المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الرابع في المياه التي يجوز التوضؤ بها والتي لا يجوز التوضؤ بها
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه فى الماء الجاري
ويجوز التوضؤ بالماء الجاري، ولا يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وبعدما تغير أحد هذه الأوصاف وحكم بنجاسته لا يحكم بطهارته ما لم يزل ذلك التغير بأن يزاد عليه ماء طاهر حتى نزيل ذلك التغير، وهذا لأن إزالة عين النجاسة عن الماء غير ممكن فيقام زوال ذلك التغير الذي حكم بالنجاسة لأجله مقام زوال عين النجاسة.
والدليل على أن العبرة في الماء الجاري لتغير إحدى الأوصاف التي ذكرنا ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة: إذا صُبّ حِبٌّ من الخمر في الفرات ورجل أسفل منه يتوضأ به أجزأه إذا لم تتغير إحدى أوصاف الماء.
بعد هذا الكلام في تحديد أدنى ما يكون من الجريان في حق جواز الوضوء، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إذا كان يذهب بالنجاسة قبل اغتراف الغرفة الثانية فهو ماء جار.

وقال بعضهم: إذا كان بحال لو ألقي فيه تبن أو ورق يذهب به فهو جاري. وقال

(1/90)


بعضهم: إذا كان بحال لو اغترف المتوضىء في أعمق موضع من الجدول انقطع جريانه ثم امتلأ (11ب1) حتى يجري فهو ليس بجار وإن لم ينقطع فهو جار، وقال بعضهم: إن كان بحال لو وضع إنسان يده عليه عَرْضاً فقطع الجري فهو ليس بجار، وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط.
قال بعضهم: إن كان بحال لو رفع باليد حسر ما تحته وينقطع الجريان فهو ليس بجار وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط الاغتراف من أعمق المواضع إذا كانت النجاسة غير مرئية فإن كانت النجاسة مرئية فلا يتوضأ من الموضع الذي فيه النجاسة وإنما يتوضأ من موضع آخر، هكذ قاله بعض المشايخ وبعض المشايخ قالوا: إن توضأ من الموضع الذي وقع فيه النجاسة بقرب النجاسة جاز إذا لم يتغير أحد أوصاف الماء.
وإذا جلس الناس صفوفاً على شط نهر وتوضؤوا بمائه جاز وهو الصحيح، وفي «النوازل» : إذا كانت مياه تجري ضعيفاً فأراد إنسان أن يتوضأ منه فإن كان وجهه إلى مورد الماء يجوز، وإن كان وجهه إلى مسيل الماء لا يجوز إلا أن يمكث بين كل غرفتين مقدار ما يذهب الماء بغسالته، قالوا: ودلت المسألة على فضيلة أهل..... حيث تجوز طهارة عالمهم وباطنهم.
وفي «نظم الزندويستي» إذا توضأ في الماء الجاري وهو كثير أو قليل فالأفضل أن يجعل يمينه إلى أعلى الماء، يعني إلى مورد الماء ويأخذ الماء من الأعلى، وإن لم يفعل كذلك وجعل يمينه أسفل الماء يعني إلى مسيل الماء وأخذ الماء من الأسفل ففي الماء الكثير يجوز، وفي الماء القليل ينبغي أن يتوضأ على التأني والوقار حتى يمر عنه الماء المستعمل وهذا إذا كان الماء لا يجري جرياً عاجلاً.

وأما إذا كان جرياً عاجلاً يجوز كيفما فعل، ومشايخ بخارى توسعوا في ذلك وجوزوا كيفما توضأ لعموم البلوى إذا كان الماء كثيراً، أما النهر إذا انقطع من أعلاه وبقي الجريان في أسفل النهر فتوضأ رجل من أسفل النهر جاز لأنه ماء جار. هكذا ذكر في «واقعات الناطفي» وفيه أيضاً عن أبي يوسف ساقية صغيرة فيها كلب ميت قد سدّ عرضها فجرى الماء عليه لا بأس بالتوضؤ أسفل منه، وذكر الناطفي هذه المسألة بعينها في «الأجناس» وأجاب بما أجاب في «الواقعات» ثم قال: وعندي أن هذا قول أبي يوسف.
وأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا يجوز التوضؤ به، وفي «الطحاوي» و «النوازل» : لو كان القدر الذي يلاقي الجيفة من الماء دون الذي لا يلاقي الجيفة جاز التوضؤ أسفل منه، وإن كان مثله أو أكثر لا يجوز، قال: وإذا كانت الجيفة تُرى من تحت الماء لقلة الماء لا لصفائه كان الذي يلاقيها أكثر إذا كان سدّ عرض الساقية فيها، وإن كانت لا ترى أو لم تأخذ أقل من النصف لم يكن للذي يلاقيها أثر.
ونظير ما ذكر في «الطحاوي» و «النوازل» : ماء المطر إذا جرى في ميزاب السطح

(1/91)


وكان على السطح عذرة فالماء طاهر لأن الماء الذي يجري على غير العذرة أكثر، وإن كانت العذرة عند الميزاب إن كان الماء كله أو أكثره أو نصفه يلاقي العذرة فهو نجس وإلا فهو طاهر.
وإن كان على السطح نجاسات كثيرة إن كان أكثر الماء يجري على النجاسة أو نصفه فالماء نجس، وإن كان أقل الماء يجري على النجاسة فالماء طاهر، وقال محمد رحمه الله: إن كانت النجاسة في جانب واحد من السطح فالماء طاهر، وكذلك إذا كان في جانبين. وإن كان في ثلاث جوانب فالماء نجس.

ورأيت مسألة المطر في بعض الفتاوى وكان المذكور: قال مشايخنا: ماء المطر ما دام يُمطر فله حكم الجريان حتى إذا أصاب العذرات على السطح ثم أصاب ثوباً لا يتنجس إلا أن يتغير. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» : المطر إذا أصاب السقف وفي السقف نجاسة فوكف وأصاب الماء ثوباً ننظر إن كانت النجاسة في جميع السقف فجميع ما وكف السقف طاهر فيكون الغالب الماء الطاهر فلا يحكم بنجاسته وعامة السقف طاهر، فما وكف من السقف لا يكون نجساً وتكون العبرة للغالب كماء جار في بعضه نجاسة والغالب هو الطاهر. وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يزيف هذا التفصيل وكان يقول: النجاسة وإن كانت في بعض السقف إلا أن الماء قدم عليها فتنجس فهذا ماء جار نجس ولكن الصحيح أنه ينظر في الذي يسيل من السقف، إن كان مطراً دائماً لم ينقطع بعد فما سال من المنقب فهو طاهر، وأما إذا انقطع المطر وسال من المنقب شيء فما سال فهو نجس.
وسئل الفقيه أبو جعفر عن كلب ميت احتبس في نهر والماء يجري في جانبي الكلب قال؛ ينظر إن كان للماء الذي يجري في جانبي الكلب قوة الجريان، ومعناه: أنه لو انفرد يجري بنفسه، يجوز التوضؤ به فكذلك إذا كان الماء يجري على أعلى كلب يجوز التوضؤ به. وإن كان جميع الماء يجري في جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان فإنه نجس.
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفرق بينهما ويقول الماء نجس في الأحوال كلها. وفي «المنتقى» : إذا كان يظن النهر نجساً، وهذه المسألة نظير مسألة «الطحاوي» و «النوازل» والله أعلم.
(نوع آخر) في الحياض والغدران والعيون

يجب أن يعلم أن الماء الراكد إذا كان كثيراً فهو بمنزلة الماء الجاري لا يتنجس جميعه بوقوع النجاسة في طرف منه إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. على هذا اتفق العلماء وبه أخذ عامة المشايخ، وإذا كان قليلاً فهو بمنزلة الحباب والأواني يتنجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم تتغير إحدى أوصافه. وقال مالك: لا يتنجس ما لم تتغير إحدى أوصافه. وقال الشافعي رحمه الله: فيما دون القلتين مثل قولنا، وإذا بلغ قلتين وزيادة مثل قول مالك.
والقلتان: خمس قرب كل قربة خمسون مناً فتكون الجملة مئتان وخمسون، وقد

(1/92)


قيل الجملة ثلاثمئة. وحجة مالك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من النجاسات فقال عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» فالنبي عليه السلام نفى تنجس المياه إلا بتغير إحدى الأوصاف الثلاثة.

حجة الشافعي: قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثاً» . حجتنا على مالك قوله عليه السلام «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم اليسير ولا يغتسلن فيه عن جنابة» ، والغسل عن الجنابة لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن الماء الراكد اليسير يتنجس بوقوع النجاسة فيه على كل حال وإلا لم يكن لهذا النهي معنى وفائدة. قال عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في إناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده» . أمر بغسل اليد بطريق الاحتياط حال توهم النجاسة، وإدخال مثل هذه اليد في الإناء لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن النجاسة إذا كانت متيقنة يتنجس الماء على كل حال وإلا لم يكن لهذا الاحتياط حالة التوهم معنى، ولأن القياس في الكثير أن يتنجس أيضاً لأن الجزء الذي لاقاه النجاسة يتنجس بملاقاة النجاسة إياه كما في غير الماء من المائعات وإذا تنجس ذلك الجزء والذي يجاوره ثم وثم حتى يصير الكل نجساً كما في غير الماء من المائعات لكن تركنا القياس في الكثير لأجل الضرورة لأن صون الكثير بالأواني غير ممكن والضرورة في القليل لأن صون القليل بالأواني ممكن فنعمل في القليل بالقياس وأما حديث بئر بضاعة فليس بثابت، ولو ثبت فهو محمول على أن ماءه كان كثيراً، أو كان جارياً فإنه روي أنه كان يُسقى منه خمسة بساتين أو سبعة بساتين.

وحجتنا على الشافعي أن رسول الله عليه السلام حكم بنجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة فيه وكذلك الصحابة أجمعوا على نجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة وفيه، ماء البئر في العادة تكون أكثر من مئتين وخمسين منّاً. وأما ما تعلق به الشافعي رحمه الله قلنا: لا يصح التعلق به من وجوه فإن في سنده ضعفاً، روي عن علي بن المديني إسناد البخاري أنه قال: لا يصح هذا الحديث عن رسول لله عليه السلام وفي متنه اضطراب، روي «إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً» وروي «إذا بلغ الماء أربعين قلة» ، والقلّة مجهولة تذكر ويراد بها قامة الرجل، وتذكر ويراد بها رأس الجمل وتذكر ويراد بها الجرة، فلا يتعين البعض إلا بدليل، وقوله «لا تحمل خبثاً» يحتمل معنيين. يحتمل ما قاله الشافعي، ويحتمل معنى

(1/93)


(11ب1) الضعف، يعني لا يحتمل النجاسة لضعفه فيتنجس لقلته كما يقال: فلان لا يحتمل الضرب أي يضعف عن تحمل الضرب، وهذه الدابة لا تحتمل هذا الحمل أي لا تطيق حمله، فلا يصح التعليق ... ، وعن أبي يوسف في تأويل الحديث أن تكون عيناً تنبع وهو مقدار القلتين وهو جار ولها معان فتوضأ رجل.... فلا بأس به لأنه في معنى الماء الجاري.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: وقال بعض المتأخرين: الوضوء بالماء الراكد لا يجوز وإن كان عشراً في عشر أو أكثر منه، ووجه ذلك: أنا أجمعنا على أن الحوض إذا كان أقل من عشر فإنه لا يجوز التوضؤ فيه وإنما لا يجوز لأن بالاستنجاء يصير الماء نجساً لكونه قليلاً فيحصل الوضوء بالماء النجس.
وإذا كان عشراً في عشر فبالاستنجاء يتنجس من ذلك الجانب مقدار ما يتنجس إذا كان أقل من عشرة من ذلك الجانب، فيحصل التوضؤ بالماء النجس ولكن هذا ليس بشيء لأن فيه كلام أن النجاسة إذا كانت غير مرئية هل يتنجس موضع وقوع النجاسة وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى..

وإن سلمنا ذلك إلا أنه لا يطهر بالتحريك في حالة الاغتراف لأن الماء النجس يطهر بالاختلاط بالماء الطاهر، ألا ترى أن الماء الراكد في النهر إذا تنجس فنزل من أعلاه ماء طاهر وأجراه وسيّله فلا يطهر، وإنما يطهر باختلاط بالماء الطاهر، وبورود الماء الطاهر عليه فكذا هنا ما بقي من الماء طاهراً وارداً على ما تنجس توسعة الأمر على الناس.
ثم لابد من حد فاصل بين القليل والكثير فنقول: إذا كان الماء بحيث يخلص بعضه إلى بعض بأن تصل النجاسة من الجزء المستعمل إلى الجانب الآخر كان قليلاً، وإن كان لا يخلص كان كثيراً.
وإذا اشتبه الخلوص فالجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يخلص، ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله في الكتب المشهورة بأن الخلوص يعتبر بالتحريك إذا حرك طرف منه إن لم يتحرك الطرف الآخر فهو مما لا يخلص، وإن تحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، فنستدل بوصول الحركة إلى الجانب الآخر على أن النجاسة وصلت إليه، وتقدم وصول الحركة على أن النجاسة لم تصل إليه، وهذا لأنه تقدر معرفة الخلوص بوصول عين النجاسة لأن من النجاسات مما لا يرى وصوله إلى الجانب الآخر كالبول والخمر فيعتبر الوصول بشيء آخر.
فأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله اعتبروا الخلوص بالتحريك،

(1/94)


والمتأخرون اعتبروا الخلوص بشيء آخر، فعن أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله أنه قال: إن كان الماء بحال لو اغتسل فيه وتكدّر الجانب الذي اغتسل فيه وصلت الكدرة إلى الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض، وأبو حفص الكبير رحمه الله اعتبر الخلوص بالصبغ فقال يلقى فيه الصبغ من جانب، فإن أثر الصبغ في الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض.

وأبو سليمان الجوزجاني رحمه الله كان يقول: إن كان عشراً في عشر فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، وإن كان أقل من ذلك فهو مما يخلص، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» أنه سئل عن هذه المسألة فقال: إن كان مثل مسجدي هذا فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فلما قام مسح مسجده فكان ثمان في ثمان في رواية، وعشراً في عشر في رواية، واثني عشر في اثني عشر في رواية، وأكثر مشايخ بلخ على أنه إن كان خمسة عشر في خمسة عشر لا تبقى فيه شبهة، وإن كان ثمانية يحتاط فيه، وعامة المشايخ أخذوا بقول أبي سليمان وقالوا: إذا كان عشراً في عشر فهو كبير، وبعضهم اعتمدوا على التحريك لأنه تعذر اعتبار الكدرة والصبغ لأن في النجاسة ما (لا) يرى نحو البول والخمر، فيصل إلى الجانب الآخر قبل وصول اللون والكدرة إليه لأن قدر الصبغ يتفاوت، والكدرة قد تكون وقد لا تكون وتعذر اعتبار المساحة لأن الروايات فيه اختلفت عن محمد، وقد صح أنه رجع عنه فيعتبر التحريك.
بعد هذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتبر التحريك بالاغتسال لأن حاجة الإنسان إلى الغسل في المياه الجارية والحياض أكثر من حاجته إلى الوضوء، فإن الوضوء يكون في البيوت غالباً.
وفي رواية أخرى عنه يعتبر التحريك بالوضوء لأن التحريك بالوضوء أخف، ومبنى الماء في حكم النجاسة على الخفة دفعاً للضرورة، فإن القياس أن يتنجس الكثير، ولكن سقط حكم النجاسة عن الكثير تخفيفاً فلما اعتبر التخفيف في أصل الماء كنّا نعتبر التخفيف في التحريك، وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر التحريك بغسل اليد لأن التحريك باليد أخف.
قال مشايخنا: وإنما يعتبر تحريك الجانب الآخر من ساعته لا بعد المكث، ولا يعتبر نفس التحرك وحباب الماء، فإن الماء وإن كثر يعلو الحباب ويتحرك، وإنما الشرط أن يرتفع وينخفض من الجانب الآخر من ساعته، وبنحوه روى الحسن عن أبي حنيفة.

جئنا إلى بيان مقدار العمق فنقول: ذكر المعلى في «كتابه» : أنه ينبغي أن يكون عمقه قدر ذراعين، وهذا على قول من يعتبر التحريك بالاغتسال لأن على قوله: ينبغي أن يكون الماء بحال يتأتى فيه الاغتسال وذلك قدر ذراعين. وقال بعضهم قالوا: اشترط أن يكون بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه لا ينحسر ولا يظهر ما تحته، وقال بعضهم: يشترط أن يكون بحال لو حُرك وجه الماء لا يتكدر ماء وجه الأرض.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي بكر بن حامد رحمه الله أنه قال: قدّر مشايخنا العمق بأربعة أصابع مفتوحة.

(1/95)


ثم الحوض إذا كان كبيراً بحيث لا يخلص بعضه إلى بعض حتى وقع فيه نجاسة حتى لا يتنجس جميعه هل يتنجس شيء منه؟ فهذا على وجهين: أما إن كانت النجاسة مرئية أو غير مرئية.
فإن كانت مرئية لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من ناحية أخرى كما في الماء الجاري.
بعد هذا اختلف المشايخ قال بعضهم: يحرك الماء بيده مقدار ما يحتاج إليه عند الوضوء والاستعمال فإن تحركت النجاسة لم يستعمل الماء من ذلك الموضع. وقال بعضهم: يتنجس حول البعرة مقدار حوض صغير وما رواه ظاهر.
وقال بعضهم: يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أن النجاسة لم تخلص إلى هذا الموضع توضأ وشرب منه. ويبنى على هذا ما إذا توضأ في بعضه فوجد في النجاسة بعدما فرغ من الوضوء.
وأما إذا كانت النجاسة غير مرئية بأن بال فيها إنسان واغتسل فيها جنب، حكي عن مشايخ العراق أنهم قالوا: لا فرق بين النجاسة المرئية وغيرها فإنما يجوز له التوضؤ من جانب آخر. ومشايخ بخارى ومشايخ بلخ رحمهم الله فرقوا بين المرئية وغيرها فقالوا: في غير المرئية يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة كما يتوضأ من الجانب الآخر بخلاف المرئية لأن الحوض الكبير بمنزلة الماء الجاري.

والجواب في الماء الجاري على هذا الوجه: إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من الموضع الذي وقعت فيه النجاسة ويتوضأ من موضع آخر، وإن كانت غير مرئية يتوضأ من أي جانب شاء، بدليل مسألة كتاب الأشربة وقد مرّ ذكرها.
وينبني على هذا ما إذا غسل وجهه في حوض كبير فسقط غسالة وجهه في الماء فرفع الماء في موضع الوقوع قبل التحريك. قالوا على قول أبي يوسف لا يجوز ما لم يتحرك الماء؛ لأن الذي وقع فيه الماء مستعمل، والماء المستعمل عنده نجس. وإلى هذا القول كان يميل القاضي الإمام أبو جعفر الاستروشني رحمه الله.
وغيره من مشايخ بخارى جوزوا ذلك وجعلوا كالماء الجاري الكثير لما توسعوا فيه لعموم البلوى.
ومن هذا الجنس مسألة أخرى وصورتها: إذا كانت به قرحة فغسل الدماء أو القيح فيها أو غسل النجاسة عن موضع من أعضائه أو ثوبه أو استنجى ودفع ذلك في الماء، أما إذا تغير الماء لا شك أنه يتنجس موضع التغير، وإن لم يتغير يدخل فيه شبهة (في) قول أبي يوسف رحمه الله.
وفي «أجناس الناطفي» أن من اغتسل من حوض فلا حرج أن يتوضأ في ذلك المكان، وليس لرجل أن يغتسل في الحوض الكبير بناحية الجيفة، وإذا كان الماء في ... أو خندق وله طول مثلاً مائة ذراع وعرضه ذراع أو ذراعان فاعلم بأن في جنس هذه المسألة أقوال ثلاثة، على قول أبي سليمان الجوزجاني يجوز التوضؤ منه. (12أ1) من غير تفصيل به ولو وقع فيه نجاسة يتنجس وطول عشرة أذرع. وقال محمد بن إبراهيم: الكبير إن كان هذا الماء مقدار ما لو جعل في حوض عرضه عشرة في عشرة ملأ الحوض

(1/96)


وصار عمقه قدر شبر يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر طرخان يقول: لا يجوز الوضوء فيه وإن كان من بخارى إلى سمرقند، فقيل له فما الحيلة في جواز الوضوء منه، قال يحفر حفيرة قريباً من الخندق ثم يحفر نهيرة من الخندق إلى الحفرة حتى يسيل الماء من الخندق إلى الحفيرة في النهيرة فيصير الماء في الخندق جارياً فيتوضأ إن شاء من الخندق وإن شاء من النهيرة وهذه حيلة حسنة.Y
الحوض الكبير إذا تجمد فثقب إنسان ثقباً فتوضأ فهذه المسألة على أربعة أوجه:
الوجه الأولى: أن يخرج الماء من الثقب وصار على وجه الجمد والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان على وجه الأرض من اعتبار العرض والطول والعمق.
الوجه الثاني: أن يكون الماء تحت الجمد منفصلاً عن الوجه وفي هذا الوجه يجوز التوضؤ منه ويكون الجمد كالسقف.
الوجه الثالث: أن يكون الماء تحت الجمد إلا أنه متصل بالجمد، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ بعضهم اعتبروا الثقب وقالوا: إن كان ماء الثقب كثيراً على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به، وما لا فلا، وبعضهم اعتبروا جملة الماء وقالوا: إذا كان جملة الماء كثيراً على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به وما لا فلا، وبه كان يفتي عبد الله بن المبارك والشيخ الإمام الزاهد أبو حفص البخاري رحمهما الله.

وعلى هذا جملة التوابيت التي في المشارع، فعند بعض المشايخ يعتبر جملة الماء، وعند بعضهم: بقية ماء التوابيت إذا كان الماء متصلاً بالألواح، واتصال ماء المشرعة بالماء الخارج منها لا ينفع كحوض كبير شعب منه حوض صغير فإنه لا يجوز التوضؤ من الحوض الصغير، وإن كان ماء الحوض الصغير متصلاً بماء الحوض الكبير، وكذلك لا يعتبر اتصال المشرعة بما تحتها إذا كانت الألواح مشدودة. وإن كان الماء أسفل من الألواح المشرعة قلنا: يجوز التوضؤ.
والزندويستي رحمه الله اعتمد على الجواز في مسألة الجمد في هذه الصورة ولكن شرط تحريك الماء في كل مرة برفع الماء.
الوجه الرابع: أن يكون الماء في الثقب كالماء في الطست، ذكر الزندويستي في «نظمه» : أن التوضؤ منه لا يجوز عند عامة العلماء إلا إذا كان الثقب عشراً في عشر بأن يتنجس الماء الذي في الثقب ثم ذاب الجمد ذكر هذا الفصل في «فوائد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله» ، وذكر أن الماء طاهر، وعن أبي يوسف رحمه الله في مشرعة يدخل فيها الماء ويخرج إلا أنه لا تظهر حركة الماء أنه هل يجوز التوضؤ فيها؟ وإن كان الماء لا يذهب كما وقع من يده ويدور فيها فلا خير فيه.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: لو توضأ في أعمدة القصب، فإن كان لا يخلص بعضها إلى بعض جاز، قال: واتصال القصب بالقصب لا يمنع اتصال الماء بالماء، وكذا لو توضأ من أرض فيها زرع وبعض الزرع متصل بالبعض يجوز. وإذا توضأ من غدير وعلى جميع وجه الماء ... فقد قيل: إن كان بحال لو حرك يتحرك الماء يجوز.

(1/97)


إذا توضأ في حوض تجمد ماؤه إلا أنه رقيق ينكسر بتحرك الماء جاز وضوءه فيه، وإن كان الجمد على وجه الماء قطعا قطعاً؛ إن كان كثيراً لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء به، وإن كان قليلاً يتحرك بتحرك الماء يجوز الوضوء به، بمنزلة ما لو كان على وجه الماء عود لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء فيه، وإن كان يتحرك يجوز.
الحوض إذا كان أقل من عشر في عشر لكنه عميق فوقعت فيه النجاسة حتى تنجس ثم انبسط وصار عشراً في عشر فهو نجس لأن النجس لا يطهر بالانبساط والتفرق.
ولو وقعت فيه النجاسة وهو عشر في عشر ثم اجتمع الماء فصار أقل من عشر في عشر فهو طاهر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
وفيه أيضاً: حوض هو عشر في عشر قل ماؤه ووقعت فيها نجاسة حتى تنجس ثم امتلأ الحوض ولم يخرج منه شيء لا يجوز التوضؤ به، لأنه كلما دخل الماء تنجس.
وفي «الجامع الصغير» : سئل أبو نصر الدبوسي عن غدير كبير لا يكون فيه ماء في الصيف وتروث فيه الدواب والناس ثم يمتلىء في الشتاء ويرفع عنه الناس الجمد ويتوضؤون منه قال: إن كان الماء الذي يدخل الغدير أولاً يدخل على مكان نجس فالماء والجمد نجس وإن كثر الماء بعد ذلك لأنه كلما دخل صار نجساً فلا يطهر بعد ذلك وإن كان كثيراً.
وإن كان الماء الذي يدخل الغدير أولاً يدخل على مكان طاهر ويستقر فيه حتى يصير عشراً في عشر ثم انتهى إلى النجاسة فالماء والجمد طاهران لأن الماء صار كثيراً قبل وصوله إلى النجاسة، والماء الكثير لا يتنجس باتصال النجاسة به ما لم يظهر فيه أثر النجاسة. وكذلك الغدير إذا قلّ ماؤه وصار أربعاً في أربع ووقعت فيه نجاسة ثم دخل الماء بأن صار الداخل عشراً في عشر قبل أن يصل إلى النجاسة فهو طاهر وما لا فلا.
وفي «نظم الزندويستي» الحوض الكبير الخالي إذا بال فيه صبي أو تغوط ثم جاء الماء وملأه قال أكثر أهل بلخ وأبو سهل الكبير البخاري: الماء نجس، وقال الفقيه أبو جعفر والفقيه إسماعيل بن الحسن الزاهد البخاري: الماء طاهر ويجعل كأنه بال أو تغوط بعد ما قلّ. قال الزندويستي: وبه أخذ مشايخ بخارى، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد ألف مرة وقعت واقعة من هذا الجنس في زماننا ببخارى.

وصورتها: ماء المطر مرّ على النجاسات واجتمع بعد ذلك ودخل حوض خان وهو حوض كبير وماء المطر كان أكثر من ماء الحوض واتفقت أجوبة المفتين أن ماء الحوض لا يتنجس؛ لأن جميع ماء المطر لا يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة وإنما يتصل بدفعات وكل دفعة تتصل بماء الحوض، فماء الحوض غالب عليها فلا يتنجس ماء الحوض بها حتى لو صغرت يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة أكثر من ماء الحوض يتنجس ماء الحوض إذا كان أعلاه عشرة في عشرة، وأسفله أقل من ذلك وهو ماء يجوز التوضؤ والاغتسال فيه.
وإن نقص الماء حتى صار سبعاً في سبع لا يجوز التوضؤ منه وإن كان دون العشر

(1/98)


أن يكون حوله ثمانية وأربعون ذراعاً لأن هذا أقصى ما قالوا فيه فكان أحوط.
والمعتبر عند بعض من اعتبر التقدير بالذراع في الحوض ذراع الكرباس، لا ذراع المساحة توسعة للأمر على المسلمين وعند بعضهم: المعتبر ذراع المساحة لأن هذا من الممسوحات، وذراع المساحة في الممسوحات، والأصح أن يقال: يعتبر في حق أهل كل زمان ومكان ذراعهم.
فإذا كان أعلى الحوض أقل من عشر في عشر وأسفله عشر في عشر أو أكثر ووقعت نجاسة في أعلى الحوض حكم بنجاسة الأعلى ثم انتقص الماء وانتهى إلى موضع هو عشر في عشر فتوضأ فيه إنسان أو اغتسل هل يجوز؟ صارت هذه المسألة واقعة الفتوى واختلفت فيه أجوبة المفتين، والأصح أنه يجوز التوضؤ والاغتسال فيه ويجعل كأن النجاسة وقعت فيها الآن.
وهو نظير الحوض المتجمد إذا كان الماء في ثقبه وبقيته أقل من عشرة في عشرة فوقع في الثقب نجاسة حكم بنجاسة ماء الثقب، ثم إذا سفل الماء كان ذلك الماء طاهراً يجوز التوضؤ، والاغتسال منه كذا هنا.
حوض صغير تنجس ماؤه فدخل الماء الطاهر فيه من جانب وسال ماء الحوض من جانب آخر كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: كما سال ماء الحوض من جانب لآخر يحكم بطهارة الحوض، وهو اختيار الصدر الشهيد رحمه الله. وكان الفقيه أبو بكر بن سعد رحمه الله يقول: لا يحكم بطهارة الحوض حتى يخرج منه ثلاث مرات مثل ما كان في الحوض من الماء النجس، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، ومن المشايخ من شرط خروج مثل ما كان في الحوض من الماء النجس مرة واحدة.
حوض صغير يدخل الماء فيه من جانب ويخرج من جانب فتوضأ فيه إنسان، ذكر في «مجموع النوازل» عن الإمام أبي الحسن الرستفضني أنه قال: إن كان أربعاً في أربع فما دونه يجوز التوضؤ فيه، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز إلا في موضع دخول الماء وخروجه، لأن في الوجه الأول ما يقع فيه من الماء المستعمل يخرج من ساعته ولا يستقر فيه ولا كذلك الوجه الثاني. وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه سئل عن الماء. إذا كان خمساً في خمس وكان يخرج الماء منه قال: إن كان يتحرك الماء من جوانبه ويستفيض بالحركة يجوز، وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله عن هذه المسألة وأجاب بالجواز مطلقاً. ففي الحوض الصغير (12ب1) إن كان يدخل فيه الماء من جانب ويخرج من جانب يكون هكذا لأن هذا ماء جار، والماء الجاري يجوز التوضؤ به وعليه الفتوى.
وإذا كان على شط النهر أو على شط الحوض مسيل لغدير يدخل فيه الماء من الحوض أو النهر والماء الذي فيه متصل بماء الحوض والنهر، إلا أن جريان الحوض لا يظهر فيه، فتوضأ رجل في ذلك الموضع، إن كان مقدار ما فيه من الماء من حيث الطول يبلغ ذراعين ونصف لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل ذلك تبعاً للحوض، وإن كان أقل من

(1/99)


ذلك يجوز ويجعل ذلك تبعاً للحوض والنهر هكذا قيل. وقيل: لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل تبعاً للحوض والنهر على كل حال.

حوض صغير كرى رجل منه نهراً وأجرى الماء فيه وتوضأ، ثم اجتمع ذلك الماء في مكان آخر فكرى منه رجل نهراً آخراً وأجرى فيه الماء وتوضأ جاز وضوء الكل إذا كان بين المكانين قليل مسافة وكذلك حفرتان يخرج الماء من إحداهما ويدخل في الأخرى فتوضأ إنسان فيما بينهما، فإن كان بين الحفرتين قليل مسافة فماء الحفرة الثانية طاهر، هكذا قال خلف بن أيوب ونصر بن يحيى، وإن لم يكن بينهما مسافة فماء الحفرة الثانية نجس. وكذلك في الحوض إذا لم يكن بين المكانين مسافة لا يجوز وضوء الثاني.
والفرق: أنه إذا كان بين المكانين مسافة فالماء الذي استعمله الأول يرد عليه ماء جار قبل اجتماعه في المكان الثاني فلا يظهر فيه حكم الاستعمال، فأما إذا لم يكن بينهما مسافة فالماء الذي استعمله الأول لا يرد عليه ماء جار قبل أن يجتمع في المكان الثاني فيظهر فيه حكم الاستعمال فلا يطهر بعد.
وعلى قياس مسألة الثقب ينبغي أن تشترط المسافة على قول بعض المشايخ. وصورة تلك المسألة: المسافر إذا كان معه ميزاب واسع ومعه إداوة من ماء يحتاج إليه ولا يتيقن وجود الماء لكنه على طمع من ذلك ماذا يصنع؟ قيل: ينبغي أن يأمر أحداً من رفقائه حتى يصب الماء في طرف من الميزاب وهو يتوضأ، وعند الطرف الآخر من الميزاب إناء طاهر يجتمع فيه الماء فإنه يكون الماء طاهراً وطهوراً.
هذا قول بعض المشايخ، وبعض المشايخ رفضوا ذلك وقالوا: الماء بالجري إنما لا يصير مستعملاً إذا كان له مدد العين والنهر وما أشبههما أما إذا لم يكن له مدد فلا، ويجوز للرجل أن يتوضأ من الحوض الذي يخاف أن يكون فيه قذر أو لا يستيقن به قبل أن يسأل عنه وليس عليه أن يسأل. ولا يدع التوضؤ حتى يستيقن أن فيه قذر للأثر.

وإذا أسِن ماء الحوض وهو كثير ولا يعلم بوقوع النجاسة فلا بأس بالتوضؤ منه لأن الماء قد يتغير بطول الزمان، وقد يتغير بوقوع الأوراق فيه فالتغير لا يدل على وقوع النجاسة فيه لا محالة، فيجوز التوضؤ منه والله أعلم.
(نوع آخر) في ماء الآبار
البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير يفسد ماؤه بما يفسد به ماء الحوض الصغير لأن عرض الآبار في الغالب يكون أقل من عشر في عشر حتى لو كان بئراً عرضه عشرة في عشرة لا يحكم بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير لون الماء أو طعمه أو أثره.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله أنه قال: اجتمعت أنا وأبو يوسف على أن نحكم على ماء البئر أنه لا يتنجس لأنه ماء جار ثم قلنا: وما علينا أن نأمر بنزح دلاء على ما جاءت به الأخبار حتى نتبع السلف فنكون قد حكمنا فيه بالأمرين. أشار إلى أن قضية القياس بالآبار والآبار تأتي من بعد، وإنما جاء ماء آخر جار لأنه ينبع من جانب ويستخرج من جانب.

(1/100)


وقيل: وأرادا بقولهما ماء جار ماء أُلْحق بالماء الجاري حكماً لأجل الضرورة لأن التحرز عن وقوع النجاسة في البئر غير ممكن.
ثم ما يقع في البئر نوعان: نوع لا يفسد الماء، وهذا النوع في نفسه قسمان: قسم يستحب فيه نزح بعض الماء، وقسم لا يستحب فيه نزح شيء من الماء.
أما القسم الذي لا يستحب فيه نزح بعض الماء: الآدمي الطاهر، إذا دخل في البئر لطلب الدلو أو للتبرد وليس على أعضائه نجاسة وخرج منها حياً وهذا جواب ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينزح عشرون دلواً ويريد به بطريق الاستحباب لأن الماء يلاقي أعضاء الطهارة. وذلك يوجب استعمال الماء لو قصده، واعتبر هذا في إيجاب نزح أدنى ما ورد التقدير بنزحه، وذلك عشرون احتياطاً. وإن كان محدثاً ينزح أربعون لأن الحدث يزول به فصار حكمه أكثر من حكم المتطهر فضوعف في النزح فصار أربعين.

وكذلك سائر الجمادات الطاهرة كالخشب الطاهر والحجر الطاهر والمدر الطاهر وأشباهها لا يفسد الماء ولا يستحب نزح شيء منه. وكذلك كل حيوان طاهر السؤر، وما ينفصل عنه نحو الحمام وما أشبهه إذا وقع فيه وأُخرج حيّاً لا ينزح منه شيء.
وأما القسم الذي يستحب فيه نزح بعض الماء:
إذا وقع في البئر فأرة أو عصفور أو دجاجة أو سنور أو شاة وأخرجت منها حيّة لا ينجس الماء. ولا يجب نزح شيء منه، وهذا استحسان لأن هذه الحيوانات ما دامت حيّة فهي طاهرة. والقياس أن يتنجس البئر بوقوع واحد من هذه الحيوانات فيه وإن أخرج حياً لأن سبيل هذه الحيوانات نجس فتحل النجاسة في الماء فيوجب تنجس الماء، لكن تركنا القياس لحديث رسول الله عليه السلام. وآثار الصحابة فإنهم لم يعتبروا نجاسة السبيل حتى يأمروا بنزح بعض ماء البئر بعد موت الفأرة ولو اعتبروا نجاسة السبيل لأمروا بنزح جميع الماء، ولكن مع هذا إن كان الواقع فأرة يستحب لهم أن ينزحوا عشرين دلواً. وإن كان الواقع سنوراً أو دجاجة مخلاة يستحب لهم أن ينزحوا أربعين دلواً؛ لأن سؤر هذه الحيوانات مكروه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
والغالب أن الماء يصيب فم الواقع حتى لو تيقنا أن الماء لم يصب فم هذه الحيوانات لا ينزح شيء من الماء، فإن كانت الدجاجة غير مخلاة لا ينزح منها شيء. هذا الذي ذكرنا كلّه ظاهر الرواية.
وفي «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله في مسألة الشاة روايتان. في رواية قال: لا ينزح منه شيء كما هو جواب ظاهر الرواية. وفي رواية قال: ينزح ماء البئر كلّه، وعلق لهذه الرواية فقال: لأن البول الذي يجري على فخذيها ورجليها فيها، فكان المراد من الرواية الأخرى ومن ظاهر الرواية: إذا لم يكن على فخذيها ورجليها بول.
وفي «القدوري» : الشاة التي تلطخ فخذها ببولها إذا وقعت في البئر قال أبو حنيفة رحمه الله: ينزح عشرون دلواً لأن نجاسة بولها خفيفة توجب إظهار الحرمة في إيجاب

(1/101)


نزح أدنى ما ورد التقدير به، وقال أبو يوسف: تنزح جميعها لأن أثر حرمة النجاسة يظهر في الثوب دون الماء، ألا ترى لو وقع فيه فرس فأخرج حياً فعلى قولهما لا ينزح شيء منها لأن عينه طاهر عندهما وسؤره كذلك. وعلى قول أبي حنيفة ينزح منها دلاء بطريق الاستحباب لأنه طاهر في نفسه وهو لا يلطخ فخذه ببوله إلا أن سؤره مكروه على إحدى الروايتين عنه فينزح دلاء لهذا، ثم في كل موضع كان النزح مستحباً لا ينقص من عشرين دلواً، إليه أشار محمد رحمه الله في «النوادر» برواية إبراهيم عنه.
وصورة ما ذكر في «النوادر» فأرة أو هرة أو دجاجة مخلاة وقعت في بئر فأخرجت منها حيّةً قال: إن توضأ منه أجزأه وأحب إليّ أن ينزح منها عشرون دلواً، ثم قال: ولا يكون النزح في شيء من الأشياء أقل من عشرين دلواً. فقد قدّر النزح في هذه المسألة بعشرين دلواً. والنزح في هذه المسألة بطريق الاستحباب ثم عطف عليه قوله:
ولا يكون النزح في شيء أقل من عشرين دلواً، فيعلم بدلالة الحال أنه أراد بقوله ولا يكون النزح أقل من عشرين النزح المستحب. وقال أبو يوسف رحمه الله: النزح الواجب لا يكون أقل من عشرين، أما النزح المستحب يكون أقل من عشرين، ولا يكون أقل من عشرة، ألا ترى أنه قال في السّنور ينزح عشر دلاء أو نحو ذلك بطريق الاستحباب (13أ1) .
النوع الثاني: وهو الذي يفسد ماء البئر أقسام. قسم يفسد جميع ماء البئر لا محالة، وقسم يفسد جميع ماء البئر على أحد الاعتبارين، وقسم فيه اختلاف، وقسم يفسد بعض الماء.

أما القسم الأول: فسائر النجاسات، نحو بول الآدمي ورجيعه، وبول ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات على الاتفاق، وبول ما يؤكل لحمه على الخلاف. وسيأتي بيان النجاسات بعد هذا في فصل على حدة، وكذلك إذا وقع فيه خمر أو ما سواها من الأشربة التي لا يحل شربها وكذلك إذا وقع فيه خنزير أو سبع وجب نزح جميع الماء.
وكذلك لو دخل في البئر جنب أو محدث لطلب الدلو وعلى أعضائه نجاسة بأن لم يكن مستنجياً أو كان مستنجياً بالخذف ينزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع كافر في البئر وأخرج حيّاً نزح ماء البئر كلّه. ذكره في «كتاب الصلاة» للحسن.
وكذلك السقط إذا وقع في البئر قبل الغسل أو بعده ينزح ماء البئر كله، وذكر ابن رستم في السقط كذلك وفيما استهل قبل الغسل كذلك. وذكر فيما استهل بعد الغسل أنه لا يفسد الماء.
وفي «فتاوى أبي الليث» عن أبي القاسم الصفار: في الإنسان الميّت وقع في البئر يفسد الماء غسل أو لم يغسل. وكذلك إذا وقع شيء من الحيوانات في البئر ومات وانتفخت يجب نزح ماء البئر كله لأنه ينفصل منه بلّة نجسة وتلك البلّة مائعة. ومتى وقع في البئر نجس مائع وجب نزح ماء البئر كله لأن النجاسة تصير مجاورة للماء كله فيجب إخراج الكل، كما لو وقع فيه قطرة من خمر أو بول.
وعن هذا قلنا: لو وقع ذنب الفأرة في البئر يجب نزح جميع الماء، لأنها لا تخلو

(1/102)


عن بلة وتلك البلّة بانفرادها، لو وقعت في الماء وجب نزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع فيها آدمي طاهر ومات فيها، يجب نزح ماء البئر كلّه انتفخ أو لم ينتفخ. فقد روي أنه وقع زنجي في ماء زمزم ومات فأمر عبد الله بن عباس بأن تُسدّ منابع الماء وينزح جميع الماء.

وكذلك لو كان الواقع في البئر شاة أو كلب ومات وانتفخ أو لم ينتفخ، وجب نزح الماء كله، لأن جثة الشاة والكلب تعدل جثة الآدمي وقد ورد الأثر الآدمي بنزح جميع الماء، وكذلك إذا كان الواقع بغل أو حمار أو فرس ومات وانتفخ أو لم ينتفخ ينزح جميع الماء.

القسم الثاني
الحمار والبغل إذا وقع في البئر وأخرج قبل أن يموت، فإن أصاب الماء فمه ينزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه لا يجب نزح شيء لأن سؤرهما مشكل فيصير ماء البئر باتصاله بسؤرهما بمنزلة سؤرهما.
القسم الثالث
الكلب إذا وقع في الماء فأخرج حيّاً؛ إن أصاب فمه الماء فهو من جملة القسم الأول يجب نزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه الماء فعلى قولهما يجب نزح جميع الماء لأن عين الكلب نجس عندهما حتى قالا: إذا وقع الكلب في ماء وخرج وانتفض فأصاب ثوباً أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه. وعن أبي حنيفة رحمه الله في «الكتاب» إذا وقع في الماء ثم خرج حيّاً أنه لا بأس به، وهذه إشارة إلى أن عين الكلب ليس بنجس.
وقال أيضاً: في كلب وقع في ماء وخرج حيّاً، فاعجنوا منه فلا بأس بذلك، هكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي «الجامع الأصغر» إذا وقع الكلب في البئر لم يتنجس الماء. وقال غيره: يتنجس.
وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : كلب مشى على الثلج فوضع إنسان رجله على ذلك الموضع أو جعل ذلك الثلج في المثلج فإن لم يكن رطباً ويقال بالفارسية أن تاك لا بأس به، وإن كان رطباً فهو نجس لأن عينه نجس، وكذا إذا مشى على طين وردغة فوضع إنسان رجله على أثر رجله تنجس رجله لأن عينه نجس.

وفيه أيضاً: الكلب إذا دخل الماء ثم خرج وانتفض فأصاب ثوب إنسان أفسده، ولو أصابه ماء مطر وباقي المسألة بحالها لم يفسده لأن في الوجه الأول الماء أصاب جلده وجلده نجس، وفي الوجه الثاني: أصاب شعره وشعره ليس بنجس. وذكر مسألة المطر في موضع آخر وفصلها تفصيلاً فقال: إن أصاب المطر جلده يمنع جواز الصلاة وإن لم يصب جلده لا يمنع جواز الصلاة.
القسم الرابع

إذا ماتت فأرة أو عصفور في بئر فأخرجت حين ماتت قبل أن تنتفخ فإنه ينزح منها عشرون دلواً إلى ثلاثين بعد إخراج الفأرة، والعشرون على سبيل الحتم، والزيادة على

(1/103)


سبيل الاحتياط. ولو توضأ بماء البئر إنسان قبل نزح العشرين لا يجوز، وكان يجب أن يجوز التوضؤ به بعد إخراج الفأرة إذا لم تكن قد انتفخت؛ لأن الماء بوقوع النجاسة فيه، إنما تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة أجزاء الماء وإذا أخرجت الفأرة من ساعته لم يبق من أجزائها في الماء شيء، فكان يجب أن لا يحكم بنجاسة الماء متى أخرجت وهي ميتة كما لا يحكم بنجاسته متى أخرجت وهي حيّة إلا أنا تركنا القياس بالآثار.Y
روى القاضي الإمام أبو جعفر والفقيه أبو علي الحافظ بإسنادهما عن رسول الله عليه السلام أنه قال في الفأرة: «إذا وقعت في البئر فماتت فيه فأخرجت من ساعته أنه ينزح منها عشرون دلواً أو ثلاثون» . وعن علي رضي الله عنه أنه قال: في الفأرة إذا وقعت في البئر فماتت فيها فأخرجت: ينزح منها سبع دلاء، وفي رواية ينزح منها دلاء ولا يفسد بئر في هذه الرواية.
وفي رواية ينزح منها عشرون دلواً أو ثلاثون، وفي رواية ينزح منها ثلاثون دلواً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الفأرة إذا وقعت في البئر وماتت فيها إنه ينزح منها أربعون دلواً فتركنا القياس بهذه الآثار. والسلف اتفقوا على هذا أيضاً فتركنا القياس اتباعاً لقولهم أيضاً.

وقد روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في الفأرة تموت في البئر فأخرجت من ساعته، فاتفق رأينا أنه لا يجب نزح شيء بعد إخراج الفأرة إلا أنا حكمنا بنجاسة الماء بالآثار، أشار إلى أنه ترك القياس بالآثار وأقوال السلف، ثم إنما قدرنا بالعشرين لأنها أوسط الأعداد التي ذكرت في الآثار، والقياس بعد ما جرى الحكم بنجاسة البئر أحد الشيئين.
أمّا ما قاله بشر أنه يطم البئر طماً ويحفر في موضع آخر، ولا يحكم بطهارته بالنزح لأنه يتقاطر من الدلو في البئر وتلك القطرات نجسة فوجب تنجس الماء ولأن غاية ما في الباب أنه ينزح جميع الماء ويبقى الطين والحجارة نجساً ولا يمكن كنسه ليغسل فيطم لهذا وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أنه ينبغي أن يحكم بطهارة الماء إذا نزح منها دلو واحد أو اثنين أو ثلاثاً؛ لأنه كلما نزح من أعلاه يبقى في أسفله فيصير بمعنى الماء الجاري لكن تركنا كلا القياسين اتباعاً للآثار ولأقوال السلف على نحو ما بيّنا وهو معنى ما ذكر ابن رستم في «نوادره» لا يؤخذ في البئر شيء من القياس. ونوع من المعنى يدل على الفرق بين الماء الجاري والذي لا يخلص بعضه إلى بعض وبين ماء البئر: أن الشيء إذا أصابته النجاسة لا يحكم بطهارته إلا بإزالة النجاسة عن الموضع الذي أصابته كما في غير الماء، إلا أنه لا يمكن اعتبار حقيقة الإزالة في الماء فتعتبر الإزالة بقدر الإمكان، فقيل: متى كان الماء جارياً ورد الطاهر على النجس وأزالها عن موضعها، فحكم بالطهارة بطريق زوال النجاسة بقدر الإمكان، وكذلك في الماء الذي لا يخلص بعضه إلى بعض فالطاهر اعتبرو

(1/104)


على النجس، لأن الجانب الذي وافته النجاسة إن يتنجس بالجانب الآخر بقي طاهراً، فيرد على هذا الماء النجس ماء طاهر فيطهر بإزالة النجاسة عن موضعها، فكان هذا قولاً بإزالة النجاسة عن الماء بعد ما تنجس بقدر الإمكان.

ولا يمكن اعتبار هذا المعنى في البئر لأن ماء البئر لا يرد عليه ماء طاهر لأن جوانب البئر قد تنجس بوقوع النجاسة فيه، فلا يمكن اعتبار الإزالة عن موضع الإصابة إلى موضع آخر لم يصبه، فاعتبرت الإزالة بالإخراج من الوجه الذي ورد به الأثر.
ثم جعل في «الكتاب» العصفور بمنزلة الفأرة لأنه في الجثة مثل الفأرة، فالتقدير الوارد في الفأرة يكون وارداً في العصفور.

وإن كان الواقع في البئر سنوراً أو دجاجة فأخرجت ساعة ما ماتت ينزح أربعون (13ب1) أو خمسون، في «ظاهر الرواية» أربعون على طريق الحتم والإيجاب، وخمسون على طريق الاستحباب لأن السنور يعدل الدجاجة في الجثة وقد ورد الأثر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الدجاجة تموت في البئر أنه ينزح أربعون دلواً فيكون وارداً في السنور دلالةً.
ففي «ظاهر الرواية» جعل جنس هذه المسائل على ثلاث مراتب: بعضهم أوجب نزح عشرين دلواً إلى ثلاثين، وذلك العصفور والفأرة وأشباههما، وفي بعضهما أوجب نزح ماء البئر كلّه وذلك في الشاة والآدمي، وفي بعضها يجب نزح أربعين دلواً أو خمسين وذلك السنّور والدجاجة ونحوهما.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله جعل جنس هذه المسائل على مراتب ثلاث ما ذكرنا والرابعة أوجب في الفأرة التي هي صغيرة الجثة وفي.... عشر دلاء والخامسة أوجب في الحمامة نزح ثلاثين دلواً.
وإذا وقع في البئر بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم فأخرجت قبل التفتت لم يتنجس البئر وإن أخرجت بعد التفتت تنجس البئر وهذا استحسان والقياس أن يتنجس البئر على كلّ حال لأن هذه نجاسة وقعت في ماء قليل فتنجسه كما لو وقعت في وعاء ووعاء الماء قليل.
وللاستحسان وجهان: أحدهما: الضرورة والبلوى بيان ذلك أن آبار الفلوات ليس لها روشن حاجز والإبل والغنم تسقى بها فتبعر حولها فتسقط في البئر أو الرياح تلقيها في البئر، فلو حكمنا بالنجاسة لضاق الأمر على الناس.

والثاني: أن البعر شيء صلب متماسك لا يمازج الماء منه شيء، والمشايخ فيما بينهم اختلفوا منهم من اعتبر الوجه الأول ومنهم من اعتبر الوجه الثاني.

(1/105)


وأما سائر الأوعية فعلى الوجه الأول نجسه لأنه لا ضرورة ولا بلوى في سائر الأوعية، وعلى الوجه الثاني لا تنجسه لأن كونه صلباً لا يختلف. وإذا خرج من الجب بعرة فعلى الوجه الأول يحكم بنجاسته وعلى الوجه الثاني لا يحكم بنجاسته. وأما إذا كان الواقع نصفاً فعلى الوجه الأول لا ينجسه لأن البلوى والضرورة لا تفصل بين الصحيح والنصف وعلى الوجه الثاني ينجسه لأن الماء تداخل أجزاؤه من الجانب الذي انكسر.
وأما إذا كان البعر رطباً فنقول: في «ظاهر الرواية» لم يفصل بين الرطب واليابس وكأن في «ظاهر الرواية» اعتبر الوجه الأول لأن الريح الشديد يقوى على نقل الرطب وعليه كثير من المشايخ، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» : أن الرطب بعيد وكأنه لم يعتبر الضرورة والبلوى في اليابس على هذه الرواية إنما اعتبر الوجه الثاني وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ.
ووجه هذه الرواية: أن الرطوبة تمزج بالماء وتلك الرطوبة نجسة وهذا القائل يقول: بأن الرطوبة التي على البيضة والسخلة نجسة إلا أنها إذا يبست طهرت، ومن اعتبر الوجه الأول في البعرة إذا كانت يابسة يقول: البلة التي على الرطبة طاهرة لأنها بلة الأمعاء وهذا القائل يقول: البلة التي على السخلة والبيضة طاهرة، وهذا كله إذا كانت البئر في المفازة.
فأما إذا كانت في المصر فقد اختلف المشايخ فيه فمن اعتمد على الوجه الأول يقول: نجسة لأنه لا ضرورة ولا بلوى في الأمصار لأن الآبار في الأمصار لا تخلو عن حاجز حولها فلا يقع فيها شيء ومن اعتمد على الوجه الثاني يقول: لا تنجسه، لأن الوجه الثاني لا يوجب الفصل بين المصر والمفازة، وهذا كلّه إذا كان البعر قليلاً.
وأما إذا كان كثيراً فإنه ينجس الماء لأنه لا ضرورة في الكثير.

وقد اختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القليل والكثير، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن ما استكثره الناس فهو كثير وما استقلّه الناس فهو قليل، وعن محمد رحمه الله أنه إن كان بحال يأخذ ربع وجه الماء كان كثيراً، وإن كان أقل من ذلك فهو قليل، ومن المشايخ من قال: إن كان بحال لو جمع يأخذ ثلث وجه الماء فهو كثير وما دونه قليل، ومن المشايخ من قال: إن أخذ وجه جميع الماء فهو كثير، ومنهم من قال: إن كان لا يخلو دلو عن بعرة فهو كثير، وإن كان يخلو فهو قليل.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» روث الحمار وخثي البقر، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: ينجسه على كل حال، يريد به قليلاً كان أو كثيراً، رطباً كان أو يابساً، وقال بعضهم: إن كان من روث الحمار شيئاً مدور مستمسكاً فهو والبعر سواء، وكذلك إن كان من خثي البقر شيئاً صلباً مستمسكاً فهو والبعر سواء.
وأكثر المشايخ على أنه تعتبر فيه الضرورة والبلوى إن كان فيه ضرورة وبلوى لا يتنجس، وإن لم يكن فيه ضرورة وبلوى يتنجس.

(1/106)


وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف في روثة رطبة وقعت في بئر قال: ليستقى منها عشرون دلواً، وإن وقعت وهي يابسة فابتلت وتفرقت فكذلك، وإن أخرجت يابسة فلا شيء وعن الحسن بن زياد رحمهما الله في السرقين والبعر والأخثاء إذا وقع في الماء لم يتوضأ منه وهو قول أبي يوسف ما خلا البعرة اليابسة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله في اليابس من البعر يقع في الإناء أو البئر لا بأس به إذا كانت واحدة أو اثنتين، وإن كان كثيراً أفسد، وإن كان رطباً فقليله وكثيره يفسد، وهذه الرواية توافق ما ذكرنا من رواية أبي يوسف.

والسرقين قليله وكثيره يفسد. وقال أبو يوسف رحمه الله: إلا أني استحسن شيئاً لا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان يسيراً لا يفسده. وعن ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الأبعار الرطبة وبول ما يؤكل لحمه: إذا وقع في البئر يفسد الماء.

وإذا حلب شاة أو ضأناً فوقع بعره في المحلب حكي عن المتقدمين من المشايخ أنهم توسعوا في ذلك، إذا رمي من ساعته، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» والمتأخرون اختلفوا فيه.
وإذا وقع في البئر خرء الحمام أو خرء العصفور لا يفسده، وهذا مذهبنا لما روي عن ابن مسعود رضي الله أنه ذرق عليه حمامة فأخذ حصاة ومسح بها وصلى ولم يغسل، وهكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأن هذا الحيوان يذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه.
وهنا لو جعلناه مانعاً جواز الصلاة ضاق الأمر على الناس وبهذا الحرف يقع الفرق بين خرء هذه الحيوانات وبين خرء الدجاج لأن الدجاج لا يذرق من الهواء، فيمكن التحرز عن خرئه فلو جعلناه مانعاً جواز الصلاة لا يضيق الأمر عن الناس.
وأما خرء البط فقد ذكر القاضي صدر الإسلام رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصلاة أن البط صنفان: صنف يعيش فيما بين الناس ولا يطير كالدجاج فيمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الدجاج.
وصنف لا يعيش فيما بين الناس ويطير ويذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الحمام والعصفور.

(1/107)


ولو وقع في البئر أكثر من فأرة واحدة فالمروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح عشرون دلواً إلى الأربع. فإذا كانت خمساً ينزح أربعون إلى التسع، فإذا كانت عشراً ينزح ماء البئر كلّه. وعن محمد رحمه الله: أن الفأرتان كفأرة والثلاث كالحمامة.

وإذا توضأ رجل في بئر وصلى إماماً ثم وجد فيها فأرة ميتة أو دجاجة ميتة فإن علم وقت وقوعها يعيد الوضوء والصلاة من ذلك الوقت بالإجماع؛ لأنه علم أنه صلى بغير وضوء، والصلاة بغير وضوء لا تجوز. أما إذا لم يعلم وقت وقوعها فالقياس أن لا يجب عليه إعادة شيء من الصلاة ما لم يتيقن أنه توضأ منها وهو فيها، سواء وجدها منتفخة متفسخة أو لا. وبه أخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلا أن حنيفة رحمه الله استحسن وقال: إن وجدها منتفخة متفسخة يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وإن وجدها غير منتفخة يعيد صلاة يوم وليلة.
قال بشر قال أبو يوسف: كان قولي قول أبي حنيفة حتى رأيت يوماً في بستاني حدأة في منقارها فأرة ميتة طرحتها في بئر الماء فرجعت عن قوله. وفي «الإملاء» قال أبو يوسف: الفأرة كانت ميتة منتفخة ألقاها صبي ساعتئذٍ فلا يعيد (14أ1) الصلاة حتى يعلم أنه توضأ وهي فيها، وكذلك ما عجن من العجين بذلك الماء، القياس أن لا بأس بأكله ما لم يعلم أنه عجن به وهي فيه، وبه أخذ محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: إن كانت منتفخة متفسخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ ثلاثة أيام.
وإن كانت غير منتفخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ يوم، وبه أخذ أبو حنيفة. عن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في «الأصل» قوله كقول محمد، وفي «الإملاء» كقول أبي حنيفة.
وجه القياس: أنا تيقنا بطهارة الماء في الأصل وتيقنا بنجاسته في الحال وشككنا في نجاسته من قبل (أنه) إن وقعت وهي منتفخة لا تكون النجاسة ثابتة من قبل، وإن وقعت وهي حيّة ثم ماتت وانتفخت كانت النجاسة ثابتة من قبل فلا تثبت نجاسته من قبل بالشك.

وجه الاستحسان: أن الماء سبب لموت الحيوان الدموي فيه فيضاف إليه، وإن احتمل الموت بغيره كمن جرح إنساناً ومات يحال بالموت على الجرح وإن احتمل الموت بغيره غير أنه كما وقع لا يموت فلا بد من التقدير بشيء، فقدرنا الوقوع والموت بلا انتفاخ بيوم وليلة لأن له حكماً في باب الصلاة من سقوط الترتيب وغيره، ولأن ما دونه ساعات لا يمكن التقدير بها، وقدرنا الوقوع والموت مع الانتفاخ بثلاثة أيام ولياليها لأن الانتفاخ لا يحصل بيوم واحد غالباً ويحصل بثلاثة أيام، ألا ترى أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه يُصلى عليه في القبر إلى ثلاثة أيام، ولا يجوز بعدها لأن الصلاة شرعت على البدن لا على الأعضاء، وقبل الثلاث البدن لا يتفرق وبعد الثلاث يتفرق.
وإن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته، ستأتي هذه المسألة في كتاب الصلاة مع ما فيها من اختلاف الروايات إن شاء الله تعالى.

(1/108)


وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: لو ماتت فأرة في ماء في طست ثم صب ذلك الماء في بئر ينزح عشرون دلواً وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وذكر بعد هذه المسألة: لو ماتت فأرة في حُبّ فأريق في البئر ماء الحب، قال محمد رحمه الله ينزح من البئر أكثر من عشرين دلواً وكما في الحب من الماء، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية قال: ينزح مثل ماء الحب وثلاثون دلواً، وقال في رواية أخرى ينزح مثل ماء الحب وعشرون.

ثم في كل موضع وجب نزح جميع الماء ينزح حتى يغلبهم ماؤه ولم يقدر أبو حنيفة رحمه الله في الغلبة شيء وإنما يعمل فيه بغالب الظن، وهذا أصل ممهد له في مسائل كثيرة هكذا ذكر «القدوري» ، ومعنى المسألة: أنه إذا وجب نزح جميع الماء وأخذوا في النزح فكلما نزحوا نبع من أسفله مثل ما نزحوا أو أكثر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عليهم أن ينزحوا مقدار ما يغلب على ظنهم أنه جميع ما كان فيه عند ابتداء النزح، وعنه في «النوادر» أنه ينزح منها مائتان، وفي رواية مائة، فإذا نزحوا هذا المقدار يحكم بطهارة البئر، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» روايتان: في رواية قال: مائتا دلو أو ثلاثمائة. وفي رواية قال: مائتان وخمسون. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح مقدار ما كان فيها من الماء، وقيل في طريق معرفة ذلك أن يرسل قصبة في البئر ويُعلّم على مبلغ الماء علامة ثم ينزح منها دلاء فينظر كم انتقص فينزح بقدر ذلك، وقيل: ينظر إلى عمق البئر وعرضه ثم يحفر حفرة مثل ذلك ثم ينزح الماء من البئر ويصبّ في تلك الحفيرة فإذا امتلأت الحفيرة علم أنهم نزحوا مقدار ما كان فيها.
وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه ينظر إلى ماء البئر رجلان لهما بصارة في أثر الماء، فأي مقدار قالا إنه في البئر فإنه ينزح في ذلك المقدار، وهذا القول يريب بما حكينا من قول أبي حنيفة رحمه الله في الابتداء.
ثم إذا وجب نزح جميع الماء فلم ينزح حتى زاد الماء فقد اختلف المشايخ فيه:
قال بعضهم: ينزح مقدار ما كان في البئر وقت وقوع النجاسة وقال بعضهم: مقدار ما فيه وقت النزح، وكذلك اختلفوا في التوالي في النزح: فبعضهم شرطوا التوالي، وبعضهم لم يشترطوا، ثم على قول من لا يشترط التوالي إذا نزح بعض الماء في اليوم وتركوا النزح ثم جاؤوا من بعد فوجدوا الماء قد ازداد فعند بعضهم ينزح كل ما فيه وعند بعضهم: مقدار ما بقي عند ترك النزح من الأمس.

ثم عند بعض المشايخ يعتبر في كل بئر دلو ذلك البئر، وقال القدوري في «كتابه» : يعتبر الدلو المعتاد الوسط. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بما يسع صاعاً ليتمكن كل أحد من النزح من رجل أو امرأة أو صبي.
ولو جاؤوا بدلوٍ عظيم يسع عشرين دلواً بدلوهم فاستقوا به جاز. قال القدوري: وهو أحب إليّ، وقال زفر والحسن بن زياد: لا يجوز، هما يقولان: الطهارة معلقة بعدد معلوم شرعاً بخلاف القياس فيراعى عين ما ورد به النص.

(1/109)


ولنا: أن النزح إنما وجب لمجاوزة بعض الماء الواقع في البئر، وفي حق هذا المعنى لا فرق بين أن يؤخذ ذلك بدلو عظيم واحد أو بعشرين دلواً بل هذا المعنى في الدلو العظيم أظهر لأن الفضل العائد إلى البئر منه أقل فلهذا قال: وهو أحبّ إليّ.
وإذا نزح الماء وحكم بطهارة البئر حكم بطهارة الدلو والرشاء؛ لأن نجاستهما كانت بنجاسة البئر، فطهارتهما تكون بطهارة البئر، ألا ترى أن الخمر التي في الحب إذا صارت خلاً وحكم بطهارته يحكم بطهارة الحب تبعاً، وكذلك إذا غسل يده النجس من قمقمه وحكم بطهارة اليد يحكم بطهارة العروة بطريق التبعية.
قال في «القدوري» : وإذا جفت البئر ونضب ماؤها ثم عاد لم يطهر إلا بالنزح في قول أبي يوسف لأن الطهارة معلقة بالنزح بالآبار، وقال محمد رحمه الله تطهر بالجفاف لأن النزح ما كان واجباً لعينه وإنما كان ليذهب ما جاور النجاسة من الماء، وهذا المعنى في الجفاف أبين، وإذا نزح الماء وبقي الدلو الأخير؛ إن كان في الماء ولم ينح عن رأس الماء لا يجوز التوضؤ من ماء البئر وإن خرج من البئر ونحي عن رأس الماء إلا أنه لم يصب بعد جاز التوضؤ من البئر، وإن نحي عن رأس الماء إلا أنه لم ينح عن رأس البئر لم يجز التوضؤ من البئر في قول أبي يوسف رحمه الله حتى ينحى عنها. وقال محمد رحمه الله يجوز، وذكر الحاكم قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف وليس بمشهور. وجه قول محمد: أن الطهارة موقوفة على إخراج هذا القدر من الماء وقد وجد ما يعود إليه من القطرات عفواً بالإجماع، فلا يتغير به الحكم، ولأبي يوسف رحمه الله أن الماء النجس متصل بالبئر حكماً بدليل أن التقاط لا تصير دلواً والاتصال لا يفسد ماء البئر لوقوع النجس في البئر فصار بقاء الاتصال حكماً كبقائه حقيقة وذلك يمنع التوضؤ في البئر فكذا الاتصال حكماً.
ذكر الناطفي رحمه الله في «هدايته» : أن حكم النجاسة لا يختلف باختلاف الآبار فيما يطهر البئر الأول يطهر البئر الثاني، كماء النجاسة لو انتقلت من ثوب إلى ثوب آخر لا يختلف حكم إزالتها. هذا لفظ الناطفي.
بيان هذا فيما ذكر في مسألة «الأصل» : إذا وقعت فأرة في البئر وماتت فنزح منها دلو وصب في بئر آخر نزح منها عشرون دلواً لأن ماء هذا الدلو لو كان في البئر الأول لا يطهر البئر الأول إلا بنزح عشرين دلواً كذلك في الثاني.

ولو صب الدلو العاشر في البئر الثاني نزح من الثاني عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص ينزح أحد عشر دلواً، وهذا ظاهر لأن الدلو العاشر لو كان في البئر الأول لا يطهر إلا بنزح أحد عشر دلواً، كذا في البئر الثاني، وذكر في رواية أبي سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء.
ولا فرق بين الروايتين من حيث المعنى؛ لأن مراد أبي سليمان من قوله عشر دلاء ما وراء الدلو العاشر، وهو مقدار ما يطهر به البئر الأول.
ولو وقعت فأرة في بئر، وفأرة أخرى في بئر أخرى، وفأرة أخرى في بئر ثالث، ثم

(1/110)


نزح من كل بئر منها عشرون بعد إخراج الفأرة، وصب الكل في البئر الثالث، فإنه ينزح من البئر الثالث أربعون دلواً. ينظر إلى ما وجب في البئر الثالث، وإلى قدر المصبوب فيها فينزح قدر المصبوب ويسقط حكم ما وجب فيه، كنجاسة على الثوب زيادة على قدر الدرهم أصابته نجاسة أخرى، كان حكمها وحكم ما لم يكن عليه نجاسة سواء، فكذا في البئر المصبوب فيه حكم البئرين اللتين أخرج منهما الماء فيكتفي بأربعين دلواً (14ب1) من كل واحد عشرون دلواً، وقال محمد بن الحسن رحمه الله في «صلاة الأثر» عشرة آبار إن وقع في كل بئر فأرة وماتت فينزح من كل بئر عشرون دلواً، لوصب في واحدة إنه إن اجتمع فأرات فبلغ بقدر الدجاجة تنزح أربعون دلواً من البئر التي صب فيها.
وفي «القدوري» : إذا وقع عظم الميتة في البئر، فإن كان عليه لحم أو دم ينجس لأن ذلك لا يخلو عن بلّة نجسة وهي في حكم النجاسة المائعة، وإن لم يكن عليه لحم لا يتنجس؛ لأن نفس العظم عندنا طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
o
وفي «مجموع النوازل» : عظم تلطخ بنجاسة ووقع في البئر ولم يمكن استخراجه فإذا نزحوا ماءها فقد طهرت. وفي «الأصل» : أدنى ما ينبغي أن يكون بين بئر الماء والبالوعة خمسة أذرع، وهذا في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص سبعة أذرع.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ليس هذا بتقدير لازم، بل الشرط أن يكون بينهما برزخ يمنع خلوص طعم البالوعة أو ريحها إلى ماء البئر ولا يقدر عليها بالزرعان حتى إذا كان بينهما عشرة أذرع، وكان يوجد في البئر أثر البالوعة، فماء البئر نجس وإن كان بينهما ذراع واحد وكان لا يوجد أثر البالوعة في البئر فماء البئر طاهر. قال رحمه الله: إلا أن محمداً رحمه الله بنى هذا الجواب على ما علم من حال أراضيهم صلبة، والجواب يختلف باختلاف صلابة الأراضي ورخاوتها.
وفي «المنتقى» : أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أدنى ما يكون بين البالوعة وبين الماء خمسة أذرع، قال: وسبعة أذرع أحبّ إليّ. طعن بعض الناس على أبي حنيفة رحمه الله، وقال إنه استعمل الرأي في المقادير، ومشايخنا رحمهم الله قالوا: فتواه تخرج في مكان علم سؤال أهل الذكر أن قدر خمسة أذرع يمنع التعدي.
وفي «النوازل» : بئر بالوعة حفروها وجعلوها بئر ماء فإن حفروها مقدار ما وصلت إليه النجاسة فالماء طاهر وجوانبها نجس، وإن حفروها أوسع من الأول فالكل طاهر والله أعلم.
(نوع آخر) في الحباب والأواني
قال في «الأصل» : الكوز الذي يوضع في نواحي البيت ليغترف من الحب، فإن له أن يشرب منه ويأخذ منه ما لم يعلم أنه قذر، لأن نواحي البيت طاهر أو الماء طاهر في الأصل فهو على الطهارة ما لم نتيقن بنجاستها أو نجاسة أحدهما وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يكره أن يستخلص الإنسان من نفسه إناء يتوضأ به ولا يتوضأ به غيره.

(1/111)


وفي «الأصل» أيضاً إذا أدخل الصبي يده في كوز ماء أو رجله فإن عُلم أن يده طاهرة بيقين يجوز التوضؤ بهذا الماء، وإن علم أن يده نجسة بيقين لا يجوز التوضؤ به، وإن كان لا يعلم أنه طاهر أو نجس فالمستحب أن يتوضأ بغيره لأن الصبي لا يتوقى النجاسات عادة، مع هذا لو توضأ به أجزأه لأن الطهارة أصل، وفي النجاسة شك.

وفي كتاب «فقه الأمر» للإمام عبد الصمد القلانسي أنه إن كان مع الصبي رقيب فالماء طاهر وطهور، وإن كان مسيّباً في السكة فالماء مكروه كسؤر الدجاجة المخلاة، وهذا إذا أدخل الصبي يده في الإناء ولم ينو القربة، فأمّا إذا نوى القربة وتوضأ في الإناء سيأتي هذا الفصل بعد هذا في المياه المستعملة.
الجنب إذا اغتسل وانتضح من غسالته في إنائه أو على ثوبه قطرات صفار لا يستبين أثرها في الماء ولا في الثوب لا ينجسها، وإن استبان أثرها وهي ما إذا جمعت كانت أكثر من قدر الدرهم نجسته، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله.
وسئل أبو سليمان عن ماء الجنابة إذا وقع في الإناء وقوعاً يستبين أنها ليست بشيء، ومعنى قوله يستبين: أن ينفرج وجه ماء الإناء عند وقوع القطرات أو يرى عين القطرات ظاهرة.
وذكر هذه المسألة في «المبسوط» وقال: إن كان الواقع قليلاً لا يفسد الماء وإن كان كثيراً يفسده، تكلموا في حد القليل والكثير: روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن كان مثل رؤوس الإبر وأطراف الإبر فهو قليل، وإن زاد على ذلك فهو كثير.
وذكر الكرخي في «كتابه» : أنه إن كان مواقع القطر يستبين في الإناء فهو كثير يفسد الماء وإن كان لا يستبين فهو قليل لا يفسد الماء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جنب نزح دلواً مرة من ماء بئر وصبه على رأسه ثم استقى دلواً آخر فتقاطر من جسده في البئر، قال: هذا ليس بشيء، وإن كان الماء المستعمل نجساً عنده فكأنه أسقط اعتبار نجاسته ضرورة أن التحرز عنه غير ممكن.
حب فيه ماء أو زيت استخرج منه شيء وجعل في خابية ثم استخرج من حُب آخر فيه ماء أو زيت شيء منه، وجعل في تلك الخابية حتى امتلأت الخابية ثم وجد في الخابية فأرة ميتة ولا يدرى أن الفأرة من أي الحبين ويعلم قطعاً أنها لم تكن في الخابية قبل ذلك فما حال الحبين؟
حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة قال: إن غاب هذا الرجل عن الخابية ساعة يتوهم وقوع الفأرة في الخابية فالنجاسة للخابية والحبّان طاهران، وإن لم يغب حتى علم أنها من أحد الحبين، فالنجاسة تصرف إلى آخر الحبين لأن الحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات، هذا تمام جوابه.
قالوا: ينبغي أن يقال: إذا كان كلا الحبين لرجل واحد وتحرّى ولم يقع تحرّيه على شيء تصرف النجاسة إلى آخر الحبين، فأما إذا وقع تحريه على شيء يعمل به، وهذا

(1/112)


الجواب على هذا الإطلاق ليس بصحيح، فقد ذكر في كتاب التحري أنه إذا كان مع الرجل في السفر أوان بعضها نجسة كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء؛ إن كانت الحالة حالة الاختيار لا يتحرى للشرب ولا للوضوء، وإن كانت حالة الاضطرار يتحرّى للشرب بالإجماع ولا يتحرى للوضوء عندنا ولكنه تييمم.
ولو كان كل حب لرجل على حدة وكل واحدٍ منهما يقول: حبي طاهر يجعل كلا الحبين طاهراً.
وسئل الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أيضاً عن فأرة ميتة كانت يبست وهي في خابية جعل في الخابية الزيت فظهرت على رأس الخابية؟ فأجاب: أن الزيت نجس، وهكذا أجاب شيخ الإسلام الإسبيجابي. قال نجم الدين * هذا * رحمه الله لأن الفأرة الميتة إذا يبست وإن قالوا: إنها تطهر حتى لو صلى وفي جيبه فأرة ميتة تجوز صلاته، لكن إذا أصابها بلل حتى ابتلت تعود نجساً في أصح الروايتين عن أبي حنيفة بمنزلة الأرض النجسة إذا يبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء.
وفي «فتاوى ما وراء النهر» : كوز فيه فأرة ميتة أدخل الكوز في حُبّ الزيت قال: إن اغترف ولم يخرج منه شيء لم يفسد الحب، وإن صُبّ ماء فيه ثم أدخله ثانياً في الحب فسد الحب، لأنه فم الكوز صار ملطخاً بزيتٍ نجس. وإذا وجد في البئر بعرة فقد ذكرنا هذه المسألة في النوع المتقدم على هذا النوع، وذكرنا ثمة أيضاً مسألة بعرة الشاة إذا وقعت في الحليب عند الحلب

وإذا فرت الفأرة من الهرة ومرت على قصعة ماء ذكر هذه المسألة في مسائل ندرت لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله على التفصيل، أن الهرة إن جرحتها تتنجس القصعة وما لا فلا.
وقال في «شرح الطحاوي» : إن القصعة تتنجس مطلقاً وأشار إلى المعنى فقال: إنها تبول عن خوف الهرة.
حُبّ الماء إذا ترشح منه الماء، أو آنية الماء إذا ترشح منها الماء، فجاء كلب ولحسه لا يتنجس الماء الذي في الحب والآنية.
سمعت عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغنياني رحمه الله: إذا كان للرجل ثلاث حباب في أحدها الدهن وفي أحدها الخل وفي أحدها الدبس، فأخذ من كل واحدة من الحباب شيئاً وجعل في طست ثم وجد في الطست فأرة ميتة فإنه يشقُّ بطنها فإن كان في بطنها الدهن فالنجاسة لحب الدهن، وإن كان في بطنها الدبس فالنجاسة لحب الدبس وإن كان في بطنها الخل فالنجاسة لحب الخل، وإن لم يكن في بطنها شيء تلقى بين يدي الهرة فإن أكلتها فالنجاسة لحب الدهن والدبس وإن لم تأكلها فالنجاسة لحب الخل لأن الهرة تأكل الدهن (15أ1) والدبس ولا تأكل الخل والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عقرب أو نحوه مما لا دم له يموت في بئر الماء أو ضفدع أو سمكة أو سرطان أو نحوه مما يعيش في الماء يموت في الحب لم يفسد الماء عندنا خلافاً للشافعي.

(1/113)


يجب أن يعلم أن ما ليس له دم سائل إذا مات في الماء أو مائع آخر سوى الماء لا يوجب تنجس ما مات فيه برياً كان أو مائياً عندنا.
والأصل: ما روى سليمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عن إناء فيه طعام أو شراب يموت فيه ما ليس له دم سائل فقال: «هو الحلال أكله أو شربه أو الوضوء به» وهذا نص في الباب.

وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فامقلوه ثم امقلوه ثم امقلوه فإن في أحد جناحيه داء والأخرى دواء وإنه ليقدم الداء على الدواء» .
ومعلوم أن مقل الذباب في الطعام الحار مرتين توجب موته لو كان ذلك ينجس الماء لما أُمر به، ولأن في الأشياء التي ليس لها دم سائل هنا لا يمكن صون الأواني عنها نحو: البق والذباب والزنابير، فالقول بالنجاسة بموت هذه الأشياء يؤدي إلى أن (لا) يوجد عصير أو خل يوصف بالحل وهذا أمر قبيح، ولأن الحيوان إنما يتنجس بالموت، فيسبب اختلاط الدم المسفوح بسائر الأجزاء ألا ترى أن العظم والشعر وما أشبههما لا يتنجس بالموت لانعدام الدم فكذا لا تتنجس هذه الحيوانات. وإذا لم تتنجس هذه الحيوانات بالموت لا يتنجس ما ماتت فيه.
وأما ما له دم سائل إن كان برّيّاً بحيث لا يعيش في الماء فموته يوجب نجاسة ما مات فيه، الماء وغيره من المائعات في ذلك على السواء؛ لأن بالموت يختلط الدم المسفوح بسائر أجزاء هذه الأشياء فتنجس هذه الأشياء بالموت فيتنجس ما مات فيه.
وإن كان مائياً بأن كان لا يعيش إلا في الماء، إن مات في الماء لا يتنجس الماء في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وإن مات في غير الماء أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس. وفي غير السمكة نحو الضفدع المائي والكلب المائي والسرطان اختلف المشايخ فيه.
حكي عن نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة وأبي معاذ البلخي وأبي مطيع رحمهم الله: أنه يتنجس. وحكي عن أبي عبد الله ومحمد بن مقاتل أنه لا يتنجس. وعن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر» في الكلب المائي إذا مات في الماء أنه يفسد الماء.

وهذه المسائل تنشأ عن أصل أن الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء ليس لها دم سائل على الحقيقة، وللناس فيه كلام، بعضهم قالوا: لها دم على الحقيقة؛ لأن اللون لون الدم والرائحة رائحة الدم، وبعضهم قالوا: ليس لها دم على الحقيقة، وما يرى من لون الدم فهو ماء ملون بلون الدم، ألا ترى أن الدم إذا شُمس يَسْوَدّ وهذا إذا شمس تبيض.

(1/114)


إذا ثبت هذا فنقول: إذا ماتت هذه الحيوانات في الماء إنما لا ينجس الماء. أما على قياس من يقول لا دم لهذه الحيوانات دم سائل، ولأن الماء معدن هذه الحيوانات، ومصابها والشيء في معدنه ومصابه لا يعطى حكم النجاسة، ألا ترى أن الرجل إذا صلى وفي كمه بيضة حال محُّها دماً فصلاته جائزة.
ولو صلى وفي كمه قارورة بول لا تجوز صلاته، إلا رواية عن محمد رحمه الله فإنه قال: إذا كان رأس القارورة أقل من الدرهم جازت صلاته وما أقرها إلا باعتبار أن النجاسة في فصل البيضة في معدنها. وفي فصل القارورة: النجاسة في غير معدنها فاعتبرت.
ومعنى آخر يخص السمكة على قول هؤلاء أن الشرع أسقط اعتبار دمها حتى أباحها بغير ذكاة فالتحق دمها بالعدم، والتحقت السمكة بما ليس له دم سائل.
وأما إذا ماتت هذه الحيوانات في غير الماء من المائعات أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس، أما على قول الفريق الأول فظاهر، وأما على القول الفريق الثاني؛ فلأن الشرع أسقط اعتبار دمها فالتحق بما ليس له دم سائل.
وفي غير السمكة اختلاف المشايخ على ما مرّ.
وجه قول من قال بأنه ينجس، أن لهذه الأشياء دم سائل، والشرع ما أسقط اعتبار دمها، فإنه لا يباح تناول هذه الأشياء.

وجه قول من قال بأنه لا ينجس: أنه ليس لهذه الأشياء دم سائل على الحقيقة على ما مرّ، وأما الحيوان الذي يعيش في البر والماء جميعاً وله دم سائل كالطير المائي إن مات في غير الماء نجسه لأن له دماً سائلاً ولم يسقط اعتبار دمه شرعاً، فإنه لا يحل بدون الذكاة. وإن مات في الماء؛ فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينجس الماء؛ لأنا إن نظرنا إلى عيشه في الماء لا نحكم بنجاسة الماء، وإن نظرنا إلى عيشه في البر نحكم بنجاسة الماء، فحكمنا بنجاسة الماء ورجحنا عيشه في البر احتياطاً.

والضفدع البري إذا مات في الماء إن كان كبيراً له دم سائل نّجس الماء، وإن كان صغيراً ليس له دم سائل لا ينجس كالذباب والزنبور وما أشبههما. والعقرب ليس له دم سائل فموته في الماء لا ينجس الماء.
في «القدوري» : إذا ماتت فأرة في مائع كالسمن ونحوه، فإن كان ذائباً تنجس وجاز الانتفاع به في غير الأبدان وجاز بيعه، على البائع أن يبين ذلك للمشتري. وإن كان جامداً تلقى ويُقوّر ما حولها ويلقى وينتفع بالباقي أكلاً وغير ذلك، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عن سمن وقعت فيه فأرة وماتت قال: «إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوا الباقي وإن كان ذائباً فانتفعوا به ولا تأكلوه» ؛ ولأن في الجامد النجاسة جاورت موضعاً واحداً، فإذا قوِّر ذلك فالباقي طاهر، وفي الذائب النجاسة جاورت الكل فصار الكل نجساً.

(1/115)


وحد الجمود والذوبان: أنه إذا كان بحال لو قوِّر ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب. ثم في الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث الاستصناع به، دبغ الجلد للحديث، ولأن النجس أجزاء الفأرة وإنها مجاورة للدهن مجاورة لازمة فحرم الأكل لأنه لا ينفك عن حلول جزء من النجاسة.

فأما الانتفاع في غير الأكل يقع بالدهن لا بأجزاء الفأرة، فصار الاستعمال في حق الحرمة النجس استهلاكاً لا انتفاعاً، والبيع يرد على المذكور، والمذكور الدهن لأجزاء الفأرة بخلاف الأكل.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا وقعت النجاسة في الماء، فإن تغير وصف الماء لم يجز الانتفاع به بحال، فإن لم يتغير جاز الانتفاع به مثل بل الطين وسقي الدواب، لأن في الوجه الأول النجاسة قد غلبت عليه حتى غيرته فصار كعين النجاسة، ولا كذلك الوجه الثاني.

وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا وجب نزح الماء كله من البئر فعجن من ذلك لا يطعم ذلك بني آدم. ولا بأس بإطعامه وإلقائه للكلاب والسنانير، ولا بأس برش تلك المياه في الطريق. وروي عنه في غير هذه الصورة: يطعم ذلك العجين البهائم ولا يسقي ذلك الماء البهائم وأشار إلى العلة فقال: لأن ما يدخل عليه من إلقاء الطعام أشد من إطعام البهائم والماء لا بأس بصبه، وفي هذا التعليل أشار إلى أن هذا العجين لا يلقى في الطريق، والمفسدة في إلقائه في الطريق أعظم من المفسدة في إطعام الكلاب والسنانير، والماء يصب في الطريق المفسدة في الصب في الطريق دون المفسدة في سقي البهائم.
(نوع آخر) في الحمَّام

روى المعلّى عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري إذا أدخل يده فيه وفيه قذر لم يتنجس، واختلف المتأخرون في بيان هذا القول فمنهم من قال: مراد أبي يوسف حالة مخصوصة: وهي ما إذا كان الماء يجري إلى حوض الحمام والاغتراف منه متدارك، فهذا الماء في هذه الحالة في حكم الماء الجاري. ومنهم من قال: ماء الحمام عنده بمنزلة الماء الجاري على كل حال لأجل الضرورة، ألا ترى أن الماء الراكد وهو الحوض العظيم ألحق بالماء الجاري (15ب1) لأجل الضرورة، فكذا ماء الحمام. ويجوز التوضؤ بماء الحمام، وإن كان الماء في الحوض ساكناً لا يدخل من أنبوبه شيء ما لم يعلم بوقوع النجاسة فيه، فإن أدخل رجل يده فيه في هذه الحالة وفي يده قذر؛ فعلى قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذهب إليه بعض المشايخ لا ينجس الحوض، وعامة المشايخ على أنه ينجس، وكذلك إذا كان الناس يغرفون بقصاعهم إلا أن الماء لا يدخل من الأنبوب، فأدخل رجل يده وفي يده قذر ينجس الحوض عند عامة المشايخ، وإن كان يدخل الماء في الحوض من الأنبوب والاغتراف منه...... عامة

(1/116)


المشايخ على أنه ينجس وعليه الفتوى.

وإذا فسد ماء الحوض فأخذ رجل من ذلك الماء بالقصعة، وأمسك القصعة تحت الأنبوب فدخل الماء في القصعة من الأنبوب و ... ماء القصعة فتوضأ منه لا يجوز، وإذا أفاض الرجل في الماء المصبوب على وجه الحمام بعدما غسل قدميه وخرج فإن لم يعلم أن في الحمام جنب أجزأه أن لا يغسل قدميه. وإن علم أن في الحمام جنب قد اغتسل يلزمه أن يغسل قدميه إذا خرج، هكذا ذكر في «العيون» .
وقال الصدر الشهيد في «واقعاته» وعلى ما أحبرنا في الماء المستعمل أنه طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ينبغي أن يلزمه غسيل القدمين، ولكن اشتثنى الجنب في «العيون» فإنه موضوع الاستثناء وبه أخذ الفقيه أبو الليث.

ومن المشايخ من قال: إنما استثنى الجنب لأن الجنب يكون على يديه قذر غالباً حتى لو لم يكن كان مستعمل الجنب والمحدث سواء؛ ويكون طاهراً على رواية محمد رحمه الله، ولا يلزمه غسل الرجلين وهو الظاهر.
وذكر في «المنتقى» رواية أخرى: أنه يلزمه غسل الرجلين على كل حال سواء، علم أن في الحمام جنباً أو لم يعلم.
حوض الحمام إذا تنجس ودخل فيه الماء لا يطهر ما لم يخرج منه ما كان فيه ثلاث مرات. وقال بعضهم: إذا خرج منه مثل ما كان فيه مرة واحدة وفي «المنتقى» ما يدل على هذا القول. والمذكور في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا كان في حوض الحمام قذر لم يغتسلوا منه حتى ذهب قدر ما كان في الحوض ثم دخل ماء آخر في الحوض ثم اغتسلوا والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان المياه التي لا يجوز التوضؤ بها على الوفاق وعلى الخلاف وإنها أنواع

منها ماء الفواكه وتفسيره: أنه يدق التفاح والسفرجل دقاً ناعماً ثم يعصر فستخرج منه الماء أو يكون تفسيره: أن يدق التفاح أو السفرجل ويطبخ بالماء ويعصر ويستخرج منه الماء. وفي الوجهين جميعاً لا يجوز التوضؤ به. وكذا لا يجوز التوضؤ بماء البطيخ والقثاء والعنب ولا بالماء الذي يسيل من الكرم في الربيع. كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولا بماء الورد وفي «جوامع أبي يوسف» عنه: أنه يجوز التوضؤ بماء الكرم.
ومنها الماء ... وذكر في «نوادر بن رشيد» عن محمد رحمه الله من الماء يطرح فيه الريحان والأشنان فإن تغير لونه بأن سوده الريحان، أو حمره الأشنان، أو كان

(1/117)


الغالب عليه أثر الأشنان أو أثر الريحان لا يتوضأ به، وإن كان الغالب عليه أثر الماء، فلا بأس بالتوضؤ به، وكذلك البابونج، فأما الزعفران إذا كان قليلاً والغالب الماء فلا بأس به، فمحمد رحمه الله اعتبر الغلبة في هذه المسائل، إلا أن في بعضها أشار إلى الغلبة من حيث اللون، وفي بعضها أشار إلى الغلبة من حيث الأجزاء.

وفي «الأمالي» برواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو توضأ بماء غلي بأشنان أو آسٍ أو لشيء يتعالج به الناس ويغتسلون به، فإن الوضوء بذلك الماء يجزىء ما لم يغلب عليه. ولو توضأ بماء به ردح العصفر أجزأه إذا كان رقيقاً يستبين الماء منه، وإن غليت المجمرة وصارت ... لا يجوز التوضؤ به، وكذلك ماء الصابون إذا كان ثخيناً قد غلب على الصابون لا يجوز التوضؤ به، وإن كان رقيقاً، لكن علاه بياض الصابون جاز التوضؤ به.

قال الحاكم الشهيد رحمه الله ورأيت عن ابن سماعة عن أبي يوسف مثله، قال: وكذلك ماء الزعفران، ورأيت عنه أيضاً: لا يجوز التوضؤ بماء الحمص والباقلاء، يريد الماء الذي طبخ فيه الحمص أو الباقلاء، وكذلك ما طبخ به ليؤكل أو ليشرب أو ليتداوى به، وإذا طبخ الآس في الماء والبابونج فإن غلب على الماء حتى يقال: ماء البابونج، أو ماء الآس لا يجوز التوضؤ به، وإن طبخ في الماء السِّدْر أو الأشنان وتغيّر لونه إلا أنه لم يذهب برقته جاز التوضؤ به.
والحاصل من مذهب أبي يوسف رحمه الله: أن كل ما خلط به شيء يناسب الماء فيما يقصد من استعمال الماء وهو التطهير، فالتوضؤ به جائز بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، يعني من الأجزاء حتى لا يزول به الصفة الأصلية وهو الرقة، وذلك مثل الأشنان والصابون، وهذا لأن الخلط الذي يناسب الماء يتعالج به الناس ويغتسلون به مبالغة في التطهير، فجعل الحكم فيه كالحكم في الماء، لكن بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، وكل ما خلط به شيء لا يناسب الماء فيما قصد من استعمال الماء وهو التطهير، ففي بعض الروايات شرط عليه ذلك الشيء الماء من حيث الأجزاء لمنع جواز التوضؤ به، وفي بعض الروايات لم يشترط الغلبة من حيث الأجزاء.

ويجوز التوضؤ بالماء الذي ألقي فيه الحمص والباقلاء وتغير لونه، إلا أنه لم يُذهِب رقته، هكذا ذكر في بعض الكتب، وكذا إذا ألقي فيه الزاج حتى اسود ولكن لم تذهب رقته جاز التوضؤ به، وهذا لا يستقيم على قول محمد رحمه الله على القول الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون.
ولو بلَّ الخبز بالماء وبقيت رقته جاز الوضوء به، وإن صار ثخيناً لا يجوز، وهذا لا يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله على الرواية لا يشترط الغلبة في خلط ما لا يناسب الماء في التطهير، ولو وقع في الماء وصار ثخيناً لا يجوز التوضؤ به، لأنه بمنزلة الخمر، هكذا ذكر في بعض الكتب.

وفي «الفتاوى» : ذكر مسألة التوضؤ بالثلج وذكر فيها تفصيلاً، فقال: إن كان الثلج يذوب ويسيل إلى أعلى أعضائه ويتقاطر يجوز، وما لا فلا، يجب أن يكون الجواب في

(1/118)


المسألة المتقدمة على هذا التفصيل أيضاً.
وفي «أجناس الناطفي» ، وفي «صلاة الأثر» : لا بأس بالتوضؤ بماء السبيل إذا كانت رقة الماء غلبة غالبة، وإن لم تكن غالبة لا يجوز التوضؤ به؛ لأنه طين مسح على وجهه.
وفي «القدوري» : إذا اختلط الطاهر بالماء ولم يزل اسم الماء، ولا رقته فهو طاهر طهور تغير لونه أو لا، ولم يذكر فيه خلافاً، وهذا لا يستقيم على قول محمد على القول الذي يعتبر الغلبة من حيث اللون.
قال: وكل ما طبخ فيه شيء حتى تغير مثل الباقلاء وغيره لم يجز التوضؤ به لزوال اسم الماء عنه، ولم يذكر فيه خلافاً أيضاً، فإن أراد بهذا التغير التغير من حيث اللون فهو قول محمد رحمه الله على الفصل الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون، وإن أراد بهذا التغير التغير من حيث الأجزاء فهو قول محمد رحمه الله أيضاً على أحد قوليه، وقول أبي يوسف رحمه الله أيضاً على أحد قوليه على ما تقدم.

وفي «شرح الطحاوي» : كل ما خالط ما سواه من المائعات وغلب ذلك الشيء على الماء فحكمه حكم ذلك الشيء لا حكم الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به، فإن كانت الغلبة للماء فحكمه حكم الماء المطلق يجوز التوضؤ به.
بيانه في اللبن أو الخل أو العصير إذا اختلط بالماء، فإن كانت الغلبة للماء جاز التوضؤ، وإن كانت الغلبة للبن أو الخل أو العصير لا يجوز التوضؤ به.
وسئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن الماء الذي تغير لكثرة الأوراق الواقعة فيه حتى يظهر لون الأوراق في الكف إذا رفع الماء منه، هل يجوز التوضؤ به؟ قال: لا، لكن يجوز شربه وغسل الأشياء به، أما جواز الشرب وغسل الأشياء به فلأنه طاهر، وأما عدم جواز التوضؤ به، لأنه لما غلب لون الأوراق عليه صار ماء مقيداً كماء الباقلاء وغيره.

ومنها الماء الذي غلب على ظننا وقوع النجاسة فيه. قال القدوري في «كتابه» : كل ماء تيقنا بوقوع النجاسة فيه أو غلب على ظننا لم يجز التوضؤ به، وبعض مشايخنا قالوا: يعتبر التغير، ولا تعتبر غلبة الظن، لأن الماء طاهر بيقين، فلا ترفع عنه صفة الطهارة بمجرد الظن، والأصح ما ذكره القدوري، ألا ترى أن الواحد إذا أخبر بنجاسة الماء لا يجوز الوضوء به، وخبره يوجب (16أ1) غلبة الظن لما لا يوجب اليقين، لأن غلبة الظن تلحق باليقين خصوصاً في باب العبادات والله أعلم.
ومنها الماء المستعمل في البدن: الكلام في الماء المستعمل في مواضع:
أحدها: في نجاسته وطهارته، فنقول: اتفق أصحابنا أن الماء المستعمل ليس بطهور حتى لا يجوز التوضؤ به، ولا يجوز غسل شيء من النجاسات به.

واختلفوا في طهارته، قال محمد رحمه الله: هو طاهر، وهو رواية أبي حنيفة رحمه الله وعليه الفتوى. وقال أبو يوسف رحمه الله: هو نجس نجاسة خفيفة، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقال الحسن بن زياد: نجس نجاسة غليظة، كالبول والدم، وهو رواية عن

(1/119)


أبي حنيفة وعند زفر: هو طاهر طهور. وقال الشافعي: إن كان المستعمِل محدثاً فهو كما قال محمد طاهر غير طهور، وإن كان المستعمِل طاهراً فهو كما قال زفر طاهر وطهور.
أما ما ذهب إليه زفر أنه طاهر طهور لأنه غسل به عين طاهر، فلا تتغير صفته كما لو غسل به الثياب والقصاع الطاهرة. وإنما قلنا: إنه غُسل به عين طاهر؛ لأن أعضاء المحدث والجنب والحائض طاهرة، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يمر في بعض سكك المدينة فاستقبله حذيفة بن اليمان، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن يصافحه، فامتنع حذيفة رضي الله عنه، فسأله رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال: إني جنب، فقال عليه السلام: «المؤمن لا ينجس» وقال لعائشة رضي الله عنها: «ليست حيضتك في يدك» .

وجه قول من قال: بأنه نجس قول عليه السلام: «من توضأ وغسل وجهه تناثر عنه خطايا وجهه مع آخر قطرة من الماء، ولو غسل يديه تناثر عنه خطايا يديه مع آخر قطرة من الماء ... » الحديث إلى آخره، فجعل الماء مطهراً من الذنوب، والذنب نجس حكماً، والنجس حكماً لا يختلف عن النجس حقيقة، ثم الماء الذي يرفع فيه النجاسة يتنجس، فكذا الذي يرفع النجاسة الحكمية.
ثم على رواية الحسن: نجاسته غليظة اعتباراً بالنجاسة الحقيقية، وعلى رواية أبي يوسف خفيفة لمكان البلوى ولاختلاف الآثار فيه.

وجه قول محمد: إنه طاهر طهور ما ذكر بالرقة في إثبات الطهورية، فإن ما يدل على الطهورية يدل على الطهارة من طريق الأولى، ويدل عليه ما روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام ورضي عنهم، كانوا يتبركون بوضوء رسول الله عليه السلام، وكانوا يغسلون به وجوههم وأبدانهم ولو كان نجساً لما فعلوا ذلك، ولأن الماء إذا استعمل في محل فانقص أحواله أن يصير في مثل حال المحل، وأعضاء المحدث والجنب طاهر حتى لو صلى وهو حامل لجنب أو محدث تجوز صلاته، ولو عرق الجنب والمحدث في ثيابهم لم تتنجس ثيابهم، ولكن لا يحل أداء الصلاة ببدن محدث، فالماء المستعمل في هذا المحل تصير بهذه الصفة، فإذا أصاب الثوب يجوز الصلاة فيه، ولو توضأ به لا تجوز الصلاة.
قال مشايخنا: ولنا مسائل تدل على نجاسة الماء المستعمل، منها: أجمعنا على أن المسافر إذا كان له ما يحتاج إليه لعطشه أنه يمسك الماء ويتيم، ولو كان الماء المستعمل طاهراً لتوضأ به ثم شرب.
ومنها: أن الجنب إذا أراد أن يغتسل فتوضأ وضوءه للصلاة إلا رجله، وإنما أمر

(1/120)


بغسل رجليه كيلا تتنجس رجله ثانياً. ولو كان الماء المستعمل طاهراً لكان لا يتأخر غسل رجليه إلى ما بعد الاغتسال.
ومنها: أجمعنا على أنه يباح إراقة الماء المستعمل، ولو كان طاهراً لا يباح إراقته.

الموضع الثاني: أن الماء متى يأخذ حكم الاستعمال، فنقول: إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن، والاجتماع في المكان ليس بشرط، هذا هو مذهب أصحابنا، وما ذكر في «شرح الطحاوي» أن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن واستقر في مكان، فذاك قول سفيان الثوري وإبراهيم النخعي رحمهما الله وبعض مشايخ بلخ، وهو اختيار الطحاوي رحمه الله، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، أما مذهب أصحابنا ما ذكرنا، وعن هذا قلنا: إن من نسي مسح رأسه فأخذ ماءً من لحيته ومسح به رأسه لا يجوز، لأنه كما أخذه من لحيته فقد أخذ حكم الاستعمال؛ لأنه زايل العضو فحصل المسح بماء مستعمل.
وفي نظم «الزَّنْدويستي» : إن عند مشايخ بخارى يصير الماء مستعملاً وإن كان في الهواء، حتى قالوا: إن أصاب ثوبه يتنجس بأن كان متقاطراً، وكذا الخرقة التي يمسح بها أعضاء الوضوء، فإن كان متقاطراً يتنجس، يعني على قول من يقول بنجاسة الماء المستعمل.
وفي «شرح الطحاوي» : لو بقي على العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على ذلك العضو إلى تلك اللمعة جاز، ولو صرف البلل الذي في اليمنى إلى اللمعة التي في اليسرى، أو من اليسرى إل اليمنى لا يجوز. ولو كان هذا في الجنابة جاز؛ لأن الأعضاء في الجنابة كعضو واحد والله أعلم.
معرفة سبب استعمال الماء
فنقول: اختلف المشايخ المتأخرون، قال الشيخ أبو بكر الرازي وجماعة من مشايخ العراق: الماء على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إنما يصير مستعملاً بأحد أمرين: إما برفع الحدث بأن يتوضأ تبرداً وهو محدث، أو باستعماله على قصد إقامة القربة بأن يتوضأ وهو متوضىء ناوياً الوضوء.

وعلى أصل محمد رحمه الله: الماء إنما يصير مستعملاً بشيء واحد وهو الاستعمال على قصد إقامة القربة، واستدلوا بمسألة الجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: الماء بحاله طاهر، والرجل بحاله جنب لأنه لو حكم بطهارة الرجل صار الماء مستعملاً أول الملاقاة، والماء المستعمل عنده نجس فلا يطهر به الشخص، وإذا لم تجر الطهارة ينتقض الحكم بالاستعمال فيقع الدور، فقال من الابتداء: الماء بحاله والرجل بحاله احترازاً عن الدور.
قال محمد رحمه الله: الماء طاهر والرجل طاهر، أما الرجل طاهر؛ لأنه وصل إلى الماء والماء مطهر بداية من غير نية، كما وقع في الماء الجاري، وأصابه المطر، والماء

(1/121)


طاهر بحاله؛ لأنه لا نجاسة عليه حقيقة وإنما يتغير بقصد القربة لما فيه من تطهير عن الآثام ولم يوجد، فلا يصير مستعملاً.
قال القدوري: كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب استعمال الماء؛ لأن المقصود قد حصل بها كما لو قصد القربة ولا معنى لهذا الخلاف إذ لا نص عنهما على هذا الوجه، ولا يجوز أن يؤخذ هذا من مسألة البئر؛ لأنه أمكن تخريجها على المقولتين من غير إثبات الخلاف، محمد رحمه الله يقول في دخول الجنب في البئر ضرورة، وفي تكليف الغواص بالغسل حرج، فيحمل ذلك لضرورة، وهذا كما قلنا في المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الأناء، أو الحبِّ لأجل الاغتراف لا يصير الماء مستعملاً بلا خلاف، إلا إذا نوى بإدخال اليد الاغتسال، وإنما لا يصير مستعملاً لأجل الضرورة؛ لأن الإنسان عسى لا يجد إناء صغيراً ولا يمكنه صب الماء على يده من الإناء الكبير، فيضطر إلى الإدخال فيسقط اعتبار القياس، وأقام اليد مقام الإناء الصغير. وإذا نوى الاغتسال ولم يستعمل اليد استعمال الإناء، فبقي على أصل القياس.

ولو أدخل رجله في البئر ولم ينو به الاستعمال، ذكر شيخ الإسلام: أنه يصير مستعملاً عند أبي يوسف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه لا يصير مستعملاً وعلل: لأن الرجل تجري مجرى اليد في الإناء، فعلى قول هذا التعليل لو أدخل الرجل في الإناء يصير مستعملاً لعدم الضرورة، وكذلك لو أدخل رأسه أو عضواً آخر في البئر أو في الإناء يصير مستعملاً لعدم الضرورة، وعلى هذا إذا وقع الكوز في الحب، فأدخل يده في الحب لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملاً لمكان الضرورة، ويشترط إدخال عضو تام لصيرورة الماء مستعملاً في الرواية المعروفة عن أبي يوسف.
وفي «الفتاوى» : لو أدخل في الإناء أصبعاً أو أكثر منه دون الكف يريد غسله لم ينجس الماء، وإن أدخل الكف يريد غسله يتنجس؛ لأن في الأول ضرورة، ولا ضرورة في الثاني. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا إنما يتأتى على قول من يجعل الماء المستعمل نجساً لا على من لا يجعله نجساً.
وفي «العيون» عن محمد رحمه الله: جنب أصاب يده أو ثوبه قذر أخذ الماء بفيه (16ب1) ولم يرد به المضمضة وغسل اليد أو الثوب يجوز، وكذلك لو توضأ به يجوز، ولو أراد به المضمضة لم يجز الغسل ولا الوضوء؛ لأن في الوجه الأول لم يقصد القربة، فلم يصر الماء مستعملاً، وفي الوجه الثاني قصد القربة فصار الماء مستعملاً.
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز الوضوء ولا الغسل؛ لأنه قد ارتفع به الحدث، وإنه كافٍ لصيرورة الماء مستعملاً عنده، وعلى هذا إذا أخذ الماء بفيه وملأ به الآنية.

قال الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» : ولا يجوز التوضؤ بالماء المستعمل في وضوء أو غسل شيء من البدن، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله: أو غسْل شيء من البدن أورده الحاكم في «المختصر» ، ولم يذكره محمد رحمه الله في

(1/122)


«المبسوط» وتفسير هذا الكلام: إذا غسل جنبه أو فخذه، لا لنجاسة هل يأخذ حكم الاستعمال؟ وهذا شيء تكلم فيه المشايخ، ولا نص فيه عن أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وإنما المنصوص عنهم أنه إذا غسل أعضاء الوضوء وهو محدث متبرداً أو غسل به أعضاء الوضوء وهو طاهر.... الوضوء.
فأما الذي غسل عضو الفرض من الحدث، وهو طاهر تكلم المشايخ فيه، منهم من قال: هو مستعمل، وكثير من مشايخنا قالوا: لا يأخذ من هذا حكم الاستعمال، وذكر الطحاوي: أن من تبرّد بالماء صار مستعملاً. قال القدوري رحمه الله: وهو محمول على ما إذا كان محدثاً، وهذا لأن الماء إنما يصير مستعملاً عند أبي يوسف رحمه الله برفع الحدث أو بقصد القربة عند محمد رحمه الله وبقصد القربة على ما عليه عامة المشايخ ولم يوجد ههنا قصد القربة ولا رفع الحدث أو لم يحمله على المحدث فلا معنى للاستعمال فيحمل على المحدث ليصير مستعملاً برفع الحدث.

وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «العيون» وغيره أنه لو أدخل المحدث رأسه في الإناء أو خفه يريد به المسح يجزئه المسح ولا يفسد الماء في رواية المعلى عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن المسح يتأدى بماء اتصل به من الماء لا بأكمله، وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه يصير مستعملاً فلا يجزئه من المسح لإقامة القربة بهذا الماء، وكذلك لو كانت على يده جبائر فغمسها في الإناء يريد المسح، فهو على هذا الاختلاف، ولو لم يقصد المسح أجزأه المسح ولا يعد الماء مستعملاً على اختلاف المذهبين عند محمد رحمه الله لعدم قصد لقربة، وعند أبي يوسف رحمه الله لأن الفرض لا يتأدى بما بقي بل بما اتصل من الماء بقول الفرض يسقط بالإصابة لا الإسالة والاستعمال شرط بالإسالة.
لرجل إذا غسل يده للطعام قبل الأكل أو بعده صار الماء مستعملاً؛ لأنه قصد إقامة السنة، فإن من سنة الطعام غسل اليدين قبله وبعده كما جاء به الحديث، بخلاف ما لو غسل يده من الوسخ أو العجين لا يعد مستعملاً به لا قربة ثمة ولا إزالة الحدث.
وإذا أدخل يده الصبي في إناء على قصد إقامة (القربة) ؛ ذكر في هذه المسألة في شيء من الكتب، وقد وصل إلينا أن هذه المسألة صارت واقعة، فاختلف فيها فتوى الصدر الشهيد حسام الدين عمر، وفتوى القاضي الإمام جمال الدين ... فتوى، قال رحمهما الله: والأشبه أن يصير مستعملاً إذا كان الصبي عاقلاً؛ لأنه من أهل القربة، ولهذا صح إسلامه وصحت عباداته حتى أمر بالصلاة إذا بلغ سبعاً ويضرب عليها إذا بلغ عشراً، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان حكم الأسآر
يجب أن تعلم بأن الأسآر أربعة: طاهرة كراهة فيه، وطاهر مكروه، ونجس، ومشكوك.

(1/123)


أما الطاهر الذي لا كراهة فيه سؤر الآدمي وسؤر ما يؤكل لحمه سوى الدجاجة المخلاة، أما سؤر الآدمي فلما روي أن رسول الله عليه السلام «أُتي بعسلٍ من لبن فشرب بعض وناول الباقي أعرابياً كان على يمينه فشربه ثم ناول أبا بكر فشربه» ، ولأن عين الآدمي طاهرة لا كراهة فيه إلا أنه لا يؤكل لكرامته ولعابه متولد من عينه، فإذا كان عينه طاهر من غير كراهة كان سؤره طاهراً من غير كراهة أيضاً، ويستوي فيه المسلم والكافر عندنا. وقال الشافعي: سؤر الكافر نجس؛ لأن عين الكافر نجس، قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: 28) فإذا كان عينه نجساً كان لعابه نجساً فيكون سؤره نجساً.
وإنا نقول: عين الكافر ليس بنجس، ألا ترى أن وفد بني ثقيف أنزلوا في مسجد رسول الله عليه السلام وكانوا مشركين، ولو كان عين الكافر نجساً لما أنزلوا في المسجد.
والآية محمولة على نجاسة اعتقادهم، لا على نجاسة أعضائهم، ونجاسة الاعتقاد لا تؤثر في نجاسة الأعضاء وكذا يستوي فيه الطاهر والمحدث والجنب والحائض لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن رسول الله عليه السلام كان يشرب من الإناء الذي شربت فيه وأنا حائض، فربما كان يضع فمه على موضع فمي» ، وعن رسول الله عليه السلام أنه قال: «من شرب سؤر أخيه كتب له عشر حسنات» وفي رواية «سبعون حسنة» ، ولأنه لم يتحول إلى الماء نجاسة حقيقية لا حكمية ولا أقيم به قربة، أما لم يتحول نجاسة حقيقية لأنه لا نجاسة لشفتيَ الجنب والحائض من حيث الحقيقة، وأما لم يتحول إليه نجاسة حكمية:
أما على قول محمد رحمه الله فلأن الماء عنده على ما عليه اختيار بعض المشايخ لا يتغير بسبب الاستعمال من حيث أنه يتحول إليه شيء بسبب الاستعمال، وإنما يتغير من حيث أنه يقصد به إقامة القربة على ما مرّ، ولم يوجد ههنا قصد إقامة القربة حتى لو قصد إقامة القربة يفسد الماء عنده.

وأما على قول أبي يوسف رحمه الله فلأن على أصله الماء إنما يتغير بالاستعمال بقصد إقامة القربة أو برفع الحدث وهو اختيار بعض المشايخ على قول محمد على ما مر، ولم يوجد ههنا واحد منهما. أما قصد إقامة القربة فظاهر، وأما رفع الحدث فلأن الحدث عنده لا يرتفع ههنا على إحدى الروايتين لأجل الضرورة، وعلى الرواية الثانية وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن ارتفع الحدث ولكن لا يحكم بتغير الماء دفعاً للحرج، إذ لو حكم بتغير الماء يحتاج كل من أجنب أو حاضت إلى إناء على حدة، وفيه من الحرج ما

(1/124)


لا يخفى، هذا كما يقولان في الجنب والحائض إذا أدخل يده في الحب عند انعدام الآلة الصغيرة، لا يفسد الماء إذا لم يكن على يده قذر، وإنما لا يفسد لمكان الحرج والضرورة على ما بينا.
وأما سؤر ما يؤكل لحمه من الطيور سوى الدجاجة المخلاة فلما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: «كنا في السفر مع رسول الله عليه السلام فلما انتهينا إلى حوض شربت ناقة رسول الله عليه السلام من ذلك الحوض فتوضأ النبي عليه السلام من ذلك الحوض وتوضأت أنا» ، وروي أن رسول الله عليه السلام «توضأ بسؤر بعير أو شاة» ، ولأن نجاسة السؤر لمكان نجاسة اللعاب واللعاب متولد من اللحم، ولحم هذه الحيوانات طاهر من غير كراهة فكذا لعابها.

وأما الطاهر الذي هو مكروه فهو: سؤر الدجاجة المخلاة، لأنها تفتش الجيف والأقذار بمنقارها، ومنقارها لا يخلو عن نجاسة، مع هذا إذا توضأ به أجزأه، لأن منقارها في الأصل طاهر؛ لأن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها بدليل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأكل لحم الدجاجة، وكان يقول: «رأيت رسول الله عليه السلام يأكل كل لحم الدجاجة» ، فثبت أن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها، وفي نجاسة منقارها شك؛ لأن تفتيشها النجاسة والأقذار ليست بقطعية بل هي محتملة، والمحتمل لا يعارض المتيقن، فلعدم التيقن بنجاسة المنقار لم يحكم بنجاسة السؤر ولإمكان الاحتمال أثبتنا الكراهة.
فإن كانت الدجاجة محبوسة فسؤرها طاهر من غير كراهة؛ لأن منقارها في الأصل طاهر وقد وقع الأمن عن أن تفتش النجاسات إذا كانت محبوسة.
واختلف المشايخ في صفة المحبوسة، بعضهم قالوا: المحبوسة أن تحبس في بيت وتعلف هناك، وهذا لأنها إذا كانت محبوسة في بيت لا تجد نجاسات غيرها لنفسها، وهي لا تفتش نجاسة نفسها وليس من عادتها ذلك، فوقع الأمر عن النجاسة، ومنقارها طاهر في الأصل فلهذا كان سؤرها طاهراً من غير كراهة.
وقال بعضهم: صفة المحبوسة أن يحفر لها حفرة (17أ1) فيجعل رجلاها فيها، ورأسها والعلف أمامها أو يجعل لها بيتاً ويكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها، وهذا القائل يقول بأنها ربما يعتبر ما يكون منها إذا عم نجاسات غيرها، فلا يؤمن أن يصيب منقارها نجاسة، فهي والمخلاة سواء.
وكذلك سؤر سباع الطير كالصقر والبازي والشاهين مكروه، وهذا استحسان، والقياس أن يكون نجساً قياساً على سؤر سباع البهائم، نحو الأسد والذئب والنمر وما

(1/125)


أشبه ذلك، وهذا لأن سؤر سباع الوحش لا يخلو عن لعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيكون لعابها نجساً يوجب تنجس الماء، وهذا المعنى موجود في سباع الطير.

وفي الاستحسان: فرق بين سباع البهائم وبين سباع الطيور، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن سؤر سباع الوحش إنما كان نجساً، لأن سباع الوحش تشرب بلسانها ولسانها مبتل بلعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيصل شيء من لعابها إلى الماء، وإنه نجس فيوجب تنجس الماء، فأما سباع الطير فإنها تشرب بمنقارها، وكلما رفعت قطرة بمنقارها رفعت رأسها و (ابتلعت) تلك القطرة، فلا يسيل شيء من لعابها إلى الماء، وإنما يصل منقارها إلى الماء (وهو) عظم جاف لا يحتمل النجاسة.
h
والثاني: علمنا أنه يسيل شيء من لعابها إلى الماء، إلا أن في سباع الطيور ضرورة وبلوى لأنها تنزل من الهواء، فإذا وجدت آنية ماء تشرب منها، فلا يمكن الاحتراز عن سؤرها، وللضرورة أثر في إسقاط حكم النجاسة بخلاف سباع الوحش؛ لأنها تكون في المغاور والصحارى، ولا تنزل من الهواء، فيمكن الاحتراز عن سؤرها، فلم يسقط اعتبار النجاسة عن سؤرها، إلا أنه يكره التوضؤ بسؤر سباع الطير.
واختلف المشايخ في معنى الكراهة، بعضهم قالوا: إسقاط النجاسة عن سؤرها إنما يكون للضرورة على ما بينا في الفرق الثاني، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة فانتفت النجاسة لوجود أصل الضرورة، وبقيت الكراهة؛ لأن الضرورة ليست ثابتة، وبعضهم قالوا: إنها لا تتوخى عن النجاسات، بل يكون عامة مأكولاتها النجاسات، فلا يؤمن أن يكون على منقارها النجاسة، فيصل إلى الماء، غير أن الأصل لما كان طهارة منقارها واتصال النجاسة بمنقارها ليست بيقين حكمنا بالكراهة، ولم نحكم بالنجاسة كما في سؤر الدجاجة المخلاة، فهذا القائل يقول: إذا تيقن أنه لم يكن على منقارها نجاسة، كالبازي المأخوذ وغيره من الصقر والشاهين وأشباهها فإنه لا يكره التوضؤ بسؤرها كما في الدجاجة المحبوسة، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، فكأن أبا يوسف رحمه الله اعتبر الكراهة لتوهم إيصال النجاسة بمنقارها، لا لوصول لعابها إلى الماء.

واستحسن المتأخرون من مشايخنا رواية أبي يوسف وأفتوا بها.
وكذلك سؤر ما يسكن البيوت من الحشرات كالفأرة والحية والوزغة مكروه، والقياس أن يكون نجساً باعتبار أن عينها نجسة ولعابها يتولد من عينها، إلا أننا أسقطنا اعتبار القياس ضرورة الطواف علينا على ما نبين في سؤر الهرة، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست بماسَّة.
وكذلك سؤر الهرة مكروه عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تكره، ذكر لفظة الكراهة عندهما في «الجامع الصغير» وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وذكر في صلاة «الأصل» : المستحب أن (لا) يتوضأ بسؤر الهرة، وإن توضأ به أجزأه.

(1/126)


وعن أبي يوسف رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله وابن أبي ليلى عن سؤر الهرة فكرهاه، وأما أنا فلا أدري به بأساً، وهو قول الشافعي.
حجة أبي يوسف والشافعي عليهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يصغي الإناء للهرة ويشرب ما بقي ويتوضأ منه» ، وهو قوله عليه السلام: «الهرة ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات عليكم» صرح أن الهرة عينها ليست بنجسة، وإذا لم تكن عينها نجسة لا يكون سؤرها نجساً.
ولهما: قوله عليه السلام: «الهرة سبع» وقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الهرة مرة» ، واختلف المشايخ في علة المسألة فالمحكي عن الطحاوي أنه كان يقول: الهرة تشرب بلسانها، ولسانها رطب بلعابها، ولعابها متولد من عينها، وعينها نجس، فكذا لعابها، لقضية هذا (وجب) أن يكون سؤرها نجساً لكن أسقطنا النجاسة ضرورة الطواف، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست ماسَّة لا يمكن الاحتراز عنها.

والمحكي عن الكرخي رحمه الله أنه كان يقول: عين الهرة ليست بنجسة ولعابها ليس بنجس، وكيف تكون نجسة مع أن الشرع أسقط نجاستها، إلا أن عامة مأكولاتها نجس، فإنها تأكل الفأرة والجيف، وعلى هذا التقدير يصير فمها نجساً، لكن هذا ليس بأمر متيقن حتى يحكم بنجاسة السؤر، ولكنه غالب، فأثبتنا الكراهة كما في يد الصبي، والمستيقظ من المنام.
بعض مشايخنا قالوا: على قياس سؤر الهرة يجب أن يكون سؤر سواكن البيوت مكروهاً على الاختلاف، وبعضهم قالوا: سؤر سواكن البيوت مكروه بالاتفاق؛ لأن أبا يوسف رحمه الله إنما لم يقل بالكراهة في سؤر الهرة بالنص، ولا نص في سؤر سواكن البيوت، والله تعالى أعلم.
ومما يتصل بفصل الهرة
إذا أكلت فأرة وشربت من إناء على فورها ذلك يتنجس الماء بلا خلاف، وإن مكثت ساعة أو ساعتين ثم شربت لا يتنجس الماء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: يتنجس.
فأبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا مكثت ساعة أو ساعتين فقد غسلت فمها بلعابها، ولعابها طاهر، وإزالة النجاسة بما هو سوى الماء من المائعات عندي جائز، فشربت بعد ذلك وفمها طاهر. وأبو يوسف رحمه الله يقول: النجاسة وإن كانت لا تزول عندي إلا بصب الماء عليه لكن في مثل هذا الموضع يحكم بالزوال بدون الصب للضرورة.

(1/127)


ومحمد رحمه الله يقول: إزالة النجاسة بما سوى الماء من المائعات عندي لا يجوز، فبقي فمها نجساً كما كان.
ونظير هذا ما قالوا فيمن شرب الخمر ثم تردد في فمه البزاق ما لو كانت تلك الخمر على ثوب طهرها ذلك البزاق: إنه يطهر فمه عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك الرجل إذا أصابته نجاسة في بعض أعضائه أو أصاب بدنه فلحسها بلسانه أو مسحها بريقه حتى ذهب أثره طهر وكذلك الصبي إذا قاء على ثدي أمه ثم مص ذلك مراراً حكم بطهارته عند أبي حنيفة رحمه الله.

وعلى قياس مسألة السؤر قالوا في الهرة: إذا لحست كف رجل يكره له أن يدعها تفعل ذلك، لأن ريقها ليس بطيب ولأجل ذلك كره التوضؤ بسؤرها. وكذلك قالوا: الهرة إذا أكلت بعض الطعام كره للرجل أن يأكل الباقي؛ لأن ما بقي لا يخلو عن ريقها، وريقها ليس بطيب على ما بينا.
وأما النجس سؤر سباع البهائم، وقدَّ الكلام فيه ونجاسته غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف رحمه الله فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر (سباع) البهائم وطهارته فأوجب اختلافهم تخفيفاً فيه كبول ما يؤكل لحمه. وكذلك سؤر الخنزير وسؤر الكلب نجس، أما سؤر الخنزير: فلأن لعابه يتولد من عينه، وعينه نجس قال الله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (الأنعام: 145) والنجس والرجس واحد.
وأما سؤر الكلب فنجاسته مذهبنا، وقال مالك: طاهر، فمن المشايخ من يسلم أن لحمه نجس ولعابه نجس بلا خلاف، إلا أنه يجعل هذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة هل يتنجس؟ عندنا يتنجس، وعنده لا يتنجس إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، وولوغ الكلب لا يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه، فلا ينجسه، ومنهم من يقول: بأن لحمه طاهر، ولعابه كذلك عند مالك فيكون سؤره طاهراً. وعندنا لحمه نجس ولعابه كذلك، فيكون سؤره نجساً.
حجة مالك: قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة: 29) أي خلق لمصالحكم ومنافعكم، والانتفاع يكون بالطاهر (17ب1) لا بالنجس، والنص يفيد طهارة لحمه ولعابه، ومن ضرورته طهارة سؤره.

وإنا نحتج بقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» وهذا أمر بصيغة الجبر، وعن رسول الله عليه السلام «أنه أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» والأمر بغسل الإناء لا يكون تعبداً؛ لأن غسل الظروف لا تعد قربة فيدل ذلك على تنجسه، وإنما تنجس الإناء بولوغه إذا كان لعابه نَجسَاً وإنما يكون لعابه نجساً إذا كان لحمه نجساً.

(1/128)


وكذلك سؤر الفيل نجس كسؤر السباع، هكذا روي عن محمد رحمه الله وإنه ظاهر؛ لأن الفيل سبع، لأنه ذوناب.
وأما المشكل فهو سؤر الحمار واختلف المشايخ المتأخرون في أن الإشكال في طهارته أو في طهوريته، وعامتهم على أن الإشكال في طهوريته، وإنما وقع الإشكال في طهارته. إما لأن الصحابة اختلفوا في نجاستهِ وطهارته، روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه نجس، وعن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أنه طاهر، وليس أحد القولين بأولى من الآخر فبقي مشكلاً، أو لأن الحمار يربط في الدور والأخبية فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ليست نظير الضرورة في الهرة لأن الهرة تدخل مضايق البيوت والحمار لا يدخل مضايق البيوت.
ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلاً كما في سؤر الكلب وسؤر سباع البهائم وجب الحكم بنجاسة سؤره بلا إشكال. ولو كانت الضرورة في الحمار نظير الضرورة في الهرة لوجب الحكم بإسقاط نجاسته وبقائه على الطهارة بلا إشكال. فإذا ثبتت الضرورة من وجه دون وجه عملنا بهما، ولوجود أصلها لم يحكم بنجاستهِ، ولانعدام ما يمنعها لم يحكم بالطهارة فبقي مشكوكاً فيه.

والأصح ما نقل عن عامة المشايخ أن الإشكال في طهوريته لا في طهارته، فقد روي عن محمد رحمه الله نصاً في «النوادر» : أن سؤر الحمار طاهر ولكن الإشكال في طهوريته ما ذكرنا أن الحمار يربط في الأجنبية والدور فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ماسَّة من وجه دون وجه، لوجود أصلها لم يحكم بنجاسته لانعدام تمامها. أخرجناه من أن يكون طهوراً فلا يطهر ما كان نجساً، ولا ينجس ما كان طاهراً.
والحكم في سؤر البغل مثل الحكم في سؤر الحمار لأن البغل متولد من الحمار ومخلوق من مائه.
وبعض مشايخنا قالوا: حكم سؤر الحمار أخف من سؤر البغل لأن البلوى في حق الحمار أكثر من البلوى في البغال لكثرة الحمر وقلة البغال فيما بين الناس. وبعض الناس فرقوا في الحمير بين الفحل والأتان فقالوا: سؤر الفحل يكون نجساً؛ لأنه يشم الأبوال فتتلطخ شفتاه وتتنجس. فإذا دخل في الماء القليل يتنجس الماء ضرورة، ولا كذلك الأتان لأنها لا تشم الأبوال.
وعندنا الكل مشكل لأن غمس الشفة في البول موهوم، والأصل هو الطهارة فلا تثبت النجاسة في شفتها بالشك، كما قلنا في الدجاجة المخلاة سؤرها طاهر، فاعتبار الأصل وإن كان الظاهر من حالها الجولان في العذرات. وعن الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن سؤر الحمار نجس؛ لأن لعابه لا يخلو عن قليل الدم لما يلحقه من التعب بحمل الأثقال، ولكن هذا المعني يشكل بسؤر الدواب التي يؤكل لحمها ويحل عليها نحو البعير والقر. وذكر البلخي في «اختلاف زفر ويعقوب» : أن سؤر الحمار نحسٌ عند زفر والحسن نجاسة حقيقية طاهر عند أبي يوسف. وفي باب السهو من «الأصل» وقال أبو

(1/129)


يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا سقط شيء من لعابها في وضوء رجل قليلاً كان أو كثيراً يفسد الماء ولا يجزىء من توضأ به.

وذكر في باب الوضوء من «الأصل» الجواب في لعاب ما لا يؤكل لحمه ولم يضفه إلى أحد. قال بعض مشايخنا في «شرحه» : أراد بفساد الماء ههنا أن لا يعد طهوراً. وروى البغداديون عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن سؤر ما لا يؤكل لحمه بمنزلة بوله إذا كان أكثر من قدر الدرهم الكبير أفسد الصلاة.
وأما سؤر الفرس فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه أربع روايات. قال في رواية: أحبّ إليّ أن يتوضأ بغيره، وهذه رواية البلخي عنه، وفي رواية الحسن: أنه مكروه كلحمه. وفي رواية أخرى قال: هو مشكوك كسؤر الحمار، لأن لحم الفرس عنده حرام كلحم الحمار.
وفي رواية كتاب «الصلاة» قال: هو طاهر وهو الصحيح من مذهبه لأن كراهية لحمه عنده ما كانت لنجاسته بل لاحترامه لأنه آلة الجهاد، وحرمة اللحم لأجل الاحترام لا توجب نجاسة السؤر كسؤر الأدمي. وعندهما: سؤره طاهر والله أعلم.
(فصل في) بيان حكم عرق الحيوانات ولعابها
ذكر الكرخي والطحاوي رحمهما الله في «مختصريهما» أن عرق كل شيء مثل سؤره في النجاسة والطهارة والحرمة والكراهة. وفي باب السهو من «الأصل» : أن عرق الحمار والبغل ولعابهما لا ينجس الثوب وإن فَحُشَ.
وإذا وقعا في الماء القليل أفسداه وإلا فلا. قال بعض مشايخنا وهذا بتفرقةٍ بين الثوب والماء كما ظنه بعض المشايخ لأنه لم يحكم بنجاسة الثوب الطاهر بالشك ولم يحكم بزوال الحدث بذلك الماء بالشك حتى لو وقع ذلك الثوب في الماء القليل لا يجوز التوضؤ به.
ولو أصاب ذلك الماء الثوب لا يمنع جواز الصلاة فيه وإن فحش.

وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن الماء يتنجس بوقوع عرق الحمار فيه. وفيه أيضاً: أن عرق الحمار نجس نجاسة خفيفة حتى إن الكثير الفاحش على ربع الثوب يمنع جواز الصلاة وما دونه لا يفسد الصلاة. وهكذا روى عنه «الأمالي» ، وفي «جامع البرامكة» عن أبي حنيفة رواية أبي يوسف في عرق الحمار: أنه إذا كان أكثر من قدر الدرهم أفسد الصلاة. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمهما الله أن عرق الحمار ولعابه إذا وقع في البئر مثلاً كيف ينزح ماء البئر.
يحتمل أنه إنما قال: ينزح حتى يصير طهوراً، ويحتمل أنه إنما قال ذلك حتى يصير البئر طاهراً.
وعن أبي حنيفة رحمه الله في عرق الحمار ثلاث روايات، في رواية قال: هو طاهر، فقد روي أن رسول الله عليه السلام «كان يركب الحمار معرورياً» ... .... .... .....

(1/130)


فلا بد أن يعرق الحمار، والمعنى أن للناس في عرق الحمار ضرورة لأنهم يركبون الحمار عرياً في الصيف والشتاء في الحضر والسفر، فلا بدّ وأن يعرق الحمار، ولو لم يحكم بطهارته ضاق الأمر على الناس ووقعوا في الحرج.
وفي رواية قال: هو نجس نجاسة خفيفة؛ لأن في عرق الحمار ضرورة على ما بينّا، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة لأنه يمكن التحرز عنها، ولوجود أصل الضرورة أسقطنا الغلظ. ولما أن الضرورة ليست ماسَّة أثبتنا النجاسة عملاً بالدليلين جميعاً.
وفي رواية أخرى قال: هو نجس نجاسة غليظة؛ لأن عرقه يتولد من لحمه ولحمه نجس نجاسة غليظة، وما يتولد من لحمه يكون بهذه الصفة.
وفي «القدوري» : أن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن عرق الحمار والبغل نجس وإنما جعل عفواً في الثوب والبدن لمكان الضرورة.
ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أنه طاهر ولا يؤكل.
وروي عن أصحابنا في لبن المرأة الميتة أنه طاهر وكذا لبن الشاة الميتة والبقرة الميتة والله أعلم.

ومما يتصل بهذا الفصل

بيان ما يجوز التوضؤ من المائعات سوى الماء وما لا يجوز.
ولا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات سوى الماء نحو الخل والدهن والمرئي وما أشبه ذلك. وأما التوضؤ بالأنبذة اتفقوا على أنه لا يجوز حال وجود الماء، وأما حال عدم الماء قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز التوضؤ بنبيذ التمر، فقد ذكر في «الجامع» عن أبي حنيفة رحمه الله في المسافر إذا لم يجد إلا نبيذ التمر: أنه يتوضأ به ولا يتيمم، وقال في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة: لو تيمم مع ذلك أحب إليّ وإن لم يتيمم أجزأه.
وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة: أنه رجع عن ذلك، وقال: لا يتوضأ به ويتيمم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله والشافعي (18أ1) ومالك، وقال محمد رحمه الله يجمع بينهما، وستأتي المسألة في باب التيمم إن شاء الله تعالى.
وحكي عن أبي طاهر الدباس أنه يقول: إنما اختلاف أجوبة أبي حنيفة في نبيذ التمر باختلاف السيولة، كأنه سئل عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كان الماء غالباً على الحلاوة فأجاب وقال: يتوضأ به ولا يتيمم. وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانت

(1/131)


الحلاوة غالبة قال: يتيمم ولا يتوضأ به وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانا سواء قال: يتوضأ به ويتيمم، فعلى هذا يرتفع الخلاف.
قال القدوري في «كتابه» وكان أصحابنا يقولون: إن التوضؤ بالنبيذ على أصولهم يجب أن لا يصح إلا بالنية كالتيمم؛ لأنه بدل عن الماء كالتيمم؛ ولهذا لا يجوز التوضؤ به حال وجود الماء إلا أنه مقدم على التيمم بالحين، لما كان بدلاً لا يجوز التوضؤ به بدون النية كالتيمم.

ولا نصّ عن أبي حنيفة في الاغتسال بنبيذ التمر، واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز؛ كالوضوء، وبعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأن جواز الوضوء عرف بخلاف القياس بالخبر، والاغتسال فوق الوضوء لا يلحق به في حق حكم ثبت بخلاف القياس، ثم لم يصف محمد رحمه الله نبيذ التمر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» .

وإنما وصفه في «النوادر» فقال: على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا كان رقيقاً يسيل على العضو إذا صب عليه، وأما إذا كان مثل الزيت غليظاً بأن ألقى تمرات في الماء وطبخ ذلك الماء حتى صار غليظاً، أو عصيراً لرطب حتى سال منه الماء فذلك يسمى دبساً فلا يجوز التوضؤ به، ثم الرقيق منه ما دام حلواً وحامضاً فالتوضؤ به جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذا إذا غلا واشتد وقذف بالزبد يجوز التوضؤ به عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً ذكره أبو الليث رحمه الله في «كتابه» ، وذكر أبو طاهر الدباس وأبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه لا يجوز التوضؤ به بعدما اشتد وصار مسكراً بالإجماع، وهذا إذا كان نيئاً أما إذا كان طبخ أدنى طبخة قال الكرخي رحمه الله: يجوز التوضؤ به مراً كان أو حلواً عند أبي حنيفة رحمه الله، ومن المشايخ من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: إن كان حلواً يجوز التوضؤ به؛ لأنه مَاءٌ طبخ مع التمر فصار كماء طبخ مع الصابون والأشنان، وإن اشتد فهو نجس على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله فلا يجوز التوضؤ به.
ولا يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة عندنا، خلافاً لبعض الناس، فإنهم قاسوا سائر الأنبذة على نبيذ التمر، ونحن نقول: جواز التوضؤ بنبيذ التمر عرف بالسنة فلا تجوز سائر الأنبذة بالقياس والله أعلم بالصواب.

الفصل الخامس (في التيمم)
الأصل في جواز التيمم قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) وقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة

(1/132)


تيممت وصليت» . وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في كيفيتهِ وصفته.

قال محمد رحمه الله في بعض روايات «الأصل» : يضع يديه على الأرض، وقال بعضهم يضرب يديه على الأرض ضربة، والآثار جاءت بلفظة الضرب أفضل لأن بالضرب يدخل التراب إلى الأصابع وبالوضع لا يدخل. ثم قال بعضهم: ويمسح بهما وجهه، والمروي عن أبي يوسف رحمه الله أن ينفضهما مرتين، والمروي عن محمد رحمه الله أن ينفضهما مرة. قالوا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن ما روي عن أبي يوسف محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء كثير، وما روي عن محمد محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء قليل والمرة تكفي، والمرتان لا بأس بهما، وهذا لأن الواجب المسح بكف موضوع على الأرض لا استعمال التراب لأن ذلك مثله.
قال: ثم يضرب يديه ضربة أخرى على الأرض ثم ينفضهما ويمسح اليمن باليسرى ويمسح اليسرى باليمن، يمسح كفيه وذراعيه إلى المرفقين، هذا هو مذهب علمائنا. وللعلماء في المسألة أقاويل كثيرة، والصحيح مذهبنا، لما روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» . وعن بعض موالي رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين» .

ولم يذكر في «الكتاب» نصاً أنه يضرب ظاهر كفيه على الأرض أو باطنهما، وإنما أشار إلى أنه يضرب باطنهما فإنه قال: فإن مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لا يجوز، وإنما يستقيم وضع المسألة على هذا الوجه إذا كان يضرب باطن كفيه على الأرض، قال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : سألت أبا حنيفة رحمه الله عن التيمم فقال: الوجه والذراعان إلى المرفقين، فقلت: كيف؟ قال: بيده على الصعيد فأقبل بيديه وأدبر ثم نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعاً على الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رجعهما ونفضهما ثم مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى المرفقين.
وفي قوله: فأقبل بهما وأدبر وجهان:

أحدهما: أنه ضرب ببطن كفيه وظهرهما على الأرض. وعلى هذا الوجه يصير هنا رواية أخرى، بخلاف ما أشار إليه محمد رحمه الله.
والثاني: أنه أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق بكفيه شيء يصير حائلاً بينه وبين الصعيد، وقال بعض مشايخنا في كيفية التيمم: أنه إذا ضرب يديه على الأرض في المرة الثانية. ونفضها ينبغي أن يضع بطن كفه اليسرى على ظهر كفّه اليمنى ويمسح بثلاثة أصابع

(1/133)


يده اليمنى أصغرها ظاهر اليد اليسرى إلى المرفق ثم يمسح باطنه بالإبهام، والمستحب إلى رؤوس الأصابع.H
وهل يمسح الكف؟ تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يمسح لأنه مسحه مرة حين يضرب يديه على الأرض. ثم يفعل باليد اليسرى على نحو ما ذكرنا في اليد. اليمن ولو مسح وجهه وذراعيه بضربة واحدة لا يجزئه.
ولو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل. وفي بعض المواضع ذكر المسألة من غير شرط نية التيمم، والصحيح ما قلنا؛ لأن النية في التيمم شرط لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

ولو قام فهبت الريح أو هَدَمَ حائِطَاً فأصاب الغبار وجهه وذراعيه فمسحه بنية التيمم جاز في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن المقصود قد حصل، وبدون المسح بنية التيمم لا يجوز. وعلى هذا إذا ذرّ رجل على وجهه تراباً لم يجز، فإن مسح ينوي به التيمم والغبار على وجهه جاز على قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا.
ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه: أن استيعاب العضوين بالتيمم واجب في ظاهر رواية أصحابنا حتى لو ترك المتيمم شيئاً قليلاً من مواضع التيمم لا يجزئه وهذا ظاهر؛ لأن التيمم قائم مقام الوضوء. ولو ترك المتوض شيئاً قليلاً من مواضع الوضوء في الوضوء لا يجزئه كذا هذا.

وروي عن محمد رحمه الله في «النوادر» ما يؤكد هذا القول، فإنه روي عنه في «النوادر» أنه إذا لم يدخل الغبار من أصابعه فعليه أن يخلل ما بين أصابعه، وفي هذه الحالة يحتاج إلى ثلاث ضربات: ضربة للوجه وضربة لليدين وضربه لتخليل الأصابع، وهذا دليل على أنه إذا كان في أصبعيه خاتم أو على يدي المرأة سوار فلم ينزع في حالة التيمم أنه لا يجزئه. وروى الحسن عن أصحابنا أنه إذا ترك أقل من الربع يجزئه.
وفي «المجرد» رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا مسح أكثر الكف والذراعين أنه يجوز كما في مسح الرأس ومسح الخف فعلى هذه الرواية الغرض استيعاب أكثر المحلّ لأن استيعاب جميع المحل؛ في الممسوحات لا يكون شرطاً يحرج لأن لا ...

وعلى هذه الرواية لا يجب تخليل الأصابع وينزع الخاتم والسوار. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي أن يحفظ هذه الرواية حداً لكثرة البلوى فيه، وروي عن محمد رحمه الله ما يخالف رواية الحسن فإنه روي عنه أنه لو ترك المسح على ظهر كفه لا يجزئه وظهر الكف أقل من الربع، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ظاهر الرواية ما رواه الحسن أن المتروك لو كان أقل من الربع أنه يجوز وتخريج مسألة ظهر الكف: أن (18ب1) الكف عضو على حدة، فظهر الكف لا يكون أقل من الربع، فعلى رواية

(1/134)


الحسن يحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الوضوء:
وجه الفرق: أن حكم الوضوء أغلظ من حكم التيمم لذا شرع التيمم في عضوين والوضوء في أربعة أعضاء، واختلف العلماء في وجوب التيمم في الذارعين، قال الشافعي في القديم لا يجب، وهو قول مالك............ وقدروا الكبير بالربع، وإذا تيمم وهو مقطوع اليدين من المرافق فعليه أن يمسح موضع القطع عندنا ولا يجزئه تركه، وعند زفر رحمه الله لا يمسح بناءً على أن المرفق عنده لا يدخل في فرض الطهارة.

فإن قيل: كيف يجب مسح ذلك الموضع وإنه لم يكن واجباً قبل القطع قلنا: إنما لم يجب قبل القطع؛ لأنه كان مستوراً فلما قطع صار مكشوفاً، فإن كان القطع من فوق المرفق بأن كان من المنكب أو دون ذلك لم يكن عليه مسحه؛ لأنه لا يجب عليه غسله في الوضوء قبل القطع فلا يجب مسحه في التيمم بعد القطع والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان شرائطه
فنقول من شرط صحته: النية وهذا مذهبنا، وقال زفر رحمه الله النية ليست شرطاً لصحته، حجته: أن التيمم طهارة بالنص فلا يحتاج إلى النية كالوضوء. لنا: أن التيمم ليس بطهارة حقيقية. وإنما جعل طهارة بطريق الضرورة في حق المريد لإقامة القربة ولا إرادة إلا بالنية. واسم التيمم دليل عليه، فإنه عبارة عن القصد والقصد بدون النيّة لا يكون.

وتكلموا في كيفية النية روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: ينوي الطهارة لقربة لا تتأدى من غير طهارته؛ لأنها شرعت لأجلها، وذكر القدوري فقال: ينبغي أن ينوي الطهارة واستباحة الصلاة. وعن محمد رحمه الله في الجنب إذا تيمم يريد بها الضوء أجزأه من الجنابة؛ لأن التيمم طهارة فلا تعتبر نية إستباحتها كالوضوء. وعن أبي بكر الرازي رحمه الله: أنه لا بُدّ من التمييز فينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما بصفة واحدة فلا بد من التمييز بالنية كالصلاة التي تقع عن الفعل والعرض لما كانت على صفة واحدة شرط نية التعيين كذا هذا.
وذكر القدوري في «شرحه» : أنه لو تيمم للنافلة جاز أداء الفرض به، وقال الشافعي: لا يجوز لأنها طهارة ضرورية فلا تظهر إلا فيما فيه ضرورة، ولنا: أن الضرورة إنما اعتبرت لضرورة التيمم طهارة. فإذا صارت طهارة بحكم الضرورة لا يفصل بين نوع ونوع، ألا ترى أنه لو تيمم للفرض جاز أداء النافلة به، ولم يعتبر ما قال كذا هذا.

وعلى هذا الخلاف إذا تيمم لفرض جاز أداء فرض آخر به عندنا خلافاً للشافعي. والمعنى من الجانبين ما ذكرنا وقوله عليه السلام: «التراب كافيك ولو إلى عشر حجج» ، دليل لنا في المسائل كلها وفي «الفتاوى» : إذا تيمم الجنب لقراءة القرآن أو

(1/135)


لمس المصحف أو لدخول المسجد لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند عامة العلماء إلا على قول أبي بكر ابن سعيد البلخي.

ولو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أجزأه أن يصلي به المكتوبة بلا خلاف؛ لأن في الوجه الأول التيمم لم يقع في صلاة ولا لجزء من الصلاة. وفي الوجه الثاني وقع للصلاة أو لجزء من الصلاة، وقوله: لو تيمم لسجدة التلاوة دليل على أنه يجوز التيمم لسجدة التلاوة. وذكر القدوري في «شرحه» : أنه لا يجوز التيمم لسجدة (التلاوة) لأنها غير قربة فلا، يخاف فوتها لو أخّر إلى وقت الوضوء، والحاصل: أن على قول عامة العلماء: لو وقع التيمم للصلاة أو لجزء من الصلاة جاز أن يصلي به صلاة أخرى وما لا فلا.
وعلى هذا: إذا تيمم يريد به تعليم غيره أو تيمم لزيارة القبر لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم. ولو تيمم الكافر ثم أسلم لم يجزئه أن يصلي بذلك التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
ومن جملة الشرائط: طلب الماء في العمرانات حتى لو تيمم في العمرانات قبل الطلب لا يجزئه التيمم، وهذا بخلاف. وأما في الفلوات لا يشترط الطلب عندنا خلافاً للشافعي، حجته في ذلك: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) . ومعناه: بعد الطلب لأنه لا يقال لغير الطالب، لم يجد.
ولنا: أن الطلب غير منصوص عليه في الآية، والوجود لا يقتضي الطلب قال الله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} (الأعراف: 102) ، وقال عليه السلام: «من وجد لقطة فليعرفها» ويقال: يجد فلان مرضاً في نفسه. فمن شرط الطلب فقد زاد على النص.

والمعنى فيه: أنه تيمم حال عدم الماء من حيث الحقيقة والظاهر وعدم الدليل عليه فيجزئه كما بعد الطلب، بيانه: أن العدم ثابت وجه الحقيقة وإنه حد الوجود وانعدم الدليل الدال على الوجود أيضاً من حيث الظاهر لأن الظاهر في الفلوات عدم الماء بخلاف العمرانات؛ لأن العدم من حيث الحقيقة إن كان ثابتاً فمن حيث الظاهر غير ثابت، فإن قيام العمارة بالماء فلم يثبت العدم من حيث قيام الدليل الدال على الماء وشرط الجواز عدمٌ مطلق.
وإذا غلب على ظن المسافر أن بقربه ماء لو طلبه وجده أو أخبر به، وجب عليه الطلب بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا لم يغلب على ظنه ذلك أو لم يخبر به.
والترتيب في التيمم ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو بدأ بذراعيه في التيمم يجوز عندنا، وكذلك الموالاة ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو مكث بعدما يمّم وجهه ساعة ثم يمّم ذراعيه أجزأه عندنا اعتباراً للتيمم بالوضوء والله أعلم.
ومن جملة الشرائط: عجزه عن استعمال الماء، وإذا تيمم المسافر والماء منه قريب

(1/136)


وهو لا يعلم أجزأه تيممه، لأنه عاجز عن استعماله، حين عَدِمَ آلة الوصول إليه وهو العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم فكذلك ههنا. فإن كان عالماً بالماء لم يجز التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء.
وإن كان الماء بعيداً عنه جاز له التيمم وإن كان عالماً به، يذكر في «الكتاب» حد القرب والبعد. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا كان بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه اليتيم ويكون قريباً وإن كان ميلاً أو أكثر أجزأه التيمم لكونه بعيداً، والميل ثلث فرسخ، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إنما يكون الميل بعيداً عن يمينه أو عن يساره أو خلفه حتى يصير ميلين ذهاباً ورجوعاً. فأما هنا إذا كان قدامه فإنه يكون الميل قريباً فيعتبر ميلين لجواز التيمم. كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في رواية أبي حنيفة مع محمد رحمهما الله وفسّر الميل بثلاثمئة ذراع وخمسمئة ذراع إلى أربعة آلاف. هكذا فسره ابن شجاع في «كتابه» . وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه حدّ لهذا بحد آخر وقال: إن كان بحال لو اشتغل به تذهب القافلة وتغيب عن بصره يكون بعيداً وإن كان على العكس فهو قريب.
وذكر شيخ الإسلام هذه الرواية. وذكر زفر رحمه الله: إذا كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزئه التيمم، وإن كان على العكس يجزئه لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولكنا نقول: التفريط جاء من قبله بتأخير الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريباً منه. هذا الذي ذكرنا في حق المسافر.
وأما المقيم إذا خرج من مصره لا يريد سفراً وقد بعد عن المصر وليس معه ماء، هل يجوز له التيمم؟ سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا كان بحيث يبلغه صوت أهل الماء يكون قريباً، لا يجوز له التيمم، فإن كان لا يبلغه صوتهم يكون بعيداً فحينئذ يجوز له التيمم.

وإذا كان مع رفيقه ماء ولم يكن معه ماء فإنه يسأل، هكذا ذكر في «الأصل» رأيت في موضع آخر عن أصحابنا: إذا كان غالب ظنه أنه يعطيه لم يجز له أن يتيمم بل يسأل. وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: لا يسأل فإن سأله فأبى أن يعطيه إلا بالثمن ولم يكن معه ثمنه فإنه يتيمم بالإجماع لعجزه عن استعمال الماء، وإن كان معه ثمنه فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع، أو بغبنٍ يسير، أو بغبن فاحش.
ففي الوجه الأول والثاني ليس له أن يتيمم بل يشتري ويتوضأ، هكذا ذكره في بعض المواضع، وفي بعض المواضع إذا باعه (19أ1) . بمثل القيمة أو بغبن يسير ومعه مال زيادة عليها يحتاج إليه في الزاد مقدار ثمن الماء لا يتيمم بل يشتري الماء، وفي الوجه الثالث يتيمم، وقال الحسن البصري رحمه الله: يلزمه الشراء بجميع ماله لأنه لا......... لأن حرمة مال المسلم كحرمة النفس قال عليه السلام: «من قتل دون

(1/137)


ماله فهو شهيد» . ثم لو خاف تلف عضو جاز له التيمم، فإذا خاف............ أولى أن يجوز التيمم.
ولم يذكر في «الأصل» للغبن الفاحش تقديراً، وقد ذكر في «النوادر» إن كان المال الذي يكفي للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبى أن يعطيه صاحب الماء إلا بدرهم ونصف يلزمه أن يشتري ولا يتيمم، وإن أبى أن يعطيه إلا بدرهمين يتيمم ولا يشتري، فجعل الغبن الفاحش في تضعيف الثمن.
وإنما قلنا: إذا كان يعطيه بمثل ثمنه أو بنصف يسير فعليه أن يشتري لأن قدرته على بذل الماء كقدرته على عينه، كما أن القدرة على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من التكفير بالصوم، وقال بعضهم: الغبن الفاحش ما لا يدخل تحت تقويم المقومين.
وفي «القدوري» : إذا زاده على ثمن المثل بما لا يتغابن الناس فيه يتيمم، ولم يلزمه الشراء، وهو والذي قبله سواء، وتعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من الموضع الذي يشتري فيه، وقد أشار في مسألة «النوادر» إلى أعشار قيمته في المكان الذي يشتري فيه، وذكر الشيخ الإمام الصفار: المسافر إذا كان في موضع عز الماء في ذلك الموضع فالأفضل أن يسأل، وإن لم يسأل وتيمم وصلى فإنه تجوز صلاته، لأن الظاهر أنه يجري الشح في الماء في مثل ذلك الموضع، ولو أعطاه بعد ذلك لا تجوز صلاته، وعليه أن يعيد تلك الصلاة لأنه لما أعطاه كان الظاهر أنه لم يسأل قبل ذلك العطاء. فإذا لم يسأل جاء التقصير من قبله فلا يجوز.
فأما إذا كان في موضع لا يرى فيه الماء فإنه يسأل حتى أنه لو لم يسأل وصلى بالتيمم لا تجوز صلاته كما في....... الظاهر أنه لا يجري الشح والصفة في مثل هذا الموضع، فلو أنه سأل فأبى أن يعطيه فتيمم وصلى ثم أعطاه بعد ذلك فإنه تجوز صلاته، لأنه عجز عن استعمال الماء وقت أداء الصلاة، فالقدرة على استعماله بعد ذلك لا ينفع كما إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء. وقد ذكرنا هذا.
قال شمس الأئمة: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمهما الله يقول: إن بعض الحجاج إذا انصرفوا من حجّهم يضعون ماء زمزم في آنية الاستستقاء أو للعطية، ويجعلون رأس الآنية مرصصاً ولا يخافون على أنفسهم العطش، فربما يعزّ الماء في بعض المواضع فيتيممون وماء زمزم في رحلهم ويرون ذلك جائزاً، وهذا منهم جهل وحمق لأنهم واجدون للماء فلا يجزئهم التيمم.

وذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وذكر فيها حيلة فقال: الحيلة أن يهب ذلك الماء لمن يسلمه إليه ثم إن الموهوب له يستودعه منه فيجوز له التيمم، إلا أن

(1/138)


هذه الحيلة عندنا ليست بصحيحة؛ لأن القدرة على استعمال الماء بواسطة الرجوع في الهبة ثابتة فيمنع جواز التيمم، ألا ترى أن القدرة على استعمال الماء بالشراء منعت جواز التيمم فههنا أولى.
فإن كان مع رفيقه دلو وليس معه دلو فإنه لا يجب عليه أن يسأل، وفي الماء يجب عليه أن يسأل. والفرق: وهو أن الوضوء يحصل بالماء لا بالدلو فربما يمكنه الاستقاء بالدلو وربما لا يمكنه وربما يعطيه وربما لا يعطيه، فلا حلية بالسؤال، فإن سأل الدلو، فقال له: انتظر حتى استقي الماء ثم أدفع إليك الدلو فالمستحب عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينتظر إلى آخر الوقت فإن خاف فوات الوقت صلى، وعندهما ينتظر وإن خاف فوات الوقت.
وعلى هذا الاختلاف: إذا كان عرياناً ومع رفيقه ثوب فقال: انتظر حتى أصلي ثم أدفع إليك الثوب. وأجمعوا على أنه إذا قال لغيره: أحل لك مالي لتحج فإنه لا يجب عليه الحج، وأجمعوا أن الماء ينتظر وإن خرج الوقت.
وحاصل الاختلاف راجع إلى أن القدرة على ما سوى الماء هل تثبت بالإباحة، عند أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت بالإباحة، وإنما تثبت بالملك، ولم يوجد ههنا الملك، فلم تثبت القدرة فيجزئه التيمم. وعندهما القدرة على ما سوى الماء كما تثبت بالملك تثبت بالإباحة، وقد وجدت الإباحة ههنا فثبتت القدرة وصار كما لو كان معه دلو مملوك له، ولو كان هكذا يجوز التيمم كذا ههنا.

وإذا انتهى إلى بئر وليس معه دلو كان له أن يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وكذا إذا كان معه دلو إلا أنه ليس معه رشاء فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء قالوا: إذا لم يكن معه منديل طاهر يصلح لذلك، فإن كان ذلك لا يتيمم، فإذا أتى حيّاً من الأحياء وطلب الماء فلم يجد فصلى بالتيمم فهو على وجهين: إن رأى قوماً من أهله ولم يسألهم وصلى بالتيمم ثم سألهم وأخبروه بالماء لم تجز صلاته. وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يَرَ قوماً من أهله جازت صلاته.
فإن كان معه سؤر حمار أو بغل وليس معه غير ذلك، يتوضأ ويتيمم، يريد به الجمع والترتيب، وإنما أمره بالجمع؛ لأن سؤر الحمار مشكل على ما مر، فأمر بالجمع احتياطاً، وبأيهما بدأ جاز عندنا؛ لأن الاحتياط في الجمع لا في الترتيب، ولكن الأفضل أن يبدأ بالوضوء ليكون عارياً للماء الطاهر فيتعين، فإن لم يفعل إلا أحدهما وصلى، أعاد الصلاة لأن في أداء الصلاة بالطهارة شكاً. فإن كان في الجمع احتياطاً، من الوجه الذي قلتم ففيه ترك الاحتياط من وجه آخر، لأنه إن كان الإشكال في طهارته ونجاسته كما ذهب إليه بعض المشايخ فعلى تقدير أنه نجس تتنجس أعضاؤه ويصلي مع الأعضاء النجسة.
قلنا: موضوع المسألة أنه لا ماء غير سؤر الحمار، ومن كان أعضاؤه نجسة وليس معه ماء طاهر حتى يغسلها جاز له أن تيمم ويصلي، فليس في الجمع ترك الاحتياط، فإن

(1/139)


توضأ بسؤر الحمار وصلى ثم تيمم وصلى تلك الصلاة في الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة، وكذلك لو بدأ بالتيمم وصلى ثم توضأ بسؤرالحمار وصلى لا يلزمه الإعادة.

ولو تيمم وصلى ثم أهراق سؤر الحمار يلزمه إعادة التيمم والصلاة لاحتمال أن سؤر الحمار كان طاهراً. فإن كان معه نبيذ التمر وليس معه غيره قال أبو حنيفة رحمه الله يتوضأ ولا يتيمم. هكذا ذكر في «الزيادات» وفي «الجامع الصغير» وذكر في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله: وأن يتيمم مع ذلك أحبّ إليّ، غير أنه لو ترك التيمم أجزأه. ولو ترك التوضؤ به لا يجزئه.
وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة رحمه الله: أن التوضؤ بنبيذ التمر منسوخ فيتيمم ولا يتوضأ، وهو قول أبي يوسف ومالك والشافعي. وقال محمد رحمه الله: يجمع بينهما كما في سؤر الحمار وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، فإن لم يجد إلا سؤر الكلب يتيمم ولا يتوضأ به عندنا.
وإن مرّ المسافر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد ثم يدخل المسجد ويستقي من البئر، وإن لم يكن معه ما يستقي به ولا ما يستطيع به أن يفترق منه ولكنه يستطيع أن يقع فيها؛ فإن كان ماءً جارياً، أو حوضاً كبيراً اغتسل فيه، وإن كان عيناً صغيراً لا يغتسل فيه، لأنه لو اغتسل فيه يتنجس الماء ولا يطهر فلا يشتغل به ولكنه يتيمم للصلاة. وهذا إشارة إلى أنه لا يصلي بالتيمم الأول لأن قصده من ذلك دخول المسجد لا الصلاة. وقد مرّ جنس هذه المسائل.

قال في «الجامع الصغير» : رجل يصلي وفي رحله ماء قد نسيه فتيمم وصلى ثم تذكر الماء بعد فراغه من الصلاة والوقت قائم يجزئه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجزئه. أبو يوسف يقول: التيمم شرع حال عدم الماء بالنص وهو واجدٌ للماء فالنسيان لا يضاد الوجود إنما يضاد العلم ولأنه تيمم قبل طلب الماء في مقرب الماء فلا يجوز قياساً على ما إذا تيمم في العمرانات قبل طلب الماء......... المسافر مقرب الماء كما أن العمرانات موضع الماء. وهما قالا: إن الوجود المذكور في النص عبارة عن القدرة فكأن الله تعالى قال: فإن لم تقدروا على استعمال الماء. ألا ترى أنه لو كان (19ب1) مريضاً يضره استعمال الماء، أو كان ثمة سبع، أو ليس معه دلو فهو واجد للماء لكن لم يقدر على استعماله جاز له التيمم، وهاهنا عجز عن استعماله عند البلوى وهو النسيان، والنسيان مما لا يمكن دفعه عن نفسه كالمرض بل النسيان أبلغ من المرض، فإن المريض لو تكلّف يمكنه استعمال الماء، والناسي وإن تكلف لا يمكنه استعمال الماء.
وقوله: إن على المسافر......... موضع الحاجة إلى الماء، والماء الذي في الرحل ليس له فلا يفصل عن الحاجة، فوقع التعارض فسقط فرض الطلب بخلاف القرية

(1/140)


العامرة، والثاني: أن......... اعتبار ظنه بمنزلة الاختيار، إنسان في العمرانات يعدم الماء ثم هناك تيمم فكذا هذا.
ثم قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : رجل في رحله ماء قد نسيه، دليل على أن الخلاف فيما إذا علم بكون الماء في رحله في الابتداء ... بأن وضعه بنفسه أو وضع غيره بأمره، ثم خفي عليه لأن النسيان إنما يكون بعد العلم، فعلى هذا لو كان الواضع غيره وهو لا يعلم به فإنه يجوز التيمم بالاتفاق. وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا. وقال بعض مشايخنا: الخلاف في الكل واحد وإليه أشار في كتاب الصلاة، فإنه قال في كتاب الصلاة: مسافر تيمم وفي رحله ماء وهو يعلم، وهذا يتناول النسيان وغيره، وإنما إذا صلى عرياناً وفي رحله ثوب وهو لا يعلم به، فمن المشايخ من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: لا تجوز الصلاة ههنا بلا خلاف، قال الكرخي رحمه الله: لم تزل هذه المسألة مشكلة عليَّ حتى وجدتُ الرواية عن محمد رحمه الله أنه قال: تجزئه صلاته ولا يلزمه الإعادة.
h
والجواب في هذه المسائل فيما إذا تذكر في الوقت وفيما إذا تذكر بعد خروج الوقت سواء، وإن قيده في الكتاب بالوقت لأن المعنى لا يوجب الفصل. وإذا تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به فصلى بتيممه جاز عندهما، خلافاً لأبي يوسف رحمة الله عليهم، وكذلك إذا ضرب خباء على رأس بئر قد علا رأسها وفيها ماء وهو لا يعلم أو كان على شط النهر ولا يعلم فتيمم وصلى به فهو على هذا الخلاف.
وإذا كانت الإداوة معلقة من عنقه وفيها ماء فنسيه وصلى بالتيمم، بعض مشايخنا على أنه على هذا الخلاف أيضاً، وحكي عن الحاكم الإمام عبد الرحمن رحمه الله أنه كان يقول في فصل الإداوة أنه لا يجوز بلا خلاف لأنه نسي ما لا ينسى وجهل ما لا يجهل.

ولو كان الماء معلقاً على الأكتاف فهو على وجهين: إما أن يكون سائقاً أو راكباً فلا يخلو إما إن الماء مقدم الرحل أو مؤخره، فإن كان راكباً والماء في مؤخرة الرحل يجزئه لأنه نسي ما ينسى عادة، فإن كان الماء في مقدم الرحل لا يجزئه لأنه نسي ما لا ينسى عادة، وإن كان سائقاً وكان الماء في مؤخرة الرحل لا يجزئه، وإن كان مقدمه يجزئه.
ولو كفّر بالصوم وفي ملكه رقبة أو ثياب أو طعام قد نسيه فلا رواية فيه، وقد قيل يجزئه عندهما، والصحيح أنه لا يجزيه لأن الوجود في الكفارة عبارة عن الملك ولم ينعدم الملك بالنسيان، والوجود في التيمم عبارة عن القدرة وبالنسيان انعدمت القدرة والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان وقت التيمم
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : المسافر الذي لا يجد الماء ينتظر إلى آخر الوقت، فإذا خاف الفوت يتيمم، وإنما قال ذلك ليصير مؤدياً الصلاة بأكمل الطهارتين،

(1/141)


وذكر القدوري رحمه الله: ويؤخر المسافر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان على طمع من وجود الماء، فقد شرط القدوري زيادة لم تشترط في «الأصل» وهو أن يكون على طمع من وجود الماء.
معناه: إذا كان يرجو وجود الماء وهو الصحيح، حتى أنه إذا كان لا يرجو وجود الماء لا يؤخر الصلاة عن الوقت المعهود إذ لا فائدة فيه. قال القدوري رحمه الله: وهذا استحباب وليس بحتم يريد به أن التأخير إلى آخر الوقت استحباب، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه حتم لأن الطمع غلبة الظن وغلبة الظن حجة فصار هو باعتبار هذه الحجة قادراً على الاستعمال حكماً.
وجه ظاهر الرواية: أن العجز الحقيقي للحال ثابت بيقين وما ثبت بيقين لا يسقط حكمه إلا بيقين مثله، وهذا إذا كان الماء بعيداً عنه، فأما إذا كان قريباً منه لا يجزئه التيمم وإن خاف فوت الوقت. واختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القريب والبعيد، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا.
ثم إذا أخَّر لا يفرط في التأخير حتى لا تقع الصلاة في وقت مكروه فلا يؤخر العصر إلى تغير الشمس ولكن يؤخرها إلى أن يصلي قبل التغير، واختلف المشايخ في المغرب، قال بعضهم: لا يؤخر المغرب ولكنه يتيمم ويصليها في أول الوقت، فأكثرهم على أنه لا بأس بالتأخير إلى وقت غيبوبة الشفق لأن وقت المغرب يمتد إلى هذا الوقت، والدليل عليه أن المريض والمسافر إذا أخّرَا المغرب حتى جمعا بين المغرب والعشاء جاز.
قال «القدوري» رحمه الله في «شرحه: ويجوز التيمم قبل الوقت، وقال الشافعي: لا يجوز لأن التيمم طهارة ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة. ولنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) شرط عدم الماء فقط، فمن زاد دخول الوقت يحتاج إلى الدليل.
(نوع آخر) ما يجوز التيمم به وما لا يجوز
فنقول على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض التراب والرمل والحصاة والزرنيخ والجص والكحل والمردا رسنح، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، وروي عنه أخيراً: أنه لا يجوز إلا بالتراب، وهو قول الشافعي.

حجتهما قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} قال ابن عباس رضي الله عنه: المراد منه تراب الحرث، ولأن الأرض الطيب هو الأرض المنبت، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} (الأعراف: 58) والمنبت هو التراب. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً» إلا أن أبا يوسف زاد الرمل في رواية بحديث آخر،

(1/142)


وهو ما روي أن قوماً من الأعراب جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام وقالوا: «إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهراً وشهرين وفينا الجنب والحائض» ، فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن المراد من الصعيد المذكور في الآية الأرض، قال عليه السلام: «يحشر العلماء في صعيد واحد كأنه شبكة فضة» الحديث والمراد هو الأرض. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» .
وجه الاستدلال بالحديث من وجهين:
أحدهما: أن رسول الله عليه السلام جعل نفس الأرض طهوراً من غير فصل بين أن تكون تراباً أو غيره.
والثاني: أنه قال: أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وقد كان تدركه الصلاة في غير موضع التراب كما كان تدركه في موضع التراب. ولا حجة للخصم في اسم الطيب لأنه اسم مشترك يحتمل الطاهر من غير أن يكون منبتاً ومن المنبت ما لا يكون طاهراً والمشترك لا عموم له، وابن عباس رضي الله عنهما فسرّه بالمنبت ورسول الله عليه السلام فسرّه بالطاهر حتى جوزه بالرمال بالحديث الذي روينا.
ولا يجوز التيمم بما ليس من جنس الأرض نحو الذهب والفضة والحديد والرصاص والزجاج والحنطة والشعير وسائر الحبوب والأطعمة لأن المنصوص عليه في الكتاب الصعيد. وفي الحديث الأرض وغيرها ليس بمنصوص عليه. وهذا أمر توقيفي فلا يلحق بهما غيرهما.

وقد ذكر بعض المشايخ في مسألة الذهب والفضة والحديد والرصاص فقال: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا كان مشتركاً، ولم يكن مختلطاً بالتراب بأن كان بعد التخليص. فأما إذا لم يكن مشتركاً وكان مختلطاً بالتراب بأن كان قبل التخليص جاز التيمم به عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنه صحيح. وقالوا أيضاً في الحنطة والشعير وسائر الحبوب إن كان عليها غبار جاز التيمم وإنه صحيح.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الرواتين عن محمد رحمه الله: الشرط مجرد المسّ.
ولا يشترط استعمال جزء من الصعيد حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وكذا، إذا (20أ1) وضع يده على الأرض الندية ولم يعلق معه شيء جاز عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا بد من استعمال جزء من الصعيد، حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها، أو على أرض ندية ولم يعلق بيده شيء، لا يجوز.

(1/143)


حجته على هذه الرواية قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (المائدة: 6) يعني من الصعيد ولأنه بناء على قوله: {فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) وكلمة «من» للتبعيض، فكأنه قال: ببعض الصعيد، ولأبي حنيفة رحمه الله أن قوله: {صعيداً طيباً} (النساء: 43) يقتضي الجواز مطلقاً من غير فصل بين ما عليه غبار وما ليس عليه غبار، وكلمة «من» لتمييز الصعيد من غيره، فلا تجوز زيادة العبد به في صريح الآية، ولا يقال: بأن التمييز حصل في ابتداء الكلام لقوله: {فتيمموا صعيداً} بدون كلمة «من» لأنا نقول على هذا الاعتبار كلمة «من» لتأكيد التمييز، فتصير لتمييز الصعيد من غيره، ولا يقال بأن المسح يقتضي ممسوحاً سوى اليد، كما في مسح الرأس والخف، لأنا نقول: في هذا القياس إثبات زيادة القيد على المطلق، وأنه لا يجوز، والذي يؤيد قول أبي حنيفة رحمه الله، ما روي «أن رسول الله عليه السلام بال، فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام، حتى كاد الرجل يتوارى لحيطان المدينة، فضرب يده على الحائط ورد عليه السلام» وحيطانهم كانت من الحجر فدل ذلك على جواز التيمم بالحجر على كل حال.
ويجوز التيمم بالآجر مدقوقاً أو غير مدقوق في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن الآجر طين مستحجر، والتيمم بالحجر الأصلي جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، فكذا بالطين المستحجر، هكذا ذكر القدوري، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفّار: أن في التيمم بالآجر عن أبي حنيفة روايتان: والأصح أنه يجوز، وفي رواية أخرى عن محمد لا بد وأن يكون مدقوقاً، أو يكون عليه غبار، فإن على إحدى الروايتين عن محمد: استعمال جزء من الصعيد شرط، وعند أبي حنيفة ذلك ليس بشرط.

ولو تيمم بغبار ثوبه أوغير ذلك، أجزأه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكان أبو يوسف يقول أولاً يتيمم بالغبار إذا لم يجد غيره ثم رجع وقال: الغبار عندي ليس من الصعيد، والصحيح قول أبي حنيفة لما روي: أن عمر رضي الله عنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا..... فأمرهم بأن ينقضوا لبودهم وسروجهم ويتيمموا بغبارها، ولأن الغبار وإن قل من نفض ثوبه من التراب إلا أنه رقيق، فكما يجوز التيمم بالخشن من التراب فكذا برقيقه.
وصورة التيمم بالغبار: أن يضرب بيده ثوباً أو لبداً أو وسادة أو ما أشبه ذلك من الأعيان الطاهرة التي عليها غبار، فإذا وقع الغبار على يديه يتيمم، أو ينفض ثوبه حتى يرتفع غباره ويرفع يديه في الهواء، فإذا وقع الغبار على يديه تيمم، ولو كان في مفازة فهبت الريح، وارتفع الغبار فأصاب وجهه وذراعيه فمسحه (جاز) التيمم، أو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه فقد ذكرنا هذا في أول هذا الفصل.
ولو تيمم بالملح، إن كان......... وإن كان جبلياً كالمكسة، بعض مشايخنا قالوا

(1/144)


يجوز لأنه بمنزلة الحجر، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الصحيح عندي أنه لا يجوز لأنه يذوب بالنار فلا يكون من جنس الأرض والسبخة بمنزلة الملح مائية وترابية وقال محمد رحمه الله في «الأصل» : في المسافر إذا كان في طين وردغة أصابه مطر وأبل سرجه وثيابه، ولم يجد ماء يتوضأ به فإنه يلطخ ثوبه بالطين ويجففه ثم يفركه ويتيمم به، قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : وهذا قول محمد رحمه الله لأنه يعتبر استعمال جزء من الصعيد يغني على إحدى روايتيه، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن محمد: فلا يعتبر استعمال جزء من الصعيد، وإنما يعتبر المس، والطين من جنس الأرض، فيضع يده على الطين ويتيمم. من المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» قول الكل، ولا يجوز التيمم بالطين عند الكل، لأن التراب لا يصير طيناً ما لم يصر مغلوباً بالماء، والعبرة للغالب فكان الكل لذا ماءً فلا يجوز التيمم به. ألا ترى أن الماء الذي خالطه اللبن لا يجوز التوضؤ به إذا كان اللبن غالباً، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي للإنسان أن لا يتيمم بالطين إذا تلطخ به وجهه.... ولو فعل ذلك يجوز، ويجوز التيمم بالحصى والكيزان والحباب والحيطان من المدر، ولا يجوز بالعصارة إذا كان مطلياً بالأيك بطن العصارة وظهرها على السواء، إلا إذا كان عليه تراب فحينئذ يجوز، وإن لم يكن مطلياً بالأيك جاز التيمم به سواء كان عليه غبار أولم يكن، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا يجوز إلا إذا كان عليه غبار.
ولو تيمم بالخزف، إن كان عليه غبار جاز، وإن لم يكن الخزف عليه غبار إن كان متخذاً من التراب الخالص، ولم يجعل فيه شيء من الأدوية جاز، وإن جعل فيه شيء من الأدوية لا يجوز، وإذا تيمم بالرماد لا يجوز، لأنه ليس من جنس الأرض.

وإذا احترقت النخل التي في الأرض واختلط رمادها بتراب الأرض، إن كانت الغلبة لتراب الأرض يجوز، وإن كانت الغلبة للرماد لا يجوز، وكذلك التراب إذا اختلطه غير الرماد، ومما ليس من أجزاء الأرض يعتبر فيه الغلبة، وإذا أصابت الأرض النجاسة فجفت وذهب أثرها، لا يجوز التيمم به ويجوز الصلاة عليه، هذا جواب ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أصحابنا: أنه يجوز التيمم به أيضاً، فإن أخذنا برواية ابن كاس لا نحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الصلاة، وإن أخذنا بظاهر الرواية نحتاج إلى الفرق، والفرق: أن قضية القياس أن يجوز التيمم كما تجوز الصلاة لأن الأرض تطهر بالجفاف، قال عليه السلام: «أيما أرض جفت فقد ذكت» أي طهرت، وقال عليه السلام: «ذكاة الأرض يبسها» أي طهارة الأرض، والمعنى في ذلك أن طبيعة الأرض استحالة النجاسة، وللاستحالة أثر في التخليل كالخمر يتخلل إلا أن مع التخلل يبقى قليل النجاسة وإنه لا يمنع الطهارة، أما لا يمنع جواز الصلاة عليه.

(1/145)


فإذا تيمم الرجل من موضع فجاء رجل آخر، وتيمم من ذلك الموضع أيضاً أجزأه لأن الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير الماء الباقي في الإناء بعد وضوء الأول فيكون طاهراً وطهوراً في حق الباقي والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان من يجوز له التيمم ومن لا يجوز
فنقول: يجوز للمسافر التيمم إذا لم يكن معه ماء، وكذلك إذا كان معه ماء وهو يخاف على نفسه من العطش أو دابته، لأنه عاجز عن استعمال الماء حكماً لكونه مستحقاً لحاجته الأصلية فيعتبر بما لو كان عاجزاً عن استعمال الماء حيقيقة.
وكذلك إذا كان مقيماً خرج عن المصر لحاجة له نحو الاحتطاب والاحتشاش لا للسفر وقد صار بعيداً عن المصر فله أن يتيمم.
وتكلموا في تقدير البعيد، قال بعض مشايخنا: إذا كان بينه وبين المصر ميل وذلك قدر ثلث فرسخ فهو بعيد وبعضهم قدر البعيد بالفرسخ، وبعضهم بما لو خرج مسافة قصر الصلاة عنه وبعضهم بما إذا كان لا يسمع الأذان، وبعضهم: بما إذا كان بحيث لو نودي من أقصى المصر لم يسمع، وعن محمد رحمه الله: أنه قدره بالميلين، ومن الناس من قال: لا يجوز التيمم لمن خرج من المصر، إلا إذا قصد سفراً صحيحاً، لأن الله تعالى قيده بالسفر حيث قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} (النساء: 43) .
ويجوز التيمم للمريض إذا خاف زيادة المرض باستعمال الماء، وقال الشافعي: لا يجوز إلا إذا خاف التلف: واعلم بأن هذه المسألة على أربعة أوجه:
(20ب1) إما أن يخاف على نفسه الهلاك بسبب استعمال الماء، أو خاف تلف عضو من أعضائه، وفي هذين الوجهين يجوز له التيمم، وأما أنه لا يخاف على نفسه الهلاك ولا تلف عضو من أعضائه، ولكن يخاف من زيادة المرض، أو يخاف إبطاء البرء بسبب الاستعمال، وهو الوجه على الخلاف بيننا وبين الشافعي، على ما ذكرنا، وإن كان لا يخاف على نفسه شيئاً من ذلك، وفي هذا الوجه لا يجوز له التيمم بلا خلاف لأن الآدمي لا يخلو عن نوع مرض، ولو جوزنا التيمم بكل مرض أدى إلى إباحة التيمم على كل حال سفراً كان أو حضراً..........
حجة الشافعي: أن التيمم مشروع في حال عدم الماء، وهذا واجد للماء حقيقة، وإنما يعتبر عاجزاً حكماً عند خوف التلف، ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف التلف.
ولنا: أن زيادة المرض تسبب التلف، فصار الخوف عنها خوفاً عن سبب التلف، فيصير خوفاً عن حقيقة التلف معنى.
وإن كان المريض بحال لا يضره استعمال الماء أصلاً إلا أنه عجز عن استعماله بحكم المرض فهذا على وجهين:

(1/146)


الأول: أن لا يجد أحداً يوضئه، وفي هذا الوجه يجوز له التيمم في ظاهر مذهب أصحابنا، وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز له التيمم في المرض هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه يجوز له التيمم بالاتفاق، وأما إذا وجد أحداً يوضئه فهذا على وجهين: الأول: أن يكون ذلك الإنسان الذي يوضئه حراً وفي هذا الوجه قال أبو حنيفة رحمه الله: يجز ئه التيمم، وقالا: لا يجزئه وكذلك على هذا الاختلاف إذا كان مريضاً لا يستطيع استقبال القبلة أو في فراشه نجاسة، ولا يستطيع التحول ووجد من يحوله ويوجهه إلى القبلة لا يفترض عليه ذلك عنده، وعندهما يفترض، وكذلك الأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الحج لا يفترض عليه الحج عنده، وعندهما يفترض. والمقعد إذا وجد من يحمله إلى الجمعة، ذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: أنه لا جمعة عليه عند الكل، قال: وينبغي أن لا يكون عليه الحج، ولا حضور الجماعات بلا خلاف، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: أن الكل على الخلاف.
الوجه الثاني: إذا كان الذي يوضئه مملوكاً له بأن كان عبداً له أو أمة له، لا شك أن على قولهما لا يجوز له التيمم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلف المشايخ، والصحيح أنه لا يجوز، حجتهما: أنه تيمم وهو قادر على الوضوء، والوضوء لا يضره فلا يجزئه التيمم قياساً على عديم الماء إذا....، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن وجوب الوضوء علق باستطاعة مملوكه لا باستطاعة مباحة له قال الله تعالى: {لا يكلف انفساً إلا وسعها} (البقرة: 268) معناه إلا ما وسعها فلو أوجبنا الوضوء فيما إذا كان الموضىء حراً، فقد كلفناه نظافة الغير، وأنه خلاف اليسر.
يوضحه: أن الإيجاب يعتمد القدرة، والقدرة على التوضؤ في الأصل بفعله وفعله مملوك له، وفيما لم يصر فعل غيره مملوكاً له لا تثبت الاستطاعة، ومنافع العبد مملوكة له، بخلاف منافع الأجنبي وليس كالماء لأنه يوجد مباح الأصل غالباً، والحظر عارض فتعلق الوجوب بالقدرة الثابتة بالإباحة فإن الأحكام تتعلق بالأصول لا بالعوارض، أما ههنا بخلافه، والدليل على أن المعتبر لحالة مملوكه لا لحالة مباحة أن الابن إذا بذل الزاد والراحلة لأبيه والأب معدم لا يفترض عليه الحج، وكذا المكفر إذا بذل له أبوه المال لا يلزمه التكفير بالمال، والذي يؤيد ما قلنا: العاجز عن القيام تجزئه الصلاة قاعداً وإن وجد من يقيمه عبداً كان أو غيره، وهذا الفصل دليل على أنه لا فرق بين العبد والحر وهذا لأن القدرة وصف القادر، فلا يصير الإنسان قادراً بقدرة الغير.

وإذا كان بدن الجنب جريحاً أو أعضاء المحدث، فإنه يتيمم ولا يستعمل الماء فيما

(1/147)


كان صحيحاً، وإن كان على العكس فإنه يغسل، والمسح على الجراحة إن أمكنه أو فوق الخرقة إن كان المسح يضره، ولا يتيمم، وهو قول علمائنا، وقال الشافعي: بأنه يغسل ما كان صحيحاً ثم يتيمم بعد ذلك، حجته: أن سقوط الغسل عما هو مجروح لضرورة الضرر في إصابة الماء فتتقدر بقدرها، حجتنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه أباح للمحذور التيمم» ، وبعض أعضاء المحذور يكون صحيحاً، ولم يأمر بإيصال الماء إليه، وهذا حديث روي عنه ولم يرو عن أقرانه خلافه فحل محل الإجماع، والمعنى فيه: أنه اجتمع فيه ما يوجب الغسل والتيمم، ولا وجه للجمع، لأنه يؤدي إلى الجمع بين الأصل والبدل، وهذا لا أصل له لما عرف في الكفارات فيصار إلى الترجيح، ورجحنا بالكثرة، وإن استويا في الرواية في هذا الفصل من مشايخنا من قال: يتيمم ولا يستعمل الماء ومنهم من يقول: يغسل ما كان صحيحاً ويمسح على الباقي إذا كان المسح لا يضره، أما من قال يغسل حجته: أنه لما تعذر الترجيح من حيث الكثرة ترجح من وجه آخر فنقول: الغسل طهارة حقيقة وحكماً، فإيجابه أولى من إيجاب التيمم الذي ليس بطهارة حقيقة، وأما الفريق الآخر يقولون: بأن التيمم طهارة كاملة، وغسل البعض وإن كان طهارة حقيقة وحكماً، إلا أنها ناقصة في نفسها، فكان اعتبار التيمم هو طهارة كاملة أولى.
ثم اختلف مشايخنا في حد الكثرة: فمنهم من اعتبر الكثرة من حيث عدد الأعضاء في الكثرة في نفس العضو، بيانه: إذا كان برأسه ووجهه وبدنه جراحة والرجل صحيح، فإنه يتيمم، سواء كان الأكثر من الأعضاء الجرحة جريحاً أو أقله، ومنهم من اعتبر الكثرة في نفس العضو فقال: إن كان الأكثر من كل عضو من أعضاء الوضوء جريحاً كان كثيراً يبيح له التيمم.

المسافر أو المريض إذا أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك على نفسه من شدة البرد، أو تلف عضو إن اغتسل، فإنه يباح له التيمم، وأما إذا كان مقيماً صحيحاً أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك أو تلف عضو أو زيادة مرض إن اغتسل، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يتيمم ولا يغتسل خلافاً لهما.
وكذلك المحدث على هذا الخلاف، إذا كان يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن المحدث يتوضأ ولا يتيمم بالإجماع، وذكر في غير رواية الأصول قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما الله، فمنهم من قال: لا خلاف في الحقيقة، فأبو حنيفة رحمه الله إنما قال هذا في بلد لا يوجد فيه ماء حار، وهما أقاما في بلد يوجد فيه ماء حار لكن بالتكليف، ومنهم من يحقق الاختلاف، حجتهما: أن عدم الماء السخين أو عدم مكان يدفأ به في المصر نادر ما ينزله عادماً (للماء) حكماً، ولهذا لا يتيمم المقيم دون عدم الماء، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأن عدم الماء السخين والمكان الذي يدفأ ليس بنادر لأنه قد يكون فيه غرباء وفقراء لا يجدون ماء سخناً يدفؤون به أو لا يكون في القرية حمام، أو لا يكون له أجرة الحمام، حتى قالوا في موضع فيه حمام وتوجد الأجرة عند الخروج عادة: لا

(1/148)


يباح له التيمم، بعض مشايخنا قالوا: هذا كله في ديارهم، فأما في ديارنا لا يباح له التيمم لأنه يمكنه أن يحتال بحيلة يتوضأ ويغتسل بأن يدخل الحمام فيتطهر، وهذا لأن في عرف ديارنا لا يطالب بالأجر عند دخول الحمام وإنما يطالب بعد الدخول فيمكنه الدخول، وبعدما خرج إذا علم أنه ليس معه شيء لا يطالب بشيء.
المحبوس في السجن إذا لم يجد الماء فهو على وجهين:

الأول: أن يكون محبوساً في موضع نظيف، وهو على وجهين أيضاً: إن كان خارج المصر، قال أبو حنيفة رحمه الله يصلي بالتيمم ولا يعيد، وإن كان في المصر لم يصل بتيمم، رجع أبو حنيفة وقال: يصلي ثم يعيد، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وجه قول أبي حنيفة الأول: أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعاً حتى لا يسقط الفرض عنه بالتيمم ويلزمه الإعادة فلم يكن التيمم طهوراً له ولا صلاة إلا بطهور، وجه قوله الآخر: أن عدم الماء في المصر إنما لا يعتبر لأن ذلك نادر، فأما في السجن عدم الماء ليس بنادر فكان معتبراً فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وهل يعيد؟، ففي القياس: لا، وهو رواية عن أبي يوسف كما لو كان في السفر وفي الاستحسان يعيد لأن عدم الماء كان بمنع من العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة، وحق الله لا يسقط بمنع العباد (21أ1) بخلاف المسافر لأن جواز التيمم هناك لعدم الماء لا للحبس ولاصنعة للعباد.
الوجه الثاني: أن يكون محبوساً في مكان نجس لا يجد ماءً ولا تراباً نظيفاً وإنه على وجهين: إن أمكنه حفر الأرض أو الحائط بشيء واستخراج التراب الطاهر فعلى ذلك يصلي بالتيمم. وإن لم يمكنه ذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلي بل ينتظر حتى يجد الماء أو التراب الطاهر. وقال أبو يوسف رحمه الله: يصلي بالإيماء تشبهاً بالمصلين، وقول محمد رحمه الله مضطرب ذكر في «الزيادات» وفي كتاب الصلاة في رواية أبي حفص قوله مع أبي حنيفة رحمه الله، ذكر في رواية الصلاة لأبي سليمان قوله مع أبي يوسف. قال بعض المشايخ: على قول أبي يوسف إنما يصلي بالإيماء إذا لم يكن الموضع يابساً، أما إذا كان يابساً يصلي بركوع وسجود.

وأما العاري إذا لم يجد ثوباً أو اللابس إذا كان له ثوب كلّه نجس ولا يجد ما يغسله، فإنه يصلي ولا يترك الصلاة ولا يعيد. وفي مسألة السجن: إذا لم يجد ماءً ولا تراباً نظيفاً على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصلي، وعلى قول أبي يوسف: يصلي ويعيد، والفرق أن الشرع أسقط فرض ستر العورة عند العجز، وأسقط غسل النجاسة الحقيقية عند العجز عن استعمال الماء، فجاز الصلاة من غير إعادة.
أما ما أسقط فرض الطهارة الحقيقية والحكمية جملة بحال فلا يصلي من غير طهارة عند أبي حنيفة رحمه الله الخطاب بالطهارة، وعند أبي يوسف رحمه الله يصلي تشبهاً ولا يعيد.
قال الأسير في دار الحرب إذا منعه الكفار عن الوضوء أو الصلاة يتيمم ويصلي بالإيماء ثم يعيد إذا خرج، وكذا إذا قيل لرجل: حبستك إن توضأت، أو إن توضأت

(1/149)


حبسناك قتلناك، فإنه يصلي بالتيمم ويعيد.
«فأما بيان ما يتيمم عنه» فنقول بجواز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس كما يجوز التيمم عن الحدث. وقال بعض الناس: لا يجوز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ومذهبنا يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، والحديث الذي روينا أن قوماً من الأعراب سألوا رسول الله عليه السلام وقالوا: إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهراً أو شهرين وفينا الجنب والحائض فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» دليل لنا في المسألة.
«وأما بيان ما يتيمم لأجله نقول: يجوز التيمم لصلاة العيد إذا كان بحال لو توضأ تفوته الصلاة عندنا، لأن صلاة العيد إذا فاتت لا تقضى عندنا لأنها لم تشرع إلا بجماعة وسلطان، والمنفرد عاجز عن تحصيلها، فيكون قولنا من كل وجه فيجوز التيمم صيانة عن الفوات، وعن هذا قلنا: إن الإمام لا يتيمم لأنه لا يخاف الفوت لأن الناس ينتظرونه، وكذلك غير الولي يتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف الفوت لها لأنها لا تعاد.

والولي لا يتيمم لصلاة الجنازة لأنه لا يخاف الفوت لأنه ليس لغير الولي حق الصلاة على الجنازة، ولو صلى غير الولي على الجنازة فللولي حق الإعادة. ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لأن الجمعة تفوت إلى خلف فلا يكون فواتاً مطلقاً.
ويتيمم لمس المصحف ودخول المسجد. وفي سجدة التلاوة اختلاف على ما مر قبل هذا، وفي «شرح الأصل» : ويتيمم لسجدة التلاوة في السفر ولا يتيم لها في الحضر.
وإذا سبق المؤتم الحدث في صلاة العيد في الجماعة فهذا على وجهين:
الأول: إذا سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة وإنه على وجين: الأول إن كان يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام لو توضأ، لا يباح له التيمم لأنه لا يخاف الفوت لأنه يمكنه أن يصلي بقية الصلاة وحده.
وإن كان لا يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام يباح له التيمم لأنه يخاف الفوت إذ لا يمكنه أن يصليها وحده لأن الإمام والجماعة شرط الأداء بها.
الوجه الثاني: إذا سبقه الحدث بعد الشروع في الصلاة فهذا على وجهين أيضاً:
الأول: أن يكون شروعه بالتيمم في هذا الوجه يتيمم، وهنا لا خلاف لأنا لو أمرناه بالوضوء تفسد الصلاة برؤية الماء فلا يمكنه الإدراك، وإن كان شروعه بالوضوء إن كان يخاف زوال الشمس لو اشتغل بالوضوء يباح له التيمم بالإجماع لأن بعد زوال الشمس تفوت صلاة العيد أصلاً لذهاب الوقت.
وإن كان لا يخاف زوال الشمس فإن كان يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ لا يباح له التيمم بالإجماع، وإن كان لا يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ تيمم، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن مشايخنا قال: هذا اختلاف عصر وزمان

(1/150)


ومكان، فكان في زمن أبي حنيفة يصلي صلاة العيد في جماعة قريبة بحيث لو انصرف الرجل إلى بيته ليتوضأ لا تزول الشمس فلم يكن خوف الفوت قائماً فأفتيا على وفق زمانهما.

وكان شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يقولان: في ديارنا لا يجوز التيمم لصلاة العيد لا ابتداءً ولا بناءً لأن الماء محيط بمصلى العيد فيمكن التوضؤ، والناسي غير خوف الفوت حتى لو خيف الفوت يجوز التيمم، ومن المشايخ من قال: هذا اختلاف حجة وبرهان، واختلفوا فيما بينهم. قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذه المسألة بناءً على أن من شرع في صلاة العيد ثم أفسدها لا قضاء عليه عند أبي حنيفة رحمه الله فكان تفوته الصلاة على أصله لا إلى بدل لو لم يجزئه التيمم فأجاز له التيمم، وعندهما يلزمه القضاء فلا تفوته الصلاة إلى بدل فلم يجوّزا له التيمم، وقبل الشروع إذا فاتته الصلاة لا يمكنه القضاء بالإجماع فكان الفوات لا إلى بدل فيجوز له التيمم بالإجماع.
وغيره من المشايخ جعل هذا اختلافاً مبتدأً فبقولهما: إن المبيح خشية الفوات واللاحق أمن من ذلك فإنه يتوضأ ويتم صلاته بعد فراغ الإمام. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: البناء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاح العيد بالتيمم فلأن يجوز البناء عليها بالتيمم أولى، ولأن خوف الفوت ههنا قائم لأنه ربما يصير منشغلاً بالمعالجة مع الناس لكثرة الزحام فتفسد صلاته، ولا يصل إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضي الوقت والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان ما يبطل التيمم وما لا يبطل
يجب أن يعلم بأن ما يبطل الوضوء يبطل التيمم لأن التيمم خلف عن الوضول وبدل عنه، وما لا يبطل الأصل لا يبطل الخلف والبدل ضرورة.
قال ويبطل إذا رأى الماء لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» فبعد ذلك المسألة على وجوه:
إن رأى الماء قبل الشروع في الصلاة توضأ به وصلى، وإن رأى الماء بعدما صلى لا يعيد الصلاة وإن كان في الوقت.

والأصل فيه: ما روي «أن رجلين من الصحابة كانا في سفر فتيمما في أوّل الوقت وصليّا، فلما فرغا من الصلاة وجدا ماءً قبل خروج الوقت فتوضأ أحدهما وأعاد صلاته ولم يفعل الآخر ذلك، فلما رجعا إلى رسول الله عليه السلام أخبراه بذلك فقال عليه السلام للذي أعاد «لك أجران وقال للآخر: أجزأتك صلاتك» .
والمعنى فيه أن هذه صلاة أديت بطهارة كاملة قد حكم بصحتها وجوازها فلا يرتفع هذا الحكم برؤية الماء بعد ذلك. أكثر ما في الباب أن التيمم خلف وقد قدر على

(1/151)


الأصل، إلا أنه إنما قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل فلا يسقط حكم البدل على ما عرف في موضعه، وبهذا الحرف يقع الفرق بين هذا الوجه وبين ما إذا رأى الماء في خلال صلاته حيث يتوضأ ويستقبل الصلاة، لأن هناك قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، وفي مثل هذا يسقط حكم البدل.
وإن رأى ماءً بعدما قعد قدر التشهد فسدت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله في آخر صلاته، وقالا: لا تفسد وهي من المسائل الإثني عشرية المعروفة بين أهل الفقه، وعلى هذا الخلاف الماسح على الخف إذا انقضى وقت مسحه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلّم، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله (21ب1) : تفسد صلاته، وعلى قولهما لا تفسد، وعلى هذا الاختلاف الماسح على الخف إذا وجد في خفه نجاسة فنزعه وكان ذلك بعدما قعد قدر التشهد، والمراد بهذه النجاسة أن تكون قدر الدرهم أو أقل حتى يصح شروعه، أما إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا يصح شروعه فيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الاختلاف فيما إذا كان الخف واسعاً بحيث يخرج من رجله من غير معالجة كثيرة، فأما إن كان الخف بحال يحتاج في نزعه إلى معالجة كثيرة، بحيث لو وجد في خلال الصلاة أوجب فساد الصلاة، فإن صلاته تكون باطلة بالإجماع، لأنه يكون خروجاً عن الصلاة بصنعه.

وعلى هذا الخلاف: مصلي الجمعة إذا خرج وقت الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا الخلاف مصلي الفجر إذا طلعت الشمس، والعاري إذا وجد ما يستتر به بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا إذا علم الأميُّ سورة بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا: القارىء إذا استخلف أميّاً بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا المومي إذا قدر على الركوع والسجود بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا: المصلي إذا تذكر فائتة بعدما قعد قدر التشهد وفي الوقت سعة، وعلى هذا: المستحاضة أو صاحب الحدث الدائم إذا ذهب الوقت أو برىء مرضه. وعلى هذا إذا كان بثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم فوجد الماء في هذه الحالة. والشيخ الإمام شيخ الإسلام: يزيد على هذه المسائل فائتة الفجر إذا شرع في قضائها فزالت الشمس في هذه الحالة، وكذلك إذا مسح على الجبائر فسقطت الجبائر عنه عن برء وبعدما قعد قدر التشهد.
من أصحابنا من قال هذه المسائل تنبني على أصل وهو: أن الخروج من الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليس بفرض.
هما احتجا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «إذا رفع المصلي رأسه من آخر السجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته» ولأن بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمداً أو حاذت المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد صلاته ولو بقى شيء من فرائض الصلاة لفسدت صلاته بهذه الأمور كما تفسد قبل العقدة، فثبت

(1/152)


بهذا أن وجود هذه المعاني في هذه الحالة لوجودها خارج الصلاة. ولو وجد هذه المعاني خارج الصلاة لا تفسد صلاته، فكذا إذا وجد في هذه الحالة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: هذه عبادة لها تحريم وتحليل، ثم التحريم لا يكون إلا بصنعه، فكذلك التحليل كما في الحج.

وتقدير هذا الكلام وتحقيقه: وهو أنه إذا أحرم بالظهر يجب عليه الخروج عن الظهر ليؤدي صلاة العصر، ولا يتوصل إلى أداء العصر إلا بالخروج عن الظهر، والأصل أن ما لا يتوصل إلى شيء إلا بغيره صار غيره كعينه، وأداء العصر فرض عليه، فكذلك خروج عن الظهر يكون فرضاً عليه.
وتأويل الحديث: قارب التمام. كما قال: الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه أي قارب التمام.
والكلام والحدث والقهقهة والمحاذاة صنع منه، فإن قيل: نزع الخف أيضاً بصنعه قلنا: إنما يكون صنعه إذا كان يحتاج إلى معالجة كثيرة، وعند ذلك صلاته تامة بالاتفاق أما إذا كان الخف واسعاً لا يحتاج إلى صنعه، ومن أصحابنا من قال: هذا الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله لا يقوى لاستحالة أن يتأدى فرض الصلاة بالكلام والحدث العمد، ولكن الوجه الصحيح عند أبي حنيفة أن التحريمة باقية بعد الفراغ من التشهد، وهذه العوارض مغيرة للفرض فاعتراضها في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة، كنية الإمامة بخلاف الكلام، فإنه قاطع وليس بمفير.
والقهقهة والحدث العمد مبطل وليس بمفير، فإن قيل: طلوع الشمس في خلال الصلاة مبطل وليس بمفير، وقد جعلتموه على الخلاف قلنا: بل هو بمفير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه لا يصير به خارجاً من التحريمة. وجميع ما قلنا فيما إذا اعترض قبل السلام كذلك في سجود السهو أو بعدما فرغ منها قبل أن يتشهد أو بعدما تشهد قبل أن يسلّم هكذا ذكر في «الأصل» .
وإن وجد هذه الأشياء بعدما سلّم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة، أما عندهما فلا يشكل، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه بالسلام خرج عن التحريمة، ولهذا لا يتغير فرض المسافر بنية الإقامة في هذه الحالة، فكذلك إن كان سلّم إحدى التسليمتين لأن انقطاع التحريمة يحصل بتسليمة واحدة والله أعلم.

متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر الحمار مضى على صلاته، فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة لأن سؤر الحمار مشكوك في طهوريته وشروعه في الصلاة قد صح فلا ينتقض بالشك فيُتم الصلاة ثم يتوضأ به ويعيد الصلاة احتياطاً لجواز أن يكون سؤر الحمار طاهراً. ولو وجد نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك عند محمد رحمه الله لأن عنده نبيذ التمر كسؤر الحمار وعند أبي يوسف رحمه الله: يتم صلاته ولا يعيد لأن النبيذ عنده ليس بطهور، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقطع صلاته لأن نبيذ التمر عنده بمنزلة الماء حال عدم الماء فتنتقض صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة.
وإن وجد سؤر الحمار والنبيذ جميعاً فعند أبي حنيفة رحمه الله تفسد صلاته فيتوضأ

(1/153)


بهما ثم يستقبل لأن سؤر الحمار إن كان طاهراً فالنبيذ معه ليس بطهور لأن التوضؤ بالنبيذ إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان عادماً الماء، فإذا كان السؤر طاهراً لا يكون عادماً للماء فلا يكون النبيذ طهوراً.
وإذا لم يكن السؤر طاهراً فالنبيذ طهور فقد وقع الشك في سؤر الحمار فلهذا يتوضأ بهما. وعند أبي يوسف رحمه الله يمضي (على) صلاته، فإذا فرغ توضأ بالسؤر خاصة وأعاد الصلاة وعند محمد رحمه الله يمضى على صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد الصلاة احتياطاً.
وإذا رأى المتيمم في صلاته سراباً فظن أنه ماء فمشى إليه ساعة فإذا هو سراب فعليه أن يستأنف الصلاة سواء جاوز مكان الصلاة أو لم يجاوز. وإن شك أنه ماء أو سراب واستوى الظنان فإنه يمضي على صلاته لأنه صح شروعه في الصلاة، وإن وقع الشك في الانصراف إن كان ماء فحل له الانصراف، وإن كان سراباً لا يحل له، والحرمة كانت ثابتة بيقين فلا يثبت الحل بالشك فيمضي على صلاته، فإذا فرغ من صلاته ذهب. إن كان ماءً توضأ واستقبل القبلة لأنه متيمم وجد الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته. وإن كان سراباً لا يلزمه الإعادة لأنه أتم الصلاة وهو عادم للماء فلا تفسد صلاته ولا يلزمه الإعادة.

قال: المسافر إذا مرّ في الفلاة بماء موضوع في حب أو نحوه لا ينتقض تيممه وليس له أن يتوضأ منه لأنه وضع للشرب لا للوضوء، والمباح في نوع لا يجوز استعماله في (نوع آخر) إلا أن يكون الماء كثيراً فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب والوضوء جميعاً فحينئذ يتوضأ ولا يتيمم.
وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله عن أستاذه عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر بن محمد بن الفضل رحمه الله أن الماء الموضوع للشرب يجوز منه التوضؤ، والموضوع للوضوء لا يباح منه الشرب.
قال: وإذا اقتدى المتوضىء بالمتيمم ثم رأى المقتدي ماء ولم ير إمامه فسدت صلاة المقتدي دون صلاة الإمام. وكذا إذا أمّ المتيمم المتوضئين فأبصر بعض القوم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون حتى فرغوا فسدت (صلاة) من أبصر خاصة، وهذا قول علمائنا الثلاثة. وقال زفر رحمه الله: لا تفسد صلاته، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وكذلك على هذا الاختلاف إذا أمَّ الرجل قوماً في صلاة الظهر ولم يصل الفجر ولا يعلم به الإمام وقد علم به القوم فصلاة القوم فاسدة استحساناً عند علمائنا الثلاثة، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله: لا تفسد.

وجه القياس وهو أن صلاة المقتدي لو فسدت إنما تفسد بأحد الأشياء الثلاثة، إما بالحدث العمد ولم يوجد وإما برؤية الماء، وذلك لا يضره لأنه متوضىء. وإما بفساد صلاة الإمام وصلاة الإمام صحيحة، فلا معنى لإفساد صلاته، فلا تفسيد صلاته وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن طهارة الإمام معتبرة في حق المقتدي بدليل أنه لو تبين أن الإمام محدث لم تجز صلاة المقتدي. وطهارة الإمام هنا بتيمم، فيجعل (22أ1) في حق من

(1/154)


أبصر الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته ولأنه اعتقد فساد صلاة الإمام، فإن عنده أن الإمام يصلي بالتيمم مع وجود الماء، والمقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته، كما لو اشتبهت القبلة على الإمام والقوم، فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى وهو عالم أن الإمام صلى إلى غير جهته فإنه لا يصح اقتداؤه به.
وكذلك في مسألة الترتيب، صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي لأن الترتيب من شرط الجواز، وأنه ثابت في حق المقتدي بعلمه أن على الإمام صلاة الفجر، وبعلم الإمام أنه ليس عليه شيء فكانت صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي، جائزة في حق الإمام فلا يصح اقتداؤه به كذا هذا.
وأجمعوا أن المتيمم إذا أمّ المتيممين ثم رأى بعض من خلفه الماء أو علم بمكانه ولم يعلم الإمام تفسد صلاة من علم بالماء لما ذكرنا أن المفسد للصلاة أحد الأشياء الثلاثة.
ومن جملة ذلك: رؤية الماء في حق المتيمم، وهذا متيمم فيكون رؤية الماء مفسد للصلاة في حقه لا في حق غيره، لأن صلاة الغير لا تتعلق بصلاته. قال: المتيمم إذا وجد الماء فلم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم، لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل تيممه وصار محدثاً بالحدث السابق فهذا محدث لا ماء معه، فعليه التيمم للصلاة.

قال: جماعة من المتيممين إذا رأوا في صلاتهم قدر ما يكفي لأحدهم إن كان الماء مباحاً فسدت صلاة الكل. وإن كان مملوكاً لرجل فقال: أبحت الماء لكل واحد منكم أو قال: من شاء فليتوضأ فسدت صلاتهم. وإن قال: أبحت لكم جميعاً لم تفسد صلاتهم.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : جماعة من المتيممين انتهوا إلى رجل في السفر معه من الماء ما يكفي لأحدهم فأباح لهم وقال: خذوه فليتوضأ به أيكم شاء، ينتقض تيممهم، لأن هذا الماء بالإباحة والتحق بالمباح الأصلي، وهناك ينتقض تيمم الكل لأن هذا الماء يمنعهم عن ابتداء التيمم لأنه يفيد القدرة على الطهارة لكل واحد منهم فيمنع البقاء فكذا ههنا.
فإن توضأ به أحدهم جاز وأعاد الباقون تيممهم. ولو كان قال: هذا الماء لكم فاقبضوه فقبضوه لم ينتقص تيممهم، لأنه ما أباح الماء لهم بل ملكه منهم فلا يصيب كل واحد منهم إلا شيئاً يسيراً، وذلك القدر لا يفيد القدرة على الطهارة فلا يبطل التيمم، ألا ترى أن ذلك القدر لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع بقاؤه، قال بعض مشايخنا: وهذا على قولهما لأن عندهما هبة المشاع فيما يحتمل من رجلين هبة جائزة تامة، فكان هذا تمليكاً منهم.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين أو جماعة غير جائزة فلا يكون هذا تمليكاً منهم بل يكون مجرد إباحة، فصار نظير الوجه الأول. وبعضهم قالوا: هذا قولهم جميعاً وهو الصحيح، وإنما كان كذلك لوجهين:

(1/155)


أحدهما: أن عند أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين فاسدة والهبة الفاسدة تفيد الملك عند اتصال القبض بها.
والثاني: إن لم يثبت التمليك لا تثبت الإباحة أيضاً لأن التنصيص على الإباحة لم يوجد ههنا لو ثبتت الإباحة، إنما تثبت في ضمن التمليك، فإن أبطل التمليك بطلت الإباحة الثانية في ضمنه ضرورة.

فإن أباح كل واحد منهم لأصحابه يبطل تيممهم، وكذلك لو أباحوا لواحد بعينه بطل تيممه. قال مشايخنا: وهذا على قولهما لأن هذه الهبة وقعت صحيحة عندهما فثبت الملك فيعمل إِذْنُ كل واحد وإباحته في حق أصحابه فينتقص تيممهم.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: إذنهم فيما بينهم لا يعمل قبل القبض لعدم الملك وبعد القبض لفساد الملك إذ الملك الفاسد لا يفيد إطلاق الاستمتاع لا بالملك ولا بغيره بإذنه فانعدمت القدرة على الماء.
قال: المتيمم إذا صلى بقوم متيممين ركعة فجاء رجل معه كوز من ماء يكفي أحدهم وقال: هو لفلان لرجل من القوم فسدت صلاة ذلك الرجل، ويمضي القوم على صلاتهم. فإذا فرغوا سألوه الماء، إن أعطى الإمام توضأ الإمام واستقبل الصلاة ويستقبل القوم معه، وإن منع الإمام والقوم فصلاة الكل تامة.
ولو أن الذي جاء بالكوز قال للمتيممين قبل الشروع في الصلاة: من شاء منكم فليتوضأ به انتقص تيممهم.
قوم من المتيممين شرعوا في الصلاة فجاء رجل بماء يكفي أحدهم وقال: من يريد منكم الماء؟ ينتقض تيممهم.
قوم من المتيممين منهم متيمم للجنابة ومنهم متيمم للحدث وإمامهم متوضىء فجاء رجل بكوز من الماء يكفي أحد المتيممين عن الحدث وقال: هذا الكوز من الماء لمن شاء منكم فسدت صلاة المتيممين عن الحدث ولم تفسد صلاة المتيممين عن الجنابة لوجود القدرة على الماء لكل واحد من الفريق الأول دون الثاني. ولو كان الإمام متيمماً عن الحدث فسدت صلاة الكل.
قال: رجلان يصليان أحدهما عرياناً والآخر متيمم، فجاء رجل وقال: معي ماء فتوضأ أيها المتيمم ومعي ثوب فخذه أيها العريان فسدت صلاتهما. كذا قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله.

قال: المصلي بالتيمم إذا قال له نصراني: خذ الماء فإنه يمضي على صلاته ولا يقطع لأنّ كلامه قد يكون على وجه الاستهزاء، وقد صح الشروع بيقين فلا يقطع بالشك. فإذا فرغ من الصلاة سأله، فإن أعطاه أعاد الصلاة، وما لا فلا.
ذكر أبو الحسن في «جامعه» في المصلي إذا وجد مع رفيقه ماءً كثيراً لا يدري يعطيه أم لا أنه يمضي على صلاته، فإذا فرغ سأله فإن أعطاه توضأ وأعاد، لأنه لما أعطاه للحال فالظاهر أنه كان يعطيه في ذلك الوقت لو طلب، فقد صلى بالتيمم مع القدرة على

(1/156)


استعمال الماء فيلزمه الإعادة، فإن أبى حين سأله فقد تمت صلاته لعدم القدرة، فإن أعطاه بعدما أبى لم ينتقض ما مضى من صلاته، لأن العجز استحكم بالإباء، فلا يظهر بطلان ما مضى ولزمه الوضوء لصلاة أخرى لارتفاع حكم الإباء في المستقبل بالإعطاء.
وعن محمد رحمه الله: إذا رأى في الصلاة مع غيره ماءً وفي غالب ظنه أنه يعطيه بطلت صلاته والله أعلم.
ومما يتصل بهذه المسائل
ما قاله محمد رحمه الله في «الزيادات» وصورته: مسافر يغتسل عن جنابة فبقي منه لمعة لم يصبها الماء وليس معه ماء فإنه يتيمم ويصلي لأن الجنابة حلت بجميع البدن. قال عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة» وإنها لا تتجزأ زوالاً كما لا تتجزأ ثبوتاً، فما لم يَطْهر جميع بدنه بالماء لا يخرج عن حكم الجنابة ولم يوجد، فبقي جنباً وهو عادم الماء، فيجب عليه التيمم حتى يصلي.
فإن تيمم للجنابة ثم أحدث حدثاً يوجب الوضوء وليس معه ماء فإنه يتيمم أيضاً للحدث ويصلي لأن تيممه للجنابة كان متقدماً على الحدث، والتيمم المتقدم لا يجوز عن الحدث المتأخر، ألا ترى أنه لو اغتسل عن الجنابة ثم أحدث كان عليه أن يتوضأ ولم يجز الاغتسال المتقدم عن الحدث المتأخر كذا ههنا.
فإن وجد ماءً قبل التيمم للحدث فهذا على وجوه خمسة:

الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع ابتداء تيممه للجنابة فيمنع البقاء، فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.

(1/157)


الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع ابتداء تيممه للجنابة فلا يمنع البقاء، ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه للوضوء، ويستعمل ذلك الماء في اللمعة (22ب1) تقليلاً للجنابة.
الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة وما يكفي للوضوء: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة فيغسل اللمعة ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه.
الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي غسل اللمعة، وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ويتوضأ للحدث لأن بالتيمم الأول طهر من الجنابة إلى أن يجد ماءً يكفيه لما بقي ولم يجد، فلا يبطل تيممه للجنابة، ولكن يتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.
الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكل واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما على الجمع: وفي هذا الوجه يصرف الماء إلى اللمعة ثم يتيمم للحدث، لأن الجنابة أغلظ الحدثين، ألا ترى أن الجنب ممنوع عن قراءة القرآن والمحدث غير ممنوع عنه، فعلم أن الجنابة أغلظ الحدثين، والصرف إلى أغلظ الحدثين عند التعارض أولى.
قال: فإن توضأ بهذا الماء جاز ويعيد التيمم للجنابة لأن الماء صار مستحق الصرف إلى اللمعة فقد وجد من الماء ما يكفيه لما بقي فانتقض تيممه للجنابة. والتيمم متى انتقض لا يعود بعد ذلك. فإذا صرف الماء إلى الوضوء بقي جنباً، وهو عادم الماء فيتيمم للصلاة. فلو أنه لم يتوضأ بهذا الماء ولكن بدأ بالتيمم للحدث ثم صرف إلى اللمعة هل يعيد التيمم للحدث؟

ذكر في «الزيادات» أنه يعيد، وعلى رواية «الأصل» لا يعيد قيل: ما ذكر في «الزيادات» قول محمد رحمه الله، وما ذكر في «الأصل» قول أبي يوسف رحمه الله، وجه قول محمد: أنه تيمم وفي يده من الماء ما يكفيه للوضوء فلا يجوز التيمم.
وجه قول أبي يوسف: أن الماء مستحق الصرف إلى اللمعة فالمستحق بجهة معدوم فيما عدا تلك الجهة، ألا ترى أن الماء المستحق بحاجة العطش جعل كالمعدوم في حق جواز التيمم كذا ههنا.
هذا الذي ذكرنا إذا وجد الماء قبل أن يتيمم للحدث، وأما إذا وجد الماء بعدما تيمم للحدث فهو على وجوه خمسة أيضاً:
الوجه الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة والحدث لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع التيمم لهما ابتداءً، فيمنع البقاء لهما أيضاً فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث.
الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ولا للحدث لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع التيمم لهما ابتداءً فلا يمنع البقاء أيضاً، ولكن يصرف الماء إلى اللمعة تقليلاً للجنابة.
الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة دون الوضوء: وفي هذا الوجه يبطل تيممه للجنابة فيصرف الماء إلى اللمعة ولا يبطل تيممه للحدث.
الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي اللمعة، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة ويبطل تيممه للحدث فيتوضأ به ويصلي.
وفي الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكلّ واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما جميعاً: وههنا يصرف الماء إلى اللمعة، وهل ينتقض تيممه للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله: ينتقض، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا ينتقض، لأن وجود الماء عند محمد يمنع ابتداء التيمم فيمنع البقاء، وعند أبي يوسف لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع البقاء.

قال: جنب اغتسل ونسي أن يبدأ بمواضع الوضوء يعني لم يغسل مواضع الوضوء

(1/158)


ونسي غسل ظهره أيضاً ثم أراق الماء، فإنه يتيمم لأنه جنب بعد، فإن تيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما إما لمواضع الوضوء وإما لغسل الظهر لا ينتقض تيممه، لأن وجود هذا القدر من الماء في الابتداء لا يمنع التيمم فلا ينقضه في الانتهاء، وكان له أن يصرف إلى أيهما شاء لأن الثابت فيهما نجاسة الجنابة فاستويا فكان له خيار الصرف، ولكن الأفضل أن يستعمله في مواضع الوضوء، فإنما كان هكذا لأنه ليس في الصرف إلى أحدهما إزالة الجنابة بل فيه تقليل الجنابة والسنة أن يبدأ بمواضع الوضوء فكان إلى ما فيه إقامة السنة أولى.
قال: جنب اغتسل وبقي من جسده ظهره لم يصبه الماء وليس معه ماء آخر فعليه أن يتيمم، فإن لم يتيمم حتى أحدث حدثاً يوجب الوضوء فعليه أن يتيمم تيمماً واحداً للجنابة والحدث جميعاً. وإنما كان هكذا لأن التيمم خلف عن الماء، ثم استعمال الماء مرة واحدة يكفي عن الحدثين، حتى إن الحائض إذا طهرت من حيضها وأجنبت يكفيها غسل واحد فكذا التيمم.
قيل: وينبغي له عند التيمم أن ينوي عن الحدثين لأن التيمم لا يكون طهارة إلا بالنيّة، فإذا لم ينو عنهما بقي التيمم في حق أحدهما بلا نيّة فلا يكون طهارة. وإن تيمم لهما ثم وجد من الماء ما يكفي لأحدهما إما لغسيل الظهر وإما لمواضع الوضوء صرفه إلى غسيل الظهر لما ذكرنا أن الجنابة أغلظ الحدثين ويعيد التيمم للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله.

استشهد محمد في «الكتاب» لإيضاح مذهبه بمسألة: ألا ترى أن الرجل إذا كان بثوبه أو جسده نجاسة أكثر من قدر الدرهم وأحدث ولم يجد ماءً وتيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما فإنه يصرفه إلى غسل النجاسة لأنها أغلظ من الحدث لأنه يتوهم أن يغمر البدن وليس للماء بدل في تطهيرها، والحدث لا يغمر البدن، وللماء بدل في رفعه فعلم أنها أغلظ فلهذا يصرف الماء إليها، ثم يعيد تيممه للحدث، مع أن هذا الماء استحق الصرف إلى النجاسة فكذا في مسألتنا.
قال مشايخنا: لا نحفظ لهذا رواية عن أبي يوسف رحمه الله والصحيح أن يقال: لا ينتقض تيممه فلا يلزمه إعادة التيمم عند أبي يوسف.
قال: جنب وجد من الماء قدر ما يكفي للوضوء دون الاغتسال فإنه يتيمم ولا يلزمه استعمال ذلك الماء عندنا لأن هذا القدر من الماء لا يفيد القدرة على الطهارة عن الجنابة فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فإن تيمم وتوضأ ثم أحدث فعليه أن يتيمم لأن الوضوء السابق لا يجزىء عن الحدث اللاحق، فإن تيمم ثم وجد ما يكفيه لأحدهما، إما لبقية جسده أو لمواضع وضوئه صَرَفَهُ إلى الجنابة لأنها أهم ويعيد التيمم للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله.
وفي «نوادر» ابن سماعة: مسافر أجنب فتيمم وشرع في الصلاة ثم أحدث وقد وجد من الماء ما يكفيه للوضوء يتوضأ ويبني على صلاته في قول محمد رحمه الله الآخر،

(1/159)


مروي ذلك عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً والله أعلم.
(نوع آخر)
..... إذا أحدث. وفي إمامة المتيمم للمتوضئين إذا افتتح الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وكذلك لو افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وإن وجد بعدما تيمم توضأ واستقبل الصلاة سواء وجد الماء بعدما عاد إلى مكانه أو قبل أن يعود إلى مكانه، هكذا ذكره الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» .

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله يقول: وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يتوضأ ويبني، قال: وهذا أقيس على مذهبه لأن اقتداء المتوضىء بالمتيمم يجوز عنده، فكذا بناء الوضوء على التيمم، فيحتمل أن يكون ما ذكر للحاكم في المختصر قول محمد.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن المتوضىء إذا سبقه الحدث فذهب وتيمم ثم وجد الماء بعد ما عاد إلى مكانه استقبل الصلاة، وإن وجد الماء قبل أن يعود إلى مكانه ففي القياس يتوضأ ويستقبل الصلاة وهو قول محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتوضأ ويبني على صلاته.
وفي «البقالي» مسافر أجنب وشرع في الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث فوجد ماءً قدر ما يكفي للوضوء فإنه يتوضأ ويبني قال: وهذا هو القول الآخر لمحمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
ويجوز للمتيمم أن يؤم المتوضىء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز، وهو قول علي رضي الله عنه.
حجته: أن التيمم طهارة ضرورية، وطهارة الماء أصلية فلا يجوز بناء الأصلي على الضروري، ألا ترى أن صاحب الجرح السائل لا يؤم الأصحاء لهذا، ومذهبهما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أن رسول الله عليه السلام بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه أميراً على سريّة فلما انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا: كان حسن السيرة (23أ1) ولكنه صلى بنا يوماً وهو جنب فسأله عن ذلك، فقال: احتلمت في ليلة باردة وخشيت الهلاك إن اغتسلت فتلوت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 29) فتيممت وصليت بهم، فضحك في وجهه وقال: «ما لك من فقه عمرو بن العاص» ولم يأمرهم بإعادة الصلاة لأن المتيمم صاحب بدل صحيح فيؤم المتوضئين كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين.

وبه فارق صاحب الجرح السائل فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، فإذا كان الإمام

(1/160)


متيمماً وخلفه متوضئون فأحدث واستخلف متوضىء ثم وجد الإمام الأول الماء فسدت صلاته لأنه متيمم رأى الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته، ولا تفسد صلاة القوم ولا صلاة الخليفة لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، وصار الإمام الأول مقتدياً بالخليفة كواحد من القوم. وفساد صلاة واحد من القوم لا يوجب فساد صلاة غيره، كما لو تقيأ متعمداً أو قهقه أو تكلم فسدت صلاته، ولا يوجب ذلك فساد صلاة غيره.
وإن كان الأول متوضئاً والخليفة متيمماً فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الإمام الأول والقوم جميعاً لأن الإمامة تحولت إلى الثاني وصار الإمام الأول مقتدياً بالثاني على ما ذكرنا وقد فسدت صلاة الإمام الثاني برؤية الماء، وفساد صلاة الإمام يوجب فساد صلاة القوم.
وهذا التفريع إنما يتأتى على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن عندهما اقتداء المتوضىء بالمتيمم جائز، فأما على مذهب محمد رحمه الله لا يتأتى هذا التفريع لأن من مذهبه أن اقتداء المتوضىء بالمتيمم لا يجوز والله أعلم.
(نوع آخر) من هذا الفصلفي المتفرقات
ويصلي الرجل بتيممه ما شاء من الصلوات من الفرائض والنوافل والفوائت ما لم يحدث، أو تزول العلة أو يجد الماء. قال الشافعي: يصلي بتيمم واحد فرضاً واحداً وما شاء من النوافل، وحاصل الخلاف يرجع إلى أن حكم التيمم عند عدم الماء مادي:

قال أصحابنا رحمهم الله: حكمه زوال الحدث مطلقاً من كل وجه إلى وقت الحدث كما في الماء، إلا أن في الماء الزوال يؤقت إلى غاية الحدث. وفي التيمم يؤقت إلى غاية الحدث أو وجود ماء أو زوال العلة. وعند الشافعي: حكمه رفع الحدث مقدراً بالحاجة إلى فرض الوقت كما في طهارة المستحاضة والصحيح مذهبنا لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» ، فإن وجد ولم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم لأنه لما وجد الماء بطل تيممه والباطل لا يعود. وقد مرت المسألة من قبل.
قال: إذا أجنب المسافر ووجد (من) الماء قدر ما يتوضأ به لا غير فإنه يتيمم ولا يتوضأ به عندنا، وقال الشافعي رحمه الله يتوضأ بذلك الماء ثم يتيمم، وقد مرت المسألة أيضاً، وكذلك على هذا الاختلاف: المحدث إذا كان معه من الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء يتيمم عندنا، وعند الشافعي يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم.

احتج الشافعي بظاهر قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) الله تعالى ذكره منكراً، والمنكر في موضع النفي يعم، فيتناول القليل والكثير، فما دام واجداً لشيء من الماء لا يكون له أن يتيمم، والفقه فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق إلا بعد استعمال الماء فيما يكفيه، فهو كمن أصابته مخمصة ومعه لقمة من الحلال لا يكون له أن

(1/161)


يتناول الميتة ما لم يتناول تلك اللقمة، والدليل أن من وجد سؤر حمار يلزمه استعماله فكذلك ههنا، بل هذا أولى؛ لأن سؤر الحمار طهور من وجه دون وجه، وهذا الماء طهور من كل وجه، فلما لزمه استعمال سؤر الحمار فهذا أولى، ولأن الطهارة شرط جواز الصلاة، وقد عجز عن استعمال البعض، والعجز عن استعمال البعض لا يسقط الكل قياساً على الطهارة عن النجاسة الحقيقية وقياساً على ستر العورة، فإنه لو وجد من الماء قدر ما يغسل بعض النجاسة أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة يلزمه ذلك حتى لو لم يفعل لا تجوز صلاته كذلك ههنا.
وعلماؤنا احتجوا بهذه الآية أيضاً، فالله تعالى شرط جواز التيمم عدم الماء الذي يطهر، ألا ترى أن الماء النجس لا يمنعه من التيمم وقد عدم ههنا الماء الذي يطهره، فيجوز له التيمم، ولأنه معطوف على ما سبق، فقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف عليه قوله: {فلم تجدوا ماء} (النساء: 43) فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضؤون به، ويغتسلون عند الجنابة، وهو غير واجد لذلك الماء، ولأنه إذا لم يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله إلا تضييعه، والماء من أعز الأشياء في السفر، فلا فائدة في استعماله كالمكفر بالصوم إذا وجد بعض الرقبة جاز له الصوم، وكذلك إذا وجد قبل الشروع في الصوم لا يلزمه الإعتاق، ويجوز له الصوم؛ لأن ذلك القدر من الرقبة لا يقع به التكفير، فكذلك ههنا، فتكون الآية حجة لنا من الوجه الذي بينا.

قوله: واجد للماء، قلنا: نعم، ولكن هذا القدر من الماء لا يكفي لإباحة الصلاة، وأما المخمصة، قلنا: لا يلزمه مراعاة الترتيب، فإن ما معه من الحلال إذا كان لا يكفيه لسد الرمق، فله أن يتناول معه الميتة.
وأما سؤر الحمار قلنا ذلك لأن ... الحدث.... فيمنع لهذا ... أما ههنا لا يزول الحدث بهذا القدر من الماء بيقين، فلم يكن هذا نظير ذلك.
قوله: الطاهر عن الحدث شرط من شرائط الجواز، فصار كالنجاسة الحقيقية وستر العورة، قلنا: من مشايخنا من سوى بينهما، وقال: إذا وجد من الماء قدر ما لا يزيل كل النجاسة بل يبقى على الثوب بعدما غسل مقدار ما يمنع من جواز الصلاة، فإنه لا تلزمه الإزالة، وكذلك في الثوب.
ولئن سلمنا فنقول: إن غسل بعض النجاسة الحقيقية مفيد؛ لأن بعض النجاسة يزول على الحقيقة، وكذا بعض الانكشاف يزول ببعض الستر، وهو مأمور بإزالة النجاسة والستر حقيقة وحكماً فإذا قدر عليها يفرض عليه ذلك، وإذا قدر على إزالته حقيقة دون الحكم، فما عجز عنه يسقط، وما قدر عليه لزمه، أما ههنا غسل بعض الأعضاء لا يفيد له إباحة الصلاة وهي مشروعة لإباحة الصلاة، فإذا لم تُفِدْ له الإباحة، فوجوده وعدمه

(1/162)


بمنزلة، وكذلك لو وجد الماء هذا المتيمم، فإن كان يكفيه لما خوطب به يبطل تيممه، وإن كان لا يكفيه لا يبطل تيممه اعتباراً للانتهاء بالابتداء.
فإن تيمم للجنابة وصلى ثم أحدث ومعه من الماء ما يتوضأ به توضأ به لصلاة أخرى، لأن التيمم الأول أخرجه من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء فيتوضأ به، فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بماء يكفيه للاغتسال، فلم يغتسل حتى صار عادماً للماء، ثم حضرت الصلاة ومعه من الماء مقدار ما يتوضأ به فإنه يتيمم، ولا يتوضأ به لأنه لما وجد من الماء قدر ما يغتسل عاد جنباً كما كان فصار بهذه الحالة والحالة الأولى على السواء، وفي الحالة الأولى يتيمم ولا يتوضأ كذا ههنا.

ولا يلزمه نزع الخف لأنه لا تيمم في الرجل، فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث، فإنه يتوضأ به، لأن بالتيمم السابق خرج من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال ولم يجد بعد ذلك ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه ما يتوضأ به فعليه أن يتوضأ وينزع خفيه، لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال بعد لبس الخف وجب نزع الخف، فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر بالماء قبل ذلك مسح على خفيه؛ لأن اللبس حصل على طهارة ما لم يجد ما يمكنه الاغتسال، فكان له أن يمسح.
وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض تيممه، وكذلك إذا أصاب ثوبه، لأن التيمم إنما ينتقض بأحد شيئين: أما برؤية الماء أو بالحدث، ولم يوجد واحد منهما، فلا ينتقض تيممه ولكن يمسح تلك النجاسة بخرقة أو خشبة أو تراب ثم يصلي؛ لأنه بالمسح تزول العين، إن كان لا يزول الأثر فهو قادر على إزالة البعض. ولو أمكنه (23ب1) إزالة الكل يؤمر به، فإذا أمكنه إزالة البعض، يؤمر به أيضاً وصار كالعاري إذا وجد من التراب ما يستر به عورته، فإن ترك المسح فإنه يضره لا ترك الأثر، فالأثر لا يكفي لمنع جواز الصلاة.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في مسلم تيمم ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم فهو على تيممه، وقال زفر رحمه الله: يبطل تيممه، وأجمعوا على أنه إذا توضأ ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم أنه يكون على وضوئه، فوجه قول زفر: أن الكفر يمنع ابتداء التيمم لكونه عبادة فيمنع البقاء، كالصوم والصلاة، وبه فارق الوضوء؛ لأن الكفر لا يمنع ابتداء الوضوء فلا يمنع البقاء قلنا: إن التيمم قد صح، وأفاد حكمه وهو الطهارة والحال حال بقاء الطهارة والكفر لا ينافي بقاء الطهارة فيبقى بعد الردة، ألا ترى أن لو توضأ ثم ارتد يبقى طاهراً، بخلاف الصوم والصلاة لأنهما حكمهما بعدالفراغ عنهما الثواب، والكفر ينافيه، والسبب لا يبقى بدون الحكم، فأما التيمم، فله حكمان الثواب والطهارة عن الحدث، والثواب إن بطل بالردة، فالطهارة عن الحدث لم تبطل لأن الكفر لا ينافيها فينتفي التيمم، لأن السبب يبقى ببقاء أحد الحكمين، ألا ترى أنه لو توضأ بنية الصلاة ثم ارتد يبطل الثواب وتبقى الطهارة كذا ههنا.

(1/163)


وإنما لا يصح ابتداء التيمم لأنه جعل طهوراً بشرط إرادة العبادة التي لا صحة لها إلا بالطهارة، وإرادة العبادة من الكافر لا تصح أما في حالة البقاء لا حاجة إلى الإرادة.
قال: ولو تيمم النصراني يريد به الإسلام، لا يصح تيممه، حتى لا يصلي بهذا التيمم لو أسلم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يصح تيممه، شرط في «الجامع الصغير» إرادة الإسلام على مذهب أبي يوسف رحمه الله لم يشترط إرادة الإسلام في كتاب الصلاة والصحيح ما ذكر في «الجامع الصغير» لأن بدون إرادة الإسلام حصل التيمم لا بنية القربة، والمسلم لو تيمم لا بنية القربة لا يصح تيممه بالإجماع فههنا أولى.

فوجه قول أبي يوسف أنه تيمم بنية قربة تصح منه فيصح أما بنية القربة؛ لأن الإسلام أصل القرب ورأس العبادات، وإما نية قربة تصح منه فظاهر بخلاف ما لو تيمم بنية الصلاة، لأن نية الصلاة منه لا تصح، غاية ما في الباب أنه لم ينو الصلاة، إلا أن نية الصلاة ليست بشرط لازم، ألا ترى أنه لو تيمم لمس المصحف أو لقراءة القرآن صح.
وجه قولهما: أنه يتيمم بنية قربة تصح بغير طهارة، لأن الإسلام صحيح بدون الطهارة، فلا يعتبر، كما لو تيمم بنية الصوم، أو بنية الزكاة، وبه فارق ما لو تيمم لمس المصحف، أو لقراءة القرآن.
والفقه في ذلك أن التيمم صار طهوراً بخلاف القياس شرعاً بنية قربة لا تتأدى بدون الطهارة. ولو توضأ في حال كفره ثم أسلم وصلى بذلك الوضوء يجوز عندنا خلافاً للشافعي بناء على أن نية الصلاة عنده شرط صحة الوضوء ونية الصلاة من الكافر لا تصح، وعندنا نية الصلاة ليست بشرط لصحة الوضوء، والمسألة معروفة.
وللمسافر أن يطأ جاريته، وإن علم أنه لا يجد الماء، وقال مالك: يكره ذلك، حجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: أما ابن عمر فلا يفعل ذلك وأما أنت فإذا وجدت الماء فاغتسل، والمعنى فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق في اكتساب سبب الجنابة حال عدم الماء، والصلاة مع الجنابة عظيم فلا ينبغي له أن يتعرض لذلك من غير ضرورة، ولنا قوله تعالى: {أو لامستم النساء} (النساء: 43) فلذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم التيمم للجنابة والحدث بصفة واحدة، فكما يجوز له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء، فكذلك اكتساب سبب الجنابة لأن في منع النفس بعد الشبق بعض الحرج، وما شرع التيمم إلا لرفع الحرج.

سُئل شيخ الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن رجل ضرب يده على الأرض للتيمم فرفعها، فقبل أن يمسح بهما وجهه وذراعه أحدث بصوت أو ريح أو نحو ذلك ثم مسح بهما، هل يجوز ذلك التيمم؟ قال: وقعت هذه المسألة أيام أستاذنا فقال القاضي الإمام المنتسب إلى إسبيجاب رحمه الله: يجوز التيمم بمنزلة من ملأ كفيه ماء فأحدث ثم استعمله في بعض أعضاء الوضوء، أليس أنه يصح ذلك؟ كذا ههنا، وقال السيد الإمام الأجل أبو شجاع رحمه الله: لا يجوز؛ لأن الضربة من التيمم، قال عليه السلام: «التيمم

(1/164)


ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» فقد أتى ببعض التيمم ثم أحدث فينتقض كما ينتقض الكل إذا حصل بعد الكل بمنزلة الوضوء إذا حصل الحدث في خلاله ببعض ما وجد كما إذا حصل بعد تمامه ينتقض الكل.
قال: ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض وميت ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، إن كان الماء لأحدهم فهو أحق وإن كان الماء لهم لا ينبغي لأحد أن يغتسل لأن للميت نصيب وإن كان الماء مباحاً فالجنب أحق به وتتيمم المرأة، لأن غسل الجنب فريضة ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة ولأن غسل الجنب بنص الكتاب، وغسل الميت ثبت بالسنة فيوسم الميت ويصلي الرجل وتقتدي به المرأة بالتيمم، وكذا لو كان مكانَ الحائض محدث يصرف إلى الجنب بالإجماع، لأن في كون التيمم شبيهاً بالجنابة خلاف، فإن عمر وابن مسعود لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى.
وإن بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعدما يمم وجهه ساعة ثم يمم ذراعيه أجزأه، وعند الشافعي لا يجوز في الترتيب بناء على مسألة الترتيب في الوضوء، وعند مالك لا يجوز في الموالاة بناء على مسألة الموالاة في الوضوء، وقد بيناهما في باب الوضوء فكذلك ههنا، والمعنى فيهما أن هذا ترك السنّة وترك السنّة لا يمنع الجواز.

قال: متيمم مر على الماء وهو نائم، ذكر في بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة رحمه الله أنه ينتقض تيممه، وقيل ينبغي أن لا ينتقض عند الكل، إنما الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فيما إذا تيمم وفي رحله ماء لا يعلم به.
رجل يرى التيمم إلى الرسغ أو الوتر ركعة واحدة ثم رأى التيمم إلى المرفق، والوتر ثلاثاً لا يعيد ما صلى وإن فعل ذلك من غير أن يسأل أحداً ثم سأل فأمر بثلاث يعيد ما صلى لأنه في الوجه الأول مجتهد وفي الوجه الثاني لا، يعني في الوتر.
قال: المسافر إذا وجد ماء قدر ما يغسل به كل عضو مرة واحدة لا يجوز له أن يتيمم إلا أن يخاف العطش على نفسه أو على دابته، ولو كان متيمماً فوجد ماءً قدر ما يكفي كل عضو مرة واحدة، فغسل بعض أعضائه ثلاثاً ثلاثاً فلم يبق الماء فإنه يعيد التيمم.
قال: وإذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن استخلف متوضئاً ثم تيمم وصلى خلفه أجزأه في قولهم جميعاً، فإن تيمم هذا الذي أحدث وأم الناس فأتم جازت صلاة الكل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى قول محمد وزفر رحمهما الله: صلاة المتوضىء فاسدة وصلاة المتيممين جائزة، وهذه المسألة دليل على أن في صلاة الجنازة يجوز البناء والاستخلاف، ويصح فيها اقتداء المتوضىء بالمتيمم كما في غيرها من الصلوات.
قال: المسافر إذا لم يجد الماء ووجد الثلج، إن كان ذلك في مكان البرد وزمانه جاز له التيمم لأن التوضؤ بالثلج لا يجوز، إلا أن يسيل الماء على أعضائه ويتقاطر منها،

(1/165)


وذلك لا يتصور في زمان الشتاء، فإذا عجز عن الوضوء جاز التيمم.
قال: مسافر أحدث ومعه ثوب نجس، فوجد ماء قدر ما يكفي للوضوء أو لغسل الثوب ولا يكفيهما فإنه يغسل الثوب به ويتيمم للحدث ويصلي وإن توضأ بالماء وصلى في الثوب النجس يجزئه وكان مسيئاً فيما فعل.

وإذا تيمم لصلاة الجنازة وصلى جاز له أن يصلي بذلك التيمم على جنازة أخرى قبل أن يقدر على الوضوء كما لو تيمم للمكتوبة جاز له أن يصلي بذلك التيمم مكتوبة أخرى.
قال: مسافر معه ماء طاهر وسؤر حمار، ولا يعرف أحدهما من الآخر قال محمد رحمه الله: يتوضأ بهما جميعاً ولا يتيمم.
قال: جنب تيمم للظهر وصلى ثم أحدث فحضرته العصر ومعه ماء يكفي للوضوء فإنه يتوضأ به لأن الجنابة زالت بالتيمم، فإذا أحدث بعد التيمم ومعه ما يكفي للوضوء يتوضأ فإن توضأ للعصر وصلى ثم مر بماء يتأتى منه الاغتسال، وعلم به ولم يغتسل حتى حضرت المغرب وقد أحدث أو لم يحدث (24أ1) ومعه ماء قدر ما يكفيه الوضوء فإنه يتيمم ولا يتوضأ به لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال عاد جنباً فهذا جنبٌ معه من الماء ما لا يكفي الاغتسال فيتيمم. ومن تيمم ثم شك أنه أحدث أو لم يحدث فهو على تيممه ما لم يستقين بالحدث، كما لو شك في الحدث بعدما لو توضأ.
قال: مسافر أجنب، فغسل وجهه وذراعيه، ولم يبق الماء فإنه يتيمم، فإن تيمم وشرع في الصلاة ثم قهقه ثم وجد ماءاً يكفي الاغتسال، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله، ويغسل ما بقي من جسده ما لم يكن غسله في المرة الأولى بلا خلاف، فالضحك في الصلاة ينقض طهارة الوضوء بالإجماع، وهل ينقض طهارة الاغتسال؟ فيه خلاف وقد مرت المسألة من قبل.