المحيط
البرهاني في الفقه النعماني الفصل الثالث عشر في
زكاة الديون
يجب أن تعلم أن من عليه الدين لا يخلو أن يكون مقراً بالدين، أو جاحداً له،
وإما أن يكون مليئاً، أو مفلساً.
فإن كان مليئاً، وكان مقراً بالدين، فلا يخلو إما إن وجب الدين بدلاً عما
هو مال التجارة كبدل الدراهم والدنانير وعروض التجارة، وما أشبهه، أو وجب
بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة، وما أشبهه، أو وجب
بدلاً عما ليس بمال كالمهر، والدية، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد، وما
أشبهه، فأوجب بدلاً عما هو مال التجارة. فحكمه عند أبي حنيفة: أن يكون
نصاباً قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه
أربعين درهماً، وما وجب بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة، فحكمه في
رواية عنه: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض، وعلى هذه الرواية اعتمد الكرخي
رحمه الله.
وفي رواية الأصل عنه: أنه يكون نصاباً قبل القبض، وعلى قوله الآخر لا يكون
(2/303)
نصاباً قبل القبض، وهو الصحيح، فقد فرق على
قوله الآخر بينما وجب بدلاً عما ليس بمال أصلاً، وبينما وجب بدلاً عما هو
مال.
وجه الفرق: أن المال إنما يعتبر نصاباً باعتبار معنى التجارة لدين ثابت من
وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك
المشترى بالدين من غير من عليه، فكان معنى التجارة بالدين إما من وجه دون
وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين
من غير من عليه، فإذا كان الدين بدلاً عما هو مال التجارة، فالمال في حقه
مال النصاب لا مال الثبوت، والثابت بعلة يبقى ما بقي شيء من تلك العلة،
فتبقى نصاباً في حقه، فتجب فيه الزكاة، إلا أنه لا يجب الأداء؛ لأن العين
أفضل من الدين، فإنه يملك التصرف في العين على الإطلاق.
فأما ما يجب بدلاً عما ليس بمال أصلاً، فالحال في حقه حال الثبوت للنصاب،
فاعتبار معنى التجارة من كل وجه، ومعنى التجارة للدين ثابت من وجه على أمر
لا يكون نصاباً قبل القبض، ولهذا قال أبو حنيفة في الدين الذي وجب بدلاً
عما هو عينه، إلا أنه ليس للتجارة، وفي رواية: أنه لا يكون نصاباً قبل
القبض؛ لأن أصله لم يكن نصاباً، ولم يكن للتجارة، وكان المال في حقه مال
ثبوت النصاب، فلا بد من اعتبار معنى التجارة من كل وجه.
وفي رواية «الأصل» : ما لا يكون نصاباً قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا
يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم.
وإنما شرطنا لوجوب الأداء في الدين الذي وجب بدلاً عما هو مال التجارة، أن
يكون المقبوض أربعين درهماً؛ لأن الدين إذا وجب بدلاً عما هو مال التجارة
يفيد صاحب الدين قبل القبض البيع كانت ثابتة على النصاب، وبالبيع زالت من
حيث الحقيقة، ولكن مع إمكان الإعادة بقبض البدل، واعتبار إمكان الإعادة
بجعل اليد الزائلة حقيقةً قائمةً حكماً، واعتبار إمكان ثبوت اليد حقيقة بعد
ذلك.... بما زائدة على اليد الثابتة من حيث الاعتبار، وأنه شرط وجوب
الأداء، فيصير تقدير المحل في هذه اليد الزائدة، لوجوب الأداء قدر الزيادة
على النصاب في حق أصل الوجوب، وملك الزيادة ما لم يكن أربعين.
وعلى قول أبي حنيفة: لا تجب الزكاة، هكذا ههنا ما لم تثبت هذه اليد الزائدة
على الأربعين لا يجب الأداء إلا إذا أوجب الدين بدلاً عما هو مال، إلا أنه
ليس للتجارة يفيد صاحب الدين قبل البيع لم يكن نائب على النصاب حقيقة، حتى
تصير بائعه بعد البيع اعتباراً وحكماً باعتبار إمكان الإعادة، وكان ثبوت
اليد حقيقة بعد ذلك ابتداء يد يشترط لوجوب الأداء لا يداً زائدة، فيصير
تقدير المحل في حق هذه اليد المبتدأة بتقدير أصل
(2/304)
مال يشترط لوجوب أصل الزكاة، ذلك مقرر
بالمائتين، فكذا ههنا ما لم تثبت هذه اليد ابتداءً على المائتين لا يجب
الأداء، وروي عن الحسن عن أبي حنيفة: أنه ينوي حينما وجب بدلاً عما هو مال
التجارة، وهنا وجب بدلاً عن مال ليس هو مال التجارة، وقال: إذا قبض منها
أربعين درهماً يجب عليه الأداء بقدر ما قبض.
هذا كله قول أبي حنيفة.
فأما على قولهما: فالديون كلها سواء، وهي نصاب تجب فيها الزكاة قبل القبض،
إذا حال عليها الحول، ولكن لا يجب الأداء قبل القبض، وإذا قبض شيئاً منه
يجب الأداء بقدر ما قبض، قلنا: ما كان أو كثراً، إلا الدية وبدل الكتابة
فإنهما ليسا بسبب حتى يقبض، ويحول الحول عليه.
ووجه ذلك: أن الديون كلها سواء في حكم المالية من حيث إن المطالبة بها
متوجهة، وتعتبر حالاً حقيقة بالقبض، فكانت سواء في حق حكم الزكاة، وهذا لأن
الغائب ليس إلا اليد، وتأثير انعدام اليد في امتناع أصل الوجوب، كما في ابن
السبيل بخلاف، ومن الكفاية لأن ذلك ليس دين على الحقيقة؛ لأن المكاتب عبد
والمولى لا يستوجب على عبده ديناً، ولهذا لا تصح به الكفالة، أما ههنا
بخلافه، وبخلاف الدية؛ لأنها صلة تجب لدفع الوحشة عن أولياء القتيل، وإطفاء
ثائرة القتل، ولهذا وجب على غير القاتل، فكانت من باب الصلة، والصلات لا
تتم قبل القبض.
وفي كتاب «الأجناس» : جعل مسألة المهر على وجهين، فقال: إن تزوجها على إبل
تعتبر أعيانها، ثم قبض خمساً من الإبل بعد الحول، فلا زكاة عليها في قولهم
ما لم يحل عليه الحول بعد القبض، وإن تزوجها على إبل بعينها، فكذلك عند أبي
حنيفة للزكاة حتى يحول عليها الحول بعد القبض، قال: وكذلك إذا كان المهر
مئتي درهم، فهو على هذا الخلاف، هذا كله لفظ كتاب «الأجناس» للناطفي رحمه
الله، وستأتي مسألة المهر في آخر هذا الفصل أيضاً.
وأما الدين الموروث، فالجواب فيه في حق الوارث عندهما كالجواب في حق المورث
على التفاصيل التي مرت؛ لأن الوارث خلفه الوارث قائم مقام المورث، فيكون
حكمه حكم المورث.
وأما عند أبي حنيفة: إن وجب الدين في حق المورث بدلاً عما ليس بمال، فإنه
لا يكون نصاباً في حق الوارث قبل القبض، وإن وجب الدين في حق المورث بدلاً
عما هو مال. ذكر أبو سليمان في «نوادر الزكاة» : أنه يعتبر حكم الوارث؛ لأن
الوارث قائم مقام المورث، فتجب الزكاة فيه قبل القبض، ولا يخاطب بالأداء
قبل القبض، وإذا قبض منه شيئاً إن وجب في حق (143أ1) المورث بدلاً عما هو
مال التجارة، فإذا قبض أربعين درهماً يؤدي زكاته، وإن وجب في حق المورث
بدلاً عن مال ليس هو للتجارة، فإذا قبض منه مائتي درهم تؤدى زكاته.
وذكر هشام في «نوادره» عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن
الوارث ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكت بعوض ليس هو مال لا تكون نصاباً
قبل القبض عند أبي حنيفة كالمهر، فهذا أولى.
(2/305)
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : عن
الحسن بن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف في سنة تسع وستين ومائة يحكي عن أبي
حنيفة أنه قال في الميراث: لا يزكى لما مضى، وهي التي رواها هشام عنه قال:
وإنه كان إلى عامنا في سنة سبع وستين ومائة أن أبا حنيفة قال في الميراث:
إذا أخذ مائتي درهم زكاه لما مضى، ولم ينتظر بها إلى أن يحول الحول بعد
القبض، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضاً.
وفي ظاهر الرواية لأبي حنيفة رحمه الله: الموروث قبل القبض يكون نصاباً تجب
فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم، هو أوجب هذا
الدين في حق المورث بدلاً عما هو مال التجارة، أو بدلاً عن مال ليس هو
للتجارة، أما إذا وجب عن مال ليس هو للتجارة فظاهر، وأما إذا وجب عن مال هو
للتجارة؛ لأن الوارث إنما يقوم مقام المورث في أصل الملك لا في التجارة؛
لأنها عمل قد انقضى من المورث، فلا يتصور قيام الوارث مقامه في ذلك، إنما
يقوم الوارث مقامه في الملك، فصار كثمن عبد الخدمة، وثياب المهنة، وأما
الدين الموصى به، فلا ذكر له عن أبي حنيفة في ظاهر الرواية.
وذكر أبو سليمان في «نوادر الزكاة» عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصاباً قبل
القبض، فيحتاج على روايته إلى الفرق بين الموصى له وبين المورث.
والفرق: أن الموصى له لا يقوم مقام الميت في الموصى به، كأنه هو، وإنما
يملكه ابتداء بالوصية، كما يملكه بالهبة وغيرها من أسباب الملك، فيصير فيه
مال الموصى له بنفسه لا مال المورث، والموصى له ملك هذا الدين بغير عوض،
ولو ملكه بعوض هو ليس بمال لا يكون له نصاباً قبل القبض، فههنا أولى، وأما
الوارث يقوم مقام المورث في الموروث كأنه هو، ألا ترى أنه يرد بالعيب، ويرد
عليه بالعيب، فجاز أن يعتبر حاله كحال المورث، وأما الآخرة ففي ظاهر رواية
أبي حنيفة هي نصاب قبل القبض، ولكن لا يلزمه الأداء ما لم يقبض منها مائتي
درهم، وروى بشر الوليد عنه: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض.
وروى عنه في «الأمالي» : أن العبد المستأجر إن كان للتجارة، فهو نصاب قبل
القبض، ويجب الأداء إذا قبض أربعين درهماً، وإن كان للخدمة لا يكون نصاباً
قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض مائتي درهم.
وجه رواية بشر: أن الآخرة تجب بدلاً عن المنافع، فأشبه المهر، ثم المهور لا
تكون نصاباً قبل القبض، فهذا كذلك.
وجه رواية «الأمالي» : أن المنافع تبع للرقبة، فإذا كانت الرقبة للتجارة
كانت المنافع للتجارة، فيكون بدلها بدل مال التجارة، وإذا لم تكن الرقبة
للتجارة بل كانت للمهنة كانت المنافع للمهنة أيضاً، فيكون بدلها بدل مال
المهنة، وجه ظاهر الرواية عنه: أن الآخرة ملكت عن مال لم يكن مال الزكاة
تشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة.
بيانه: أن الآخرة بدل عن منافع البدن، ومنافع البدن مال حتى لا يجب الحيوان
(2/306)
ديناً في الذمة بدلاً عنها، بخلاف منافع
البضع لكن لا تصلح نصاباً في نفسها؛ لأنها لا تبقى بسبب يشبه من هذا الوجه
ثمن عبد الخدمة، فأما المشترى قبل القبض، فقد قال مشايخ العراق: إنه لا
يكون نصاباً قبل القبض عندهم جميعاً.
وفي «المنتقى» : أنه لا يكون نصاباً قبل القبض من غير ذكر خلاف على ما يأتي
في آخر هذا الفصل.
وقال غيرهم من المشايخ: هو على الخلاف الذي ذكرنا في الثمن، وقال بعضهم: هو
نصاب قبل القبض بلا خلاف، قالوا: وإليه أشار في «الجامع الكبير» قال
مشايخنا: والاختلاف الذي ذكرنا في ثمن عبد الخدمة، وعروض التجارة، فهو كذلك
في زمان استهلاك العبد للخدمة؛ لأن ضمان الاستهلاك في حكم ضمان البيع،
ولهذا أخذ به المأذون.
وفي «نوادر المعلى» : أن ثمن عبد الخدمة نصاب قبل القبض، وقيمة عبد الخدمة
المستهلك لا يكون نصاباً قبل القبض، هذا الذي ذكرنا، إذا كان من عليه الدين
مليئاً مقراً بالدين، وإذا كان من عليه الدين مفلساً مقراً بالدين، فإن كان
القاضي قد فلسه بما عليه من الدين لا يكون نصاباً قبل القبض عند أبي يوسف،
ومحمد، وعند أبي حنيفة يكون نصاباً، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على
مسألة أخرى، أن الحكم بالإفلاس عندهما صحيح؛ لأن الإفلاس عندهما يتحقق في
حالة الحياة، فمتى فلسّه القاضي انسد طريق الوصول إليه على رب الدين، فصار
في معنى الناوي، فلا ينعقد نصاباً.
وعند أبي حنيفة: الحكم بالإفلاس غير صحيح؛ لأن الإفلاس عنده لا يتحقق في
حالة الحياة، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان القاضي لم يفلّسه، فعلى قول
أبي حنيفة، وأبي يوسف: ما يكون عليه من الدين يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن
طريق الوصول إلى الدين، وهو الملازمة والمطالبة؛ لأن المال غادٍ ورائح، فإن
هذا إذا كان من عليه الدين مقراً بالدين، فإن كان جاحداً، وليس لرب الدين
عليه بينة، فهو في معنى الناوي، وسنبينه مع أجناسه في الفصل الذي يلي هذا
الفصل إن شاء الله تعالى.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: رجل له على معسر ألف درهم دين اشترى
بالألف من المصر ديناراً، ثم وهب له الدينار وجب عليه زكاة الألف؛ لأن....
لها بالدنانير، ومعنى هذا الكلام: أن الدين يعتبر سبباً، وإن كان على
المعسر، إلا أن وجوب الأداء يتوقف على القبض، والقبض مرة قبض لا صورة
ومعنى، ومرة قبض بداء قبضاً اعتبارياً ما من حيث إنهما مشتركان في المالية
مع التقوم، فلهذا قال: تجب زكاة الألف.
وفيه أيضاً: رجل له مائتا درهم، فتزوج امرأة على حجة، ثم حال عليه الحول لم
تجب عليه زكاة مال؛ لأن الحجة عليه دين بحكم السبب، وأراد به الإحجاج، وذلك
بصرف مال يمكنها من أفعال هي حجة هذا بعضه معاوضة، فيكون لازماً، فيكون
ديناً
(2/307)
مطالباً من جهة العباد، فيمنع السببية،
فيمنع في المائتين.
هشام قال: قلت لمحمد رحمه الله: رجل له مال على وال من الولاة وهو يقر به،
إلا أنه لا يعطيه، ولا يورى عليه مال يطلبه بباب الخليفة، فإذا طلب لم يصل
إليه في سنة، فلا زكاة عليه فيه، وإذا هرب المديون ومن المدين إلى مصر من
الأمصار، فعليه الزكاة فيما يقبض منه؛ لأن عليه أن يطالبه، أو يوكل بذلك،
وهو قادر على ذلك حتى لو لم يقدر على طلبه، أو على التوكيل، فلا زكاة.
بشر عن أبي يوسف: رجل له على رجل ألف درهم دين حال عليه الحول، ثم إن رب
الدين وهب ذلك الدين من الذي عليه الدين ينوي زكاة الدين، أو زكاة مال عنده
هو، والذي عليه محتاج، فإن أبا حنيفة قال: لا يجزئه ذلك من زكاة الدين، ولا
من زكاة العين وعند أبي يوسف، وهذا الجواب خلاف ما ذكرنا في مسائل «الجامع»
، (143ب1) إلا أن يكون مراده أن ينوي به زكاة دين آخر.
هشام عن محمد: رجل له ألف درهم التقط لقطة ألف درهم، وعرفها سنة، ثم تصدق
بها، ففي القياس لا زكاة عليه في ألف؛ لأن صاحب اللقطة إن شاء ضمنها إياه،
ولكن يستحسن بأن يزكها قال: وبه نأخذ.
قال في «المنتقى» : وإذا اشترى الرجل غنماً سائمة، وهو يريد أن تكون سائمة
أيضاً، فحال عليه الحول، ثم قبضها، فلا زكاة على المشتري لما مضى، ويستقبل
لها حولاً؛ لأنها كانت مضمونة في يد البائع، ذكر المسألة من غير خلاف، وهي
مسألة المشتري قبل القبض، قال: وكذلك الغصب، وإن كان الغاصب مقراً، إذا كان
مانعاً بها، ثم رد ما بعد الحول، فلا زكاة على رب الغنم فيها لما مضى.
قال: وكذلك لو تزوج امرأة على مائة شاة، والمرأة تريد بها السائمة، فلم
تقبضها حتى حال الحول، فلا زكاة على المرأة فيها لما مضى؛ لأنها مضمونة في
يد الزوج ذكر المسألة من غير ذكر خلافه، ومن غير فصل بينما إذا كان الغنم
بعينها، أو بغير عينها، وقد ذكرنا المسألة قبل هذا مع التفصيل، والخلاف،
والدراهم إذا كانت في يدي رجل، وهو مقر بها، وفوضها من لها، فعلى صاحبها
إذا قبضها الزكاة لما مضى. قال: وليست الدراهم مثل الغنم.
وفي كتاب «الاختلاف» : رجل له ألف درهم، ثم مكث عنده شهراً، ثم أتلف لرجل
متاعاً قيمته ألف درهم، ثم أبرأه صاحب المتاع عن ضمانة، قال أبو يوسف: إذا
تم الحول على الألف منذ ملكها زكاها...... إلا أنه لا يشترط الحول من وقت
سقوط الدين، والله أعلم.
(2/308)
الفصل الرابع عشر في
المال الذي يتوى، ثم يقدر عليه
إذا كان لرجل على غيره دين، وهو جاحد، فإن لم يكن لرب الدين بينة عادلة على
الدين، فإنه لا يكون نصاباً عند علمائنا الثلاثة، وهذه المسألة في الفقه
تسمى مال الضمار، ومال الضمار كل مال بقي أصله في ملكه، ولكن زال عن يده
زوالاً يرجى عوده في الغالب، والأصل فيه أثر علي رضي الله عنه: لا زكاة في
مال الضمار، وفسر الضمار بما ذكرنا.
والمعنى في ذلك أن المال إنما ينعقد نصاباً باعتبار معنى التجارة، ومنفعة
التجارة تزول إذا صار المال ضماراً بخلاف ابن السبيل؛ لأن منفعة التجارة لا
تزول في حقه، وأما إذا كانت له بينة عادلة، ذكر في «الأصل» أنه ينعقد
نصاباً، وسوّى بين الإقرار والبينة، وذكر في «الجامع الصغير» أنه لا ينعقد
نصاباً.
والمذكور في «الجامع الصغير» : رجل له على آخر دين جحدها سنين، ثم أقام
البينة عليه لا يزكها لما مضى.
من مشايخنا من قال: ما ذكر في «الجامع الصغير» ، تأويله: إذا لم يكن صاحب
المال عالماً بأن كان له بينة عادلة، لأنه نسيها، ثم ينكر، أو يكون تأويله:
أنه لم يكن له بينة من الابتداء، ثم صار له بينة بأن أقر المديون بين يدي
الشهود بعدما جحدها، فأما إذا كان له بينة عادلة من الابتداء، وهو عالم
بها، فإنه ينعقد نصاباً، ولزمه زكاة ما مضى، كما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه
تمكن من أخذه بواسطة إقامة البينة، فإذا لم يقمها، فهو الذي قصر في حق
نفسه، فلا يعذر فيه، ومن مشايخنا من قال: لا ينعقد نصاباً على كل حال كما
ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله ما يؤيد
قول هؤلاء، فقال: لا زكاة عليه فيما مضى، وإن كانت له بينة عادلة، وهو يقدر
على أن يقضيها؛ لأنه لا يتمكن من أخذها إلا بعد القضاء بالبينة، ولا قضاء
بالبينة إلا بعد العدالة، ولا كل شاهد يعدل، ولا كل قاضي يعدل.
قال الكرخي في «كتابه» : وإن كان القاضي يعلم بالدين، فعليه زكاة ما مضى؛
لأن القاضي يقضي بعلمه لا محالة كان التمكين من الأخذ ثابتاً، ولا كذلك
البينة، والعبد الآبق الذي لا يعلم مكانه، والمغصوب، والغال، والمفقود،
والذي غلب العدو عليه، ثم أصابه المسلمون، والمال المدفون في الصحراء إذا
نسي المالك مكانه، فهذه الأموال لا تنعقد نصاباً عند علمائنا الثلاث لفوات
معنى التجارة فيها، لتعذر الوصول إلى جميع ذلك فيما مضى لا يصنع من جهته،
وإن كان المال مدفوناً في بيته وداره، ونسيه، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن
الوصول إليه غير متعذر؛ لأنه يمكن حفر جميع البيت والدار بخلاف ما إذا
(2/309)
دفنه في الصحراء؛ لأن حفر جميع الصحراء غير
ممكن.
وإن كان المال مدفوناً في أرضه لوكلائه، ففيه اختلاف المشايخ، هكذا ذكر بعض
المشايخ في شرح «الجامع الصغير» .
وذكر في «الأصل» : إذا دفن ماله في أرضه ونسيه، فلا زكاة قال القاضي الإمام
علاء الدين محمود: من مشايخنا من قال: أراد محمد بالأرض المذكورة في
«الأصل» المغارة لا الأرض المملوكة له؛ لأنه لا يمكنه حفر جميع المغارة،
فيتعذر الوصول، أما حفر جميع الأرض المملوكة، فلا يتعذر الوصول إليه، فيصير
بمنزلة الدار، ومن المشايخ من قال: لا زكاة في المدفون في الأرض، وإن كانت
الأرض مملوكة؛ لأن حفر جميعه إن كان لا يتعذر لا شك بأنه يتعسر، ويحرج
الإنسان فيه، والحرج مدفوع شرعاً بخلاف البيت والدار حتى لو كانت الدار
عظيمة، فالمدفون فيها يصير ضماراً، ولا ينعقد نصاباً.
وفي «القدوري» : إذا كان الغريم يقر في السر، ويحجد في العلانية، فلا زكاة
فيه؛ لأنه لا يقتنع بهذا الإقرار أصلاً، فصار وجوده وعدمه بمنزلة.g
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: رجل أودع رجلاً لا يعرفه مالاً، ثم أصابه
به بعد سنين، فلا زكاة عليه لما مضى، وهو والمدفون في المغارة لا يعرف
موضعه سواء، وإن كان يعرفه، فنسيه، ثم ذكر زكى لما مضى، وهو والمدفون في
بيته إذا نسيه سواء.
الفصل الخامس عشر في المسائل التي تتعلق
بالعاشر
يجب أن يعلم بأن العاشر من نصبه الإمام على الطريق؛ لأخذ الصدقات من التجار
والنائبين التجار بمتاعه في الطريق من شر اللصوص، وقد صح أن رسول الله عليه
السلام «نصب عشاراً» ، وكذلك الخلفاء بعده، وكما يأخذ العاشر صدقات الأموال
الظاهرة يأخذ صدقات الأموال الباطنة التي تكون مع التاجر؛ لأن حق الأخذ له
في الأموال الظاهرة إنما ثبت؛ لأنها في حمايته؛ لأن المال في الفيافي محفوظ
بحماية الإمام، فأثبت الشرع له حق الأخذ بسبب الحماية ليستوجبها كفاية،
فيصير حاملاً له على الحماية، وهذا المعنى موجودة في الأموال الباطنة التي
أخرجها التاجر مع نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأخذ الصدقات من
الأموال الظاهرة والباطنة، وكذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وعثمان رضي الله عنه فوض صدقات الأموال الباطنة إلى أربابها في الأمصار لا
يمكن وارداً الظاهرة في الفيافي على ما لا يعمل، والنص الوارد من عثمان في
الأمصار
(2/310)
لا يكون وارداً في الفيافي؛ لأن في الأمصار
الأموال محمية بحماية السلطان من وجه، وبحماية المسلمين من وجه، وفي
المغاور الأموال تكون محمية بحماية الإمام من كل وجه، فإسقاط حق الأخذ
للساعي في الأمصار، وحماية الإمام فيها أقل لا يدل على إسقاط حق الأخذ له
في المغارة، وحماية الإمام فيه أكثر.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا مر على العاشر بعض ماله، وقال: ليس لي
مال غير هذا، أو قال: لي مال آخر في بلدي إلى تمام النصاب، فالعاشر (لا
يأخذ) منه شيئاً (144أ1) ؛ لأن حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وجميع النصاب
ليس في حمايته، وما دونه الذي في حمايته ليس بسبب لوجوب الزكاة، وبدون
الحول لا تجب الزكاة، وكذلك مع قيام الدين، والقول قول المنكر، وقوله أصبته
منذ شهر محمول على ما إذا لم يكن في يده مال آخر من جنس هذا المال قد حال
عليه الحول؛ لأن حَوَلان الحول على المستفاد ليس بشرط لوجوب الزكاة في
المستفاد إذا كان المستفاد من جنس النصاب، إلا إذا كان المستفاد من ثمن
الإبل الزكاة عند أبي حنيفة.
وقوله في «الكتاب» : على دين أراد به ديناً له مطالب من جهة العباد، فهو
المانع من وجوب الزكاة عندنا، قال: وكذلك إذا قال: أنا أديت زكاته إلى
الفقراء، وحلف على ذلك صدق، والمراد من المسألة: أن يدعي الأداء بنفسه من
الأموال الباطنة قبل أن يخرجها إلى السفر؛ لأن أداء الزكاة من الأموال
الباطنة ما دام صاحبها في المصر، مفوض إلى صاحبها، فإذا ادعى الأداء بنفسه
قبل الإخراج، فقد ادعى ماله ذلك، فكان منكراً ثبوت حق الأخذ للساعي من هذا
الوجه، فأما إذا ادعى الأداء من الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر،
فإنه لا يصدق ويكون ضامناً عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن صدقات الأموال
الظاهرة وصدقات الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر يأخذها العاشر، فلو
قبلنا قول الناس.... بصنعاء، وكل أحد لا يعجز عن مثل هذه المقالة أي إلى أن
لا يوجد صدقة أبداً، إلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في «الأصل» :
ولأنه بالأداء بنفسه أبطل حق الأخذ على الساعي، فيصير ضامناً، وإن قال:
دفعتها إلى مصدق آخر، فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر، وحلف على ذلك قبل
قوله.
وفي «الأصل» يقول: إذا جاء بخط الساعي قبل قوله، وكف عنه، شرط في «الأصل»
بمجيء الخط للتصديق، وفي «الجامع الصغير» لم يشترط المجيء بالخط، وفرق على
رواته «الجامع الصغير» بين الزكاة، وبين الخراج، فإن من عليه الخراج إذا
ادعى الأداء إلى عامل آخر في تلك السنة لا يقبل قوله؛ ما لم يأت بخط
العامل؛ لأن بدل الخط في الخراج علامة لا ينفك عنها أداء الخراج، وبكذلك
يدل الخط في الزكاة، ولو جاء بالخط، ولم يحلف لم يصدق في قياس قول أبي
حنيفة، وفي قياس قولهما يصدق بناءً على جواز الشهادة بالخط إذا لم يذكر
الحادثة.
(2/311)
وكل جواب عرفته في حق المسلم، فهو الجواب
في حق الذمي في هذه الفصول، إذا مر على العاشر ببعض النصاب إذا ادعى أن
عليه ديناً، أو لم يحل الحول على ماله، أو ادعى الدفع إلى عاشر آخر، وإنما
يفارق الذمي المسلم في مقدار المأخوذ، فإن المأخوذ من المسلم ربع العشر،
ومن الذمي نصف العشر عرف ذلك بأثر عمر رضي الله عنه، فإنه كتب إلى عشاره أن
خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، وأما الحربي إذا مر على
العاشر ببعض النصاب، وقال: لي مال في بلدي إلى تمام النصاب، أو قال: ليس لي
مال آخر، فذكر في «الجامع الصغير» أنه لا يأخذ منه شيئاً، وذكر في «الأصل»
أنه يأخذ منه العشر، قال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل.
إن كانوا يأخذون منا من قليل، فنحن نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل
ما ذكر في «الأصل» ، وإن كانوا لا يأخذون منا من قليل المال، فنحن لا نأخذ
منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في «الجامع الصغير» .
وهذا لأن الأخذ منهم على طريق المجازاة، ألا ترى إلى ما روي أن عشار عمر
رضي الله عنه «قالوا: لعمر كم نأخذ مما يمر بنا الحربي؟ فقال عمر: كم
يأخذون منا؟ قالوا: العشر، فقال عمر فخذوا: منهم العشر، وفي رواية قال:
خذوا منهم مثل ما يأخذون منا، قالوا: فإن لم يعلم كم يأخذون منا؟ قال: خذوا
منهم العشر» .
ثم ليس معنى قولنا: إن الأخذ منهم على طريق المجازاة، إن أخذنا بمقابلة
أخذتم، وكي يكون ذلك، وإن أخذتم أموالنا ظلم وأخذنا أموالهم حق، وإنما
معناه، إذا عاملناهم بمثل ما يعاملوننا به كان ذلك أقرب إلى مقصود الأمان،
واتصال التجارات، وإن كان لا يعلم أنهم هل يأخذون منا من قليل المال أو لا
يأخذون؟ فنحن لا نأخذ منهم من قليل المال، إما لأن الظاهر أنهم لا يأخذون
من قليل المال؛ لأنه يؤدي إلى إخراج المالك، وإنه جور، والظاهر من ملوكهم
العدل، أو لأن حق الأخذ للعاشر بطريق الحماية، والمال القليل غير محتاج إلى
الحماية؛ لأن السراق لا يقصدون أخذه، وإن قال الحربي: أصبته منذ شهر، أو
قال: عليّ دين، فإن كان يعلم أنهم يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن نصدقهم
أيضاً، وإن كان يعلم أنهم لا يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن لا نصدقهم
أيضاً، وإن كان لا يعلم حقيقة الحال لا يصدقهم، ويأخذ منهم العشر بخلاف
الذمي، فإن الذمي يصدق في دعوى هذه العوارض، واختلفت عبارة المشايخ في
الفرق.
فعبارة بعضهم أن المأخوذ من الذمي له حكم الزكاة في حق المأخوذ منه؛ لأن
تضعيف الزكاة في حق أصل الذمة مشروع كما في صدقة بني تغلب، فلا يتعداه حكم
الزكاة فيما وراء التضعيف، وإذا كان للمأخوذ حكم الزكاة في حق الذمي راعى
فيه أحكام الزكاة، بل له حكم أصلاً؛ لأن الزكاة في حق أهل الحرب غير متصور،
فلا يتعلق بالمأخوذ حكم الزكاة عوض الحماية، وكل ما في يده محتاج إلى
الحماية سواء كان عليه
(2/312)
دين، أو لم يكن، وسواء حال عليه الحول، أو
لم يحل، فيأخذ منهم العشر، ولا يصدقون في ذلك، إذ لا فائدة في التصديق،
وعبارة بعضهم: أن ما يأخذ أهل الحرب يأخذ بطريق المجازاة، أو فيما كان
طريقه طريق الخبر، فالظاهر أنهم لا يصدقوننا؛ لأنه ظهر فيهم تكذيبنا في
الخبر عن أصل الدين، فالظاهر تكذيبهم إيانا في الخبر عن الفروع، فلا
نصدقهم.
فيه أيضاً: قال: ولو مر الحربي على العاشر بنصاب كامل أخذ منه العشر، لما
روينا من حديث عمر رضي الله، عنه إلا إذا علم أنهم يأخذون منا أقل من ذلك
أو أكثر، فيأخذ منهم مثل ذلك، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وهو إشارة إلى
طريق المجازاة، وإن علم أنهم لا يأخذون من تجارنا شيئاً، فنحن لا نأخذ منهم
شيئاً أيضاً.
واختلف المشايخ فيما إذا علم أنهم يأخذون منا جميع المال قال بعضهم: نأخذ
منهم جميع المال بطريق المجازاة زجراً لهم عن صنيعهم، وقال بعضهم: لا نأخذ
منهم جميع المال، بل نترك في أيديهم قدر ما يبلغهم مأمنهم؛ لأنا لو أخذنا
الكل نحتاج إلى من يعطيهم هذا القدر؛ لأن تبليغهم مأمنهم علينا قال الله
تعالى: {ثم أبلغه مأمنه} (التوبة: 6) ، فلا نأخذ ذلك من الابتداء لعدم
الفائدة، وإذا مر الحربي على العاشر وعشره، ثم مر عليه في تلك السنة
ثانياً، فإن كان لم يعد إلى دار الحرب، وإنما هو يتردد في دار الإسلام لا
نأخذ منه في هذه السنة ثانياً؛ لأن أخذ العاشر عوض الحماية، والحماية لم
تتجدد في هذا المال.
قال شيخ الإسلام في «شرحه» : هنا إذا علم أنهم لا يأخذون من تجارنا في
السنة إلا مرة واحدة ما داموا يترددون في دارهم، أو لم يعلم، أما إذا علم
أنهم يأخذون ذلك مراراً، فنحن نأخذ كذلك أيضاً، وإن كان الحربي قد عاد إلى
دار الحرب ثم خرج ثانياً في تلك السنة (144ب1) ومر على العاشر أخذ منه
العشر ثانياً؛ لأن بدخوله دار الحرب التحق بحربي لم يدخل دارنا قط الأحرى
إنه يحتاج إلى استئمان جديد، وإذا كان هكذا يحتاج إلى حماية مبتدأة في هذا
المال، ونزل هذا المال باعتبار تجدد وصف الحماية منزلة مال آخر، في عشره
ثانياً.
قال شيخ الإسلام: وهذا إذا علم أنهم يأخذون من تجارنا كلما دخلوا عليهم مرة
بعد أخرى في سنة واحدة، أما إذا علم أنهم لا يأخذون، كذلك فنحن لا نأخذ
منهم أيضاً.
وإذا عاد الحربي إلى دار الحرب، ولم يعلم به العاشر، ثم علم في الحول
الثاني لم يأخذه لما مضى؛ لأن ما مضى قد سقط لانقطاع الولاية، فأما المسلم
والذمي، إذا مر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما
مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد.
وإذ مر التاجر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما
مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد إلى متاع وأمراء قومي
(2/313)
أو.......، والعاشر يظن غير ذلك، ويريد
فتحه؛ فإن كان في فتحه ضرر على المالك يفتحه، وينظر فيه، ولا يلتفت إلى قول
المالك؛ لأن في الوجه لا يمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى من حيث المعاينة
بالفتح لمكان ضرر المالك، فتصير فيه الدعوى والإنكار، فالعاشر يدعي لنفسه
زيادة حق، والمالك ينكر، وفي الوجه الثاني؛ أمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى
بالمعاينة بواسطة الفتح، فلا ضرورة إلى اعتبار قوله.
وإذا مر على العاشر بمائتي درهم بضاعة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئاً؛ لأن
العشر إنما يؤخذ من المالك، أو ممن هو نائب عنه في أدائه، والمستصنع ليس
بمالك، وليس بنائب عن المالك في أداء العشر، فلا يأخذ من المالك منه، وإن
سِيْرَ عليه بمائتي درهم مضاربة، فلأبي حنيفة رحمه الله فيه قول أول وآخر،
في قوله الأول يأخذ منه، وفي قوله الآخر؛ لا يأخذ، وهو قول أبي يوسف،
ومحمد؛ لأنه ليس بمالك، ولا بنائب عن المالك في حق أداء الزكاة؛ لأن المالك
أمره بالتجارة، أما ما أمره بأداء الزكاة.
وإذا مر العبد على العاشر بمال فهو على وجهين: إن كان في يده مال المولى،
فإن العاشر لا يأخذ منه شيئاً مأذوناً كان العبد أو محجوراً، وإن كان في
يده كسبه، فإن كان محجوراً، فكذلك الجواب، وإن كان مأذوناً فلأبي حنيفة فيه
قول أول، وقول آخر، في قوله الأول: لا يأخذ منه شيئاً، وهو المذكور في
«الجامع الصغير» ، وفي قوله الآخر يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، وجهه ما
ذكرنا في المضارب.
إذا مر التاجر على عاشر أهل الخوارج، وأخذ منه العشر، ثم مر على عاشر أهل
العدل أخذ منه العشر ثانياً، فرق بين هذا وبين ما إذا غلب الخوارج على بلدة
من بلاد أهل العدل وأخذوا زكاة سوائمه، ثم ظهر عليهم أهل العدل، فإنه لا
يأخذ منهم الزكاة ثانياً.
والفرق: إن قدر الزكاة حق الفقراء أمانة في يد صاحب المال، فإذا مر على
الخوارج بذلك، فقد عرض الأمانة على التلف، والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع،
بخلاف ما إذا غلب الخوارج على أهل العدل؛ لأن هناك لم يوجد في أرباب
المواشي تعريض للأمانة على التلف والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، إنما أخذ
الأمانة منهم كرهاً، والأمين لا يضمن بمثل ذلك كالمودع إذا أخذ منه الوديعة
على كره منه.
إذا مر على العاشر بما لا يبقى نحو البطيخ والقثاء والرمان، وقد اشتراه
للتجارة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئاً عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لها،
فهما يقولان: حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وهذا المال كان في حماية هذا
العاشر، ولأبي حنيفة: أن حق الأخذ للعاشر، وإن كان بسبب الحماية، ولكن أنظر
الفقراء، ولا ينظر للفقراء في الأخذ ههنا.
بيانه: أن الغالب فيه يكون العاشر نائباً عن البلدة، فلا يجد ثمنه فقيراً
يؤدي المأخوذ إليه، فيحتاج إلى النقل إلى البلد ليصرفه إلى الفقراء،
فيتنازع إليه الفساد.
(2/314)
فإن قيل: ينبغي أن يأخذ القيمة إذا أخذ
الغير كما في الذي إذا مر على العاشر بخمر، أو يأخذ عينه بحساب عمالته.
قلنا: الكلام فيما إذا قال المالك فهنا: لا أؤدي القيمة، وبدون اختيار
المالك لا يكون للساعي ولاية أخذ القيمة إذا كان الغير محلاً للأخذ، فلو
قال المالك: أنا أؤدي القيمة كان للساعي أن يأخذ عند أبي حنيفة.
وأما الأخذ بحساب العملة، قلنا: الكلام فيما إذا لم يرد الساعي أخذه بعمالة
لنفسه، ولو أراد ذلك كان له حق الأخذ عند أبي حنيفة، وإذا مر الذمي على
العاشر بخمر أو خنزير للتجارة عشر الخمر دون الخنزير عند علمائنا الثلاثة
رحمهم الله، ومعنى قولهم: عشر الخمر أنه ينظر إلى قيمة الخمر، ويأخذ نصف
عشر قيمتها، وطريق معرفة قيمة الخمر الرجوع إلى أهل الذمة، هكذا روي عن
محمد رحمه الله.
والوجه فيه: أن العشر عوض الحماية، وحماية خمورهم دخلت تحت ولاية الإمام
أما حماية خنازيرهم لم تدخل تحت حماية الإمام، وهذا لأن أصل ولاية الإنسان
على نفسه، ثم تتعدى إلى غيره عند وجود سبب التعدي، والمسألة ولاية حماية
خمور نفسه حتى إذا أسلم ذمي، وله خمور كان له أن يحفظها لتخليلها، أو يتخلل
بنفسه، فتكون ولاية خمور غيره عند وجود سبب التعدي بالسلطنة، وليس للمسلم
ولاية حماية خنازير نفسه، حتى إن الذمي إذا أسلم، وله خنازير، يجب عليه أن
يسيبها، ولا يحل له أن يحفظها، فلا تكون له ولاية حفظ خنازير غيره عند وجود
سبب التعدي، وإنما افترق الخمر والخنزير في حق ولاية الحماية في حق المسلم؛
لأن الخمر مال في الحال عندنا إن لم يكن متقوماً، ويصير متقوماً في الثاني.
والخنزير ليس بمال، ولا يصير متقوماً في الثاني، ولم يذكر محمد رحمه الله
حكم جلود الميتة إذا مر بها الذمي على العاشر قالوا: وينبغي أن يكون للعاشر
أن يعشرها؛ لأن جلد الميتة نظير الخمر، فإن للمسلم ولاية حفظ جلد الميتة
على نفسه بالدباغة، فيدخل جلد غيره تحت حمايته عند وجود التعدي كما في
الخمر، والله أعلم.
الفصل السادس عشر في إيجاب الصدقة، وما يتصل به
من الهدي وأشباهه
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا نذر أن يتصدق بشاتين وسطين، فتصدق
بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين تجزئه عن الشاتين.
ولو قال: لله عليّ أن أهدي شاتين وسطين، فأهدى بشاة سمينة تساوي شاتين
وسطين لم تجزه إلا عن شاة واحدة، هكذا ذكر في «الجامع» قالوا: هذا إذا أراد
به الذبح أو لم يكن له نية؛ لأنه إذا أراد الذبح، أو لم يكن له نية كان
النذر بالإراقة، والجواب في النذر بالإراقة ما ذكر، فأما إذا أراد الصدقة،
فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين، ينبغي أن تجزئه عن الشاتين بدليل
المسألة الأولى.
(2/315)
والجواب في النذر بالإعتاق نظير الجواب في
النذر بالإراقة، حتى لو نذر أن يعتق عبدين وسطين، فأعتق عبداً مرتفعاً
يساوي عبدين وسطين لا يجزئه إلا عن عبد واحد، والفرق أنا لو جوزنا الواحد
عن الاثنين، إنما يجوز باعتبار القيمة، غير أن الواجب في معنى الهدي إراقة
الدم، وتمليك اللحم، والتمليك إن كان متقوماً، فإراقة الدم ليست بمتقومة،
فباعتبار التمليك قد أمكن التجويز (145أ1) من حيث القيمة، وباعتبار الإراقة
لا يمكن، فلا يثبت الإمكان بالشك حتى لو ذبح شاتين، وجاء بلحم شاة، فظنه
يبلغ شاتين، وتصدق به يجوز؛ لأن الواجب بعد الإراقة تمليك اللحم، والتمليك
متقوم، فيمكن تجويزه من حيث القيمة.
وكذلك الواجب في باب الإعتاق ليس بمتقوم؛ لأن الواجب في باب الإعتاق إزالة
الملك، وإزالة الملك ليست بمتقوم، فلا يمكن تجويزه من حيث القيمة، أما
الواجب في باب الصدقة متقوم؛ لأن الواجب في باب الصدقة التمليك، والتمليك
متقوم فيمكن تجويزه بالقيمة، فعلى هذا إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بعبدين
وسطين، فتصدق بعبد مرتفع تبلغ قيمته قيمة وسطين يجوز.
في «المنتقى» : عيسى بن أبان عن محمد إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا
الدرهم، فضاع الدرهم، فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدينار مكان الدرهم
الذي ضاع وجب عليه أن يتصدق بالدينار، فإن وجد الدرهم، وتصدق به يبطل عنه
الدينار، إذا وجب الدينار مكان الدرهم الذي ضاع.
علل في «الكتاب» : فقال: لأن الدرهم حيث ضاع، فقد بطل عنه ما أوجب على نفسه
فيه، وإن وجده تصدق به، ولو لم يكن عليه أن يتصدق بفضل الدينار عليه قال:
ولا يشبه هذا الأضحية، فإن الأضحية، إذا ضاعت كان عليه مكانها، إذا كان
موسراً.
وفيه: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال: إن أصبت مائة درهم فعهد عليّ أن أؤدي
زكاتها خمسة دراهم فأصاب مائة فلا شيء عليه؛ لأنه التزام غير المشروع.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال: إن رزقني الله تعالى مائة درهم
فللَّه عليّ زكاتها عشرة، وملك مائتين لا تلزمه إلا الخمسة زكاة؛ لأنه
التزام غير المشروع.
وفي «فتاوى» أبي الليث رحمه الله إذا قال: لله عليّ أن أتصدق على فقراء مكة
بكذا، أو قال: مالي صدقة على فقراء مكة، فتصدق على فقراء بلخ جاز؛ لأن
المطلوب من الصدقة ابتغاء مرضات الله تعالى، والفقير جهة يتوسل به إلى
ابتغاء مرضات الله تعالى، وجميع الفقراء في حق هذا المعنى جنس واحد، وهو
نظير من جعل على نفسه الصوم، أو الصلاة بمكة، فصلى وصام ههنا يجوز، وطريقه
ما قلنا.
وفي «المنتقى» : إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم على هذا المسكين،
لا يلزمه شيء رواه الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف، إذ ليس لله تعالى من
جنسه في العين إيجاب، وإن كان المسكين يعتبر عينه يلزمه ذلك، وهذا الجواب
بخلاف جواب الروايات المشهورة.
(2/316)
وفيه أيضاً: برواية المعلى عن أبي يوسف: إذ
قال: لله عليّ أن أتصدق من هذه العشرين بعشرة دراهم، فتصدق بعشرة منها، ولا
نية له لم يجزه فيما حصل على نفسه، ولو تصدق بالعشرين كلها، ولا نية له
أجزأه.
وفي «القدوري» : إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم يوم يقدم فلان،
ثم قال: إن كلمت فلاناً، فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلاناً، وقدم
فلان أجزأه أن يتصدق بتلك الدارهم، ولا يلزمه غير ذلك؛ لأن الواجب تعلق
بمحل بعينه، وذلك مما لا يزداد، وهذا كالعين إذا جعل شرطاً في يمينين ووجد
الشرطان لم يجب شيء آخر كذا ههنا.
وفيه أيضاً: إذا قال: إن كلمت فلاناً، فعليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم
فلاناً حتى وجب التصدق بها، فأعطاها من زكاة ماله، أو كفارة يمينه، فعليه
أخرى مكانها؛ لأنه بالصرف إلى جهة أخرى صار كالمستهلك لها، فيضمن كما لو
أنفقها بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النذر أن يعلقها بمحل واحد، فوقع عنهما
أما ههنا بخلافه.
قال في «الجامع» : إذا قال الرجل: إن كان ما في يدي دراهم إلا ثلاثة دراهم،
فجميع ما في يدي صدقة، فإذا هي خمسة دراهم، أو أربعة دراهم لا يلزمه التصدق
بشيء. وفي «الجامع» أيضاً: إذا قالت: لله عليّ إطعام المساكين، أو إطعام
مساكين، فإن أبا حنيفة قال: هذا على غيره في الوجهين جميعاً، وهذا استحسان.
ووجهه: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ولعل الطعام المقدر
بالمساكين في إيجاب الله تعالى طعام عشرة مساكين كما في كفارة اليمين، فإن
أبهم عدد المساكين أخذ المقدار منه.
فإن قيل: كيف لم يأخذ أبو حنيفة رحمه الله المقدار عند الإبهام من كفارة
الحلف في الأذى وإنه أقل؛ لأنه مقدر بثلاثة أصوع على ستة مساكين؟.
قلنا: لأن الواجب في كفارة الحلف واجب باسم الصدقة لا باسم الإطعام؛ لأن
الله تعالى قال: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو
صدقة أو نسك} (البقرة: 196) وهذا الشخص إنما أوجب على نفسه باسم الإطعام لا
باسم الصدقة حتى لو قال: لله عليّ صدقة المساكين يؤخذ قدره من كفارة الحلف.
وفي «نية النوازل» : رجل في يده دراهم فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذه
الدراهم، فلم يتصدق حتى هلكت، فلا شيء عليه؛ لأن الدراهم تتعين في باب
النذور، ولو لم تهلك وتصدق بدراهم سواها، فهو جائز، وهي مسألة دفع القيم.
وفي «وقف النوازل» : رجل له شيء فقال: إن وجدته فللَّه على أن أقف أرضي هذه
على ابن السبيل، فوجده يجب عليه الإيقاف، فإن وقف على الأجانب، أو على
الأقارب الذين يجوز له إعطاء الزكاة إياهم جاز، وخرج عن عهدة النذر، وإن
وقف على الأقارب الذين لا يجوز له إعطاء الزكاة جاز الوقف، ولكن لا يخرج عن
عهدة النذر، أما جواز
(2/317)
الوقف، فظاهر، وأما بقاء النذر؛ فلأن صرف
الصدقة الواجبة إلى هذه القرابة لما لم يجز لم يصر مؤدياً المنذور، فيبقى
عليه كما كان.
وفي «الجامع» : إذا قال: أول كُرَ حنطة أملكه صدقة في المساكين، فملك كر
ونصف كر لا يلزمه التصدق بشيء، وإن قال: أول عبد أملكه فهو حر، فاشترى
عبداً ونصف عبد عتق العبد الكامل.
والفرق: أن الكُرَّ اسم لأربعين قفيزاً، فصار تقدير يمينه أول أربعين قفيز
حنطة أملكها، فهو صدقة، ولو صح بذلك، وملك ستين قفيزاً لا يلزمه التصدق؛
لأن الكر اسم لأربعين قفيزاً، ووفيناه ثلاث عشرينات أي العشرين ضمناه إلى
عشرين آخر، فنطلق عليه اسم الكر، وبسبب اسم الكر عن الآخر فاق المزاحمة،
ومن شرط إطلاق اسم إلا وليست بينهما المزاحمة، فإذا لم تنتف المزاحمة لم
يتحقق الشرط، فلا يلزمه التصدق بخلاف مسألة العبد، فأما إذا ضممنا النصف من
العبد الكامل إلى نصف العبد لا يسمى عبداً، بل يسمى نصف العبدين ولا ينتفي
اسم العبد عن الكامل، فلم يكن نصف العبد من أيهما للعبد، فيتحقق شرط وجوب
التصدق.
وزان مسألة الكر عن مسألة العبد ما إذا قال: أول أربعين عبداً أملكهم،
فاشترى ستين، والحكم في سائر ما يكال ويوزن كالحكم في الكر، والحكم في
الثياب والعروض كالحكم في العبد إذا قال: إن فعلت كذا مالي صدقة في
المساكين، أو قال: وكل مالي، ففعل ذلك الفعل، فالقياس أن يلزمه التصدق
بجميع ماله مال الزكاة وغيره (145ب1) في ذلك على السواء؛ لأنه أضاف الصدقة
إلى ماله مطلقاً في الصورة الأولى، وإلى جميع ماله في الصورة الثانية،
فيدخل تحته جميع أمواله كما في الوصية يدل عليه أن قوله تعالى: {يا أيها
الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (النساء: 29) تناول جميع
الأموال، وقوله عليه السلام: «من ترك مالاً» تناول جميع الأموال.
ووجه الاستحسان: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ثم ما أوجب الله
تعالى من الصدقة مضافاً إلى مال مطلق بقوله: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة:
103) تناول مال الزكاة خاصة، فكذا ما وجب بإيجاب العبد بخلاف الوصية؛ لأنا
لم نجد في الوصية إيجابات الشرع تفيد مال الزكاة حتى يصرف إيجابه إليه،
فانصرف إيجابه إلى الأموال كلها.
قال القدوري في «كتابه» : ولا فرق بين مقدار النصاب وما دونه؛ لأنه وإن قل،
فهو مال الزكاة، فإن السبب ما يقل المال لا قدر منه، ولو كان عليه دين محيط
بماله يلزمه التصدق بما في يديه، فإذا قضى الدين به يلزمه التصدق بمثله،
وهذا لأن ما في يده مال الزكاة إلا أنه امتنع الوجوب فيه لمانع، وهو الدين،
فيدخل تحت النذر، ولزمه التصدق به، فإذا قضى دينه به، فقد استهلك مالاً وجب
التصدق به، فيكون مضموناً بمثله.
(2/318)
ولو نوى بهذا النذر جميع ما يملك حتى بيته؛
لأنه شدد على نفسه بنيته، والاسم صالح لتناول الكل، فيلزمه التصدق بالكل،
ولو كان له ثمرة عشرية تصدق بها؛ لأنه مال تعلق به العشر، والعشر في معنى
الصدقة وكان مال الصدقة.
وقال أبو حنيفة: الأرض العشرية لا تدخل تحت هذا النذر، خلافاً لأبي يوسف؛
لأن الأرض العشرية ليست مال الصدقة دون العشر، إنما يجب في الخارج لا في
الأرض؛ فكانت الأرض خالية عن الصدقة، فلم تكن مال الصدقة، ولا خلاف أن أرض
الخراج لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة
ذكره في «المنتقى» .
وفي «المنتقى» محمد: أن أرض التجارة لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في
أرض العشر نظير قول أبي حنيفة هذا الذي ذكرنا ما إذا حصل النذر باسم المال،
فأما إذا حصل النذر باسم المال بأن قال: إن فعلت كذا، فجميع ما أملكه صدقة
في المساكين ذكر في كتاب الهبة أنه يتصدق بجميع ما يملكه ويمسك قوته، فمن
المشايخ من قال: هذا جواب القياس.
وفي الاستحسان: ينصرف إلى مال الزكاة، وإليه ذهب الفقيه أبو بكر البلخي،
والشيخ الإمام الأجل شمس الدين السرخسي، ومنهم من قال: لا هذا جواب القياس
والاستحسان، وإليه ذهب الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، فعلى قول هذا
القائل يحتاج إلى الفرق بين ذكر المال وبين ذكر الملك على جواب الاستحسان.
والفرق: أن اسم المال مطلقاً إنما يفيد مال الزكاة في هذا الباب اعتباراً
لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وهذا المعنى معدوم عند ذكر الملك؛ لأنا لم
نجد في إيجاب المشرع إضافة الصدقة إلى المالك المطلق، وأراد مال مقيد،
فيعمل فيه بعضه اللفظ، واللفظ عام أو مطلق.
ثم قال في كتاب الهبة: ويمسك من ذلك قوته؛ لأن حاجته في هذا القدر معدم،
وهذا لأنه لو لم يمسك مقدار قوته يحتاج إلى أن يسأل الناس من ساعته، ولا
يحسن أن يتصدق الرجل بماله، ويسأل الناس من ساعته، ولم يبين مقدار ما يمسك.
قال مشايخنا: إن كان محترفاً يمسك قوت يوم، وإن كان صاحب حوانيت غلة يمسك
قوت شهر، وإن كان دهاقاً يمسك قوت سنة؛ لأن قوت الدهاقين يحدد في كل سنة،
وقوت أهل الحرف في كل يوم، فإذا وصل يده إلى شيء من المال بعد ذلك تصدق
بمقدار ما أمسك؛ لأنه مستهلك قدر ما أمسك من المال الذي لزمه التصدق منه،
فيصير ضامناً مثله كما لو استهلك مال الزكاة، فإذا جعل الرجل على نفسه حجة
أو عمرة، أو ما أشبه ذلك ما هو طاعة الله عزّ وجلّ، وكان النذر مرسلاً لزمه
الوفاء بما سمى، ولا يلزمه الكفارة بلا خلاف، فإن كان النذر معلقاً بالشرط
إن كان شرطاً يريد وجود لجلب منفعة،
(2/319)
أو لدفع مضرة بأن قال: إن شفى الله مريضي،
أو رد لي غائبي، أو مات عدوي، فعليّ صوم سنة، فوجد الشرط لزمه الوفاء بما
سمى، ولا يخرج عن العهد والكفارة بلا خلاف أيضاً، وإن كان النذر معلقاً
بشرط لا يريد كونه، فعليه الوفاء بما سمى في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروي
عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول، وقال: هو بالخيار، إن شاء خرج عنه بين
ما سمى، وإن شاء خرج عنه بالكفارة، وهكذا روي عن محمد، ومشايخ بلخ كانوا
يفتون بهذا، وهو اختيار الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، والشيخ الإمام شمس
الدين السرخسي، والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمهم الله، وبه قال عمر،
وعائشة رضي الله عنهما.
وجه قول أبي حنيفة الآخر: إن النذر المعلق بشرط لا يريد كونه يمين من وجه،
نذر من وجه، يمين باعتبار الشرط؛ لأن الشرط مرغوب عنه فراراً عما يلزمه
جميعاً لله تعالى على الخلوص كالشرط في اليمين بالله مرغوب عنه فراراً عما
يلزمه من الكفارة جميعاً لله تعالى على الخلوص نذر باعتبار الجزاء؛ لأن
معلق الشرط صوم، أو صلاة، أو حج كما في النذر المعلق بشرط يريد كونه، وكان
نذراً من وجه يميناً من وجه علق أحدهما على الآخر؛ لأن اليمين إنما يتم
بالشرط والجزاء جميعاً، والجمع بين الوجهين متعذر؛ لأن أحدهما يوجب
الكفارة، والآخر يوجب الوفاء بالمسمى، والجمع بين الكفارة والمسمى متعذر؛
لأن العقد واحد فلا يلزمه موجبان وإذا تعذر الجمع بين الوجهين والبعض من
هذا، والبعض من ذلك متعذر أيضاً، وجب التوفير (على الش....... التنجيز) ،
وهذا بخلاف ما لو علق النذر بشرط يريد كونه، فإنه نذر من كل وجه باعتبار
الجزاء والشرط جميعاً؛ لأن الشرط مرغوب فيه، والشرط باليمين بالله مرغوب
عنه خوفاً عما يلزمه من الكفارة حقاً لله تعالى، بخلاف ما نحن فيه، وبخلاف
النذر المرسل؛ لأنه ليس فيه معنى اليمين أصلاً، والله أعلم.
الفصل السابع عشر في المتفرقات
في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: في الحربي المستأجر إذا مر على
العاشر أخذ منه العشر في جميع ما معه كان للتجارة، أو لم يكن. وروى الحسن
عن ابن أبي مالك عن أبي يوسف إن كان معه أعشر التجارة لا يعشره.
ابن سماعة عن محمد في «نوادره» : رجل اشترى عبداً بمائة درهم، وقيمة العبد
مائتا درهم، وهو يريد التجارة، فلما كان آخر الحول صار قيمته ثلاثمائة، ثم
استحق نصف العبد، فعلى المشتري زكاة مائتي درهم؛ لأنه تبين أنه تم الحول
وفي ملكه مائتا
(2/320)
درهم مائة وخمسون في العبد، وخمسون في ذمة
البائع نصف من العبد، والدين يضم إلى ما عنده في حق تكميل النصاب، وإن كان
لا يخاطب بالأداء منه قبل القبض.
ابن سماعة في «الرقِّيَّات» عن محمد: رجل عنده عشرون ديناراً ومائتا درهم
حال عليها الحول، فدفع إلى رجل خمسة دراهم من المائتين ليؤدي عن المائتين
إلى المساكين، فلم يؤدها حتى ضاعت المائتان وصاحب المال لا يعلم بذلك، ثم
إن الآخر دفع الخمسة إلى المساكين (146أ1) لا يجزئه عن زكاة الدنانير،
وكذلك على هذا إذا كان لرجل ألف درهم وضح وألف درهم غلة حال عليه الحول،
فدفع إلى رجل خمسة وعشرين درهماً وضحاً ليتصدق بها عن زكاة الوضح، وباقي
المسألة بحالها لا يقع المؤدى عن الغلة، ولو كان الدفع على سبيل التعجيل
قبل الحول، والباقي بحاله، فالمؤدى يقع عن الباقي، وقد ذكرنا هذا التفصيل
فيما إذا أدى صاحب المال بنفسه، فكذا إذا أمر غيره بالأداء.
هشام عن أبي يوسف: في رجل له على رجل دين ألف درهم فوهبها لآخر، ووكله
بقبضها، فلم يقبضها حتى وجبت فيه الزكاة، ثم قبضها الوكيل، وهو الموهوب له،
فزكاتها على الواهب؛ لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض صاحب المال.
في «مجموع النوازل» : قال محمد: إذا هلكت الوديعة في يد المودع، وأدى إلى
صاحب الوديعة ضمانها ناوياً عن زكاة ماله، قال: إن أدى إليه لدفع خصومته لا
تجزئه عن زكاته. وفيه أيضاً: روي عن أبي حنيفة: في رجل له عشرون شاة في
الجبل، وعشرون في الواد، ومصدقهما يختلف، قال: يأخذ كل واحد منهما نصف شاة.
عن أبي يوسف في رجل قال: لله عليّ أن أتصدق بما عليّ من الزكاة تطوعاً،
فأدى ما عليه جاز عن زكاته، ولا شيء عليه غير ذلك، ولو قال: لله عليّ أن
أحج تطوعاً، ثم حج من عامه حجة الإسلام كان عليه أن يحج عن التطوع. ولو
قال: لله عليّ حجة الإسلام تطوع، فحجها للإسلام لم يلزمه التطوع.
ابن سماعة عن محمد: في رجل له مائتا درهم على رجل حال الحول إلا شهراً، ثم
استفاد ألفاً، وتم الحول على الدين قال: يزكي الألف التي عنده، وإن لم يأخذ
من الدين شيئاً، وكذا إذا نوى الدين بعد الحول، وفي قياس أبي حنيفة: لا
يزكي الألف من الزكاة مثلها ليس له أن يعطيها، وإن أعطاها، ثم مات كان
لورثة الميت أن يرجعوا عليهم بثلثها.
وفيه أيضاً: رجل دفع إلى رجل مالاً قال: أعط هذا من أحببت، ليس له أن يتصدق
على نفسه عند أبي حنيفة، وقال محمد: له ذلك.
وفيه أيضاً: الدين المجحود إذا كان لصاحبه عليه بينة، ولم يقم لا تجب عليه
الزكاة؛ لأن الحاكم لا يقبلها.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قضى دين غيره من زكاته، فإن قضى بأمر
المديون وكان المديون فقيراً يجوز، وإن أدى بغير أمره لا يجوز؛ لأن المأخوذ
على رب
(2/321)
المال تمليك المال والفقير، فإذا قضى بأمر
المديون، أو كان المديون فقيراً يجوز، فقد وجد التمليك منه؛ لأن تقدير
الأمر بقضاء الدين، ولا يتصور قضاء الدين عنه إلا بعد تمليك قدر الزكاة عنه
ملكني قدر الزكاة، ثم كن وكيلي بقضاء ديني من ذلك، ولو قال: هكذا يجوز،
وينوب قبض صاحب الدين عن قبض المديون، فإذا قضى بغير أمر المديون لم يوجد
التمليك منه؛ لأنه لم يرض بوقوع الملك له، فلا يمكن أن يجعل هذا تمليكاً
منه، فلهذا لا يخرج عن العهدة.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا كان للرجل سائمة للتجارة حال عليها الحول، وهي كذلك
سائمة أجمعوا على أنه لا يجمع بين زكاة السائمة وبين زكاة التجارة؛ لأن
المال واحد، والجمع بينهما يؤدي إلى العناء.
بعد هذا قال أصحابنا رحمهم الله: زكاة التجارة أولى من زكاة السائمة؛ لأن
نية التجارة قد صحت فيها؛ لأنها لو لم يصح إنما لا يصح لمكان السوم، إلا أن
السوم لا ينافي صحة نية التجارة، ألا ترى أن السائمة إذا كانت أقل من
النصاب اشتراها بنية التجارة وتركها سائمة كما كانت للتجارة، تصح نية
التجارة فيها، وتجب زكاة التجارة؟ كذا ههنا، وكل مال صحت نية التجارة فيه
تجب فيها زكاة التجارة.
الحربي إذا أسلم في دار الحرب وله سوائم، وقد علم بوجوب الزكاة عليه بسبب
السوائم، ولم يؤدها سنتين حتى خرج إلى دار الإسلام بسوائمه، فإنه لا ينبغي
للإمام أن يأخذ منه زكاة ما مضى؛ لأنه لم يكن في حماية الإمام حال وجوب
الزكاة، ويجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وإن لم يعلم بوجوب
الزكاة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وعلى هذا الصوم
والصلاة.
قال في «المنتقى» : والعلم الذي به عليه الصلاة، والصوم أن يخبره بذلك
رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان في دار الحرب، أو في دار الإسلام.
وفي «المنتقى» : حربي أسلم في دار الحرب، ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة،
أو زكاة أو صياماً، وهو في دار الحرب، فليس عليه قضاء ما مضى، وإن علمه
بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي
ما فرط منه من وقت إعلامه في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام، وإن كان
إنما أعلمه بذلك، رجل واحد، أو ناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئاً
فيما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه، وهو في دار الحرب لم يقض، وإن كان
في دار الإسلام قضى، والله أعلم بالصواب.
(2/322)
|