المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الطهارات
هذا الفصل يشتمل على تسعِ فصول:
1 * في الوضوء.
2 * في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب
3 * في تعليم الاغتسال
4 * في المياه التي يجوز التوضؤ بها، والتي لا يجوز التوضؤ بها
5 * في التيمم
6 * في المسح على الحفين
7 * في النجاسات وأحكامها
8 * في الحيض
9 * في النفاس.

(1/31)


الفصل الأول في الوضوء
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان فرائضه

فنقول: فرض الوضوء غسل الوجه، واليدين مع المرفقين، ومسح الرأس، وغسل القدمين مع الكعبين.

وحد الوجه: من قصاص الشعر من الرأس إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذن، وإيصال الماء إلى داخل العين ساقط، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس بأن يغسل الرجل الوجه وهو مغمض عينه، وفي رواية الحسن أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِل أَتُغْسل العين بالماء؟ قال: لا، وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن من غسل وجهه وغمض عينه تغميضاً شديداً لا يجوز ذلك وقيل فمن رمدت عينه فرمصت فأصبح رمصها في جانب العين يجب إيصال الماء تحت مجتمع الرمص، ويجب إيصال الماء إلى المآقي.. وتكلموا قال بعضهم: الشفة تبع للفم فلا يجب إيصال الماء إليه، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ما ظهر من الشفتين عند الانضمام، فهو من الوجه، فيجب إيصال الماء إليه، وما انكتم منه عند الانضمام فهو تبع للفم، فلا يجب إيصال الماء إليه، ومسح بللآ في بشرة الوجه من اللحية ما يذكره في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله في غسل الأصول روايتان.
في رواية قال: يفرض إيصال الماء إلى اللحية أو ربعها كأنه أراد بهذا الكناية عن الذقن الجفن، وهو قول أبي يوسف، وذكر الحسن في «المجرد» عنه أنه يفرض إيصال الماء إلى ما يوازي الذقن.
ولكن عند بعض مشايخنا يسن، قالوا وكذلك إمرار الماء على ظاهر الشارب على الروايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله اتفقوا أن عليه أن يمس الماء شعرها

(1/33)


غسله بالماء، فإذا لم يصبه الماء لا يجوز، وإن لم يكن إيصال الماء إلى أصل المنبت على وجه الغسل شرطاً.
قال رحمه الله: وكذلك في الشارب عليه إيصال الماء إلى شاربه، وفي «القدوري» : مسح ما يلاقي بشرة الوجه من اللحية واجبة رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وأشار في باب الوضوء إلى أنه يفرض إيصال الماء إلى مواضع الوضوء ما ظهر منها.

وذكر الزندويستي في «نظمه» أن حاصل الجواب أن على قول أبي حنيفة رحمه الله مسح ثلثها، وعلى قول محمد والشافعي وأبو يوسف في رواية يمسح كلها وهو

(1/34)


أحسن الأقاويل؛ لأن الوجه ما يواجه به الناس واللحية هي التي تواجهها الناس، ولا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر اللحية عندنا باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين والشارب باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب (إيصال) الماء إلى ما استرسل من الشعر من الذقن عندنا.
وأما البياض الذي بين العذار وبين شحمة الأذن. ذكر شمس الأئمة (1أ1) الحلواني رحمه الله إن ظاهر المذهب أن عليه أن يغسل ذلك الموقع ليس عليه سواه، وذكر الطحاوي أن عليه غسل ذلك الموضع.
وفي «القدوري» : أنه يجب غسله عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وزعم الطحاوي: أن ما ذكر هو الصحيح، عليه أكثر مشايخنا، لكن فيه كلفة ومشقة، فالأولى أن يقال يكفيه بلّ الماء بناءً على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أن المتوضي إذا بل وجهه وأعضاء وضوئه بالماء ولم يسل الماء على عضوه جاز، ولكن قيل تأويل ما روي عن أبي يوسف: أنه إذا سال من العضو قطرة أو قطرتان ولم يتدارك.
وذكر الفقيه أبو إسحاق الحافظ: روي عن أبي يوسف، ومحمد، وزفر رحمهم الله يفترض عليه غسله. قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: إن غسل فحسن، وإن لم يغسل أجزأه.
أما فرض غسل اليد: فمن رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ويدخل المرفقان في الغسل عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن اسم اليد يقع على هذه الجملة، وهل يجب إيصال الماء إلى ما تحت الأظافر؟ قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يجب، حتى إن

(1/35)


الخباز إذا توضأ وفي أظفاره عجين أو الطيان إذ توضأ وفي أظفاره طين يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وكان يفرق بين الطين والعجين وبين الدرن أن الدرن يتولد من الآدمي فيكون من أجزائه ولا كذلك الطين والعجين.

وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله في «شرحه» : أن الظفر إذا كان طويلاً بحيث يستر رأس الأنملة يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان قصيراً لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان في أصبعه خاتم إن كان واسعاً لا يجب تحريكه ولا نزعه، وإن كان ضيقاً ففي ظاهر الرواية (قال) أصحابنا رحمهم الله لا بد من نزعه أو تحريكه، وروى الحسن عن أبي حنيفة، وأبو سليمان عن أبي يوسف ومحمد أنه لم يشترط النزع أو التحريك وبين المشايخ اختلاف في هذا الفصل.
وأما فرض مسح الرأس: مقدر بالناصية وذلك قدر ربع الرأس وقدره بعض العلماء رحمهم الله بثلاثة أصابع، هكذا ذكر «القدوري» ، وفي صلاة «الأصل» قدره بثلاثة أصابع وفي «المجرد» : قدره بربع الرأس، ولو أخذ الماء بثلاثة أصابع ووضعها عليه وضعاً ولم يمدها أجزأه على قول من قدره بثلاثة أصابع ولم يجزئه على قول من قدره بالربع حتى تستكمل بالإمرار، هكذا ذكره «القدوري» .

وذكر الزندويستي في «نظمه» وقال: روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإبراهيم بن رستم عن محمد رحمهم الله: أنه يجوز، وقال في اختلاف زفر لا يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا أن يمسح بقدر ثلث رأسه أو ربعه، وذكر في صلاة الأثر أنه يجوز من غير ذكر خلاف، وإن مسح بأصبع واحد بجوانب الأصبع قدر ثلاثة أصابع روى زفر عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وهذا الجواب مستقيم على الرواية التي قدر المسح فيها بثلاثة أصابع، ولو مسح بالأصبعين لا يجوز إلا أن يمسح بالإبهام والسبابة مفتوحتين فيضعها مع ما بينهما من الكف على رأسه فحينئذ يجوز، لأنهما أصبعان وما بينهما من الكف قدر أصبع، فيصير ثلاثة أصابع فيجوز، وإن كان على رأسه شعر طويل فمسح بثلاثة أصابع إلا أن مسحه وقع على شعره، إن وقع على شعر تحته رأس يجوز عن مسح الرأس، وإن وقع على شعر تحت جبهته أو رقبته لا يجوز عن مسح الرأس

(1/36)


لأن المسح على الشعر عن المسح على البشرة التي تحته، ولو مسح على بشرة الجبهة أو العنق لا يجوز عن مسح الرأس، ولو مسح على بشرة الرأس أجزأه فكذا إذا مسح على الشعر، وذكر الزندويستي هذه المسألة بهذه العبارة، وفي موضع آخر ذكر بعبارة أخرى.
ولو كان شعره طويلاً، فمسح ما تحت أذنيه لا يجزئه عن مسح الرأس، ولو مسح ما فوقه يجوز، وإن وضع إصبعاً واحداً على رأسه ومدها قدر ثلاثة أصابع لم يجزه، هكذا ذكر في «نوادر ابن رستم» وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه ماء: قد توضأ به فالتحق به بمسألة لو أخذ الماء ووضعه على جبهته ومدها إلى أصل الذقن حتى استوعب جميع الوجه أجزأه، وأشار إلى المعنى فقال: لأن بملاقاة الماء الجبهة لا يصير الماء مستعملاً إلا بالسيلان؛ لأن فرض الوجه الغسل، ولا يتأتى الغسل إلا بالسيلان على العضو، والماء في عضو واحد لا يصير مستعملاً.

أما في فصل الرأس الماء بملاقاة بشرة الرأس يصير مستعملاً؛ لأن فرض الرأس المسح؛ والمسح يحصل بمجرد الملاقاة فيصير الماء مستعملاً بمجرد الملاقاة.
ذكر الناطفي في «الهداية» إذا اختضب ومسح برأسه عند وضعه على خضابه لا يجزئه وإن وصل الماء إلى شعره، قال: وهو كالمرأة إذا مسحت على الوشاح ووصل الماء إلى شعرها وذلك لا يجوز فههنا كذلك.
ورأيت مسألة الخضاب في شرح بعض المشايخ: أنه إذا اختلط البلة بالخضاب، وخرج من حكم الماء المطلق لا يجوز المسح وهو بمنزلة ماء الزعفران.
ورأيت مسألة مسح المرأة على الخمار في نسخ بعض المشايخ أيضاً أنّ الماء إن كان متقاطراً بحيث يصل إلى الشعر يجوز المسح، وإلا فلا.
وذكر الزندوستي في نظمه قال بعض في العلماء: إذا وصل الماء إلى الشعر جاز وإلا فلا.
وقال بعضهم إن كان الخمار غير لا يجوز؛ لأنه لا يصل الماء.
وقال بعضهم إن ضربت يديها المبلولتين فوق الخمار جاز وما لا فلا لأن بالضرب يصل الماء إلى الشعر.
ولو كان ذؤابتان مشدودتان حول الرأس كما يفعله النساء فوقع مسحه على رأس الذؤابة بعض مشايخنا قالوا بالجواز إذا لم يرسلهما؛ لأنه مسح على شعر تحته رأس، فصار كما لو مسح على الشعر الأصلي، وعامتهم على أنه لا يجوز أرسلهما أو لم

(1/37)


يرسلهما؛ لأنه مسح على شيء مستعار، فصار كما لو مسحت المرأة فوق الخمار ولم يصل الماء إلى ما تحته.
وإذا نسي المتوضي مسح الرأس، فأصابه ماء المطر مقدار ثلاث أصابع فمسحه بيده أو لم يمسحه أجزأه عن مسح الرأس؛ لأن الله تعالى وصف الماء بكونه طهوراً، والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره، فلا يتوقف حصول التطهير على فعل يكون منه كان كالذي هو محرق لا يتوقف حصول الإحراق على فعل يكون من الغير.

وإذا نسي أن يمسح برأسه، فأخذ من لحيته ماء ومسح به رأسه لا يجوز؛ لأن هذا مسح بالمستعمل والماء يأخذ حكم الاستعمال عندنا كما زايل العضو استقر على الأرض أو لم يستقر، وههنا زايل العضو بدليل أنه يخرج عن الجنابة بالإجماع، وفي المسألة أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولو كان في كفه بلل فمسح به رأسه أجزأه قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا إذا لم يستعمله في عضو من أعضائه بأن أدخل يده في إناء حتى ابتلت، فأما إذا استعمله في عضو من أعضائه بأن غسل بعض أعضائه وبقي على كفه بلل لا يجوز، وأكثرهم على أن قول الحاكم خطأ.
والصحيح أن محمداً رحمه الله أراد بذلك ما إذا غسل عضواً من أعضائه وبقي البلل في كفيه، بدليل أن محمداً رحمه الله، قال: وهذا بمنزلة ما لو أخذ الماء من الإناء، ولو كان المراد ما قاله الحاكم لم يكن لهذا التشبيه معنى.
وفرّقوا بين بلل اللحية وبين بلل الكف، والفرق أن بلل الحلية ما سقط به فرض غسل الوجه وصار مستعملاً، فلا يقام به فرض آخر.
أما بلل الكف ما لم يسقط به فرض الغسل؛ لأن فرض غسل الأعضاء أقيم بالماء الذي زايل العضو لا بالبلل الذي على الكف، فلم يصر هذا البلل مستعملاً، فجاز أن يقام به فرض مسح الرأس.
ولو أمر الماء على رأسه ولحيته ثم حلقها لا يلزمه إعادة المسح عليهما هكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله.
قال الناطفي: ورأيت في كتاب الصلاة محمد بن مقاتل أن في الرأس لا يلزمه

(1/38)


الإعادة، وفي اللحية يلزمه الإعادة.
وأشار إلى الفرق فقال: إن في الرأس قبل نبات الشعر كان فرضه المسح كما بعد نباته، فزوال الشعر لا يغير صفة الفرض.
أما في الوجه صفة الفرض قد تغيرت ألا ترى أن قبل ما نبت الشعر على الوجه، فرضه الغسل وبعد نباته لا يكون فرضه الغسل.

وفي «القدوري» يذكر هذه المسألة بعبارة أخرى فيقول: وليس في زوال عضو من وضوء ولا إمرار ماء على موضع المزال، يريد به إذا توضأ ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: بإعادة المسح في الرأس واللحية وأشباههما، وكان يقيس هذه الصورة على المسح على الخف فإنه لو مسح على الخفين ثم نزعمهما يسقط حكم ذلك المسح ويفرض غسل القدمين.
ونقل ابن سماعة عن محمد رحمه الله فرقاً بين المسح على الخف وبين هذه الصورة فقال: الجلد والشعر (2ب1) والرأس شيء واحد ذهب بعضه وبقي البعض فلم يرتفع حكم ذلك المسح بمرة فأما الخف فهو غير الرجل، فإذا نزعه فقد ارتفع حكم ذلك المسح بالمرة، قياس مسألة الخف في هذه المسألة أن لو كان الخف ذا طاقين فمسح عليه ثم نزع أحد الطاقين إذا تقشر بنفسه وهناك لا يلزمه إعادة المسح أيضاً.
وأما فرض غسل الرجلين فمن رؤوس الأصابع إلى الكعبين، ويدخل الكعبان في الغسل عند علمائنا رحمهم الله.
والكعب هو العظم الناتىء في الساق الذي يكون فوق القدم.
والذي روى هشام عن محمد رحمه الله أن الكعب هو العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك، فذاك وهم منه، لم يرد محمد رحمه الله في هذا تفسير الكعب في الطهارة والصلاة، وإنما أراد به في حق المحرم إذا لم يجد نعلين ومعه خفان قال يقطعهما أسفل من الكعبين، وأراد بالكعب العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك ليصير آلة في معنى النعلين.
وأما تفسير الكعب في الطهارة والصلاة العظم الناتىء الذي هو في الساق فوق القدم، ولو قطعت رجله من الكعب وبقي النصف من الكعب يفرض عليه غسل ما بقي من الكعب وموضع القطع، وكذلك هذا الحكم في المرفق في اليد إذا قطع اليد من المرفق وبقي نصف المرفق يفرض عليه غسل ما بقي من المرفق وموضع القطع.
وإن كان القطع فوق الكعب وفوق المرفق لم يجب غسل موضع القطع.

وتخليل الأصابع إن كانت مضمومة وتوضأ من الإناء، وإن كانت مفتوحة فترك التخليل جاز.
وإن كان توضأ في الماء الجاري أو في الحياض، فأدخل رجليه الماء وترك التخليل

(1/39)


جاز، وإن كانت الأصابع مضمومة، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» .
وفي «شرح شيخ الإسلام» : أن تخليل الأصابع قبل وصول الماء إلى ما بين الأصابع فرض وبعده سنة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن تخليل الأصابع سنة مطلقاً.
قال رحمه الله: ومن الناس من قال تخليل أصابع القدم فرض قال محمد رحمه الله في «الأصل» لو توضأ مرة واحدة تامة أجزأه.
وتكلموا في تفسير الشيوع، قال بعضهم: غسل العضو بالماء أولاً ثم يسيل عليه الماء، فيتيقن بوصول الماء إلى جميع العضو.
وقال بعضهم: يسيل الماء على عضوه ويدلكه حتى يصل الماء إلى جميعه، والفقيه أبو جعفر رحمه الله مال إلى القول الأول في زمان الشتاء وإلى القول الثاني في زمان الصيف.
وروى هشام عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا بل الأعضاء ثلاث مرات يجزىء عن الغسل ثم إذا توضأ مرة واحدة، فإن فعل ذلك لقلة الماء أو للتبرد أو للحاجة لا يكره ولا يأثم، وإن فعل ذلك من غير عذر وحاجة يكره ويأثم هكذا قيل.
وقد قيل أيضاً إن اتخذ ذلك عادة يكره.
وإن فعل ذلك أحياناً لا يكره.
وإذا كان ببعض أعضاء الوضوء جرح قد انقطع قشره أو نحو منه هل يجب إيصال الماء إلى ما تحته؟ كان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول ننظر إن كان ما يقشر يزال من غير أن يتألم لم يجزه إلا أن يصل الماء إلى ما تحته، وإن كان لا يزال من غير أن يتألم أجزأه إن لم يصل الماء إلى ما تحته، قال: لأنه بمنزلة ما لم يقشر.
وفي «مجموع النوازل» : رجل ببعض أعضائه قرحة قشر أو بأطراف وضوءه وضوء قشر القرحة موصولة بالجلد إلا الطرف الذي يخرج منه القيح، فغسل الجلد ولم يصل الماء إلى ما تحت الجلد جاز وضوءه، وجاز له أن يصلي؛ لأن ما تحت الجلد ليس بظاهر فلا يعتبر غسله.

وفيه أيضاً وإن كان على بعض أعضاء وضوئه قرحة نحو الدمل وشبهه وعليه جلدة رقيقة، فتوضأ وأمرّ الماء على الجلدة ثم نزع الجلدة قيل يلزمه غسل ما تحت الجلدة، قال: إن نزع الجلدة بعد ما بدأ بحيث لم يتألم بذلك، فعليه أن يغسل ذلك الموضع، وإن نزع محل البثر وبحيث تألم بذلك إن خرج منها شيء وسال نقض الوضوء، وإن لم يخرج لا يلزمه غسل ذلك الموضع والأشبه أنه لا يلزمه الغسل في الوجهين جميعاً.
وفي «فوائد القاضي الإمام» ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: إذا كان على

(1/40)


بعض أعضاء وضوئه خرء ذباب أو برغوث، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته جاز؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.
ولو كان جلد سمك وخبز ممضوغ قد جف، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته لم يجز؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وقد قيل إذا كان على أعضاء وضوئه.
f
... ولا يصل الماء إلى ما تحته فتوضأ كذلك يجوز؛ لأنه يتولد من البدن فهو بمنزلة الدرن.
وفي «مجموع النوازل» إذا كان برجله شقاق، فجعل فيها الشحم وغسل الرجل ولم يصل الماء إلى ما تحته ننظر إن كان يضره إيصال الماء إلى ما تحته يجوز، وإن كان لا يضره لا يجوز والله أعلم.
نوع منه فى تعليم الوضوء
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثاً ولم يذكر كيفيته، وحكي عن الفقيه أي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه ينظر إلى الإناء إن كان الإناء صغيراً يمكنه رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثاً، وإن كان الإناء كبيراً لا يمكن رفعه كالحب وشبهه، وكان معه كوز صغير يرفع الماء بالكوز، ولا يدخل يده فيه ثم يغسل يديه بالكوز على نحو ما بينا.

وإن لم يكن معه كوز صغير أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ولا يدخل الكف ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، فيفعل كذلك ثلاثاً ثم يدخل يده اليمنى بالغاً ما بلغ في الإناء، وقوله عليه السلام: «لا يَغْمُسَنَّ في الإناء» محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة أو كانت كبيرة، ولكن معه آنية صغيرة.
وأما إذا كان الإناء كبيراً وليس معه آنية صغيرة، فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة.
ثم يستنجي والكلام في الاستنجاء يأتي بعد هذا في النوع الذي يلي هذا النوع.
وبين المشايخ اختلاف في أنه يغسل يديه قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء.
قال بعضهم: قبل الاستنجاء.
وقال بعضهم: بعد الاستنجاء.

(1/41)


وأكثرهم على أنه يغسل يديه مرتين، من قبل الاستنجاء ومن بعد الاستنجاء، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، ولم يقل ثم يغسل يديه.
من أصحابنا من قال: إنما ذكر ذراعيه؛ لأنه سبق غسل اليدين، فلا يجب الإعادة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه يعيد غسل اليدين؛ لأن الأول كان شبه افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء وأنه مشكل؛ لأن المقصود هو التطهير، فإذا حصل التطهير بأي طريق حصل فقد حصل المقصود، فلا معنى لإعادة الغسل. ثم يمسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء واحد ثم يغسل رجليه مع الكعبين والله أعلم.
نوع منه فى بيان سنن وضوئه وآدابه
فنقول: السنّة سنّتان.
سنّة الرسول عليه السلام.
وسنّة أصحابه.
فسنّة الرسول: هي الطريق التي فعلها رسول الله عليه السلام وواظب عليها كركعتي الفجر والأربع قبل الظهر وأشباهها.
وسنّة أصحابه رضوان الله عليهم: هي الطريق التي فعلها الصحابة، وواظبوا عليها كالتراويح، فإن التراويح يقال: سنّة عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر فعلها وواظب عليها.
والأدب: ما فعله رسول الله عليه السلام مرة وترك مرة، فنقول: من السنّة أن يغسل يديه إلى الرسغ ثلاثاً، ويغسلها قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء، فيه كلام وقد ذكرناه، وهذا إذا لم يكن على بدنه نجاسة حقيقية، أما إذا كانت فإنه يفترض غسلها.
قال الطحاوي رحمه الله: ويسمي، فيقول: (بسم) الله العظيم والحمد لله على الإسلام، وفي كون التسمية سنّة كلام.
ففي ظاهر الرواية ما يدل على أنه أدب فإنه قال: ويستحب له أن يسمي، وذكر في «صلاة الأثر» أنها سنّة، وهكذا ذكر الطحاوي والقدوري رحمهما الله.
وفي محل التسمية اختلاف المشايخ، قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء وقال بعضهم يسمي بعد الاستنجاء.

(1/42)


فصلفي الاستنجاء وكيفيته
ومن السنة الاستنجاء، وإنه نوعان:
أحدهما: بالماء.
والثاني: بالحجر أو المدر أو ما يقوم مقامها من الخشب أو التراب.
والاستنجاء (3أ1) بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن لم يمكنه ذلك إلا بكشف العورة يستنجي بالأحجار، ولا يستنجى بالماء، وإتباع الماء الأحجار أدب وليس بسنّة؛ لأن النبي عليه السلام فعله مرة وتركه مرة.
من مشايخنا من قال: هذا كان أدباً في زمن النبي عليه السلام وأصحابه، أما في زماننا فهو سنّة، واستدل هذا القائل بما روي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال: هو سنّة، فقيل له: كيف يكون سنّة وقد تركه رسول الله عليه السلام مرة وفعل مرة، وكذلك خيار الصحابة، فقال الحسن: إنهم كانوا يبعرون بعراً وأنتم تثلطون ثلطاً، ولا خلاف لأحد في الأفضلية، فإتباع الماء الأحجار أفضل بلا خلاف، والاستنجاء من البول والغائط والمذي والمني والدم الخارج من أحد السبيلين دون غيرها من الأحداث.

وينبغي أن يستنجي بالأشياء الطاهرة نحو الحجر والمدر، والرماد، والتراب، والخرقة، وأشباهها، ولا يستنجي بالأشياء النجسة مثل السرقين ووضع الإنسان، وكذلك بحجر استنجى به مرة هو أو استنجى به غيره إلا إذا كان حجراً له أحرف، فيستنجى في كل مرة بحرف لم يستنج به في المرة الأولى، فيجوز من غير كراهته.
وكذلك لا يستنجى بالعظم والروث، فقد قيل العظم طعام الجن والروث علف دوابهم، فلا يفسد عليهم طعامهم وعلف دوابهم، وكذلك لا يستنجى بمطعوم الآدمي وعلف دوابهم نحو الحنطة والشعير أو الحشيش وغيرها.
وذكر الزندويستي أنه يستنجي بالمدر والحجر والتراب، ولا يستنجي بما سوى هذه الأشياء.
وعدد الثلاثة في الاستنجاء بالأحجار أو ما يقوم مقامها ليس بأمر لازم، والمعتبر هو الإنقاء، فإن أنقاه الواحد كفاه وإن لم ينقه الثلاث زاد عليه.
وقيل في كيفية الاستنجاء بالأحجار أن الرجل في زمن الصيف يدبر بالحجر الأول، ويقبل بالحجر الثاني، ويدبر بالثالث، وفي الشتاء يقبل بالحجر الأول ويدبر بالثاني ويدبر بالثالث؛ لأن في الصيف خصيتاه متدليتان، ولو أقبل بالأول تتلطخ خصيتاه، فلا يقبل ولا كذلك في الشتاء. والمرأة تفعل في الأحوال كلها مثل ما يفعل الرجل في الشتاء.

(1/43)


وقد قيل المقصود هو الإنقاء، فيفعل على أي وجه يحصل المقصود.
قيل في كيفية الاستنجاء بالماء: أنه ينبغي أن يجلس كأفرج ما يكون ويرخي كل الإرخاء حتى يطهر ما بداخل فرجه من النجاسة، فيغسلها وإن كان صائماً لا يبالغ في الإرخاء حتى لا يصل الماء إلى باطنه، فيفسد صومه.

وعن هذا قيل: لا ينبغي أن يقوم عن موضع الاستنجاء حتى ينشف ذلك الموضع بخرقة حتى لا يصل الماء إلى باطنه، وكذلك قيل: لا ينبغي أن يتنفس في الاستنجاء للمعنى الذي ذكرنا، ويستنجي بيساره سواء كان الاستنجاء بالماء أو بالحجر، ويستنجي بأصبع أو أصبعين أو ثلاث، ولا يستعمل جميع الأصابع لأن ذلك الموضع لا تتسع فيه الأصابع كلها، فلو استعمل الأصابع كلها يخرج الماء النجس من بين أصابعه، ويسيل على فخذيه فينجس به فخذاه وعسى لا يشعر به.
أو نقول المقصود يحصل بالثلاث، ففي الزيادة على الثلاث استعمال النجاسة بلا ضرورة، وإن كان المستنجي رجلاً يستنجي بأوساط أصابعه، وإن كان امرأة تستنجي برؤوس الأصابع عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تستنجي بأوساط الأصابع.
بقي الكلام بعد هذا في عدد سكب الماء، وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من لم يقدر في ذلك تقديراً وفوضه إلى رأي المستنجي، وقال: يغسل إلى أن يقع في قلبه أنه قد طهر، وبعضهم قدروا في ذلك تقديراً، واختلفوا فيما بينهم، فمنهم من قدره بالثلاث، ومنهم من قدره بالسبع، ومنهم من قدره بالتسع، ومنهم من قدره بالعشر، ومنهم من قدره في الإحليل بالثلاث، وفي المقعد بالخمس.
وينبغي أن يستنجي بعد ما خطا خطوات حتى لا يحتاج إلى إعادة الطهارة، وإن كان المستنجي لابس الخفين وماء الاستنجاء يجري تحت خفه يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، إلا إذا كان على الخف خروق، ويدخل ماء الاستنجاء باطن الخف، فحينئذٍ يغسل باطن الخف، وإن كانت الخروق بحالٍ يدخل الماء فيها من جانب ويخرج من جانب آخر يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار رحمه الله.

وفي قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله: أنه سئل عن رجل شلت يده اليسرى، ولا يقدر أن يستنجي بها كيف يستنجي؟ قال: إن لم يجد من يصب الماء عليه والماء في الإناء لا يستنجي، وإن قدر على الماء الجاري يستنجي بنفسه، وإن كانت يداه كلاهما قد شلتا ولا يستطيع الوضوء والتيمم، قال: يمسح يده على الأرض يعني ذراعيه مع المرفقين ويمسح وجهه على الحائط ويجزىء ذلك عنه، ولا يدع الصلاة على كل حال.

(1/44)


وفيه أيضاً الرجل المريض إذا لم يكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ، وهو لا يقدر على الوضوء، قال: يوضئه ابنه أو أخوه غير الطهور، فإنه لا يمس فرجه ويسقط عنه الاستنجاء، وفرائض المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج ومن لا يقدر على الوضوء ولها أخت، قال: توضئها الأخت إلا الطهور وسقط عنها الاستنجاء.
ثم الاستنجاء بالأحجار إنما يجوز إذا اقتصرت النجاسة على موضع الحدث، وأما إذا تعدت عن موضعها بأن جاوزت الفرج أجمعوا على أن ما جاوز موضع الفرج من النجاسة إذا كان أكثر من قدر الدرهم إنه يفرض غسلها بالماء، ولا يكفيه الإزالة بالأحجار.
وإن كان ما جاوز موضع الفرج أقل من قدر الدرهم أو قدر الدرهم إلا أنه إذا ضم موضع الفرج يكون أكثر من قدر الدرهم، فأزالها بالحجر ولم يغسلها بالماء فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أنه يجوز ولا يكره.
وعلى قول محمد رحمه الله لا يجوز إلا أن يغسله بالماء، وهكذا روي عن أبي يوسف أيضاً. وإذا كانت النجاسة على موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدرهم واستجمر ولم يغسلها ذكر في «شرح الطحاوي» أن فيه اختلاف، بعضهم قالوا: إن مسحه بثلاثة أحجار والماء جاز، قال: وهو أصح، وبه قال الفقيه أبو الليث رحمه الله.

وإذا استنجى بالأحجار ثم سبح في ماء قليل أو جلس في طست ماء، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «غريب الرواية» : إن قيل لا ينجس فله وجه، وإن قيل ينجس فلا وجه، قال: وهو الأصح، وبه كان يقول الناطفي، ذكره في «الهداية» ، وإن خرج من ذلك الموضع دم أو قيح أو أصابه نجاسة أخرى لا يجزئه الإزالة بالأحجار والله تعالى أعلم.
ومن السنة: النية، وإذا تركها تجزئه صلاته عندنا، وتكلموا في أنه إذا ترك النية هل يثاب ثواب الوضوء؟ قال الأكثر من المتقدمين من أصحابنا؛ لا يثاب، وقال بعض المتأخرين: يثاب، هكذا ذكره الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، وأشار الكرخي في «كتابه» إلى أن الوضوء الذي هو بغير النية ليس الوضوء الذي أمر به الشرع، وإذا لم ينو فقد أساء وأخطأ وخالف السنّة إلا أنه تجوز صلاته؛ لأن الحدث لا يبقى مع الوضوء ثم كيف ينوي حتى تكون متممة للسنّة، قالوا: ينوي إزالة الحدث أو إقامة الصلاة.
ومن السنّة: الترتيب في الوضوء يبدأ بيديه إلى الرسغ ثم بوجهه ثم بذراعيه ثم برأسه ثم برجله. ومن السنّة أيضاً الموالاة. ومن السنّة السواك، وينبغي أن يكون السواك من أشجار مرة؛ لأنه يطيب نكهة الفم ويشد الأسنان ويقوي اللثة، وليكن رطباً في غلظ الخنصر وطول الشبر، ولا يقوم الإصبع مقام الخشب، حال وجود الخشب، فإن لم توجد الخشبة فحينئذٍ تقوم الإصبع مقامها.
ومن السنّة أيضاً أن يتمضمض ثلاثاً، ويستنشق الماء، والمضمضة والاستنشاق نفلان في الوضوء عندنا، ولكنهما سنّتان والمبالغة فيهما سنّة أيضاً.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: المبالغة في المضمضة أن يخرج الماء من

(1/45)


جانب إلى جانب، وقال شيخ الإسلام: المبالغة (3ب1) في المضمضة الغرغرة.

وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة تكثير الماء حتى يملأ الفم فإن لم يملأ الفم يغرغر حينئذٍ، والمبالغة في الاستنشاق أن يضع الماء على منخريه ويجذبه حتى يصعد من أنفه، وبعضهم قالوا المبالغة في الاستنشاق في الاستنثار.
وتكون المضمضة باليد اليمنى والاستنشاق باليد اليسرى، وفي بعض المواضع: إذا تمضمض واستنشق، فليس عليه أن يدخل أصبعه في فمه وأنفه.
قال الزندويستي: والأولى أن يفعل ذلك وينبغي أن يأخذ لكل واحد منهما ماء على حدة عندنا، وإن أخذ الماء بكفه ورفع منه بفمه ثلاث مرات وتمضمض يجوز مثله، ولو رفع الماء من الكف بأنفه ثلاث مرات واستنشق لا يجوز؛ لأن في الاستنشاق يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف، وفي المضمضة لا يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف لأنه يرميه إلى الأرض.
ومن السنّة تكرار الغسل ثلاثاً فيما يفرض غسله نحو اليدين والوجه والرجلين، لما روي أن رسول الله عليه السلام؛ «توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من يضاعف الله تعالى له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم» قيل: المراد زاد على أعضاء الوضوء، أو نقص على أعضاء الوضوء.
وقيل زاد على الحد المحدود أو نقص عن الحد المحدود.
وقيل المراد زاد على الثلاث أو نقص متعمداً؛ لأن السنّة هذا فأما إذا زادهما بنية الطب عند السواك أو بنية وضوء آخر فلا بأس به؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما (لا) يريبه.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن من توضأ وزاد على الثلاث هل يكره؟ كان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: يكره، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: لا يكره، إلا أن يدعي أن السنّة في الزيادة، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان من نعته الزيادة تكره، وإن كان من نعته تجديد الوضوء لا يكره بل يستحب له ذلك.

وذكر الناطفي في «الهداية» ، أن الوضوء مرة واحدة فرض ومرتين فضيلة وثلاثاً في المغسولات سنة وأربعاً بدعة، وهذا كله إذا لم يفرغ من الوضوء، فأما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء، فلا كراهة بالاتفاق، ذكره في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والأصل فيه

(1/46)


قوله عليه السلام: «من توضأ على وضوء يكتب له عشر حسنات» .
ومن السنّة: استيعاب جميع الرأس في المسح وتكرار المسح والاستيعاب بماء واحد لا بأس به، فالتثليث في المسح بماء.... بدعة، هكذا ذكره شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رواية أبي حنيفة أنه يمسح ثلاث مرات يأخذ لكل مرة ماءً جديداً، وقد روي عن معاذ بن جبل أنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّمتوضأ مرة مرة ورأيته توضأ مرتين مرتين ورأيته توضأ ثلاثاً ثلاثاً وما رأيته مسح برأسه إلا مرة واحدة» .
وبيان كيفية الاستيعاب: أن يأخذ الماء ويبل كفه وأصابعه ثم يلصق الأصابع، ويضع على مقدم رأسه من كل يد ثلاث أصابع، ويمسك إبهاميه وسبابتيه ويجافي بين كفيه، ويمدهما إلى قفاه، ثم يرسل الأصابع ويضع كفيه ويمسح على فوديه بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحتيه حتى يصير ماسحاً جميع الرأس ببلل لم يصر مستعملاً والرواية من مقدم الرأس قول عامة المشايخ.
وروي عن أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله أنه يبدأ من أعلى رأسه، فيمد يديه إلى مقدم جبينه، ثم إلى قفاه، وذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله: يبدأ في مسح الرأس من مقدم الرأس، ويجرهما إلى مؤخر الرأس ثم يعيدهما إلى مقدم الرأس، ولا تكون الإعادة استعمال المستعمل؛ لأن اليد ما دام على العضو لا يأخذ حكم الاستعمال وإذا غسل الرأس مع الوجه أجزأه عن المسح هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن في الغسل مسح وزيادة ولكن يكره لأنه خلاف ما أمر به.

ومن السنّة: مسح الأذنين بالماء الذي يمسح به الرأس، ولا يأخذ لهما ماءً جديداً، وقال الشافعي: يأخذ لهما ماءً جديداً؛ لأنهما عضوان منفصلان؛ ولهذا كان مسح الرأس فرضاً ومسح الأذنين سنّة، ولا يكتفى فيها بماء واحد كالمضمضة والاستنشاق مع غسل الوجه، ولنا قوله عليه السلام: «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم لا بيان الحقيقة؛ لأنه مشاهد ولا حكم لجعل الأذنان فيه من الرأس إلا ما قلنا، وأما المضمضة والاستنشاق، فيؤخذ لهما ماء جديد في ظاهر الرواية، وروى ابن شجاع أنه إذا أخذ

(1/47)


غرفة، فتمضمض بها وغسل وجهه جاز، فإن أخذنا بهذه الرواية نحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق على ظاهر الجواب أن المضمضة والاستنشاق يكون مقدماً على غسل الوجه فلو أصابهما بماء واحد صار المفروض تبعاً للمسنون، وذلك لا يجوز، ولا كذلك الأذنان مع الرأس، وإدخال الإصبع في صماخ أذنيه أدب وليس بسنّة هو المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه كان يرى ذلك.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه يدخل الخنصر في صماخ أذنيه ويحركها، ويرويان في ذلك حديثاً عن «النبي صلى الله عليه وسلّموعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك» .
لم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» مسح الرقبة، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إنه سنّة وبه أخذ أكثر العلماء، وقال أبو بكر بن أبي سعيد: إنه ليس بسنّة، وبه أخذ بعض العلماء، وقد روت الربيع بنت معوذ بن عفراء: «أن رسول الله عليه السلام مسح على رأسه وأذنيه ورقبته في بيتها» .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «امسحوا رقابكم قبل أن تغل بالنار» .
وأما تخليل اللحية فليس بمسنون، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول محمد وقال أبو يوسف هو سنّة.

ومن السنّة عند غسل الرجلين أن يأخذ الإناء بيمينه وألقاه على مقدم رجله الأيسر، ودلكه بيساره، وإنما أخبرنا اليسار والدلك؛ لأن الرجل موضع الأذى واليسار للأذى، وإنما بدأنا من مقدم الرجل؛ لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية، وكذلك في غسل اليدين يبدأ من رؤوس الأصابع، لأن الله تعالى جعل المرفق غاية.
(آداب الوضوء)
جئنا إلى بيان الأدب فنقول: من الأدب أن لا نسرف ولا نقتر، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن هذا سنّة.
ومن الأدب أن يقول عند غسل كل عضو: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، به ورد «الأثر عن رسول الله عليه السلام» . ومن الأدب أن لا يتكلم فيه بكلام الناس.
ومن الأدب: أن يتولى أمر الوضوء بنفسه لحديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «إنا لا نستعين على طهورنا» ، مع هذا لو استعان بغيره جاز بعد أن لا يكون الغاسل

(1/48)


غيره، بل يغسله بنفسه، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام استعان بغيره، وكان المغيرة يفيض الماء ورسول الله عليه السلام كان يغسل» .
ومن الأدب: أن لا يترك عورته مكشوفة يعني بعد الاستنجاء، فقد قيل: الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم إذا وجدها مكشوفة.
ومن الأدب أن يتأهب للصلاة قبل الوقت، لما روي عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال: من لم يتأهب للصلاة قبل الوقت لم يوقر لها. ومن الأدب أن يقول بعد الفراغ من الوضوء: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله عبده ورسوله.
ومن الأدب أن لا يمسح سائر أعضائه بالخرقة التي يمسح بها موضع الاستنجاء.
ومن الأدب: أن يستقبل القبلة عند الوضوء بعد الفراغ من الاستنجاء.
ومن الأدب: أن يقول بعد الفراغ من الوضوء (4أ1) أو في خلال الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.

ومن الأدب: أن يشرب فضل وضوئه أو بعضه مستقبل القبلة إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زادة رحمه الله أنه يشرب ذلك قائماً قال: ولا يشرب الماء قائماً، إلا في موضعين أحدهما: هذا، والثاني: عند زمزم.
ومن الأدب: أن يصلي ركعتين بعد الفراغ من الوضوء، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال لبلال: «مالك سبقتني إلى الجنة، فقال بلال: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم «كنت أمس البارحة في الجنة، فسمعت أمامي خَشخَشَتَك (بجزم الشين أو بفتح الشين) فنظرت، فإذا هي أنت، فقال بلال: ما توضأت قط إلا رأيت لله تعالى عليّ صلاة ركعتين، فقال عليه السلام: «هي ذاك» الخشخشة بالجزم صوت النعلين وبالفتح الحركة.
ومن الأدب: أن يملأ آنيته بعد الفراغ من الوضوء لصلاة أخرى والله أعلم.
x

الفصل الثاني: في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب
هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه الغائط يوجب الوضوء قل أو كثر، وكذلك البول، وكذلك الريح الخارج من الدبر، واختلف المشايخ أن عين الريح نجس، أو هو طاهر إلا أنه يتنجس بمروره على النجاسة، قالوا: وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا

(1/49)


خرج منه الريح وعليه سراويل مبتلة هل تتنجس سراويله، فمن قال عينه نجس يقول تتنجس، ومن قال عينه ليس بنجس يقول لا تتنجس.
وأما الريح الخارج من قبل المرأة وذكر الرجل، فقد روي عن محمد أنه يوجب الوضوء، هكذا ذكر القدوري، وبه أخذ بعض المشايخ، وقال أبو الحسن الكرخي: لا وضوء فيه إلا أن تكون المرأة مفضاة، فيستحب لها الوضوء.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله يقول: إذا كانت المرأة مفضاة يجب عليها الوضوء، وما لا فلا، وهكذا ذكر هشام عن محمد في «نوادره» .

ومن المشايخ من قال في المفضاة: إن كان الريح، نتناً يجب عليها الوضوء ومالا فلا، والدودة إذا خرجت من قبل المرأة، فعلى الأقاويل التي ذكرنا، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» ، وفي «القدوري» : أنها توجب الوضوء.
وإن خرجت من الدبر وجب الوضوء بلا خلاف، فرق بين الخارج من الدبر وبين الخارج من الجراحة.
فإن الدودة الخارجة عن رأس الجراحة لا تنقض الوضوء، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن الخارج من الدبر يولد من محل النجاسة، فيكون نجساً والساقط عن رأس الجرح يولد من محل الطهارة لأنه يولد عن اللحم واللحم طاهر والمتولد منه يكون طاهراً.
والثاني: أن عين الساقط حيوان ليس من جملة الأحداث إنما الحدث ما عليه من البلة وهي قليلة، غير أن القليل حدث في السبيلين، وليس بحدث في سائر الجراحات، لعدم السيلان، وعلى قياس مسألة الدودة الساقطة عن رأس الجراحة استحسن المشايخ في العرق المدني الذي يقال له بالفارسية «رشته» لو خرج من عضو إنسان لا ينقض وضوؤه، وإن خرجت الدودة من الإحليل حكي عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله أنه ينقض، وكان يحيله إلى «فتاوى خوارزم» .
ولو خرجت الدودة من الفم قيل لا تنقض الوضوء وكذلك الخارجة من الأذن والأنف لا تنقض الوضوء. والمذي ينقض الوضوء، وهو الماء الأبيض الذي يخرج بعد البول، وكذلك الحصاة إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء؛ لأنها لا تخلو عن بلة وتلك البلة بانفرادها إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء.
والمني إذا خرج من غير شهوة بأن حمل شيئاً، فسبقه المني أو سقط من مكان مرتفع، فخرج منه مني لم يجب عليه الغسل لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويوجب الوضوء، وكذا دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء عندنا، والأصل فيه قوله

(1/50)


عليه السلام: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» ، ولأنه خارج نجس فيكون حدثاً كالغائط والبول.

وفي هذا المقام نحتاج إلى بيان حد الاستحاضة، فنقول: الاستحاضة إنما تعرف باستمرار الدم بها وقت صلاة كامل، حتى أنه لو سال الدم في وقت صلاة، فتوضأت وصلت ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى وانقطع الدم ودام الانقطاع إلى آخر الوقت، توضأت وأعادت تلك الصلاة، وإن لم ينقطع الدم في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت جازت تلك الصلاة؛ لأن في الوجه الأول السيلان لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يحكم باستحاضتها. وثبوت الطهارة مع السيلان أمر عرف بثبوتها في حق المستحاضة، فإذا لم يحكم باستحاضتها تبين أنها صلت بغير طهارة، فلزمها الإعادة.
وفي الوجه الثاني: السيلان استوعب وقت صلاة كامل، فحكم باستحاضتها، فتبين أنها صلت بطهارة، فلا يلزمها الإعادة، وإنما شرطنا استيعاب السيلان وقت صلاة كامل اعتباراً لظرف الثبوت بظرف السقوط، فإن المستحاضة إذا انقطع دمها وقت صلاة كامل خرجت من أن تكون مستحاضة، وإن كان أقل من ذلك لا تخرج من أن تكون مستحاضة،
ومتى حكم باستحاضتها في وقت صلاة إنما يحكم بذلك في وقت صلاة أخرى إذا وجد السيلان في وقت الصلاة الأخرى مقارناً للوضوء، أو طارئاً على الوضوء، ولا يكتفى بوجود السيلان في وقت الصلاة الأخرى سابقاً على الوضوء، حتى إن المرأة إذا استحيضت، فدخل وقت العصر ودمها سائل، وانقطع فتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها.
ولو حكم باستحاضتها لا تنقض طهارتها بخروج وقت العصر؛ لأن طهارة المستحاضة تنتقض بخروج الوقت على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فينبغي أن لا تمضي على صلاتها، وحد صيرورة الإنسان صاحب جرح سائل بالسلس والرعاف والدمامل والجراحات واستطلاق البطن وحد المستحاضة سواء؛ لأن المعنى يجمعهما.

وكان الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله يقول: صاحب الجرح السائل أن يسيل جرحه في وقت الصلاة مرتين أو مراراً، فإن كان أقل من ذلك لا يكون صاحب جرح سائل. وفي «الفتاوى» : وينبغي لمن رعف أو سال من جرحه دم أن ينتظر آخر الوقت، وإن لم ينقطع الدم يتوضأ ويصلي.
بعد هذا يحتاج إلى معرفة أحكام المستحاضة ومن بمعناها وبمسائلها، وإنها تنبني على أصول:
أحدها: أن الثابت مع المنافي لضرورة يتقدر بقدر الضرورة؛ لأن الموجب للثبوت الضرورة، فإذا ارتفعت الضررة فقد ارتفع الموجب للثبوت، فينبغي نقضه الباقي.

(1/51)


قلنا وطهارة المستحاضة ثابتة مع قيام المنافي، وهو السيلان، لضرورة وهي الحاجة إلى الطهارة، ولإسقاط ما في الذمة من الصلاة المفروضة بالأداء إذ لا أداء إلا بالطهارة، فثبتت الطهارة، وكلما مست الضرورة إلى الثبوت مست الضرورة إلى البقاء إذ لا أداء إلا بالبقاء، كما لا أداء إلا بالثبوت.
بعد هذا اختلف العلماء في تقدير هذه الطهارة، فالشافعي رحمه الله قدرها بالأداء حتى قال: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مكتوبة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل؛ لأن ثبوت طهارتها ضرورة الحاجة إلى أداء المفروضة وإذا أدى المفروضة في وقتها فقد ارتفعت الضرورة إذ المشروع في وقت فرض واحد على ما على الأصل.
ولا يجوز بقاء ما ثبت بالضرورة بعد ارتفاع الضرورة، وإليه أشار علماؤهم في قوله: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أن النوافل تابعة للفرائض، فتثبت الطهارة في حق النوافل بطريق التبعية، أما فرض آخر فليس بتبع لهذا الفرض فثبوت الطهارة في حق فرض الوقت لا يوجب ثبوت الطهارة في حق فرض آخر (4ب1) .

وعلماؤنا رحمهم الله قدروا البقاء بالوقت حتى قالوا المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل والفرائض في الوقت؛ لأن الفرض معرفة مقدار البقاء، وذلك إنما يحصل بتقديره بما هو معلوم في نفسه، وفعل الأداء يتفاوت بتفاوت الناس، فقدرناه بالوقت لكونه معلوماً في نفسه بالتفاوت، فيصير مقدار بقاء الطهارة معلوماً، ولأن ثبوت الطهارة وإن كان ضرورة الحاجة إلا أن الوقت قائم مقام الحاجة؛ لأن لها حق التنفل كل الوقت بالأداء إلا أن الشرع رخص لها صرف بعض الأزمان إلى حاجة نفسها تيسراً عليها، وشرع اليسر بطريق الرخصة لا يوجب بطلان اليسر المتعلق بالعزيمة واليسر المتعلق بالعزيمة بقاء الطهارة ما بقي الوقت، وإليه أشار عليه السلام في قوله: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» وما روي محمول على الوقت، فإن اسم الصلاة يحتمل الوقت قال عليه السلام: «إن للصلاة أولاً وآخراً» أي لوقت الصلاة أولاً وآخراً، فوجب العمل على الوقت توفيقاً بين الروايتين، وإذا تقدر بقاء الطهارة بالوقت كان لها أن تصلي في الوقت ما شاءت.
ثم إذا خرج الوقت في الصلوات التي اتصلت أوقاتها لانعدام الوقت المهمل بين أوقاتها وثبت انتقاض الطهارة تضاف بالانتقاض إلى خروج الوقت، أو إلى دخول وقت آخر، وقال عامة المشايخ: إن على قول أبي حنيفة ومحمد تضاف إلى خروج الوقت. وعند زفر تضاف إلى دخول وقت آخر. وعند أبي يوسف تضاف إلى أيهما وجد.
وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصلوات التي اتصلت أوقاتها؛ لأن ما من وقت يخرج إلا ويدخل وقت آخر وما من وقت يدخل إلا ويخرج وقت آخر، وإنما تظهر في

(1/52)


الصلوات التي لا تتصل أوقاتها، ولذلك صورتان:

إحداهما: إذا توضأت بعد طلوع الفجر للفجر، وطلعت الشمس تنتقض طهارتها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بخروج الوقت، حتى لم يكن لها أن تصلي صلاة الضحى بتلك الطهارة، وكذلك عند أبي يوسف؛ لأنه يعتبر أي الأمرين وجد إما الخروج أو الدخول، وعند زفر لا تنتقض لانعدام دخول الوقت.
والثانية: إذا توضأت بعدما طلعت الشمس لا تنتقض طهارتها إلا بخروج وقت الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، حتى كان لها أن تصلي الظهر بتلك الطهارة، وعند أبي يوسف وزفر تنتقض بدخول وقت الظهر.
والصحيح ما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن طهارة المستحاضة للحاجة إلى أداء فرض الوقت، وخروج الوقت يدل على انقضاء الحاجة، وانقضاء الحاجة يدل على انتقاض الطهارة، أما دخول الوقت يدل على تحقق الحاجة، وتحقق الحاجة يدل على ثبوت الطهارة يجب أن يضاف انتقاض الطهارة إلى خروج الوقت الدال على انتفاء الحاجة التي تدل على انتقاض الطهارة، لا إلى دخول الوقت الدال على تحقق الحاجة التي تدل على ثبوت الطهارة.
وأصل آخر: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت عندهما يستند الانتقاض إلى السيلان السابق، وهذا لأن خروج الوقت ليس سبباً لانتقاض الطهارة؛ لأنه ليس بحدث، ولا يثبت حكم ما بغير سبب، فيثبت الانتقاض مستنداً إلى السيلان السابق، ليكون الانتقاض بسببه هذا كما قلنا في البيع بشرط الخيار إذا سقط الخيار بمضي المدة أو بإسقاطهما ويثبت الملك، يثبت مستنداً إلى البيع ولا يقتصر، لأن الملك حكم لا بد له من السبب، ولا سبب هنا سوى البيع ويستند الملك إليه ليكون ثبوت الملك بسببه إلا أن الاستناد إنما يظهر في حق القائم من الأحكام، ولا يظهر في حق المقتضي، ولهذا لا يظهر في حق الصلاة المؤداة حتى لا يبطل ما أدت من الصلاة.
وأصل آخر: أن الطهارة متى وقعت للسيلان لا يضرها سيلان مثله في الوقت ويضرها حدث آخر، وخروج الوقت. ومتى وقعت للحدث يضرها حدث آخر والسيلان، ولا يضرها خروج الوقت، وإنما تعتبر الطهارة واقعة للسيلان إذا كان السيلان مقارناً للطهارة حقيقة أو اعتباراً، فالحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعاً وقت الطهارة حقيقة ثم سال قبل أن يستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، ويشترط مع ذلك أن تكون الطهارة محتاجاً إليها لأجل السيلان.
وإنما تعتبر الطهارة واقعة للحدث إذا لم يكن السيلان مقارناً للطهارة حقيقة واعتباراً والحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعاً وقت الطهارة واستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، أما الطهارة إذا وقعت للسيلان إنما لا يضرها سيلان مثله في الوقت؛ لأن الدم يسيل مرة بعد مرة فتبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فتحرج ويضرها حدث آخر؛ لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في الوقت لا محالة.

(1/53)


وإن كان يوجد إلا أنه لا يوجد مرة بعد مرة، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها خروج الوقت لما ذكرنا أن طهارة المستحاضة مقدرة بالوقت، فلا تبقى بعد خروج الوقت؛ وأما إذا وقعت الطهارة للحدث إنما يضرها حدث آخر لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها السيلان أيضاً؛ لأنه لا حرج فيه؛ لأنها لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت أيضاً؛ لأن السيلان إنما يوجد بعد مضي وقت صلاة كامل إذا كانت الطهارة واقعة للحدث، ولا يضرها خروج الوقت؛ لأن الطهارة عن الحدث ليست بطهارة ضرورية مع قيام المنافي، فكانت هذه الطهارة وطهارة الصحيح سواء، طهارة الصحيح لا يضرها خروج الوقت كذا ههنا.
مسائل الأصل الأول ذكرناها في الأصل الأول.
مسائل الأصل الثاني بعضها يأتي في فصل المسح على الخفين، وبعضها في آخر هذا النوع.

مسائل الأصل الثالث

إذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت ثم انقطع الدم بعد الوضوء، فصلت الظهر ودام الانقطاع إلى أن خرج وقت الظهر تنتقض طهارتها؛ لأن هذه الطهارة وقعت للسيلان لكون السيلان مقارناً لها، وقد ذكرنا أن الطهارة الواقعة للسيلان يضرها خروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر والدم منقطع وصلت العصر ثم سال الدم بعد ذلك في وقت العصر لا تنتقض طهارتها؛ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها اعتباراً بثباته، وهو من الانقطاع الناقص، وهو الانقطاع الذي لا يستوعب وقت صلاة كامل، وإنما يوجد في بعض وقت الصلاة دون البعض ليس بفاصل بين الدمين والانقطاع التام الذي يستوعب وقت صلاة كامل فاصل، وهذا لأن الدم لا يسيل على الولاء، بل ينقطع ساعة ويسيل أخرى، فلو جعلنا الناقص فاصلاً تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا يمكنها إقامة الصلاة في الوقت أبداً. أما لو جعلنا الكامل فاصلاً لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت فعليها الأداء في الوقت.
إذا ثبت هذا، فنقول في مسألتنا: الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يصر فاصلاً بل جعل كالدم المتوالي، فكان السيلان مقارناً للطهارة في وقت العصر اعتباراً، فكانت واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقياً.
فإن كان الدم لم يسل وقت العصر، بل دام الانقطاع إلى أن دخل (5أ1) وقت المغرب، فإذا توضأت تعيد الظهر، ولا تعيد العصر. وإنما تعيد الظهر لأن الانقطاع استوعب وقت صلاة كامل، فجعل فاصلاً بين الدمين، وحكم بزوال ذلك العذر، فتبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين ولا عذر بها، وإنما لا تعيد العصر؛ لأنها صلتها بطهارة كاملة، أكثر ما في الباب أن الظهر وقع فاسداً، ولكن وقوعه فاسداً ظهر للحال لا وقت أداء العصر، فوقت أداء العصر لا ظهر عليها بزعمها، فكانت في معنى الناس للظهر

(1/54)


وقت أداء العصر والترتيب يسقط بالنسيان، فإن كان حين ما توضأت للظهر الدم سائل، فصلت الظهر والدم كذلك سائل ثم انقطع بعد ذلك، وسال في وقت المغرب لا تعيد الظهر؛ لأنه تبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين والعذر قائم من أوله إلى آخره، وإنما زال العذر بعد الفراغ منها، وزوال العذر بعد الفراغ لا يوجب الإعادة، كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ، والعاري إذا وجد الثوب بعد الفراغ.
وإذا استحيضت المرأة فدخل وقت العصر ودمها سائل، فتوضأت والدم كذلك سائل، فقامت تصلي العصر فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس انتقضت طهارتها؛ لأن طهارتها وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها، فتنتقض بخروج الوقت. فتتوضأ وتستأنف الصلاة، ولا تبني لما ذكرنا أن انتقاض الطهارة بخروج الوقت يستند إلى وقت السيلان السابق، فتبين من وجه أن الشروع في الصلاة كان مع الحدث، وجواز البناء عرف شرعاً بخلاف القياس في موضع كان الحدث طارئاً على الشروع من كل وجه فبينما عداه يبقى على أصل القياس.
ولو دخل وقت العصر ودمها سائل وانقطع، وتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها ولا تعيد الوضوء، وإن سال الدم بعد ذلك في وقت المغرب وهي في العصر تعيد، فإنها تتوضأ وتبني على صلاتها.

طعن عيسى بن أبان رحمه الله فقال: ينبغي أن تعيد الوضوء ولا تمضي على صلاتها؛ لأن الطهارة ههنا وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها حكماً؛ لأن الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت المغرب، فلا يجعل فاصلاً بين الدمين كما قلتم في مسألة الطهر التي تقدم ذكرها، بل يجعل الدم المتوالي، فكان السيلان قائماً حكماً، فكانت الطهارة واقعة للسيلان فتنتقض بخروج الوقت، وإذا انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض إلى الحدث، وتبين أن الشروع كان مع الحدث من وجه، فينبغي أن تستأنف الصلاة.
والجواب: أن السيلان منقطع حقيقة وقت الوضوء، إلا أن الانقطاع الناقص لا يجعل فاصلاً، ويجعل السيلان قائماً حكماً تخفيفاً عليها، كما في مسألة الظهر التي تقدم ذكرها، فإن هناك لو جعلنا الانقطاع الناقص فاصلاً تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلم يجعل فاصلاً، وجعل السيلان قائماً حكماً تخفيفاً عليها.
فأما ههنا لو لم يجعل الانقطاع الناقص فاصلاً، وجعلنا السيلان قائماً حكماً،

(1/55)


كانت طهارتها في وقت العصر واقعة للسيلان، فتنتقض بخروج الوقت، وفي ذلك تغليظ عليها، فيعود على موضوعه بالنقض، وإنه لا يجوز، وإذا لم تنتقض طهارتها بخروج وقت العصر لا يستند الانتقاض إلى وقت الحدث السابق، فلا يتبين أن الشروع كان مع الحدث والله أعلم.
وإذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت وصلت ودمها كذلك سائل، ثم انقطع الدم وأحدثت حدثاً آخر غير الدم وتوضأت لحدثها والدم كذلك منقطع، ثم دخل وقت العصر، لا تنتقض طهارتها؛ لأن الطهارة الثانية في وقت الظهر ما وقعت للسيلان، لعدم مقارنة السيلان إياها وعدم طريانه عليها، فلا ينتقض بخروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر مع أن طهارتها لم تنتقض بخروج وقت الظهر والدم كذلك منقطع ثم سال الدم، فعليها أن تتوضأ.
وكان ينبغي أن لا تتوضأ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان؛ لكون السيلان مقارناً لها اعتباراً لأن الانقطاع لو لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت العصر، فيجعل السيلان قائماً حكماً، فكانت الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله في الوقت.
والجواب: أن الطهارة إنما تعتبر للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجاً إليها، لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها أصلاً؛ لأن الطهارة الثابتة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجاً إليها، فصار وجودها والعدم بمنزلة، والطهارة الثابتة في وقت الظهر كانت واقعة عن الحدث حتى لم تنتقض بخروج الوقت، فجاز أن تنتقض بالسيلان، ولأن الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا اعتبر السيلان قائماً حكماً؛ لأن السيلان وقت الطهارة منقطعة عنها حقيقة، وإنما يعتبر السيلان قائماً حكماً فيما كان منقطعاً حقيقة تخفيفاً عليها، وههنا لو اعتبرنا السيلان قائماً حكماً كان فيه تغليظ عليها.
بيانه: أنا لو اعتبرنا السيلان قائماً حكماً كان طهارتها الثابتة في وقت الظهر واقعة للسيلان، فيلزمها الوضوء بخروج وقت الظهر، فلا يعتبر السيلان قائماً حكماً فلم تكن الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان.
فإن قيل: في اعتبار السيلان قائماً حكماً تخفيف عليها، وإن طهارتها في وقت العصر تكون واقعة عن السيلان، فلا يلزمها الوضوء متى سال الدم بعد ذلك في وقت العصر. قلنا؛ يوجه في هذه المسألة تحقيقان واعتبارهما متعذر لما فيهما من التنافي، فكان اعتبار التخفيف فيما ذكرنا أولى، لا أنا اعتبرنا التخفيف فيما هو سابق وأصل، وأنتم اعتبرتم التخفيف فيما هو متأخر وتبع، فكان ما قلناه أولى من هذا الوجه.

وكذلك لو أحدثت حدثاً آخر غير الدم في وقت العصر، فتوضأت لذلك الحدث ثم سال الدم بعد الوضوء في وقت العصر كان عليها أن تتوضأ، وكان ينبغي أن لا تتوضأ؛ لأن طهارتها ههنا وقعت للسيلان لكون الطهارة محتاجاً إليها، ولمقارنة السيلان إياها، فينبغي أن لا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقياً.

(1/56)


والجواب: الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجاً إليها؛ لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها؛ لأجل السيلان؛ لأنها إنما تكون محتاجاً إليها لأجل السيلان إن لو كانت الطهارة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجاً إليها؛ لأجل السيلان إليها بل كانت محتاجاً إليها لأجل الحدث، فاعتبرت واقعة عن الحدث، فجاز أن تنتقض بالسيلان وإن كانت في الوقت.
وفي «الفتاوى» : وينبغي لصاحب الجرح أن يعصب الجرح، ويربط تقليلاً للنجاسة، ولو ترك التعصيب لا بأس به، وإن سال الدم بعد الوضوء حتى نفذ الرباط يصلي كذلك، وتجوز صلاته.
وإن أصابت ثوبه من ذلك الدم أكثر من قدر الدرهم لزمه غسل الثوب إذا علم أنه لو غسله لا يصيبه الدم ثانياً وثالثاً، أما إذا علم أنه يصيبه ثانياً وثالثاً لا يفترض عليه غسله.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا كان له جرح سائل، وقد شد عليه خرقة، فأصابها أكثر من قدر الدرهم أو أصاب ثوبه أكثر من قدر الدرهم، إن كان بحال لو غسل يتنجس قبل الفراغ من الصلاة ثانياً جاز له أن لا يغسل ويصلي قبل أن يغسله، وإلا فلا. قال الصدر الشهيد رحمه الله هو المختار.
وفي «الأجناس» : رجل يسيل من أحد منخريه دم فتوضأ والدم سائل، ثم احتبس الدم من هذا المنخر وسال من المنخر الآخر انتقض وضوءه، وإن كان به دمامل (5أ1) أو جدري منها ما هي سائلة، ومنها ما ليست بسائلة وبعضها سائلة، ثم سالت التي لم تكن سائلة انتقض وضوؤه، والجدري قروح وليست بقرحة واحدة.

وفي «المنتقى» : أبو سليمان عن محمد رحمهما الله: رجل به جرحان لا يرقآن، فتوضأ ثم رقأ أحدهما قال: يصلي، وكذلك إن سكن هذا الآخر وسال الذي كان ساكناً؛ لأنهما في هذا بمنزلة جرح واحد.
الحائض إذا حبست الدم عن الخروج لا تخرج من أن تكون حائضاً، وصاحب الجرح السائل إذا منع الدم عن الخروج لا يخرج من أن يكون صاحب جرح سائل، فعلى هذا المفتصد لا يكون صاحب جرح سائل، وأما المستحاضة إذا منعت الدم عن الخروج هل تخرج من أن تكون مستحاضة؟ ذكر هذه المسألة في «الفتاوى الصغرى» .... إنها تخرج من أن تكون مستحاضة حتى لا يلزمها الوضوء في وقت كل صلاة وذكر في موضع آخر إنها لا تخرج من أن تكون مستحاضة.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف أنه سئل عن المستحاضة تحتشي ثم تصلي ولا يسيل الدم؟ الاحتشاء إذا منع ظهور الدم في حق المستحاضة لم يمنع حكم الاستحاضة، وفي الدبر الاحتشاء إذا منع ظهور الحدث منع حكمه، وهو الوضوء حتى إن من به

(1/57)


استطلاق بطن إذا حشا دبره كيلا يخرج منه شيء، فلم يخرج فلا وضوء عليه، وليس بحدث حتى يظهر منه. وإذا حشا إحليله بقطنة خوفاً من خروج البول، ولولا القطنة يخرج منه البول، فلا بأس به، ولا ينتقض وضوءه حتى يظهر البول على القطنة، وإن ابتل الطرف الداخل من القطنة ولم ينفذ أو نفذ لكن الحشو متسفل عن رأس الإحليل لا يعطى له حكم الخروج حتى لا ينتقض وضوءه، وإن كان الحشو عالياً عن رأس الإحليل أو محاذياً لرأس الإحليل إن نفذ يعطى له حكم البروز، وينتقض وضوءه، وإن لم ينفذ لا يعطى له حكم البروز ولا ينقض وضوءه، وإن سقطت القطنة إن كانت رطبة يثبت لها حكم البروز، وإن كانت يابسة لا يثبت لها حكم البروز.

وإذا احتشت المرأة فإن كان الاحتشاء في الفرج الخارج والفرج الخارج بمنزلة الألسن والقلفة، فإذا ابتل داخل الحشو ونفذ إلى خارجه أو لم ينفذ انتقض وضوءها، وإن كان الاحتشاء في الفرج الداخل فابتل داخل الحشو إن لم ينفذ إلى خارجه لا ينتقض وضوءها، وإن نفذ إلى خارجه إن كان الكرسف عالياً عن حرف الفرج الداخل، أو كان محاذياً له ينتقض وضوءها، وإن كان متسفلاً عنه لا ينتقض وضوءها، وإن سقط الحشو إن كان يابساً لا ينتقض وضوءها، وإن كان رطباً ينتقض وضوءها وفي حق هذا الحكم يستوي الفرجان جميعاً والله أعلم.
(نوع آخر) مما يوجب الوضوء
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : نفطة قشرت فسال منها ماء أو غيره عن رأس الجرح، ينتقض الوضوء، وإن لم يسل لا ينتقض الوضوء، وشرط السيلان لانتقاض الوضوء في الخارج من غير السبيلين، وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإنه استحسان.
وقال زفر رحمه الله: إذا علا وظهر على رأس الجرح ينتقض وضوءه، وهو القياس. وأجمعوا على أن في الخارج من السبيلين لا يشترط السيلان، ويكتفى بمجرد الظهور، وجه الاستحسان: ما روى تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «الوضوء من الدم السائل» ، وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «الوضوء من كل دم سائل» .
والمعنى: أن الحدث هو الخارج النجس، وإنما يتحقق الخروج بالانتقال عن موضع النجاسة، وإنما يتحقق الانتقال في غير السبيلين بالسيلان؛ لأن بدن الآدمي موضع الدماء والرطوبات السائلة، وإذا انقطعت الجلدة كانت الدماء بادية ظاهرة لا منتقلة عن موضعها، كالبيت إذا انهدم كان الساكن فيه ظاهراً لا منتقلاً عن موضعه، بخلاف ما إذا

(1/58)


ظهر البول عن رأس الإحليل؛ لأن موضع البول المثانة لا رأس الإحليل، فإذا ظهر على رأس الإحليل كان منتقلاً عن ضعه بيقين أما ههنا بخلافه.

يوضحه: أن ما يواري الدم من أعلى الجرح محله كان كمن سكن داراً (كان) ما يوازيه من الأعلى مكانه وحقاً له، وإذا كان ما يوازيه من الأعلى محلاً له، فبمجرد الظهور والعلو على رأس الجرح لا يتحقق الانتقال عن موضعه، فلا يتحقق الخروج، فلا يكون حدثاً كما لو لم يسل عن رأس الجرح والأعيان الخارجة من النفطة كلها مثل الدم، والقيح والصديد والماء سواء فقد تكون النفطة أولاً دماً ثم تنضج، فتصير قيحاً ثم تزداد نضجاً، فتصير صديداً ثم قد تصير دماً، وقد تكون ماءً في الأصل.
وفي لفظ النفطة لغتان: أحدهما بكسر النون، والأخرى بضم النون، وإنها اسم القرحة التي امتلأت وحان قشرها مأخوذ من قولهم: انتفط فلان إذا امتلأ غيظاً، ولو نزل الدم من الرأس إلى موضع يلحقه حكم التطهير من الأنف والأذنين ينقض الوضوء، ولو نزل البول إلى قصبة الذكر لم ينقض الوضوء والفرق: أن في المسألة الأولى النجاسة خرجت بنفسها عن محلها الباطن إلى موضع له حكم الظاهر، ولا كذلك المسألة الثانية حتى أثبت في المسألة الثانية، لو خرج إلى القلفة نقض الوضوء لزواله عن ما لَه حكم الباطن.
وكذلك إذا خرج عن فرج المرأة إلى..... لزواله عمَّاله حكم الباطن، والموضع الذي يلحقه حكم التطهير من الأنف ما لان منه، فإذا وصل الدم إلى ما لان منه انتقض وضوءه، وإن لم يظهر على الأرنبة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه أدخل أصبعه في أنفه، فأدمت فلما أخرجه رأى على أنملته دماً فمسحه ثم قام، فصلى ولم يتوضأ» وتأويله عندنا أنه بالغ في إدخاله حتى جاوز ما لان من أنفه إلى ما صلب وكان الدم فيما صلب من أنفه، وكان قليلاً بحيث لو ترك لا ينزل إلى موضع اللين، ومثل هذا ليس بناقض عندنا.
وعن محمد رحمه الله: فيمن.... فسقط من أنفه كتلة دم لم تنتقض طهارته، وإن نَقَطَ من أنفه قطرة دم انتقضت طهارته.

وإذا تبين الخنثى أنه رجل أو امرأة، فالفرج الآخر منه بمنزلة الجرح لا ينقض الوضوء ما يخرج منه ما لم يسل، وإذا كان بذكر الرجل جرح له رأسان أحدهما يخرج منه ما يسيل في مجرى البول، والآخر يخرج منه ما لا يسيل في مجرى البول، فالأول: إذا ظهر على رأس الإحليل ينقض الوضوء، وإن لم يسل بمنزلة البول؛ لأنه سال عن موضعه إلى مكان له حكم الظاهر، ولا كذلك الثاني.
المجبوب إذا ظهر منه ما يشبه البول من الموضع الذي يخرج منه البول إن كان

(1/59)


قادراً على إمساكه إن شاء أمسكه، وإن شاء أرسله إذا ظهر على رأس الثقب فهو بول ينقض الوضوء، وإن كان لا يقدر على إمساكه لا ينقض ما لم يسل، هكذا حكي عن علي الرازي.
المعلّى عن أبي يوسف إذا زال الدم عن رأس الجرح لا ينتقض وضوءه حتى يسيل.
ولو غرز رجل إبرة في يده وخرج منه الدم وظهر أكثر من رأس الإبرة لم ينتقض وضوءه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: كان محمد بن عبد الله يميل في هذا إلى أن ينتقض وضوءه ورآه سائلاً.
وفي «مجموع النوازل» : إذا حزت في عضوه شوكة أو إبرة أو نحوهما مما جرح ذلك، وظهر منه الدم ولم يسل ظاهراً انتقض وضوءه؛ لأن الظاهر أنه سال عن رأس الجرح.
وفي «فتاوى خوارزم» : الدم إذا لم ينحدر عن رأس الجرح، ولكن علا، فصار أكثر من رأس الجرح لا ينتقض وضوءه، والفتوى على أنه لا ينتقض وضوءه في جنس هذه المسائل، وإذا عصرت القرحة، فخرح منها شيء كثير، وكانت بحال لو لم يعصرها لا يخرج منها شيء ينتقض الوضوء.

وفي «مجموع النوازل» وفيه أيضاً: جرح ليس فيه شيء من الدم والقيح والصديد دخل صاحبه الحمام أو الحوض، فدخل الماء الجرح، فعصر الرجل الجرح وخرج منه الماء وسال لا ينتقض الوضوء، لأن الخارج ماء، وليس بنجس وإذا مسح الرجل الدم عن رأس الجراحة ثم خرج ثانياً، فمسحه ينظر: إن كان ما خرج (6أ1) بحال لو تركه سال أعاد الوضوء، وإن كان بحيث لو تركه لا يسيل لا ينقض الوضوء، ولا فرق بين أن يمسحه بخرقة أو أصبع وكذلك إذا وضع عليه قطنة حتى ينشف ثم صعد ففعل ثانياً وثالثاً وإنه يجمع جميع ما ينشف، فإن كان بحيث لو تركه سال جعل حدثاً، وإنما يعرف هذا بالاجتهاد وغالب الظن.
وكذلك إن كان ألقى عليه التراب ثم ظهر ثانياً وتربه ثم ثالثاً أو ألقى عليه دقيقاً أو نخالاً فهو كذلك يجمع كل ذلك، قالوا: وإنما يجمع إذا كان في مجلس واحد مرة بعد أخرى، أما إذا كان في مجالس مختلفة لا يجمع، وكذلك إذا وضع عليه دواءً حتى ينشف جميع ما يخرج منه، فلم يسل عن رأس الجرح، فإن كان ينشف بحيث يسيل بنفسه يجعل حدثاً، ومالا فلا.
وإذا خرج من أذنه قيح أو صديد ينظر، إن خرج بدون الوجع لا ينقض وضوءه، وإن خرج من وجع ينقض وضوءه؛ لأنه إذا خرج من الوجع، فالظاهر أنه خرج من الجرح، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: الشيخ إذا كان في عينيه رمد، وتسيل الدموع منها آمره بالوضوء لوقت كل صلاة: لأني أخاف أن ما يسيل قيح أو صديد، فإنه

(1/60)


قد يكون في الجفون جرح. وإذا جرح دبره إن عالجه بيده أو بخرقة حتى أدخله تنتقض طهارته، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن بمجرد خروج المقعد ينتقض وضوءه لخروج النجاسة من الباطن إلى الظاهر.

وإذا عض شيئاً فرأى عليه أثر الدم من أصول أسنانه لا وضوء عليه، وكذلك.... لأنه ليس بسائل، هكذا ذكر في بعض الفتاوى، وذكر الشيخ الإمام علاء الدين في كتاب..... أن من أكل خبزاً أو شيئاً من الفواكه، ورأى فيه أثر الدم من أصول أسنانه ينبغي أن يضع إصبعه أو طرف كمه على ذلك الموضع، إن وجد فيه أثر الدم فيه ينتقض وضوءه، وإلا فلا.
وفي «فتاوى سمرقند» : القراد إذا مص من عضو إنسان وامتلأ دماً إن كان صغيراً لا ينتقض وضوءه، لأن الدم فيه ليس بسائل، وإن كان كبيراً انتقض وضوءه؛ لأن الدم فيه سائل.
العلقة إذا أخذت بعض جلد إنسان ومص حتى امتلأ من دمه بحيث لو سقط لسال انتقض الوضوء؛ لأن الدم فيه سائل، والذباب أو البعوض إذا مص عضو إنسان وامتلأ دماً لا ينتقض وضوءه، وكذلك الذباب إذا مص عضو إنسان وظهر الدم لا ينتقض وضوءه.
(نوع آخر)
وفي «الأجناس» : إذا احتقن الرجل بدهن ثم عاد، فعليه الوضوء؛ لأنه لا ينفك عن نجاسة، وإن أقطر في إحليله دهناً ثم عاد، فلا وضوء عليه عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وفيه أيضاً: إذا صب دهناً في أذنه ومكث في دماغه يوماً ثم سال وخرج فلا وضوء عليه، وإن خرج من الفم نقض وضوءه، وذكر هذه المسألة في «القدوري» ، وقال: روي عن أبي يوسف أنه لو خرج من فمه، فعليه الوضوء، وأشار إلى أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن خرج من الفم، فلا وضوء عليه، وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يخرج من الفم إلا بعد نزوله الجوف، فصار كالقيء. ولهما أن الرأس ليس موضع النجاسة، والوصول إلى الجوف ليس بمعلوم، فلا ينتقض وضوءه بالشك.
وفي «نوادر هشام» : لو دخل الماء أذن رجل في الاغتسال ومكث ثم خرج من أنفه، فلا وضوء عليه.

وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد في رجل أدخل عوداً في دبره أو قطنة في إحليله وغيبها كلها، ثم أخرجها أو خرجت بنفسها، فعليه الوضوء، علل فقال: لأنه حين غيبها صارت بمنزلة طعام أكله ثم خرج منه، ولو كان طرف العود بيده ثم أخرجه لم يجب عليه شيء، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل لو أدخل المحقنة ثم أخرجها فلم يكن عليه الوضوء، هكذا ذكر، ولكن تأويله إذا لم يكن على العود والمحقنة بلَّة، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل يتوضأ، فيدخل يده أي إصبعه في الاستنجاء، ولا ينقض الوضوء، وقال: من

(1/61)


استنجى فلم يدخل إصبعه، فليس بتنظيف. قال أبو العباس رحمه الله: مراده في المسح الظاهر فإنه متى جاوز المسح الظاهر كان تفتيتاً للنجاسة لا تطهيراً والله أعلم.
(نوع آخر) منه في مسائل القيء وما يتصل بها
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل قلس أقل من ملء فمه لا ينقض وضوءه، وإن ملء قلس فمه مرة أو طعاماً أو ماء نقض الوضوء، وهذا مذهبنا وهي مسألة الخارج من غير السبيلين.
والأصل فيه ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من قاء أو رعف في صلاته، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» والمعنى في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النجاسة متى خرجت يتنجس شيء من ظاهر البدن وثبت احتمال النجاسة في كل البدن، لأنه يحتمل أن يده أصابت ذلك الموضع، وتنجس ثم أصاب يده موضعاً آخر وتنجس، وإذا ثبت هذا الاحتمال وجب غسل كل البدن، لتحصيل القيام إلى الصلاة ببدن طاهر بيقين، هذا وجه مناسب، والشرع ورد به في بعض الأحداث وهو الجنابة، فيمكن إيجاب غسل كل البدن عليه.

والثاني: أن النجاسة إذا أصابت موضع الخروج يجب غسل ذلك الموضع؛ لإزالة النجاسة يقيناً، لأن القيام بين يدي ... وعليه شيء مما تستقذره الطباع قبيح عند الناس في الشاهد، فكذا في الغائب وهو معنى قوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح» .
وإذا وجب غسل موضع الإصابة يجب غسل الباقي لا لإزالة، ولكن لأن غسل بعض البدن يخل بالزينة كغسل بعض الثوب من الوسخ، والزينة مطلوبة، قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} (الأعراف:31) أي عند كل صلاة، فيجب غسل كل البدن صيانة للزينة المطلوبة عن الخلل، فهذان الوجهان يثبتان وجوب غسل كل البدن، إلا أن الشرع أقام غسل الأعضاء الأربعة مقام غسل كل البدن دفعاً للحرج، بهذا الطريق وجب غسل الأعضاء الأربعة في الخارج من السبيلين. ثم القليل منه حدث في القياس، وهو قول زفر. وفي الاستحسان: ليس بحدث لم يشترط أن يكون ملء الفم، واختلفت الأقاويل في تفسيره ملء الفم، بعضهم قالوا: إذا كان بحيث لو ضم شفتيه لم يعلم الناظر أن في فمه شيئاً، فهو أقل من ملء الفم، وإن انتفخ شفتاه وخداه حتى كان يعلم الناظر أن في فمه شيئاً، فهو ملء الفم.

(1/62)


وقال أبو علي الدقاق في «كتابه» : إذا كان القيء بحيث يمنعه من الكلام كان ملء الفم، وإن كان لا يمنعه لا يكون ملء الفم، وقال الحسن بن زياد: إن كان القيء بحيث لا يمكن للرجل ضبطه وإمساكه كان ملء الفم، وإن كان يمكن ضبطه وإمساكه لا يكون ملء الفم.
زاد على هذا بعض المشايخ، فقال: إن كان القيء بحيث لا يمكن ضبطه وإمساكه إلا بتكلف كان ملء الفم، وإن كان بحيث يمكن ضبطه وإمساكه من غير تكلف، لا يكون ملء الفم. وإليه مال كثير من المشايخ، وهو الصحيح. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله (يقول) الصحيح أنه مفوض إلى صاحبه إن وقع في قلبه أنه قد ملأ فاه، فقد ملأ فاه.

وجهُ القياس في القليل: أن الخارج من غير السبيلين لما كان حدثاً يجب أن يستوي فيه القليل، والكثير كالخارج من السبيلين.
وجه الاستحسان: أن ما روي عن علي رضي الله عنه أنه عد الأحداث، وذكر من جملتها دسعة تملأ الفم، وهكذا روي عن عمر رضي الله عنه، والدسعة: القيء، فقد قيداه بملء الفم، والمعنى أن الحدث هو الخارج النجس، والخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر، والفم ظاهر من وجه باطن من وجه، حقيقة وحكماً.
أما من حيث الحقيقة: باطن (من) وجه فلأن للفم اتصالاً بالباطن بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك متى ضممت شفتيك صار باطناً كالبطن (6ب1) وظاهر من وجه؛ لأن له اتصالاً بالوجه بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك لو فتحت شفتيك صار الفم ظاهراً كالوجه، وأما من حيث الحكم باطن من وجه، فإنه لا يجب غسله في الوضوء كما لا يجب غسل الباطن، وإذا جمع الصائم ريقه في فمه ثم ابتلعها لم يفطره كما لو انتقل الطعام من زاوية البطن إلى زاوية، ظاهر من وجه فإنه يجب غسله في الجنابة كما يجب غسل وجهه، وإذا كان ظاهراً من وجه باطناً من وجه وفّرنا على الشبهين حظهما، فجعلناه باطناً فيما بينه وبين البطن، فالمنتقل إليه من البطن كالمنتقل من زواية البطن إلى زواية أخرى، وجعلناه ظاهراً فيما بينه وبين الوجه، فالمنتقل منه إلى الوجه كالمنتقل من الظاهر إلى الظاهر.
قلنا والقيء إذا كان قليلاً، وتفسيره الصحيح: أن يمكنه الإمساك من غير تكلف لا تقع الحاجة فيه إلى فتح الفم، فتبقى النجاسة في الفم صورة، وفي البطن معنى، فلا يتحقق الخروج من الباطن إلى الظاهر فبعد ذلك إن ابتلعه فبها، وإن ألقاه قائماً وجد الخروج من الظاهر إلى الظاهر، وإنه ليس يعتبر هذا إذا كان قليلاً مرة واحدة.

وإن قاء مراراً قليلاً قليلاً

(1/63)


وكان بحيث لو جمع يبلغ ملء الفم هل يجمع؟ وهل يحكم بانتقاض الطهارة؟ لم يذكر هذا الفصل في «ظاهر الرواية» . وذكر في «النوادر» خلافاً بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فقال: على قول أبي يوسف رحمه الله: إن اتحد المجلس يجمع، وإن اختلف لا يجمع؛ لأن المجلس الواحد عرف جامعاً في الشرع، والمجالس المختلفة لا.
وقال محمد رحمه الله: إن اتحد السبب يجمع وإن اختلف لا يجمع، وتفسير اتخاذه عند محمد أن تكون المرة الثانية والثالثة قبل سكون الغثيان الأول، وعن أبي علي الدقاق أنه كان يقول بالجمع، اتحد المجلس أو اختلف، اتحد السبب أو اختلف، هذا إذا قاء مُرة أو طعاماً أو ماءً، وإن قاء بلغماً إن كان نزل من الرأس لا ينتقض وضوءه، وإن كان ملء الفم بالاتفاق، وإن صعد من الجوف على قول أبي يوسف رحمه الله ينتقض وضوءه إذا كان ملء الفم، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينتقض، وإن كان ملء الفم، وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من ملء الفم إنه لا ينتقض وضوءه.
والحاصل: أن نجاسة الخارج أمر لا بد منها لكون الخارج حدثاً، والبلغم طاهر عندهما، وعند أبي يوسف نجس، وكان الطحاوي يميل إلى قول أبي يوسف حتى روي عنه أنه قال: يكره للإنسان أن يأخذ البلغم بطرف ردائه أو كمه ويصلي معه، فمن مشايخنا من أسقط الخلاف، وقال: قولهما محمول على ما إذا نزل من الرأس وذلك طاهر بالإجماع، وقول أبي يوسف محمول على ما إذا خرج من المعدة وذلك نجس بالإجماع لما نبين إن شاء الله تعالى.

ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة، وهو الصحيح، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الخارج من المعدة جاور أنجاس المعدة، فيصير نجساً بحكم المجاورة. دليله الطعام. وجه قولهما قوله عليه السلام لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواسية» (قرن) النخامة بالماء الذي في ركوته فيدل على طهارتها، والدليل عليه: أن الناس من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا تعارفوا أخذ البلغم بأطراف أرديتهم من غير نكير منكر، ولو كان نجساً لوجد الإنكار من منكر كما في سائر الأنجاس، وما قال من المعنى بأنه جاور أنجاس المعدة فمسلم، إلا أن البلغم شيء لزج لا يحتمل النجاسة للزوجته كالسيف الصقيل، فلا يصير نفسه نجساً، وإنما تكون النجاسة على ظاهره، وإنه قليل لا يبلغ ملء الفم بخلاف الطعام والشراب، لأنهما يحملان النجاسة فينجسان بمجاورة أنجاس المعدة، وإن قاء طعاماً أو ما أشبهه مختلطاً بالبلغم ننظر إن كانت الغلبة للطعام، وكان بحال لو انفرد الطعام بنفسه كان ملء الفم نقض وضوءه، وإن كانت الغلبة للبلغم وكان بحال لو انفرد البلغم بلغ ملء الفم كانت المسألة على الاختلاف، وإنما كان كذلك، لأن العبرة في أحكام الشرع للغالب، والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلة الغالب.

(1/64)


وإن قاء دماً إن نزل من الرأس وهو سائل انتقض وضوءه، وإن كان علقاً لا ينتقض وضوءه، وإن صعد من الجوف إن كان علقاً لا ينتقض وضوءه إلا أن يملأ الفم؛ لأنه يحتمل أنه صفراء تجمد أو سوداء انعقد أو بلغم احترق، فيشترط فيه ملء الفم، وإن كان سائلاً وقد صعد من الجوف على قول أبي حنيفة رحمه الله ينتقض وضوءه، وإن لم يكن ملأ الفم، وقول أبي يوسف مضطرب، وإنما يعرف بسيلانه، وعلى قول محمد رحمه الله: لا ينتقض وضوءه إلا إذا كان ملأ الفم إذا خرج بقوة نفسه لا بقوة البزاق.p
وجه قول محمد رحمه الله أنه صاعد من الجوف، والفم أعطي له حكم الباطن فيما بينه وبين الجوف إلا أن يخرج منه دماً دون ملء الفم ليس له حكم الخارج على ما مر، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفم في حق الدم ظاهر من كل وجه؛ لأن الفم إنما أعطي له حكم الباطن، فيما يخرج من المعدة، لأن الفم متصل بالمعدة بمنفذ أصلي، والمعدة ليست بمحل للدم، إنما محل الدم العروق، والفم لا يتصل بالعروق بمنفذ أصلي، وله اتصال بالوجه، فيكون الفم ظاهراً في حق الدم من كل وجه، فكان كالخارج من الأسنان، فيشترط فيه السيلان لا غير، بخلاف ما يخرج من المعدة؛ لأن الفم أعطي له حكم الباطن فيما يخرج من المعدة؛ لأن للفم اتصالاً بالمعدة بمنفذ أصلي، فيشترط فيه ملء الفم على ما مر، أما ههنا بخلافه، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف في المسألة على الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله محمول على ما إذا خرج الدم من منابت الأسنان، من اللهوات وكان أقل من ملء الفم.
وعند محمد رحمه الله في هذه الصورة الجواب كما قال أبو حنيفة، وما قاله محمد محمول على ما إذا خرج من المعدة، وعند أبي حنيفة الجواب في هذه الصورة كما قاله محمد، ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة على نحو ما بينا والله تعالى أعلم.

ومما يتصل بهذا النوع من المسائل: روى ابن رستم في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا دخل العلق حلق إنسان ثم خرج من حلقه دم رقيق سائل لا ينتقض وضوءه ما لم يملأ الفم، وإذا بزق وخرج في بزاقه دم، إن كان الدم هو الغالب ينتقض وضوءه وإن كان أقل من ملء الفم، وهذا لأن الحدث هو الخارج النجس، وقد تحقق الخروج إذا كانت الغلبة للدم لأنه إذا كانت الغلبة للدم على أنه خرج بقوة نفسه، وما أخرجه البزاق وإن كانت الغلبة للبزاق لا ينتقض وضوءه؛ لأنه إذا كانت الغلبة للبزاق علم أن البزاق أخرجه، وما خرج بقوة نفسه، وإن كانا سواء، فالقياس أن لا تنتقض طهارته؛ لأنه يحتمل أنه خرج بقوة نفسه، ويحتمل أن البزاق أخرجه فوقع الشك في انتقاض الطهارة.
وفي الاستحسان: ينتقض وضوءه؛ لأنه لما احتمل الخروج بقوة نفسه، رجحنا جانب الخروج احتياطاً لأمر العبادة؛ بخلاف ما إذا شك في الحدث؛ لأن الموجود هناك مجرد الشك ولا عبرة لمجرد الشك مع اليقين بخلافه، وههنا الحدث وجد من وجه دون وجه، فرجحنا جانب الوجود احتياطاً.

(1/65)


وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في هذا الفصل: وهو ما إذا كان الدم والبزاق على السواء، عامة مشايخنا على أن وضوءه بهذا ينتقض، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: آمره بإعادة الوضوء احتياطاً، وهو باقٍ على وضوئه الأول، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن كان لونه يضرب إلى الصفرة، فليس بناقض، وإن كان يضرب إلى الحمرة فهو ناقض، وإذا كانت عروق الدم تجري بين البزاق كالعلقة لم يكن ناقضاً.
وفي «النوادر» عن أبي حنيفة: إذا بزق أو امتخط ورأى في ذلك علقة من الدم لم ينتقض وضوءه، وإن كان الذي يرى من الدم في جميع البزاق أو النخامة، فكانت حمرته أو صفرته غالبة على البزاق (7أ1) فعليه الوضوء، وإن كان الذي فيه شبيه غسالة اللحم، وكان البياض غالباً، فلا وضوء.

وذكر هشام عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اصفر البزاق من الدم، فلا وضوء، وإن احمر فعليه الوضوء، وهذه الرواية موافقة لقول الفقيه أبي جعفر على ما تقدم ذكره، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن كان البزاق يخرج من لهاته أو لسانه فهو على التفصيل إن (كان) الدم غالباً أو مغلوباً، أو كانا على السواء، فأما إذا خرج ذلك من جوفه فالأمر فيه أسهل، والله أعلم.
(نوع آخر) في النوم والإغمام والغشي والجنون والسكر
إذا نام في صلاته قائماً أو راكعاً أو ساجداً، فلا وضوء عليه، ولو نام مضطجعاً أو متوركاً، فعليه الوضوء، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نام في صلاته، ومضى فيها، فلما فرغ قال: «إذا نام الرجل راكعاً أو ساجداً أو قائماً، فلا وضوء عليه، إنما الوضوء على من نام مضطجعاً فإنه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله» فهذا الحديث حجة لنا في الفصول كلها من حيث النص، وإنه ظاهر، وكذلك من حيث التعليل حجة؛ لأن النبي عليه السلام علل لوجوب الوضوء باسترخاء المفاصل، ولم يرد به أصل الاسترخاء؛ لأن أصل الاسترخاء موجود في حالة الركوع والسجود، لأن الاسترخاء نتيجة النوم، والنوم موجود في الأحوال كلها. ولو حمل آخر الحديث على أصل الاسترخاء صار كأن النبي عليه السلام، قال في صدر الحديث: «لا وضوء على من استرخت مفاصله» ، ثم قال في آخر الحديث: «إنما الوضوء على من استرخت مفاصله» وفيه تناقض ظاهر، فلضرورة رفع التناقض يحمل آخر الحديث على النهاية في الاسترخاء، وإذا حمل عليه صار كأن النبي عليه السلام قال: إذا وجد استرخاء المفاصل على النهاية والمبالغة، بأن زال التماسك من كل وجه وجب الوضوء، فالاسترخاء على النهاية والمبالغة، لا توجد في حال القيام والركوع والسجود، لأن بعض التماسك في هذه الأحوال باقٍ؛ إذ لو لم يكن باقياً لكان سقط، وإذا كان بعض التماسك باقياً في هذه

(1/66)


الأحوال لم يكن الاسترخاء في هذه الأحوال على سبيل النهاية

والمبالغة، والنبي عليه السلام إنما جعل النوم حدثاً حال وجود الاسترخاء على سبيل النهاية والمبالغة.

ثم لم يفصل محمد رحمه الله في «الأصل» بينما إذا غلبه النوم، وبينما إذا نام متعمداً، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إنما لا ينتقض وضوءه إذا غلبه النوم، أما إذا نام متعمداً ينتقض وضوءه على كل حال، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح الأصل» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله في السجود إذا تعمد النوم. والصحيح: ما ذكر في ظاهر الرواية: إذ لا فصل في الحديث.
وإن نام قاعداً وهو يتمايل في حال نومه ويضطرب، وربما يزول مقعده عن الأرض، إلا أنه لم يسقط، ظاهر المذهب أنه ليس بحدث، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه حدث، وفي النوم مضطجعاً، الحال لا يخلو إن غلبت عيناه، فنام ثم اضطجع في حال نومه، فهو بمنزلة ما لو سبقه الحدث، فيتوضأ ويبني، ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعاً، فإنه يتوضأ ويستقبل الصلاة، هكذا حكي عن مشايخنا رحمهم الله.
وفي «الفتاوى» : في المريض لا يستطيع أداء الصلاة إلا مضطجعاً، فنام في الصلاة انتقض وضوءه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قيل: لا ينتقض، والأول أصح.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله إذا قعد في الصلاة وإحدى إليتيه على قدمه فنام، فلا وضوء عليه، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما روي عن محمد رحمه الله في «الأصل» ، هذا إذا نام في الصلاة، وأما إذا نام خارج الصلاة إن نام مضطجعاً أو متوركاً ينتقض وضوءه، وإن نام قائماً أو على هيئة الراكع أو الساجد ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» أنه لا ينتقض وضوءه.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح المبسوط» فيما إذا نام ساجداً أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر هو أيضاً عن علي بن موسى العمّي أنه قال: لا نص في هذه الصورة عن أصحابنا رحمهم الله، وينبغي أن لا ينتقض وضوءه إذا نام على هيئة الساجد على وجه السنّة، بأن كان رافعاً بطنه عن فخذيه جافياً عضديه عن جنبيه.

وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا نام ساجد في غير الصلاة، فظاهر المذهب أن يكون حدثاً.
قال رحمه الله: وقد ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» ، وقد قال بعض العلماء: إن النوم في حالة السجود لا يكون حدثاً وإن كان خارج الصلاة، وذكر محمد

(1/67)


رحمه الله في «صلاة الأثر» أن من نام قاعداً أو واضعاً إليتيه على عقبيه وصار شبه المكب على وجهه واضعاً بطنه على فخذيه لا ينتقض وضوءه، وعن علي بن يزيد الطبري قال: سمعت محمداً رحمه الله يقول: من نام هكذا على وجهه لا ينتقض وضوءه.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الشرط عند محمد رحمه الله أن يضطجع على غيره، أما اضطجاعه على نفسه لا يعتبر، وقال أبو يوسف رحمه الله: اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره في زوال الاستمساك، فيكون حدثاً ولم يذكر قول أبي حنيفة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد نقل عنه فصل يدل على أنه كان يميل إلى ما قاله أبو يوسف رحمه الله، فإنه قال فيمن كان محدودباً، فسجد على فخذه أو ركبته بأن وضع أنفه على طرف ركبتيه صح سجوده، وجعل سجوده بمنزلة السجود على الوسادة أو اللبنة، فجعل سجوده على نفسه كسجوده على غيره، فجاز أن يجعل اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره.
وجه قول من يقول إنه ينتقض وضوءه أنه نام والمسكة زائلة عن مستوى جلوسه، فيكون حدثاً كما لو نام مضطجعاً على غيره، وكان القياس في حالة الصلاة كذلك لكن عرفناه بالأثر.

وجه قول من قال: إنه لا يكون حدثاً أن النوم في هذه الأحوال إنما لم يجعل حدثاً في الصلاة لانعدام استرخاء المفاصل على سبيل النهاية والمبالغة، وهذا المعنى موجود في غير حالة الصلاة، وأما إذا نام قاعداً مسوياً إليتيه على الأرض لا ينتقض وضوءه، وإن نام قاعداً (على) مستوى الجلوس، ولكن مستنداً إلى جدار أو أسطوانة، ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن ظاهر المذهب أنه لا ينتقض وضوءه.

وعن الطحاوي رحمه الله: أنه قال: إن كان بحيث لو أزيل السناد سقط، فهو كالمضطجع، وعلى هذا بعض المشايخ، وهذا لأنه إذا كان بهذه الصفة، فقد وجد زوال التماسك من كل وجه؛ لأنه لم يقعد لقوة نفسه إنما قعد لقوة الأسطوانة أو الحائط، فينتقض وضوءه.
وفي «القدوري» : روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينتقض وضوءه إذا كانت إليتاه مستوية على الأرض، وذكر شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة غير مقيدة بما إذا كانت إليتاه مستوية على الأرض، ومنهم من قال: إن جعل عقبه عند مقعده، واستند إلى شيء ونام، لا يكون حدثاً، وقيل: إذا كان مستقراً على الأرض غير مستوقر لا ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد سقط، وإن كان مستوقراً غير مستقر على الأرض ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد لا يسقط، ولو نام قاعداً مستوي الجلوس فسقط على الأرض ذكر شمس الأئمة رحمه الله: أن ظاهر الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعده الأرض في حال سقوطه لم تنتقض طهارته.

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لو استيقظ حتى يضع جنبيه على الأرض، فلا وضوء عليه، وإن وضع جنبيه وهو نائم بطل وضوءه؛ لأنه وجد شيء من النوم مضطجعاً فينتقض وضوءه. وعلى قولهما لا تنتقض طهارته حتى يسقط على الأرض قبل أن ينتبه، ويشترط لانتقاض الطهارة عند أبي يوسف رحمه الله أن يكون الانتباه بعدما استقر نائماً على الأرض، وهكذا روى ابن رستم عن محمد، وعن محمد رحمه الله في رواية كلما اضطجع إذا انتبه فعليه أن يتوضأ، لأنه وجد شيء من النوم

(1/68)


مضطجعاً.

وإذا نام راكباً على دابة والدابة عريانة، فإن كان في حالة الصعود والاستواء لا ينتقض وضوءه (7ب1) لأن مقعده يكون متمكناً على ظهر الدابة، فلا يخاف خروج شيء منه، كما لو كان جالساً على الأرض ومقعده متمكن من الأرض، أما حالة الهبوط يكون حدثاً؛ لأن مقعده لا يكون متمكناً على ظهر الدابة حالة الهبوط، فهو بمنزلة ما لو نام على الأرض متوركاً، هذا هو الكلام في النوم.
وأما النعاس في حالة الاضطجاع، فلا يخلو إما أن يكون ثقيلاً أو خفيفاً، فإن كان ثقيلاً فهو حدث، وإن كان خفيفاً لا يكون حدثاً، والفاصل بين الخفيف (والثقيل) أنه إن كان يسمع ما قيل عنده، فهو خفيف، وإن كان يخفى عليه عامة ما قيل عنده فهو ثقيل، هكذا حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
والنوم في سجده التلاوة لا ينقض الوضوء، كالنوم في السجدة الصلبية، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. قال رحمه الله: وكذلك في سجدة الشكر عند محمد، وعند أبي حنيفة رحمه الله حدث؛ لأن سجدة الشكر عنده ليست بمروية، وفي «فوائد القاضي» الإمام أبي علي النسفي قوله مثل قول محمد، قال القاضي الإمام رحمه الله: وسواء سجده على وجه السنة، والنوم في سجدة السهو ليس بحدث.

والإغماء ينقض الوضوء وإن قل، وكذلك الجنون والغشي؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء سبب لخروج النجاسة بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فيقام مقام خروج النجاسة.
والسكر ينقض الوضوء أيضاً؛ لأنه سبب لخروج الحدث بواسطة استرخاء المفاصل، فيقام مقام خروج الحدث احتياطاً.

بعد هذا الكلام في حده وذكر بعض المشايخ في «شرح المبسوط» أن حد السكران هنا ما هو حد السكران في باب الحد، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ، فإنه قال: إن كان لا يعرف الرجل من المرأة ينتقض وضوءه، وهذا الحد ليس بلازم إذا دخل في بعض مشيته تحرك، فهو سكر ينتقض به وضوءه، كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الصحيح، وهذا لأن السكر إنما أوجب انتقاض الوضوء لكونه سبباً لخروج الحدث بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فلما دخل في مشيته تحرك فقد زالت المسكة والله أعلم.
(نوع آخر) في القهقهة
يجب أن يعلم بأن القهقهة في كل صلاة فيها ركوع وسجود تنقض الصلاة والوضوء عندنا لحديث خالد الجهني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي بأصحابه إذ أقبل أعمى، فوقع في بئر أدركته هناك، فضحك بعض القوم قهقهة، فلما فرغ النبي عليه السلام من الصلاة

(1/69)


قال: «ألا من ضحك منكم، فليعد الوضوء والصلاة» ، والقهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة بخلاف القياس؛ لأن انتقاض الطهارة بخارج نجس، ولم يوجد ذلك، وليست القهقهة خارج الصلاة في معنى القهقهة في الصلاة؛ لأن حالة الصلاة حالة المناجاة مع الله تعالى فتعظم الجناية بالقهقهة فيها، ولا كذلك القهقهة خارج الصلاة، فبقيت القهقهة خارج الصلاة على أصل القياس.

وكذلك القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة، والسنّة وردت في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقاً، فيعمل فيها بالقياس؛ ولكن تبطل صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وكذلك القهقهة من النائم في الصلاة لا تنقض الوضوء، هكذا وقع في بعض الكتب.

وذكر الزندوستي في «نظمه» : إذا نام في صلاته قائماً أو ساجداً ثم قهقه: لا رواية لهذا في الأصول، قال شداد بن أوس: وقال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته، ولا يفسد وضوءه، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد رحمه الله، قال الحاكم أبو محمد الكفيني: فسدت صلاته ووضوءه جميعاً، وبه أخذ عامة المتأخرين احتياطاً.
ولو نسي كونه في الصلاة ثم قهقهة قال شداد: قال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته ولا يفسد وضوءه، وقال الحاكم الكفيني والفقيه عبد الواحد: فسدا جميعاً.
وجه قول من قال بفسادهما: أن هذه قهقهة حصلت في خلال الصلاة، فتنقض الوضوء كما في الذاكر المستيقظ.
وجه قول من قال بعدم فساد الوضوء: أن السنّة وردت في حق اليقظان الذاكر، وليس النائم والناسي في معنى المستيقظ الذاكر؛ لأن فعل النائم والناسي لا يوصف بكونه جناية، فيعمل فيه بالقياس، وقضية القياس أن لا يفسد الوضوء.
والقهقهة من الصبي في حالة الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بالجناية، فيعمل فيه بالقياس.
وإذا أحدث الرجل فذهب وتوضأ وعاد إلى مكانه وقهقه في الطريق حكي عن بعض المشايخ أنه ينقض وضوءه، وذكر الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي، رحمه الله أنها تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء استحساناً.

ولو تبسم في صلاته لا ينقض وضوءه لما روي «أن رسول الله عليه السلام كان إذا رأى جرير بن عبد الله تبسم ولو في الصلاة» ، وقال عليه السلام في قصة الأعمى الذي

(1/70)


وقع في الركية: «ومن تبسم فلا شيء عليه» ؛ ولأن القهقهة عرفت ههنا بالسنّة بخلاف القياس، والتبسم ليس في معناها؛ لأن في القهقهة من المأثم والحرمة ما ليس في التبسم، فلم يكن التبسم في الجناية يظهر القهقهة، فيرد التبسم إلى أصل القياس.

ثم في حدّ القهقهة اختلاف المشايخ، قال بعضهم: القهقهة ما تكون مسموعاً له ولجيرانه، وقال بعضهم: ما يظهر فيه القاف والهاء، والتبسم: ما لا يكون مسموعاً له ولجيرانه، وما بينهما وهو ما يكون مسموعاً له ولا يكون مسموعاً لجيرانه، فسمي ضحكاً، وإنه ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، وهكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرح المبسوط» .
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح المبسوط» أن ما فوق التبسم ودون القهقهة لا ذكر له في «المبسوط» ، قال: وكان القاضي الإمام يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة أو عن التسبيح نقض وضوءه، قال رحمه الله: وغيره من المشايخ على أنه لا ينتقض الوضوء حتى يسمع صوته وإن قل.
والقهقهة عامداً كان أو ناسياً تنقض الوضوء ويبطل التيمم كما يبطل الوضوء، ولا تبطل طهارة الاغتسال، وقد قيل: تبطل طهارة الأعضاء الأربعة، لهذا إن المغتسل في الصلاة إذا قهقه بطلت الصلاة، وجاز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد على القول الأول، وعلى القول الآخر: لا يجوز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد.

ولو صلى الفريضة بالإيماء بعذر وقهقه فيها انتقض وضوءه؛ لأن هذه صلاة لها ركوع وسجود وقام الإيماء بعذر مقام الركوع والسجود، ولو صلى المكتوبة أو التطوع راكباً خارج المصر أو القرية وقهقه فيها انتقض وضوءه، وإن كان في مصر أو قرية لا ينتقض عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه ليس في الصلاة، وكذلك لو افتتح التطوع راكباً خارج المصر، ودخل المصر ثم قهقه، فلا وضوء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله.
ولو صلى في المصر ركعة من التطوع راكباً ثم خرج من المصر يريد السفر وقهقهة لا وضوء عليه في قول أبي حنيفة. ولو صلى راكباً وهو منهزم من العدو والدابة واقفة أو سائرة أو تعدو به وهو يومىء إيماء إلى القبلة أو إلى غيرها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلم، فضحك بعده من خلفه، فعليهم الوضوء، علل فقال: لأني كنت آمرهم أن يسلموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضل: قد روي عن محمد رحمه الله أنه قال: لا آمرهم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة، فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحليل.
ذكر الحاكم في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد، ولم يتشهد والقوم على مثل حاله، فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه، قال: أما في قول أبي حنيفة رحمه الله، فعلى

(1/71)


الإمام الوضوء، ولا وضوء على القوم من قبل أن الإمام قد أفسد عليهم ما بقي (8أ1) من صلاتهم، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئاً.
ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا، فعليهم الوضوء عندهما، لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمداً أو الضحك يفسد عليهم ما بقي، وعند محمد رحمه الله: لا وضوء على القوم في هذه الصورة، وهو ما إذا ضحكوا بعدما سلم الإمام؛ لأن عند سلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منهم لم يصادف حرمة الصلاة، فلا يوجب الوضوء.
أبو سليمان عن محمد رحمه الله فيمن سها عن التشهد خلف الإمام في الثانية حتى يسلم الإمام في آخر الصلاة ثم ضحك هذا الرجل، فلا وضوء عليه، وليس هذا كسهوه عن التشهد في الرابعة.
في «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن إماماً انصرف من غير أن يسلم وخرج عن المسجد وضحك أو ضحك بعض القوم، فلا وضوء عليه ولا عليهم.

وابن سماعة عن أبي يوسف في «النوادر» : إذا صلى الجمعة ركعة ثم خرج وقتها ثم قهقهة، فلا وضوء عليه، وهذه المسألة تبنى على أصل أبي يوسف رحمه الله أن خروج الوقت في صلاة الجمعة توجب الخروج عن الجمعة، فالقهقهة بعد ذلك لم تصادف حرمة صلاة مطلقة.
أبو سليمان عن محمد رحمه الله: ظن القوم أن الإمام كبر ولم يكن كبر، فكبروا ثم قهقهوا، فلا وضوء عليهم.
عمرو بن أبي عمرو في مسافر صلى ركعة من الظهر بغير قراءة ثم قهقه، فعليه الوضوء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد وزفر: لا وضوء عليه، وكذلك في المقيم: إذا صلى ركعة من الفجر بغير قراءة ثم قهقه، وكذلك قال أبو يوسف فيمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر ثم قهقه، وقاس على قول أبي حنيفة، وكذلك إن ذكر صلاة عليه وهو في صلاة أخرى ثم قهقه، وكذلك إن نوى الإمام إمامة النساء، فجاءت امرأة فقامت إلى جنبه تأتم به ثم قهقه، فعليه الوضوء، وأما في قول محمد وزفر، فلا وضوء عليه في شيء من ذلك إذا فسدت الصلاة، فكأنه تكلم فيها ثم قهقه.
d

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا إذا وقفت بجنب الإمام وكبرت بعد تكبيره، فأما إذا كبرت مع الإمام لا تنعقد تحريمة الإمام، فلا تنتقض طهارته. ولو وقفت المرأة بجنب إمام يؤمها ثم ضحكت قهقهة هل تنتقض طهارتها؟ في رواية لا تنتقض، وفي رواية تنتقض، والأول أصح، لأنها ليست في صلاة. وإذا صلى فريضة عند طلوع الشمس أو عند غروبها سوى عصر يومه لم يكن داخلاً في الصلاة حتى لا تنتقض طهارته بالقهقهة. وإذا شرع في التطوع عند طلوع الشمس أو عند غروبها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.

(1/72)


حكي عن بشر عن أبي يوسف: كل صلاة افتتحت صحيحة ثم دخل فيها ما يفسدها على وجه ما سمينا ثم ضحك، فعليه الوضوء. وهو إشارة إلى المسائل المتقدمة.

وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في رجل صلى ركعتين تطوعاً ولم يقرأ في إحديهما ثم قهقه، فلا وضوء عليه. وهذا الجواب يخالف جوابه في المسائل المتقدمة، وقال: في «التحري» : إذا تبين له في خلال الصلاة أنه صلى إلى غير القبلة ثم ثبت على صلاته بعد العلم به فسدت صلاته، وإن قهقه، فلا وضوء عليه، وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: إن عليه الوضوء.
فالحاصل أن في جنس هذه المسائل روايتين عن أبي يوسف، وقال فيمن انقضى وقت مسحه في صلاته ثم قهقه، فلا وضوء عليه، لأن هذا صار غير طاهر، وكذلك في الجبائر: إذا برىء في صلاته، قال: ولو أن صحيحاً افتتح مكتوبة قاعداً أو مضطجعاً من غير عذر ثم قهقه أعاد الوضوء، وكذلك: لو افتتح الصلاة خلف مومىء أو خلف أخرس أو أمي ثم قهقه، فعليه الوضوء، وكذلك لو افتتح المتوضىء خلف المتيم والمتوضىء يرى الماء والمتيمم لا يراه، وكذلك من يأتم بمن يعلم أن عليه صلاة قبلها ولا يعلمها الإمام أو الإمام على غير القبلة ولا يعلمها والمؤتم يعلم، وإن كان الإمام يعلم أنه افتتح لغير القبلة، فلا وضوء على المؤتم.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: لو سلم على تمام في نفسه ثم تذكر سجدة تلاوة عليه ثم قهقه قبل أن يسجد لها، فلا وضوء عليه. ولو اقتدى رجل بهذا الرجل بعد السلام لم يكن الرجل داخلاً في صلاته، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» ، فقد ذكر في «الأصل» عليه الوضوء، ولو كان مسافراً ينوي الإقامة بعد السلام قبل الضحك كانت نيته قاطعة للصلاة، ولم يكن عليه أن يتمها وهو كمن سلم وعليه سجدتا السهو.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: في رجل لا يقرأ صلى ركعة بغير قراءة ثم تعلم سورة، قال: ينصرف على شفع وهو في الصلاة، وعليه الوضوء إن قهقه.

وعنه أيضاً: إذا صلى العريان ركعة ثم وجد ثوباً، فلبس في الصلاة، قال: ينصرف على شفع، ولا وضوء عليه إن قهقه. وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: عليه الوضوء، فصار في المسألة روايتان، ويجب أن تكون المسألة الأولى على الروايتين أيضاً، إذ لا تفاوت بينهما.
وعنه أيضاً: أمة صلت بغير قناع ركعة ثم أعتقت، فصلت ركعة أخرى بغير قناع وهي تعلم بالعتق، قال: إنها ليست في صلاة، لا وضوء عليها إن قهقهت، وقال في

(1/73)


موضع آخر من هذا الكتاب: عليها الوضوء.
وعنه أيضاً: لو دخل بنية العصر في صلاة رجل يصلي الظهر لزمه المضي معه وهو متطوع، وعليه الوضوء إن قهقه.
إذا سلم المقتدي قبل سلام الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم قهقهه لا وضوء عليه؛ لأنه صح خروجه عن الصلاة قبل خروج الإمام، فلا تنتقض طهارته بالقهقهة، وإذا قهقه القوم بعد التشهد دون الإمام تمت صلاتهم، وانتقضت طهارتهم، ولا تنتقض طهارة الإمام، ولو قهقه القوم بعد التشهد معاً تمت صلاتهم وانتقضت طهارتهم.
(نوع آخر) من هذا الفصل

مس الرجل المرأة أو المرأة الرجل لا ينقض الوضوء، وقال مالك إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض؛ لأن المس عن شهوة سبب لاستطلاق وكاء المذي، فيقام مقامه في حق إيجاب الوضوء احتياطاً لأمر العبادة، كما فعله أبو حنيفة رحمه الله في المباشرة الفاحشة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ولنا حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ» ولأن عين المس ليس بحدث، بدليل مس ذوات المحارم، وإنما الحدث ما يخرج عند المس، وذلك ظاهر، فلا حاجة إلى إقامة السبب مقامه.

ومس الذكر لا ينقض الوضوء بحال. وقال الشافعي: ينقض إذا مسه بباطن الكف من غير حائل، لحديث بُسْرة أن النبي عليه السلام قال: «من مس ذكره فليتوضأ» ولأنه سبب لاستطلاق وكاء المذي فيقام مقامه، ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عمن مس ذكره هل عليه أن يتوضأ؟ قال: «لا وهل هو إلا بضعة منك؟» ولأن إقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي عند تعذر الوقوف على الخفي، وذلك غير موجود ههنا؛ لأن المذي يرى.
فإذا باشر امرأته مباشرة فاحشة بتجرد وانتشار وملاقاة الفرج الفرج، ففيه الوضوء

(1/74)


في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف استحساناً، وقال محمد: لا وضوء عليه، وهو القياس؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «الوضوء مما خرج» وقد تيقن أنه لم يخرج منه شيء، فهو كالتقبيل. ولهما أن الغالب من حال (8ب1) من بلغ في المباشرة هذا المبلغ خروج المذي منه فيجعل كالمذي بناء للحكم على الغالب دون النادر، ألا ترى أن من نام مضطجعاً ينتقض وضوءه وهو وإن تيقن أنه لم يخرج منه شيء اعتباراً للغالب كذا ههنا.
والكلام الفاحش لا ينقض الوضوء وإن كان في الصلاة؛ لأن الحدث اسم لخارج نجس، ولم يوجد هذا الحدُّ في الكلام الفاحش.

ولا وضوء في أكل ما مسته النَّار أو لم تمسه، فقد صح «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمأكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ» .
وليس في حمل الميت وغسله وضوء إلا أن يصيب يده أو جسده شيء من الماء، فيغسل ذلك الموضع.
وإذا ذبح شاة، فلا وضوء عليه إلا أن تتلطخ يده بدمها فيغسل يده.
قال القدوري رحمه الله: وليس في مزال عن بدن ولا موطوء عليه وضوء، ولا إمرار ماء على موضع المزال.
يريد به: إذا توضأ، ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وقد مرت مسألة الشعر من قبل، ومعنى الموطوء عليه: أن يطأ نجاسة لا يلصق به شيء منها، وإن لصقت فعليه غسلها والله أعلم.
(نوع آخر)

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ومن شك في بعض وضوئه وهو أول ما شك غسل الموضع الذي شك فيه؛ لأن غسله لا يريبه وتركه يريبه، وقد قال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، ولأنه على يقين من الحدث في ذلك الموضع، وفي شك من غسله، واليقين لا يزال بالشك، فأما إذا كان يرى ذلك كثيراً لم يلتفت ومضى؛ لأنه من الوساوس، والسبيل في الوساوس قطعها، وترك الالتفات إليها؛ لأنه لو التفت إليها تقع في مثل ذلك ثانياً وثالثاً، فبقي في أكثر عمره في ذلك.
قالوا: وهذا إذا كان الشك في خلال الوضوء، فأما إذا كان هذا الشك بعد الفراغ من الوضوء لا يلتفت إليه ومضى، وهو نظير ما إذا شك في صلاته أنه صلاها ثالثاً أو أربعاً إن كان هذا الشك في خلال الصلاة كان معتبراً، وإن كان بعد الفراغ من الصلاة لا يعتبر، حملاً لأمره على ما كان وهو الخروج عن الصلاة بعد التمام كذا ههنا.
وتكلموا في قوله: وهو أول ما شك فيه، من المشايخ من قال: أراد به أول ما شك في عمره، ومنهم من قال: أراد به أن الشك في هذا لم تصر عادة له.

(1/75)


ومن شك في الحدث، فهو على وضوئه، لأنه على يقين من الطهارة، وعلى شك من الحدث واليقين لا يزال بالشك بالشك.

ومن شك في الوضوء، فهو محدث؛ لأنه على يقين من الحدث، وعلى شك من الوضوء، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: لا مدخل للتحري في باب الوضوء إلا في فصل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا كان مع الرجل آنية وهو يتذكر أنه جلس للوضوء إلا أنه شك أنه قام قبل أن يتوضأ أو بعدما توضأ يتحرى ويعمل بغالب رأيه.

وإن شك أنه جلس للتوضؤ أولا والآنية هناك موضوعة، فهو محدث، ولا يجوز له التحري قال ابن سماعة في «نوادره» : وهو نظير الخلاء، فإنه إذا كان يتذكر أنه دخل الخلاء للتخلي لكنه شك أنه خرج منها قبل أن يتخلى أو بعدما تخلى جعل محدثاً، ولا يجوز له التحري. ولو شك أنه دخل الخلاء أولم يدخل جاز له التحري، والعمل بغالب رأيه وهذه رواية مستحسنة.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد أنه سئل عن المتيقن بالوضوء إذا لم يذكر حدثاً، فقال له رجل: إنك بلت في موضع كذا فشك الرجل، وقد صلى بعد ذلك صلوات، فقال: إذا شهد عنده عدلان قضاها، وإن شهد واحد عدل لم يقض.
وفي «الأصل» عن محمد رحمه الله: إذا وقع في قلب المتوضىء أنه أحدث وكان على ذلك أكثر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن صلى بوضوئه الأول كان في سعة من ذلك عندنا.
وإن أخبره مسلم عدل رجل أو امرأة حرة أو مملوكة أنه أحدث أو رعف أو نام مضطجعاً لم يسع له أن يصلي حتى يتوضأ؛ لأن هذا أمر من أمور الدين وخبر الواحد حجة في أمور الدين.
ولو استيقن بالحدث وشك في الوضوء، فأخبره عدل أنه توضأ، ولم يعرف المخبر بكونه عدلاً، إلا أنه وقع في قلبه أنه صادق، وسعه أن يصلي، فإن كان مبتلى بهذا كثيراً ويدخل عليه فيه الشيطان، فاستيقن بالحدث، واستيقن أنه قعد للوضوء، فإن كان أكثر رأيه أنه توضأ ورأى البلل سائلاً من ذكره بعد وضوئه، فإن كان الشيطان يريه ذلك كثيراً ولا يستيقن أنه بلل ماء أو بول مضى في صلاته، ولا يلتفت إليه.

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وتأويل هذا في الذي يرى البلل على طرف ذكره وقد استنجى، فيحتمل أن يكون ذلك من بلل الغسل، فأما إذا علم الرجل أنه خرج من داخل الإحليل فعليه أن يتوضأ.
ومن أصحابنا من قال: وإن علم أنه خرج من ذكره لا ينتقض وضوءه ما لم يستيقن أنه بول أو مذي إذا كان قد استنجى، فقد ذكر في بعض «النوادر» أن المستنجي إذا دخل الماء في ذكره ثم خرج لا ينقض وضوءه، فيحتمل أن يكون هذا الخارج من ماء الاستنجاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الحيلة في قطع هذه الوسوسة أن ينضح فرجه بالماء، فإذا أراه الشيطان ذلك أحاله على الماء.

(1/76)


وقد روى أنس رضي الله «أن رسول الله عليه السلام كان ينضح إزاره بالماء إذا توضأ، وقال: نزل جبريل صلوات الله عليه وأمرني بذلك» ، قالوا: هذا الاحتيال إنما ينفعه إذا كان العهد قريباً بحيث لم يجف البلل، فأما إذا مضى عليه زمان ثم رأى بللاً، فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه لا يمكننا الإحالة على ذلك الماء والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان أحكام المحدث
المحدث لا يمس المصحف ولا الدرهم الذي كتب عليه القرآن، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: 79) ، ولا بأس بأن يقرأ القرآن، لما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله عليه السلام: «كان لا يحجزُهُ شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة» .
والمعنى في الفرق بين القراءة والمس أن الحدث حل باليد دون الفم، ولهذا يفرض على المحدث إيصال الماء إلى اليد ولا يفترض عليه إيصال الماء إلى الفم. وإن أراد أن يغسل اليد ويأخذ المصحف لا يحل له ذلك؛ لأن الحدث لا يتجزأ زوالاً وثبوتاً.
وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض أيضاً، وإن لمس المصحف بغلافه فلا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه المتصل عند بعض المشايخ، وعن بعضهم المنفصل كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف من المصحف، ولهذا يدخل في بيع المصحف من غير ذكر.

وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه ألا ترى لو قام على النجاسة في الصلاة، وفي رجليه نعلان أو جوربان، لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه أو جوربيه وقام عليهما جازت صلاته، وألا ترى أن من حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها وبينه وبينها ثيابه يحنث في يمينه واعتبر ثوبه تبعاً له حتى لم يعتبر حائلاً، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد بلا حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للأجنبي أن يأخذ يدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمس بحائل، وفي باب اليمين المعتبر هو العرف، وفي العرف يعتبر الجالس في ثيابه على الأرض جالساً على الأرض.
ويكره له مس كتب التفسير، وكذلك يكره له مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنه لا يخلو عن آيات القرآن وإن لم يكن فيها آيات (أ1) القرآن، ففيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون وسعوا في مس كتب الفقه بالكم للبلوى والضرورة.
وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به بأساً........... التوضؤ وفي التأخير تضييع القرآن، ويكره

(1/77)


له أن يدخل المسجد وأن يطوف بالبيت وفي الأذان روايتان، وتكره الإقامة رواية واحدة، والله تعالى أعلم بالصواب.

الفصل الثالث في تعليم الإغتسال
هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً.
نوع منه في تعليم الاغتسال
قال محمد رحمه الله: ويبدأ في غسل الجنابة بيديه، فيغسلهما ثلاثاً ثم يأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على شماله حتى يغسل فرجه ثلاثاً وينقيه، وكذلك المرأة إذا اغتسلت بدأت وغسلت فرجها، ثم يتوضأ وضوء الصلاة غير غسل القدمين، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً، ثم يتنحى عن مغتسله فيغسل قدميه؛ فقد أمر بتأخري غسل القدمين في حق الجنب.
وقد اختلفت الروايات في فعل رسول الله عليه السلام، روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غسل القدمين في الوضوء» ، وروت ميمونة «أنه عليه السلام لم يغسل القدمين في الوضوء، بل أخره إلى ما بعد الاغتسال» ، وعلماؤنا رحمهم الله أخذوا برواية ميمونة، لأن غسل القدمين قبل إفاضة الماء على رأسه لا يقبل؛ لأن قدميه في مستنقع الماء المستعمل، فيتنجس ثانياً وثالثاً بوصول الماء المستعمل إليه فلا يفيد الاغتسال في الوضوء، حتى لو أفاد بأن كان قائماً على حجر أو لوح لا يؤخر غسل القدمين عن الوضوء، ثم أشار ههنا إلى مسح الرأس في الوضوء، فإنه قال: يتوضأ وضوءه للصلاة، والوضوء اسم يشمل المسح والغسل جميعاً، وهو ظاهر المذهب.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يمسح برأسه في وضوئه؛ لأنه قد لزمه غسل الرأس، وفرضية المسح لا تظهر عند وجوب الغسل، والصحيح أن يمسح برأسه، فقد روت عائشة وميمونة رضي الله عنهما في بيان كيفية اغتسال رسول الله عليه السلام أن رسول الله عليه السلام «توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً» .
واسم الوضوء مشتمل على الغسل والمسح جميعاً، وما قال من المعنى ليس

(1/78)


بصحيح لأن تقديم الوضوء على الإفاضة يقع سنة لا فرضاً ليقال فرضيته لا تظهر مع فرضية الغسل، وإن أفاض الماء على رأسه مرة واحدة تجزئه، وهذا الترتيب الذي ذكرنا مذكور في «الأصل» .
وفسر في «النوادر» فقال في موضع: يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا يغسل قدميه ثم يبدأ بمنكبه الأيمن فيفيض الماء عليه ثلاثاً بمنكبه الأيسر ويفيض الماء عليه ثلاثاً، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً، ثم يتنحى فيغسل قدميه.
قال في «المعلى» : وقال أبو حنيفة رحمه الله: من اغتسل من الجنابة فليس عليه أن يضع في عينيه الماء.

قال في «الأصل» : والدلك في الاغتسال ليس بشرط عندنا، خلافاً لمالك؛ لأن الواجب بالنص التطهير، فاشتراط الدلك يكون زيادة على النص. وفي «المنتقى» : وقال أبو يوسف رحمه الله في «الأمالي» : الدلك في الغسل شرط.
وإذا اغتسلت المرأة من الجنابة ولم تنقض رأسها إلا أنه بلغ الماء أصول شعرها وأبلها وإنه جائز بلا خلاف أجزأها، هكذا ذكر في «الأصل» .
واعلم أن ههنا فصلان: أحدهما: إذا بلغ الماء إلى (أصول الشعر) لما روي أن أم سلمة سألت رسول الله عليه السلام وقالت: «إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضها إذا اغتسلت؟ فقال: لا» ، وفي حديث جابر أن النبي عليه السلام قال: «لا يضر الجنب والحائض أن ينقض الشعر إذا اغتسل بعد أن يصل الماء سور الشعر» ، أي: أصول الشعر. وقالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكان لا ينقض شعري» .
وأما إذا بلغ الماء أصول شعرها ولكن لم يدخل شعب عقاصها فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئها لقوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة، ألا فبلوا الشعر» ولم يوجد بلّ الشعر ههنا.
وعن عبيد الله بن عمر أنه كان يأمر جواريه بنقض شعورهن عند الاغتسال من الحيض والجنابة، ويؤيد هذا القول ما روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: تبل ذوائبها ثلاثاً، مع كل بلة عصرة، وفائدة اشتراط العصر أن يصل الماء تحت قرونها.
سئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن هذه المسألة فروى عن رسول الله عليه السلام أنه

(1/79)


علم أم سلمة الاغتسال، وقال لها: «احثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء مع كل حثية عصرة» قال: وفائدة اشتراط العصرة أن يبلغ الماء تحت قرونها، قاله الراوي عن الفقيه على أهل المجلس يذكر هذه المسألة.
وقال بعضهم: يجزئها لظاهر ما روينا من حديث أم سلمة وجابر وعائشة، ولأنها إذا نقضت شعرها احتاجت إلى الضفر ثانياً وقال: فليحقها بذلك حرج وربما يتأثر بذلك شعرها، وفيه فساد، بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثناء اللحية، فيجب إيصال الماء إليه حتى إن المرأة إذا كانت لا تتحرج في إيصال الماء إلى أثناء الشعر بأن كانت منقوضة الشعر يفرض عليها إيصال الماء إلى أثناء الشعر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله. وتأويل حديث جابر على هذا القول أن المراد منه إذا لم تكن منقوضة الشعر.
وأما الرجل إذا كان على رأسه شعر وقد ضفره كما يفعله العلويون والأتراك هل يجب عليه إيصال الماء إلى أثناء الشعر؟ فظاهر حديث جابر يدل على أنه لا يجب، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب، والاحتياط في إيصال الماء إليه، والله أعلم.
وسئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن امرأة تغتسل من الجنابة هل تتكلف لإيصال الماء إلى ثقب القرط، قال: إن كان القرط فيه وتعلم أنه لا يصل الماء إليه من غير تحريك فلا بد من التحريك كما في الخاتم، وإن لم يكن القرط فيه إن كان لا يصل الماء إليه لا تكلف، وكذلك إن انضم ذلك بعد نزع القرط وصار بحيث لا يدخل القرط فيه إلا بتكلف لا تتكلف أيضاً، وإن كان بحيث لو أمرَّت الماء عليه دخله، ولو عدلت لم يدخله أمرت الماء عليه حتى يدخله، ولا تتكلف إدخال شيء فيه سوى الماء من خشب أو نحوه لإيصال الماء إليه.
الأقلف إذا اغتسل من الجنابة ولم يدخل الماء داخل الجلدة جاز؛ لأنها خلقة، وقال في الأقلف إذا خرج بوله من طرف ذكره حتى صار في قلفته فعليه الوضوء.

ذكر القاضي الإسبيجابي هاتين المسألتين على هذا الوجه في «شرحه» وكل

(1/80)


واحدة ترد إشكالاً على الأخرى، والجواب في هاتين المسألتين على هذا الوجه منقول عن ابن سلمة رحمه الله، وذكر في آخر «النوادر» قبيل باب التأويلات عن الفقيه أبي بكر رحمه الله أن الأقلف إذا لم يدخل الماء داخل الجلدة، ففي الغسل لا يجزئه، وفي الوضوء يجزئه، وجعله كالمضمضة والاستنشاق والله أعلم.
نوع منه فى بيان فرائضه وسننه
والفرض فيه أن يغسل جميع بدنه ويتمضمض ويستنشق، والمضمضة والاستنشاق فرضان في الغسل، نفلان في الوضوء، والأصل فيه قوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعرة والبشرة» ، وفي الأنف شعر وفي الفم بشرة. قال ابن الأعرابي: البشرة اسم لجلدة تقي اللحم من الأذى، ولأن الأنف والفم عضوان يمكن إيصال الماء إليهما من غير حرج، فيجب في الغسل عن الجنابة كما في سائر الأعضاء وهذا لأن الواجب تطهير البدن، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (المائده:6) واسم البدن يتناول الكل إلا ما لا يمكن إيصال الماء إليه يسقط اعتباره لمكان الضرورة، فأما إذا أمكن إيصال الماء إلى هذين العضوين من غير حرج لا ضرورة إلى إسقاط اعتبارهما. أما في الوضوء الواجب غسل الوجه، والوجه اسم لما يواجه الناظر، والمواجهة لا تقع بباطن الفم والأنف.
v
وتقديم الوضوء على الاغتسال في الجنابة سنة، وليس فرضاً عند علمائنا رحمهم الله، حتى إنه لو لم يتوضأ وأفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً أجزأه إذا كان قد تمضمض واستنشق.

رجل اغتسل من الجنابة ولم يتمضمض، إلا أنه شرب الماء، هل يقوم شرب الماء مقام المضمضة؟ كان الفقيه أحمد بن إبراهيم يقول لعمرو هكذا كان جواب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله (9ب1) حسب ما بلغ: إذا تمضمض يجوز، وما لا فلا، وبنحوه روى الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عن محمد، والذي روي عنه جنب شرب الماء قال: إن كان الشرب أتى على جميع فمه يجزئه عن المضمضمة، وإن كان مص الماء مصاً، فلم يأت على جميع فمه لم تجزئه عن المضمضمة.

(1/81)


وفي «نوادر هشام» : جنب تمضمض وأدار الماء، قال: إن أصاب ذلك الفم كله أجزأه قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: إن أبا يوسف قال: لا يجزئه إلا أن يمجه، قال محمد: قال أبو يوسف: يجزئه إذا أصاب الفم كله، وعن بعض مشايخنا: إن الرجل إذا كان عالماً لا يجزئه، وإن كان جاهلاً أجزأه، فإنه إذا كان عالماً يمص الماء مصاً، وليس فيه مبالغة، فلا يصل الماء إلى جميع فمه، وإذا كان جاهلاً يغب الماء غباً والتقريب ما ذكرنا. وفي «واقعات الناطفي» : أنه لا يجزئه كيف ما شرب ما لم يمجه.
وإذا اغتسل من الجنابة وبقي بين أسنانه طعام ولم يصل الماء تحته جاز؛ لأن ما بين الأسنان رطب، فلا يمنع وصول الماء إلى ما تحته، وذكر الناطفي في «واقعاته» أنه لا يجزئه ما لم يقلع ذلك الطعام ويجري الماء عليه.
وإذا كان على ظاهر بدنه جلد سميك أو خبز ممضوغ قد جف واغتسل ولم يصل الماء إلى ما تحته، لا يجوز ولو كان مكانه خرء ذباب أو برغوث وباقي المسألة بحالها جاز، وقد مر هذا في فصل الوضوء.
والمرأة إذا عجنت وبقي العجين في ظفرها فاغتسلت من الجنابة لم يجز، ولو بقي الدرن جاز يستوي فيه القروي والمدني عند عامة المشايخ وهو الصحيح، وقد مرت هذه المسألة في فصل الوضوء أيضاً، وذكرنا ثمة قول الإمام الزاهد الصفار رحمه الله.
نوع منه فى بيان أسباب الغسل

فنقول أسباب الغسل ثلاثة: الجنابة، والحيض، والنفاس، وهذا النوع لبيان الغسل عن الجنابة وأحكامها، ومسائل الحيض والنفاس تأتي في آخر الباب في فصل على حدة إن شاء الله تعالى فنقول: الجنابة تثبت بشيئين:
أحدهما: انفصال المني عن شهوة، والثاني: الإيلاج في الآدمي، واختلفت عبارة أصحابنا رحمهم الله في الإيلاج الذي تثبت به الجنابة، فالمروي عن محمد رحمه الله: أنه إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة إنه يجب الغسل، والمروي عن أبي يوسف أنه إذا توارت الحشفة في قبل أو دبر من الآدمي يجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل.
والكرخي في «كتابه» يقول في الإيلاج في أحد السبيلين: إذا توارت الحشفة يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل، وهذا هو المذهب لعلمائنا رحمهم الله، فوجوب الغسل عند علمائنا رحمهم الله غير مقصور على التقاء الختانين، فإن الإيلاج في الدبر يوجب الغسل عليهما بالإجماع، وإن لم يوجب التقاء الختانين والإيلاج في البهيمة لا يوجب الغسل إلا بالإنزال؛ لأنه ناقص في قضاء الشهوة، فأشبه الاستمتاع بالكف، وذلك لا يوجب الغسل بدون الإنزال كذا ههنا.
الإيلاج في الميتة بمنزلة الإيلاج في البهائم لا يوجب الغسل ما لم ينزل والإيلاج في الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا يوجب الغسل، هكذا ذكر في «الأجناس» ، وفي «شرح الشافي» في كتاب الحدود أن عليه الغسل وإن لم ينزل.

(1/82)


وفي «الفتاوى» : إذا أتى امرأته وهي بكر، فلا غسل عليه ما لم ينزل، لأن البكارة تمنع من التقاء الختانين وبدونه لا يجب الغسل ما لم ينزل، كذلك لا غسل عليها لانعدام السبب في حقها، وكذلك إذا كانت ثيباً ولم يوار الحشفة، فلا غسل عليه ما لم ينزل ولا غسل عليها أيضاً لما قلنا، وقال محمد رحمه الله: في البكر إذا جومعت فيما دون الفرج فدخل من مائه فرجها: فلا غسل عليها؛ لأن الغسل إنما يجب بالتقاء الختانين أو بنزول الماء ولم يوجد واحد منهم حتى لو حبلت يجب الغسل لنزول مائها.
غلام ابن عشر سنين جامع امرأته البالغة، فعليها الغسل لوجود السبب في حقها وهو مواراة الحشفة بعد توجه الخطاب، ولا غسل على الغلام لعدم الخطاب إلا أنه يؤمر بالغسل تخلقاً واعتباراً كما يؤمر بالصلاة تخلقاً واعتباراً، ولو كان الرجل بالغاً والمرأة صغيرة يجامع مثلها، فعلى الرجل الغسل، ولا غسل عليها لوجود السبب في حقه وانعدام السبب في حقها، وجماع الخصي يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به لوجود السبب هو مواراة الحشفة.
والكافر إذا أجنب ثم أسلم ففي وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، قال بعضهم يجب، وإليه أشار محمد رحمه الله في «السير الكبير» ، والمذكور في «السير» : وينبغي للرجل إذا أسلم أن يغتسل غسل الجنابة، وعلل فقال؛ لأن المشركين لا يغتسلون من الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في ذلك، وإنما أراد بما قال والله أعلم: إن من المشركين من لا يدين الاغتسال من الجنابة، ومنهم من يدين كقريش وبنو هاشم عامتهم توارثوا من إسماعيل عليه السلام إلا أنهم لا يدرون كيفيته، فكانوا لا يتمضمضون ولا يستنشقون، وهما فرضان ألا ترى فرضية المضمضمة والاستنشاق في الاغتسال قد خفي على كثير من العلماء، فكيف على الكفار.

على (أن) ما أشار إليه في «الكتاب» لا يخلو عن أحد شيئين: لا إما يغتسلون عن الجنابة أو يغتسلون عنها، ولكن لا يدرون كيفيتها وأي ذلك ما كان يؤمرون بالاغتسال بعد الإسلام لبقاء حكم الجنابة.
ثم فيما ذكر محمد رحمه الله بيان أن صفة الجنابة تتحقق في حق الكفار عند وجود سببها، وبه تبين أن ما ذكر بعض مشايخنا أن الغسل بعد الإسلام مستحب، وذلك في حق من لم يكن قبل ذلك أجنب، وبه تبين أن ما قال بعض المشايخ بأن الجنابة في حق الكفار لا توجب الاغتسال بعد الإسلام لأن الكفار غير مخاطبين، غير سديد.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ؛ لأن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أو لا يخاطبون بها؟ فمن قال: يخاطبون بها، يقول: الغسل يجب عليه في حال كفره ولهذا لو أتى به يصح، وهذا ظاهر، ومن قال بأنهم لا يخاطبون بها، لا ينبغي أن يقول: بوجوب الغسل بعد الإسلام، ولذلك وجهان:

(1/83)


أحدهما: أن الاغتسال لا يجب بالجنابة ليقال إنه وقت وجوب الاغتسال غير مخاطب في الشرائع، إنما وجوبه بإرادة الصلاة وهو جنب كما أن الوضوء لا يجب بالحدث، وإنما يجب بإرادة الصلاة وهو محدث، قلنا: وهو عند إرادة الصلاة جنب مسلم، فلذلك يلزمه الاغتسال.
والثاني: أن صفة الجنابة مستدامة، فاستدامتها بعد الإسلام كإنشائها، ولهذا قلنا: لو انقطع دم الحيض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال؛ لأنه لاستدامة للانقطاع حتى يجعل دوامه كابتدائه، فلم يوجد سبب وجوب الاغتسال في حقها بعد الإسلام لا حقيقة ولا حكماً، فلا يلزمها الاغتسال. فظهر الفرق على هذا المعنى بين الكافر إذا أجنب ثم أسلم وبين الكافرة إذا حاضت وانقطع دمها ثم أسلمت. هذا هو الكلام في طرف الإيلاج.

جئنا إلى طرف انفصال المني؛ يجب أن يعلم بأن المني ماء دافق خاثر أبيض ينكسر منه الذكر هو المذكور في عامة الكتب، وزاد في «الشافي» : ويخلق منه الولد، فمتى كان حركته * يعني مفارقته عن مكانه * وخروجه عن شهوة، سواء كان بمس أو نظر أو فكرة، أو ما أشبه ذلك من الملاقاة وغيرها يجب الغسل بلا خلاف، ومتى كان مفارقته عن مكانه وخروجه لا عن شهوة لا يوجب الغسل عند علمائنا المتقدمين وعامة مشايخنا المتأخرين.
وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه قال: يجب الغسل بخروج المني على كل حال، وهو قول الشافعي: حتى إن من حمل شيئاً، فسبقه المني، فلا غسل عليه عند علمائنا المتقدمين وعامة المتأخرين، خلافاً لعيسى والشافعي. وكذلك الرجل إذا أصاب (10أ1) الضرب ظهره فسبقه المني لا غسل عليه عند عامة علمائنا المتقدمين، وعامة المتأخرين خلافاً لعيسى والشافعي.
ومتى كان مفارقته عن مكانه عن شهوة وخروجه لا عن شهوة، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجب الغسل، وعلى قول أبي يوسف لا يجب الغسل، فالعبرة عند أبي حنيفة ومحمد لانفصال المني عن مكانه على وجه الدفق والشهوة، لا لظهوره على وجه الشهوة، وعند أبي يوسف العبرة لخروجه وظهوره على وجه الشهوة. وثمرة الخلاف تظهر في مسائل:
إحداها: إذا استمتع بالكف فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافاً لأبي يوسف.
الثانية: إذا جامع امرأته فيما دون الفرج ثم انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافاً لأبي يوسف.
الثالثة: إذا احتلم فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة استيقظ وأخذ بإحليله حتى انكسرت شهوته ثم خرج المني.

(1/84)


الرابعة: إذا جامع امرأته واغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المني وجب الغسل عندهما، وكذلك إذا خرج مذي، وأجمعوا على أنه إذا بال ثم اغتسل أو نام ثم خرج المني أنه لا غسل عليه.
وفي «الأجناس» : لو جامع واغتسل قبل أن يبول وصلى، ثم بال فإنه يعيد الغسل عندهما ولا يعيد الصلاة بلا خلاف، وإذا بال فخرج من ذكره مني، فإن كان ذكره منتشراً فعليه الغسل، وإن كان منكسراً فعليه الوضوء.
وفي «مجموع النوازل» : المرأة؛ إذا اغتسلت بعدما جامعها زوجها ثم خرج منها مني الزوج، فعليها الوضوء دون الغسل؛ لأن الخارج ليس ماءها بل هو حدث.
ومما يتصل بطرف خروج المني مسائل الاحتلام
إذا استيقظ الرجل ووجد على فراشه بللاً وهو يذكر احتلاماً، إن تيقن أنه مني أو تيقن أنه مذي أو شك أنه مني أو مذي، فعليه الغسل، وليس في هذا إيجاب الغسل بالمذي بل فيه إيجاب الغسل بالمني؛ لأن سبب خروج المني قد وجد وهو الاحتلام، فالظاهر خروجه إلا أن طبع المني الرقة بإطالة المدة، فالظاهر أنه مني إلا أنه رق قبل أن يستيقط، وإن تيقن أنه ودي لا غسل عليه.
وإن رأى بللاً إلا أنه لم يتذكر الاحتلام، فإن تيقن أنه (مذي) لا يجب الغسل؛ لأن سبب خروج المني ههنا لم يوجد، فلا يمكن أن يقال بأنه مني ثم رق لطول المدة، بل هو مذي حقيقة، والمذي لا يوجب الغسل وإن شك أنه مني أو مذي، قال أبو يوسف رحمه الله: لا يوجب الغسل حتى يتيقن بالاحتلام، وقالا يجب الغسل، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.

وإذا تذكر الاحتلام ولم ير بللاً فلا غسل عليه لظاهر قوله عليه السلام: «من احتلم ولم ير بللاً فلا شيء عليه» ، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: ذكر هشام في «نوداره» عن محمد رحمه الله: إذا استيقظ الرجل فوجد البلل في إحليله ولم يذكر حلماً إن كان ذكره منتشراً قبل النوم، فلا غسل عليه، إلا إذا تيقن أنه مني، وإن كان ذكره ساكناً قبل النوم فعليه الغسل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون، فيجب أن تحفظ.
إذا نام الرجل قاعداً أو قائماً أو ماشياً ثم استيقظ ووجد بللاً فهذا وما لو نام مضطجعاً سواء، وإذا احتلم الرجل وانفصل المني عن مكانه إلا أنه لم يظهر على رأس الإحليل، فلا غسل عليه، لأن الخروج بهذا لا يتحقق، ألا ترى أنه لا يلزمه الوضوء بنزول البول إلى هذا الموضع.

(1/85)


المرأة إذا احتلمت، ولم تر بللاً روي عن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أنها إذا تذكرت الاحتلام والإنزال والتلذذ فعليها الغسل وإن لم تر بللاً، وبه أخذ بعض المشايخ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولا يؤخذ بهذه الرواية؛ لأن النساء يقلن: إن مني المرأة يخرج من الداخل كمني الرجل، وفي ظاهر الرواية: أنه يشترط الخروج من الفرج الداخل إلى الفرج الظاهر لوجوب الغسل، حتى لو انفصل منها عن مكانه ولم يخرج عن الفرج الداخل إلى الفرج الخارج لا غسل عليها، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليهما.
وفي «صلاة ابن عبد الله» : امرأة قالت...... حتى يأتيني في النوم مراراً وأجد في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، وذكر (وجب) أنه غسل عليها.
رجل وامرأة ناما واستيقظا وجدا منياً بينهما وكل واحد منهما ينكر الاحتلام وينكر أن المني منه، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: بوجوب الغسل عليهما وهو الاحتياط، ومن المشايخ من قال: إن (كان) ذلك الماء غليظاً أبيض فهو من الرجل، وإن كان رقيقاً أصفر فهو من المرأة، ومنهم من علل إن وقع طولاً فهو من الرجل وإن وقع مدوداً فهو من المرأة.
الرجل إذا صار مغشياً عليه ثم أفاق ووجد مذياً على فخذه أو ثيابه، فلا غسل عليه، وكذلك السكران إذا أفاق ووجد مذياً على فخذه أو ثوبه، فلا غسل عليه، وليس هذا كالنوم والله تعالى أعلم.
نوع منه فى سبب وجوب الاغتسال
اختلف المشايخ في سبب وجوب الاغتسال، قال بعضهم: سبب وجوبها الجنابة، وقال بعضهم: سبب وجوبها إرادة ما حرم عليه بسبب الجنابة، وسيأتي بيان ما حرم عليه بسبب الجنابة في النوع الذي يلي هذا النوع.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع لحديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كان يغتسل بالصاع، فقيل له: إن لم يكف؟ فغضب قال: لقد كفى من هو خير منكم، وأكثر شعراً» والصاع ثمانية أرطال، كل رطل نصف مَنّ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، وهو قول الشافعي، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الصوم إن شاء الله، وهذا التقدير لماء الإفاضة فإن أراد تقديم الوضوء زاد مداً، وكل ذلك ليس بتقدير لازم بل يستعمل من الماء بقدر ما يقع عنده أنه حصل التطهير، ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكنت أقول له: أبقِ لي

(1/86)


وهو يقول لي: أبقِ لي» .

وإذا أجنبت المرأة ثم أدركها الحيض فهي بالخيار إن شاءت اغتسلت؛ لأن فيه زيادة تنظيف وإزالة أحد الحدثين، وإن شاءت أخرت الاغتسال حتى تطهر؛ لأن الاغتسال للتطهير حتى تتمكن من أداء الصلاة، ألا ترى أن الجنب إذا أخر الاغتسال إلى وقت الصلاة لا يأثم، دل أن المقصود من الطهارة الصلاة، ومن لا يتمكن من الصلاة، فكان لها أن لا تغتسل.
وفي صلاة «فتاوى أبي الليث» : ثمن ماء الاغتسال على الزوج، وكذا ماؤها عليه غنية كانت أو فقيرة. وفي وصايا الطحاوي: روي عن محمد بن سلمة أن على الزوج الماء الذي تغسل المرأة (به) ثوبها أو بدنها من الوسخ، وليس عليه أن يشتري لها ماء الوضوء والغسل كما لا يلزمه الدواء، قال محمد: وهكذا قول أصحابنا رحمهم الله، وقد قيل: ينبغي أن يجب عليه ماء الاغتسال، ولا يجب عليه ماء الوضوء؛ لأنه سبب لوجوب الاغتسال عليها، وليس سبباً لوجوب الوضوء عليها، بل وجوب الوضوء بإيجاب الله تعالى، وينبغي للجنب أن يدخل أصبعه في سرته إلا إذا علم أنه يصل الماء إليها من غير إدخال الأصبع، فحينئذٍ لا يلزمه ذلك.
المرأة إذا أجنبت ثم أدركها الحيض أو الحائض إذا أجنبت ثم طهرت حتى وجب عليها الاغتسال، فهذا الاغتسال يكون من الجنابة أو الحيض؟ حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي محمد عبد الرحيم بن محمد الكرميني رحمه الله أنه كان يقول: اختلفت عبارات أصحابنا رحمهم الله: وظاهر الجواب أن الاغتسال يكون منهما جميعاً. وقال أبو عبد الله الجرجاني: يكون من الأول، ولا يكون من الثاني، وكذلك الرجل إذا رعف ثم بال، فإن الوضوء يكون من الأول لا من الثاني على قوله (10ب1) وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إن كانا من جنسين متحدين يكون من الأول لا من الثاني، كما إذا بال ثم بال أما إذا كانا من جنسين مختلفين، فإنه يكون منها جميعاً، كما إذا رعف ثم بال.

وروي عن خلف بن أيوب أنه كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله يسأله عمن رعف ثم بال إن الوضوء يكون من الثاني أو من الأول؟ فكتب إليه أن الوضوء يكون منهما، ولهذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول أن الوضوء يكون منهما جميعاً.
وثمرة الخلاف إنما تظهر بمسألة، وصورتها: إذا قال الرجل: إن توضأت من الرعاف فامرأته طالق، فرعف ثم بال ثم توضأ، فإنه يقع الطلاق عليها على الأقوال كلها أما على أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه وجد الرعاف أولاً، وأما على قول الفقيه أبي جعفر وهو رواية عن أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، فلأن الوضوء منهما، وأما إذا بال ثم

(1/87)


رعف ثم توضأ، فعلى قول أبي عبد الله الجرجاني لا يقع الطلاق عليها في هذه الصورة لأن شرط وقوع الطلاق عليها الوضوء من الرعاف والوضوء ههنا وقع من البول عنده، ولأنه هو الأول وعلى الأقوال الأخر يقع الطلاق؛ لأن على الأقوال الأخر الوضوء منهما.
قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم رحمه الله: كنا نقول: الوضوء يكون بأغلظها حتى إن الرجل إذا رعف ثم بال فالوضوء يكون منهما لاستوائهما، فأما إذا رعف ثم أجنب أو بال ثم أجنب فالوضوء الذي يكون في الاغتسال من الجنابة لأنها أغلظ. ثم وجدنا رواية أبي حنيفة: أن الوضوء منهما. فرجعنا عن ذلك وأخذنا بقول أبي حنيفة والله أعلم.
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أن الاغتسال على أحد عشر نوعاً، خمسة منها فريضة: الاغتسال من الحيض والنفاس، ومن التقاء الختانين، وغيبوبة الحشفة، ومن الاحتلام إذا أنزل، ومن إنزال المني عن شهوة دفعاً.
وأربعة منها سنّة: غسل يوم الجمعة وفي العيدين، والغسل يوم عرفة عند الإحرام. وواحد منها واجب وهو غسل الميت حتى لا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل، والآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم، يريد بها: إذا لم يجنب قبل الإسلام فإنه يستحب له أن يغتسل.

وههنا فصل آخر، أن الكافرة إذا أسلمت بعدما انقطع دم الحيض والنفاس فإنه يستحب لها أن تغتسل، ولا يجب عليها ذلك، وإن كان انقطاع الدم بعد الإسلام فرض عليهم الغسل.
والكافر إذا أجنب قبل الإسلام فقد ذكرنا أن في وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، وذكرنا أن الصحيح أنه يجب وفرقنا بين الحيض وبين النفاس. وههنا فصلان آخران: أحدهما: الصبي إذا بلغ بالاحتلام. والثاني: الصبية إذا بلغت بالحيض هل يجب عليهما الغسل؟ وفي الفصلين جميعاً اختلاف المشايخ والاحتياط في القول بالوجوب والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان أحكام الجنابة
وإنها كثيرة: منها حرمة الصلاة لقوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} معطوفاً على قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء: 43) .
ومنها دخول المسجد وإنها ثابتة بالسنّة عندنا وهو قوله عليه السلام: «إني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» . وعند الشافعي بالكتاب وهو قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (النساء: 43) حتى يجوز له الدخول في المسجد عنده على سبيل العبور دون القعود.
وعندنا لا يجوز له الدخول في المسجد أصلاً لا للعبور ولا للقعود لأنه لا فصل

(1/88)


في السنة، والمراد من قوله تعالى: {إلا عابري سبيل} عندنا: المسافرون. سمّاهم الله تعالى بهذا الاسم لعبورهم على السبيل، كما أن المسافر يشبه ابن السبيل في المرور في السبيل.

ومنها حرمة الطواف بالبيت؛ لأن البيت في المسجد، ولا يحل له الدخول في المسجد فلا يحل له الطواف ضرورة. ومنها حرمة قراءة القرآن، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان نهى الجنب عن قراءة القرآن. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة، الآية وما دونها في تحريم القراءة سواء عند الكرخي؛ لأن الكل قرآن. وقيد الطحاوي حرمة القراءة بآية تامة؛ لأن المتعلق بالقراءة حكمان: أحدهما: جواز الصلاة به، والثاني: حرمة القراءة على الجنب في أَحَد حكمين وهو جواز الصلاة يفصل بين الآية وما دونها. /
فكذلك في الحكم الآخر وهو حرمة القراءة على الجنب، وهذا إذا قصد القراءة، فإن لم يقصدها فلا بأس به نحو قوله: الحمد لله، على سبيل الشكر. وكذلك إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم إن قصد القراءة يكره، وإن قصد به افتتاح الكلام لا يكره، وكذلك إذا ذكر دعاء في القرآن وهو آية تامة يريد به الدعاء لا يكره.
ولا يكره له قراءة دعاء القنوت في ظاهر مذهب أصحابنا لأنه ليس بقرآن. وعن محمد رحمه الله أنه يكره لأنه قرآن عند بعض الصحابة. ولا يكره التهجي بالقرآن لأن التهجي بالقرآن ليس بقراءة القرآن. ويكره له قراءة التوراة والزبور والإنجيل. ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «الفتاوى» : ولا يمس المصحف ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا الدرهم المكتوب (عليه) سورة الإخلاص لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: 79) .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى بعض القبائل: «لا يمس القرآن حائض ولا جنب» . وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض وإن مسّ المصحف بغلافه فلا بأس به. والكلام في الغلاف في حق الجنب نظير الكلام فيه في حق المحدث. وإذا مسه بكمه أو ذيله فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في المحدث.

وإذا أراد أن يغسل الفم ويقرأ القرآن أو يغسل اليد ويمس المصحف، فإنه لا يحل له القراءة والمس لأن الجنابة لا تتجزأ زوالاً كما لا تتجزأ ثبوتاً. ويكره مسّ كتب التفسير ومس كتب الفقه وما هو من كتب الشريعة، وقد ذكر هنا الوجه في حق المحدث، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه.

(1/89)


ويكره له كتابة القرآن عند محمد، وهو قول الشعبي ومجاهد وابن المبارك لأنه في حكم الماس للصحيفة. وبقوله أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وكذلك الفقيه أبو جعفر أفتى بقوله إلا أن يكون أقل من آية، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا كانت الصحيفة على الأرض؛ لأنه ليس بحامل للقرآن والكتابة توجد حرفاً حرفاً. وإذ أراد الجنب الأكل فينبغي له أن يغسل يديه ثم يتمضمض ثم يأكل والله أعلم.