْغَةِ فَلَا يُؤْكَلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] قِيلَ الْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنْ الْأَجِنَّةِ وَالْحَمُولَةُ الْكِبَارُ فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِأَكْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَفِي الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» مَعْنَاهُ ذَكَاةُ الْأُمِّ نَائِبَةٌ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ كَمَا يُقَالُ لِسَانُ الْوَزِيرِ لِسَانُ الْأَمِيرِ وَبَيْعُ الْوَصِيِّ بَيْعُ الْيَتِيمِ.
وَرُوِيَ ذَكَاةَ أُمِّهِ بِالنَّصْبِ وَمَعْنَاهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ حَرْفِ الْخَفْضِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] أَيْ بِبَشَرٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا إنَّا لِنَنْحَرَ الْجَزُورَ فَيَخْرُجَ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَفَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - كُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ حَتَّى يَكُونَ فِي الْأَهْلِيِّ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ.
فَإِذَا نَدَّ فَبِالْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُسْعُ مِثْلِهِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ فِي الْجَنِينِ ذَبْحُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مُخْبِيًا فِي الْبَطْنِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ فِعْلُ الذَّبْحِ مَقْصُودًا، وَبَعْدَ الْإِخْرَاجِ لَا يَبْقَى حَيًّا فَتُجْعَلُ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةً لَهُ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الذَّبْحِ فِي الْأُمِّ فِي زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَنْ الْجَنِينِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْجُرْحِ بِحِلِّ رِجْلِ الصَّيْدِ فَالْغَالِبُ هُنَاكَ السَّلَامَةُ وَهُنَا الْهَلَاكُ، ثُمَّ اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ فَهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ حَتَّى يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَنْمُو بِنَمَائِهَا وَيَقْطَعُ عَنْهَا بِالْمِقْرَاضِ كَمَا فِي بَيَانِ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ وَيَتْبَعُهَا فِي الْأَحْكَامِ تَبَعِيَّةَ الْأَجْزَاءِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِثْنَاءٌ فِي عُنُقِهَا وَبَيْعِهَا كَاسْتِثْنَاءِ يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَثُبُوتُ الْحِلِّ فِي الْبَيْعِ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحِلُّ ذَبْحُ الشَّاةِ الْحَامِلِ، وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ الْجَنِينُ بِذَبْحِ الْأُمِّ لَمَا حَلَّ ذَبْحُهَا حَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافٍ لِلْحَيَوَانِ لَا لِلْمَأْكَلَةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] فَإِنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عِنْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ فَيَمُوتُ بِاحْتِبَاسِ نَفَسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنْخَنِقَةُ «. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا وَقَعَتْ رَمِيَّتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُك» فَقَدْ حَرُمَ الْأَكْلُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ زَهُوقِ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَنِينِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَاتَ بِذَبْحِ الْأُمِّ، أَوْ بِاحْتِبَاسِ نَفَسِهِ، وَقَدْ

(12/6)


يَتَأَتَّى الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُهُ حَيًّا لِيُذْبَحَ.
وَعَلَّلَ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ ذَكَاةُ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى يَنْفَصِلَ حَيًّا فَيَبْقَى، وَلَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْجُزْءِ حَيًّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُ الْجَنِينِ حَيًّا، وَلَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ حَيَاةِ الْجُزْءِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَصْلِ. وَالذَّكَاةُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَيَاةِ. فَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ نَفْسًا عَلَى حِدَةٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ ذَكَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا نَقُولُ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ الْأُمِّ بَلْ يُبْقِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَطْنِ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ غِذَاءٍ، أَوْ يُوَصِّلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْغِذَاءَ كَيْف شَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ قَدْ يَتَغَذَّى أَيْضًا بِغِذَاءِ الْأُمِّ بِوَاسِطَةِ اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ وَلَمَّا جُعِلَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَبَعًا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَقَرُّرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْأُمِّ دُونَهُ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ انْفِصَالُهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ.
وَلَوْ انْفَصَلَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَحِلَّ عِنْدَهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يُتَّبَعُ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّكَاةِ تَسْيِيلُ الدَّمِ لِتَمْيِيزِ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ وَبِذَبْحِ الْأُمِّ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْجَنِينِ، أَوْ الْمَقْصُودُ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ بِالنُّضْجِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالتَّوَقُّدِ وَالتَّلْهِيبِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الْجَنِينِ بِذَبْحٍ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ. قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ وَكَمَا لَوْ قَتَلَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ غَمًّا، أَوْ اخْتِفَاءً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْجُرْحِ وَإِبَاحَةُ ذَبْحِ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْجَنِينُ حَيًّا فَيُذْبَحُ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَحْمُ الْأُمِّ وَذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ حَلَالٌ كَمَا لَوْ ذَبَحَ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ لِمَقْصُودِ الْجِلْدِ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ لَا النِّيَابَةُ أَيْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَنِينَ أَوَّلًا.
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ النِّيَابَةَ لَذَكَرَ النَّائِبَ أَوَّلًا دُونَ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَمَا قِيلَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي اُسْتُشْهِدَ بِهَا وَمِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّشْبِيهِ يُقَالُ فُلَانٌ شَبَهُ أَبِيهِ وَحَظُّ فُلَانٍ حَظُّ أَبِيهِ. وَقَالَ الْقَائِلُ.
وَعَيْنَاك عَيْنَاهَا وَجِيدُك جِيدُهَا ... سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ
وَالْمُرَادُ التَّشْبِيهُ وَيَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي الرِّوَايَةِ بِالنَّصْبِ فَإِنَّ الْمَنْزُوعَ حَرْفُ الْكَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] أَيْ كَمَرِّ السَّحَابِ وَيُحْتَمَلُ الْبَاءُ أَيْضًا، وَلَكِنْ إنْ جَعَلْنَا الْمَنْزُوعَ حَرْفَ الْكَافِ لَمْ يَحِلَّ الْجَنِينُ.
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَرْفَ الْبَاءِ يَحِلُّ وَمَتَى اجْتَمَعَ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْحَدِيثُ مَعَ الْقِصَّةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَيْ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى {إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ

(12/7)


مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُوهُ أَيْ اذْبَحُوهُ وَكُلُوهُ وَالْمُرَادُ بِالْفَرْشِ الصِّغَارُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَنِينَ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْجَنِينَ مَأْكُولٌ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا فَيُذْبَحَ فَيَحِلَّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[بَابُ الْأُضْحِيَّةِ]
(بَابُ الْأُضْحِيَّةِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ بِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ نَوْعَانِ نَوْعٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ كَالصَّدَقَاتِ وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ كَالْعِتْقِ وَيَجْتَمِعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مَعْنَيَانِ فَإِنَّهُ تَقَرُّبٌ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَهُوَ إتْلَافٌ، ثُمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ. قَالَ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَيَاسِيرِ وَالْمُقِيمِينَ عِنْدَنَا) . وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خُصِصْتُ بِثَلَاثٍ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْأُضْحِيَّةُ وَصَلَاةُ الضُّحَى وَالْوِتْرُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً.
وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لِيَغْدُوَ عَلَى أَلْفِ شَاةٍ وَيُرَاحُ فَلَا أُضَحِّي مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً، وَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ كَالْعَتِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِطْعَامُ الْغَنِيِّ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْإِتْلَافِ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بَلْ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأُضْحِيَّةَ بِالنَّذْرِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَيْ وَانْحَرْ الْأُضْحِيَّةَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَإِلْحَاقُ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ وَمَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى» وَالْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَحُّوا أَمْرٌ وَقَوْلُهُ فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ طَرِيقَتُهُ فَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْمَكْتُوبُ مَا يَكُونُ فَرْضًا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(12/8)


مَخْصُوصًا بِكَوْنِ الْأُضْحِيَّةِ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا قَالَ.
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالِ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ، أَوْ فِي حَالِ السَّفَرِ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا كَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ نَقُولُ هَذِهِ قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا، وَفِيهَا فَتَكُونُ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَيْهِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ لَا مَحَالَةَ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ اسْتِحْقَاقًا.
وَلِجَوَازِ الْأَدَاءِ فِيهِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مُضَافًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ يَجُوزُ فِيهَا الصَّوْمُ، ثُمَّ لَا يُسَمَّى شَهْرُ الصَّوْمِ إلَّا رَمَضَانَ فَعَرَفْنَا أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَى الْقُرْبَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِصْحَابُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ لَا تَلْزَمُهُ كَالْجُمُعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ بِالتَّضْحِيَةِ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58] وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالتَّمْلِيكِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً. فَكَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالْإِتْلَافِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ.

ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأَدَاءِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عِنْدَنَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا. فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ دُونَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَدَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ لَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا قِيلَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَتَمْضِي هَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ خَاصَّةً وَالْيَوْمُ الْآخَرُ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ خَاصَّةً وَقِيلَ الْمَعْلُومَاتُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.

ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَيُجْزِئ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ

(12/9)


عَظِيمًا سَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «ضَحُّوا بِالثَّنِيَّاتِ، وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ» ، وَلِأَنَّ الْجَذَعَ نَاقِصٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الضَّحَايَا بِالِاسْتِعْظَامِ وَالِاسْتِشْرَافِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ» .
فَأَمَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يُجْزِئُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جَذَعًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِبُوهَا» ، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ وَهُوَ الَّذِي تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِي تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْبَقَرِ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمِنْ الْإِبِلِ الَّذِي تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَمِنْ الْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَهَكَذَا مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ إذَا تَمَّ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ جَذَعٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ الضَّأْنِ خَاصَّةً.

[أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ]
ثُمَّ أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ. فَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ لَا تُجْزِئُهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا لِعَدَمِ الْوَقْتِ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فِي الْقُرَى بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ وَدُخُولُ الْوَقْتِ لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى إنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَقَامَ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ بَشَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنِّي عَجَّلْت نَسِيكَتِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نَسِيكَتَك فَقَالَ عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - تُجْزِئُك، وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَك» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ»

وَمَنْ يَذْبَحُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ لَمْ تُجْزِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ عَادَةً جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلُّوا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْإِمَامِ الصَّلَاةَ كَمَا لَوْ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الْوَاجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ الْمَنْصُوصِ، وَمَا بَقِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعِيدِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَالَ (وَإِذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ مَا انْصَرَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا)

(12/10)


وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْجَامِعِ. هَكَذَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ

قَالَ (وَإِذَا ذَبَحَ بَعْدَ مَا فَرَغَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ) ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا قَدْ أُدِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمِصْرِ حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُمْ فَتَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْمَشْرُوطَ قَدْ وُجِدَ حِينَ ضَحَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ فَضَحَّى رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْعِيدِ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَأَهْلُ الْجَبَّانَةِ هُمْ الْأَصْلُ، وَقَدْ صَلَّوْا وَقِيلَ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْجَبَّانَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِمَا ذَكَرْنَا فَهُنَا أَوْلَى.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ وَبِمَكْسُورِ الْقَرْنِ) أَمَّا الْجَمَّاءُ فَلِأَنَّ مَا فَاتَ مِنْهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْإِبِلِ أَفْضَلُ، وَلَا قَرْنَ لَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمَّاءِ فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وَكَذَلِكَ الْخَصِيُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، أَوْ مَوْحُوَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ» . وَالْمُرَادُ خَصِيَّانِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ مَا يُزَادُ فِي لَحْمِهِ بِالْخِصَاءِ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا يَفُوتُ بِالْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَرْبَاءِ وَالتَّوْلَاءِ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً) وَالْجَرْبَاءُ الَّتِي بِهَا جَرَبٌ. وَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَالْجَرَبُ فِي جِلْدِهَا لَا فِي لَحْمِهَا «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحَّى بِالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تُنْقِي» .
وَالتَّوْلَاءُ هِيَ الْمَجْنُونَةُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ فِي الْقُضَاةِ لَا فِي الشَّاةِ. فَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بَاقٍ وَاشْتِرَاطُ السَّمْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ يَرْعَيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ» وَمَقْصُودُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانُ السَّمْنِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةُ نَفَرٍ فِي بَقَرَةٍ، أَوْ بَدَنَةٍ) . وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اشْتَرَكْنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي

(12/11)


الْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ قَيِّمُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ عَادَةً.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَصْدُهُمْ جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ، أَوْ قَصَدَ بَعْضُهُمْ قُرْبَةً أُخْرَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا قَصَدُوا جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ بَعْضِهِمْ لِلَّحْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ.
فَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي الْبَدَنَةِ ثَمَانِيَةً لَمْ تُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ السُّبْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ دُونَ السُّبْعِ حَتَّى لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَبَقَرَةً وَضَحَّى بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ هَلْ يَجُوزُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ الثُّمُنُ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ثُمُنُهَا فِي نَصِيبِهَا لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ أَيْضًا.

فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ وَرَضِيَ وَرَثَتُهُ بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ صَارَ مِيرَاثًا وَالتَّضْحِيَةُ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ فَلَا يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِهِ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْعِتْقِ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ حَصَلَ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فَإِنَّ التَّبَرُّعَ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ مُورِثِهِ بِالْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ صَحِيحٌ كَالتَّصَدُّقِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الْعِتْقُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْوَلَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ

وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أُمَّ وَلَدٍ ضَحَّى عَنْهَا مَوْلَاهُ، أَوْ صَغِيرًا ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ فَإِنْ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ جَازَ. وَإِذَا جَعَلَهُ شَرِيكًا فِي الْبَدَنَةِ فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِمَا بَيَّنَّا.

وَأَمَّا الْأَبُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ يَسَارِهِ. فَكَذَلِكَ عَنْ جُزْئِهِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا لَا يَلْزَمُهُ عَنْ مَمْلُوكِهِ لَا يَلْزَمُهُ عَنْ وَلَدِهِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ التَّضْحِيَةُ عَنْ أَوْلَادِهِ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُقِلَ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قِيَاسِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْإِتْلَافَ فَالْأَبُ لَا يَمْلِكُهُ فِي مَالِ الْوَلَدِ كَالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّصَدُّقَ بِاللَّحْمِ بَعْدَ إرَاقَةِ الدَّمِ فَذَاكَ تَطَوُّعٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَالُ الصَّبِيِّ

(12/12)


لَا يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً، ثُمَّ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مِثْلَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يُوجِبَهَا، وَبَعْدَ الْإِيجَابِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُكْرَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهَا، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ تَعَلُّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا، وَلَا يُعْجِزُهُ عَنْ تَسْلِيمِهَا وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ بَيْعَ مَالِ الزَّكَاةِ لِهَذَا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَاشْتَرَى شَاةً، ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَتِك أَمَّا الشَّاةُ فَضَحِّ بِهَا وَأَمَّا الدِّينَارُ فَتَصَدَّقْ بِهِ» فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ شَرًّا مِنْ الْأُولَى، وَقَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُولَى فَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَمَّا جَوَازُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فَلِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَأَمَّا التَّصَدُّقُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْأُولَى فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْتَفْضَلَ شَيْئًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالتَّصَدُّقِ بِالدِّينَارِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ فَقِيرًا أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَقِيَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ مَا يُضَحِّي بِهِ مَحَلًّا صَالِحًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ شَرْعًا، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِالْتِزَامِهِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ بِعَيْنِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ. فَإِذَا اسْتَفْضَلَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا الْتَزَمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْغَنِيِّ فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَعْيِينِ الْوَاجِبِ فِي مَحَلٍّ فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ حَيْثُ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْ حَيْثُ فَرَاغِ الذِّمَّةِ.

قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّصَدُّقِ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا) وَالْمُرَادُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ بِالْقِيمَةِ فَفِي حَقِّ الْمُوسِرِ الَّذِي يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِقَامَةُ الْمُتَقَوِّمِ مُقَامَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا تَجُوزُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا وَجْهَ لِلتَّعْلِيلِ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَرْنَا

(12/13)


بِهَذَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ التَّضْحِيَةُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالتَّصَدُّقِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ إلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَأَمَّا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فَقَدْ سَقَطَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ، وَفِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ.
وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ؛ لِأَنَّ تَقَرُّبَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فَيَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّهَا وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَالِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَرَّبُ بِسَبَبَيْنِ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ، وَلَا عَنْ امْرَأَتِهِ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ) ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمْ.

قَالَ (وَإِذَا وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ثَبَتَ فِي عَيْنِهَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا وَالْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مَقْصُودًا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَلِأَنَّ الشَّرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ أَصْلٌ وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ يَثْبُتُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالِيَّتَهُ إلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمْسَكَ وَلَدَهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ «. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا دُونَ هَذَا لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك» .

[بِيعَ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ الذَّبْحِ]
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ الذَّبْحِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ. وَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا، وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا» فَكَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ جِلْدَهَا الْجَزَّارَ. فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجِلْدَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهَا.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ مَتَاعًا لِلْبَيْتِ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَبَغَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ فِي بَيْتِهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ يَشْتَرِي بِهِ الْغِرْبَالَ وَالْجِرَابَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَشْتَرِي بِهِ الْخَلَّ وَالْمَرِيَّ وَالْمِلْحَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ

(12/14)


وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَا يَكُونُ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ بِهِ تَنَاوُلُ الْعَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ، وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فَهُوَ نَظِيرُ عَيْنِ الْجِلْدِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَحْلُبَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ فَيَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا كَمَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِصُوفِهَا) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَتَوَلَّدُ مِنْ عَيْنِهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، وَلَكِنَّهُ يَنْضَحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ مِنْهُ اللَّبَنُ، وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا كَانَ يُقَرِّبُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْبُعْدِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا بَعْدَ مَا يَتَقَلَّصُ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ كَالْهَدْيِ إذَا عَطِبَتْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ.

قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ اشْتَرَكَ مَعَهُ سِتَّةٌ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) ، وَفِي الْقِيَاس لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ وَالِاشْتِرَاكُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ عَنْ بَعْضِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَوْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ اشْتَرَوْا جُمْلَةً جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا أَشْرَكَهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ إتْمَامِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً فَيَشْتَرِيهَا، ثُمَّ يَطْلُبُ شُرَكَاءَهُ فِيهَا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ. قَالَ (وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ كَانَ أَحْسَنَ) ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ لَا صُورَةً، وَلَا مَعْنًى فَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْعَوْرَاءُ فِي الْأُضْحِيَّةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» ، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحِّيَ بِأَرْبَعَةٍ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ مَانِعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَالْيَسِيرُ مِنْ الْعَيْبِ غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْجُو مِنْ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ فَالْيَسِيرُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي لَحْمِهَا وَلِلْعَوَرِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَلَفِ مَا يُبْصِرُ بِالْعَيْنَيْنِ، وَعِنْدَ قِلَّةِ الْعَلَفِ يَتَبَيَّنُ الْعَجَفُ، ثُمَّ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مَنْصُوصٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا. فَإِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ لَمْ تَجُزْ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ مَنْصُوصٍ. وَإِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الطَّرَفِ. فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بَعْضَ ذَلِكَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ

(12/15)


أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ، أَوْ أَقَلَّ يُجْزِئُهُ وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الثُّلُثَ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا دُونَهُ، وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ إذَا كَانَ الذَّاهِبُ الرُّبُعَ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكَمَالِ. كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ أَجْزَأَهُ قَالَ وَذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ قَوْلِي قَوْلُك. قِيلَ هَذَا رُجُوعٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى قَوْلِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ. فَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ قُلْنَا إذَا قَابَلْتَ الذَّاهِبَ بِالْبَاقِي كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ. وَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ. فَإِذَا قَابَلْتَهُ بِالْبَاقِي كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ. فَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ النِّصْفَ قَالَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْمَانِعُ وَالْمُجَوِّزُ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ احْتِيَاطًا.

. فَأَمَّا الشِّقُّ فِي الْأُذُنِ فَهُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ لِلْعَلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ السِّمَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ لَا يُجَوِّزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ» . فَالشَّرْقَاءُ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ فِي أُذُنِهَا طُولًا وَالْخَرْقَاءُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا وَالْمُقَابَلَةُ قَطْعٌ فِي مُقَدَّمِ أُذُنِهَا وَالْمُدَابَرَةُ فِي مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ بَعْضُ الْأُذُنِ مَقْطُوعَةً وَكَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا

. فَأَمَّا الْعَرْجَاءُ إذَا كَانَتْ تَمْشِي فَلَا بَأْسَ بِهِ «؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ الْعَرْجَاءِ فَقَالَ إذَا كَانَتْ تَبْلُغُ فَلَا بَأْسَ بِهِ» . فَإِذَا كَانَتْ لَا تَقُومُ، وَلَا تَمْشِي لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي لَحْمِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْلِفُ إلَّا مَا حَوْلَهَا. وَإِذَا كَانَتْ تَمْشِي فَهِيَ تَذْهَبُ إلَى الْعَلَفِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي لَحْمِهَا.

، وَلَا تُجْزِئُ الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي لِلنَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ فَاحِشٌ أَثَّرَ فِي لَحْمِهَا وَيَسْتَوِي إنْ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ، أَوْ صَارَتْ عِنْدَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ مُوسِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ بَلْ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الْعَيْنِ فَيَتَأَدَّى بِالْعَيْنِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ، أَوْ سُرِقَتْ فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا وَعَلَى هَذَا قَالُوا الْمُوسِرُ إذَا ضَلَّتْ أُضْحِيَّتُهُ فَاشْتَرَى أُخْرَى، ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَاشْتَرَاهَا وَأَوْجَبَهَا فَضَّلَتْ، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى فَأَوْجَبَهَا، ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَيْنِ

(12/16)


بِإِيجَابِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ كَالْأُولَى.

وَإِنْ أَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي اضْطِرَابِهَا حِينَ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ وَذَبَحَهَا عَلَى مَكَانِهَا فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ تَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْأُضْحِيَّةِ لَا بِالْإِضْجَاعِ وَهِيَ مَعِيبَةٌ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ بِهَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَقَدْ يَنْقَلِبُ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ فَتُصِيبُ عَيْنَهَا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عَفْوًا لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَلِأَنَّهُ أَضْجَعَهَا لِيَتَقَرَّبَ بِإِتْلَافِهَا فَتَلَفُ جُزْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عَمَلِ التَّقَرُّبِ فَلَا يُمْنَعُ الْجَوَازُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِضْجَاعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا أَصَابَهَا ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ ضَحَّى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ وَقْتَ إتْلَافِهَا تَقَرُّبًا فَتَلَفُ جُزْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ لَيْسَ لَهَا أُذُنَانِ خُلِقَتْ كَذَلِكَ وَهِيَ السَّكَّاءُ) ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأُذُنِ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنْ الْجَوَازِ فَعَدَمُ الْأُذُنِ أَصْلًا أَوْلَى بَعْضٍ. فَأَمَّا صَغِيرَةُ الْأُذُنِ تُجْزِئُ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَ مِنْهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً

وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَلِفُ، ثُمَّ رَجَعَ. وَقَالَ يَجُوزُ إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْهَتْمَاءَ لَيْسَ لَهَا أَسْنَانٌ، ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْهَتْمَاءَ مَكْسُورَةُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ. فَإِذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ فَالْبَاقِي مِنْ الْأَسْنَانِ أَكْثَرُ مِنْ الذَّاهِبِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ وَاَلَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي الْبَدَنِ بَلْ السِّنُّ فِي الْأَنْعَامِ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْأُذُنِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَلِفُ بِالْأَسْنَانِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا وَالْوَاجِبَاتِ بَقَرُ الْوَحْشِ وَحُمُرُ الْوَحْشِ وَالظَّبْيُ) ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ مِنْ الْوَحْشِيِّ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا وَالْقُرْبَةُ لَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ أَهْلِيَّةً جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِالْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ وَحْشِيَّةً لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ فَإِنَّ مَاءَ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِحَضَانَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ الْوَلَدُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْمِلْكِ. فَكَذَلِكَ فِي التَّضْحِيَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْ الْفَحْلِ وَهُوَ مَاءٌ غَيْرُ مَحَلٍّ لِهَذَا الْحُكْمِ وَيَنْفَصِلُ مِنْ الْأُمِّ وَهُوَ حَيَوَانٌ مَحَلٌّ لِهَذَا الْحُكْمِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا بِالْأُمِّ.

قَالَ (رَجُلٌ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِيهِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ فَكَانَ ضَامِنًا كَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ الْقَصَّابِ، ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِعَمَلِ الْمُضَحِّي وَبَيْتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ الْغَيْرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِيهِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ يُجْزِئُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِكُلِّ وَاحِدٍ

(12/17)


بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفُوتُهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْإِذْنُ دَلَالَةً كَالْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءٍ فِي السِّقَايَةِ وَنَظَائِرِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْزِئُهُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَكِنَّ الذَّابِحَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ فَالْجَوَازُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً، وَلَوْ وُجِدَ الْإِذْنُ إفْصَاحًا لَمْ يَضْمَنْ. فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْإِذْنُ دَلَالَةً وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ غَلَطَا فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَجْزَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِحْسَانًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَا قَدْ أَكَلَا، ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِئُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ جَازَ ذَلِكَ غَنِيًّا كَانَ، أَوْ فَقِيرًا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَضْمِينُ صَاحِبِهِ قِيمَةَ لَحْمِهِ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ.

قَالَ (وَلَوْ أَمَرَ مَجُوسِيًّا فَذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ لَمْ تُجْزِهِ) ؛ لِأَنَّ هَذَا إفْسَادٌ لَا تَقَرُّبٌ فَإِنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ لَا تُؤْكَلُ، وَلَوْ أَمَرَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّبْحِ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقُرْبَةِ وَفِعْلُهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ.

قَالَ (فَإِنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ) ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ نَحَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ وَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحِينَ ضَحَّى بِالشَّاتَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِنَفْسِهِ» ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ أَمَا أَنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفًا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَهَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» .

قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ كَمَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ) ؛ لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ مَيَاسِيرَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمُسَافِرِينَ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى، وَفِي الْأَصْلِ ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ مَا خَلَا الْحَاجَّ وَأَرَادَ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الْمُقِيمِينَ وَبِالْحَاجِّ الْمُسَافِرِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَعَلَيْهِمْ الْأُضْحِيَّةُ، وَإِنْ حَجُّوا.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ لِأَهْلِ الْقُرَى أَنْ يَذْبَحُوا الْأَضَاحِيَّ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ بِانْشِقَاقِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ فَيَلْزَمُهُمْ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَلَا صَلَاةَ عَلَى

(12/18)


أَهْلِ الْقُرَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا جُمُعَةَ، وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ حَتَّى إذَا كَانَ الرَّجُلُ بِالْمِصْرِ وَأُضْحِيَّتُهُ بِالسَّوَادِ يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ بِالسَّوَادِ وَأُضْحِيَّتُهُ بِالْمِصْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
قَالَ (وَيُجْزِيهِ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُمْ كَرِهُوا الذَّبْحَ فِي اللَّيَالِي) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَغْلَطَ فَتُفْسِدَ الظُّلْمَةُ اللَّيْلَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ.

قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ صَلَاةُ الْعِيدِ) ؛ لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ مَشْغُولُونَ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الْعِيدِ. وَيَجُوزُ لَهُمْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْقُرَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[بَابٌ مِنْ الصَّيْدِ]
(بَابٌ مِنْ الصَّيْدِ أَيْضًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَنْ انْفَلَتَ مِنْ يَدِهِ صَيْدٌ بَعْدَ مَا أَحْرَزَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ) ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالِانْفِلَاتِ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الثَّانِي بِالْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَمْلِكُ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ لَا الْمَالَ الْمَمْلُوكَ كَمَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ آخَرُ لَا يَمْلِكُهُ

وَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَصَاحِبُ الشَّبَكَةِ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آخِذًا لَهُ بِالْوُقُوعِ فِي شَبَكَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَهُوَ لِلْآخِذِ؛ لِأَنَّ نَاصِبَ الشَّبَكَةِ يَقْصِدُ الِاصْطِيَادَ فَيَصِيرُ هَذَا آخِذًا لِلصَّيْدِ بِالْوُقُوعِ فِي شَبَكَتِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُحْرِمٌ كَانَ ضَامِنًا وَضَارِبُ الْفُسْطَاطِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ فَلَا يَكُونُ آخِذًا لَهُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِفُسْطَاطِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُحْرِمٌ لَمْ يَضْمَنْ.

قَالَ (وَمَنْ أَخَذَ بَازِيًا، أَوْ شَبَهَهُ فِي مِصْرٍ، أَوْ سَوَادٍ، وَفِي رِجْلَيْهِ سَيْرٌ، أَوْ جَلَاجِلُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ أَهْلِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ) ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِثُبُوتِ يَدِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَيْضَةِ مَعَ الْجَلَاجِلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ انْفَلَتَ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، أَوْ أَرْسَلَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ كَمَنْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْغَيْرَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ ظَبْيًا، وَفِي عُنُقِهِ قِلَادَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ حَمَامَةً فِي الْمِصْرِ يَعْرِفُ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ وَحْشِيَّةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ بُرْجَ حَمَامٍ فَأَوْكَرَتْ فِيهِ حَمَامُ النَّاسِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ فِرَاخِهَا لَا

(12/19)


يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْخَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ فَقِيرًا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى فَقِيرٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بِشَيْءٍ فَيَتَنَاوَلُ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مُولَعًا بِأَكْلِ الْحَمَامِ.

قَالَ (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَيْدٌ فَأَرْسَلَهُ عِنْدَ إحْرَامِهِ فَأَخَذَهُ حَلَالٌ، ثُمَّ حَلَّ الْأَوَّلُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ عَنْ الصَّيْدِ لَا إزَالَةُ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يُحْرِمُ وَلَهُ صَيُودٌ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْإِرْسَالِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ

قَالَ (وَمَنْ قَتَلَ بَازِيًا مُعَلَّمًا، أَوْ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ بَازِيًا مُعَلَّمًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِمَعْنَى الصَّيْدِ فِي يَدِ الْمَقْتُولِ وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَحِّشًا فَلَا يُزَادُ بِهِ قِيمَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْآدَمِيِّ لِكَوْنِهِ مَالًا مُنْتَفَعًا بِهِ وَيَزْدَادُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا؛ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ فَقَتَلَهُ وَرَجُلٌ غَرِمَ قِيمَتَهُ أَيْضًا وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ حَتَّى يَكُونَ مَالًا مُنْتَفَعًا بِهِ.
، وَإِنْ كَانَ عَقُورًا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ فَمُتْلِفُهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَدًّى، وَلَيْسَ بِمَالٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ بَيْعِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي اللَّحْمِ سِوَى الْأَكْلِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا مَأْكُولًا لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَجَوَازُ الْبَيْعِ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ ثَمَنٌ بِأَنْ كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ لِإِطْعَامِ الْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ جَازَ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مُذَكًّى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، وَمَا كَانَ مِنْ جُلُودِهَا إذَا دَبَغَهَا رَجُلٌ وَبَاعَهَا جَازَ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُ مَدْبُوغَةٍ لَمْ يَجُزْ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ مَيْتَةً. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُذَكَّاةً يَجُوزُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ الذَّكَاةِ فِي الْحِلِّ وَالطَّهَارَةِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَفِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَالدِّبَاغِ.

قَالَ (وَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَاءِ سَمَكَةً مَقْطُوعَةً لَا يَدْرِي مَنْ قَطَعَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ يَدٍ إلَيْهَا لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بِهَا سَمَكَةً أُخْرَى، وَإِنْ أَصَابَ فِي وَسَطِهَا، أَوْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا خَيْطًا مَرْبُوطًا لَمْ يَأْكُلْهَا وَيَعْرِفُهَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ يَدًا أُخْرَى سَبَقَتْ إلَيْهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَيَعْرِفُهَا.

قَالَ (وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ، أَوْ

(12/20)


أَرْسَلَ كَلْبَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَلَا بَأْسَ بِمَا أَصَابَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حِسَّ إنْسَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَهْلِيَّاتِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ الصَّيْدُ) ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ إلَى الْحِسِّ وَالرَّمْيُ إلَى الْأَهْلِيِّ لَا يَكُونُ اصْطِيَادًا وَحِلُّ الصَّيْدِ بِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمْيُهُ وَإِرْسَالُهُ الْكَلْبَ كَانَ اصْطِيَادًا فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ إذَا أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا سَوَاءٌ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنْ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ مُبِيحًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ مَا قَصَدَهُ لَمْ يَفْدِ الْحِلُّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ خِنْزِيرٍ لَمْ يَحِلَّ وَإِنْ أَصَابَ رَمْيُهُ الصَّيْدَ بِخِلَافِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مِنْ الْمُحْتَرَمِ الْعَيْنِ. فَأَمَّا فِي سَائِرِ السِّبَاعِ فَإِنْ فَعَلَهُ مُؤَثِّرٌ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ. فَإِذَا أَصَابَ مَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ مُتَوَحِّشٍ اصْطِيَادٌ. فَأَمَّا حِلُّ التَّنَاوُلِ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ فِي الْمَحِلِّ. فَإِذَا أَصَابَ فِعْلُهُ فِي الِاصْطِيَادِ مَحِلًّا مَأْكُولًا قُلْنَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مَا كَانَ ذَلِكَ الْحِسَّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ لِاجْتِمَاعِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ.

وَفِي النَّوَادِرِ إذَا رَمَى طَيْرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الطَّيْرُ فَلَمْ يُعْرَفْ إنْ كَانَ أَهْلِيًّا، أَوْ وَحْشِيًّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ فِي الْأَصْلِ وَحْشِيٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى بَعِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الْبَعِيرُ فَلَمْ يَعْرِفْ إنْ كَانَ أَهْلِيًّا، أَوْ مُتَوَحِّشًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ مَأْلُوفٌ فِي الْأَصْلِ وَالتَّوَحُّشُ مِنْهُ نَادِرٌ فَتَمَسَّكْ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ

وَإِنْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّ أَنَّهُ إنْسَانٌ فَرَمَاهُ فَأَصَابَ مَا رَمَاهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَيْدًا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ فِعْلِهِ اصْطِيَادٌ وَظَنُّهُ بِخِلَافِ حَقِيقَةِ فِعْلِهِ لَغْوٌ.

قَالَ (وَلَوْ رَمَى خِنْزِيرًا أَهْلِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ) ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ الْأَهْلِيَّ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ رَمَى شَاةً سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى حَرْبِيًّا مُخْتَفِيًا مُوثَقًا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَأْكُلْهُ؛ لِأَنَّ رَمْيَهُ إلَى الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ، وَلَا هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحِلِّ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الصَّيْدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ]
(بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَإِذَا خَرَجَ الصَّيْدُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ بِاصْطِيَادِهِ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ الْحَرَمَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اصْطِيَادِهِ كَانَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، وَقَدْ زَالَ بِخُرُوجِهِ إلَى الْحِلِّ فَهُوَ نَظِيرُ مُحْرِمٍ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَفِيهِ نَصٌّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ

(12/21)


فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] .

قَالَ (وَإِنْ رَمَى رَجُلٌ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَمَاتَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَفِعْلُهُ كَانَ مُبَاحًا وَهُوَ الرَّمْيُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا حِينَ مَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ، أَوْ مُرْتَدٍّ فَأَصَابَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ. فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ وَهُوَ مُذَكًّى وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ لَا فِي حَقِّ الْمُذَكَّى، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ وَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ فَاعْتِبَارُ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَاعْتِبَارُ حَالَةِ الْإِصَابَةِ يُبِيحُ فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَبِهِ فَارَقَ الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْحِلَّ صِفَةٌ فِي الْمَحِلِّ وَالْمَحِلُّ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ ثُبُوتِ صِفَةِ الْحِلِّ فِيهِ.

قَالَ (وَإِنْ أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ فِي الْحِلِّ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهِ) ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ الْإِصَابَةِ، وَقَدْ أَصَابَهُ وَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِحَالَةِ الرَّمْيِ فِيمَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ دُونَ حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ يُعْتَبَرُ حَالَةُ الْإِصَابَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ صِفَةٌ لِلْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَحِلِّ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ فِي الْحِلِّ، وَقَدْ رَمَاهُ مِنْ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ الْحَرَمِ قِيلَ مَحْظُورٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] قِيلَ مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يُقَالُ أَشْأَمَ إذَا دَخَلَ الشَّامَ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ الذَّكَاةُ لَا الْقَتْلُ الْمَحْظُورُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الرَّامِي فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ مُحْرِمٍ يَقْتُلُ صَيْدًا، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ مِنْ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ إذَا كَانَ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الرَّمْيِ إلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِعْلًا مَحْظُورًا أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْجَزَاءِ، وَلَوْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي الْحَرَمِ حَتَّى أَصَابَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُبَاحٌ لَهُ فَكَانَ فِعْلُهُ ذَكَاةً شَرْعًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْحِلِّ، وَفِي الرَّامِي وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ فِعْلُ الرَّامِي وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ.

قَالَ (فَإِنْ رَمَى نَصْرَانِيٌّ مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَمَاتَ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهِ) ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ الْمُسْلِمِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يُبِيحُ الصَّيْدَ. فَكَذَلِكَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ

(12/22)


كَمَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا (فَإِنْ قِيلَ) الْمَنْعُ مِنْ الرَّمْيِ صَوْبَ الْحَرَمِ حَقُّ الشَّرْعِ وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ (قُلْنَا) حُرْمَةُ الْحَرَمِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ كَمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ النَّصْرَانِيُّ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِ وَالتَّبَعُ يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي عِلَّتِهِ

. وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ صَبِيٌّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِ الْبَالِغِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ وَاجِبًا لِلْحِلِّ. فَكَذَلِكَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَالصَّبِيِّ.

قَالَ (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِأَخْذِهِ وَإِخْرَاجِهِ وَكَانَ مُطَالَبًا شَرْعًا بِإِعَادَتِهِ إلَى مَأْمَنِهِ وَإِرْسَالِهِ فِيهِ، وَقَدْ فَوَّتَ ذَلِكَ بِذَبْحِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ أَكْلِهِ أَفْضَلُ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَفِعْلُهُ فِيهِ يَكُونُ قَتْلًا، وَلَا يَكُونُ ذَكَاةً وَهُنَا حِينَ ذَبَحَهُ كَانَ صَيْدَ الْحِلِّ فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِيهِ ذَكَاةً وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْأَخْذِ السَّابِقِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ إلًّا أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ سَبَبَ الْأَخْذِ.
فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ شُبْهَةٌ فِيهِ، وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لَهُ حَقَّ التَّنَاوُلِ تَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ فَيُخْرِجُونَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَيَذْبَحُونَهُ فِي الْحِلِّ، وَفِي ذَلِكَ تَعْلِيلُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَلِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا قُلْنَا التَّنَزُّهُ عَنْ أَكْلِهِ أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَادَهُ أَوَّلًا فِي الْحِلِّ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَقَدْ صَارَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَهُوَ وَالْمَأْخُوذُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ. فَإِذَا مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ فِي الْحِلِّ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ لَمْ يَثْبُت لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَعِنْدَنَا حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ إمْسَاكُ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ إمْسَاكُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ.

وَكَذَلِكَ حَلَالٌ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ، ثُمَّ حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ وَحِينَ ذَبَحَهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحِلِّ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ أَكْلُهُ.

قَالَ (مُحْرِمٌ صَادَ صَيْدًا فَدَفَعَهُ إلَى حَلَالٍ فَذَبَحَهُ فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ مُفَوِّتٌ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِرْسَالِ وَمُقَرِّرٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَلَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ فِي الْحَرَمِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ هَذَا حَالًا فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ

(12/23)


التَّنَاوُلُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الذَّكَاةِ وَفِعْلِ الْمُحْرِمِ، أَوْ الَّذِي فِي الْحَرَمِ مَحْظُورٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً شَرْعًا.
فَأَمَّا الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ حَلَالٌ فِعْلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ذَكَاةٌ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِلْإِرْسَالِ وَمُقَرِّرٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْآخِذِ يَلْحَقُهُ نَوْعُ خَطَرٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ.

قَالَ (وَإِنْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فَذَبَحَهُ حَلَالٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ) ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ عُهْدَةِ أَخْذِهِ وَذَبْحُ الْحَلَالِ إيَّاهُ كَذَبْحِ صَيْدٍ آخَرَ فِي الْحُكْمِ.

قَالَ (وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَأَرْسَلَهُ فَصَادَهُ حَلَالٌ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ فَإِنَّهُ بِالْإِرْسَالِ قَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ وَاَلَّذِي خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِنْ الْحَرَمِ سَوَاءٌ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ، وَلَكِنْ عَلَى الَّذِي أَخْرَجَهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا إعَادَتُهُ إلَى مَأْمَنِهِ فَإِنَّهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْهُ.
فَإِذَا تَلِفَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى مَأْمَنِهِ تَقَرَّرَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مَا يَنْسَخُ فِعْلَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ فَيَنْفَسِخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِمُجَرَّدِ إرْسَالِهِ وَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَاكَ مَا لَوْ عَادَ الصَّيْدُ إلَى الْحَرَمِ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ، ثُمَّ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ هُوَ الَّذِي صَادَهُ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ فَذَبَحَهُ لَمْ يَكُنْ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَهُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الثَّانِي وَوُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ؛ فَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْفِعْلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي بَقَاءِ مَا وَجَبَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُ وَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَذَبَحَهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَدَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ بِاعْتِبَارِهَا؛ فَلِهَذَا كُرِهَ أَكْلُهَا.

قَالَ (مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ مَنْزِلَهُ فِي الْحِلِّ فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِهِ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) وَأَضَافَ الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ يُخَالِفُ جَوَابَهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الذَّابِحَ حَلَالٌ، وَقَدْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ فَذَبَحَهُ حَلَالٌ حَلَّ تَنَاوُلُهُ. فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّهُ مَا نُسِخَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِإِرْسَالِهِ إيَّاهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّنْفِيرُ وَالِاسْتِيحَاشُ لِمَنْ بَعُدَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرْسَلَ جَارِحًا مِنْ مَنْزِلِهِ.
قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنَا هَذَا الْفِعْلَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ بَعْضِ أَهْلِهِ فِي الذَّبْحِ كَفِعْلِهِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُنْفِقُ

(12/24)


عَلَيْهِمْ لِيَفْعَلُوا لَهُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الذَّابِحُ كَالْمَأْمُورِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلِهَذَا قَالَ لَا يُعْجِبُنَا هَذَا الْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ وَذَبَحَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَلَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ وَأَكْرَهُ أَكْلَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ إرْسَالُهُ بَعْدُ فِي حَقِّ نَسْخِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَبِعَهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُحْرِمِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ هُمَا يَقُولَانِ لَوْ أَرْسَلَهُ خَارِجًا مِنْ مَنْزِلِهِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ إذَا ذَبَحَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ هَكَذَا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ حَيْثُ قَالَ، وَلَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهِ فَقَدْ طَلَب مِنْهُ دَلَالَةً أَنْ يَتَّبِعَهُ فَيَأْخُذَهُ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ نَصًّا كَانَ تَنَاوُلُهُ مَكْرُوهًا. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ طَالِبًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ دَلَالَةً.

قَالَ (وَإِنْ انْفَلَتَ مِنْ الْمُحْرِمِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ، أَوْ أَرْسَلَهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَذَبَحَهُ فَهَذَا كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ) ؛ لِأَنَّ بِالْإِرْسَالِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ التَّنْفِيرُ وَالِاسْتِيحَاشُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فَلَا يَنْسَخُ بِهِ حُكْمَ فِعْلِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِ الْمِصْرِ يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ اصْطِيَادِهِ عَادَةً؛ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ نَدَّتْ شَاةٌ فِي الْمِصْرِ لَمْ تَحِلَّ بِالرَّمْيِ. قَالَ (وَإِذَا انْفَلَتَ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ إلَّا بِصَيْدٍ فَرَمَاهُ حَلَالٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الصَّحْرَاءِ) ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ حِينَ عَادَ صَيْدًا مُتَوَحِّشًا كَمَا كَانَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ قَطُّ.

قَالَ (حَلَالٌ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَتَبِعَهُ الْكَلْبُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَقَتَلَهُ فِيهِ كَرِهْت لَهُ أَكْلَهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِرْسَالِ فِي الْحِلِّ. فَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَأَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ وَذَبَحَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَهُ مِنْ فَمِ الْكَلْبِ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ حِينَ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا (فَجَوَابُ) هَذَا الْفَصْلِ كَجَوَابِ مَا لَوْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ.

وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ كَرِهْت لَهُ أَكْلَهُ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ الْكَلْبَ عَلَى الصَّيْدِ اصْطِيَادٌ وَمَنْ هُوَ دَاخِلُ الْحَرَمِ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاصْطِيَادِ فَإِرْسَالُ الْكَلْبِ عَلَيْهِ وَالرَّمْيُ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا.

قَالَ (وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَقَتَلَهُ كَرِهْته أَيْضًا) ؛ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ مَحْظُورٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ.

قَالَ (وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْكَلْبِ حَيًّا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ كَرِهْت لَهُ هَذَا الصُّنْعَ، وَلَا

(12/25)


بَأْسَ بِأَكْلِهِ فِي الْقِيَاسِ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَهُ حَيًّا فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ إرْسَالِ الْكَلْبِ حَتَّى لَا يَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ أَخْذُهُ وَذَبْحُهُ، وَقَدْ حَصَلَ فِي صَيْدِ الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ هَذَا الصُّنْعُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ بِذَلِكَ الْإِرْسَالِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ حَرَامًا بِكَوْنِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ ذَلِكَ.

قَالَ (ظَبْيٌ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ رَمَاهُ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ) ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ وَاعْتِبَارُ مَا فِي الْحَرَمِ مِنْ قَوَائِمِهِ يَجْعَلُهُ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَهَذَا الْجَانِبُ يَتَرَجَّحُ؛ لِأَنَّهُ جَانِبُ الْحَظْرِ وَجَانِبُ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَوَائِمُهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ فَإِنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ.
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اسْتِمْسَاكَهُ عَلَى الْأَرْضِ فِي حَالِ نَوْمِهِ بِاعْتِبَارِ جَمِيعِ بَدَنِهِ. فَإِذَا كَانَ جَانِبٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَنَاسِكِ فِي الشَّجَرَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْضِعُ أَصْلِهَا لَا مَوْضِعُ أَغْصَانِهَا، وَفِي الصَّيْدِ الْوَاقِعِ عَلَى بَعْضِ أَغْصَانِهَا يُعْتَبَرُ مَوْضِعُ ذَلِكَ الْغُصْنِ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِغُصْنِ الشَّجَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهَ} [النحل: 79] . فَأَمَّا قِوَامُ غُصْنِ الشَّجَرَةِ فَبِأَصْلِهَا فَفِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُحْصَنِ يُعْتَبَرُ مَوْضِعُ أَصْلِ الشَّجَرَةِ، وَفِي حَقِّ ضَمَانِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الصَّيْدُ فَإِنْ كَانَ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ فَهَذَا الصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ.

قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَكَ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ فِي رَمْيِ الصَّيْدِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ) ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ فِعْلِ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمٌ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ يَغْلِبُ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ.

قَالَ (رَجُلٌ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ فَقَتَلَهُ كَرِهْتُ أَكْلَهُ) ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ إرْسَالُ الْبَازِي، وَقَدْ كَانَ مَحْظُورًا فَإِنْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُهُ يُثْبِتُ الْكَرَاهَةَ.

قَالَ (حَلَالٌ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا، ثُمَّ ذَبَحَهَا وَأَوْلَادَهَا فَلَيْسَ أَكْلُهَا وَأَكْلُ أَوْلَادِهَا بِحَرَامٍ) ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّبْحِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ حَلَالٍ فِي صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، وَلَكِنْ لَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْفِعْلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُذِنَ فِي ذَلِكَ تَطَرَّقَ النَّاسُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ بِالْأَخْذِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْأَخْذُ حَرَامًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِيهَا، وَفِي أَوْلَادِهَا؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالْإِعَادَةَ إلَى الْمَاءِ مِنْ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي أَوْلَادِهَا. فَإِذَا فَوَّتَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ جَزَاءَ الْأُمِّ لِإِتْلَافِهِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهَا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي وَلَدِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّى الْجَزَاءُ عَنْهَا، ثُمَّ ذَبَحَهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِرْسَالِهَا وَإِعَادَتِهَا

(12/26)


إلَى الْمَاء مِنْ بَعْدِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ. فَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ، وَمَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ جَزَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ هِيَ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِهَا حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لِيَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِعَادَتِهَا إلَى الْمَاءِ مِنْ بَعْدِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ (قُلْنَا) نَعَمْ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ حَالَ قِيَامِ الْبَدَلِ، وَلَكِنْ لَا يُجْمَعُ الْأَصْلُ وَالْبَدَلُ فَيَبْقَى بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ الْحَقُّ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِرْسَالِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ وَبِاعْتِبَارِ جَانِبِ الْمُؤَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ لَا يَظْهَرُ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ الصَّيْدَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ فَالْوَلَدُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا صَادَ ظَبْيَةً، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَحَالُهَا وَحَالُ أَوْلَادِهَا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ، أَوْ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى يَشْتَمِلُ عَلَى الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ