المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الخراج
هذا الكتاب يشتمل على ثمانية فصول:
1 * في بيان نوعه.
2 * في بيان أراضي الخراج.
3 * في بيان مياه الخراج.
4 * في بيان مقدار الخراج.
5 * في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب عليه.
6 * في الأسباب الموجبة لسقوط الخراج.
7 * في تعجيل الخراج.
8 * في المتفرقات.

(2/339)


الفصل الأول في بيان نوعه
فنقول: في الخراج نوعان: خراج الأراضي، وخراج الروس، ويسمى ذلك جزية فبذا ثنتان.
خراج الأراضي: وإنه نوعان خراج وظيفة، وخراج مقاسمة.
فخراج المقاسمة صورته: أن يفتح الإمام بلدة من بلاد أهل الحرب قهراً، أو عنوة، ويمنّ عليهم برقابهم وأراضيهم، ويقاسمهم في زروع أراضيهم، وثمار كرومهم على النصف والثلث والربع، وهذا النوع من الخراج بفعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي «أنه عليه السلام، فتح خيبر قسم بعض أراضيه بين الغانمين، ومنّ عليهم بالبعض، ووضعهم في زروع ما منّ عليهم أرزاقاً لأهله» .
وخراج الوظيفة صورتها: أن يفتح الإمام بلدة من بلاد أهل الحرب قهراً وعنوة، ويمنّ عليهم برقابهم وأراضيهم، ويوظف على الأراضي مقداراً معلوماً من الدراهم والدنانير، أو أقفزة معلومة من الطعام، وهذا النوع من الخراج عرف بقضاء عمر رضي الله عنه، «فإنه حينما فتح سواد العراق، أراد أن يوظف هذا النوع من الخراج، فاستسلمت الصحابة له إلا شرذمة قليلون، مثل بلال وغيره، ثم ندموا، ورجعوا إلى رأيه، وبعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف يقسمان الأراضي، وأمرهما أن يفرضا على كل جرين من جرين أرض الزرع درهماً، وعلى كل جرين أرض من أرض الكرم عشرة دراهم، وعلى كل جرين من أرض الرطبة خمسة دراهم ففعلا، فلما رجعا قال لهما عمر رضي الله عنه: لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق فقالا: لا بل حملناها ما تطيق، ولو زدنا لما ضاقت، فسكت عمر رضي الله عنه، وقرر على ذلك بمحضر من الصحابة» .
وروي أن عمر رضي الله عنه ندم عن ذلك، وأحب أن يزيد، فبعثهما من أخرى، وأمرهما أن يضعا على كل جرين من أرض الزرع مع الدرهم قفيزا بر، وفي رواية قفيزاً من زرع ذلك الأرض، وأن يضعا على كل جرين من أرض الرطبة مع الدراهم عشرة أقفزة من البر، وهذا فنصاب المقادير لا يثبت قياساً، إنما يثبت نصاً وسماعاً، وكأنه بلغ عمر رضي الله عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «في أشراط الساعة منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام دينارها ومدها، ومنعت مصر دينارها وإِرْدِبّها» وأراد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث الإخبار عما يكون

(2/341)


بعده، فبهذا الحديث علم عمر رضي الله عنه: أن التقدير في الخراج على هذه........

الفصل الثاني في بيان أراضي الخراج
قال محمد رحمه الله في كتاب «العشر والخراج» أرض السواد كلها خراجية، وحدّها من عذيب إلى عقبة همذان طولاً، ومن عذيب إلى السواد عرضاً، وأراد به سواد العراق، وإنما صار سواد العراق خراجياً بقصة عمر رضي الله عنه على نحو ما بينا. قال: وكذلك (149ب1) ما في سواد العراق من أرض الجبل كأراضي طبرستان، ونحوها خراجية، عرف ذلك بفعل عمر رضي الله عنه، فإن عمر وظف الخراج على أرض الجبل، كما وظف على الأرض السواد، وكذلك كل أرض فتحت قهراً وعنوة، وتركت على أهلها خراجية، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق، وكذلك كل بلدة طلب أهلها من الإمام أن يقروا ذمة لنا، فإن الإمام يجيبهم إلى ذلك، ويضع على أراضيهم الخراج، وهذا لأن وظيفة الأراضي في الأصل كانت هو الخراج، وإنما ثبت النقل إلى العشر في بعض الأراضي بسبب إسلام المالك، فبدونه لا يثبت النقل، ويبقى خراجياً كما كان في الأصل.
وكذلك الإمام إذا نقل قوماً من أهل الذمة من بلدة إلى بلدة أخرى لمصلحة رآها، فإن الأراضي المنتقل إليها أراضي خراج بما ذكرنا، وكذلك الذمي، إذا اتخذ داره مزرعة، أو كرماً يوضع عليها الخراج؛ لأن الأراضي النامية لا تخلى عن وظيفة، والوظيفة إما العشر أو الخراج، ويقدر إيجاب العشر على الذمي، فيتعين الخراج.

قال بعض مشايخنا: وعلى قياس قولهما ينبغي أن يجب العشر إذا كانت الأرض في الأصل عشرية، كالذمي إذا اشترى أرضاً عشرية، وكذلك الإمام إذا فتح بلدة عنوة، وتردد بأن يمنّ عليهم برقابهم، وأراضيهم بالخراج، وبين أن يقسمها بين الغانمين، فوظف الخراج على الأراضي، ثم بدا له أن يقسمها بين الغانمين، فقسمها، فهي خراجية، وليس هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداءً؛ لأن الخراج وضع فيها قبل القسمة، وبدون القسمة لا يثبت الملك للغانمين فيها، ولذلك أرض عشرية انقطع عنها ماء العشر، وصارت تسقى بماء الخراج، فهي خراجية، وهذا قول محمد على نحو ما بينا، في جانب العشر، وفي هذا المقام يحتاج إلى معرفة ماء الخراج، وهو:

(2/342)


الفصل الثالث في بيان مياه الخراج
فنقول: ماء الخراج ماء الآبار التي حفرت في أرض الخراج.
وماء العيون التي تظهر في أرض الخراج.
وماء الأنهار التي حفرتها الأعاجم كنهر يزدجرد.
ونهر الملك، وأشباهها؛ لأن هذه الأودية كما كانت في يد أهل الكفر، وصارت في أيدينا بطريق القهر والغلبة، فأخذ حكم الغنيمة، وأما سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات، فقد ذكرنا حكم مائها في مسائل العشر، فلا نعيده.

الفصل الرابع في بيان مقدار الخراج
فأما خراج الوظيفة، فقال محمد رحمه الله: في أرض الخراج على كل جريب يصلح للزراعة قفيز ودرهم، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الزعفران يقدر ما يطيق، أما أرض الزرع والكرم والرطبة، فالتقدير فيها من جهة عمر رضي الله عنه، وأما أرض الزعفران، فلم يرد فيها تقدير من جهة عمر؛ لأنه لم يكن بسواد العراق في ذلك الوقت، واعتبر فيها الطاقة، وهذا لأن الخراج توظيف بقدر الطاقة، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال: للذين مسحا سواد عراق لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق، فقد اعتبر الطاقة.

وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح كتاب العشر والخراج، ذكر في بعض الروايات: أن في أرض الزعفران قفيز ودرهم، والجريب اسم لستين ذراعاً بذراع الملك، وذراع الملك تسع قبضات، وذلك يرد على ذراع العامة بقبضة، هذه الجملة لفظ كتاب العشر والخراج.
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده رحمه الله: إن قول محمد: الجريب اسم لستين ذراعاً في ستين ذراعاً، فكان عن جريبهم في أرضهم، وليس بتقدير لازم في الأراضي كلها، بل جريب الأراضي يختلف باختلاف البلدان، فيعتبر في كل بلدة بتعارف أهلها، وأراد بذراع الملك ذراعاً، كان ينسب إلى ملكهم في زمانهم، وكان يزيد على ذراع العامة بقبضة، وكانت الأرض في ذلك الزمان تزرع بذراع الملك وفيه الأرض نحو الكرباس وأشباهه يزرع بذراع العامة، وأراد بالدراهم بوزن سبعة، وقد مر تفسيره في كتاب الزكاة، وأراد بالقفيز الصاع الذي كان على عهد رسول الله عليه السلام، وهو ثمانية أرطال بالعراقي، وهو أربعة أمنان، وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف، وقال: هو ثمانية أرطال وثلث رطل، وهو صاع أهل

(2/343)


المدينة، وسيأتي ذلك في مسائل صدقة الفطر، وهذا القفيز يكون من الحنطة، هكذا ذكر في موضع من كتاب العشر والخراج، وذكر في موضع آخر منه، قال: ويكون هذا القفيز بما يزرع في ذلك الأرض، وهو الصحيح قال في كتاب العشر والخراج: وينبغي أن يكال هذا القفيز بزيادة حفنتين، وتكلموا في تفسير قوله يكال بزيادة حفنتين.

قال بعضهم تفسيره: أن يضع الكيال كفيه على جانب القفيز عند الكيل من الصبرة، ويمسك ما يقع في كفيه من الطعام، ونصف القفيز مع ما بحفنتيه في جوالق العاشر، وبعضهم قالوا: معناه أن يملأ الكيال القفيز، ثم يمسح أعلى القفيز في أعلاه من الحبات، ثم يصب القفيز في جوالق العاشر بما بحفنتيه في الصبرة، ويرميها في جوالق العاشر زيادة على القفيز، وإنما شرطنا زيادة حفنتين احتياطاً لحق الله تعالى، ليخرج عن حقه بيقين، وذكر في أرض الزعفران أن خراجها بقدر ما تطيق، ومعنى الطاقة يأتي بعد هذا إن شاء الله.
ثم هذا المقدر لا يجب (150أ1) في كل سنة إلا مرة واحدة، زرع المالك مرة واحدة، أو مراراً إلا أن عمر رضي الله عنه، لما وظف هذا المقدار في السنة مع علمه أن الأرض قد تزرع مرتين، علمنا بأن المعتبر أصل الزراعة لا المرات بخلاف خراج المقاسمة والعشر؛ لأن هناك الواجب جزء الخارج فيتكرر الوجوب بتكرر الخراج الوظيفة بخلافه.
ثم ما ذكرنا في مقدار الخراج، فذلك إذا كانت الأراضي تطيق ذلك، فأما إذا كانت الأراضي لا تطيق ذلك، بأن قل ريعها، فإنه ينقص عنه إلى ما يطيق، فالنقصان عن وظيفة عمر إذا كانت الأراضي تطيق الزيادة بأن كثر ريعها، هل يجوز؟ ففي الأرض التي صدر التوظيف فيها من عمر لا يجوز الزيادة بالإجماع، وإن أطاقت الزيادة، وهذا لأن المقادير لا يعرف توقيفاً وسماعاً، والظاهر أن عمر رضي الله عنه عرف هذا التقدير من جهة رسول الله عليه السلام، وفي بعض الآثار ما يدل على هذا، وهو حديث أبي هريرة على ما روينا، وكأنه أخذ التقدير من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، والتقدير الشرعي يتبع الزيادة. مع هذا رضي عمر بهذا المقدار.

أو نقول: الصحابة أجمعوا على هذا المقدار، وإجماع الصحابة حجة شرعاً، فيمنع الزيادة، وكذلك لو أن هذا الإمام وظف على أراضي مثل وظيفة عمر، ثم أراد أن يزيد على تلك الوظيفة ليس له ذلك، وإن كانت الأراضي تطيق الزيادة، وكذلك لو أراد أن يحولها إلى وظيفة أخرى بأن كانت الوظيفة الأولى دراهم، فأراد أن يحولها إلى المقاسمة، أو كانت الوظيفة الأولى مقاسمة، فأراد أن يحولها إلى الدراهم ليس له ذلك، فإن زاد عليهم على تلك الوظيفة، أو حولها إلى وظيفة أخرى، وحكم بذلك عليهم، وكان من رأيه ذلك، ثم ولي بعده والي يريد خلاف ذلك، فإن كان الأول صنع ما صنع بطيب أنفسهم، أمضى الثاني ما فعله الأول، وإن كان الأول صنع ذلك بغير طيب أنفسهم، فإن كانت الأراضي فتحت عنوة، ثم مَنَّ الإمام بها عليهم أمضى الثاني ما صنع الأول؛ لأن

(2/344)


فعل الأول حصل في محل مجتهد فيه.B
بيانه: أن العلماء اختلفوا في الأراضي التي فتحت عنوة، ومنّ الإمام عليهم بها، منهم من قال: بأن الأراضي تصير للمسلمين ضرب عليهم الضرائب، وهكذا قالوا: سواد العراق إن جعل السواد بمنزلة العبيد للمسلمين، وجعل أراضيهم ملكاً للمسلمين، وما وضع عليهم، فهو كالضريبة التي يضربها المولى على عبده، وعبيدنا هم أحرار، والأراضي مملوكة لهم، وما يؤخذ منهم، فهو خراج كأهل بلدة من أهل الحرب ما...... مع الإمام على أن نجعلهم رقيق، فإن كان الأمر كما قال علماؤنا رحمهم الله: لا يجوز الزيادة، وإن كان الأمر كما قاله أولئك يجوز الزيادة، ويجوز التحويل؛ لأن للإمام ولاية نقل الجند من وظيفة إلى وظيفة، وأن يزيد على الوظيفة الأصلية، فإذا اجتهد الإمام حول أولئك، وحكم عليهم بالزيادة وبالتحويل، فقد حكم في فعل مجتهد فيه، فلا يكون للثاني أن يبطله بعد ذلك.

وإن افتتح الأراضي بالصلح قبل أن يظهر الإمام عليهم، وباقي المسألة بحاله، فالثاني ينقض فعل الأول؛ لأن فعله فعل في موضع لا يسوغ فيه الاجتهاد، لأن العلماء اتفقوا على أن هؤلاء أحرار، وأموالهم باقية على ملكهم، وليسوا بمنزلة العبيد للمسلمين إذ لم يوجد فيهم سبب الرق، والإمام أعطاهم الأمان بما شرط عليهم من الوظيفة، والتحويل والزيادة عليها تكون غدر بهم بالإجماع، فلم يقبل حكم الأول، فرده الثاني، بخلاف ما إذا فتحت الأراضي عنوة؛ لأن هناك وجد سبب الرق فيهم، وهو القهر والغلبة والاستيلاء، فيأتي الخلاف أن الإمام بالمن جعلهم أحراراً، أو جعلهم عبيداً للمسلمين على نحو ما بينا، الأراضي التي يريد الإمام توظيف الخراج عليها ابتداء، إذا زاد على وظيفة عمر رضي الله عنه على قول محمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف يجوز، وعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف لا يجوز، وهو الصحيح للمعنى الذي ذكرنا هذا هو الكلام خراج الوظيفة حيناً إلى خراج المقاسمة، فالتقدير فيه مفوض إلى الإمام، ولكن لا يزاد على نصف الخارج؛ لأن الشرع لم يرد بالزيادة على نصف الخارج.
ثم إن محمداً رحمه الله يعتبر طاقة الأراضي في الخراج، ومعنى الطاقة أن لا يزيد الخراج نصف الخارج؛ لأن الشرع لم يرد بالزيادة على نصف الخارج، إليه أشار في كتابه «العشر والخراج» .
وروى داود بن رشيد عن محمد: في معنى الطاقة أن يترك لكل رجل من أصحاب الأراضي من زرعه ما يقوته، ويقوت عياله، ويذره في أرضه، إلى أن يعود الزرع من قابل، وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام معنى الطاقة في أرض الزعفران فقال: ينظر إلى ما خرج من جريب الأرض من الزرع كم قيمته، فإن كان قيمته مائة ينظر إلى الواجب فيه،

(2/345)


وهو قفيز ودرهم كم يبلغ؟ فإن كان يبلغ أربعة بأن كان قيمة القفيز ثلاثة عرفت أن الواجب في المائة أربعة دراهم، ثم ينظر أن الخارج من الزعفران كم قيمته؟ فإن كان قيمته مائة يجب فيه أربعة، وإن كان قيمته (150ب1) مائتين يجب فيه ثمانية، فعلى هذا القياس يجب.

الفصل الخامس في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب
كل من ملك أرض الخراج يؤخذ منه الخراج كافراً كان، أو مسلماً صغيراً كان، أو مكاتباً، أو عبداً مأذوناً، رجلاً كان أو امرأة؛ لأن الخراج مؤنة محضة، وهؤلاء من أهل إيجاب المؤن عليهم، قال محمد رحمة الله عليه في كتاب «العشر والخراج» : وليس في النخيل والشجر شيء، فقد صح عن عمر رضي الله عنه إنما في النخيل والشجر في سواد العراق، ومضى المسألة إذا كان حول المزرعة أشجار، إلا أن لا تكون ملتفة بحيث يمكن زراعة ما تحتها، فإنه لا يجب بسبب الأشجار والنخيل وظيفة أخرى زيادة على خراج الأرض، فأما إذا كان في نفس المزرعة، فبعض المزرعة أشجار ملتفة بحيث لا يمكن زراعة من تحتها. ذكر محمد في كتاب «العشر والخراج» من أصل: أنه يوضع على كل جريب عشرة دراهم، ولم يذكر أن هذا قول مَن.
وفي «النوادر» عن أبي يوسف: أنه يوضع على كل جريب عشرة دراهم مثل ما ذكر محمد في «الأصل» ، وذكر محمد في «نوادر الزكاة» ، وفي «الجامع الصغير» أن على قوله يوضع على كل جريب بقدر ما يطيق، وبين ذكر محمد من قوله في «النوادر» وفي «الجامع الصغير» أن المذكور في الأصل قول أبي يوسف.

وجه قول محمد: أنه لم يرد في الأشجار الملتفة تقدير من جهة عمر، لأن الذي ورد منه ثلاثة مقادير؛ جريب الأرض قفيز ودرهم، وفي جريب الرطبة خمسة دراهم، وفي جريب الكرم عشرة دراهم، ففي الأشجار الملتفة يوضع بقدر الطاقة، لما مر أن المعتبر في الخراج الطاقة.
ووجه قول أبي يوسف: أنه ورد في الأشجار الملتفة تقدير من جهة عمر رضي الله عنه، فإنه روي أنه وظف على جريب النخل عشرة دراهم.
ونقول: الأشجار الملتفة في معنى الكرم؛ لأنها تسمى بستاناً فيما بين الناس، والبستان في معنى الكرم، فالمعنى الوارد في الكرم يكون وارداً في البستان، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل له أرض خراج عطلها، فعليه الخراج؛ لأنه قصد الإضرار بالمقابلة بإبطال حقهم في الخراج، فيرد عليه قصده، وذلك بإبرام الضمان، وقال في كتاب «العشر والخراج» من أصل: لو أن أرضاً من أراضي الخراجية عجز عنها صاحبها، وعطلها، وتركها للإمام أن يدفعها إلى من يقوم عليها، ويؤدي خراجها، وأراد

(2/346)


بقوله: من يقوم عليها، ويؤدي خراجها: من يعمل فيها بالخراج يأخذ الأرض، ويزرعها، ويؤدي الخراج من الغلة، ويمسك الباقي لنفسه.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب في هذه المسألة أن يؤجر الإمام الأرض أولاً وما ويرفع عنه قدر الخراج، ويمسك الباقي لرب الأرض، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» ؛ وهذا لأن الإمام نصب ناظراً لكل، وتمام نظر في الإجارة أولاً حتى لا يزول ملكهم مع اتصال حق المقابلة إليهم، فإن كان لا يجد من يستأجرها، فدفعها مزارعة بالثلث، أو الربع على قدر من يوجد مثل ملك الأرض مزارعة، فيأخذ (مقدار) الخراج من نصيب صاحب الأرض، ويمسك الباقي على رب الأرض، فإن كان لا يجد من يأخذها مزارعة يدفعها إلى من يقوم عليها، ويؤدي الخراج عنها، وعن هذه المسألة قلنا: أن للسلطان إذا دفع أراضي مملكة إلى قوم ليعطوا الخراج جاز، وطريق الجواز أخذ إلى إقامتهم مقام الملاك في الزراعة، وإعطاء الخراج والإجارة تقدير الخراج، ويكون المأخوذ منهم خراجاً في حق الإمام أجرة في حقهم.
قال: وإن لم يجد الإمام من يعمل فيها بالخراج يبيعها ويرفع الخراج عن ثمنها، ويحفظ الباقي على رب الأرض، وإنما كان كذلك؛ لأن الإمام نصب ناظراً للمسلمين وينظر رب الأرض، والمقاتلة في الترتيب الذي قلنا قبل ما ذكر أن الإمام يبيع الأراضي قول أبو يوسف، ومحمد، وأما على قول أبي حنيفة، ينبغي أن لا يبيعها؛ لأن الخراج دين، وأبو حنيفة لا يرى بيع مال المديون بغير رضاه؛ لأن في بيع ماله حجر عليه، وأبو حنيفة لا يرى الحجر على الحر.
وقيل: هذا قول الكل، وهو الصحيح؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر في موضع يعود بنفعه إلى العامة كالحجر على الطبيب الجاهل، ومنفعة الحجر هنا عائدة إلى عامة المسلمين، فيجوز البيع على قول الكل من هذا الوجه.

وذكر في بعض الكتب في هذه المسألة؛ أن الإمام يشتري ثيراناً، وأداة الزراعة، ويدفعها إلى إنسان يزرعها، فإذا حصل الغلة نأخذ منها قدر الخراج، وما أنفق عليها، وحفظنا الباقي على رب الأرض، وقال أبو يوسف: يقرض الإمام صاحب الأرض من مال بيت المال مقدار ما يشتري به الثيران والأداة، ويأخذ منه حقه، ويكتب عليه بذلك كتاباً ليزرع، فإذا ظهرت الغلة أخذ منها الخراج، ومقدار ما أقرض من مال بيت المال، فيكون ديناً على صاحب خراج الأرض، قال: وإن لم يكن في بيت المال شيء يدفعها إلى من يقوم عليها ويؤدي خراجها، وهذا كله إذا كان رب المال عاجزاً عن الزراعة بأن كان معسراً، فأما إذا كان غنياً، فالإمام يتقدم إليه، ثم لا تزرع أرضك، ولا يجيزه على العمل، ولكن يأخذ الخراج منه لترك زراعتها مع الإمكان؛ ثم إذا كان رب الأرض عاجزاً

(2/347)


عن الزراعة، وصنع الإمام بالأرض ما ذكرنا، ثم عادت قدرته، وإمكانه من العمل والزراعة يستردها الإمام ممن هي في يده، ويردها على صاحبها، إلا في البيع خاصة؛ لأن بالبيع قد زالت عن ملك صاحبها.
رجل له أرض خراج باعها من غيره فهذه المسألة على وجهين:
الأول: (151أ1) أن تكون الأرض فارغة، والجواب في هذا الوجه أنه، إن بقي من السنة مقدار ما يقدر المشتري على زراعتها قبل دخول السنة، فالخراج على البائع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «النوادر» ، فإنه ذكر في «النوادر» : إذا غرق أرض الخراج، ثم نضب الماء عنها، إن نضب الماء عنها في وقت يقدر على زراعتها ثانياً قبل دخول السنة الثانية، فلم يزرعها، فعليه الخراج، وإن نضب الماء عنها في وقت لا يقدر على زراعتها ثانياً قبل دخول السنة الثانية لا يجب الخراج، ثم اختلف المشايخ فيما بينهم أن المعتبر زرع الحنطة، والشعير، أو أي زرع كان؟ فالفقيه أبو نصر رحمه الله يعتبر أي زرع كان، والفقيه أبو القاسم يعتبر زرع الحنطة أو الشعير، وكذلك اختلفوا أنه هل يشترط إدراك الريع بكماله؟
بعضهم شرطوا، فقالوا: إذا بقي من السنة مقدار ما يتمكن المشتري من أن يزرع الأرض، ويدرك ريعها قبل دخول السنة الثانية، فلم يزرعها، فالخراج على المشتري، وإن كان بخلافه فلا خراج عليه، وإلى هذا القول مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وبعضهم لم يشترطوا إدرك الريع بكماله، وقالوا: إذا بقي من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض أي زرع، فتصير قصيلاً، فتبلغ قيمته قدر الخراج، ومثله يجب الخراج على المشتري، وإن كان بخلافه، فالخراج على البائع.
وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يختار إن بقي من السنة تسعون يوماً، فالخراج على المشتري، وإن كان أقل من ذلك، فالخراج على البائع، وهذا منه اعتبار زرع الدخن، وإدراك الريع بكماله، فإن ريع الدخن يدرك في مثل هذه المدة.
الوجه الثاني: إذا كانت الأرض مزروعة، فإن كان الزرع لم يبلغ بعد، فالخراج على المشتري على كل حال. وذكر في «نوادر مختصر عصام» وإن كان الزرع قد بلغ، وانعقد الحب كان هذا، وما لو باع أرضاً فارغة في حق هذا الحكم سواء، ويعتبر في ذلك المدة، ويكون هذا بمنزلة ما لو باع حنطة من تبنه مع الأرض.
في آخر زكاة «فتاوى أبي الليث» ، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل له أرض خراج باعها من رجل، ومكث عند المشتري شهراً، ثم باعها المشتري من رجل آخر، ومكث عنده شهر أيضاً، ثم وتم يبيع كل مشتري بعد شهر له حتى مضت السنة، فليس على واحد منهم خراج وإنه ظاهر؛ لأنه لم يكن في يد كل منهم مقدار ما يتمكن من الزراعة، حتى لو كان في المشتري الآخر مقدار ما يتمكن من الزراعة على حسب ما اختلفوا، يجب الخراج عليه.
وإذا كان للأرض ريعان خريفي، وربيعي، وسلم الواحد منهما للبائع، والآخر

(2/348)


للمشتري، أو تمكن كل واحد منهما من تحصيل أحد الريعين لنفسه، فالخراج عليهما، هكذا ذكر صدر الإسلام في شرح كتاب «العشر والخراج» .

قال محمد في كتاب «العشر والخراج» : ولو أن رجلاً له أرض خراج، وهي سبخة، لا تصلح للزرع، ولا يبلغها الماء، وهي مما يصلح أن يعالج ويزرع، فعلى صاحبها الخراج، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من به من هذا أن الخراج إنما لا يجب بشرطين أن ينقطع الماء عنها، وإن غلب عليها السبخة حتى أنه إذا انقطع الماء عن أرض، وأنها ليست بسبخة، أو كانت سبخة إلا أنه يصل الماء عليها يجب الخراج، وهذا لأن الأرض، وإن كانت سبخة إذا كان الماء يصل إليها، ولا ينقطع يمكن زراعتها وعمارتها؛ لأن عمارة الأراضي بالماء، والسبخة تزول إذا غرقت بالماء، والتمكن من الزراعة يكفي لوجوب الخراج، وكذلك إذا انقطع الماء عن الأرض إلا أنها ليست بسبخة يمكن زراعتها؛ لأن السماء تسقيه، والأنهار،....... والتمكن من الزراعة يكفي لوجوب الخراج، وعن هذا قلنا: إن ماء الخراج إذا انقطع عن أرض عاماً واحداً وعامين، فالخراج لا يسقط، لأن السماء تسقيه فينزل ذلك منزلة النهر.
فأما إذا كانت الأرض سبخة، والماء لا يصل إليها لا يجب الخراج؛ لأن الأرض السبخة، لا يمكن معالجتها وعمارتها بماء السماء، فلا يثبت التمكين من الزراعة، ثم اختلفت..... في هذه الصور، في بعضها، أن الخراج لا يجب، وفي بعضها أن الخراج يجب، والمشايخ وقفوا، فقال: موضوع المسألة في السبخة التي فيها وجوب الخراج أن يكون السبخة قليلة بأن يكون السبخة في جانب واحد من جوانب الأرض، وعامة جوانبها صالحة للزراعة، وهذا لا يوجب سقوط الخراج؛ لأن هذا يؤخذ في عامة الأراضي، وموضوع المسألة في السبخة التي فيها نفي الوجوب أن السبخة تكون عالية على الأرض كلها، وسقوط الخراج في هذه الصورة ظاهر.

وكذلك لو لم تكن الأرض سبخة في الأصل وتركها حتى صارت سبخة، فلا خراج فيها بعدما صارت سبخة، وكذلك إن كانت الأرض ذات بر لا يخرج شيئاً، فلا خراج فيها، ذكر هذين الفصلين صدر الإسلام رحمه الله.
قال ثمة أيضاً: رجل له أرض غرس مائة جريب منها كرماً، وهي مما لا يقلع سنين، ولا مما..... لا قليلاً ولا كثيراً، فإن عليه فيه ما يجب في الأرض تزرع في كل جريب قفيز ودرهم، ولا يجب عليه خراج الكرم؛ لأنه ما لم يدرك كرماً، فهو كرم اسماً لا حقيقة، وأما عليه خراج المزارع، وإن لم يبق ممكّناً من الزراعة؛ لأن فوات التمكين كان لمعنى من جهته، فيبقى على ما كان في الأصل، فإن بلغ الكرم وأثمر، وكان قيمة الخارج يبلغ عشرين درهماً فصاعداً، فعليه خراج الكرم عشرة دراهم في كل جريب، وإن كان قيمة الخارج أقل من عشرين درهماً، (151ب1) فإنه يؤخذ منه قفيز ودرهم؛

(2/349)


لأنه لو لم يزرع فيها شيئاً يؤخذ منه قفيز ودرهم، فإذا زرع وخرج شيء قليل أولى.
وذكر في بعض روايات، أنه إذا كان الخارج أقل من عشرين درهماً يؤخذ منه قفيز ودرهم؛ لأنه قد كان فيها قفيز ودرهم، فيبقى ذلك حتى يحصل له ريع الكرم عادة ذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح كتاب «العشر والخراج» : إذا زرع في الأرض الخراج الأشجار التي ليست لها ثمرة مثل الحلاف وأشباهه، ففيها قفيز ودرهم، إذا كان جريناً؛ لأنها في معنى الزرع؛ لأنها تقطع وتباع.

وذكر أيضاً: إذا غرس نخيلاً وأشجاراً أخرى مثمرة تلتف في جميع الأرض، وهي جرين ففيها عشرة دراهم، وإن لم يبلغ، هكذا ذكر في بعض الروايات بخلاف شجر الكرم؛ لأن شجر الكرم ليس لها قيمة كثيرة، بل قيمتها مثل قيمة الزرع، فيجب فيها ما يجب في الزرع إلى أن يبلغ، فإن قيمة الأشجار والنخيل المثمرة كثيرة مثل قيمة الكرم المدركة، فيجب فيها ما يجب في الكرم المدركة، وإذا استأجر الرجل أرضاً، وزرعها أو استعار أرضاً وزرعها، والخراج خراج وظيفة، فالخراج على الأجر والمعير؛ لأن الخراج الوظيفة وعُدَّ به معتمد التمكن من الزراعة، وصاحب الأرض يمكن من الزراعة ههنا؛ لأن المستأجر والمستعير إنما تمكنا من ذلك بتمكنه.

وإن غصب من آخر أرضاً، وزرعها، والخراج خراج وظيفة، فإن لم تنقص الزراعة الأرض، فالخراج على الغاصب؛ لأنه بقدر إيجابها على المالك أمكن إيجابها على الغاصب، بيانه: أن وجوب خراج الوظيفة إن كان يعتمد سلامة الخارج، فالخارج لم يسلم للمالك لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأنه لم يسلم له بدل ما استوفى الغاصب من منفعة الأرض شيء، فهي لم تنقص الزراعة الأرض حتى يجعل سلامة البدل له كسلامة المبدل، فإن كان يعتمد التمكن من الزراعة، فالمالك لم يتمكن من الزراعة؛ لأن الكلام فيما إذا كان الغاصب جاحداً، ولم يكن للمالك بينة عادلة حتى لو كان الغاصب مقر، وكان للمالك بينة عادلة، فقد اختلف المشايخ.
قال بعضهم: يجب الخراج على المالك.
وقال بعضهم: يجب على الغاصب على كل حال، وإن تمكن المالك من الزراعة، إلا أنه يسقط التمكن إذا خرج الحب، ويتعلق الواجب بالحب، ألا ترى أنه يسقط الواجب إذا فات الحب من غير صنع صاحب الأرض ورضاه بأن اصطلم الزرع آفة؟ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وروي عن أبي يوسف أن الخراج على المالك في هذه الصورة، وأما إذا أنقصتها الزراعة غرم الغاصب النقصان، وعلى قول أبي حنيفة: الخراج على رب الأرض؛ لأن الخارج قد سلم للمالك اعتباراً حيث سلم له بدله، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن محمد روايتان:
في رواية، قال: إن كان النقصان أقل من الخراج، فالخراج على الغاصب، ويدخل في ذلك النقصان حتى لا يضمن الغاصب لرب الأرض نقصان الأرض.
وإن كان النقصان مثل الخراج وأكثر منه، فالخراج على رب الأرض.

(2/350)


وفي رواية قال: بمقدار ما حصل من ضمان النقصان يجب على رب الأرض والباقي على الغاصب، وهو رواية عن أبي يوسف.
في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل اشترى أرضاً خراجية، وبنى فيها داراً، فعليه الخراج، وإن لم يبق متمكناً من الزراعة؛ لأن التمكن إنما فات بصفة، وسيأتي في الفصل الذي يليه بخلاف هذا.

الفصل السادس في بيان الأسباب الموجبة لسقوط الخراج
قال محمد رحمه الله: إذا زرع الرجل أرضه الخراجية، فأصاب زرعها آفة فاصطلمه، فلا خراج عليه، فرق بين هذا، وبينما إذا لم يزرعها.

والفرق: أن الذي لم يزرعها قصد الإضرار بالمقاتلة، فيرد عليه قصده، فأما الذي هلك زرعه لم يقصد الإضرار بالمقاتلة بل بذل جهده وأتى بما في وسعه؛ ولأن وجوب الخراج باعتبار النماء فقضية هذا يكون الحكم متعلقاً بحقيقة النماء، إلا أن الشرع أقام التمكن من تحصيل النماء؛ لكونه مفضياً إلى النماء مقام حصول النماء في موضع قصر في تحصيل النماء كما أقام التمكن من استيفاء المنفعة، في باب الإجارة مقام استيفاء المنفعة، وإذا زرعها، وخرج الحب تعلق الحكم بحبه الخارج، وسقط اعتبار التمكن واعتبار السبب، هذا هو الأصل المعهود في الشرع، إن حقيقة العلة مع السبب الظاهر إذا اجتمعا يتعلق الحكم حقيقة بالعلة لا بالسبب أن السبب في معنى الخلف بعد وجود الأصل وإذا تعلق الواجب حقيقة بالخارج في هذه الحالة أشبه العشر، وخراج المقاسمة، وذلك يسقط بهلاك الخارج ويسلم بسلامته كذا ههنا. هذا إذا ذهب كل الخارج، فأما إذا ذهب بعض الخارج، فإن بقي من الخارج مقدار الخراج بأن بقي مقدار درهمين وقفيزين يجب الخراج؛ لأن الخراج ههنا لا يزيد على نصف الخارج، فيمكن إيجابه إذ الشرع ورد بالخراج إلى نصف الخارج كما في خراج المقاسمة، وإن بقي أقل من مقدار الخراجِ ومثلِهِ لا يجب تمام الوظيفة، وإنما يجب قيمة نصف الخارج؛ لأنا لو أوجبنا الوظيفة بتمامها زاد الخراج على نصف الخارج والشرع لم يرد بمثله.
قال (152أ1) مشايخنا: والصواب في مثل هذا أن ينظر الإمام أولاً، إلى ما أنفق هذا الرجل في هذه الأرض، وينظر إلى الخارج، فيحتسب له ما أنفق، فيرفع أولاً من الخارج، فإن فضل شيء منه أخذ منه الخراج على نحو ما بينا.

قال مشايخنا: وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» ، أن الخراج يسقط بهلاك جميع الغلة محمول على ما إذا لم يبق من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض ثانياً، قبل دخول السنة الثانية، أما إذا بقي من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض ثانياً قبل دخول السنة

(2/351)


الثانية، فلم يزرعها لا يسقط عنه الخراج، ويؤيده مسألة «النوادر» على ما تقدم ذكرها.
وذكر القاضي الإمام المظفر رحمة الله عليه في «شرح كتاب العشر والخراج» أن الخراج إنما يسقط بهلاك الغلة إذا كان الهلاك بآفة سماوية لا يمكن التحرز عنها، كالحرق والغرق والبرد وغيرها، أما إذا كان الهلاك بآفة يمكن الاحتراز عنها، كأكل السبع ونحو ذلك، لا يسقط الخراج؛ لأن التقصير جاء من قبل صاحب الأرض، حيث لم يحفظ.
وبعض مشايخنا قالوا: لا خراج، وإن هلك بآفة يمكن التحرز عنها، والقول الأول أصح، ويسقط خراج الأراضي الموت من عليه إذا كان خراج وظيفة، في ظاهر الرواية من أصحابنا، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه لا يسقط، ورفع الفرق بين الخراج وبين العشر على ظاهر الرواية، وعلى رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة، فإن العشر لا يسقط بموت من عليه في ظاهر رواية أصحابنا، وفي رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة يسقط، أما الفرق على رواية ابن المبارك أن العشر عبادة نظير الزكاة، ثم الزكاة تسقط بالموت، فكذا العشر، أما الخراج فليس بعبادة، بل مؤنة محضة والمؤنة لا تسقط بالموت، وأما الفرق على ظاهر الرواية، أن الخراج صلة تستحق على صاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض لا يسلم له عوض بإزاء ما يعطي، فيشبه من هذا الوجه نفقة الزوجات، فإنها تسقط بالموت، فكذا الخراج.
g
فأما العشر فليس بصلة، بل هو في معنى الأعواض؛ لأن الخارج يجب شركاً بين صاحب الأرض، وبين الفقير، وما كان عوضاً لا يسقط بالموت كثمن المبيع، وما أشبهه.

وفي «الفتاوى» : إذا جعل الرجل أرضه الخراجية مقبرة، أو خاناً للغلة، أو مسكناً للفقراء سقط الخراج؛ لأن سبب الخراج أرض تصلح للزراعة، وقد انعدمت الصلاحية، فيسقط ضرورة.
خراج الأراضي إذا توالى على المسلمين سنون: فعند أبي يوسف ومحمد: يؤخذ بجميع ما مضى، وعند أبي حنيفة لا يؤخذ إلا بخراج السنة التي هو فيها، والاختلاف هنا نظير الاختلاف في الجزية، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرح السير الصغير» ، وذكر صدر الإسلام: الصحيح أنه يؤخذ.

الفصل السابع في تعجيل الخراج
ذكر محمد رحمه الله في «نوادر الزكاة» : إذا جعل خراج أرضه لسنة أو سنين، فإنه يجوز؛ لأنه أدى الواجب بعد انعقاد سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب الخراج الأرض النامية، ومحله الذمة، وقد وجدنا بعقد السبب كما في باب الزكاة.
في «المنتقى» : رجل عجل خراج أرضه، ثم غرقت الأرض في تلك السنة، قال: يرد عليه ما أدى من خراجه، فإن زرعها في السنة الثانية حسب له، وعن محمد: في رجل أعطى خراج أرضه لسنين، ثم غلب عليها الماء، وصارت دجلة قال: يرد عليه إذا كان

(2/352)


قائماً بعينه، وإن كان قد دفعه، فلا شيء عليه يريد به: إذا كان صرفه إلى المقاتلة، فلا شيء عليه، فقد راعى شرطاً، وهو كون المدفوع قائماً بعينه؛ لأن الخراج في حق المصروف إليه في معنى الصلة، والصلات إذا أمضيت لا يتبعها تبعة.

الفصل الثامن في المتفرقات
وإن وجوب الخراج عند أبي حنيفة رحمه الله أول السنة لكن بشرط بقاء الأرض النامية في يديه سنة، إما حقيقة، أو اعتباراً السلطان إذا جعل خراج الأرض لصاحب الأرض، وترك عليه يجوز عند أبي يوسف، وقال: أبو يوسف.... أن السلطان لو قبض الخراج من ضاحية الأرض، ثم رأى الصرف إليه أولى كان له ذلك ولا فائدة في أخذ ثم دفع، وقال محمد رحمه الله؛ لا يجوز، رواه ابن سماعة عنه، ويتبقى لمن عليه أن يؤدي ما عليه من الخراج، وإن جعل العشر لصاحب الأرض لا يجوز بالإجماع، محمد سوى بينهما من حيث أن الحق فيهما للعامة، فلا يجوز تخصيص البعض به.
وفي «نوادر هشام» : إذا جعل السلطان خراج الأرض لصاحب الأرض يجوز من غير ذكر خلاف، وعن أبي يوسف: السلطان إذا ترك الخراج لمن يعلم أنه ليس بمحل لصرف الخراج إليه ينبغي أن يجهز غادياً ويتصدق به على المساكين، وهذا لأن مصرف الخراج المقاتلة، وإن فضل، فالمصرف المساكين المتروك له قادر على الصرف إلى المقاتلة، وإلى المساكين فله ذلك.
وعنه أيضاً: والي الزكاة إذا ترك لرجل خراجه، فليجهز غازياً، أو يتصدق به على المساكين، وإلا لم يسعه، وأراد بوالي الزكاة العاشر ومن بمعناه، إذا فوض إليه أخذ الأخرجة، ولم يكن والياً مطلقاً عام الولاية، فترك الخراج منه لا يصح؛ لأن المفوض إليه مجرد الأخذ.

قال في كتاب «العشر والخراج» : إذا كان للرجل أرض خراج لا يسعه يأكل منها حتى يؤدي خراجها، قال بعض مشايخنا: هذا (152ب1) إذا كان الخراج خراج مقاسمة؛ لأنه بمعنى العشر بعض الخارج، فيصير أكله من غلة مشتركة، أما إذا كان الخراج خراج وظيفة، فهو يجب في الذمة لا تعلق له بالمحل، فكان الخارج حق صاحب الأرض على الخلوص، فيجعل له التناول، وبعضهم قالوا: وإن كان الخراج خراج وظيفة، فالجواب يكون كذلك أيضاً؛ لأن الخارج محبوس بالخراج، فإن للسلطان أن يحبس الغلة إلى أن يستوفي الخراج، فهو بمنزلة المبيع إذا كان محبوساً بالثمن، ولا يحل للمشتري تناول المبيع قبل أداء الثمن، كذا هذا.

(2/353)


قال في «الجامع الصغير» : إذا كان للرجل أرض زعفران، فترك الزعفران بغير عذر، وزرع فيها الحبوب يوضع عليه خراج الزعفران، وكذلك من انتقل إلى أحد الأمرين بغير عذر، بأن كان له كرم مثلاً، أو زرع فيها الحبوب، يؤخذ منه خراج الكرم؛ لأنه هو الذي صنع الزيادة، فصار كما لو عطل أرضه.
وفي كتاب «العشر والخراج» ، إذا أجر أرضاً تصلح للزراعة من الأراضي الخراجية من رجل، فجعلها المستأجر كرماً، ذكر في بعض الروايات: أن مقدار خراج المزرعة على رب الأرض، والزيادة إلى تمام خراج الكرم على المستأجر؛ لأنها إنما صارت كرماً بصنع المستأجر.
السلطان الجائر إذا أخذ خراج الأراضي خرج صاحب الأراضي عن العهدة؛ لأنهم يضعون الخراج مواضعها، وهم المقاتلة.
في «فتاوى أبي الليث» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : السلطان إذا لم يطلب خراج الأرض، فعلى أصحاب الأراضي أن يتصدقوا به على الفقراء، ولو طلب السلطان الخراج وتصدق من عليه بنفسه لا يجزئه.
إذا اشترى أرضاً من أراضي الخراج، ولم يقبضها، أو قبضها، ولكن منعه إنسان عن زراعتها، فلا خراج عليه؛ لأن الخراج إنما يجب على المالك، ليتمكن من الزراعة وفي «فتاوى أبي الليث» : فيه خراج أراضيها على التعاون.

طلب من ثقل خراج أرضه تسوية خراج أراضي القرية، قال الفقيه أبو القاسم: إذا لم يعرف ابتداء وضع الخراج على هذه القرية أنه كان على التساوي أو على التفاوت ترك على حاله.
وفي كتاب «العشر والخراج» ، وينبغي للوالي أن يولي الخراج رجلاً يرفق بالناس ويعدل عليهم في خراجهم، وأن يأخذهم بالخراج كلما خرجت غلة، فيأخذهم بقدر ذلك حتى يستوفي تمام الخراج في آخر الغلة، وأراد بهذا أن يوزع الخراج على قدر الغلة، حتى إن الأرض إذا كان يزرع فيها غلة الربيع وغلة الخريف، فعند حصول غلة الربيع ينظر المتولي أن هذه الأرض كم تغل غلة الخريف بطريق الحزر والظن؟ فإن وقع عنده أنها تغل مثل غلة الربيع، فإنه ينصف الخراج، فيأخذ نصف الخراج من غلة الربيع، فيؤخر النصف إلى غلة الخريف، وهذا لأن وجوب الخراج باعتبار الريع، ولهذا لو هلك الريع يبطل الخراج، فيتوزع على الريع، وبهذا لو هلك الريع يبطل الخراج، فيتوزع على الريع، وكذلك يفعل في البقول ينظر إن كان مما يخرج خمس مرات يأخذ من كل مرة خمس الخراج، وإن كان مما يخرج أربع مرات يأخذ من كل مرة ربع الخراج، وعلى هذا القياس، فافهم.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : ضيعة لرجل بعضها كروم، وبعضها قراح، فاشترى قوم الكروم، واشترى قوم القراح، فإن كان حصة الكروم من الخراج معلومة من الابتداء وحصة القراح، كذلك يبنى الحكم عليه، وإن كان خراج يخرج جملة ولا يعلم حصة

(2/354)


الكروم، ولا حصة القراح من الابتداء، فإن كان الكرم كرماً من الابتداء لم يعرف إلا هو كرم، والأرض القراح كذلك كان على الكروم وعلى القراح، فإن كان الكل دراهم يقسم على قدر المنافع، فإن كان موضع الكرم قراحاً في الأصل، ثم جعل كرماً من بعد قسم الخراج على الأرض القراح، فإن الكل كذلك، والله أعلم.

وفي «مجموع النوازل» قال إبراهيم بن يوسف: سألت أبا يوسف عن رجل ارتد، ولحق بدار الحرب، والعياذ بالله، وله كروم، وأرض خراج وورق، ثم رجع مسلماً بعد الحول، والمال قائم، قال: ليس عليه في الدراهم شيء، ويؤخذ منه العشر والخراج. انتهى بيان النوع الأول، وهو خراج الأراضي بيقين.
جئنا إلى بيان النوع الثاني، وهو خراج الروس، فنقول: ترك الكافر في دار الإسلام بالجزية جائز عرف ذلك بالكتاب، وبفعل النبي صلى الله عليه وسلّم وإجماع الصحابة من بعده.
أما الكتاب بقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29) والأمر بقتال الكفرة إلى غاية إعطاء الجزية، فهذا يدلك على أن ترك الكفرة بالجزية جائز.
وأما فعل النبي عليه السلام؛ فلأنه ترك كثيراً من الكفار على الكفر بالجزية.
وأما إجماع الصحابة، فإن عمر رضي الله عنه «بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف لتوظيف خراج الأراضي، والروس بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً» .
بعد هذا يحتاج إلى معرفة من يقبل منه الجزية ومن لا تقبل، وإلى معرفة ما يجب عليهم، وإلى معرفة وقت وجوبه، وإلى معرفة ما يوجب سقوطه وإلى معرفة ما يؤاخذون به بعد صرف الجزية (153أ1) وقبول عقد الذمة.
أما بيان من تقبل منه الجزية.
فنقول: تقبل الجزية من جميع أهل الكتاب بلا خلاف سواء كانوا من العرب، أو من العجم، ولا تقبل من مشركي العرب، وعبدة الأوثان، والمرتدين بلا خلاف، وتقبل من مشركي العجم من عبدة الأوثان عندنا، وتقبل من المجوسي بلا خلاف، والمسألة تأتي في كتاب «السير» إن شاء الله تعالى.
وأما بيان ما يجب عليهم:
فنقول: أهل الذمة في حق ما يجب عليهم أنواع ثلاثة التغلبي والنصراني من النصارى وسائر أهل الذمة.
أما التغلب: ي فالواجب عليه الصدقة المضاعفة اتباعاً لصلح عمر رضي الله عنه معهم.
وأما النصراني: فالواجب عليهم الحلل اتباعاً لصلح رسول الله عليه السلام.

وأما سائر أهل الذمة قالوا: الواجب على المعتمل منهم الجزية على الترتيب الذي نبين بعد هذا، وتكلموا في معنى المعتمل والصحيح من معناه الذي يقدر على العمل، وإن لم يحسن حرفته، وإنما خصصنا القادر على العمل بإيجاب الجزية حتى لا تجب على المقعد، والأعمى والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الكسب؛ لأن الجزية لا تجب إلا على المقاتلين؛ لأنها عقوبة للمقاتلين، ولهذا لا يجب على النسوان والصبيان، وكذلك لا تجب على العبيد والمكاتب والمدبرين؛ لأنهم لا يملكون القتال شرعاً؛ لأنهم لا يملكون ماله قوام القتال، وهو البدن، فبسبب أن الجزية عقوبة المقاتلين، والذي لا يقدر على

(2/355)


العمل لا يقدر على القتال، فلا يجب عليه الجزية، فشرطنا القدرة على العمل لهذا.
ثم القادر على العمل. إن كان معسراً، فعليه اثني عشر درهماً، وإن كان وسط الحال، فعليه أربعة وعشرون درهماً، وإن كان غنياً فعليه ثمانية وأربعون درهماً، وإنما اعتبرنا هذا الترتيب؛ لأن الجزية عقوبة باليد، والغني أمثل لهذه العقوبة من الفقير، فشرع في حق الغني أكثر مما شرع في حق الفقير استدلالاً بسائر العبادات المالية، فأصل التفاوت بتفاوت الغنى معقول، والتقدير اتبعنا فيه الشرع، وقد ورد أن الشرع بنى التقدير على الترتيب الذي بينا، فقد صح أن عمر رضي الله عنه حين بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى سواد العراق ليوظف الخراج، والجزية، وظفا الجزية على الترتيب الذي ذكرنا، وقدر عمر رضي الله عنه ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً، وتكلم العلماء في معرفة الغني والفقير والوسط.

حكي عن عيسى بن أبان أنه قال: الفقير المعتمل الذي لا مال له، وإنما يعيش بكسب يده في كل يوم، وإنما يؤخذ منه اثنا عشر درهماً، إذا كان يفضل شيء من كسبه عن قوته وقوت عياله، أما إذا كان لا يفضل شيء من قوته وقوت عياله، فإنه لا يؤخذ منه شيء، وهكذا ذكر في «النوادر» عن محمد.

وأما الوسط فهو الذي له مال إلا أن ذلك المال لا يكفيه مَدَّ عمره، فيحتاج إلى العمل في بعض الأوقات لرحبة عمره.
وأما الغني، فهو الذي له مال يكفيه لعمره من غير أن يعمل فيه.
وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يعتبر في كل بلدة عرفها، فمن عده الناس في بلدهم فقيراً أو وسطاً أو غنياً، فهو كذلك، وهو الأصح، وتؤخذ الجزية من قسيسهم ورهبانهم، هكذا ذكر في كتاب «العشر والخراج» ، وفي آخر «السير الكبير» أن عند أبي حنيفة تؤخذ، منهم الجزية، وعندهما لا تؤخذ ولا تؤخذ من المجنون والمعتوه.
وأما بيان وقت وجوب الجزية، فنقول: الجزية تجب بأقل الحول عندنا، حتى كان للإمام أن يطالبه بالجزية متى قبل عقد الذمة، والاستيفاء في آخر الحول بطريق التخفيف، والتأجيل عند أبي حنيفة، وهذا لأن الجزية خلف عن القتل، وبعقد الذمة سقط الأصل، فيجب خلفه في الحال غير أن الحول تخفيف وتأجيل عند أبي حنيفة، فيؤخذ في آخر الحول قبل دخول الحول الثاني.
وعن أبي يوسف أنه قال: يؤخذ في كل شهرين يقسط ذلك.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: يعامل على الجزية كالضريبة كلما مضى شهران، أو نحو ذلك أخذ منه شيء، ولا يؤخذ منه جميع ذلك حتى تتم السنة، وعن محمد أنه يؤخذ في كل شهر بقسطه.
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف إذا احتلم الغلام من أهل الذمة في أول السنة قبل أن توضع الجزية على رؤوس الرجال، وهو موسر، وضع عليه الجزية، وإن أسلم بعدما وضعت الجزية على رؤوس رجال لم يؤخذ عنه لتلك السنة، هذا الفصل بناءً على ما قلنا إن وجوب الجزية وتوظيفها في أول السنة، فراعى أهلية التوظيف في تلك الحالة،

(2/356)


وعلى هذه المجنون يعتق، والمملوك يعتق، والحربي إذا صار ذمة أول السنة، أو آخرها.

وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا أغمي عليه، أو أصابه زمانة، وهو موسر أخذت منه الجزية، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف رواية «الأصل» ، معنى المسألة إذا أغمي عليه، أو أصابته زمانة في آخر السنة، فعلى رواية هذا الكتاب شرط أخذ الجزية أهلية الوجوب من أول الحول إلى آخره.
وأما بيان ما يوجب سقوطه، فمن جملة ذلك الموت، وإنه على وجهين:
إما أن يموت في بعض السنة، أو بعد تمام، وكيف ما كان لا يؤخذ من تركته؛ لأنها عقوبة الكفر وجبت للزجر عن الكفر، وهذا المقصود (153ب1) لا يتحقق بعد الموت، فيسقط ضرورة، وكذلك يسقط بالإسلام لما ذكرنا.
وفي «المنتقى» عن محمد: نصراني عجل خراج رأسه لسنتين، ثم أسلم قال: يرد إليه خراج سنة، وإن أدى خراج سنة، ثم أسلم في أول السنة لم يرد إليه، وهذه مسألة بناءً على ما قلنا: إن وجوب الجزية في الأولى لسنة، والخطاب بالأداء في آخر السنة، أو متفرق على أشهر السنة على حسب ما اختلفوا، فإذا أدى في أول سنة خراج هذه السنة، وخراج سنة أخرى على سبيل التعجيل، ثم أسلم ففي السنة الأولى وجد المانع من الوجوب قبل الوجوب، وفي هذه السنة عقوبة استوفيت بعد الوجوب، فلا يجب الرد.
قال محمد رحمه الله في كتاب «العشر والخراج» : قوم لم يؤخذ منه خراج رأسه على ما وظف حتى جاء سنة أخرى لا يؤدي، لما مضى عند أبي حنيفة.
وعندهما يؤخذ، ولعل المسألة أن الجزية إذا اجتمعت وتوالت تداخلت عند أبي حنيفة، وعندهما لا.

هما يقولان: إن امتداد المدة يؤكد السبب، وما يؤكد السبب لا ينافي حكم السبب.

بيانه: أن سبب الجزية الكفر، والكفر يتغلظ لطول المدة، ولأبي حنيفة أن الجزية في حق من تجب عليه عقوبة الكفر شرعت الزجر عن الكفر، وفي حق المصروف إليهم، وهم مقاتلة خلف عن النصرة بالبدل، فإن نظرنا إلى معنى العقوبة، فالعقوبات إذا اجتمعت تداخلت؛ لأن الزجر يحصل بالواحد؛ لأن الزجر لا يحصل في الماضي، وإنما يحصل في المستقبل، والواحد يكفي لذلك، وإذا عمي، أو صار مقعداً، أو شيخاً كبيراً لا يقدر على العمل لا يؤخذ لما مضى بالاتفاق، أما على قول أبي حنيفة فظاهر، وأما على قولهما؛ فلأن الجزية إنما تؤخذ بطريق العقوبة، وهؤلاء ليسوا من أهل هذه العقوبة.
وأما بيان ما يؤخذون به بعد ضرب الجزية وقبول عقد الذمة.
قال محمد رحمه الله: في آخر «الجامع الصغير» ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السرج كهيئة الأكف، وقال في كتاب «العشر والخراج» : وينبغي أن لا يترك أحد من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في ملبوسه ولا مركوبه، ولا في

(2/357)


زيه وهيئته، والمعنى: أنا لو تركناهم يتشبهون بنا في هيئة اللباس والمركب كنا متشبهين بهم، وقد نهينا عن التشبه بهم بقدر الإمكان، والإمكان في أصل اللباس إن لم يكن ثابتاً، ففي هيئة اللباس ثابت، فوجب المخالفة فيه؛ ولأنهم من أهل الصغار، والمسلمون من أهل العز، فيجب إظهار المخالفة في الزي، والهيئة ليقع التمييز بيننا وبينهم، فلا يذل المسلم، ولا يعز الكافر، ولأنا نهينا عن بدايتهم بالسلام والتحية. قال الله تعالى: {لا تتخذوا عدوي} إلى قوله: {تلقون إليهم بالمودة} (الممتحنة: 1) ، فلا بد من علانية يعرفهم كيلا يحسبهم مسلمين، فيبدأهم بالتحية، ويمنعون عن ركوب الفرس؛ لأن من باب العز، وهم من أهل الصغار، فيمنعون عنه إلا إذا وقعت الحاجة إلى ذلك بأن استعان بهم الإمام في المحاربة، والذب عن المسلمين، هكذا ذكر شيخ الإسلام.
وذكر صدر الإسلام: ويمنعون عن ركوب الأفراس الفاخرة؛ إلا الكوادن قال شيخ الإسلام: ولا يمنعون عن ركوب البغل، لأنه نتج الحمار، ولا يمنعون عن ركوب الحمار؛ لأن كل أحد لا يقدر على المشي، ولكن يمنعون من أن يضعوا على المركب سرجاً كسرج المسلمين، وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل الرمان، والأصل في هذا كله ما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى أمراء الأمصار والجنود أن لا يتركوا أهل الذمة يتشبهون بالمسلمين في ثيابهم ومركبهم» .
واختلفوا في قوله: وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل مقدم الأكاف وهو مثل الرمان، وقال بعض مشايخنا:..... أن تكون سروجهم كسروج المسلمين، وعلى مقدمها شيء كالرمان والأول أصح، فإنه أقرب إلى موافقة رواية «الجامع الصغير» .
قال: ويمنعون لبس الرداء والعمائم، والدباغة التي يلبسها علماء الدين؛ لأن فيه تشدقاً، وينبغي أن يلبسوا ملابس مضربة، وكذلك يمنعون أن يكون شراك نعالهم كشراك نعالنا، وفي ديارنا لا يلبس الرجال النعال، وإنما يلبسون المكاعب، فيجب أن تكون مكاعبهم على خلاف مكاعبنا، وينبغي أن تكون خشنة فاسدة اللون، ولا تكون مزينة تحقيراً لهم، وينبغي أن يؤخذ..... يتخذ كل إنسان منهم بمثل الخيط الغليط يعقد على وسطه به أمر عمر رضي الله عنه، والمعنى فيه أن المقصود هو العلامة، ليقع التمييز بين المسلمين وبينهم، والغالب وقوع البصر على الوسط، وكان الوسط في تحصيل هذا المقصود أبلغ، وينبغي أن يكون ذلك من الخيط أو الصوف، ولا يكون من الإبريسم وينبغي أن يكون غليظاً، ولا يكون رفيعاً بحيث لا يقع البصر عليه، إلا وأن يدقق النظر قال شيخ الإسلام: أن يعتمد الخيط ويربط عقداً، ولا يجعل له حلقة يشده كما يشد المسلم المنطقة، ولكن يعلقون على الحقارة، واندفاع التلبيس في هذا أشد، ولا يتركون أن يلبسوا خفافاً مزينة، وينبغي أن تكون (154أ1) خفافهم خشنة فاسدة اللون.

(2/358)


وكذا لا يتركون أن يلبسوا أقبية خشنة من كراس، أراد أنها طويلة وذيولهم قصيرة، وكذلك يلبسون قمصاً خشنة من كربيس جيوبهم على صدورهم كما يكون النسوان، وهذا كله إذا وقع الظهور عليهم، فأما إذا وقع معهم الصلح على بعض هذه الأشياء، فإنهم يتركون على ذلك، ثم اختلف المشايخ بعد هذا أن المخالفة بيننا وبينهم شرط بعلامة واحدة أو بعلامتين، أو بالثلاث، قال بعضهم: بعلامة واحدة إما على الرأس كالقلنسوة الطويلة المصرية، أو على الوسط، كالكستيج، أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا ومكاعبنا، لحصول ما هو المقصود وهو التمييز بالعلامة الواحدة، وقال بعضهم: لا بد من الثلاث؛ لأن التمييز لا يحصل بالواحدة لا محالة؛ لأن البصر قد يقع على الرأس لا غير، وقد يقع على الوسط لا غير، وقد يقع على الرجل لا غير، والمقصود هو التمييز وقت اللقاء وقت وقوع البصر عليهم حتى لا يعظمهم، فلا يبدئهم بالسلام، ومنهم من قال: في النصراني يكتفي بعلامة واحدة، وفي اليهود يحتاج إلى علامتين، وفي المجوس يحتاج إلى ثلاث علامات، وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، ووجه ذلك أن هذه العلامات تشعر بالذل والصغار، وإنما صاروا مستحقين للذل والصغار بالكفر، فيزداد بزيادة غلظ الكفر، وينتقص بخفة الكفر، وكفر المجوسي أغلظ من كفر اليهود، والنصارى؛ لأنهم أنكروا نبوة جميع الأنبياء، فشرط في حقهم ثلاث علامات زيادة في ذلهم وصغارهم، وكفر اليهود بعد ذلك أغلط من كفر النصارى؛ لأن اليهود يجحدون نبوة نبيين نبوة نبينا ونبوة عيسى.
والنصارى يجحدون نبوة نبي واحد، وهو نبينا، وكان كفر اليهود أغلظ، فشرط في حقهم علامتان، واكتفي في حق النصراني بعلامة واحدة، قال شيخ الإسلام: والأحسن أن يكون في الكل ثلاث علامات، ليقع الامتياز لا محالة، وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: إن صالحهم الإمام، وأعطاهم الذمة بعلامة واحدة، لا يزاد عليها، وأما إذا فتح بلدة قهراً وعنوة كان للإمام أن يلزمهم بعلامات، وهو الصحيح.
m
ولا يتركون حتى يحدثوا كنيسة أو بيعة، وبيت نار في مصر من أمصار المسلمين، قال عليه السلام: «لا كنيسة ولا بيعة في الإسلام» ؛ ولأن في إحداث البيع والكنائس في الأمصار إعلان دين الكفر، ونحن إنما أعطيناهم الذمة بشرط أن لا يعلنوا ما كان في دينهم ولا يمنعون من إحداث الكنائس في القرى في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنهم يمنعون من إحداث الكنائس في القرى، كما يمنعون من ذلك في الأمصار، وهكذا ذكر محمد في كتاب «العشر والخراج» ؛ لأن في إحداث الكنائس إعلان دين الكفر، وقد منعوا عن إعلان دين الكفر في القرى كما يمنعون عنه في الأمصار، ألا ترى أنهم يمنعون من إظهار الخمور والخنازير ومنع الربا في القرى كما يمنعون عن ذلك في الأمصار؟ فكذا يمنعون عن إحداث الكنائس في القرى كما يمنعون عن ذلك في الأمصار.

(2/359)


وظاهر رواية أصحابنا: أن إحداث الكنيسة والبيعة مباح بعينه؛ لأنه بناء وعمارة، والبناء والعمارة مباح في الإسلام، ولهذا لو وجد مثل ذلك من المسلمين كان مباحاً، وإنما تحريمه لأجل قصدهم هذا البناء المعصية، وكان حراماً لغيره، فلكونه حراماً لغيره منعوا عن إحداثها في الأمصار، ولكونه مباحاً لعينه لم يمنعوا عن إحداثها في القرى توفيراً على الشبهين حظهما، بخلاف بيع الخمر والخنزير؛ لأنه حرام ومعصية لعينه، وهم منعوا عن إظهار المعاصي في دار الإسلام، فأما إذا كانت الكنيسة قديمة، ففي القرى تترك القديمة بلا خلاف، وفي الأمصار كذلك يترك القديمة على رواية الإجارات، وعامة الكتب، وعلى رواية كتاب العشر لا يترك القديمة، وبرواية كتاب العشر أخذ الحسن، وعلى هذا إذا كان لهم كنيسة في قرية، فبنى أهلها فيها أبنية كثيرة، وصارت من جملة الأمصار أمروا بهدم الكنيسة على رواية كتاب العشر، وعلى عامة الروايات لا يؤمرون بذلك، وهكذا إذا كانت لهم كنيسة بقرب من المصر، فبنو حولها أبنية حتى اتصل ذلك الموضع بالمصر، وصار كمحلة من محال المصر، أمرهم الإمام بهدم الكنيسة على رواية كتاب العشر، وعلى عامة الروايات لا يؤمرون بذلك، وبرواية كتاب العشر أخذ الحسن بن زياد، والصحيح ما ذكر في عامة الروايات بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أيما أرض صَّر به العرب، فليس لأحد من أهل الذمة أن يبنوا فيها بيعة، ولا كنيسة ولا بيت نار وأن يبيعوا فيها خمراً أو أن يضربوا فيه بناقوس، وما كان قبل ذلك، فحق على المسلمين أن يوفوا لهم» ؛ ولأنه جرى التوارث فيه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا، تترك الكنائس في الأمصار من غير (154ب1) نكير منكر، وتوارث الناس من غير نكير منكر حجة شرعاً.

ثم هذه الرواية فيما إذا ظهر الإمام عليهم من غير صلح، فأما إذا وقع الصلح بينهم، وبين الإمام قبل ظهور الإمام، فإن الكنائس تترك على حالها في الروايات كلها، المصر والقرى في ذلك سواء، ثم إذا كانت الكنائس قديمة حتى لم يكن للإمام هدمها ونقضها على عامة الروايات.
إذا انهدمت كنيسة كان لهم بناؤها؛ لأن هذا ليس بإحداث، بل هو إعادة الأول، وكأنه الأول، فلا يمنعون عنه إلا إذا أرادوا أن يبنوا أوسع من الأول، فحينئذٍ يمنعون من الزيادة؛ لأن في حق الزيادة إحداثاً.
قال في كتاب «العشر والخراج» : ولا يترك واحد منهم حتى يشتري داراً، ولا منزلاً في مصر من أمصار المسلمين، وكذلك لا يترك واحد منهم حتى يسكن في مصر من أمصار المسلمين، وبهذه الرواية أخذ الحسن بن زياد، وعلى رواية عامة الكتب يمكنون المقام في دار الإسلام إلا أن يكون المصر من أمصار العرب نحو أرض الحجاز، فإنهم لا يمكنون فيها.

(2/360)


وجه رواية كتاب العشر ما روي أن رسول الله عليه السلام «أمر بإخراج اليهود من جزيرة العرب» ، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا أدع فيها إلا مسلماً» ، قال: فأخرجهم عمر رضي الله عنه، وعن علي رضي الله عنه «أنه أجلاهم من الكوفة» ، والمعنى في ذلك أنهم، لا يمكنوا من شري الدور، لا يشتري كل واحد منهم دوراً، أو منازل، فيؤدي إلى أن يصير جميع المصر لهم، ويخرج من أن يكون دار الإسلام، وإنه لا يجوز.

وجه ما ذكر في عامة الروايات قول ابن عباس رضي الله عنهما، «وما كان قبل ذلك، فحق على المسلمين أن يوفوا لهم» وسكناهم في الأمصار كان قبل ذلك، فيوفي لهم بترك ذلك عليهم، وعن عمر رضي الله عنه أنه فتح بيت المقدس قهراً، وترك أهل الذمة فيها، وخالد بن الوليد فتح مدينة وترك أهل الذمة فيها، وفتح أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان أرض الشام عنوة وقهراً، وتركوا أهل الذمة فيها، ولأنا أجمعنا على أنهم يتركون المقام في القرى من أرض العجم، وإنما يتركون، ليسمعوا كلام الله تعالى، فيقفون على مجلس الإسلام، وليروا عزة الإسلام، وعزة أهله، وربما يميل قلبهم إلى الإسلام، وهذا المعنى يقتضي تركهم في الأمصار من الطريق الأولى؛ لأن هذه الفائدة في الأمصار، أتم وأكمل، وما روي من الأخبار سوى خبر علي رضي الله عنه، فوجه الجواب عن التمسك بها أنها وردت في الأرض العرب.
ونحن نقول: أنهم لا يمكنون من المقام في أرض العرب، والنص الوارد بخلاف القياس في أرض العرب لا يكون وارداً في سائر الأمصار؛ لأن أرض العرب لها زيادة حرمة لمكان رسول الله عليه السلام فيهم ليست تلك الحرمة بسائر الأمصار، فالنص الوارد ثمة لا يكون وارداً هنا، وأما خبر علي رضي الله عنه، فهو محمول عندنا على أنه إنما أجلاهم من الكوفة، لمصلحة رأى في ذلك بأن عرف أنهم يقصدون بذلك أن يتملكوا جميع الكوفة، فتصير الدار لهم، ولا كلام فيما ينقله الإمام على سبيل المصلحة، فإنا نقول به.
فصل في تبين خراج الروس والأراضي

قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا أراد أن يصالح أهل دار من ديار الحرب كل سنة على دراهم معلومة، وعلى كيل من الطعام معلوم، أو على عدد من الثياب معلومة عن أراضيهم وجماجمهم، فهو جائز، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام صالح أهل الحرب، وهم نصارى كل سنة على ألف ومئتي حلة من حللهم يؤدون النصف في المحرم والنصف في رجب» ، وله الخيار إن شاء جمع بين الرقاب والأراضي فجعلها خراجاً

(2/361)


واحداً من دراهم، أو الدنانير، أو الكيل، أو الوزن، أو الثياب، كما فعل رسول الله عليه السلام بأهل نجران، وإن شاء أفرد كل واحد منهما، فإن جمع قسم المال على الأراضي والجماجم على قدر حال الجماجم وعددهم، وعلى قدر الأراضي بالعدل والإنصاف؛ لأن المال قوبلت بشيئين بالأراضي والجماجم، والمال متى قوبل بشيئين يقسم عليهما بالحصص.
فما أصاب الجماجم، فهو جزية حتى يقسم على الترتيب الذي ذكرنا دون النسوان والصبيان، والذمي غير المقاتلين.
وما أصاب الأراضي يكون خراجاً حتى يقسم على عدد الأراضي على قدر ريع والعلة على الترتيب الذي ذكرنا، وهذا لأنه لا وجه إلى إهمال جماجم الكفار عن الجزية بعدما وقع الصلح، ولا إلى إخلاء الأراضي النامية عن المؤنة، ويقدر إيجاب مال آخر مكان الصلح، فمست الضرورة إلى أن يجعل ما أصاب الجماجم جزية، وما أصاب الأراضي خراجاً.
فإن قلت الجماجم بأن مات بعضهم، وأسلموا تدخل حصتهم في خراج الأراضي إن احتملت، وكذلك لو زادت الجماجم فهاهنا دخل حصة الجماجم في خراج الأراضي إن احتملت؛ لأن المال مسمى في الصلح جملة، وليس بمفرق، فلهذا يمنع الطرح، فتدخل وظيفة الأراضي وأمكن القول به؛ لأن الأراضي أصل في هذا الباب، والرقاب (155أ1) تبع حتى لم يجز إفراد الرقاب بالمن، والمعنى أن الجماجم ليس لها أصول باقية؛ لأنها تهلك فينقطع حق المقاتلة، والأراضي لها أصول باقية، وهو الخراج، فتبقى منفعة المقاتلة، والبدل متى قوبل بشيئين أحدهما تبع، والآخر متبوع كان للبائع حصة من البدل ما دام باقياً، وإذا هلك يصرف كل البدل إلى المتبوع، كما إذا اشترى أرضاً فيها نخيل بثمن معلوم كان للنخيل حصة من الثمن ما دامت قائمة، وعند الهلاك يجعل كل الثمن بمقابلة الأرض كذا ههنا.
قال: إذا كانت الأراضي لا تحتمل ذلك، فحينئذٍ يوظف عليها بقدر ما احتملت اعتباراً لكل منها بالابتداء، فإن كثرت الجماجم بعد ذلك رد عليهم حصتهم؛ لأن الطرح كان لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة.
وإن هلكت الأراضي بأن بارت، أو غرقت، وبقيت الجماجم لا يحول وظيفة الأراضي إلى الجماجم؛ لأن الجماجم تبع في هذا الباب، والأراضي أصل، وعند هلاك الأصل لا يجعل كل البدل بمقابلة التبع، بل تسقط حصة الأصل.

ولو لم تهلك الأراضي، ولكن قل ريعها تحسب حصة الأراضي، وتقلب إلى الجماجم إن احتملت، فإن عاد ريع الأراضي على الكمال اعتد عليها ما رد، وكذلك إذا لم يقل ريع الأراضي، ولكن كثرت الجماجم نقص عن الأراضي، وصرف من خراجها إلى الجماجم بقدر ما تحتمل كما إذا دُقَّ النخل قبل القبض، فإنه ينقص من حصة الأرض، ويصرف إلى النخيل، كذا هنا، هذا إذا جمع بين الرقاب والأراضي في الصلح،

(2/362)


وأما إذا أفرد، فحمل للجماجم حصة معلومة من المال يدخل إحدى الوظيفتين في الأخرى حتى أنه إذا قلت الجماجم سقط حصة من قلت، وكذلك إذا هلكت الجماجم جملة سقط حصة الجماجم جملة، ولا يصرف إلى الأراضي شيء من حصة الجماجم، وكذلك إذا كثرت الجماجم، وقل ريع الأراضي، أو بقي على حاله لم يصرف إلى الجماجم شيء من حصة الأراضي.
وإنما كان كذلك؛ لأن الجماجم وإن كانت تابعة للأراضي في حكم المنّ، إلا أنها لما أفردت بالصلح وبالبدل صارت أصلاً، وهلاك بعض الأصل يسقط ما بإزائه من البدل، كما لو اشترى أرضاً فيها نخيل، وسمى لكل واحد ثمناً معلومة، فاحترقت بنخيل قبل القبض، ولو صالحهم الإمام في الابتداء على مال معلوم على أن يأخذ ذلك من الأراضي دون الجماجم، أو من الجماجم دون الأراضي، كان ذلك باطلاً؛ لأن فيه إهمال جماجم الكفار، وإخلاء الأرض النامية عن المؤنة، وذلك باطل، ولكن هذا لا يبطل الذمة؛ لأن عقد الذمة لا يبطل بالشروط الفاسدة، بل يبطل الشرط، ويبقى المال مقابلاً بهما، وصار هذا، وما تقدم سواء.

قال: ولو أسلم أهل هذه الدار التي صالحهم الإمام على مال معلوم يؤدون عن رؤوسهم وأراضيهم سقط عنهم خراج الرؤوس، وخراج الأراضي على حاله، فالإسلام ينافي خراج الرؤوس، أما لا ينافي خراج الأراضي، والأصل في ذلك ما روي أن علياً رضي الله عنه قال لدهقان: «إن أسلمت وضعنا عنك خراج رأسك، وأخذنا منك خراج أرضك» ، وعن عمر رضي الله عنه «أنه أخذ من دهقانة نهر الملك خراج أرضها بعدما أسلمت» ، وعن ابن مسعود، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم «أنهم اشتروا أراضي خراجية بالسواد، وكانوا يؤدون الخراج عنها» .
وإن أراد الإمام أن يجعل الأراضي عشرية فليس له ذلك، فقد صح أن عمر رضي الله عنه ترك من أسلم من أهل سواد عراق على خراج أرضه، ولم يغير، وهو المقتدى في هذا الباب، ولو فعل ذلك، وحكم به وكان من رأيه ذلك، ثم ولى غيره، ورأى حكمه بعده، وأمضاه؛ لأنه مجتهد فيه، فإن من العلماء من قال: بأن أراضي الكفار بعدما أسلموا تصير عشرية، وهو مالك.
ولو لم يسلم أهل هذه الدار، لكن أراد الإمام أن ينقلهم من دارهم إلى دار قوم من أهل الذمة لا يجوز ذلك إلا بعلة؛ لأنهم لما قبلوا عقد الذمة ليتوطنوا في دارهم، فكان في النقل غدر بهم، والغدر حرام، فلا يفعل الإمام ذلك إلا لعلة، والعلة أن يخاف الإمام عليهم لضعفهم وعجزهم عن دفع الكفار عن أرضهم إن قصدهم، أو يخاف عليهم أن يخبروا الكفار بعورات المسلمين، وإذا فعل إن شاء قوم أراضيهم، وأعطاهم أثمانها، كما

(2/363)


فعل يهود وادي القرى، وإن شاء أبدلهم أراضي القوم الذين نقلهم إلى بلادهم كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل نجران «فإنه رضي الله عنه أعطاهم أراضي من العراق مثل أراضيهم» ، وإذا فعل ذلك كان على رأس كل فريق الوظيفة التي كانت عليهم في بلدتهم، وكان على كل فريق خراج الأرض المنقول عنها، هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر في رواية أخرى أن على كل فريق خراج الأرض المنقول (لها) ، واختلف المشايخ فيه.

بعضهم قالوا: في المسألة روايتان، وذكروا لكل رواية وجهين:
وجه ما ذكر في الزيادات: أن الوظيفة إنما وجب عليهم بالصلح، وإنما وقع الصلح مع كل فريق على وظيفة المنقول عنها، وجه الرواية الأخرى: أن هذا من الإمام مبادلة الأراضي بالأراضي، وفي مبادلة (155ب1) الأراضي بالأراضي بعشر خراج المنقول إليه، كما إذا اشترى الرجلان أرضاً بأرض، وبعضهم قالوا: ليس في المسألة روايتان، ولكن كل رواية مأولة.

واختلفوا في التأويل، بعضهم قالوا: ما ذكر في الزيادات محمول على ما إذا لم يكن للمنقول إليها خراج موظف، فيقدر خراج المنقول إليها بخراج المنقول عنها؛ لأن ذلك الخراج المنقول حقيقة، وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا كان للمنقول إليها خراج موظف مقدر، وبعضهم قالوا: ما ذكر في الزيادات محمول على ما إذا وقع الصلح عن الأراضي إذ لا يمكن الفصل، وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا وقع الصلح متفرقاً، وعند ذلك الفصل ممكن، فيعتبر في الأراضي خراج المنقول إليها، فإن كانت إحدى الأراضي خير من الأخرى، والإمام يريد للذين حولهم إلى الأراضي الردية في المساجد حتى يأخذوا مثل ما أخذ منهم في القيمة اعتباراً لنظر بين الجانبين.
هذا إذا نقل إلى تلك الأراضي قوماً من أهل الذمة، وإن نقل إليها قوماً من المسلمين، فعلى المسلمين خراج تلك الأراضي؛ لأن الخراج استقر وظيفة هذه الأراضي، فلا يبطل بإسلام المالك بعد ذلك، كما لو اشترى المسلم أرضاً خراجياً، فبعد ذلك: إن كان المال مفرداً في الصلح جعل الإمام على المسلمين حصة الأراضي، وإن كان جملة قسم المال على جماجم الذين أخرجهم، وعلى الأراضي كل سنة، فما أصاب الأراضي جعل على المسلمين الذين نقلهم إليها، وما أصاب الجماجم جعل على الذين نقلهم عنها، والله أعلم.

(2/364)


كتاب المعادن والركاز والكنوز

اعلم بأن الكنز اسم لمال مدفون في الأرض دفنه بنو آدم، والمعدن اسم لمال جعلها الله تعالى في الأرضين يوم خلقها، والركاز قد يذكر، ويراد به المعدن وقد يذكر ويراد به الكنز إلا أنه للمعدن حقيقة وللكنز مجاز؛ لأن الركاز مأخوذ من الركز، وهو الإتيان يقال: ركز رمحه في الأرض إذا ثبته فيها، والمثبت في الأرض حقيقة عرق الذهب، فأما الكنز موضوع فيها، وليس بمثبت حقيقة، وأما الكلام في المعدن، فلا يخلو: إما إن وجده في أرض مباحة، أو وجده في أرضه، أو في داره.

فإن وجده في أرض مباحة وجب فيه الخمس، سواء كان معدن ذهب، أو معدن فضة، أو رصاص، أو أصفراً، ولأن له حكم الغنيمة؛ لأن هذه المواضع كانت في أيدي الكفرة ثم وقعت في أيدينا بحكم القهر، فكانت غنيمة، فيجب فيها الخمس، ويكون أربعة أخماسها للواحد، وكان ينبغي أن يكون للمسلمين الغانمين؛ لأن لها حكم الغنيمة.
والجواب: هذا المال كان مباحاً قبل أخذ الغانمين، والمال المباح إنما يملك بإثبات اليد عليه، كالصيد، ويد الغانمين ثابتة في هذا المال حكماً لا حقيقة؛ لأن إثبات اليد على ظاهر الأرض إثبات على باطنها حكماً لا حقيقة، وهو في يد الواحد حقيقة، فاعتبار الحكم إن أوجب الملك للغانمين، فاعتبار الحقيقة لا يوجب الملك لهم، والملك لم يكن ثابتاً لهم، فلا يثبت بالشك والاحتمال، فلا يعطى الأربعة الأخماس حكم الغنيمة في حق الغانمين لهذا المعنى، أما في حق وجوب الخمس أعطيت حكم الغنيمة؛ لأن جهة الحكم توجب الخمس وجهة الحقيقة لا توجب، فيترجح الموجب احتياطاً.
وإن وجده في دار، فليس فيه شيء، وهو لصاحب الدار، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الخمس اعتباراً بالأرض، والجامع بينهما أنه مال معلوم، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الذهب والفضة التي في المعادن من جملة أجر الأرض؛ لأنها قامت مع الأرض، ولهذا يملكه المشتري بشراء الدار، والدار بسائر أجزائها خلف عن حقوق الله تعالى، وصارت ملكاً للمالك.

ألا ترى أنه لا يجب فيها عشر ولا خراج فكذا هذا الجزء وأما الأرض، ففي الموجود فيه روايتان عن أبي حنيفة ذكر في «الأصل» أنه لا يجب فيه شيء، وسوى بين الموجود في الأرض، والموجود في الدار، وجه ذلك أن سائر أجزاء الأرض سلم له بالعشر والخراج، ولا يجب فيها حق آخر، فكذا هذا الجزء.

وذكر في «الجامع الصغير» أن فيه الخمس، وفرق على هذه الرواية بين الموجود في

(2/365)


الأرض، وبين الموجود في الدار، والفرق: أن سائر أجزء الأرض غير سالمة لصاحب الأرض خالياً عن حق الله تعالى، فإنه يجب فيه عشر، أو خراج، فكذا هذا الجزء، وسائر أجزاء الدار سلم لصاحبها خالية عن حق الله، فكذا هذا الجزء.
وأما قوله: بأن هذا مال معلوم، قلنا: نعم، ولكنه مودع في الأرض، وقد أخذ الخمس من ظاهر الأرض، فجاز أن لا يؤخذ فيما هو مودع فيها.
وأما الكلام في الكنز، فلا يخلو من وجهين الأول: أن يجده في دار الإسلام، وإنه على وجوه:
أحدها: أن يجده في أرض غير مملوكة بحق المغارة والجبال وما أشبهها، فإن كان فيه علامات الإسلام كالمصحف والدراهم المكتوبة فيها الشهادة، وما أشبه ذلك، فهو بمنزلة اللقطة يعرفها حولاً، وإن كان فيه علامات الشرك نحو الصنم والصليب (156أ1) وما أشبهها، ففيه الخمس، وأربعة الأخماس للواجد، وهذا لأنه إذا كان فيه علامات الإسلام، فالظاهر أنه من وضع المسلمين، ومال المسلم لا يصير غنيمة، والمالك ليس بمعلوم، فيكون له حكم اللقطة.

وإذا كان فيه علامات الشرك، فالظاهر أنه من وضع مشركين، وقع في أيدينا بإيجاف الخيل والركاب، فيكون غنيمة، فيجب فيه الخمس، وإن لم يكن فيه علامات تدل على شيء، فهو لقطة في زماننا؛ لأن العهد قد تقادم، فالظاهر أنه لم يبق شيء مما دفنه أهل الحرب، ويستوي أن يكون الواجد صغيراً أو كبيراً، أو عبداً مسلماً، أو ذمياً؛ لأن استحقاق هذا المال بمنزلة استحقاق الغنيمة، ولجميع من سميت حق في الغنيمة، فيكون لهم حق في استحقاق هذا المال، إلا إن ترجح للعبد والذمي والصبي في القتال، ولا يبلغ نصيبهم السهم تحرز عن المساواة بين التبع والمتبوع عند المزاحمة، وهنا لا تزاحم للواجد في الاستحقاق حتى يصير التفاضل، فلهذا كان الواجد حربياً مستأمناً لا يعطى له شيء؛ لأنه لا حظ لأهل الحرب من غنيمة المسلمين إلا أن يكون الحربي عمل بإذن الإمام وشرطه وتعاطيه، فعليه أن يفي بشرطه؛ لأن الوفاء بالشرط واجب قال عليه السلام «المسلمون عند شروطهم» .
وإن وجده في دار مملوكة له، وفيه علامات الشرك، أو لم يكن فيه، الخمس وأربعة أخماسه للمختط له عند أبي حنيفة، ومحمد، وهو الذي اختطه الإمام حين فتح أهل الإسلام تلك البلدة إن كان فيئاً، ولا شيء للواجد، وقال أبو يوسف: هو للواجد؛ لأن هذا مال مباح سبقت إليه يده الحقيقية، فيكون أحق به كما لو وجده في المغارة.
بيانه: إن هذا المال كان مباحاً، والمباح يملك بإثبات اليد، ويد المختط له، تثبت على هذا المال حكماً لا حقيقة، ويد الواجد تثبت عليها حقيقة، فاعتبار الحكم إن كان

(2/366)


يقتضي ثبوت الملك للمختط له فاعتبار الحقيقة يقتضي ثبوت الملك للواجد، فيترجح الواجد؛ لأن الحقيقي فوق الحكمي.

ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن يد المختط له على الكنز سبقت يد الواجد، فيكون ملكاً له كالمعدن، وهذا لأن اليد على ما في باطن الأرض تثبت حكماً لثبوتها على الظاهر؛ لأن قبل القسمة تلك يد عموم، وبعد الاختطاط تصير يد خصوص، واليد الحكمية تكفي لثبوت الملك في المباح إذا كانت يد خصوص، ولا تكفي إذا كانت يد عموم تعتبر اليد الحكمية باليد الحقيقية، واليد إذا كان يد خصوص تفيد الملك على وجه يكفي لنفاذ التصرف.
ألا ترى أن تصرف الغازي في الغنيمة قبل القسمة لا ينفذ، وبعد القسمة ينفذ، فكذا اليد الحكمية، فيثبت الملك للمختط باليد الحكمية، ثم المختط له إن باع، وتناولته الأيدي لا يبطل ملكه في الكنز؛ لأن البيع تناول الدار، والكنز ليس من أجزاء الدار، والمشتري وإن استولى على الكنز لا يملكه، لأن الكنز للمختط له، وإنه مسلم، ومال المسلم لا يملك بالاستيلاء.
الوجه الثاني: إذا وجد كنزاً في دار الحرب، فاعلم بأن محمداً رحمه الله وضع هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي «الأصل» في الركاز، فقال:
m
مسلم دخل دار الحرب بأمان، ووجد في دار بعضهم ركازاً رده عليهم، وإن وجده في الصحراء يريد به موضعاً، لا يكون مملوكاً لأحد كالمغارة ونحوها، فهو له، ولا شيء فيه، قال شيخ الإسلام: أراد بالركاز في هذه المسألة المعدن دون الكنز؛ لأن الموجود في الصحراء إن كان كنزاً يلزمه الرد عليهم؛ لأن الداخل دار الحرب بأمان التزم أن لا يغدر بهم، وفي أخذ الكنز من دارهم غدر وخيانة لما فيه من التعرض بملكهم؛ لأن المدفون ملكهم سواء في الصحراء، أو في دار.
والقدوري ذكر هذه المسألة في «شرحه» ، ووضعها في الكنز، وجعل الجواب فيه على نحو ما ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ، فهذا يبين لك أن الكنز والمعدن في هذه الصورة واحد.

ووجه ذلك: أن يد صاحب الدار حقيقة، فتعتبر ثابتة على ما في باطن الدار حكماً، والأمان يمنع إزالة يدهم عما فيها، فأما الصحراء، فلا يد لأحد ظاهرة حقيقة حتى تعتبر ثابتة على ما في باطنه حكماً، فلا يمنع الأمان أخذه كما لا يمنع أخذ الحطب والحشيش.
ولا خمس في العنبر والروح الذي يوجد في الجبال، وكذا في الياقوت والزمرد؛ لأنه ليس له حكم الغنيمة؛ لأنه لم يكن في يد أحد، وليس له معدن إنما يوجد بالطلب، فكان كالصيد بخلاف الكنز؛ لأن الكنز كان مملوكاً للكفرة، وكان في أيديهم، ثم كنزوها، فيكون له حكم الغنيمة، فيجب فيه الخمس.
ولا خمس في الذهب والفضة يستخرجان من البحر، وكذلك جميع ما يستخرج من

(2/367)


البحر كالعنبر واللؤلؤ، فلا خمس فيه ليس بغنيمة؛ لأن الغنيمة ما كان في أيدي الكفرة، ثم صار في أيدينا بحكم القهر والغلبة، وباطن البحر لا يرد عليه يد أحد، ولا قهر أحد، فلم يكن غنيمة، وفي كل موضع وجب الخمس لو دفع الواجد الخمس بنفسه إلى الفقراء، ولم يدفعه إلى السلطان لا يأخذ منه السلطان (156ب1) ثانياً بخلاف زكاة السوائم، ولو دفع الواجد الخمس إلى والديه، أو إلى والده، وهم فقراء يجوز بخلاف الزكاة والكفارات وصدقة الفطر، ويجوز له أن يحبس الخمس لنفسه إذا كان أربعة الأخماس لا يكفيه لحديث علي رضي الله عنه.
قال محمد رحمه الله: في آخر كتاب الزكاة من «الأصل» فصل في بيان بيوت الأموال: يجب أن تكون بيت الأموال أربعة:
أحدها: بيت مال الزكاة والعشور والكفارات إذا وصلت إلى يد الإمام.
والثاني: بيت مال الخراج والجزية التي نقلت، وما يأخذه العاشر من الكفرة.
والثالث: فصل في بيان بيوت الأموال: بيت مال الخمس يعني خمس الغنائم والمعادن والركاز والكنوز.
والرابع: بيت مال اللقطات والتركات، وإنما وجب أن يكون بيوت المال أربعة أما بيت مال الزكاة والخراج والخمس؛ فلأن بكل مال منها حكم يختص به لا يشاركه مال آخر فيه، فمتى جعل الكل في بيت واحد، وخلطه لا يمكنه إقامة حكم كل مال، وأما بيت مال اللقطات والتركات؛ لأنه ربما يظهر لها مستحق بعينها، فلو خلطها بغيرها لا يمكنه ردها بعينها على مستحقها، فيجعل بيوت المال أربعة لهذا.
بيان ذلك: إن مال الزكاة، وعشور الأراضي مصروفة إلى المذكور في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة: 60) إلا أنه لا يجوز صرفها إلى المقاتلة، ولا إلى فقراء بني هاشم، وقال: الخراج والجزية تصرف إلى المقاتلة، وإلى سد ثغور المسلمين، وبناء الحصون في الثغور، وإلى مراصد الطريق في دار الإسلام ليقع الأمن عن قطع الطريق من جهة اللصوص، وإلى كري الأنهار العظام الذي فيه صلاح المسلمين، وإلى من فرغ نفسه لعمل المسلمين نحو القضاة والمحتسب والمفتين والمؤذنين والمعلمين، وإلى عمارة المساجد والقناطر، وإلى معالجة المرضى إذا كانوا فقراء، وإلى تكفين الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل حياته، وما أشبه ذلك.
والحاصل: أن هذا النوع يصرف إلى ما فيه صلاح الدين، وصلاح دار الإسلام والمسلمين، ومال الخمس يصرف إلى فقراء المسلمين الهاشمي وغيره سواء، اللقطات والتركات تصرف إلى ما فيه صلاح المسلمين كمال الخراج والجزية، إلا أنه يجعل لها بيت على حدة، لما ذكرنا أنه ربما يظهر لها مستحق بعينها.

ولو كان في بعض بيوت هذه الأمور مال، ولم يكن في البعض مال، فللإمام أن يصرف مال ذلك البيت إلى هذا البيت عند الحاجة حتى إذا لم يكن في بيت مال الخراج مال، وفي بيت مال الصدقة مال، فالإمام يأخذ بيت مال الصدقة، ويصرفه إلى المقاتلة،

(2/368)


ثم إذا وصل إليه مال الخراج، يرد على بيت مال الصدقة مثل ما أخذ؛ لأنه لا حق للمقاتلة في مال الصدقة، وإنما صرف إليهم على وجه القرض، فيرد مثله عند القدرة، إلا إذا صرف إلى فقراء المقاتلة، فحينئذٍ لا يرد؛ لأنه صرفه إلى مصرفه.
ولو لم يكن في بيت مال الصدقة مال، وصرف مال الخراج إلى الفقراء، ثم وصل إليه مال الصدقات، لا يرد مثله إلى بيت مال الخراج؛ لأن الخراج له حكم الغنيمة، وللفقراء حظ من الغنيمة، وإنما كان لا يعطي الفقير من مال الخراج؛ لاستغنائه بالصدقات، فإذا احتاج وصرف إليه كان الصرف إلى المصرف، فلا يصير قرضاً، والله أعلم.

(2/369)