المحيط
البرهاني في الفقه النعماني الفصل العاشر في
بيان ما يمنع وجوب الزكاة
فنقول: ما يمنع وجوب الزكاة أنواع، منها الذي قال أصحابنا رحمهم الله: كل
دين له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة، سواء كان الدين للعباد، أو
لله تعالى كدين الزكاة.
فأما الكلام في دين العباد، فنقول: إنما منع وجوب الزكاة؛ لأن ملك المديون
في القدر المشغول بالدين ناقص، ألا ترى أنه يستحق أخذه من غير مضار لا رضا،
كأنه في يده غصب أو وديعة؟ ولهذا حلت له الصدقة، ولا يجب عليه الحج، والملك
الناقص لا يصلح سبباً لوجوب الزكاة.
(2/293)
وأما الكلام في دين الزكاة، فنقول: إن كان
زكاة السائمة تمنع وجوب الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله.
وصورته: إذا كان له نصاب من الأثمان أو السوائم، أو عروض التجارة، فحال
الحول ووجب الزكاة، ثم حال الحول ثانياً لم تجب الزكاة في الحول الثاني في
السوائم بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، سواء كان ذلك في العين بأن كان
العين قائماً، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وفي الأثمان وعروض التجارة
كذلك الجواب عند أبي حنيفة، ومحمد، سواء كان ذلك في العين، أو في الذمة
باستهلاك النصاب، وقال أبو يوسف: إن كان في العين لا تجب الزكاة في الحول
الثاني، وإن كان في الذمة تجب الزكاة في الحول الثاني، وقال زفر: تجب
الزكاة في الحول الثاني سواء كان ذلك في العين أو في الذمة.
وجه قول زفر: أن هذا دين لا مطالب له من جهة العباد؛ لأن الزكاة في الأثمان
وعروض التجارة أداؤها مفوض إلى أربابها، فلا يمنع وجوب الزكاة قياساً على
النذور والكفارات، وأبو يوسف يقول: القياس ما قاله زفر، إلا أنه إذا كان في
العين، إنما يمنع وجوب الزكاة؛ لأن جزءاً من العين صار مستحقاً به، فصار
النصاب ناقصاً، وأبو حنيفة، ومحمد قالا: هذا دين له مطالب من جهة العباد
تقديراً.
بيانه: أن زكاة الأثمان، وعروض التجارة زمن رسول الله عليه السلام وزمن أبي
بكر، وعمر رضي الله عنهما كان مفوضاً إلى الإمام، إلا أن عثمان رضي الله
عنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، وجعل أرباب الأموال كالوكلاء
نفسه، لا أنه أبطل على نفسه حق الأخذ، وهذا لأن حق المطالبة للإمام عرف
بعهد رسول الله عليه السلام وبعهد أبي بكر، وعمر، وحكم ثبت من جهة النبي
عليه السلام، ومن جهة أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، لا يجوز لعثمان رضي
الله عنه إبطاله، فدل أنه فوض الأداء إلى أرباب الأموال بطريق التوكيل،
وكان هذا ديناً له مطالب من جهة العباد تقديراً.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له مائتا درهم، فقبل الحول وجب عليه
حجة الإسلام، أو حجة أوجبها، أو كفارة، أو صدقة من طعام، أو عتق، أو هدي
متعة، أو أضحية، ثم تم الحول على المائتين وجبت عليه الزكاة؛ لأن هذه
الحقوق لا مطالب لها من جهة العباد، ومثل هذا لا يمنع وجوب الزكاة، فلو
امتنع وجوب الزكاة ههنا إنما يمنع لهذه الحقوق، ولو كان الدين خراج أرض
يمنع وجوب الزكاة بقدره؛ لأن هذا دين له مطالب من جهة العباد، وهو السلطان،
فإن السلطان مطالب بالخراج، وإذا امتنع يحبسه عليه.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطهاويسي رحمه الله يحكي عن أستاذه الشيخ
الإمام الزاهد عبد الواحد رحمه الله أنه كان يقول: هذا إذا كان خراجاً يوجد
بحق، فأما ما يوجد بغير حق كخراج المستقرض لا يمنع وجوب الزكاة ما لم يوجد
منه قبل الحول؛
(2/294)
لأن هذا ليس بدين، بل هو مصادرة يوجد من
أرباب الأراضي، فما لم يوجد منه حتى يصير النصاب ناقصاً، لا يمنع وجوب
الزكاة، وإذا كان الخراج بحق إنما منع وجوب الزكاة إذا كان تمام الحول بعد
إدراك الغلة، أما إذا كان قبل إدراك الغلة، فلا؛ لأن الخراج إنما منع وجوب
الزكاة على تقدير الوجوب، ووقت وجوب الخراج وقت إدراك الغلة، وكذلك الأرض
العشرية إذا أخرجت طعاماً، واستهلكه، وضمن مثله ديناً في الذمة، وذلك قبل
تمام الحول على الدراهم، ثم تم الحول على الدراهم فليس عليه فيها زكاة؛ لأن
هنا دين له مطالب من جهة العباد، وهو الإمام.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل له مائتا درهم لا مال له غيرها
قال قبل الحول: لله عليه أن يتصدق بمائة منها صح النذر، ولزمه أن يتصدق
بمائة منها عيناً، حتى لو هلكت المائتان بطل النذر؛ لأن النذر بالتصدق أضيف
إلى مائة من هاتين المائتين والدراهم والدنانير تتعينان في النذور؛ لأن
النذر ينزع، فلو أنه لم يتصدق بمائة من هاتين المائتين حتى حال الحول على
المائتين لزمه زكاة المائتين خمسة، وإن صارت مائة منه مستحقة بالنذر؛ لأن
هذا حق لا مطالب له من جهة العباد.
فإن قيل: لم لا يمنع وجوب الزكاة من حيث أن الاستحقاق بمنزلة الهلاك؟ قلنا:
إن الاستحقاق ثبت بنذره، وله ولاية تغيير ماله، أما ليس له ولاية تغيير ما
عليه، وكون المال سبباً لوجوب الزكاة أمر عليه، فلا يظهر الاستحقاق الذي هو
بمنزلة الهلاك في حق خروج هذا المال من أن يكون سبباً لوجوب الزكاة بنذره،
ثم إذا لزمته الزكاة، وإخراج خمسة منها ينوي الزكاة بها، فإن عليه أن يتصدق
للنذر سبعة وتسعين درهماً ونصف درهم، وسقط عنه التصدق بدرهمين ونصف؛ لأن
الخمسة التي وجبت زكاة وجبت شائعة في المائتين في كل مائة درهمان ونصف،
فيصير قدر درهمين ونصف مستحقاً من المنذور به من غير إيجاب بإيجاب الله
تعالى، فصار بمنزلة ما لو هلك هذا القدر، فبطل النذر بقدره، ولزمه الوفاء
بما بقي، وذلك سبعة وتسعون ونصف.v
وهذا بخلاف ما لو قال: لله عليّ أن أتصدق بمائة درهم، ولم يقل: منها، وتم
الحول حتى لزمه الزكاة، فأدى خمسة منها ينوي بها الزكاة، فإن عليه أن يتصدق
بمائة درهم للنذر، بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أن في هذه المسألة النذر بالتصدق ما أضيف إلى مائة من النصاب حتى
يتعين مائة من النصاب للتصدق، بل وجب التصدق بمائة في الذمة، ولا تعلق له
بالنصاب، فوجوب الزكاة لا يصيّر شيئاً من النذور مستحقاً، فلا يبطل شيء من
النذر. (141أ1)
وكذلك المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى: النذر بالتصدق أضيف إلى
المائة من النصاب عيناً، والخمسة الواجبة نصفها من المائة المنذورة لما
ذكرنا، أن الزكاة في المائتين وجب على الشيوع، فبقدر درهمين ونصف صار
مستحقاً من المنذور، فسقط التصدق بقدره، فلو أن هذا الرجل بدأ بالنذر
أولاً، وأدى المائة عن النذر صح؛ لأنه وفاءٌ
(2/295)
بالنذر والوفاء بالنذر واجب، ولم يذكر محمد
رحمه الله أن أي قدر يؤدي الزكاة، واختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يؤدي
درهمين ونصفاً، وهذا القائل يقول: كل المائة لا تقع عن النذر، بل تقع عن
النذر قدر سبعة وتسعين درهماً ونصف درهم، والباقي إلى تمام المائة وهو
درهمان ونصف تقع عن الزكاة.
وجه ذلك: أن درهمين ونصفاً من الزكاة كان في المائة التي تصدق بها عن
النذر، وتعلق به حق الفقير، وقد يصل ذلك إلى الفقير، فيعتبر واصلاً إليه من
جهة المستحق لا من جهة المنوية، ألا ترى أنه لو تصدق بجميع النصاب ينوي
التطوع تسقط عنه الزكاة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أيضاً رجل له دراهم ودنانير، وعروض
التجارة وسوائم، ومال قنية، وعقار، وغلة دين مستغرق، فلا زكاة عليه، وقد مر
هذا، وإن استغرق الدين بعض هذه الأموال، ذكر في عامة نسخ «الجامع» : أنه
يصرف الدين إلى نصاب الدراهم والدنانير، ثم إلى مال التجارة، وهكذا ذكر في
«النوادر» ، وذكر في بعض نسخ «الجامع» : أنه يصرف الدين إلى الدراهم
والدنانير، وأموال التجارة، وسوى بين الدراهم والدنانير وأموال التجارة
والأول أصح.
يجب أن يعلم أنه إذا كان للمديون صنوف من الأموال المختلفة، والدين مستغرق
بعض هذه الأموال، فالدين أولاً يصرف إلى الدراهم والدنانير إما لأن قضاء
الدين استبدال من حيث إن الديون يقضى بأمثالها، والقضاء بالمثل مبادلة،
وكان صرفه إلى مال معد للاستبدال أولى، والدراهم والدنانير معدة للاستبدال
دون غيرهما، وإما لأن الدراهم والدنانير أيسر المالين قضاء، والدين أبداً
يصرف إلى أيسر المالين قضاء، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى عروض التجارة
دون السائمة، إما؛ لأن قضاء الدين من عروض التجارة أيسر من قضائها من
السائمة؛ لأن السائمة معدة للإمساك.
بخلاف عروض التجارة، أو لأن الصرف إلى عروض التجارة أنفع في حق الفقراء؛
لأن السائمة خالية عن الدين، وزكاة عروض التجارة مفوض إلى أربابها، وعيني
يختار الأداء وعيني لا يختار، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى السائمة، ولا
يصرف إلى مال العينية؛ لأن قضاء الدين من السائمة أيسر؛ لأنها فارغة عن
الحاجة الأصلية، فالإتيان دليل عليه بخلاف مال العين؛ لأنها مشغولة بالحاجة
الأصلية.
فإن كان له نصيب من السوائم الإبل، والبقر، والغنم، والدين يصرف إلى أهلها
زكاة، حتى إن في هذه المسألة يصرف الدين إلى الإبل أو الغنم، ولا يصرف إلى
البقر؛ لأن الواجب في ثلاثين من البقر تبيع، والواجب في خمس من الإبل شاة،
وكذلك الواجب في أربعين من الغنم شاة، ولا شك أن تبيعاً أنفع في حق الفقير
من الشاة، فيصرف الدين إلى الإبل، أو الغنم دون البقر، ليمكن إيجاب الأنفع
للفقراء، ثم المالك إن شاء صرف الدين إلى الغنم، وإن شاء صرفه إلى الإبل
لإيجاد الواجب فيهما، وروي في غير رواية الأصول الدين يصرف إلى الغنم دون
الإبل، لأن ذلك أنفع في حق الفقير.
بيانه: أنه إذا صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل خالياً عن الدين،
والواجب
(2/296)
فيها شاة لأحمد، فإذا أداها يبقى نصاب
الإبل ثابتاً في السنة الثانية، فأما لو صرفنا الدين إلى الإبل يبقى نصاب
الغنم خالية عن الدين، فتجب شاة منها، فينتقص النصاب في السنة الثانية وكان
صرف الدين إلى الغنم أنفع في حق الفقراء.
وصار الأصل من جنس هذه المسائل: إن ما كان أنفع للفقراء لا يصرف الدين
إليه، وإن فضل شيء من الدين يصرف إلى مال القنية دون العقار، ولأن بيع مال
القنية أيسر؛ لأن العقار ما لا يستحدث فيه الملك، ولا يباع في كل ساعة
بخلاف المنقول.
وإن كان في مال القنية عبد لخدمته، وثياب البذلة والمهنة، والدين لا مستغرق
ذلك كله، بل يكفيه أحد المالين، فإلى أي المالين يصرف الدين؟ اختلف المشايخ
فيه بعضهم قالوا: يصرف إلى عبد الخدمة، منهم الفقيه أبو إسحق الحافظ،
والفقيه أبو بكر البلخي، وبعضهم قالوا: يصرف إلى ثياب البذلة والمهنة، منهم
الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهذا الذي ذكرنا من الترتيب إذا أتاه المصدق،
فيقول: عليّ دين، فيصرف على هذا الترتيب، فأما إذا كان يؤدي بنفسه يصرفه
إلى أي المالين ما بعد أن يكون مقدار الواجب، فهما على السواء، وهذا لأن
الدين عليه والمال له، وليس في صرفه إلى أحدهما ضرر على الفقراء، وكان له
أن يصرف إلى أيهما.
وقيل في دين المهر: أنه يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وقيل: إن كان من
نية الزوج: أنها متى طالبته تلقاها بلطف، ويقرها أنه متى صادف مالاً لا
يبطل حقها يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وإن كان من حقه أنه متى طالبته
ضربها، وتلقاها بالإنكار لا يمنع وجوب الزكاة.
قال القدوري في «كتابه» : وقال أصحابنا رحمهم الله: إن النفقة لا تمنع وجوب
الزكاة ما لم يقض بها، فإذا قضي منعت؛ لأن النفقة لا تصير ديناً قبل قضاء
القاضي فهذا الجواب مستقيم في نفقة الزوجات؛ لأنها تصير ديناً بقضاء
القاضي، فأما نفقة المحارم ففي صيرورتها ديناً بقضاء القاضي كلام يأتي في
موضعها إن شاء الله.
ولو ضمن دركاً، فاستحق المبيع بعد الحول لم تسقط الزكاة؛ لأن الوجوب يقتصر
على ماله الاستحقاق، ومن جملة الموانع الصبي والجنون، حتى لا تجب الزكاة في
مال الصبي والمجنون عندنا، فإذا كان الجنون أصلياً ثم أفاق، فعند أبي
حنيفة: يعتبر ابتداء الحول من حين الإفاقة؛ لأنه لا خطاب قبل ذلك، فصارت
الإفاقة في حق المجنون بمنزلة البلوغ في حق الصبي، وإذا طرأ الجنون فإن
استمر سنة سقط، وإن كان أقل من ذلك لا يعتبر.
وروي عن أبي يوسف: أنه اعتبر الإفاقة في أكثر السنة، فإن كان مفيقاً في
أكثر السنة تجب الزكاة وما لا فلا، وروي عنه: أنه إذا أفاق ساعة من الحول
تجب الزكاة، وهو قول محمد؛ لأن السنة للزكاة بمنزلة الشهر للصوم، ثم
الإفاقة في شيء من الشهر تكفي لوجوب الصوم، فكذا الإفاقة في شيء من السنة
تكفي لإيجاب الزكاة، والذي يجن ويفيق بمنزلة الصحيح، وهو النائم والمغمى
عليه.
(2/297)
الفصل الحادي عشر في
الأسباب المسقطة للزكاة
فمن جملة ذلك هلاك مال الزكاة، قال أصحابنا رحمهم الله؛ إذا هلك مال الزكاة
بعد حَوَلان الحول من غير تعد منه بالاستهلاك سقط عنه الزكاة، سواء هلك بعد
التمكن من الأداء، أو قبل التمكن منه، وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله
يقول: إذا طالبه الساعي بالأداء، فلم يؤد حتى هلك ضمن، وقال أبو سهل
الزجاجي من أصحابنا: لا يضمن.
فوجه قول أبي الحسن: أن الساعي ناب عمن له الحق في قبض هذا المال على
التعين، فيصير ضامناً بالمنع منه كما في الوديعة، إذا قال صاحب الوديعة
للمودع: ادفع الوديعة إلى غلامي هذا، فطلب غلامه ذلك الوديعة، فلم يدفع
إليه، فإنه يصير ضامناً، فههنا كذلك، وعلى هذا العرف يخرج ما إذا طلب
الفقير منه ذلك، فلم يدفع إليه حتى هلك حيث لا يضمن؛ لأن هذا الفقير
(141ب1) لم يتعين نائباً عمن له الحق في أخذ هذا المال، فهو نظير ما لو قال
صاحب الوديعة: ادفع الوديعة إلى أي غلماني شئت، فجاء واحد من غلمانه وطلب
الوديعة، فلم يدفع إليه حتى يدفع إلى غلام آخر هناك لا يصير ضامناً كذا.
وجه قول أبي سهل: أن وجوب الضمان يستدعي تفويتاً، ولم يوجد، وفي فصل
الوديعة وجد التفويت؛ لأن المودع بالمنع بدل اليد، فصار مُفوتاً يداً بذلك،
فيجب الضمان بالتفويت، أما ههنا بخلافه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا كان للرجل ثمانون من الغنم السائمة
حال عليها الحول، حتى وجبت شاة، ثم هلك منها، وبقي أربعون، ففي القياس يزكي
الباقي نصف شاة، وهو قول محمد وزفر، وفي الاستحسان يزكي الباقي بشاة كاملة،
وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
من مشايخنا من قال: هذه المسألة في الحاصل تبنى على أصل أن المال إذا اشتمل
على النصاب في العفو، فالواجب يتعلق بالنصاب، وحل استحساناً حتى لو هلك
العفو، وبقي النصاب بقي كل الواجب، وقال محمد وزفر: يتعلق بهما قياساً حتى
لو هلك العفو سقط من الزكاة بقدره، فوجه القياس في ذلك قوله عليه السلام
«في أربعين شاة شاة إلى مائة وعشرين» ، فقد جعل الشاة واجبة في الكلّ؛ ولأن
ما زاد على الأربعين نعمة، فتجب الزكاة فيه شكراً قياساً على الأربعين،
وبالإجماع لم يجب فيما زاد على الأربعين شيء آخر. علمنا أن الشاة واجبة في
الكل، فإذا هلك ما زاد على الأربعين يجب أن يهلك بخمسة كما لو كان له
أربعون من الغنم، وهلك بعضها، إلا أن هذه الزيادة تسمى
(2/298)
عفواً بمعنى أن الشاة تجب بدونها، ولكن إذا
وجدت الزيادة، فالوجوب يتعلق بالكل.
ومن مشايخنا من قال: الشاة وإن كانت واجبة في الأربعين لا غير، مع هذا يمكن
القول بسقوط بعض الواجب بهلاك الزيادة.
وبيان ذلك: أن ما وجب فيه الشاة غير معين، فأربعون من الثمانين مال الزكاة
وأربعون ليس مال الزكاة، وليس أحد الأربعين..... المالين للآخر، بل كل واحد
من الأربعين أهلاً نفسه؛ لأن أحد المالين إنما جعل تبعاً للآخر، إما أن
يكون متفرعاً عنه كالولد، أو بأن يكون مستفاداً..... ولم يوجد شيء من ذلك
ههنا، وقد اختلطا على وجه تعذر التمييز؛ لأن الذي فيه الشاة ليس بمعين،
والأصل في كل مالين هذا حالهما، أنه إذا هلك شيء منها، فما هلك يجعل هالكاً
من المالين، وما بقي يجعل باقياً من المالين؛ لأنه في معنى الشائع، والشائع
كذلك يكون، والدليل عليه.
مسألة في «النوادر» : إذا كان للرجل ألف درهم حال عليها الحول، فاستفاد
ألفاً أخرى، واختلط المستفاد بالنصاب على وجه تعذر التمييز بينهما، ثم هلك
منها ألف فإنه يزكي خمسمائة، وجعل الهلاك من المالين بالطريق الذي قلنا،
كذا ههنا.
وجه الاستحسان في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام «في أربعين شاة الشاة»
وليس في الزيادة شيء حتى يبلغ مائة وواحداً وعشرين» ، فالنبي عليه السلام
عفى الوجوب عن الزيادة إلى أن يبلغ مائة واحداً وعشرون، فمن جعل الشاة بشاة
في الثمانين، فقد أوجب في الزيادة على الأربعين شيئاً قبل وجود نصابه، وإنه
خلاف النص، والعمل بما روينا أولى من العمل بما رواه الخصم؛ لأن ما روينا
محكم في حكم الواجب عن الزيادة على الأربعين، وما رواه الخصم محتمل أن يكون
حتى قوله: إلى مائة وعشرون، أن الشاة واحدة في الكل، ومحتمل أن يكون معناه
من الأربعين إلى مائة واحد وعشرين عفو لا يتعلق به الواجب، فكان العمل ما
روينا أولى، والمعنى في المسألة: أنهما مالان اختلطا، وتعذر التمييز بينهما
وأحدهما أصل هو النصاب الأول، والآخر تبع، وهو الزائد على النصاب؛ لأن
الأصل ما يقوم بنفسه، ويوجد دون غيره، والتبع ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد
دون غيره، والنصاب الأول يقوم بنفسه، ويوجد بدون الزيادة، والزيادة لا تقوم
بنفسها، ولا توجد بدون النصاب الأول فهو معنى قولنا: إن النصاب الأول أصل،
والزيادة عليه تبع، فيصرف الهلاك إلى التبع؛ لأن الأصلي أقوى، وصرف الهلاك
إلى الأضعف أولى، ولأن في صرف الهلاك إلى التبع صيانة الواجب عن النقصان،
فكان هو أولى.
وأما مسألة «النوادر» . قلنا: ما ذكر أنه يزكي خمسمائة فهو قول محمد وزفر،
وهو القياس، أما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وهو الاستحسان، يزال النصاب
الأول الذي هو الأصل، وهو مائتا درهم ثم يصرف الهلاك إلى ما وراءه يكون ذلك
جعله تبعاً
(2/299)
للنصاب الأول، إلا أن التابع للنصاب الأول
في هذه الصورة بعضه مال وجب فيه الزكاة، وذلك ثماني مائة من الألف التي حال
عليه الحول، وبعضه حال لم يجب فيه الزكاة، وذلك ألف درهم، فيصرف الهلاك إلى
الكل، وجعلنا لكل مائتي درهم منهما، فصار ما وجب فيه الزكاة أربعة أسهم،
وما لم يجب فيه الزكاة خمسة أسهم، فجملة ذلك تسعة أسهم فما هلك، وذلك ألف،
يهلك على تسعة أسهم، وما بقي وذلك ثماني مائة يبقى على تسعة أسهم، أربعة
اتساعها مما وجب فيه الزكاة، وذلك أربعمائة وأربعة وأربعون وأربعة الأتساع،
فيبقى ذلك ثلثمائة وخمسة وخمسون وخمسة الأتساع. يضم هذا القدر من ثماني
مائة إلى النصاب الأول الذي هو الأصل، وذلك مائتا درهم، فيصير الجملة
خمسمائة درهم وخمسة وخمسين وخمسة الأتساع يزكي هذا القدر على طريق
الاستسحان، نصّ عليه في زكاة الإبل في «نوادر الزكاة» .
ولو هلكت من الثمانين ستون، وبقي عشرون يزكي الباقي، بنصف شاة عند أبي
حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندما يصرف إلى الزيادة أولاً، ويجعل كأن
الزيادة لم تكن، وكان ماله أربعين لا غير، وقد هلكت منها عشرون وبقي عشرون،
يزكي الباقي بنصف شاة من هذا الوجه، وعند محمد وزفر زكى الباقي ربع الشاة؛
لأن عندهما الشاة كانت سابقة في الثمانين.
ولو كان له مائة وعشرين من الغنم هلك بعد الحول ثمانون، وبقي أربعون يزكي
عن الباقي شاة واحدة في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندهما انصرف
إلى الزيادة على النصاب الأول كأنه لم يملك إلا الأربعين.
ولو كان له مائة واحد وعشرون من الغنم حال عليها الحول، ثم هلك منها أحد
وثمانون، وبقي أربعون ذكر في «الجامع» أنه يزكي الباقي بشاة عند أبي حنيفة،
وأبي يوسف، وروي عن أبي يوسف في «الأمالي» أنه يزكي الباقي بأربعين جزءاً
من مائة وإحدى وعشرين جزءاً من مائين وهو قول محمّد، وإنما خالفت هذه
المسألة المسألة الأولى عند أبي يوسف على رواية «الأمالي» ؛ لأن في هذه
المسألة المال اشتمل على النصابين، وفي المسألة الأولى اشتمل على النصاب،
والعفو والمال إذا اشتمل على النصاب والعفو، فالهلاك يصرف إلى العفو عند
أبي يوسف باتفاق الروايات، ومتى اشتمل على النصابين، فالهلاك ينصرف إلى
النصابين على رواية «الأمالي» عنه، وعلى ظاهر الرواية يصرف الهلاك إلى
النصاب الزائد على النصاب الأول، أو نصاباً (142أ1) الأول مستغنى عنه، وفي
الزيادة إذا كانت نصاباً، إن انهدم المعنى الذي قلتم وجد المعنى الذي قلنا،
فالثاني لا يستغني عن الأول، والأول مستغني عن الثاني، وإنه كافٍ للتبعة
كما في التعجل، فإنه إذا عجل زكاة نصب كثيرة بعدها هلك نصاباً واحداً جاز،
وطريق الجواز أن يجعل ما وراء هذا النصاب تابعاً له، وذكر القدوري في
«شرحه» روايتين، أبي يوسف عن أبي حنيفة: في المال أداء اشتمل على النصابين
مثل قول محمد، ورواية أبي يوسف، وقال أبو الحسن: هو الصحيح.
(2/300)
وفي «القدوري» : إذا كان له أربعون من
الإبل السائمة هلك منها عشرون بعد الحول، ففي الباقي أربع شياه عند أبي
حنيفة؛ لأنه يجعل الهالك كأن لم يكن لكون الهالك تبعاً، وصرف الهلاك إلى
التابع عنده، فيلزمه زكاة العشرين، وذلك أربع شياه، وعند أبي يوسف: يجب
عشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من بنت لبون؛ لأن الأربعة عفو، فالواجب
وذلك بنت لبون في ست وثلاثين، فيبقى من الواجب بقدر الباقي، فلو كان له
مائتا درهم، ودمج معها بعد الحول مائتين، ثم هلك نصفها لم تسقط هي؛ لأن
الربح تابع لأصل المال بلا خلاف، فيصرف الهلاك إليه عند الكل كما صرف إلى
العفو عند أبي حنيفة.
قال القدوري: والعفو عند أبي حنيفة يتصور في سائر الأموال، وعندهما لا
يتصور في الذهب والفضة، إنما يتصور في السوائم بناءً على أن الزكاة تجب في
الزيادة على المائتين والعشرين، عندهما خلافاً لأبي حنيفة، وفي «المنتقى»
فالدين صح عن أبي يوسف، وإبراهيم عن محمد: رجل دفع زكاة ماله لثلاث سنين
إلى الوالي، ثم ضاع ماله قال: رد عليه الوالي، إن كان قائماً بعينه، وإن
كان فرقه، فلا شيء عليه.
وفيه: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل له جارية للتجارة قيمتها مائة
درهم حال عليها الحول ثم باعها بثلثمائة درهم، ثم نوى منها مائتا درهم،
قال: يزكي مائة الدرهم الباقية.
بشر عن أبي يوسف: رجل له أربعون شاة سائمة حال عليها الحول، ثم باعها
بثلثمائة درهم، ولدت أربعين حملاً، ثم ماتت الأمهات بطل عنها الزكاة.
ابن سماعة عن محمد: رجل له ألف درهم حال عليها الحول ثم أقرضها رجلاً يفوت
عليها مال الزكاة عليه؛ لأنه ما أخرجهما عن حد الزكاة، وإنما أقرضها ليكون
له عليه مثلها، وكذلك لو كان له ثواب للتجارة حال عليها الحول، ثم أعاره
رجلاً فضاع.
ومن جملة الأسباب المسقطة للزكاة موت من عليه مال، قال أصحابنا رحمهم الله:
إذا مات من عليه الزكاة تسقط الزكاة بموته حتى أنه إذا مات عن زكاة سائمة،
فالساعي لا يجبر الوارث على الأداء، ولو مات عن زكاة التجارة لا يجب عليه
الأداء فيما بينه وبين ربه، وقال الشافعي: لا يسقط بموته؛ لأن هذا حق مال
وجب في ذمته، والنيابة تجري فيه.
ألا ترى أنه لو أمر غيره بأداء الزكاة في حالة الحياة جاز، وكذا لو أوصى
لوارثه بأن يؤدي زكاة ماله بعد موته يجب على الوارث أداءه، فصح ما ادعينا،
أن هذا حق مال وجب في ذمته والنيابة تجري فيه، فوجب أن لا يسقط بموته
قياساً على سائر الحقوق التي بهذه الصفة، وأقر بها العشر.
وإنما نقول: بأن الزكاة عبادة خالصة لله تعالى، والركن في العبادات الأداء
عن اختيار، ولا اختيار للمتغيب، وما يقول: بأن هذا حق تجري فيه النيابة.
قلنا: نعم ولكن نيابة اختيارية لا نيابة جبرية، ولو وجب على الوارث الأداء
ههنا
(2/301)
لصار نائباً عنه جبراً، فلا يكون الأداء عن
اختيار من عليه، حتى لو وجد الاختيار، وفي النيابة بأن أوصى إليه قول بأنه
ثبت على الوارث الأداء، ثم إذا أوصى قائماً يجب على الوارث تنفيذ الوصية
بقدر الثلث؛ لأن الميت لو لم يوص بذلك لكن تسلم الورثة جميع المال لو بطل
حقهم عن بعض المال، إنما يبطل بحكم الوصية، وعمل الوصية في مقدار الثلث، لا
في الزيادة على الثلث.
ومن جملة الأسباب المسقطة: الردة، قال أصحابنا: من عليه الزكاة إذا ارتد عن
الإسلام، والعياذ بالله، بطل عنه الزكاة، وكذلك ما مضى من الأحوال....، فلا
زكاة فيها عندنا بناءً على ما قلنا أن الزكاة عبادة، والمرتد ليس من أهلها،
وهذا لأن أصلية الشيء بأصلية حكمه، وحكم العبادة الزكاة الثواب، والمرتد
ليس من أهل الثواب والله أعلم.
الفصل الثاني عشر في صدقات الشركاء
قال أصحابنا: وإذا كان النصاب من خليطين لا تجب فيه الزكاة، والأصل فيه
قوله عليه السلام، «وسائمة الرجل إذا كان أقل من أربعين، فلا زكاة فيها» ؛
ولأن الزكاة وظيفة الغني، وهذا ليس بغنى في حق كل واحد منهما.
وقال الشافعي: تجب الزكاة عند وجود شرائط الخليطين، وذلك بأن يتحد الراعي
والمرعى والمراح، والمسرح والبئر والكلب، ويحتج بقوله عليه السلام «لا يجمع
بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، وما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية» ،
فالنبي عليه السلام اعتبر الجمع والتفريق والخلطة، وعندكم لا أثر لهذه
الأشياء، وعندنا مضى قوله عليه السلام: «لا يجمع بين متفرق» إذا كان بين
رجلين ثمانون شاة، فإنه تجب فيها شاتان، فلا يجمعا فيها، فيقولان: إنها
لرجل واحد لإيجاب شاة واحدة، وإذا كان بين رجلين أربعون شاة، فلا ينبغي
للساعي أن يجعلها كأنها لرجل واحد، فيأخذ منها شاة، ومعنى قوله: «ولا يفرق
بين مجتمع» إذا كان لرجل أربعون شاة، فلا ينبغي له أن يجعل عشرين منها على
يدي رجل، ويقول: ليس لي إلا عشرون حتى لا تجب الزكاة، وإذا كان لرجل مائة
وعشرون من الغنم، فلا ينبغي للساعي إن فرق كل أربعين على حدة، فيأخذ ثلاث
شياه وقوله: «ما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية» ، فهذا ما ذكر ابن رستم
في «نوادره» عن محمد:
l
إذا كان رجلان بينهما مائة وعشرون شاة لأحدهما أربعون، وللآخر ثمانون وأخذ
المصدق منها شاتين، فصاحب الثمانين يرجع على صاحب الأربعين بثلث
(2/302)
شياه؛ لأن المأخوذ من نصيب صاحب الأربعين ثلث شاتين، وثلث شاتين لا شاة
واحدة، والواجب عليه شاة، والثلث الآخر أخذ من نصيب صاحب الثمانين، فرجع هو
بذلك على صاحب الأربعين.
وفي «نوادر هشام» عن محمد صورها في الإرث، فقال: رجل توفي وترك مائة وعشرين
شاة سائمة، وله ابن وبنت، فورثاها على فرائض الله، فجاء المصدق، وأخذ منها
شاتين، فإن الأخت تعود على أخيها بسدس قيمة كل شاة من الشاتين.
وفي «نوادر ابن رستم» : ثلاثة نفر لكل رجل منهم خمسون شاة، فخلطوها، فجاء
المصدق، وأخذ منها شاتين، وإن كان يعرف غنم كل رجل، فأخذ الشاتين من الغنم
لرجل بعينه، فهذا ظلم به.
وفي «نوادر هشام» : في ثمانين شاة بين أربعين رجلاً لرجل واحد من كل شاة
نصفها والنصف الآخر من الشاة لهؤلاء الباقين، قال أبو حنيفة: ليس على صاحب
الأربعين صدقة، وهو قول محمد، ولو كان بين رجلين يجب على كل واحد منهما
شاة؛ لأنه مما يقسم في هذه المسألة. (142ب1) ، وفي المسألة الأولى لا يقسم.
وفي «القدوري» : قال أبو يوسف: إذا كان ماء مشترك بين رجلين، وبين أحدهما
وبين آخر تسعة وسبعون، فعلى الذي تمّ نصابه، وذلك أربعون الزكاة، وقال زفر:
لا يجب الزكاة لأنه أحسبه بالقسمة نصيب كامل، فإنه يستحق من هذه الشاة
الواحدة نصفاً ومن الباقي نصفاً، وأبو يوسف يقول: المعتبر كمال النصاب في
ملكه، وقد اجتمع في ملكه أربعون شاة، فتجب منه الزكاة. |