المحيط
البرهاني في الفقه النعماني كتاب المفقود
هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة فصول: (111أ2)
1 * في تفسير المفقود وحكمه
2 * في التصرفات في مال المفقود
3 * في الخصومة في الميراث، وفي الورثة مفقوده
(5/453)
الفصل الأول في
تفسير المفقود وحكمه
فأما تفسيره ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : الرجل يخرج في بيته فيقصد
ولا يعرف موضعه، ولا يستبين أثره، ولا موته إذ باشره العدو فلا يستبين
موته، ولا قتله، وأما حكمه: فما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أنه يعتبر
حياً في حق نفسه حتى لا يقسم ماله بين ورثته، ولا تتزوج امرأته، ولا يحكم
القاضي في شيء من أمره حتى يثبت موته، أو قتله، ويصير ميتاً في حق غيره،
حتى لا يرث أحداً من أقربائه إذا مات.
ومعنى قوله: لا يرث أحداً من أقربائه؛ أن نصيبه المقصود من الميراث لا يصير
ملكاً للمفقود أما يوقف للمفقود نصيباً من ميراث من مات من أقربائه؛ وهذا
لأن حياة المفقود محتملة، والمحتمل يكفي للتوقف كما في الجنين، فإن ظهر
حياً ظهر أنه كان مستحقاً، وإن لم يظهر حياً حتى بلغ من السن ما قال في
«الكتاب» على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى مما وقف له يرد على ورثة
صاحب المال يوم مات صاحب المال بمنزلة الموقوف للجنين إذا انفصل الجنين
ميتاً، قال مشايخنا: مدار مسائل المفقود على حرف واحد، أن المفقود يعتبر
حياً في ماله، ميتاً في مال غيره، حتى ينقضي من المدة ما يعلم أن مثله لا
يعيش إلى تلك المدة أو يموت أقرانه، وبعد ذلك يعتبر ميتاً في ماله يوم تمت
المدة أو مات الأقران، وفي مال الغير يعتبر كأنه مات يوم فقد حتى أنه
إذا.... المراحل ثم مات ابنه، ولهذا الابن أخ لأمه، والمفقود عصبة في ضم أخ
الابن عصبة المفقود؛ ينظر إن كان الابن قد مات قبل أن يموت أقران المفقود،
فإن جميع مال المفقود لعصبة المفقود متى مات أقران المفقود لا يكون للابن
من ذلك شيء؛ لأنا حكمنا بحياته بعد موت الابن في حق نفسه، ولا يكون للمفقود
من ميراث الابن شيء؛ لأنا اعتبرناه ميتاً في حق غيره، ولكن يوقف نصيب
المفقود من مال الابن إلى أن يظهر حال المفقود؛ لأنه احتمل أن يكون حياً
فيكون له الميراث من أبيه، واحتمل أن يكون ميتاً فلا يكون له الميراث من
ابنه بل يكون ميراث الابن لأخيه.
فإن ظهر المفقود حياً فما وقف له يكون له، وإن لم يظهر حاله حتى مات أقرانه
فما أوقفنا للمفقود من مال الابن يكون ميراثاً لأخ الابن؛ لأنا تيقنا بكون
الأخ وارثاً، فثبت موت الابن، وشككنا في كون المفقود وارثاً، فكان جعله
ميراثاً لمن كان وارثاً له بيقين أولى، فإن كان أقران المفقود قد ماتوا قبل
موت الابن؛ فميراث المفقود صار للابن؛ لأنا حكمنا بموت المفقود والابن حي،
فيكون ميراثه للابن، فإذا مات الابن يكون لورثة الابن، فهذا هو حاصل ما
يبنى عليه من مسائل المفقود.
ثم طريق ثبوت موت المفقود إما البينة أو موت الأقران، وطريق تحوّل هذه إليه
أن
(5/455)
يجعل القاضي من في يديه المال خصماً عنه،
أو ينصب عنه قيماً فتقبل عليه البينة، وأما موت الأقران وهو المذكور في
«الكتاب» عن محمد رحمه الله: ويشترط موت جميع الأقران ما بقي واحد من
أقرانه لا يحكم بموته، ولم يذكر أنه يعتبر موت جميع أقرانه في جميع
البلدان، أو في بلد المفقود، وقد اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يعتبر موت
أقرانه من أهل بلده، وهذا القول أرفق بالناس؛ لأن التفحص عن حال أقرانه في
جميع البلدان إما غير ممكن أو فيه حرج ظاهر.
ولم يعتبر محمد رحمه الله في موت المفقود وحياته السنين، والمشايخ اعتبروا
ذلك، فالمتقدمين من المشايخ بعد محمد رحمه الله قدروا عمره بمائة وعشرين
سنة، وقالوا: متى مضى من مولده مائة وعشرين سنة فإنه يحكم بموته، وإن بقي
بعض أقرانه في الأحياء، ولا يحكم بموته قبل ذلك وإن مات جميع أقرانه، وعن
نصير بن يحيى أنه قدر عمره بمائة سنة، وهو المروي عن أبي يوسف والشيخ
الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد رحمة
الله عليهما شهدا به تسعين سنة، قالا: لأن الأعمار قد قصرت في زماننا، قال
الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله: وعليه الفتوى.
قال شيخ الإسلام في «شرحه» : ما قاله محمد رحمه الله أحوط وأقيس؛ لأن مضي
ما قالوا من المدة إن دل على موته، فبقاء من بقي من أقرانه بعد مضي هذه
المدة يدل على حياته، فيقع التعارض بين دليل الحياة وبين دليل الموت، فلا
يثبت الموت مع التعارض، ومتى اعتبرنا موت أقرانه، فإنما يثبت موته بدليل لا
يعارض، وما قال المشايخ أرفق بالناس؛ لأن التفحص عن حال الأقران أنهم ماتوا
أو لم يموتوا أمر غير ممكن أو فيه حرج، وإذا أوصى رجل للمفقود بشيء لم أقض
بها ولم أبطلها؛ لأن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث تحبس حصة المفقود إلى
أن يظهر حاله، كذا ههنا.
الفصل الثاني في التصرفات في مال المفقود
قال محمد رحمه الله: ما كان يخاف عليه الفساد من مال المفقود فالقاضي
يبيعه، وما لا يخاف عليه الفساد فحفظه ممكن بدون البيع فلا حاجة إلى البيع،
ولا كذلك ما يخاف عليه الفساد، وإن أراد واحد من أقاربه أن يبيع شيئاً من
ماله لحاجة النفقة؛ إن كان المال عقاراً فليس له ذلك بالإجماع؛ سواء كان
البائع أباً أو غيره، وإن كان منقولاً ليس من جنس حقه كالخادم والدار ونحو
ذلك؛ أجمعوا على أن غير الأب لا يملك البيع؛ الأم وغيرها في ذلك على
السواء، وأما الأب فلا يملك البيع قياساً، وهو قولهما، وعلى قول أبي حنيفة
رضي الله عنه يملك، وهو استحسان، وجه القياس: أن جواز البيع يشهد بالولاية،
ولا ولاية للأب في مال ولده الكبير، ألا ترى أنه لا يمكن بيع عقاره.
وجه الاستحسان: أن أثر الولاية في حق مال ولده الكبير قائم حتى صح منه
(5/456)
استيلاد جارية الابن لحاجته إلى ذلك،
والحاجة إلى النفقة لبقاء نسبه فوق الحاجة إلى الاستيلاد لبقاء نسله، وإذا
بقي أثر الولاية؛ لأنه كان حاله كحال الوصي في الوارث الكبير الغائب، وقد
ثبت للوصي حق بيع المعروض دون العقار كذا ههنا.
وإن كان المفقود وديعة أو دين؛ أنفق القاضي من ذلك على زوجته وولده وأبويه
إذا كان المودع مقراً بالوديعة، والمديون مقراً بالدين، وذكر هذه المسألة
في كتاب «النكاح» من «الأصل» (111ب2) وشرط إقرارهما بالنكاح والمال، وههنا
لم يشترط إقرارهما بالنكاح، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، بل إنما
اختلف الجواب لاختلاف الوضع، موضوع ما ذكرنا في كتاب «النكاح» : أن النكاح
والنسب لم يكن معلوماً للقاضي، فشرط إقرار صاحب اليد لهما.
وموضوع ما ذكر ههنا: أن النكاح والنسب كان معلوماً للقاضي فلم يشترط
إقرارهما بالنكاح والنسب، فإن أعطاهم الرجل شيئاً بغير أمر القاضي، فالمودع
يضمن ولا يبرأ المديون، وإن أعطاهم بأمر القاضي فالمودع لا يضمن، والمديون
يبرأ، وللقاضي أن ينصب وكيلاً في جميع غلات المفقود؛ طلب الورثة ذلك أو لم
يطلبوا، ولهذا الوكيل أن يتقاص ويقبض، ويخاصم من يجحد حقاً وجب بعقد جرى
بينه وبين هذا الوكيل؛ لأن الوكيل في حق الحقوق بمنزلة المالك، أما كل دين
كان المفقود تولاه أو نصب كان له في عقار، أو عرض في يدي رجل، أو حق من
الحقوق، فإن هذا الوكيل لا يخاصم؛ لأنه ليس بمالك، ولا نائب عن المالك في
الخصومة في ذلك؛ لأنه وكيل بالقبض، والوكيل بالقبض من جهة القاضي لا يملك
الخصومة بلا خلاف، وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض، والوكيل بالقبض من جهة
القاضي المالك؛ قال في «الكتاب» : إلا أن يكون القاضي ولاه ذلك ورآه، وأنفذ
الخصومة بينهم فإنه يجوز.
وعلل فقال: لأن هذا مما اختلف فيه القضاء، وهذا بناءً على أنه ليس للقاضي
أن يقضي على الغائب وللغائب إلا إذا كان عنه خصم حاضر عندنا، ولو قضى ينفذ
قضاؤه لكونه واقعاً في فصل مجتهد فيه، وكذا لا ينبغي للقاضي أن ينصب وكيلاً
عن الغائب وللغائب، ولو فعل ينفذ قضاؤه بالإجماع لما قلنا.
ثم أشار ههنا إلى أن القضاء على الغائب وللغائب نفاذه لا يتوقف على إمضاء
قاضٍ آخر، وهذا إشارة إلى أن نفس القضاء ليس بمختلف فيه، أما المجتهد بسبب
القضاء أن البينة هل هي حجة يثبته الخصم، وفي «شرح الجامع» مما علقته على
والدي * تغمده الله بالرحمة * أن نفس القضاء مختلف فيتوقف على إمضاء قاضٍ
آخر كما لو كان القاضي محدوداً في قذف.
وإن ادعى رجل على المفقود حقاً لم يلتفت إلى دعواه، ولم تقبل منه البينة،
ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من الورثة خصماً له، وإن رأى القاضي سماع
البينة، وحكم به بعد حكمه بالإجماع، وإذا رجع المفقود حياً لم يرجع في شيء
مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله ودينه وغلته،
وكذلك ما أنفقوا على أنفسهم من دراهم أو
(5/457)
دنانير أو تبر في وقت حاجتهم إلى النفقة أو
ثياب لبسوها للكسوة، أو طعام أكلوه، أما سوى ذلك من الأموال إذا باعوها
لحاجتهم إلى النفقة فقد مرَّ تفاصيل ذلك، وإذا فقد المكاتب، وترك أموالاً
لأهله يؤدي مكاتبه من تركته؟ ينظر إن كان ما ترك المكاتب من خلاف جنس ما
عليه؛ لا يؤدي، وإن علم القاضي بوجوب الدين عليه؛ لأنه لا يمكنه القضاء إلا
بالبيع.
وولاية القاضي في مال المفقود مقصورة على الحفظ اتفاقاً عليه، والبيع ليس
من قبيل ذلك، وإن كان ترك المكاتب من جنس المكاتبة وعلم القاضي بوجوب الدين
عليه؛ فإن كان لهذا المكاتب ابن حرّ مات هذا الابن وترك ورثةً قسم ماله بين
ورثته، ولم يحبس للمكاتب شيئاً؛ لأن المكاتب لا يرث شيئاً من ابنه فلا يكون
للتوقف فائدة، وإذا كان المفقود قد باع خادماً قبل أن يفقد، فطعن المشتري
بعيب، وأراد أن يرد على ولد المفقود فليس له ذلك؛ لأن الولد ليس بمالك ولا
عاقد، ولا نائب عمن هو مالك أو عاقد، ولا رد على غير مولاه، وإن استحق هذا
الخادم من يد المشتري، فالقاضي هل يوفي عنه من ماله؟ إن كان ماله من جنس
الثمن يوفي إذا علم وجوب الثمن عليه؛ لأن الخادم لما استحق من يد المشتري
صار الثمن ديناً له على المفقود، فصار الجواب فيه كالجواب في سائر الديون.
الفصل الثالث في الخصومة في الميراث، وفي
الورثة مفقود
إذا مات الرجل وترك ابنتين وابناً مفقوداً، ولهذا الابن المفقود ابن وابنة،
والتركة في يد الابنتين، والكل مقرون بأن الابن مفقود، واختصموا إلى
القاضي، فإن القاضي لا ينبغي له أن يحرك المال عن موضعه؛ هكذا ذكر في
«الأصل» ، ومعنى قوله القاضي لا يحرك المال عن موضعه: لا يشرع القاضي سبباً
من يد الابنتين؛ لأن النصف مما في أيديهما صار ميراثاً لهما بموت أبيهما
بيقين؛ لأن المفقود إذا كان حياً فلهما هذا القدر، وإن كان ميتاً فلهما
الثلثان، فالنصف لهما بيقين والنصف الآخر لا خصم له؛ لأن ورثة المفقود لا
يدعون ذلك لأنفسهم ولا يكونون خصماً عن المفقود؛ لأنه لا يدرى أنه حي أو
ميت، ولا يزال بصاحب اليد إلا بمحضر من الخصم بخلاف مال المفقود الذي يعلم
أنه له؛ لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه، فإنهم يستحقون
النفقة في ملكه، واستصحاب المال يكفي لإبقاء ما كان على ما كان.
وكذلك إذا قال الإنسان: قد مات أخونا، وقال ولد الابن: هو مفقود؛ لأن من في
يديه المال إقرار لدى الابن بنقض ذلك وقد رد ولد الابن إقرارهما بقولهما
أبونا مفقود، ولو كان مال الميت في يدي ولدي الابن المفقود وطلب الابنان
ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود، فإنه يعطي لهما النصف؛ لأنهما يدعيان
بنصف ما في يدي ولدي المفقود، وقد صدقا في ذلك فيعطيان النصف لهما من ذلك،
والنصف الآخر يترك على يدي ولدي
(5/458)
المفقود من غير أن يقضى به لهما ولا
لأبيهما؛ لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي.
ولو كان مال الميت في يد أجنبي، فقالت الابنتان: مات أخونا قبل الأب، وقال
ولد الابن: إنه مفقود، فإن أقر الذي في يديه المال أنه مفقود؛ فإنه يعطي
الابنتين من ذلك النصف؛ لأنهما تدعيان لأنفسها الثلثان، وذو اليد أقر لهما
بالنصف حين قال إنه مفقود، فيعطي لهما النصف، والنصف الآخر يوقف في يديه،
ولو قال الذي في يديه المال: إنه مات قبل الأب فإنه يجبر على دفع الثلثين
إلى الابنتين؛ لأن صاحب اليد صدقهما فيما ادعتا من ثلثي ما في يديه، ويوقف
الثلث الآخر على يديه؛ (112أ2) لأنه لا خصم له، ولو كان الذي في يديه المال
أنكر أن يكون هذا المال للميت، فأقامت الابنتان بينة أن أباهم مات، وترك
هذا المال ميراثاً لهما ولأخيهما المفقود، فإنه يقبل بينتهما؛ لأن أحداً
ليس متهم فيقسم بين جميع الورثة فيما يدعي للميت، وهما يدعيان المال للميت
فينصبان خصماً عن جميع الورثة، فقبلت بينتهما، ويعطى لهما النصف، وينزع
النصف الآخر من يد ذي اليد، وتوقف على يدي عدل؛ لأنه ظهر خيانة ذي اليد حين
جحد المال للميت، ومال الغائب لا يترك في يد الخائن بخلاف ما لو كان أقر
بذلك؛ لأنه لم يظهر خيانته، فيترك في يديه إلى أن يظهر حال المفقود، والله
أعلم بالصواب، تم كتاب المفقود بحمد الله تعالى.
(5/459)
|