المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الصوم
هذا الكتاب يشتمل على أربعة عشر فصلاً:
1 * في بيان وقت الصوم وما يتصل به.
2 * فيما يتعلق برؤية الهلال.
3 * فيما يتعلق بالنية.
4 * فيما يفسد الصوم، وما لا يفسد.
5 * في وجوب الكفارة في إفساد الصوم.
6 * فيما يكره للصائم أن يفعله، وما لا يكره.
7 * في الأسباب المبيحة للفطر.
8 * في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم.
9 * فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة.
10 * في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم.
11 * في النذور.
12 * في الاعتكاف.
13 * في صدقة الفطر.
14 * في المتفرقات.

(2/371)


الفصل الأول في بيان وقت الصوم وما يتصل به
قال أصحابنا رحمهم الله: وقت الصوم من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق إلى وقت غروب الشمس خروج وقت الصوم، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني، أو لاستطارته وانتشاره، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: العبرة لأوله، وبعضهم قالوا: العبرة لاستطارته، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القول الأول أحوط، والثاني أوسع.
وإذا شك في الفجر قال في «الأصل» : أحب إليّ أن يدع الأكل والشرب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الخليلي رحمه الله: الواجب على من شك في طلوع الفجر أن يطالع الفجر أو يأمر من ينوبه حتى يطالعه، فإن طالع وليس في السماء علة بأن لم تكن السماء مقمرة، ولا متغيمة وليس ببصره علة، وهو ينظر إلى مطلع الفجر، فله أن يأكل ما لم يطلع الفجر، فإن كان في موضع لا يرى طلوع الفجر، أو يرى، إلا أن السماء كانت مقمرة، أو متغيمة، فإن انضم إلى الشك علامة أخرى تدل على طلوع الفجر من حيث الظاهر بأن كان له ورد يوافق فراغه طلوع الفجر، ففرغ منها. (157أ1)
وشك في طلوع الفجر، أو كان يرى نجماً إذا أخذ مكاناً من السماء يوافق ذلك طلوع الفجر، فإذا انضم إلى الشك مثل هذه العلامة يدع الأكل والشرب، ويكون مسيئاً إذا أكل أو شرب، ويكون عليه القضاء إن كان أكبر رأيه أن الفجر طالع، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهرزاده.
وذكر القدوري: أن في هذا الفصل روايتين، وقال: الصحيح أنه لا قضاء عليه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ونحن على ذكر الأصل حتى يقوم الدليل بخلافه، إلا أنه يستحب له القضاء احتياطاً لأمر العبادة، وإن لم يصم إلى الشك مثل ما ذكرنا من العلامة يستحب له أن يترك الأكل.

وإن أكل لا يكون مسيئاً، ولا قضاء عليه، إلا إذا كان أكبر رأيه أن الفجر طالع، فحينئذٍ يستحب له القضاء، وإن أمر إنساناً ليطالع طلوع الفجر، فأخبره بالطلوع، فإن كان المخبر عدلاً يجوز له أن يأكل حراً كان أو مملوكاً ذكراً كان أو أنثى، وإن أخبره صبي عاقل لا يأكل إذا غلب على ظنه أنه صادق، وإن أخبره عدل بالطلوع، وعدل آخر بعدم الطلوع يتحرى سواء كان أحدهما حراً، والآخر مملوكاً، وإن كان من أحد الجانبين عدلان، أو من الجانب الآخر عدل يأخذ بقول العدلين، وإن كان من أحد الجانبين عدلان حران، ومن الجانب الآخر مملوك يأخذ بقول الحرين، وإن كان يأكل، فأخبره

(2/373)


عدل أن الفجر طالع، فأتم الأكل لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أكل قبل الإخبار، وفسد صومه، لا عن كفارة، فلا تلزمه الكفارة بأكل يوجد بعد ذلك حتى لو لم يكن أكل قبل الإخبار، وإنما أكل بعد الأخبار تلزمه الكفارة، وإن كان يأكل فقال: له واحد عدل محوركه سهده دمدمي أو قال: مي دمد، فأكل مع ذلك، وظهر أن الفجر كان طالعاً لزمه الكفارة.
في «مجموع النوازل» ؛ لأن قوله: دمدمي إخبار أنه يطلع الآن، فما كان من الأكل قبل الإخبار، فإنما كان قبل طلوع الفجر، فلم يفسد به الصوم، وما وجد من الأكل بعد ذلك وجد بعد طلوع الفجر، وبعد العلم به فيكون عمد وقصد، فيوجب الكفارة.
ولو أخبره عدلان أن الفجر قد طلع، وعدلان أنه لم يطلع، فأكل بعد ذلك، ثم ظهر أن الفجر كان طالعاً هل تلزمه الكفارة؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا تلزمه الكفارة؛ لأن البينتين قد تعارضتا، فتساقطتا، وكان سحراً على ظن أن الفجر لم يطلع، وهناك لا تلزمه الكفارة، وبعضهم قالوا: تلزمه الكفارة.

ولو شهد واحد على طلوع الفجر، واثنان على أنه لم يطلع لم تجب الكفارة، ولو أراد أن يتسحر بالتحري، فإن ذلك إذا كان بحال لا يمكنه مطالعة الفجر بنفسه أو بغيره، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن من تسحر بأكبر الرأي لا بأس إذ كان هذا الرجل ممن لا يخفى على مثله، مثل ذلك، وإن كان ممن يخفى عليه مثل ذلك قبيله أن يدع الأكل، وإن أراد أن يتسحر بضرب طبل سَحَرِيَ، فإن كثر ذلك الصوت من كل جانب، وفي جميع أطراف البلدة، فلا بأس به، وإن كان يسمع صوتاً واحداً، فإن علم عدالته يعتمد عليه وإن عرف فسقه لا يعتمد عليه وإن لم يعرف حاله يحتاط ولا يأكل.
وإن أراد أن يعتمد بصياح الديك، فقد أنكر ذلك بعض مشايخنا، وقال بعضهم: لا بأس به إذا كان قد جربه مراراً، وظهر له أنه يضبط الوقت، إذا تسحر فدخل عليه قوم، وقالوا له: الفجر طالع، فقال: إذاً حصل الفطر آكل أكلاً مشبعاً، فأكل، ثم ظهر أن الأكل الأول كان قبل الصبح، والثاني بعد الصبح قال الحاكم أبو محمد الكوفي رحمه الله: إن كانوا مما عرف عدالتهم؟ لا كفارة.
وإن كان المخبر واحداً إلا أنه عدل، فكذلك الجواب، وإن كان فاسقاً، فعليه الكفارة،
وإذا قالت المرأة لزوجها: طالعت الفجر، فلم يطلع بعد، فجامعها، ثم ظهر أن الفجر كان طالعاً قال الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله: إن صدقها، وهي ثقة لا كفارة عليه، وقال عبد الرحمن بن أبي الليث، في «فتاويه» : لا كفارة عليه من غير تقييد، وعليها الكفارة، وكذا أفتى القاضي الإمام أبو علي، والخطيب مصطفى بن اليمان، هذا كله بيان الأحكام المتعلقة بأول وقت الصوم.

جئناً إلى بيان الأحكام المتعلقة بآخر الوقت قال بعض مشايخنا: لا يجوز الإفطار بالتحري، وعن محمد: إن كان في موضع يمكنه معاينة غروب شمس لا يمنعه عن ذلك

(2/374)


مانع لا يفطر بالتحري، بل يفطر بالمعاينة، وإن منعه عن ذلك مانع يفطر بالتحري بعد أن يتيقن فيه، ويحتاط نحو أن يتبع العلامة من الظلام ونحوه وبنحوه، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني أن ظاهر مذهب أصحابنا: أنه يجوز الإفطار بالتحري،
وإن أفطر وغالب رأيه أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب بعد كان عليه قضاء ذلك اليوم، بخلاف ما إذا تسحر، وغالب رأيه أن الفجر لم يطلع؛ ثم تبين أنه قد طلع، فإنه لا يجب عليه القضاء، بل يستحب له القضاء على الرواية الصحيحة؛ لأن ثمة الأصل بقاء الليل، فلا يترك إلا بيقين مثله، وههنا الأصل بقاء النهار، فلا يترك إلا بيقين مثله
وأما إذا شك في غروب الشمس، والشك يساوي اليقين، فلو فطر، ثم تبين (157ب1) أن الشمس ما غربت تلزمه الكفارة، هكذا قاله الفقيه أبو جعفر، ووجه ما ذكرنا: أن الأصل بقاء النهار، وروى ابن رستم عن محمد أنه لا كفارة عليه استحساناً، وإن أخبره مخبر بغروب الشمس، من المشايخ من قال: لا يجوز له الفطر بقول الواحد بل شرط المثنى.
قال شمس الأئمة الحلواني: كان الجواب أنه لا بأس بأن يعتمد على قوله إذا كان عدلاً، ويميل قلبه إلى صدقه كما في السحر،
ولو أخبره عدلان أن الشمس قد غربت، وأخبره عدلان أنها لم تغرب، فلا كفارة عليه؛ لأن اللذان شهدا بعدم الغروب لم تقبل شهادتهما، إما لأن هذه شهادة على النفي، أو لأن الأصل هو النهار، وإن بانت بدون شهادتهما، أو اللذان شهدا على الغروب شهدا على إثبات ما ليس بثابت بشهادتهما، فيثبت الغروب بشهادتهما؛ فلهذا لا تجب الكفارة، وبهذا الطريق تجب الكفارة عند بعض المشايخ في مسألة طلوع الفجر، وهو الصحيح

سئل شمس الأئمة الحلواني عن الإفطار يوم الغيم، فقال: جواب هذه المسألة لا يؤخذ في الكتب، والجواب فيها كالجواب في مراعاة الوقت ليصلي، وهناك قال أصحابنا: يؤخر المغرب فكذا ههنا يؤخر الإفطار يأخذ فيه بالثقة ما استطاع، والله أعلم.

الفصل الثاني فيما يتعلق برؤية الهلال
الواحد إذا شهد برؤية هلال رمضان، فإن كانت السماء متغيمة تقبل شهادة الواحد إذا كان مسلماً رجلاً كان، أو امرأة، أو عبداً، أو أمة أو محدوداً في قذف تائباً بعد أن يكون عدلاً في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي: أنه تقبل شهادة الفاسق، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة.
أما إذا كان مستور الحال، فالظاهر أن لا تقبل شهادته، وروى الحسن عن أبي

(2/375)


حنيفة: أنه تقبل شهادته، وهو الصحيح، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن فضل رحمه الله يقول: إذا كانت السماء متغيمة إنما تقبل شهادة الواحد إذا فسر، وقال: رأيت الهلال خارج البلدة في الصحراء، ويقول: رأيته في البلدة بين الخلل السحاب في وقت يدخل في السحاب ثم ينجلي، أما بدون هذا التفسير لا تقبل شهادة الواحد في ظاهر الرواية، خلافاً لما روي الحسن عن أبي حنيفة، بل يحتاج فيه إلى زيادة العدد، واختلفوا في مقدار ذلك،
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه تقبل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وعن أبي يوسف أنه قال: يعتبر في ذلك جمع عظيم، وروي عنه أنه قدره بعدد القسامة.

وعن خلف بن أيوب أنه قال: خمسمائة ببلخ قليل، وعن أبي حظ الكبير أنه يعتبر الوفاء، وعن محمد أنه قال: يفوض مقدار القلة والكثرة إلى رأي الإمام، ثم إنما لا تقبل شهادة الواحد على هلال رمضان، إذا كانت السماء مصحية، إذا كان هذا الواحد في المصر، فإذا جاء من خارج المصر، أو جاء من أعلى الأماكن في مصر ذكر الطحاوي أنه تقبل شهادته، وهكذا ذكر في كتاب الاستحسان، وذكر القدوري: أنه لا تقبل شهادته في ظاهر الرواية هذا الذي ذكرنا في هلال رمضان.
وأما إذا قامت الشهادة برؤية هلال شوال، أو برؤية هلال ذي الحجة، إن كانت السماء مصحية، فالجواب فيه كالجواب في رؤية هلال رمضان يعني لا تقبل فيه شهادة الواحد، بل بشرط زيادة العدد، ولا بد من اعتبار العدالة والحرية في شهادات خواهرزاده، وفي «شرح الطحاوي» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه تقبل في ذلك شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين،
فأما إذا كانت السماء متغيمة، فلا تقبل ما لم يشهد بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان في ظاهر الرواية، وفي «المنتقى» أنه يقبل في ذلك شهادة الواحد، علل محمد في «المنتقى» القبول شهادة الواحد على هلال رمضان، فقال: لأن هذا أمر يدخل في فريضة وحق، وفي فصل الإفطار يقول: ههنا خروج عن فرض وحق.
قال: ألا ترى لو شهد مسلم عدل على نصراني أنه أسلم قبل موته، وبرأ من دينه قبلت شهادته حتى يصلى عليه، ولو شهد مسلم عدل على مسلم أنه ارتد، والعياذ بالله لا تقبل شهادته، ولا تترك الصلاة عليه لهذا إن الإسلام دخول في حق وفرض، وتقبل شهادة الواحد العدل عليه، والارتداد خروج حق وفرض، فلم تقبل شهادة الواحد العدل عليه،

وذكر شيخ الإسلام في شرح الشهادات: أن شهادة المثنى في الفطر والأضحى إنما تقبل إذا كان بالسماء علة، أو كانت مصحية وجاءا من مكان آخر، أما إذا كانت مصحية، وما جاءا من مكان آخر لا يكتفى بشهادة اثنين، بل يشترط فيه شهادة جماعة، وعن أبي يوسف في «المنتقى» : ما هو قريب من هذا، فقال: إنما أقبل شهادة الرجلين على هلال شوال إذا كانا قادمين، أو أخبرا أنهما رأياه في غير البلد، أما إذا أخبرا أنهما رأياه في البلد، وكان البلد كثير الأهل يراه الناس لا بد وأن يكونوا جماعة كثيرة.

(2/376)


وروى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : أن أبا حنيفة كان يجبر على هلال شهر رمضان شهادة (158أ1) الرجل الواحد العدل، والمولى، والعبد، والأمة، والمحدود في القذف إذا كان عدلاً، ولا يجبر بشهادة الكافر والفاسق، ولا يجبر في هلال ذي الحجة والفطر، إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا يجبر بشهادة العبد والأمة والمحدود في القذف، قال: وهو قول أبي يوسف.
وعن الفقيه أبي جعفر أنه قال: في هلال رمضان في الصوم يقبل قول رجل واحد عدل، سواء كان بالسماء علة، أو لم يكن، وروى الحسن بن زياد أنه قال: يحتاج إلى شهادة رجلين في الفطر والصوم جميعاً، سواء كان بالسماء علة، أو لم يكن، وأما هلال ذي الحجة ذكر في بعض المواضع أنه بمنزلة هلال شوال، وذكر في بعض المواضع أنه بمنزلة هلال رمضان، وتقبل شهادة الواحد على شهادة الواحد في هلال رمضان، ولا يشترط لفظة الشهادة، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الاستحسان، وذكر شيخ الإسلام في شرح نوادر الصوم يشترط فيه لفظة الشهادة، وأما في شهادة الفطر، والأصح فيعتبر لفظ الشهادة ذكره شيخ الإسلام في شرح كتاب الشهادات.
في «المنتقى» : هشام عن محمد: شهادة العبد في هذا الباب بمنزلة شهادة الحر في المعاملات، ثم شهادة الحر على شهادة الحر مقبولة في المعاملات، فكذا شهادة العبد على شهادة العبد في هذا الباب،

ثم الواحد إذا أري هلال رمضان وحده هل يلزمه أن يشهد عند الحاكم؟ لا ذكر لهذا في «المبسوط» ؛ قال: شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان عدلاً يلزمه أن يشهد عند الحاكم حراً كان أو عبداً أو أمة، حتى الجارية المخدرة، وهو من فروض العين، ويجب أن يشهد في ليلته تلك، كيلا يصبح الناس مفطرين، وللجارية المخدرة أن تشهد بغير إذن وليها، فأما إذا كان الرائي فاسقاً يكون فيه شبهة قول الطحاوي، إن علم أن القاضي يميل إلى قول الطحاوي، ويقبل شهادته يلزمه أن يشهد، وأما إذا كان مستوراً دخل فيه شبهة الروايتين عن أصحابنا، وهذا في المصر، أما في السواد إذا أري أحدهم هلال رمضان يشهد في مسجد قريته، وعلى الناس أن يصوموا بقوله بعد أن يكون عدلاً، إذا لم يكن هناك حاكم يشهد عنده.
وفي «فتاوى القاضي» : إذا أخبر رجلان برؤية هلال شوال في الرستاق، والسماء مصحية، وليس هناك والي، فلا بأس بالناس أن يفطروا فيه أيضاً، الإمام إذا رأى هلال شوال وحده، لا ينبغي له أن يخرج، وأن يأمر الناس بالخروج، وإذا أبصر هلال رمضان وحده، وشهد عند القاضي، فرد القاضي شهادته، فعليه أن يصوم خلافاً للحسن البصري وعثمان البتي، فإن أفطر بعد ما رد الإمام شهادته، فلا كفارة عليه عندنا.
وإن أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته، أو قبل أن يشهد عند القاضي هل تلزمه الكفارة عندنا؟ فيه اختلاف المشايخ، ذكره شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم، وأما إذا قبل الإمام شهادته، وأمر الناس بالصوم، فأفطر هو، أو واحد من البلدة هل تلزمه

(2/377)


الكفارة؟ قال عامة مشايخنا: تلزمه، وقال الفقيه أبو جعفر: لا تلزمه، ثم الواحد إذا شهد عند القاضي، وردّ القاضي شهادته، وأكمل هذا الرجل ثلاثين يوماً لا يفطر إلا مع الإمام.

في شرح «القدوري» : الواحد إذا شهد على هلال رمضان عند القاضي، والسماء متغيمة، وقبل القاضي شهادته، وأمر الناس بالصوم، فلما أتموا ثلاثين يوماً غم عليهم هلال شوال، قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يصومون من الغد، وإن كان يوم الحادي والثلاثين ولا يفطرون، وقال محمد: يفطرون، قال شمس الأئمة الحلواني: هذا الاختلاف فيما إذا لم يروا هلال شوال، والسماء مصحية، فأما إذا كانت السماء متغيمة، فإنهم يفطرون بلا خلاف، هذا إذا شهد على هلال رمضان واحد، فأما إذا شهد على هلال رمضان شاهدان، والسماء متغيمة، وقبل القاضي شهادتهما، وصاموا ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، إن كانت السماء متغيمة يفطرون من الغد بالاتفاق، وإن كانت مصحية يفطرون إليه أشار.
r
في «القدوري» ، وفي «المنتقى» وهكذا حكى فتوى شيخ الإسلام أبي الحسن قبل، وفي «فوائد ركن الإسلام» علي السغدي أنهم لا يفطرون، والصحيح هو الأول.
أهل مصر صاموا رمضان بغير رؤية الهلال، وفيهم رجل لم يصم حتى رأوا الهلال من الغد، فصام أهل المصر ثلاثين يوماً، وصام هذا الرجل تسعة وعشرين، ثم أفطروا جميعاً، فإن كان أهل المصر رأوا هلال شعبان، وعدو شعبان ثلاثين يوماً، كان على هذا الرجل قضاء اليوم الأول، وإن كان أهل المصر صاموا من غير عد شعبان ثلاثين يوماً، ومن غير رؤية هلال رمضان ليس على هذا الرجل قضاء اليوم الأول في «الكافي» .
وفي «القدوري» إذا صام أهل المصر تسعة وعشرين يوماً للرؤية، وفيهم مريض لم يصم، فعليه قضاء تسعة وعشرين؛ لأن القضاء لحق الفائت، فيكون على عدد الفائت، فإن لم يعلم هذا الرجل ما صنع أهل المصر صام ثلاثين ليخرج عن العهدة بيقين؛ قال محمد رحمه الله: ولا عبرة لرؤية الهلال نهاراً قبل الزوال ولا بعده، وهي لليلة (158ب1) المستقبلة، وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه.

وقال أبو يوسف: إذا كان قبل الزوال، فهي الليلة الماضية، قيل: قول أبي حنيفة، كقول محمد، وفي صوم شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة: أنه إذا غاب في هذه الليلة قبل الشفق، فهي من هذه الليلة.
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة إن كان مجراه أمام الشمس، والشمس تتلوه، فهو لليلة الماضية، وإن كان مجراه خلف الشمس، فهو لليلة المستقبلة.
أهل بلدة رأوا الهلال هل يلزم ذلك في حق أهل بلدة؟ روي عن محمد أنه قال: يعتمدون على قول أهل تلك البلدة، ويأخذون بقولهم، ويصومون بصومهم، وينظرون كذلك، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا: لا يلزم وإنما المعتبر في حق كل بلدة رؤيتهم، وبنحوه «ورد الأثر

(2/378)


عن ابن عباس رضي الله عنه» .
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف وإبراهيم عن محمد: إذا صام أهل بلدة ثلاثين يوماً لرؤية، وصام أهل بلدة تسعة وعشرين يوماً للرؤية، فعليهم قضاء يوم، وفي «القدوري» إذا كان بين البلدتين تفاوتاً لا تختلف المطالع لزم حكم إحدى البلدتين حكم البلدة الأخرى، فأما إذا كان تفاوتاً تختلف المطالع لم يلزم إحدى البلدتين حكم البلدة الأخرى،
وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن الصحيح من مذهب أصحابنا رحمهم الله أن الخبر إذا استفاض، وتحقق فيما بين أهل البلدة الأخرى يلزمهم حكم أهل هذه البلدة الأخرى،
وفي «مجموع النوازل» شاهدان شهدا عند قاضي مصر لم ير أهله الهلال على أن قاضي مصر كذا شهد عنده شاهدان برؤية الهلال، وقضى به، ووجد استجماع شرائط صحة الدعوى قضى القاضي بشهادتهما حكاه عن شيخ الإسلام.

وفيه أيضاً: قال نجم الدين رضي الله عنه: أهل سمرقند رأوا هلال رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بسمرقند ليلة الاثنين، وصاموا كذلك، ثم شهد جماعة عند قاضي القضاة يوم الاثنين، وهو اليوم التاسع والعشرين، إن أهل كثر رأوا الهلال ليلة الأحد، وهذا اليوم آخر الشهر، فقضى به، ونادى المنادي في الناس أن هذا آخر يوم، وغداً يوم العيد، فلما أمسوا لم ير أحد من أهل سمرقند الهلال، والسماء مصحية لا علة بها أصلاً، ومع هذا عيدوا يوم الثلاثاء.
قال نجم الدين: وأنا أفتيت بأنه لا يترك التراويح في هذه الليلة، ولا يجوز الإفطار يوم الثلاثاء، ولا صلاة العيد، قال: فالصحيح هذا، وكأنه مال إلى أن حكم إحدى البلدتين لا يلزم البلدة الأخرى أصلاً وعيد اختلاف المطالع، وعلم أن المطالع مختلفة إلا أن تلك المسألة مختلفة، وقد مضى بقول البعض، فارتفع الخلاف، فلم يتضح لنا وجه جواب نجم الدين ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح صومه، أن الواحد إذا رأى هلال شوال، وشهد عند القاضي ورد القاضي شهادته، ماذا يفعل؟ قال محمد بن سلمة: يمسك يومه، ولا ينوي صومه.
وبعض مشايخنا قالوا: إن أيقن برؤية الهلال أفطر لكن يأكل سراً، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يفطر، قال الفقيه أبو جعفر: قوله: لا يفطر معناه أنه لا يأكل ولا

(2/379)


يشرب، ولكن ينبغي أن يفسد صوم ذلك اليوم، ولا يتقرب به إلى الله تعالى، وإن أفطر في ذلك اليوم الكفارة عليه بلا خلاف، ولو شهد هذا الرائي عند صديق له سراً، فصدقه وأفطر لا كفارة عليه، والله أعلم.

الفصل الثالث في النية
قال أصحابنا رحمهم الله: إذا صام رمضان بنية ما قبل الزوال جاز، هكذا وقع في بعض الكتب، وفي بعضها، إذا صام رمضان بنية قبل انتصاف النهار جاز، وإنما تظهر ثمرة اختلاف اللفظين فيما إذا نوى عند قرب الزوال، أو عند استواء الشمس في كبد السماء، فاللفظ الأول يدل على الجواز، واللفظ الثاني يدل على عدم الجواز،

والصحيح هو اللفظ الثاني؛ لأن قضية القياس قران العزيمة يجمع أجر العمل لكن سقط اعتباره بمكان التعذر، واكتفى بقران العزيمة بأول جزء يمكن من غير حرج، وما قبل انتصاف النهار من أجر العلم يمكن قران العزيمة بها من غير حرج، فلا يسقط اعتباره بهذا الطريق لم يجز الصوم بنيته بعد الزوال،
وكذلك الصوم المنذور في وقت بعينه يجوز بنية ما قبل انتصاف النهار،
وما وجب في ذمته من الصوم، وليس له وقت معين كالقضاء، والنذور المطلقة، والكفارات لا يجوز بنية، ما قبل انتصاف النهار، وإذا نوى قبل غروب الشمس من اليوم أن يصوم غداً لا تصح نيته، حتى لو أغمي عليه قبل غروب الشمس، وبقي كذلك إلى ما بعد الزوال من الغد أو نام، هكذا لا يصير صائماً في الغد،
ولو نوى بعد غروب الشمس جاز؛ لأن الجواز بنية متقدمة بخلاف القياس لرفع الحرج، والحرج يندفع بتقديم النية في الليل، فلا يعتبر تقديم النية قبل الليل، وإن نوى في الليل أن يصوم غداً ثم بدا له في الليل أن لا يصوم، وعزم على ذلك، ثم أصبح من الغد وأمسك، ولم ينو الصوم لا يعتبر صائماً؛ لأن عزيمته انتقضت بالرجوع عنها، وبعد ذلك لم توجد العزيمة أصلاً، فإذا أصبح في رمضان لا ينوي صوماً، ولا فطراً، وهو يعلم أنه من رمضان ذكر شمس الأئمة الحلواني عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن عن أصحابنا يصير.... صائماً روايتين، والأظهر أنه لا يصير صائماً ما لم ينو الصوم انتصاف النهار.

وإذا قال: نويت أن أصوم غداً (159أ1) إن شاء الله، أو قال: أصوم غداً بمشيئة الله، فلا رواية في هذه المسألة عن أصحابنا قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وفيها قياس واستحسان؛ القياس أن لا يصير صائماً؛ لأن بالاستثناء تبطل النية، وفي

(2/380)


الاستسحان يصير صائماً؛ لأن قوله: إن شاء الله ههنا ليس على معنى حقيقة الاستثناء؛ بل هو على معنى الاستعانة، وطلب التوفيق حتى لو أراد به حقيقة الاستثناء بقوله إن نوى أن يفطر غداً، إن دعي إلى دعوة، وإن لم يدع لصوم، لا يصير صائماً بهذه النية، وإن لم يدع.
ونظيره في نية صوم يوم الشك أكل السحر يكون بنية الصوم هكذا حكي عن نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: إذا نوى واجباً آخر في رمضان، ففي الصحيح المقيم يقع صومه عن رمضان، وأما في المسافر فكذلك عندهما، وعند أبي حنيفة يقع عما نوى، ولو نوى المسافر التطوع فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يقع عن الفرض، وفي رواية يقع عن التطوع، والمريض إذا نوى التطوع، فالصحيح أنه والمسافر سواء، وهو على الروايتين إذا كان عليه قضاء يومين من رمضان واحد، فأراد القضاء ينبغي أن ينوي أول يوم وجب عليه قضاؤه من هذا الرمضان أو آخر يوم، وجب عليه قضاؤه وإن لم يعين اليوم، ونوى قضاء رمضان لا غير يجزئه سواء كان عن رمضان واحد، أو عن رمضانين، مذكور في غريب الرواية،
ولو أصبح صائماً ينوي من اليومين الذين وجبا عليه أجزأه عن واحد منهما استحساناً، وكذلك لو أصبح ينوي صومه من ظهارين أجزأه عن واحد منهما استحساناً، ولو كان عليه قضاء يوم، فصام يوماً، ونوى به قضاء رمضان، وصوم التطوع أجزأه عن رمضان عند أبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز عنه ويكون تطوعاً؛ لأن بين النيتين تنافياً في أن من نوى النفل أو القضاء، ثم نوى الآخر في الليل انتقض الأول بالثاني، فبطلت عند التعارض، والصوم لا يتأدى بدون النية.

ولأبي يوسف: أن نية الفرض محتاج إليها، ونية النفل غير محتاج إليها، فاعتبر ما يحتاج إليها، وبطل ما لا يحتاج إليها.
ولو نوى صوم القضاء، وكفارة اليمين لم يكن عن واحد منهما عند أبي يوسف للتعارض، وعند محمد لمكان القضاء بين النيتين، ولكن يصير متطوعاً؛ لأنه لم يبطل أصل النية، وأصل النية يكفي للتطوع، ولو نوى قصاء رمضان، وكفارة الظهار كان عن القضاء استحساناً في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع عن النفل وهو القياس؛ لأن كل واحد منها مثل الآخر، فتشاقدت قطب النيتان لمكان التعارض بقي أصل النية، فيقع عن التطوع، ولأبي يوسف أن القضاء أقوى؛ لأنه يدل عما وجب بإيجاب الله، وصوم النذر والكفارة وجب بسبب وجد من العبد، وما وجب بإيجاب الله تعالى أقوى، فاندفع.
ولو نوى النذر لمعين وكفارة اليمين، فهو عن النذر في رواية عن محمد، ولو نوى صوم رمضان، وهو يرى أنه فيه، ثم تبين أنه قد مضى أجزأه، وإن تبين أنه لم يأت لم يجزئه.
أصل المسألة ما ذكر محمد في «الأصل» : في رجل أسره العدو واشتبهت عليه

(2/381)


الشهور، فلم يدر أي شهر رمضان؟ فتحرى شهوراً، إن وافق صومه رمضان جاز، وإن صام شهراً قبل شهر رمضان لم يجزه، وإن صام شهراً بعد شهر رمضان أجزأه، ولكن بشرطين:
أحدهما: إكمال العدة.
والثاني: ثبوت النية؛ لأنه قاضي ما عليه، وفي القضاء يعتبر الشرطان، فإن قيل: كيف جوز هذا وإنه نوى الأداء دون القضاء؟ قلنا: هو ناوي ما هو واجب عليه في هذه السنة، وهذا ونية القضاء سواء.

الفصل الرابع فيما يفسد الصوم وما لا يفسد صومه
فإن عاد شيء إلى جوفه، فهذا على وجهين: إما إن كان القيء ملء الفم، أو أقل من ملء الفم، فإن عاد بإعادته يفسد صومه بالإجماع، وإن عاد لا بإعادته، قال أبو يوسف: لا يفسد صومه، وقال محمد: يفسد هكذا ذكر القدوري، وذكر شيخ الإسلام الخلاف على خلاف ما ذكره القدوري، فذكر أن على قول أبي يوسف: يفسد صومه، وعلى قول محمد: لا يفسد.

وإن كان القيء أقل من ملء الفم، فعاد شيء منه لا بإعادته لا يفسد صومه بالاتفاق، وإن أعاده، فعلى قول أبي يوسف: لا يفسد صومه، وقال محمد: يفسد صومه، وأما إذا تقيأ، فإن كان ملء الفم يفسد صومه بالاتفاق، عاد شيء منه إلى جوفه، أو لم يعد، وإن كان أقل من ملء الفم، فعلى قول أبي يوسف: لا يفسد صومه عاد شيء إلى جوفه أو أعاده، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول محمد: يفسد عاد شيء إلى جوفه، أو أعاده، أو لم يعد أصلاً.
فالحاصل أن محمداً: لا يعتبر الصنع في طرق الإخراج، أو الإدخال، وأبو يوسف يعتبر ملء الفم، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: فيما إذا تقيأ أقل من ملء الفم، فعاد شيء إلى جوفه، إن عن أبي يوسف روايتين، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» .... في هذه الفصول بالاتفاق في مفهوم «الأصل» ، وإذا قاء بلغماً لا ينتقض صومه في قول أبي حنيفة ومحمد وأما قول أبي يوسف: ينتقض الصوم، القدوري؛ ثم على قول من يشترط ملء الفم في التقىء إذا تقيأ أقل من ملء الفم، مراراً يجمع إن كان بنفس ذلك السبب يجمع، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله،
والمذكور في شرح «الجامع الصغير» على قول أبي يوسف (159ب1) . إن كان الغثيان واحد يجمع، وإن سكن غثيانه، ثم تقيأ لا يجمع.

(2/382)


وحدّ ملء الفم ما لا يمكن ضبطه، وفي بعض المواضع ما لا يمكن ضبطه ألا يخرج، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: ملء الفم أن يعجزه عن الكلام، ومن المشايخ من اعتبر في هذا أن يبلغ نصف الفم.

وإذا استعط، أو أقطر في أذنه، إن كان شيئاً يتعلق به صلاح البدن، نحو الدهن والدواء يفسد صومه من غير كفارة، وإن كان شيئاً لا يتعلق به صلاح البدن كالماء قال مشايخنا: ينبغي أن لا يفسد صومه، إلا أن محمداً رحمه الله: لم يفصل بينما يتعلق به صلاح البدن، وبينما لا يتعلق.

ولو اغتسل، فدخل الماء في أذنه لا يفسد صومه، بلا خلاف، وفي الإقطار في الأذن لم يشترط محمد رحمه الله الوصول إلى الدماغ حتى قال مشياخنا: إذا غاب في أذنه كفى ذلك لوجوب القضاء، وبعضهم شرطوا الوصول إلى الدماغ.
وإذا حك أذنه، فأخرج العود، وعلى رأسه شيء من الدرن؛ ثم أدخله ثانياً مع ذلك الدرن، ثم أخرجه، وبقي الدرن ثم في الأذن لا يفسد صومه، وإذا أوجر فما دام في فمه لا يفسد صومه، وإذا أوصل إلى الجوف يفسد صومه، ولا تلزمه الكفارة في ظاهر الرواية من غير تفصيل بين حالة الاختيار، وبين حالة الاضطرار.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فرق بينهما، وقال: أرأيت لو استلقى على قفاه، وقال: صبوا في حلقي ماء أكان لا تلزمه الكفارة؟
وعامة المشايخ في هذه المسألة على أنه إن فعل ذلك به باختياره، ولا عذر به تلزمه الكفارة، وإن فعل ذلك من غير اختياره، أو باختياره، لكن به عذر ألا تلزمه الكفارة.
وروى هشام عن أبي يوسف: أن عليه الكفارة في هذه المسائل، وإذا احتقن يفسد صومه، وإذا استنجى، وبالغ حتى وصل الماء إلى موضع الحقنة يفسد صومه، ومن غير كفارة، وإذا أقطر في إحليله لا يفسد صومه عند أبي حنيفة، ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وروى الحسن عن محمد: أنه توقف في هذه المسألة في آخر عمره.
قال الفقيه أبو بكر البلخي: إنما يفسد الصوم على قول أبي يوسف: إذا وصل إلى الجوف، أما إذا كان في القصبة بعد لا يفسد، وهكذا ذكر في «المنتقى» : وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أن الصب في الإحليل بمنزلة الحقنة يفسد الصوم إذا أوصل في الجوف.

وتكلم المشايخ في الإقطار في قبل النساء، منهم من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: يفسد الصوم بلا خلاف كالحقنة، وهو الصحيح.

وفي الجائفة والآمة إذا داواهما بدواء يابس لا يفسد صومه، وإذا داواهما بدواء رطب يفسد صومه عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وأكثر المشايخ اعتبروا الوصول إلى الجوف في الجائفة والآمة إن عرف أن اليابس وصل إلى الجوف يفسد صومه بالاتفاق، وإن عرف أن الرطب لا يصل إلى الجوف لا يفسد صومه، كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله،

(2/383)


وأما إذا اكتحل، أو أقطر شيئاً من الدواء في عينه لا يفسد صومه عندنا، وإن وجد طعم ذلك في حلقه، وإذا بزق فرأى أثر كحل ولونه في بزاقه، هل يفسد صومه؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن فيه اختلاف المشايخ، عامتهم على عدم الفساد.
شد طعاماً بخيط، وعلقه في حلقه ما دام مشدوداً في الخيط لا يفسد صومه، وإن سقط من الخيط في حلقه يفسد صومه هكذا روي عن أبي يوسف.
في شرح شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا طعن الصائم برمح، فإن نزعه لم يفطره، وإن بقي الرمح أفطر، هكذا ذكر في عامة الكتب، وذكر سيدنا رحمه الله في «شرح التجريد» بيان في هذا الفصل، وهو ما إذا أبقي الرمح اختلاف المشايخ.
في «البقالي» : السهم إذا أصابه، ونفذ من الجانب الآخر لا يفسد صومه، وإذا أدخل إصبعه في دبره أكثر المشايخ على أنه لا يجب الغسل والقضاء، وإذا أدخل خشبة في دبره، إن كان طرفها خارجاً لا يفسد صومه.
في الباب الأول من «الواقعات» ، وعلى هذا إذا ابتلع حنطة، وأخذ طرفها في يديه، ثم أخرها لم يفطره، وإن ابتلع كلها فطر، إذا كان بين أسنانه شيء، فدخل جوفه، وهو كاره لذلك لا يفسد صومه هذا هو لفظ محمد رحمه الله، وأما إذا ابتلعه، فيه اختلاف المشايخ، ونص في «الجامع الصغير» : على أنه لا يفسد، وهذا كله إذا كان شيئاً قليلاً، فأما إذا كان كثيراً يفسد صومه دخل جوفه، أو ابتلعه، والحمّصة وما فوقها كثير ذكره في اختلاف زفر ويعقوب عن أبي حنيفة.

وفي «الجامع الأصغر» : أن أبا نصر الدبوسي قدر الكثير بأن يقدر على ابتلاعه من غير ريق، وهذا إذا لم يخرجه من فمه، فإن أخرجه، ثم ابتلعه يفسد صومه بالاتفاق، ثم إذا فسد صومه إذا كان قدر الحمصة، أو كان أقل لا أنه أخرجه من الفم، ثم ابتلعه هل تلزمه الكفارة؟ قال أبو يوسف: لا تلزمه؛ لأنه ليس من جنس ما يتغذى به، والطباع لا تميل إليه، فهو بمنزلة التراب، وإذا ابتلع سمسمة كانت بين أسنانه لا يفسد صومه، وإن تناولها من الخارج إن مضغها لا يفسد صومه، إلا أن يجد طعمه في حلقه، وإذا مص إهليلجة يابسة، ولم يدخل عينها في جوفه لا يفسد صومه، ولو فعل هذا بالفانيد أو السكر يفسد صومه.
وفي «الجامع الصغير» : إذا وقع ثلجة أو مطرة في فم الصائم، وابتلعها يفسد صومه هو المختار، والغبار والدخان وطعم الأدوية، وريح العطر، إذا وجد في حلقه لم يفطره؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.
وإذا وضع البزاق على كفه، ثم ابتلعه فسد صومه بالاتفاق، وإن كان البزاق شيئاً (160أ1) ، فيدلي من فمه لكن لم يزايل فمه، ثم ابتلعه لم يفسد صومه، في صوم شمس الأئمة الحلواني، وعن الفقيه أبو جعفر أنه إذا أخرج البزاق على شفتيه، ثم ابتلعه فسد صومه.

في «المنتقى» : الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: البزاق إذا خرج من الفم

(2/384)


ثم رجع إلى فمه، فدخل حلقه، وقد بان من الفم، أو لم يبن، فإن كان ذلك قدر ما إذا أصاب الصائم فطره، فإنه يفطره، وإذا ابتلع بزاق غيره فسد صومه من غير كفارة، إلا إذا كان بزاق صديقه، فحينئذٍ تلزمه الكفارة؛ لأن الناس قلما يعافون بزاق أصدقائهم،
وفي «المنتقى» : إذا شرب النائم، فعليه القضاء قال: ثمة، وليس هو كالناسي، وأشار إلى الفرق، فقال: ألا ترى أن النائم أو الذاهب العقل، إذا ذبح لم تؤكل ذبيحته، والناسي للتسمية تؤكل ذبيحته؟

وفي «الواقعات» : للصدر الشهيد رحمه الله: الدمع إذا دخل فم الصائم إن كان قليلاً، كالقطرة والقطرتين لا يفسد صومه، وإن كان كثيراً حتى وجد ملوحته في جميع فمه، وابتلعه يفسد صومه، وكذلك الجواب في عرق الوجه.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» إن تلذذ بابتلاع الدموع، فعليه القضاء مع الكفارة.
وفي «الواقعات» أيضاً الدم إذا خرج من الأسنان، ودخل الحلق إن كانت الغلبة للبزاق لا يفسد صومه، وإن كانت الغلبة للدم فسد صومه، وإن كان على السواء فسد صومه احتياطاً، ولا كفارة إذا كانت الغلبة للدم، أو كانا على السواء، لأنه لا كفارة في الدم الخالص في ظاهر الرواية، فهذا أولى.
إذا أكل لحماً غير مطبوخ يلزمه القضاء بلا خلاف، وتكلموا في الكفارة قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : والمختار أنه تلزمه، وإذا أكل لحماً غير مطبوخ تلزمه الكفارة بلا خلاف؛
الصائم إذا دخل المخاط من أنفه رأسه، فاستشمه، فأدخل حلقه على عمد منه لا يفسد صومه، وهو بمنزلة ريقه،
إذا رمت المرأة القطنة في قبلها إن انتهت إلى الفرج الداخل، وهو رحمها انتقض صومها؛ لأنه تم الدخول.
قيل لرجل يأكل: إنك صائم، وهو لا يتذكر، تكلموا فيه، واختيار الصدر الشهيد: أنه يلزمه القضاء، وإذا فتل خيطاً، أو سلكاً، فبله ببزاقه، ثم أدخله في فمه ثم أخرجه، وفعل كذلك مراراً لا يفسد صومه في صوم شمس الأئمة الحلواني؛ الصائم إذا عمل عمل الإبريسم، فأدخل الإبريسم في فمه، فخرجت به خضرة الصبغ، أو صفرية، أو حمرية، واختلطت بالريق، فصار الريق أخضراً أو أحمراً أو أصفراً، فيبلع هذا الريق، وهو ذاكر لصومه فسد صومه.
وفي «البقالي» : إذا أمسك في فمه شيئاً لا يؤكل، فوصل إلى جوفه لا يفسد صومه، وفيه أيضاً: إذا اغتسل فدخل الماء في فمه لا يفسد صومه.
وفيه أيضاً: عن نصر إذا اغتسل، فدخل الماء في فمه لا يفسد صومه؛ لأنه لم يصب فيه متعمداً.

نوع منه: إذا عالج ذكره بيده حتى أمنى، قال أبو بكر، وأبو القاسم: لا يفسد صومه، وعامة مشايخنا استحسنوا، وأفتوا بالفساد، وكذلك على هذا الخلاف إذا أتى

(2/385)


بهيمة فأنزل، وإن لم ينزل لا يفسد صومه بلا خلاف،
وأما إذا قبل بهيمة أو مس فرج بهيمة، فأنزل لا يفسد صومه بالاتفاق في صوم شمس الأئمة الحلواني رحمه الله،
وإذا قبل امرأته، وأنزل فسد صومه من غير كفارة، وإذا قبلت المرأة زوجها، فكذلك في حقها، وهذا إذا رأت بللاً، فأما إذا وجدت لذة الإنزال لكنها لا ترى بللاً قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال: ينبغي أن لا يفسد صومها عند محمد خلافاً لأبي يوسف، وهو نظير الاختلاف، فيما إذا رأت في منامها، ووجدت لذة إلا أنها لم تر بللاً قيل: يلزمها الاغتسال؛
l
جامع في نهار رمضان قبل الصبح، فلما جيء الصبح خرج، فأمنى بعد الصبح لا يفسد صومه؛ لأنه لم يوجد بعد الصبح الجماع لا صورة ولا معنى؛

ولو نظر إلى امرأته بشهوة، فأمنى لا يفسد، وإذا مسها، وأمني يفسد صومه، والمراد مس ليس بينهما ثوب، فأما إذا مسها من وراء ثياب، فإن كان يجد حرارة أعضائها فسد صومه إذا أمنى، وإن كان لا يجد حرارة أعضائها لا يفسد صومها، وإن أمنى، في صوم شمس الأئمة.
وإذا مست المرأة زوجها حتى أنزل لم يفسد صومه، ولو كان تكلف بذلك، ففيه اختلاف المشايخ.
في «البقالي» : مس الصائم امرأته، وأمذى لا يفسد صومه، ومن المشايخ من فصل القول وقال: إذا خرج المذي على سبيل الدفق يفسد، وإن خرج لا على سبيل الدفق لا يفسد. جماع الميتة بمنزلة جماع البهيمة يفسد صومه، إذا أنزل،

إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، فتذكر وهو مجامعها، فقام عنها، أو جامعها ليلاً، فانفجر الصبح، وهو مخالطها، فقام عنها قال محمد رحمه الله: هما سواء، ولا قضاء عليه، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه لم يوجد بعد التذكر وانفجار الصبح.... عن الجماع، ولو وجد بجزء من المجامعة ومخالطة، فذاك مما لا يستطاع الامتناع عنه، وقال إسماعيل: قال إسماعيل: قال أبو يوسف يقضي الذي كان يطأها الليل، ولا يقضي الذي كان يطأها بالنهار، وإن طلع الفجر، وهو مخالطها وبقي، فعليه قضاء لا كفارة، وكذلك إذا جامع ناسياً، فتذكر، فبقي، رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، (160ب1) وأبي يوسف، وهشام عن محمد.
وعن أبي يوسف: إذا بقي بعد الطلوع، فعليه الكفارة، وإن بقي بعد الذكر، فلا كفارة، والصحيح هو الأول؛ لأنه ما لم يصح الشروع لا تجب الكفارة، واقتران المجامعة بالشروع يمنع صحة الشروع، وعلى هذا إذا كان يأكل ويشرب ناسياً، فتذكر، أو كان طلع الفجر، وهو يأكل ويشرب، فقطع الشرب، أو ألقى اللقمة، فصومه تام.

(2/386)


في «الحاوي» في امرأتين عملتا عمل الرجال من الجماع، إن أنزلتا، فعليها القضاء، وإن لم تنزلا، فلا قضاء عليهما، والله أعلم.

الفصل الخامس في وجوب الكفارة في فساد الصوم
ما يجب اعتباره في هذا الفصل شيئان:
أحدهما: أن الصائم إذا أكل ما يتداوى به، أو ما يؤكل عادة، إما مقصوداً بنفسه، أو تبعاً بغيره تلزمه الكفارة، وهذا لأن الكفارة إنما شرعت بخلاف القياس زجراً عن جناية إفساد الصوم، وإنما يحتاج إلى الزجر فيما يميل الطبع إليه، والطبع إنما يميل إلى ما يعتاد أكله، أو يتداوى به، أما لا يميل إلى ما لا يعتاد أكله، ولا يتداوى به،
والثاني: أن ما يصلح للدواء والغذاء يجب في ما لا يعتاد أكله، ولا يتداوى إلا بأقله الكفارة قصد الغذاء، أو الدواء أو لم يقصد.

إذا ثبت هذا فنقول: إذا أكل ورق الشجر إن أكل ما تؤكل عادة كرام زكيد مر تلزمه الكفارة، وإن أكل التاك والحلبوي، فكذلك إن أكل في الابتداء تلزمه الكفارة، وإن أكل بعد ما كبر هذه الأشياء لا تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يعتاد أكله كذلك، وعن هذا قلنا: إذا ابتلع جوزة يابسة، أو لوزة يابسة لا كفارة عليه، وإن ابتلع لوزة رطبة، فعليه الكفارة.
وكذلك إذا ابتلع بطيخة صغيرة، فعليه الكفارة، ولو مضغ الجوزة اليابسة، أو اللوزة حتى وصل الممضوغ إلى جوفه، فعليه الكفارة روي ذلك عن أبي يوسف مطلقاً من غير فصل، وذكر هشام عن محمد في «المنتقى» المسألة مطلقة أيضاً من غير فصل،
قال مشايخنا رحمهم الله: إن وصل القشر أولاً إلى حلقه، فلا كفارة؛ لأن الفطر حصل بالقشر، وإنه لا يوجب الكفارة، وإن وصل اللب أولاً إلى حلقه، فعليه الكفارة.
في «نوادر» صوم شمس الأئمة الحلواني، وفي «المنتقى» ، وابن سماعة في «نوادره» : لو أكل قشور الرمان بشحمه، أو ابتلع رمانة، فعليه القضاء، ولا كفارة،

أكل قشر البطيخ، إن أكل يابساً أو كان بحال يتقذر منه، فلا كفارة، وإن كان طرياً وكان بحال لا يتقذر منه، فعليه الكفارة، وإذا أكل الحنطة، فعليه الكفارة؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تلزمه الكفارة، وإن أكل حبة، وفي «القدوري» يقول: إذا قضم حنطة، فعليه الكفارة، وإن أكل الشعير، فلا كفارة عليه، إلا إذا كان مقلياً، في «نوادر الصوم» لشيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «نوادر» صومه أن فيه اختلاف المشايخ، ولم يتعرض للمقلي وغير المقلي، وأكل الأرز والجاورس لا يوجب الكفارة وإن أكل عجيناً، فعليه الكفارة عند محمد، وعند أبي يوسف لا كفارة عليه؛ لأنه لا يؤكل عادة، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، وفي موضع آخر الخلاف على عكس هذا وإن أكل عجين الحوك الذي سمي بالفارسية تبعه، ينبغي أن تجب الكفارة كما لو أكل العصيدة

(2/387)


في «نوادر» شمس الأئمة أيضاً، ودقيق الذرة إذا لته بالسمن والدبس تجب الكفارة بأكله؛ لأنه يؤكل كذلك عادة، ودقيق الحنطة أو الشعير غسل بالماء وخلط بالسكر وسمي بالفارسية تيست تجب الكفارة بأكله؛ لأنه دواء، وإن أكل الطين الأرمني، فعليه الكفارة لأنه يتداوى به، وعن أبو يوسف أنه لا يجب في «البقالي» ، وإن أكل الطين الذي يأكله الناس على سبيل العلة ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في صومه أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر رحمه الله في «نوادر» صومه عن محمد أنه لا كفارة، قال: تدري أن كثيراً من مشايخنا استحسنوا، وأوجبوا الكفارة، وفي «البقالي» عن ابن المبارك مطلقاً أنه تجب الكفارة، فقيل له: ترويه عن أحد، قال: هو قول محمد و «شرحه» .

في بعض روايات «المنتقى» الأكل للتداوي، ولو أكل كافوراً، أو مسكاً، أو زعفراناً، فعليه الكفارة؛ لأنه يتداوى بهذه الأشياء ولو ابتلع إهليلج ففيه روايتان، وإذا أخذ لقمة من الجبن ليأكلها، فلما مصها تذكر أنه صائم، فإن ابتلعها كذلك، فعليه القضاء والكفارة، وإن أخرجها من فمه، ثم أعادها، وابتلعها، فلا كفارة؛ لأن بالإخراج صارت نحلاً يعاف عنها، وإذا أكل الملح وحده، فقد قيل: بأنه لا تلزمه الكفارة، وقد قيل: بأن عليه الكفارة، وقيل: تجب الكفارة بأكل القليل منه، ولا تجب بأكل الكثير؛ لأن الكثير منه مضر؛
نوع منه
إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، فتذكر وهو مجامعها فقام عنها، أو جامع ليلاً، فانفجر الصبح، وهو مخالطها، فقام عنها حتى لم يفسد صومه، أو عاد وهو ذاكر، في بعض الكتب أن عليه الكفارة من قبل إن عاد وهو على صومه، وذكر في بعض الكتب أن عن محمد في وجوب الكفارة روايتين، في رواية قال: تلزمه الكفارة لما قلنا، وفي رواية قال: إن كان الرجل فقيهاً يعلم أن الأول لم يفطره، ثم عاد تلزمه (161أ1) الكفارة، وإن كان جاهلاً لا تلزمه الكفارة.
وهو نظير ما لو أكل ناسياً، ثم أكل ناسياً، ثم أكل بعد ذلك متعمداً، إن كان الرجل فقيهاً تلزمه الكفارة، وإن كان جاهلاً لا تلزمه كذا ههنا.
الجماع في الدبر عندهما يوجب الكفارة، وكذلك عند أبي حنيفة على إحدى الروايتين، وهو الصحيح، لأن وجوب الكفارة بالجماع؛ لأنه قضاء الشهوة على سبيل التمام، وقد وجد ذلك ههنا، ووجوب الحد بالزنا لتضييع الولد، وفساد الفراش، وهذا المعنى لم يوجد ههنا.

وإذا طاوعت المرأة زوجها في الجماع، فعليها الكفارة، وإن كانت مكرهة، فلا كفارة عليها قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الشرط كونها مكرهة وقت الإيلاج؛ لأن الصوم إنما يفسد بالإيلاج، ولو أكرهت المرأة زوجها على الجماع، فعلى الزوج الكفارة، هكذا ذكر في بعض المواضع؛ لأن الزوج لا يجامعها إلا بعد انتشار الآلة، وإذا جاء الانتشار زال الإكراه، وذكر محمد في «الأصل» أن الكفارة عليه، وعليه الفتوى؛ لأن هذا إفطار بقدر،

(2/388)


إذا علمت بطلوع الفجر، وكتمت عن زوجها حتى جامعها، والزوج لم يعلم بطلوع الفجر، فعليها الكفارة، والله أعلم.

الفصل السادس فيما يكره للصائم أن يفعله وما لا يكره
إذا أراد أن يحتجم إن أمن على نفسه من الضعف لا بأس به، فأما إن خاف أن يضعفه ذلك، فإنه يكره، وينبغي له أن يؤخر إلى وقت الغروب هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده شرط الكراهة ضعفاً يحتاج إلى الفطر والقصد يكون فطر الحجامة.
ويكره المبالغة في المضمضة، والاستنشاق لحديث لقيط بن صبرة، وإنه معروف، وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ويفسر ذلك أن يكثر إمساك الماء في فمه، ويملأ فمه لا أن يغرغر، ويكره مضغ العلك للصائم، قال مشايخنا: والمسألة على التفصيل، إن لم يكن العلك مصلحاً ملتئماً فطره، وإن كان مصلحاً ملتئماً، فإن كان أسود فطره، وإن كان أبيض لم يفطره إلا أن في «الكتاب» لم يفصل.
قال في «الأصل» : ويكره للصائم أن يذوق شيئاً بلسانه، ومن أصحابنا من قال: هذا في صوم الفرض، أما في صوم التطوع لا يكره في صوم شمس الأئمة، ومنهم من قال: في صوم الفرض إنما يكره إذا كان له بد أما إذا لم يكن بد بأن احتاج إلى شراء شيء مأكول، وخاف أنه لو لم يذق يغبن فيه، أو لا يوافقه، لا يكره في صوم خواهر زاده رحمه الله، ونص على الكراهة في هذه الصورة في «فتاوى أهل سمرقند» .

قال: ويكره للصائم أن يذوق العسل والدهن عند الشراء ليعرف جيده ورديئه. وفيه أيضاً: يكره للصائم ذوق المرقة.
وفي «فتاوى البلخي» : إن كان زوجها سيء الخلق يضايقها في ملوحة الطعام، فلا بأس به.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: أن أبا حنيفة كان يكره أن تمضغ المرأة لصبيها طعاماً، وفي «القدوري» : لا بأس للمرأة أن تمضغ لصبيها طعاماً إذا لم تجد منه بدّاً، ولا بأس بالسواك الرطب واليابس، وأن يغمر في الماء قال عليه السلام «خير خلال الصائم السواك» ، وقال أبو يوسف: يكره المعلوك، ولا يكره الرطب.......؛ لأن في

(2/389)


المعلوك إدخال الماء في الفم من غير حاجة،
وفي «المنتقى» : كان أبو حنيفة رحمه الله يكره للصائم أن يمضمض، ويستنشق بغير وضوء، وأن يصب الماء على وجهه ورأسه، وأن يستنقع في الماء، وأن يذوق شيئاً بلسانه، وعن أبي يوسف أنه يكره له أن يتمضمض بوضوء، ولا بأس بأن يستنقع ويغسل على رأسه ويبل ثوبه.
وفي «القدوري» : ولا بأس للصائم أن يقبل ويباشر إذا أمن على نفسه ما سوى ذلك، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه كره المعانقة والمباشرة والمصافحة، وليس بين الروايتين تنافي، فرواية الحسن محمولة على المباشرة الفاحشة، بأن يعانقها، وهما متجردان، ويمس فرجه فرجها، وهذا مكروه بلا خلاف، ولأن المباشرة إذا بلغت هذا المبلغ يفضي إلى الجماع غالباً، وما ذكر في ظاهر الجواب محمول على ما إذا لم تكن المباشرة فاحشة، وفي المباشرة إذا لم تكن فاحشة، إذا كان يخاف على نفسه يكره أيضاً.

الفصل السابع في الأسباب المبيحة للفطر
إذا أفطر في صوم التطوع فإن كان بعذر يحل، واختلفت الروايات عن أصحابنا رحمهم الله في الضيافة، أنه هل تكون عذراً؟ فعن أبي يوسف أنه إذا دعاه أخ له إلى الطعام فهذا عذر يفطر ويقضي، وروى هشام عن محمد: إذا دخل على أخ له، فسأله أن يفطر لا بأس بأن يفطر قالوا: إن الصحيح من المذهب أنه ينظر في ذلك، إن كان صاحب الدعوة ممن يرضى بمجرد حضوره، ولا يتأذى بترك الإفطار لا يفطر، وإن كان يعلم أنه يتأذى بترك الإفطار يفطر قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: أحسن ما قيل في هذا الباب: إن كان يثق من نفسه بالقضاء يفطر، دفعاً للأذى عن أخيه المسلم، وإن كان لا يثق من نفسه بالقضاء لا يفطر وإن كان في ترك الإفطار أذى المسلم،
وقد اختلف مشايخ بلخ فيمن حلف على صائم (161ب1) بطلاق امرأته أن يفطر قال خلف بن أيوب: لا ينبغي له أن يفطر، وقال الفقيه أبو الليث: الأولى أن يفطر، ثم يقضي، وعلى قياس ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في مسألة الضيافة يجب أن يكون الجواب في مسألة الحلف على ذلك التفصيل أيضاً.
وهذا إذا كان الإفطار قبل الزوال، فأما بعد الزوال، فلا يفطر إلا إذا كان في ترك الإفطار عقوق بالوالدين أو بأحدهما، وأما الإفطار بغير عذر بشرط القضاء ذكر في «المنتقى» عن أبي يوسف أنه يحل.

وهكذ روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ذكر أبو بكر الرازي عن أصحابنا أنه لا يحل، والمتأخرون اختلفوا فيه وهذا كله في التطوع، أما في الفرض والواجب لا يحل الإفطار إلا بعذر، والسفر ليس بعذر في اليوم الذي أنشأ السفر فيه، وعذر في سائر الأيام

(2/390)


بخلاف ما لو مرض بعدما أصبح صائماً؛ لأن المرض عذر جاء من قبل الله.... سبيل من إسقاطه، فجاز أن يسقط عن المعني في الصوم، وأما السفر معني في مهنة من، وعليه لا يقدر على إسقاط ما عليه إلا بالأداء، والسفر الذي يبيح الفطر ما يبيح القصر، والمرض الذي يبيح الفطر ما خاف منه الموت، أو زيادة علة، حتى لو خاف أنه لو لم يفطر يزداد عنه وحفا أو حماة شدة حل له أن يفطر، وقد فرق بين المرض وبين السفر، فجعل أصل السفر مبيحاً، ولم يجعل أصل المرض مبيحاً، والوجه في ذلك: أن العلة الأصلية في إباحة الفطر المشقة، والمرض أنواع منها ما يكون الصوم خير المريض، فلا يصلح لإباحة الفطر على الإطلاق، فأما السفر، فالصوم فيه يوجب المشقة بكل حال.
إذا ثبت هذا: فنقول المريض إذا خاف على نفسه التلف، أو ذهاب عضو منه يفطر بالإجماع، وإن خاف زيادة العلة وامتداده، فكذلك عندنا، وعليه القضاء إذا أفطر لقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} (البقرة: 185) وقال في «الأصل» : إذا خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما، أو ولدها جاز الفطر، وعليهما القضاء، وهو بناءً على ما قلنا، ولم يذكر في شيء من الكتب أنه إذا زال المرض، وبقي الضعف هل له أن يفطر؟ قيل: وينبغي أن لا يفطر لأن المبيح هو المرض دون الضعف، ولا يعتبر فوت المرض دون الضعف أيضاً لما ذكرنا أن المبيح هو المرض لا خوفه.
سئل أبو القاسم عمن لدغته حية، فأفطر بشرب الدواء ينفعه، فلا بأس به.
في «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام عن صغير رضيع مبطون يخاف موته بهذا الدواء. وله ظئر، ويزعم الأطباء إن شربت دواء كذي يبرأ هذا الصغير، وتحتاج الظئر أن تشرب ذلك نهاراً في رمضان هل لها الإفطار بهذا العذر؟ قال: نعم إذا قال الأطباء البصراء بذلك.
في «الحاوي» : إن أفطرت يوماً في شهر رمضان لضعف أصابها في عمل البيت من طبخ أو خبز أو غسيل ثياب، فإن خافت على نفسها بسبب الصوم لو لم تفطر كان عليها قضاء ذلك اليوم لا غير؛ لأنه إفطار بعذر؛ لأنها تحت يد المولى، ولها أن تمنع من الائتمار لأمر المولى إذا كان يعجزها عن أداء الفرض؛ لأنها مبقاة على أصل الحرفة حق الفرائض، وفي هذه المواضع أيضاً: إذا سافر في شهر رمضان وخرج من مصره، ولم يفطر، وقد نسي شيئاً، فرجع إلى منزله يحمل ذلك الشيء، وأكل في منزله شيئاً، وخرج كان عليه الكفارة لأنه لما رجع فقد رفض سفره، وكان مقيماً.
نوع منه

إذا استدام السفر أو المرض حتى مات، فلا قضاء عليه؛ لأن وجوب القضاء مؤخر إلى وقت زوال العذر، فيبقى التأخير ما بقي العذر، وإن زال العذر بالصحة أو الإقامة وجب القضاء، واختلف أصحابنا في وقت القضاء، منهم قال: بأن القضاء على الفور،

(2/391)


ومنهم من قال: بأنه مؤقت بما بين رمضانين، وبه أخذ أبو الحسن الكرخي، والصحيح أنه على التراخي لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} (البقرة: 184) من غير فصل، وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: لا يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بالصوم؛ لأن الوجوب ليس على الفور قد قال أصحابنا: إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، فلا فدية عليه، وهو بناءً على ما قلنا: إن القضاء غير مؤقت، فكان رجاء القضاء ثانياً، ومع رجاء القضاء لا تلزمه الفدية، فإن لم يصم بعدما صح، أو أقام حتى مات، فعليه أن يوصي أن يطعم عنه؛ لأنه عجز عما هو واجب عليه، فينقل إلى ما يقوم مقامه، وكان عليه أن يوصي بالإطعام، ولا يجوز لابن أن يصوم عنه، وكذا لا يجب عليه الإطعام بدون الوصية؛ لأن العبادات لا يجوز أداؤها عن الغير إلا بالوصية كسائر العبادات وكحالة الحياة.
وقد روي عن عصام ومحمد بن يسار رحمه الله: أن من أراد الاحتياط لميته فليصم، وليطعم عنه؛ لأن السنة وردت بالأمرين «قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّممن مات وعليه صيام أطعم عنه وليه» نحن، وإن لم نأخذ بهذا الحديث بغريب اجتهاد بقي نوع شبهة، فيجمع احتياطاً، ولو صح المريض أياماً، فإن صح عشرة أيام مثلاً، ثم مات لزمه من القضاء بقدر ما صح، هكذا ذكر في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي ههنا خلافاً، فقال: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: يلزمه قضاء جميع الشهر حتى يلزمه أن يوصي جميع الشهر، وقال محمد: يلزمه بقدر ما صح.

والصحيح: أن لا خلاف ههنا، وإنما الخلاف في المريض إذا نذر بصوم شهر، فمات قبل أن يصح لم يلزمه شيء، وإن صح يوماً يلزمه أن يوصي بجميع الشهر في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، قال محمد: يلزمه بقدر ما صح.
فأما الشيخ الفاني يفطر، ويفدي يطعم عن كل يوم مقدار صدقة (162أ1) الفطر؛ لأنه وقع الناس له عن الصوم؛ لأن الشيخ الفاني أن يكون عاجزاً عن الأداء في الحال، ويزداد عجزه كل يوم إلى أن يموت، وفرق بينه وبين المريض إذا لم يدرك عدة من أيام أخر حيث لم يوجب عليه الفدية؛ لأن من شرط وجوب الفدية تحقق الناس وفي حق الشيخ الفاني تحقق الناس أما في حق المريض لا يتحقق الناس لا في آخر برء من آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن قبل ذلك احتمال البرء قائم، وفي آخر جزء من أجزاء حياته، هو عاجز عن الإيصاء، قال مشايخنا: إذا كان مريضاً يعلم أن آخره الموت، وابتدأ ذلك حتى أمكنه الإيصاء يجعل في هذه الحالة بمنزلة الشيخ الفاني وهذا شيء يجب أن يحفظ جداً.

(2/392)


الفصل الثامن في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم
صوم ست من شوال مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله متفرقاً كان أو متتابعاً، وقال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صياماً خوفاً من أن يلحق بالفريضة.
وعن مالك قال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغنا عن أحد من السلف، قال: وكان أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون أن يلحق برمضان ما ليس منه إذا رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يفعلون ذلك، فلفظ مالك ولفظ أبي يوسف دليل على أن الكراهة في حق الجهال الذين لا يميزون.
وعن أبي يوسف أنه قال: أكره متتابعاً ولا أكره متفرقاً. ومن المشايخ من قال: ينبغي للعالم أن يصوم سراً، وينهى الجهال عنه، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: كراهية، وفي نسخة أخرى لشمس الأئمة رحمه الله أن الكراهة في المتصل برمضان، أما إذا أكل بعد العيد أياماً، ثم صام لا يكره بل يستحب.

قال الحاكم الشهيد في «المنتقى» : وجدت عن الحسن أنه كان لا يرى لصوم ستة أيام متتابعاً بعد الفطر بأساً، وكان يقول: كفى بيوم الفطر مفرقاً بينهن وبين شهر رمضان،
وعامة المتأخرين لم يروا به بأساً، واختلفوا فيما بينهم الأفضل هو التفرق أو التتابع، قال القدوري: ورد النهي عن صوم الوصال، وهو أن يصوم ولا يفطر، واختيار الصدر الشهيد في صوم الوصال أنه إن كان يفطر في الأيام المنهية لا يكره، وكان يقول: تأويل النهي أن يصوم جميع الأيام ولا يفطر الأيام المنهية،
قال أيضاً: ونهي عن صوم الصمت، وهو أن لا يتكلم في حال صومه.
قيل: هو فعل المجوس، ولا بأس بصوم عرفة، وهو أفضل لمن قوي عليه في السفر والحضر رواه الحسن، وقد روي فيه نهي، وكذا صوم التروية، وقيل: النهي في حق الحاج إن كان يضعفه، أو يخاف الضعف، وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفلم يصم، وكذا مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يصوموا، وأنا لا أصومه ولا آمر بصيامه ولا أنهى عنه» .
ولا بأس بصوم يوم الجمعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: جاء حديث في كراهيته إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده.
ويكره صوم النيروز والمهرجان إذا تعمده، ولم يوافق يوماً كان يصومه قبل ذلك، وهكذا قيل: في صوم السبت والأحد، ومن المشايخ من قال: إن صامه تعظيماً لعيد المجوس، فهو مكروه وإن صامه شكراً لانقضاء الشيء فلا بأس به، وذكر الصدر الشهيد

(2/393)


في «واقعاته» : أن صوم يوم النيروز جائز من غير كراهة، هو المختار، فإن كان يصوم قبله تطوعاً، فالأفضل أن يصوم، فإن كان لا يصوم قبله تطوعاً، فالأفضل أن لا يصوم؛ لأنه يشبه تعظيم هذا اليوم وإنه حرام.6

وعن أبي يوسف رحمه الله، أنهم كانوا يستحبون صيام أيام البيض، وصوم يوم الاثنين والخميس، وبعضهم كره توقيت الصوم، ومن صام يوماً فأفطر يوماً، فحسن، وقيل: ذلك صوم داود صلوات الله عليه ومن صام شعبان، ووصل بصوم رمضان، وكانوا يستحسنون أن يصوموا قبل عاشوراء وبعده خلاف أهل الكتاب، وعن أبي يوسف أنه قال بعض الفقهاء: من صام الدهر وأفطر أيام خمسة، فهذا ما صام الدهر، قال: وليس هذا عندي، كما قال، والله أعلم هذا قد صام الدهر، ودخل في النهي.
ومما يتصل بهذه المسألة صوم يوم الشك، والكلام فيه من وجهين: من حيث الكراهة والإباحة، ومن حيث الأفضلية. أما الكلام في الكراهة والإباحة فنقول: إما أن ينوي الصوم وبت النية، أو ردد النية، فإن بت النية فهو على وجوه:
أحدها: أن ينوي صوم رمضان، فهو مكروه، وقال عليه السلام: «من صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله» وقال عليه السلام: «لا تتقدموا الصيام شهر رمضان عن جماعة الناس بيوم وبيومين إلا أن يوافق يوم الشك صوم يوم أحدكم» .
وتأويله: إذا كان من عادته أن يصوم كل خميس، أو في كل جمعة، فوافق يوم الشك، فلا بأس أن يصوم فيه أورده، وإن حاك في صدره أنه من رمضان كره، وأثم وأما إذا لم يحك في صدره ذلك فلا بأس به.
الثاني: أن يصوم بنية التطوع من غير أن يقع في قلبه أنه من رمضان، فلا بأس بذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد يكره هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع أن فيه اختلاف المتأخرين من المشايخ، قال بعضهم: يكره وأكثر المشايخ على أنه لا يكره سواء كان يصوم قبل هذا اليوم (162ب1) أو كان لا يصوم، وهو مروي عن أصحابنا رحمهم الله، ثم إذا نوى صوم رمضان فإن ظهر أن هذا اليوم من رمضان جاز صومه عن رمضان، وإن ظهر أنه من شعبان كان صومه تطوعاً، وإن كان نوى صوم التطوع، فإن ظهر أن هذا اليوم من رمضان جاز صومه عن رمضان؛ لأنه صام بنية التطوع، وإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان كان صومه تطوعاً.
الثالث: إذا نوى واجب آخر يكره، ولكنه في الكراهية دون الأول، وهو ما إذا نوى

(2/394)


صوم رمضان؛ لأن النهي في الحقيقة عن أداء صوم رمضان في شعبان، وهذا ليس بصوم رمضان، ولكنه مثله في الفريضة، فيكره دون الأول، فبعد ذلك إن ظهر أن هذا اليوم من رمضان كان صومه عن رمضان عندنا؛ لأنه صحيح مقيم صام رمضان بنية واجب آخر، فإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان قد اختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا: يقع صومه عن النفل ولا يقع عن ما نوى، وعامة المشايخ على أن صومه يقع عما نوى، فإن صام وظهر أن هذا اليوم من شعبان أو رمضان لا يسقط عنه ما نوى من الواجب بلا خلاف، فإن أطلق النية إطلاقاً، فهو مكروه أيضاً، فإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان أيضاً كان صومه عن رمضان، هذا الذي ذكرنا كله إذا بت النية، فأما إذا ردد النية، فهذا على وجهين:
كان الترديد في أصل النية.
أو كان الترديد في وصف النية.

فإن كان الترديد في أصل النية بأن نوى إن كان غداً رمضان فهو صائم عن رمضان، وإن كان غداً من شعبان، فهو غير صائم أصلاً، فإنه لا يصير صائماً بهذه النية أصلاً، وإن كان غداً من رمضان، فهو يصير ما لو نوى أن فطر غداً متى دعي أي دعوة يصوم إن لم يدع، فإنه لا يصير صائماً بهذه النية أصلاً، وإن لم يدع إلى دعوة.
وإن كان الترديد في وصف النية بأن نوى أن يصوم غداً عن رمضان، إن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم عن واجب آخر، فهو مكروه، فبعد ذلك إن ظهر أن غداً من رمضان صار صائماً عن رمضان؛ لأنه لا ترديد ههنا في أصل النية، وإنما الترديد في جهته فتلغو النية بحكم الترديد، وتبقى أصل النية، وإنه يكفي لصوم رمضان عندنا، وإن ظهر أنه من شعبان لا يصير صائماً عما نوى؛ لأن النية قد بطلت بحكم الترديد بقي أصل النية لا يكفي لإسقاط الواجب، ولكن يصير صائماً تطوعاً، فإن أفطر فيه لا يلزمه القضاء، فإن لم يظهر أن غداً من شعبان، أو من رمضان لا يسقط الواجب عنه، وإن نوى أن يصوم غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم تطوعاً، فهو مكروه، فإن ظهر أنه من رمضان كان صائماً عن رمضان، وإن ظهر أنه من شعبان كان صائماً تطوعاً، ولكن لو أفسده لا يلزمه القضاء،
وإن نوى أن يصوم غداً عن رمضان وإن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان، فهو صائم أطلق، وما عين شيئاً، فهذا وما لو نوى أن يصوم غداً من رمضان، وإن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم تطوعاً سواء هلآت..... هو الكلام في الكراهة والإباحة جئنا إلى الأفضلية،

فنقول: اتفق مشايخنا على أنه إذا كان يوافق يوماً كان يصومه قبل ذلك بأن اعتاد

(2/395)


رجل صوم يوم الخميس ويوم الجمعة، فوقع الشك في ذلك اليوم أن الأفضل أن يصومه تطوعاً، وإن لم يوافق ما كان يصومه قبل ذلك، فالأفضل أن يتلوم، فلا يأكل ولا ينوي الصوم ما لم يقرب انتصاف النهار، فإن قرب انتصاف النهار، ولم يتبين الحال اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: الأفضل أن يصوم، وبعضهم قالوا: الأفضل أن يفطر، وعامة المشايخ على أنه ينبغي للقاضي والمفتي أن يصوم تطوعاً، ويفتي بذلك في حق خاصته، ويفتي للعامة بالفطر.
وفيه حكاية أبي يوسف، وإنها معروفة حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن نصير بن يحيى كان يختار الصوم يوم الشك، ومحمد بن سلمة كان يختار الفطر، فدخل أبو نصر بن سلام على نصير بن يحيى فقال له نصير: لما اختار صاحبك الفطر يوم الشك، والصوم أحوط قال أبو نصر: الفطر أحوط؛ لأنهم أجمعوا على أن من أفطر لا إثم عليه واختلفوا في الصوم قال بعضهم: يكره ويأثم، وقال بعضهم: لا يكره، فدل أن الفطر أحوط، والله أعلم.

الفصل التاسع فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة
إذا جامع امرأته في نهار رمضان، ثم حاضت امرأته، ومرضت في ذلك اليوم لا كفارة عليها عندنا.
وكذلك إذا مرض الرجل سقط عنه الكفارة، وكذلك إذا أكلت أو شربت، ثم حاضت أو مرضت في ذلك اليوم لا كفارة عليها، وإذا جامع أو أكل أو شرب، ثم سافر في ذلك اليوم لا تسقط عنه الكفارة، وإن سوفر به مكرهاً بأن ركب على الدابة، وخرج إلى السفر مكرهاً روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه، وعندهما تجب الكفارة حجتهما أن العذر جاء لا من جهة من له الحق، فصار بمنزلة ما لو سافر بنفسه وأكره على السفر، فخرج بنفسه.

وجه قول أبي حنيفة إن العذر جاء لا من جهة المفطر، فصار كالحيض والمرض إذا حسبت المرأة أن هذا اليوم يوم حيضها، فأفطرت فيه، ثم لم تحض، أو كان لها (163أ1) نوبة حمى، ففطرت فلم تصم في ذلك اليوم أجمعوا أن في فصل الحمى تجب الكفارة، وفي فصل الحيض اختلاف المشايخ، والصحيح أنه تجب.
في «فتاوى القاضي» : إذا أكل بعد الفجر، أو قبل غروب الشمس، وهو لا يعلم، ثم أكل بعد ذلك متعمداً، فعليه القضاء دون الكفارة، أصبح في رمضان لا ينوي الصوم فأكل أو شرب، فلا كفارة عليه، قال أبو يوسف رحمه الله: إن أكل بعده، فلا كفارة عليه، وإن نوى الصوم قبل الزوال، ثم أفطر في باقي اليوم، فعليه الكفارة عند أبي يوسف ومحمد؛ لأن هذا إفطار في صوم جائز، وعند أبي حنيفة لا كفارة عليه؛ لأن ظاهر قوله

(2/396)


عليه السلام «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» يورث شبهة عدم الجواز، والكفارة تدرأ بالشبهات.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا أكل أو شرب أو جامع في نهار رمضان ناسياً، وظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه، وإنما لم تجب الكفارة لمكان الشبهة، والشبهة نوعان: شبهة اشتباه بالنظير، وهو أن يجد لما ظن، واشتبه عليه نظير أو شبهة حكمية، وقد وجد لما اشتبه نظيراً، وهو الأكل حالة العمد؛ لأن أكل الناسي ينافي الإمساك في الظاهر كأكل العامد، وكذلك وجدت الشبهة الحكمية، فإن الصوم قد فسد بالأكل الأول عند أهل المدينة، وإنه قياس غير مهجور، فصار شبهة في الاستحسان.
وعن أبي حنيفة: أنه إن بلغه الحديث لزمه الكفارة؛ لأنه علم أن القياس متروك، فلا يعتبر القياس سبباً للشبهة في حقه، وفي رواية أخرى عنه لا تلزمه الكفارة على كل حال، وهو الصحيح.

وإذا احتجم، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فإن لم يستفت أحداً، ولا بلغه الخبر الوارد في هذا الباب، أو بلغه، وعرف نسخه، فعليه الكفارة، وإن لم يبلغه النسخ، أو استفتى أحداً ممن يؤخذ منه الفقه، ويعتمد على فتواه، فأفتي أن صومه فاسد، فلا كفارة عليه؛ لأن على العامي العمل بفتوى المفتي، فإذا فعل كان ذلك موزوراً فيما صنع، وإن كان المفتي مخطئاً فيما أفتى،
وإذا ذرعه القيء فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه لوجود شبهة الاشتباه بالنظير، فالقيء والمقيوء سواء، وإذا اكتحل، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فعليه الكفارة لانعدام الشبهتين، ولو أوصى بالفطر فلا كفارة عليه وإذا قبل امرأته أو مسها، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه لوجود الاشتباه، فإن له نظيراً، وهو الفعل في حالة التيقظ والله أعلم.

الفصل العاشر في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم
قال محمد رحمه الله: إذا جن (في) رمضان كله، فليس عليه قضاؤه، وإن أفاق شيئاً لزمه قضاء ما مضى، ولم يذكر ما إذا أفاق في الليلة الأولى، ثم أصبح مجنوناً، واستوعب الشهر كله، وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة أنه يلزمه القضاء، وكذا ذكر

(2/397)


الفقيه أبو جعفر في «كشف الغوامض» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم أنه لا قضاء عليه، وهو الصحيح؛ لأن الليلة لا يصام فيها، وعلى هذا إذا أفاق في ليلة في وسط الشهر، ثم أصبح مجنوناً لا قضاء عليه، وإن أفاق في آخر يوم من رمضان إن أفاق بعد الزوال، فقد اختلفوا فيه.
والصحيح: أن لا يلزمه؛ لأنه لا يصح الصوم فيه، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله أنه لا فرق بين الجنون الطارىء، والأصلي إذا أفاق في شيء من الشهر لزمه قضاء ما مضى.

ومن أصحابنا من فرق بين الجنون الأصلي والطارىء، فقال: إن المجنون الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر بأن بلغ مجنوناً، ثم أفاق في بعض الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى، وهكذا روي عن ابن سماعة في «نوادره» عن محمد ونص في «المنتقى» عن أبي يوسف أن الجنون الأصلي إذا لم يكن مستغرقاً، فإنه لا يسقط القضاء، ولو أغمي عليه شهر رمضان، أو بعضه، فعليه قضاء ما مضى، ولو أغمي عليه بعدما غربت الشمس من الليلة الأولى رمضان، وبقي كذلك جميع الشهر، فعليه قضاء جميع الشهر إلا اليوم الأول، فإنما استثني اليوم الأول.
أما إذا نوى بعد دخول الليل قبل الإغماء؛ فلأنه نوى الصوم في محله، فصحت النية وصح صوم ذلك اليوم، وكذلك إذا لم يعلم أنه نوى قبل الإغماء؛ لأن كل مؤمن في كل ليلة من رمضان عليه قصد صوم الغد، هذا هو الظاهر، والبناء على الظاهر واجب ما لم يعلم بخلافه، حتى لو كان هذا الرجل مسافراً، ولم يعلم وجود النية منه في الليلة الأولى كان عليه قضاء اليوم الأول؛ لأن نية صوم الغد في الليالي من المسافر ليس بظاهر.
وكذلك إذا كان هذا الرجل متهتكاً يعتاد الفطر في رمضان كان عليه قضاء اليوم الأول؛ لأن حال مثله لا يدل على عزيمة بصوم الغد، فأما إذا أغمي عليه قبل دخول الليلة الأولى لزمه قضاء اليوم الأول أيضاً؛ لأن الإغماء حصل قبل دخول وقت النية، فلا يمكن جعل النية موجودة ظاهراً.
قال القدوري في «شرحه» : إذا أغمي عليه في ليلة من رمضان، فأفاق من الغد قبل الزوال، (163ب1) فينوي ذلك اليوم أجزأه، وكذلك المجنون، ومعنى المسألة: ما إذا علم أنه نوى، فصومه في الغد جائز، ولا حاجة إلى النية في الغد.

قال في «الجامع الصغير» : غلام بلغ في النصف من رمضان في نصف النهار يأكل بقية يومه، ويصوم بقية الشهر، ولا قضاء عليه فيما مضى، وإن أكل في اليوم الذي أدرك فيه ليس عليه قضاؤه، وعلى هذا الكافر إذا أسلم في النصف من رمضان في نصف النهار، وإنما لم يجب قضاء اليوم الذي أسلم الكافر فيه، وأدرك الصبي فيه؛ لأن صوم يوم واحد لا يتجزأ وجوباً وسقوطاً، وقد امتنع الوجوب في صدر النهار، فيمتنع في الباقي، فلا يلزمه قضاؤه أكل فيه أو لم يأكل، وإن كان لم يأكل، في يومه ذلك، وقد أسلم لم يجزئه عن رمضان.

(2/398)


أسلم الكافر أو أدرك الصبي قبل الزوال، فنوى أن يصوم ذلك اليوم عن رمضان لم يجزئه عن رمضان، هكذا ذكر المسألة ههنا.
قال مشايخنا: وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في رجل ارتد عن الإسلام في صدر النهار من رمضان، والعياذ بالله، ثم رجع إلى الإسلام قبل الزوال، ونوى الصوم أجزأه، وأنه يكون صائماً عن رمضان يجب أن يصير صائماً عن رمضان في هذه المسألة.
ورواية في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا احتلم الصبي، وأسلم النصراني ضحى النهار، فعليهما أن يصوما ذلك اليوم، ولو أفطرا، فعليهما القضاء؛ لأنه إذا أسلم أو أدرك قبل الزوال، فقد أدرك وقت النية، فصار كما لو أدرك أو أسلم في الليل، ولو كانت جارية حاضت، فعليها قضاء ذلك اليوم، ولو كان ذلك بعد الزوال لم يلزمهم القضاء علل فقال: إنهم لو صاموا لا يكون صوماً، فهذا التعليل إشارة إلى أن وجوب القضاء يعتمد وجوب الأداء، ولا أداء بعد الزوال.
قال في «الجامع الصغير» : ولو كان هذا خارج رمضان يعني بلغ الصبي قبل الزوال، ونوى النفل صح؛ لأن الصبي أهل للنفل، فإذا نوى قبل الزوال، فقد نوى الصوم في وقته، والأهلية ثابتة من أول اليوم إلى آخره فيصح.

والحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الزوال خارج رمضان ونوت النفل لا يصح صومها لعدم الأهلية في أول النهار، والكافر إذا أسلم قبل الزوال خارج رمضان، ونوى التطوع، فقد ذكر في بعض «النوادر» : صومه صحيح، والذي عليه عامة مشايخنا صومه لا يصح إلحاقاً له بالحائض.
قال في «الجامع الصغير» أيضاً: في مسافر نوى الإفطار، ثم قدم المصر قبل الزوال، فعليه أن يصوم إن كان في رمضان؛ لأن الصوم واجب على المسافر نظراً للسبب والأهلية لكن رخص له الترك؛ لأجل السفر، فإذا انتهى السفر نهايته، والوقت قابل للصوم لزمه الأداء، ولكن مع هذا لو أفطر لا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة عرف وجوبها بخلاف القياس في صوم لا يكون إباحة الإفطار فيه ثابتة في أول النهار، والله أعلم.

الفصل الحادي عشر في النذور
قال محمد رحمه الله في «نوادر الصوم» : إذا قال: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم ثلاثين مرة لزمه كذلك؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأن قوله: شهراً عقيب ذكر اليوم يذكر بتقدير ما أوجب على نفسه مكانه، قال: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم ثلاثين مرة، ولو نوى أن يصوم هذا اليوم كلما دار في الشهر، فهو كما نوى، ويلزمه صوم هذا اليوم أربع مرات كلما دار في الشهر؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه بإضمار في، وإن لم تكن له نية اختلفت الرواية فيه، قال في بعض الروايات: يلزمه صوم هذا اليوم كلما دار في الشهر أربع مرات

(2/399)


وخمس مرات يلزمه الزيادة بالشك، وقال في بعض الروايات: يلزمه صوم هذا اليوم ثلاثين مرة احتياطاً لأمر العبادة.
«المنتقى» : المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم اثنين، ونوى كل الاثنين يأتي عليه، فعليه ما نوى، وكذلك صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، ولو قال: عليّ صوم غد ورأس الشهر، ونوى كلما يأتي عليه، فليس بشيء، وعليه أن يصوم ذلك اليوم الذي تكلم به، ولو قال: عليّ صوم هذا الشهر يوماً كان عليه أن يصوم هذا الشهر في أي الوقت ما شاء.

ويصير تقدير هذه المسألة لله عليّ أن أصوم شهراً في وقت ما، وإذا قال: عليّ صوم هذا اليوم غداً، فإنه ينظر إن كان قال هذه المقالة بعد الزوال وبعد الأكل، فلا شيء عليه؛ لأن ذكر الغد لغو ههنا إذ لا يتصور صوم هذا اليوم في الغد، فإذا لغا ذكر الغد صار كأنه قال: لله عليّ صوم هذا اليوم، وهناك الجواب على التفصيل الذي ذكرنا.
ولو قال: لله عليّ أن أصوم غداً اليوم لزمه صوم الغد؛ لأن ذكر اليوم لغو ههنا، لأنه لا يتصور صوم الغد في اليوم، فصار حاصلاً مثلما لله عليّ أن أصوم أمس لا يلزمه شيء، ولو قال: لله عليّ حج السنة الماضية في هذه السنة لزمه الحج؛ لأن ذكر الوقت لغو في باب الحج؛ لأن الحج مقدم بأفعاله لا بالوقت، وإذا لغا ذكر الوقت صار النذر مضافاً إلى صوم لا يتصور فيه.
في «المنتقى» : إذا قال: لله عليّ صوم يوم الفطر، فإنه يفطر، ولا قضاء عليه. روى هشام عن محمد،
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم يوم الأضحى قال: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا شيء عليه، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه الصوم يوم، فإن أفطر يوم الأضحى، وقضاه يوم الفطر أجزأه إذا علق النذر بالصوم بالشرط، وأداه قبل وجود الشرط لا يجوز إجماعاً، وإذا كان مضافاً إلى وقت (164أ1) وأداه قبل مجيء الوقت بأن قال: لله عليّ أن أصوم رجباً، فصام ربيع الأول مكانه، فعلى قول أبي يوسف: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وعلى قول محمد: لا يجوز، وأما إذا كان مضافاً إلى مكانه، وأداه في مكان آخر إن كان المكان الذي أدى فيه أفضل أو مثله يجوز بالإجماع، وإن كان دونه، فعلى قول علمائنا الثلاثة يجوز خلافاً لزفر.

إذا قال: لله علي أن أصوم شهراً متتابعاً، وما نوى شهراً بعينه، فشرع في صوم شهر، وأفطر يوماً لزمه الاستقبال، ولو قال: لله عليّ أن أصوم هذا الشهر متتابعاً، فأفطر يوماً منه لا يلزمه الاستقبال؛ لأنه لو لزمه الاستقبال في الفصل الثاني وقع جميع الصوم وأكثر في غير الوقت المضاف إليه النذر، وكذلك ما إذا كان الشهر تعين بعينه.
قال محمد رحمه الله في «نوادر الصوم» : قال رجل: لله عليّ صوم يوم، فأصبح من الغد لا ينوي صوماً، فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصوم اليوم الذي أوجب على نفسه، فإن ذلك لا يجزئه من قضاء ذلك اليوم، فرق بين هذا، وبينما إذا قال: لله عليّ أن أصوم

(2/400)


غداً، فأصبح من الغد لا ينوي صومه مما عليه قبل الزوال إثراً..... وإنما كان كذلك اعتبار الواجب بإيجاب العبد بالواجب بإيجاب الله تعالى في كل فصل.
إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً بعينه، ثم إنه ظاهر من امرأته، وصام شهرين متتابعين عن ظهاره أحدهما رجب أجزأه من الظهار، وكان عليه أن يقضي رجباً بخلاف ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما رمضان، حيث لم يجز ذلك عن الظهار، وكان من رمضان خاصة، وإذا وقع صوم رجب من الظهار، ولم يقع عن رجب لا كفارة عليه إن أراد يميناً؛ لأنه صام رجباً كما حلف في الأصل، إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهر، ونوى شهراً بعينه نحو إن نوى رجباً أو شعبان أو ما أشبهه، فأفطر يوماً منه لزمه قضاؤه، وليس عليه الاستقبال، ولو نوى شهراً بغير عينه، فأما إن نوى شهراً بالأهلة أو بالأيام، وأي ذلك ما نوى صحت نيته، فبعد ذلك إن لم ينو التتابع فله الخيار، إن شاء صام متتابعاً وإن شاء صام متفرقاً، وإن نوى متتابعاً وشرع في صوم شهر وأفطر يوماً لزمه الاستقبال كما صرح بالتتابع، وقد مرت المسألة.
وإذا قال: لله عليّ أن أصوم سنة، فهذه المسألة على وجهين:

إما إن قال: هذه السنة وإنه على وجهين: إما إن قال: في أول السنة، وفي هذا الوجه يلزمه بنذره أحد عشر شهراً لا يدخل في ذلك أيام العيد ولا يدخل شهر رمضان، وأما إن قال ذلك في بقية السنة، وفي هذا الوجه يلزمه ما بقي للسنة من.... يكون شهر رمضان في الباقي، وأما إن قال: سنة وإنه على وجهين:
إما إن عين السنة بأن قال: سنة كذا، والجواب فيه كالجواب فيما إذا قال نذر على الصوم هذه السنة يلزمه بنذره أحد عشر شهراً وإن لم يعين السنة إن لم ينص على التتابع يلزمه اثنا عشر شهراً، بخلاف ما إذا عين السنة، فإن هناك يلزمه أحد عشر شهراً.
والفرق: أن النذر إذا تناول سنة معينة كان النذر مضافاً إلى رمضان وإلى غيره من الشهور، والنذر المضاف إلى رمضان لا يصح، وما وراءه أحد عشر شهراً، أو إذا تناول سنة غير معينة، فالنذر هنا أضيف إلى رمضان؛ لأن السنة إذا كانت بغير عينها إذا صام اثني عشر شهراً متفرقاً يجوز، فلزمه اثنا عشر شهراً وإن نص على التتابع يلزمه أن يصوم أحد عشر شهراً؛ لأن السنة المتتابعة لا تخلو عن رمضان، فيكون النذر مضافاً إلى رمضان وإنه لا يصح، وما وراءه أحد عشر شهراً هذا الذي ذكرنا في حق الرجل.
k
وأما المرأة إذا نذرت صوم سنة بعينها، فالجواب في حقها كالجواب في حق الرجل يلزمها أحد عشر شهراً بنذرها، وتقضي أيام حيضها؛ لأن النذر إذا كان مضافاً إلى سنة بعينها كان مضافاً إلى كل يوم من تلك السنة، فيلزمها صوم يوم حيضها.
في «الفتاوى» إذا قال: لله علّي أن أصوم شوال وذا العقدة وذا الحجة، فصامهن بالرؤية، وكان ذو العقدة تسعة وعشرون، فعليه قضاء خمسة أيام إن لم يصم في العيدين،

(2/401)


وأيام التشريق؛ لأنه أبرم صوم ثلاثة أشهر متفرقاً وقد صام ما عدا هذه الأيام الخمسة.

ولو قال: لله عليّ أن أصوم ثلاثة أشهر، فصامهن على نحو ما قلنا، فعليه قضاء ستة أيام؛ لأنه أشار إلى غائب، فيلزمه كل شهر ثلاثين، وإذا قالت المرأة: عليّ صوم يوم حيضي لا يلزمها شيء، وكذلك إذا قالت: لله عليّ صوم هذا اليوم، وهي حائض، وكذلك لو قال رجل أو امرأة: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم، وكان أكل فيه، أو قال ذلك بعد الزوال لا يلزمه شيء.
وكذلك لو قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان بعد الزوال، أو قبل الزوال، ولكن بعد الأكل، فإنه لا يلزمه شيء، ولو قالت: لله عليّ أن أصوم غداً يوم حيضها لزمها صوم الغد حاضت أو لم تحض.
كذلك إذا قالت: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان قبل الزوال، وهي حائض، فعليها أن تقضي، وكذلك إذا قالت: لله عليّ أن أصوم يوم الخميس، فجاء يوم الخمس، وهي حائض، فعليها القضاء. وروى هشام عن محمد إذا قالت: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان في يوم هي حائض، فلا قضاء عليها (164ب1) .
وروى ابن رستم عن محمد إذا قالت المرأة: لله عليّ أن أصوم غداً، وهي اليوم حائض وغداً من أيام حيضها، فلم تطهر غداً، فعليها يوم مكانه، قال: لأني لا أدري لعل الدم ينقطع غداً، وكذلك في النفاس، وقد ولدت اليوم، وقالت: لله عليّ أن أصوم غداً، وإذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان يوم أضحى فعليه يوم مكانه. إذا نذر بصوم شهر بعينه، وأفطر يوماً منه لزمه قضاؤه، ولا يلزمه الاستقبال، وقد مر هذا. قال محمد: وإن أراد بقوله: لله عليّ اليمين كفر يمينه مع قضاء ذلك اليوم.
واعلم أن هذه المسألة على تسعة أوجه:
إما أن نوى بقوله: لله عليّ النذر، ولا نية له في اليمين،
أو نوى اليمين ولا نية له في النذر،
أو نوى أن لا يكون يميناً،
أو نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذراً، أو نوى النذر، ونوى أن لا يكون يميناً،

أو نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذر،

أو نوى النذر واليمين جميعاً، أو لم يكن له نية أصلاً، فإن لم ينوِ شيئاً أو نوى النذر، ولا نية له في اليمين،
أو نوى النذر، ونوى أن لا يكون يميناً كان نذراً، ولا يكون يميناً في هذه الوجوه، وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون يميناً، ولا يكون نذراً، إن نوى النذر واليمين كان يميناً ونذراً عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يكون نذراً، ولا يكون يميناً، فأبو يوسف يقول: بأن هذه الصيغة للنذر حقيقة، ولليمين مجاز؛ لأن النذر يوجب المنذور به لعينه، فكان واجباً من كل وجه، واليمين يفيد وجوب المحلوف به بغيره؛ إذ ليس في لفظ اليمين ما يقتضي الوجوب، وكان واجباً من وجه، واللفظ الموضوع لإفادة معنى لا يفيد ما دونه إلا مجازاً، والحقيقة والمجاز يرادان بلفظ واحد، فتترجح الحقيقة على المجاز
وهما يقولان: هذا التصرف نذر صيغة يمين معنى، أما نذر صيغة، فظاهر، وأما

(2/402)


يمين معنى؛ لأنه نوى اليمين، وصحت نيته لكون اللفظ محتملاً لليمين بإقامة حرف اللام مقام حرف الباء، فيجب العمل باللفظ المعنى كما في الهبة بشرط العوض، والعمل باللفظ والمعنى ليس من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن اللفظ إذا صار مجازاً عن غيره تسقط حقيقته في نفسه، كالهبة المضافة إلى الحرة والعمل باللفظ والمعنى لا يوجب سقوط اعتبار اللفظ، بل يبقى اللفظ على حاله مقرراً في وصفه لكن زاد عليه شيء آخر كما في الهبة بشرط العوض، وقد وجد هذا الحد في مسألتناً؛ لأن حقيقة هذا اللفظ للنذر، ومتى نوى اليمين يبقى مقرراً على حاله، لكن يزاد عليه حرف القسم وهو الباء، أو تقام اللام مقام حرف الباء، فهذا من باب العمل باللفظ والمعنى، وإنه جائز، وإن نوى اليمين ولا نية في النذر، فعلى قول أبي يوسف يكون يميناً، ولا يكون نذراً؛ لأنه لا يرى الجمع، وقد تعين اليمين مراداً بنيته، فلا يبقى النذر مراداً.

وعلى قولهما: يكون يميناً ونذراً؛ لأنهما يريان الجمع ونيته اليمين صار معنى اليمين معتبراً في النذر، فيكون يميناً ونذراً، وإذا نذر بصوم كل خميس يأتي عليه، فأفطر خميساً واحداً، فعليه قضاؤه وكفارة يمين إن أراد يميناً مع النذر، وإن أفطر خميساً آخر، فلا كفارة عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن نية اليمين لما صحت في النذر عندهما صار كأنه قال: لله عليّ صوم كل خميس، وقال مع ذلك: والله لأصوم كل خميس، ولو صرح بالأمرين جميعاً، ثم أفطر جميعاً بقي النذر، ولم يبق اليمين؛ لأن يمين واحدة حيث فيها مرة، فلا تجب مرة أخرى، فلم تتكرر الكفارة، فأما القضاء إنما يجب بالإفطار، والإفطار قد تكرر، فيتكرر القضاء.
إذا قال: لله عليّ صوم الأبد يفطر أيام العيد، ويطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من حنطة؛ لأنه وقع الناس عن قضاء هذه الأيام بالصوم، فيفدي كما في الشيخ الفاني هكذا ذكر في صوم «الأصل» .
وفي «المنتقى» : هشام عن محمد فيمن جعل على نفسه صوم الأبد، فأفطر يوم الفطر ويوم الأضحى لا يطعم عن هذه الأيام في حياته، وعليه أن يقضي أن يطعم بخلاف الشيخ الفاني، فإنه يطعم في حياته. إذا قال: لله عليّ أن أصوم جمعة إن أراد أيام الجمعة يلزمه صوم جمعة، وإن أراد أيام الجمعة يلزمه سبعة أيام، وإن أراد به يوم الجمعة يلزمه صوم يوم الجمعة، وإن لم يكن له نية يلزمه صوم سبعة أيام؛ لأن الجمعة تذكر، ويراد بها يوم الجمعة، وتذكر ويراد بها الأيام السبعة لكن الأيام السبعة أغلب، فانصرف المطلق إليه، إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهراً مثل شهر رمضان إن نوى المماثلة في التتابع يلزمه صوم شهر متتابعاً، وإن نوى المماثلة في العدد، أو لم يكن له نية يلزمه أن يصوم ثلاثين يوماً إن شاء متفرقاً، وإن شاء متتابعاً.

وهو نظير ما ذكر في أيمان «الفتاوى» : إذا قالت المرأة: إن كلمت فلاناً عليّ صوم شهر كشهر رمضان، فكلمت فلاناً، فإن شاءت فرقت، وإن شاءت تابعت إلا إذا نوت التتابع والفرق النية إلى أصل الوجوب وإلى العدد لا إلى صفة الواجب به إذا نوت.

(2/403)


ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فلان في يوم هو فيه صائم من رمضان أم من كفارة يمين أو تطوع، فإن ذلك اليوم يجزئه لما هو صائم به، وعليه أن يصوم لقدوم فلان، وستأتي هذه المسألة بعد هذا الخلاف ما ذكر ههنا.
وعنه أيضاً إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهرين متتابعين (165ب1) من يوم يقدم فيه فلان في أيام ثبتت من شعبان، فإنه يصوم ما بقي من شعبان لنذره ويصوم رمضان من الفريضة، ويقضي بعد الفطر ما بقي من نذره، فإن جعل على نفسه أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبداً..... فلان في اليوم الذي قدم فيه فلان، فعليه صوم ذلك اليوم وحده أبداً، ولا شيء عليه غير ذلك.
وعنه أيضاً إذا قال: لله عليّ أن أصوم الشهر، فعليه أن يصوم بقية الشهر الذي هو فيه، وإن نوى شهراً، فهو كما نوى.
هشام عن أبي يوسف: إذا قال: إن شفى الله مريضي صمت كذا وكذا، فلا شيء عليه حتى يقول: فعليّ أن أفعل، هشام عن محمد إذا قال: والله؛ لأن صوم الأبد يعني يوماً واحداً من الأبد، أو قال: لله عليّ أن أصوم الأبد، وذلك يعني يوماً واحداً من الأبد، وذلك أن ينوي صوم الخميس والجمعة، فهو على ما نواه.
هشام قال: سألت محمداً عن رجل أراد أن يقول: لله عليّ صوم يوم، فجرى على لسانه صوم شهر، فعليه صوم شهر، وكذلك الطلاق والعتاق والنذر، وإن كان نيته خلاف ما قال، قال: وقال أبو حنيفة: الطلاق لا يقع فيما بينه وبين الله تعالى، والعتاق يقع، قال هشام: قلت لمحمد: ما كان حجة أبي حنيفة؟ قال: لا أدري، قال محمد: أما أنا أراه واقعاً، وهو قول أبي يوسف.

عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم رأس الشهر، فعليه صوم اليوم الأول، ولو قال: آخر الشهر، فعليه أن يصوم اليوم الآخر، ولو قال: لله عليّ صوم يومين متتابعين من أول الشهر، وآخره كان عليه أن يصوم الخامس عشر والسادس عشر.
إذا قال: لله عليّ أن أصوم عشرة أيام متتابعة، فصامها متفرقة لم يجزئه؛ لأنه أداء الكامل بالناقص، ولو أوجبها متفرقة، فقضاها متتابعة أجزأه؛ لأنه أوجبها ناقصاً، وأداها كاملاً، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات بتسليمة، فصلاها بتسليمتين لا تجزئه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي أربعاً بتسليمتين، فصلى أربعاً بتسليمة أجزأئه.
في آخر «القدوري» : إذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم في رمضان فصامه أجزأه عن رمضان، وعن الصوم الذي جعل عليه، ولا كفارة عليه، وإن كان أراد العين؛ لأن زمان رمضان يتعين لرمضان، فلم يتعلق بنذره حكم، وقوله: أجزأه عن رمضان، وعن الصوم الذي جعل عينه، فإنما أراد بالجواز أنه لا تلزمه بالنذر شيء ولا كفارة؛ لأن اليمين انعقدت على الصوم، وقد صام، ولو كان قال: لله عليّ أن أصوم

(2/404)


اليوم الذي يقدم فيه فلان شكراً لله تعالى تطوعاً لقدومه، وأراد اليمين، فصامه عن كفارة يمين، ثم قدم فلان في ذلك اليوم بعد ارتفاع النهار، فعليه القضاء والكفارة.
ولو قدم في يوم من رمضان، فعليه الكفارة، ولا قضاء عليه، أما الفصل الأول فإنما لزمه القضاء؛ لأنه التزم الصوم للقدوم، وصامه عن الكفارة، وهي غير متعينة فيه، فكان عليه القضاء، وعليه الكفارة؛ لأنه حنث في يمينه؛ لأنه لم يحلف على الصوم المطلق إنما حلف على الصوم عن القدوم، وقد صام عن غيره فحنث.
وأما الفصل الثاني: فإنما لا يلزمه القضاء؛ لأن الزمان متعين لرمضان، فلا يصح إلحاقه بغيره، وإنما لزمه الكفارة؛ لأنه لم يصم لما حلف عليه.

إذا نذر أن يصوم يوم كذا ما عاش، ثم كبر، وضعف عن الصوم يطعم مكان كل يوم مسكيناً، وإن لم يقدر لعسرته يستغفر الله تعالى، فإن ضعف عن الصوم في ذلك اليوم لمكان الصيف كان له أن يفطر، وينتظر حتى إذا كان في الشتاء صام يوماً مكانه؛ لأنه لو سافر في ذلك اليوم يفطر، ويصوم مكانه فكذا ههنا؛ لأن المرض والسفر كلاهما سبب العذر، ومن جنس هذه المسألة إذا قال: لله عليّ أن أصوم أبداً، فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة كان له أن يفطر؛ لأنه لو لم يفطر يقع الخلل في جميع الفرائض، ويطعم كل يوم نصف صاع من الحنطة؛ لأنه متيقن أنه لا يقدر على قضائه أبداً.

الفصل الثاني عشر في الاعتكاف
قال علماؤنا رحمهم الله: الاعتكاف سنة مشروعة، وهو ضربان:
تطوع: وهو أن يشرع. وواجب: وهو أن يوجبه على نفسه وجوازه، قال القدوري: ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد الجماعات، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يصح إلا في مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس، قيل: أراد أبو حنيفة رحمه الله غير المسجد الجامع، فإن هناك يجوز الاعتكاف، وإن لم يصلوا فيه الصلوات كلها بجماعة.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: أن الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، وغير الواجب يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والأفضل اعتكاف الرجل في الجامع إذا كان ثمة قوم يصلون بجماعة، وإن لم يكن، فاعتكافه بالمسجد أفضل، والأفضل في حق المرأة الاعتكاف في مسجد بيتها يريد به الموضع المعد للصلاة، ولو خرجت واعتكفت في مسجد الجماعة جاز اعتكافها.
والصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، واختلفت روايات في النفل، وروى الحسن عن أبي حنيفة الصوم شرط لصحته، وفي ظاهر الرواية ليس بشرط، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولا يخرج المعتكف من معتكفه ليلاً ولا نهاراً إلا بعذر، وإن خرج من غير عذر ساعة فسد اعتكافه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف (165ب1) ومحمد: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم.

(2/405)


من الأعذار الخروج للغائط والبول أولى، والجمعة، فبعد ذلك ينظر إن كان منزله بعيداً من الجامع يخرج حين يرى أنه يبلغ الجامع عند البداء، فإن كان منزله قريباً يخرج حين تزول الشمس،
وفي «القدوري» : يخرج عند الأذان، فيكون في المسجد مقدار ما يصلي أربعاً أو ستاً قبل الجمعة الأربع السنة والركعتان تحية المسجد، وروي عن أبي حنيفة ما يصلي قبلها أربعاً، وبعدها أربعاً وذكر في «الأصل» أربعاً قبلها وأربعاً أو ستاً بعدها على حسب اختلاف الأخبار في النافلة بعد الجمعة،
ولو أقام في المسجد الجامع يوماً وليلة ينتقض اعتكافه؛ لأن الجامع محل ابتداء الاعتكاف، فيكون محل مقامه من طريق الأولى، ولا يخرج لأكل وشرب، ولا لعيادة المريض ولا لصلاة الجنازة، قيل: وينبغي أنه إذا لم يكن ثمة أحد يقوم بأمور الميت وبالصلاة عليه أنه يخرج، وإذا مرض، فليس له أن يخرج.
وإذا انهدم المسجد الذي هو فيه، أو أخرج منه، فدخل مسجداً آخر من ساعته صح استحساناً، والقياس في الإكراه أن يعيد، وإن صعد المئذنة للتأذين لا يفسد اعتكافه، وإن كان باب المئذنة خارج المسجد، كذا ذكر في «الأصل» ، وفي «أمالي الحسن بن زياد» عن أبي حنيفة أنه يبطل اعتكافه، وإذا خرج لغائط أو بول لا بأس بأن يدخل فيه، ويرجع إلى المسجد كلما فرغ من الوضوء، ولو مكث في بيته فسد اعتكافه، وإن كان ساعة عند أبي حنيفة؛ لأن بيته ليس بمحل لابتداء الاعتكاف، فالبقاء فيه بعد فراغه من الحاجة يبطل اعتكافه، ولو انتقل من مسجد إلى مسجد من غير عذر انتقض اعتكافه عند أبي حنيفة، وعندهما لا ينتقض، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة الخروج ناقض للاعتكاف قليلاً كان أو كثيراً، وعندهما الخروج القليل ليس بناقض، وهذا كله في الاعتكاف الواجب،

فأما في الاعتكاف النفل، وهو أن يشرع فيه من غير أن يوجبه على نفسه لا بأس بأن يخرج بعذر وغير عذر، وهذا على ظاهر الرواية، فإن على ظاهر الرواية يقدر.... الاعتكاف بشيء، فإن محمد رحمه الله قال في «الأصل» : المعتكف بقدر تارك، له....: إذا خرج ولهذا لم يشرط الصوم على ظاهر الرواية لصحة اعتكاف النفل وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة اعتكاف النفل أقله مقدر بيوم، ولهذا شرط لصحت اعتكاف النفل الصوم.
ويحرم على المعتكف الجماع ودواعيه نحو المباشرة والتقبيل واللمس، الليل والنهار في ذلك على السواء، وبالجماع يفسد الاعتكاف على كل حال، واللمس والمباشرة تفسد الاعتكاف إذا أنزل، وإذا لم ينزل لا يفسد اعتكافه، ولو نظر فأنزل لم يفسد اعتكافه، والجماع ناسياً يفسد الاعتكاف كالجماع عامداً، والأكل ناسياً لا يفسد الاعتكاف؛ لأن الأكل ليس من محظورات الاعتكاف، بل هو من محظورات الصوم.

(2/406)


ولهذا تؤقت حرمته بحرمة الصوم وهو النهار وبالأكل ناسياً لا يفسد الصوم، فلا يفسد الاعتكاف بخلاف الجماع؛ لأن الجماع من محظورات الاعتكاف، قال الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (البقرة: 187) فيستوي فيه العامد والناسي كما في الإحرام.
نوع منه
يجب أن يعلم بأن النذر بالاعتكاف صحيح.
أما على قول من يقول بأن الشرط صحة النذر أن يكون المنذور به عبادة لا أن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب، فظاهر؛ لأن الاعتكاف عبادة مقصودة بنفسه؛ لأنه لبث وقرار في المسجد، وانتظار للصلاة في مكان الصلاة،

وأما على قول من يقول بأن شرط صحة النذر كون المنذور به عبادة، وأن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب؛ فلأن للاعتكاف شبهاً بالصلاة من حيث إنه لبث وقرار في مكان الصلاة لانتظار الصلاة، والمنتظر للصلاة كأنه في الصلاة إيجاب، أو يقول: النذر بالاعتكاف نذر بالصوم؛ لأن الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، والتزام الشيء التزام لشرائطه، ولله تعالى من جنس الصوم إيجاب.

إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً، فهذه المسألة على وجهين:
إن نوى شهراً، فهو كما نوى.
وإن لم ينوِ شهراً بعينه، فله أن يعتكف أي شهر شاء، ولا يتعين الشهر الذي يليه، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، ولم ينوِ شهراً بعينه كان له أن يصوم في أي شهر شاء، وإن بين مسألة الاعتكاف، وبين مسألة الصوم فرقان.
مسألة الاعتكاف إذا عين شهراً، وشرع في الاعتكاف يجب التتابع نص على التتابع أو لم ينص، وفي مسألة الصوم لا يجب التتابع إلا إذا نص على التتابع، وإن قال: نويت أن أعتكف بالنهار دون الليل لم تصح نيته لا قضاء، ولا فيما بينه وبين الله.
إذا أصبح الرجل صائماً متطوعاً، ثم قال في بعض النهار: لله تعالى عليّ أن أعتكف هذا اليوم، فلا اعتكاف عليه في قياس قول أبي حنيفة؛ لأن الاعتكاف الواجب لا يصح إلا بالصوم، فلو وجب الاعتكاف وجب الصوم، والصوم في أول اليوم انعقد تطوعاً، فلا يمكن جعله واجباً بعد ذلك،

وقال أبو يوسف: إن قال ذلك بعد الزوال، فلا اعتكاف، وإن كان قبل الزوال، فعليه الاعتكاف، وكذلك قال أبو يوسف في رجل أصبح مفطراً، ثم قال: لله عليّ أن أعتكف هذا اليوم وكان ذلك قبل انتصاف النهار فإنه يلزمه ويعتكفه بصومه وإن لم يفعل، فعليه القضاء، ولو نذر اعتكاف ليلة لا يلزمه شيء، وإن نوى اليوم معها لم تصح نيته، وعن أبي يوسف أنه يلزمه، ويصير تقدير المسألة كأنه قال: لله عليّ أن أعتكف ليلة بيومها، ولو نذر اعتكاف يومين أو ليلتين أو أكثر من ذلك صح نذره، ودخل فيه الأيام والليالي.

(2/407)


يجب أن يعلم أن ذكر الأيام يستتبع ما بإزائها من الليالي، (166أ1) .

وكذا ذكر الليالي يستتبع ما بإزائها من الأيام باتفاق الروايات، وكذا ذكر اليومين والليلتين يستتبع ما بإزائهما من الليلتين واليومين في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه لا يستتبع ما بإزائهما، على هذه الرواية نفي النذر باعتكاف يومين وباعتكاف ليلتين، والنذر باعتكاف اليومين صحيح، وتدخل الليلة المتوسطة تحت النذر، والنذر باعتكاف الليلتين غير صحيح، فلا يلزمه شيء، ولو نذر باعتكاف ثلاثين يوماً وقال: عنيت به النهار خاصة، فهو كما نوى وإن يفرقه، ولو قال: أردت بالليل خاصة لم يصدق، وإن قال: ثلاثين ليلة، ونوى بالليل خاصة لم يلزمه شيء.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً بغير صوم، فعليه أن يعتكف شهراً، ويصوم فيه،
إذا أوجب الاعتكاف في وقت معين، ولم يعتكف قضى؛ لأن الاعتكاف قد لزمه في ذلك الوقت، فلا يخرج عن العهدة إلا بالأداء في الوقت أو بالقضاء خارج وقت كما في الصوم.

إذا نذر اعتكاف يوم دخل المسجد قبل طلوع الفجر، وأقام فيه إلى أن تغرب الشمس، ولو نذر اعتكاف يومين دخل المسجد قبل غروب الشمس، وأقام الليلة ويومها وليلته الأخرى ويومها، وعن أبي يوسف: أنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر، وهذا بناءً على ما روينا عن أبي يوسف أن من نذر الاعتكاف يومين تدخل فيه الليلة المتوسطة، ولا تدخل الليلة الأولى، وحكى أبو يوسف برواية بشر عن أبي حنيفة مثل قوله، ولو أوجب الاعتكاف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس؛ لأن الشهر اسم له من الهلال إلى الهلال والبداية بالليل.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رمضان صح نذره كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً أو ما أشبهه.
فإن قيل: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى وقت يقع صومه بجهة الاعتكاف، فكان المنذور به اعتكافاً بصومه هذا معنى ههنا معدوم.

قلنا: إذا نذر اعتكاف رجب إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى محل يقبل الصوم؛ لأنها محل تقبل الصوم بجهة الاعتكاف؛ لأن من شرط صحة الاعتكاف ذات الصوم لا الصوم بجهة الاعتكاف. قال عليه السلام: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ولم يقل لا اعتكاف إلا بالصوم بجهة الاعتكاف، فلو أنه صام رمضان، ولم يعتكف كان عليه أن يقضي اعتكافه يعتكف شهراً آخر مكانه متتابعاً، ويصوم فيه،
وعن أبي يوسف برواية بشر: أنه يبطل نذره، ولا يلزمه القضاء، وإن لم يعتكف حتى دخل رمضان آخر، فصامه واعتكف قضاء عن الاعتكاف في شهر الأول لا يجوز؛

(2/408)


لأن تفويت رمضان.
كما وجب الاعتكاف ديناً في الذمة وجب الصوم لأجل الاعتكاف ديناً، وكل صوم وجب ديناً في الذمة لا يتأدى بصوم رمضان، فلو أفطر في رمضان الأول من عذر، ووجب عليه قضاؤه باعتكاف متتابع؛ لأن الأول إذا كان واجباً عليه بهذه الصفة؛ فإن قضى صوم رمضان، واعتكف فيه متتابعاً أجزأه كما لو صام رمضان واعتكف فيه؛ لأن القضاء يقوم مقام الأداء.

إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، ولم يعتكف حتى مات يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة؛ لأنه لزمه صوم بهذا النذر، وقد عجز عن الأداء بالموت، فينقل إلى الفداء، وإن كان مريضاً وقت الإيجاب، فلم يبرأ حتى مات، فلا شيء عليه اعتباراً لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وإن كان صحيحاً حين أوجب، وعاش عشرة أيام أطعم عنه لجميع الشهر.
قيل: هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد: يطعم عنه بقدر ما كان صحيحاً، والله أعلم بالصواب.

الفصل الثالث عشر في صدقة الفطر
اختلفت الروايات في صفة صدقة الفطر ذكر في «الأصل» : وتجب صدقة الفطر عن نفسه وعبيده،

وذكر في «المجرد» : عن أبي حنيفة: أن صدقة الفطر سنة لا ينبغي تركها، والمذهب أنها واجبة؛ لأنه ورد الأثر بها، قال عليه السلام: «أدوا عمن تمونون» ، وقال عليه السلام: «أدوا عن كل حر وعبد» والأمر للوجوب، ومعنى قول أبي حنيفة في «المجرد» أنها سنة: أن وجوبها ثابت بالسنة،
ووقت وجوبها من حين يطلع الفجر الثاني من يوم الفطر حتى إن مات قبل ذلك، فلا وجوب،
ومن ولد أو أسلم قبله وجب، وأفضل لو قال: الأداء قبل خروجه إلى الصلاة.
ومن حكمها أنها لا تسقط بالتأخير، وإن طالت المدة، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» وأن يجوز تعجيلها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين في رواية الكرخي، وعن أبي حنيفة لسنة أو سنتين، وعند بعض المشايخ يجوز التعجيل في شهر رمضان، ولا يجوز قبله، وذكر الصدر الشهيد في شرح كتاب الصوم أن ذكر اليوم والسنة في رواية الكرخي، ورواية أبي حنيفة وقع اتفاقاً، لا لتقييد الجواز به.

(2/409)


ولا تجب هذه الصدقة إلا على حر مسلم غني، والغني أن يملك نصاباً أو ما قيمته نصاب فاضلاً عن مسكنه وأثاثه وثيابه على نحو ما يعتبر في حرمة الصدقة، وما تأدى به هذه الصدقة في المشهور من الأخبار ثلاثة أشياء الحنطة والشعير والتمر، ومقدارها من الحنطة نصف صاع، ومن الشعير والتمر صاع، وأما الزبيب فهو مروي في بعض الأخبار، ومقداره نصف صاع عند أبي حنيفة على رواية «الجامع الصغير» ، وروى الحسن عنه أنه صاع والزبيب جوازه باعتبار..... العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة ودقيق الشعير وسويقة كالشعير عندنا، والجواز باعتبار العين؛ لأن الدقيق منصوص عليه في بعض الروايات، والخبر يجوز باعتبار العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، وهو أصح، وفي سائر الحبوب الجواز باعتبار القيمة، وإذا أراد أن يعطي قيمة الحنطة أو الشعير أو التمر يؤدي قيمة (166ب1) أي ثلث شاء عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي قيمة الحنطة.
ذكره الصدر الشهيد في شرح الصوم، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: أداء الحنطة أفضل، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: أداء القيمة في ديارنا أفضل، وعن أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه قال: الدقيق أحب إليّ من الحنطة، والدراهم أحب إليّ من الدقيق،
ويؤدي نصف صاع تمر، أو شعير، ومد حنطة لا يجوز، وجوزه في الكفارة، ولو أدى نصف صاع تمر تساوي نصف صاع حنطة لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما منصوص عليه، والمقصود من الكل واحد، ولو أدى الحنطة رديئة جاز، وإن كان عفناً، أو به عيب أدى لنقصان، وقد اعتبر الحسن في رواية قيمة الوسط في الجواز، وأما إذا كان قيمته دون قيمة الوسط لا يجوز.

فقد ذكر في كتاب الزكاة لو أخرج قيمة نصف صاع حنطة لم يجز إلا إن أخرج قدر نصف صاع وسط، فإن كان ما أخرج لا يساوي نصف الصاع حنطة وسط، ولكن يساوي قيمة صاع من شعير وسط، أو صاع تمر وسط، ففي هذه الصورة نوع اضطراب ذكر في بعض نسخ الحسن أنه يجوز، وذكر في بعض نسخه أنه لا يجوز، قال البلخي في «كتابه» في حياته: والصحيح عندي جوازه.
وفي «المنتقى» : إذا أعطى قيمة نصف صاع رديئة لم يجزه، وعليه أن يعطي قيمة نصف صاع حنطة وسط، وإن أعطى قيمة صاع دقيق أو سويق جيد، وذلك لا يساوي نصف صاع حنطة وسط لا يجزئه، وكان عليه تمام قيمة نصف صاع حنطة وسط، والصاع الذي تقدر الحنطة بنصفه والشعير والتمر بكله، قال الطحاوي: ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه قبل معناه إن سوى بالعديس والماش، وإن أعطى بالوزن سويق من الحنطة عند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز، وقال محمد: لا يجوز إلا كيلاً.

(2/410)


قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ويجب على الرجل الحر المسلم الغني أن يؤدي صدقة الفطر عن نفسه، ورقيقه كفاراً كانوا أو مسلمين إذا لم يكونوا للتجارة، وكذا عن مدبريه وأمهات أولاده ولا يخرج عن مكاتبه، ولا عن رقيق مكاتبه، ولا يجب على المكاتب أيضاً، والمعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب، وعندهما بمنزلة حر عليه دين، فإن كان الفاضل عن دين السلعة ما يساوي مائتي درهم سوى ما يحتاج إليه في الحال تجب عليه صدقة الفطر.

ويخرج عن عبده الذي في يدي غيره بإجارة أو عارية أو وديعة وكالعبد المرهون، ففي ظاهر الرواية تجب صدقة الفطر على الراهن إذا كان عبده وفى له بالدين وفضل مائتي درهم، وإن كان فضل مائتي درهم في المرهون فهما سواء، ولا يخرج عن الآبق والمغصوب المجحود، ويخرج صدقة الفطر عن عبده المأذون المديون، وأما مماليك هذا العبد فإن كانوا للتجارة، فلا يخرج عنهم سواء كان على المأذون دين أو لم يكن، وأما إذا كان اشتراهم المأذون للخدمة بإذن المولى، فإن لم يكن على المأذون دين يجب على المولى صدقة فطرهم، وإن كان على المأذون دين لا يجب على المولى صدقة فطرهم عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وإذا كان العبد بين رجلين فلا صدقة على واحد منها عندنا، وهذا بناءً على أن عندنا الوجوب على المولى بسبب الملك، والملك لم يكتمل، وإذا كان عدد من العبيد بين رجلين، فلا صدقة على واحد منهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: تجب على كل واحد منهما ما يحصه بالقسمة من العدد، لو قسم بناءً على أنه عند أبي حنيفة الرقيق لا يقسم قسمة واحدة، فلم يملك كل واحد منهما ملكاً تاماً، ومحمد رحمه الله يرى قسمة الرقيق، وكذلك أبو يوسف؛ لأن أبا يوسف رحمه الله لم يوجب ههنا لعدم الولاية،
وإذا كانت الجارية مشتركة بين رجلين، فجاءت بولد، فادعياه، فلا صدقة على واحد منهما في الأم، فأما الولد، فقال أبو يوسف: على كل واحد منهما صدقة تامة، وقال محمد: عليهما صدقة واحدة، وإن كان أحدهما فقيراً والآخر موسراً، أو كان أحدهما ميتاً، فعلى الآخر صدقة تامة عندهما.

ولا يجب على الرجل صدقة الفطر عن أولاده الكبار سواء كان لهم مال، أو لم يكن، وسواء كانوا أصحاء أو زمنين في ظاهر رواية أصحابنا، وأما الأولاد الصغار، فإن كان لهم مال، فإنه يؤدي من مالهم صدقة فطرهم وصدقة فطر مماليكهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد رحمه الله، وكذلك الوصي على هذا الخلاف،

وإن لم يكن للصغير مال، فإنه يجب على الأب صدقته دون صدقة فطر مماليكه،
وفي «البقالي» : والقاضي كالولي في الأداء من مال الصغير، والمعتوه والمجنون بمنزلة الصغير، سواء كان الجنون أصلياً بأن بلغ مجنوناً، أو كان الجنون عارضاً، هو الظاهر من المذهب، ولا يخرج عن سائر قرابته، وإن كانوا في عياله، وكذا لا يخرج عن

(2/411)


نوافله في ظاهر الرواية، وكذا لا يخرج أحد الزوجين عن صاحبه.
ويجوز أن يعطي ما يجب عن جماعة مسكيناً واحداً، وإن أعطى ما يجب عن واحد مسكينين يجوز عند الكرخي، ولا يجوز عند غيره.
عن أبي يوسف: يعطي الرجل صدقة الفطر عن نفسه، ويكتب إلى أهله، فيعطون حيث هم، وإن أعطى عن نفسه، وعنهم حيث هو، أو كتب إليهم حتى يعطوا عن أنفسهم وعنه يجوز.
وعنه أيضاً: لو أعطى صدقة الفطر عن زوجته وأولاده الكبار الذين هم في عياله أجزأه وإن لم يأمروه بذلك، ولا يجوز أن يعطي عن غير عياله إلا بأمره، ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو، وفي زكاة المال، وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع، وقال: يؤدي عن العبد حيث العبد،
وروي عن أبي يوسف: أن العبد إذا كان حياً يعتبر مكان العبد، وإن كان ميتاً يعتبر مكان المولى،
فلا تجب هذه الصدقة عن الحمل، وتجب عن عبد الجناية عمداً أو خطأً، وأما عبد الموصى برقبته لرجل وبخدمته لآخر صدقة فطره على مالك (167أ1) الرقبة،

وإذا اشترى عبداً شراءً صحيحاً، ومر يوم الفطر قبل قبضه لزمه صدقة الفطر إن قبضه وقيل: هو قولهما، وإن مات قبل القبض، فلا صدقة، وإن رده قبل القبض، فعلى البائع، وإن كان بعده، فعلى المشتري، والله أعلم.

الفصل الرابع عشر في المتفرقات
إذا كان عليه قضاء يوم الخميس مثلاً، وظن أنه يوم الجمعة، فصامه ينوي قضاء الجمعة لم يجز،
ولو نوى قضاء اليوم الذي عليه غير أنه ظن أنه يوم الجمعة أجزأه في «الجامع» للكرخي.
ابن سماعة عن محمد: صائم جن وشرب في حال جنونه، فعليه القضاء.

إذا نذر صوم رجب، فدخل رجب، وهو مريض لا يستطيع الصوم ولا.... أفطر وقضى، لو مات الناذر قبل دخول الوقت فلا قضاء عليه، وكذلك إن أدرك الوقت، وهو مريض، ثم مات قبل أن يبرأ، فإن برأ فعليه القضاء.
الحسن عن أبي حنيفة في المجنون إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً فلم يزل مجنوناً، ثم مضى رجب ثم أفاق، فعليه قضاؤه هذه المسألة بناءً على أن النذر المضاف

(2/412)


إلى وقت معين بسبب المحال، والمسألة معروفة.
بشر عن أبي يوسف: أصبح يوم النحر ينوي الصوم، ثم أفطر فعليه قضاؤه، وروى الحسن في اختلاف مثله، وهذه المسألة على روايتين في رواية جعل الشروع بمنزلة النذر، والجواب في النذر كما ذكرنا، وفي رواية فرق بين الشروع وبين النذر.
لا بأس للمعتكف أن يبيع ويشتري في المسجد، وعن أبي يوسف أنه قال: هذا إذا لم يحضر السلعة في المسجد، فأما إذا أحضر، فهو مكروه.
وقيل: إذا كان يبيع ويشتري للتجارة، فهو مكروه، وللمعتكف أن يلبس ما شاء، ويأكل ويدهن، ويعصب بما شاء.

في «الأصل» : وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن الزوج، وكذلك ليس للعبد والأمة أن يعتكف بغير إذن المولى، وإن نذرت المرأة بالاعتكاف، فللزوج أن يمنعها عن ذلك، وكذلك العبد والأمة إذا نذر بالاعتكاف، فللمولى أن يمنعه عن ذلك، وإن أذن الزوج للمرأة بالاعتكاف، ثم أراد أن يمنعها ليس له ذلك، وإن أذن المولى للمملوك بالاعتكاف، فله أن يمنعه لكن يكره له المنع،

ولا تصوم المرأة تطوعاً بغير إذن زوجها، فإن كان صيامها لا يضر به بأن كان صائماً أو مريضاً، فلها أن تصوم وليس له منعها، وهذا بخلاف العبد والأمة، فإنه ليس لهما أن يتطوعا بغير إذن المولى، وإن لم يضر ذلك بالمولى، وللزوج والمولى أن ينقضه إذا كان الشروع بغير رضا، وتقضي المرأة إذا أذن لها زوجها أو بانت منه، ويقضي العبد إذا أذن له المولى أو عتق، والأجير الذي استأجره للخدمة لا يصوم تطوعاً إلا بإذن المستأجر إذا كان الصوم يضر به في الخدمة، وإن كان لا يضر، فله أن يصوم بغير إذنه.
إذا أفطر المريض والمسافر في رمضان لا تسقط عنه صدقة الفطر.
في «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لعبده الذي هو للخدمة: إذا جاء يوم الفطر فأنت حر، فجاء يوم الفطر عتق، وعلى المولى صدقة الفطر لوجود السبب، وهو رأس يمونه وقت الوجوب، وهو وقت طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر؛ لأن العتق ثبت بعده في هذا الموضع.
أيضاً: زوج ابنته الصغيرة من رجل وسلمها إليه، ثم جاء يوم الفطر لا يجب على الأب صدقة الفطر. في فتاوى «خوارزم» .
وفي «البقالي» : إذا تزوج امرأة على عبد في يوم الفطر، والعبد في يد الزوج بعد، فلا صدقة، وأيضاً: إذا أجاز المالك البيع الموقوف بعد الفطر، فعليه الصدقة.
وفي «القدوري» : من افتقر بعد يوم الفطر لم تسقط عنه الصدقة، والله أعلم بالصواب.

(2/413)