المحيط
البرهاني في الفقه النعماني كتاب العارية
هذا الكتاب يشمل على عشر فصول:
1 * في بيان شرط جواز الإعارة، وبين نوعها وصفتها
2 * في الألفاظ التي تنعقد بها العارية
3 * في التصرفات التي يملكها المستعير في المستعار والتي لا يملك
4 * في خلاف المستعير
5 * في تضييع العارية ما يضمنه المستعير، وما لا يضمن
6 * في رد العارية
7 * في استرداد العارية، وما يمنع من استردادها
8 * في الاختلاف الواقع في هذا الباب، والشهادة فيه
9 * في المتفرقات
(5/553)
الفصل الأول في بيان
شرط جواز الإعارة، وبيان نوعها وصفتها
أما بيان شرطها فنقول: شرط جواز الإعارة كون العين قابلة للانتفاع به مع
بقاء العين، وكونه قابلاً لتمليك بمنافعه بعوض بعقد الإجارة حتى كان إعارة
الدراهم والدنانير والفلوس قرضاً؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء مع
بقاء العين، فيقدر العمل بحققة الإجارة في هذه الأشياء؛ لأن الإجارة شرعت
لتمليك المنفعة مع بقاء العين على ملكه، فيجعل كناية عن عقد آخر، وأمكن
جعله كناية عن القرض؛ لأن العارية متى تحققت كان من حكمها رد العين.
والقرض يوجب أداء المثل قائماً مقام العين، وهذا إذا حصل إعارة الدراهم
والدنانير مطلقة، أما إذا عين في الإعارة انتفاعاً يتأتى مع بقاء العين لا
يكون قرضاً؛ بل يكون عارية، وذلك يجوز أن يعير من صيرفي دراهم ليحمل بها في
حانوته وليصير بها ستمئة، ذكر هذه الزيادة شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب
العارية، ويجب أن يكون الحكم في إعارة جميع ما يكال أو يوزن هكذا.
وقال الفقيه أبو بكر فيمن قال لآخر: أعرتك هذه القصعة من الثريد، فأخذها،
وأكلها، فعليه مثلها، أو قيمتها بناءً عل ما قلنا إن الإعارة ما لا يمكن
الانتفاع مع بقاء العين قرض، قال الفقيه أبو الليث: الجواب هكذا إذا لم يكن
بينهما مباسطة، أو دلالة الإباحة ونحوها.
وفي «العيون» : من أخذ رقعة يرقع بها قميصه، أو خشبة يدخلها في بنائه، أو
آجرة فهو ضامن؛ لأن هذا ليس بعارية؛ بل هو قرض؛ هذا إذا لم يقل: لأردها
عليك؛ أما إذا قال: لأردها عليك فهو عارية، وتصح الإعارة من غير بيان الوقت
والمكان، وما يحمل على الدابة؛ لأن جهالة هذه الأشياء في الإعارة لا تفضي
إلى المنازعة المانعة من التسليم؛ لأنها لا توجب التسليم، وعند ذلك
للمستعير أن ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب؛ كما ينتفع بدابة نفسه في
قليل المدة وكثيرها.
وأما بيان نوعها فهي نوعان: مطلقة ومؤقتة؛ نحو أن يقول في الإعارة شهراً،
أو يقول: إلى مكان كذا، أو يقول: يحمل عليها كذا، ففيما كانت مطلقة يجب
إجراؤها على إطلاقها، أو فيما كانت مقيدة يجب رعاية القيد فيه.
وأما بيان صفتها، فنقول: صفتها أنها غير لازمة، وللمعير أن يرجع فيها متى
شاء؛ لأن الإعارة تبرع بالمنفعة، فلا تكون لازمة قبل قبضها؛ كالتبرع
بالعين، وما لم يستوف من المنفعة في المستقبل لم يتصل بها القبض، ومن صفتها
أنها ترتفع لمجرد النهي، ويبطل بموت أحدهما أيهما مات.
(5/555)
الفصل الثاني في
الألفاظ التي تنعقد بها العارية
تنعقد العارية بلفظ التمليك؛ حتى أن (131ب2) من قال لغيره: ملكتك منفعة
داري هذه شهراً؛ جعلت لك سكنى داري هذه شهراً؛ كانت عارية، وكذلك إذا قال:
داري لك سكنى كانت عارية؛ لأن قوله لك: يحتمل تمليك العين، وتمليك المنفعة،
وقوله سكنى يكون تفسيراً لذلك المحتمل، وكذلك إذا قال: عمرتي سكنى كانت
عارية لما قلنا، وإذا استعار من آخر أرضاً على أن يبني فيها ويسكنها ما بدا
له، فإذا خرج فالبناء لصاحب الأرض، فهذا لا يكون إعارة؛ بل يكون إجارة
فاسدة؛ وهذا لأن الإعارة تمليك المنافع بغير عوض، ولما شرط البناء لرب
الأرض، فقد شرط العوض، وهذا هو معنى الإجارة، والعبرة للمعاني دون الألفاظ؛
ألا ترى أن من قال لغيره: وهبت لك هذه الدار بألف درهم بيعاً، واعتبر
المعنى دون اللفظ؛ كذا ههنا.
الفصل الثالث في التصرفات التي يملكها المستعير
في المستعار والتي لا يملك
ليس للمستعير أن يؤاجر المستعار من غيره، وإذا آجر صار ضامناً، وكان الأجر
له، ويتصدق به في قول أبي حنيفة ومحمد، وله أن يعير من غيره؛ سواء كان
شيئاً يتفاوت الناس في الانتفاع أو لا يتفاوت؛ إذا كانت الإعارة مطلقة، ولم
يشترط على المستعير أن ينتفع بنفسه، فأما إذا شرط على المستعير أن ينتفع
بنفسه، فله أن يعيرها فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع، وليس له أن يعير
فيما يتفاوت الناس في الانتفاع به.
هذا إذا استعار من آخر ثوباً ليلبسه المستعير بنفسه، أو دابة ليركبها
المستعير بنفسه، فليس له أن يلبس غيره، وأن يركب غيره؛ لأنه شرط لبسه
وركوبه، وهذا شرط مفيد في حق المالك؛ لأن الناس يتفاوتون في اللبس والركوب.
ولو استعار داراً ليسكنها المستعير بنفسه؛ فله أن يسكنها غيره، وإن شرط
سكنى المستعير؛ لأن هذا شرط غير مفيد؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى،
ولو استعار ثوباً للبس ولم يسم اللابس، أو استعار دابة للركوب ولم يسم
الراكب، فله أن يلبس ويركب غيره عملاً بإطلاق العقد، فإن ألبس غيره في هذه
الصورة، أو أركب غيره، ثم ركب بنفسه أو لبس بنفسه، أو ركب بنفسه، ثم أركب
غيره؛ ظاهر ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام خواهر زاده، أنه لا
يضمن.
ونص فخر الإسلام علي البزدوي في شرح «الجامع الصغير» : أنه يضمن، وهل له أن
يودع؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: ليس له أن يودع، وإليه أشار في كتاب
الوديعة، فإنه قال ثمة: إذا رد المستعير الدابة على يدي أجنبي فضاعت ضمن،
ولو ملك الإيداع لما ضمن.
(5/556)
وإليه أشار في «السير الكبير» أيضاً في باب
من يرضخ له من الأولاد وغيره، وقال بعضهم: له أن يودع، وهو اختيار مشايخ
العراق، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل،
والصدر الشهيد برهان الأئمة، وإليه أشار محمد في آخر عارية الأجناس هؤلاء
قالوا: ما ذكر في كتاب الوديعة تأول، وتأويله أن الإعارة قد انقطعت فبقي
المستعير مودعاً، والمودع لا يملك الإيداع بالاتفاق، ولكن هذا التأويل غير
صحيح على ما هو موضوع المسألة في «السير الكبير» فينظر ثمة ذكر شيخ الإسلام
في شرح كتاب الديات في باب قبل باب..... للمستعير أن يربط الدابة في الدار
المستعار؛ لأن ذلك من جملة السكنى، فهلكة المستعير كالمستأجر، ذكر الصدر
الشهيد في الباب الأول من «واقعاته» : أن من أعار رجلاً شيئاً، وقال له: لا
تدفع إلى غيرك، فدفع فهلك عنده فهو ضامن؛ لأنه دفع بغير إذنه، هكذا قاله
أبو جعفر، قال الصدر الشهيد: مراده من هذه المسألة مال لا يختلف الناس في
الانتفاع به، أما المال الذي يختلف الناس في الانتفاع يضمن بالدفع إلى
غيره، وإن لم يقل له المالك لا تدفع إلى غيرك، وما ذكر الصدر الشهيد مستقيم
فيما إذا كانت العارية مقيدة بشرط على المستعير أن ينتفع به بنفسه، أما إذا
كانت الإعارة مطلقة لا يضمن المستعير بالدفع إلى غيره إذا لم يقل له المالك
لا تدفع إلى غيرك، وإن كان مالاً يختلف الناس في الانتفاع به، وقد ذكرنا
ذلك في أول الفصل.
الفصل الرابع في خلاف المستعير
استعار من آخر دابة ليحمل عليها شيئاً، فحمل عليها غير ذلك، فهذه المسألة
على أربعة أوجه:
الأول: أن يحمل عليها غير ما سماه المالك، إلا أنه مثل ما سماه المالك في
الضرر على الدابة من جنسه؛ بأن استعار ليحمل عشرة مخاتم من هذه الحنطة فحمل
عليها عشرة مخاتم من حنطة أخرى، أو ليحمل عليها حنطة نفسه، فحمل عليها حنطة
غيره، وفي هذا الوجه لا ضمان عليه؛ لأن هذا التقييد لم يعتبر إذ لا فائدة
فيه.
الثاني: إذا خالف في الجنس بأن استعار ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة، فحمل
عليها عشرة أقفزة شعير فهلكت لا ضمان عليه استحساناً؛ لأن هذا أقل ضرراً
بالدابة، فأما إذا حمل عليها أكثر من عشرة مخاتم من الشعير؛ إلا أنه في
الوزن مثل الحنطة؛ ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يضمن مطلقاً، وذكر الشيخ
الإمام الزاهد شيخ الإسلام: أنه لا يضمن استحساناً، وهو الأصح؛ لأن ضرر
الشعير مثل ضرر الحنطة في حق الدابة عند
(5/557)
استوائهما وزناً؛ لأنه يأخذ من موضع الحمل
من الدابة أكثر مما تأخذه الحنطة، فصار ذلك داخلاً في الإذن.
الثالث: إذا خالف إلى ما هو أضر بالدابة؛ بأن استعارها ليحمل عليها حنطة،
فحمل عليها آجراً أو حديداً أو لبناً مثل وزن الحنطة فهو ضامن؛ لأن هذا
يأخذ من ظهر الدابة أقل، فكان أدق على الدابة، فيكون أضر بالدابة، وكذا إذا
حمل عليها في هذه الصورة قطناً أو تبناً أو حطباً أو تمراً؛ لأن هذا يأخذ
ما وراء موضع الحمل، وذلك أضعف فيكون أضر بالدابة.
الرابع: أن يخالف في أن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتم حنطة، فحمل عليها
خمسة عشر مختوماً، فهلكت الدابة، وفي هذا الوجه يضمن ثلث قيمتها، وهذا
بخلاف ما إذا استعار ثوراً ليطحن به عشرة مخاتم حنطة، فطحن أحد عشر حيث
يضمن جميع قيمة الدابة.
وموضع الفرق: أول كتاب العارية من شرح شمس الأئمة السرخسي، وهذا إذا كانت
الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوماً، فإن كانت لا تطيق يصير متلفاً لها،
فيضمن جميع قيمة الدابة، أخذ المستعير في مكان آخر ضمن، وإن كانا في المسيل
مثل الطريق المشروط؛ لأن الطرق متفاوتة في السهولة والصعوبة، في الخشونة
واللين، فكان خلافاً إلى شر.
استعار دابة ليركبها هو، فحمل مع نفسه (132أ2) رجلاً وهلكت الدابة؛ ضمن
النصف، ولا يعتبر الثقل، والخفة كما يعتبر في حق الأحمال؛ قالوا: وهذا إذا
كانت الدابة تطيق حمل رجلين، فأما إذا كانت لا تطيق حمل رجلين؛ ضمن الكل.
إذا استعار الدابة من آخر ليركبها إلى مكان معلوم، وأخذ بها في طريق آخر،
فعطبت؛ هل يضمن؟ فهذا على وجهين: إن ذهب بها إلى ذلك المكان في طريق لا
يسلكه الناس، فهو ضامن، وإن كان طريقاً مسلوكاً لا يضمن؛ وذلك لأنه لما
استعارها للذهاب إلى المكان المسمى، ولا يمكنه الذهاب إليه إلا بطريق؛ لأنه
من إدخال الطريق تحت الإذن، فأدخلنا تحت الإذن الطريق المسلوك باعتبار
العرف، والعادة لا غير المسلوك، وإذا أدخل تحته المسلوك صار كأنه نص على
ذلك، فقال: اذهب إلى مكان كذا في طريق يسلكه الناس، ولو نص على هذا إذا ذهب
بها في طريق لا يسلكه الناس، يصير ضامناً، فإذا ذهب بها في طريق يسلكه
الناس لا يضمن، فكذا هذا.
وفي «فتاوى» شمس الإسلام محمود الأوزجندي: إذا سلك طريقاً ليس هو طريق
الجادة، وهو الذي يقال بالفارسية: يريبه يضمن.
استعار دابة ليركبها في حاجة مسماة إلى ناحية من نواحي الكوفة، فأخرجها إلى
الفرات ليسقيها، والناحية التي استعارها إليه من غير ذلك المكان، فهلكت،
فهو ضامن لها؛ لأنه أخرجها في ناحية لم يؤذن له في الإخراج إليها أصلاً من
غير ضرورة؛ لأنه يمكنه سقيها بالإخراج في الناحية التي أذن له بالركوب
فيها، فيصير متعدياً ضامناً.
(5/558)
استعار من آخر ثوراً ليكرب أرضه، وعين
الأرض، فكرب أرضاً أخرى غير تلك الأرض، وعطب الثور، فهو ضامن؛ لأنه خالف
شرطاً مفيداً؛ لأن الأراضي يتفاوت كرابها من حيث الصعوبة، والسهولة تفاوتاً
فاحشاً، وإذا استعار دابة إلى مكان مسمى، فجاوز المستعير ذلك المكان، ثم
عاد إليه، فهو ضامن لها حتى يردها على المالك قبل هذا إذا استعارها إلى ذلك
المكان ذاهباً لا جائياً، فأما إذا استعارها ذاهباً وجائياً، فإذا أتى ذلك
المكان المسمى يبرأ عن الضمان؛ وهذا لأنه إذا استعار ذاهباً لا جائياً،
فإذا بلغ ذلك المكان انتهى العقد، فإذا جاوزه دخل العين في ضمانه، فإذا عاد
إليه فقد عاد إلى الوفاق.
ألا ترى أن المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، والعقد منتهٍ بأن كان
مؤقتاً لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك، فكذا هذا، فأما إذا استعار
ذاهباً وجائياً، فإذا عاد إلى ذلك المكان، فقد عاد إلى الوفاق، فالعقد باق،
فيبرأ عن الضمان؛ كالمودع إذا عاد إلى الوفاق والعقد باق، فهذا القائل يسوي
بين المودع وبين المستعير، وبين المستأجر إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق،
ويقول ببراءة الكل عن الضمان.
ومن المشايخ من قال في مسألة العارية: لا يبرأ عن الضمان ما لم يردها على
أن المالك سواء استعارها ذاهباً وجائياً، أو ذاهباً لا جائياً، وهذا القائل
يقول بأن المستعير والمستأجر إذا خالفا، ثم عادا إلى الوفاق لا يبرأان عن
الضمان بخلاف المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، والقول الأول أشبه،
والتفصيل الذي ذكرنا في مسألة العارية مذكور في الشروط و «النوادر» ، وإليه
أشار محمد في عارية «الأصل» ، وبه أخذ الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف
بخواهر زاده رحمه الله.
الفصل الخامس في تضييع العارية ما يضمنه
المستعير، وما لا يضمن
إذا كان على دابة بإجارة أو عارية، فنزل عنها في السكة، ودخل المسجد ليصلي،
فخلى عنها فهلكت، قال: هو ضامن لها، وكذلك إذا أدخل الحمل بيته، وخلى عنها
في السكة فهلكت، فهو ضامن لها، من مشايخنا من قال: هذا إذا لم يربطها بشيء،
أما إذا ربطها لا يضمن؛ لأنه متعارف، ومنهم من قال: يضمن على كل حال،
وإطلاق محمد يدل عليه، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية؛
وهذا لأنه لما دخل المسجد أو البيت، وتركها خارج المسجد أو البيت، ألا ترى
أنه لو سرق سارق في هذه الحالة لا يقطع.
قال محمد في «الكتاب» : ولو كان يصلي في صحراء، فنزل عن الدابة وأمسكها
فانفلتت منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يترك حفظها، فهذه المسألة دليل على أن
المعتبر
(5/559)
أن لا يغيبها عن بصره.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: استعار دابة، أو استأجرها إلى المقابر
يشيع جنازة فركبها ثم رجع، فدفع بها إلى إنسان ليصلي، فسرقت، فلا ضمان على
المستعير ولا على المستأجر، وصار الحفظ بنفسه في هذا الوقت مستثنى عن
العقد.
وفي «فتاوى الفضلي» : عن محمد فيمن استعار دابة فحضرت الصلاة، فدفعها إلى
غيره ليمسكها فضاعت، قال: إن كان شرط في العارية ركوب نفسه ضمن، وإلا فلا
يضمن؛ لأن في الأول لا يملك الإعارة، وفي الثاني يملك، ومن ملك الإعارة
يملك الإيداع.
وفيه أيضاً: رجل استعار ذهباً، فقلد صبياً، فسرق، فهذا على وجهين؛ إما إن
كان الصبي يضبط ما عليه، أو لا، ففي الأول: لا يضمن؛ لأنه لم يضيع، وفي
الوجه الثاني: يضمن؛ لأنه لم يضيع.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة استعارت من امرأة سراويل لتلبسه، وهي تمشي،
فزلقت رجلها، فتخرق السراويل؛ لا ضمان عليها؛ لأنه لا صنع لها فيه.
وفيه أيضاً: رجل استعار ثوراً من رجل على أن يعيره ثوره يوماً، ثم جاء
ليستعير ثوره وكان الرجل غائباً، فاستعار من امرأته، فدفعت إليه، فذهب به
إلى الأرض فضاع ضمن؛ لأنه قبض بغير إذن المالك.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل استعار من رجل بقراً، فاستعمله، ثم تركه في
المرج، فضاع، فهذا على وجهين: إما إن علم أن المعير يرضى بكونه فيها يرعى
وحده كما هو عادة بعض أهل الرساتيق، أو لم يعلم ذلك عنه؛ بأن كانت العادة
مشتركة، ففي الوجه الأول لا يضمن؛ لأنه تركه في المرج بإذنه، وفي الوجه
الثاني يضمن؛ لأنه تركه بغير إذنه.
وفيه أيضاً: رجل طلب من رجل ثوراً عارية، فقال له المعير: أعطيك غداً، فلما
كان الغد أخذ المستعير الثور بغير إذنه، واستعمله، ومات في يد المستعير؛
ضمن؛ لأنه أخذ بغير إذنه، ولو رده فمات عنده لا ضمان عليه؛ لأنه بالرد برىء
عن ضمانه، وفي «مجموع النوازل» : إنه لا ضمان على المستعير، وإن مات في يده
قبل الرد على المالك.
دخل الحمام واستعمل القصاع، فوقعت من يده وانكسرت، فلا ضمان، وكذا إذا أخذ
كوز الفقاع، فسقط وانكسر فلا ضمان؛ لأنه عارية في يده، ولم يوجد منه
التعدي.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة أعارت شيئاً بغير إذن الزوج؛ إن أعارت من
متاع البيت مما يكون (132ب2) في أيديهن عادة فضاع فلا ضمان؛ لأنها أعارت
بإذن الزوج.
وفي «الأصل» : إذا كانت العارية مؤقتة بوقت، فأمسكها بعد الوقت، فهو ضامن
لها، ومن مشايخنا من قال: هذا إذا انتفع به بعد مضي المدة، فأما إذا لم
ينتفع به فلا ضمان، ومنهم من قال: يضمن على كل حال.
وفرق هذا القائل بين العارية، وبين الوديعة، فإن الوديعة إذا كانت مؤقتة
بوقت،
(5/560)
فأمسكها المودع بعد مضي الوقت، وهلكت في
يده لا يضمن ما لم ينتفع به، وكذلك المستأجر إذا أمسك المستأجر بعد مضي
المدة لا يضمن ما لم ينتفع به، والفرق: أن الرد على المستعير، فكأنه قال له
صاحب العارية: ردها علي بعد مضي اليوم، فإذا لم يرد صار مانعاً العارية بعد
الطلب، فيصير ضامناً؛ بخلاف المودع والمستأجر، ويستوي فيه أن تكون العارية
مؤقتة نصاً أو دلالة، حتى قيل: إن من استعار من آخر قدوماً ليكسر به حطباً،
فكسر الحطب، وأمسكه حتى هلكت؛ ضمن.
إذا ربط المستعير الحمار على الشجر بالحبل الذي عليه، فوقع الحبل في عنقه،
ومات؛ لا يضمن المستعير.
هكذا حكى فتوى شمس الإسلام محمود الأوزجندي: رجل استعار من رجل دابة، فنام
المستعير في المفازة، ومقودها في يده، فجاء إنسان وقطع المقود وذهب
بالدابة؛ لا ضمان عليه، ولو مد المقود من يده وأخذ الدابة، وهو لم يشعر
بذلك ضمن؛ لأن في الوجه الأول: غير مضيع، وفي الوجه الثاني: مضيع؛ إذا نام
بصفة أمكن مد المقود من يده هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» قال الصدر
الشهيد في «واقعاته» : ويجب أن يكون تأويله إذا نام مضطجعاً؛ أما إذا نام
جالساً لا؛ لأنه لو نام جالساً، والمقود ليس في يده لا يعد مضيعاً، فإنه نص
أن المودع إذا نام جالساً، فسرقت الوديعة؛ لا ضمان عليه، والمودع والمستعير
في هذا الأمر سواء؛ نص على التسوية شمس الأئمة السرخسي في كتاب وديعة
السرقة.
قالوا: فإنما يجب الضمان بالنوم مضطجعاً إذا كان في الحضر؛ أما إذا كان في
السفر، فلا، وعلى هذا إذا وضع المستعار بين يديه، ونام قاعداً؛ لا ضمان
عليه، وإن نام مضطجعاً يضمن؛ إذا كان في الحضر.
وقد وقعت في زماننا: أن رجلاً استعار مراً ليسقي به أرضه، ففتح النهر ووضع
المر تحت رأسه، ونام مضطجعاً كما هو عادة أهل الرستاق، فسرق منه، فأفتوا
أنه لا يضمن، ولو وضع المستعار تحت رأسه، أو تحت جنبه، ونام عليه مضطجعاً؛
لا يجب الضمان.
في «الأصل» : جاء رجل إلى المستعير، وقال: إني استعرت من فلان هذا الذي هو
عارية عندك من جهته، وأمرني أن أقبضه منك، فصدقه المستعير، ودفعه إليه،
فضاعت الوديعة في يده، ثم جاء المالك، وأنكر أن يكون أمره بذلك، فالقول قول
المالك، والمستعير ضامن؛ لأنه دفع مال المالك إلى غيره، وإنه سبب الضمان
يوجبه الأصل، إلا إذا كان بإذن المالك، ولم يثبت الإذن ههنا لما أنكر
المالك ذلك.
فإن قيل: لماذا لا يجعل هذا إعارة من المستعير الأول من غيره حتى لا يجب
عليه الضمان.
قلنا: إذا أعار المستعير من غيره إنما لا يضمن؛ لأنه يقيم يده مقام يد
نفسه، وههنا تسليمه إلى الثاني لم يكن بهذا الطريق.
ألا ترى أن ثمة لو أراد المستعير استرداده من يد الثاني له ذلك، وفي الفصل
(5/561)
الثاني: لو أراد المستعير استرداده من يد
الثاني ليس له ذلك، وإذا طلب المعير العارية فمنعها المستعير عنه، فهو ضامن
وهذا ظاهر، وإن لم يمنعه منه، ولكن قال لصاحبه: دعه عندي إلى غدٍ ثم أرد
عليك فرضي بذلك، ثم ضاع لا ضمان عليه؛ لأنه أعاره مرة أخرى؛ هكذا ذكر
المسألة في «الأصل» ، وذكر في «فتاوى أبي الليث» هذه المسألة في صورة أخرى،
فقال: إذا قال المستعير: نعم أدفع، وفرط في الدفع حتى مضى شهر، ثم سرق من
المستعير؛ جعلها على وجهين:
الأول: أن يكون المستعير عاجزاً عن الرد وقت الطلب، وفي هذا الوجه لا ضمان.
والوجه الثاني: أن يكون المستعير قادراً على الرد وقت الطلب، وإنه على وجوه
ثلاثة؛ إما إن نص المعير على السخط، أو لم ينص على السخط، والرضا، وفي هذين
الوجهين يجب الضمان، وإما إن نص على الرضا وقال: لا بأس به، وفي هذا الوجه
لا ضمان، ويكون هذا منه ابتداءاً إعارة، وإذا أرسل الرجل رسولاً إلى غيره،
وهما ببخارى استعير له دابة منه إلى بيوت سكنه، فذهب الرسول إلى صاحب
الدابة، وقال: إن فلاناً يقول: أعرني دابتك إلى سمرقند، فدفعها إليه، فجاء
الرسول بالدابة إلى المستعير، ودفعها إليه؛ ثم بدا للمستعير أن يركبها إلى
سمرقند، وهو لا يشعر بما كان من قول الرسول، فركبها، وهلكت الدابة تحته،
فلا ضمان؛ لأنه ركبها إلى سمرقند بإذن المالك.
فإن قيل: المستعير لم يحضر يسمع إذن المالك بالركوب إلى سمرقند، والإذن
السماع لا يصح.
قلنا: لا بل سمع اعتباراً حيث سمع رسوله، ولو ركبها إلى....... وباقي
المسألة بحالها، فهو ضامن؛ لأنه ركبها بغير إذن المعير.
رجل استعار من رجل ثوراً يساوي خمسين درهماً، فقرنه مع ثور يساوي مائة،
فعطب ثور العارية، فهذا على وجهين: إن كان الناس يفعلون مثل ذلك عادة يعني
يقرنون ثوراً يساوي خمسين بثور يساوي مائة، فلا ضمان لوجود الإذن به دلالة
عرفاً، وإن كانوا لا يفعلون مثل ذلك، فهو ضامن في «فتاوى أبي الليث» .
وفيه أيضاً: رجلان يسكنان في بيت واحد؛ كل واحد منهما زاوية فاستعار واحد
منهما من صاحبه شيئاً، فطالبه المعير بالرد، فقال المستعير: وجدتها في
الطاق الذي في زاويتك، وأنكر المعير، فإن كان البيت في أيديهما لا ضمان
عليه؛ لأنه إن لم يثبت الرد لكن لم يصر المستعير مضيعاً بالوضع في الطاق،
فلا يضمن.
سئل أبو بكر رضي الله عنه: عن معير الكتاب طلب رد الكتاب عليه، وأنعم له
فذهب ثم أخبره بالضياع، قال: إن كان المستعير يرجو وجوده ولم ييأس عنه لم
يضمن، وإن كان آيساً عن وجوده، ووعده في رده ثم أخبره أنه كان ضائعاً،
فعليه الضمان، وهذا
(5/562)
التفصيل خلاف ما ذكر محمد، فقد ذكر أنه إذا
وعد له الرد ثم أخبره بالضياع قبل ذلك، فلا ضمان.
وفيه أيضاً: بعث الرجل أجيره إلى رجل ليستعير منه دابته، فأعارها وعليها
عنانه فسقطت العنان إن سقطت العنان بعنف الأجير، فهو ضامن، وإلا فلا ضمان.
وفيه أيضاً: استعار من آخر ثوباً.... ويقال بالفارسية: «خواره» ، فضاع
السير من ... ، فلا ضمان على المستعير إذا لم يترك حفظه.
وفيه أيضاً: سئل نصير عمن استعار حماراً إلى الطاحونة، فأدخله في المربط
الذي هناك، ووضع على الباب خشباً كيلا يخرج الحمار، فسرق، قال: إن استوثق
وثيقه لا يقدر الحمار على الذهاب، فلا ضمان؛ لأنه غير مضيع.
وفي «الجامع الأصغر» : امرأة استعارت ملاءة (133أ2) فوضعتها داخل الدار،
والباب مفتوح، فصعدت السطح، فلما نزلت لم تجد المرأة الملاءة؛ قيل: لا ضمان
عليها، وقيل: هي ضامنة.
العبد المحجور إذا استعار من آخر شيئاً واستهلكه، فهذا على الخلاف المعروف
فيما إذا كان مودعاً واستهلكه، عبد محجور عليه أعار عبداً محجوراً عليه
شيئاً، فاستهلكه المستعير منه (و) استحق المستعار رجل فله الخيار؛ إن شاء
يضمن أيهما شاء؛ لأن الأول غاصب، والثاني غاصب الغاصب، فإن ضمن الثاني لا
يرجع على الأول؛ لأنه ضمن بسبب القبض، وفي القبض عامل لنفسه.
ألا ترى أنه لو كان الثاني حراً لا يرجع على أحد بشيء، وإن ضمن الأول
فلمولاه أن يرجع بما ضمن على الثاني بخلاف الحر؛ وذلك لأن الحر بالضمان
يملك المستعار؛ حيث إنه أعار ملك نفسه، والعبد إذا ضمن، فالملك يثبت
لمولاه، فيصير الأول معيراً ملك مولاه، والعبد إذا أعار ملك مولاه، وهلك في
يد المستعير؛ كان للمولى أن يضمن المستعير.
وفي «مجموع النوازل» : رجل باع من رجل حصيراً، وأعاره حماره حتى يحمله
عليه، وقال له عذاره، ومشية لا يحل عينه فقال: أفعل؛ فلما سار ساعة خلى عن
عذاره، وأسرع في المشي فسقط، فانكسر، فعليه ضمان الحمار.
وفيه أيضاً: إذا استقرض القروي ثوراً فأعار عليه الأتراك فلا ضمان على
المستقرض قال: لأن هذا عارية، فإن من عادة أهل القرى أنهم يستقرضون الثور؛
بعضهم من بعض يوماً أو ما أشبه ذلك، وينتفعون به؛ ثم يردونها، ويدفعون ثور
أنفسهم بعد ذلك إلى صاحب الثور لينتفع هو بالثور الثاني حسب انتفاع الأول
بالثور الأول؛ ثم يرده على صاحبه، فهذا في معنى العارية فيها.
وقول محمد في «الكتاب» : إن استقراض الحيوان يوجب الضمان فذلك فيما دفع
(5/563)
إليه حيواناً استهلكه وينتفع به، ثم يدفع
إليه حيواناً آخر مكانه، فيأخذه المستقرض للتملك دون الانتفاع، ورد عينه
بعد ذلك.
الفصل السادس في رد العارية
قال محمد في «الأصل» : إذا رد المستعير الدابة مع عبده أو بعض من في عياله،
فلا ضمان عليه؛ كما في الوديعة، وهذا هو العرف في الظاهر فيما بين الناس أن
المستعير بعدما فرغ من الانتفاع يرد العارية على يدي غلامه أو بعض من في
عياله، وإن ردها على عبد صاحب الدابة عبد القوم عليها، وتعاهدها يبرأ عن
الضمان، وأراد به ضمان الرد لا ضمان العين؛ لأن ضمان العين لم يجب بعد؛ أما
ضمان الرد واجب، فانصرفت البراءة إلى ما كان مضموناً عليه، ولو هلكت الدابة
بعد ذلك في يد العبد لا يضمن ضمان العين؛ قال شمس الأئمة السرخسي: وهذا
استحسان.
والقياس: أن يضمن كما لو رد الوديعة على يدي من في عيال صاحب الوديعة،
والفرق على جواب الاستحسان العرف، فإن الظاهر فيما بين الناس أن سائس
الدابة هو الذي يسلم الدابة إلى المستعير عند الإعارة، وهو الذي يسترد منه
عند الفراغ عن الحاجة، ومثل هذا العرف لا يوجد في الوديعة، فإن صاحب
الوديعة يتولى: أخذها، وإنما أودعها؛ لأنه لم يرضَ بكونها في يدي من في
عياله؛ قال شيخ الإسلام: وعلى قياس ما ذكر في العارية يجب أن يقال بأن
الغاصب إذا رد المغصوب على عبد المغصوب منه عبداً يقوم على الدابة أنه يبرأ
عن الضمان، فأما إذا رد المستعير الدابة على عبد لا يقوم عليها، ولا
يحفظها؛ هل يبرأ عن ضمان الرد؛ ذكر شيخ الإسلام وقال: يجب أن لا يبرأ كما
في الغاصب إذا رد الدابة المغصوبة على عبد لا يقوم عليها، فإنه لا يبرأ عن
ضمانها، وهل يضمن ضمان العين إذا ضاع في يده لم يذكر محمد هذه المسألة ههنا
صريحاً، وذكر شمس الأئمة السرخسي ما يدل على أنه يضمن.
فإنه قال في المستعار: لو كان عقد لؤلؤة، فردها على عبد يقوم على الدواب
فهو ضامن ما لم تصل إلى المالك.
وهكذا ذكر في «المنتقى» أيضاً: فإنه قال: إذا كانت العارية عقد لؤلؤة فردها
على عبدٍ لا يقبض مثله مثلها إنه يضمن، وذكر شيخ الإسلام: أن هذه المسألة
تكون على القياس والاستحسان؛ القياس: أن يضمن، وفي الاستحسان: لا يضمن؛ كما
لو ردها إلى منزله أو ربطها، وضاع ثمة يضمن قياساً ولا يضمن استحساناً؛ لأن
المنزل في يد المولى حكماً، فالرد إلى منزله أو الربط يكون رداً على المالك
حكماً، فكذا العبد الذي لا يقوم على الدابة في يد المولى حكماً، فكان الرد
عليه كالرد على المولى.
وأشار محمد رحمه الله بعد هذه المسألة بمسائل إلى أنه لا يضمن قياساً
(5/564)
واستحساناً، فقد قال: إذا رد المستعير
الدابة، فلم يجد صاحبها ولا خادمه، فربطها في دار صاحبها على معلفها فضاعت؛
لا يضمن استحساناً، فقد شرط الاستحسان عدم صاحبها وخادمه مطلقاً من غير فصل
بين خادم يقوم عليها، أو لا يقوم عليها، فهذا إشارة إلى أنه إذا ردها إلى
عبد لا يقوم عليها إنه لا يضمن قياساً واستحساناً؛ هذا هو الكلام في
العارية.
وأما الكلام في الوديعة، فقد ذكرنا في كتاب الوديعة: أن المودع إذا رد
الوديعة على عبد صاحبها أنه ضامن من غير فصل، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب
العارية: أن الجواب في الوديعة كالجواب في العارية، وذكر شمس الأئمة
السرخسي في شرح كتاب العارية: أن المودع ضامن على كل حال؛ كما ذكرنا في
كتاب الوديعة، وهكذ ذكر القدوري في «شرحه» ، والفقيه أبو الليث في «فتاويه»
.
الفصل السابع في استرداد العارية، وما يمنع من
استردادها
ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» عن محمد؛ فيمن استعار من آخر أرضاً
ليزرعها، فأعارها إياه، وأذن له في ذلك إلى أن أدرك زرعه فزرعها ثم أراد
صاحبها أن يأخذها قبل أن تستحصد، فالمزارع بالخيار؛ إن شاء قلع الزرع، وإن
شاء كانت الأرض عليه بأجر مثلها إلى أن يستحصد الزرع؛ وهذا لأن المزارع محق
في الزراعة؛ لأنه زرع بإذن رب الأرض، فيجب مراعاة حقه في الزرع؛ كما يجب
مراعاة حق رب الأرض في الأرض، وذلك بترك الأرض في يد صاحب الزرع إلى وقت
إدراك الزرع بالإجارة أو أن صاحب الزرع قلع الزرع؛ لأنه فيه قطع حق صاحب
الأرض عن منفعة الأرض مدة معلومة بعوض مع مراعاة حق المزارع في الزرع من كل
وجه، وذكر محمد هذه المسألة في «المبسوط» ، وذكر فيها القياس والاستحسان.
القياس: أن يكون لصاحب الأرض أن يخرج الأرض من يد المستعير؛ سواء كانت
العارية مطلقة أو مؤقتة، وفي الاستحسان: أن لا يخرج الأرض من يده.
وذكر في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن زرع أرض غيره لنفسه بإذن
صاحب الأرض، ثم أراد رب (133ب2) الأرض أن يخرج الأرض من يده بعدما زرعها
ليس له ذلك حتى يستحصد الزرع؛ لأن التغرير بالمؤمن حرام، فإذا استحصد الزرع
ذكر في بعض روايات «المبسوط» أن صاحب الأرض يأخذ الأرض مع الأجر، ولم يذكر
هذا في بعض الروايات وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول: إنما يجب الأجر
لصاحب الأرض إذا أجر الأرض منه صاحب الأرض أو القاضي، فأما بدون ذلك لايجب
الأجر؛ لأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد.
وعبارة «المنتقى» وإن شاء المزارع كانت الأرض عليه بأجر مثلها، ولم يشترط
إجارة رب الأرض، والقاضي.
(5/565)
وعبارة شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : إنه
يترك الأرض في يد المزارع بأجر المثل من غير اشتراط إجارة رب الأرض. أو
القاضي، وإن أبى المزارع أن تكون الأرض في يده بأجر المثل وكره قلع الزراع
أيضاً، وأراد أن يضمن رب الأرض قيمة الزرع، وقال: زرعي متصل بأرضك، فأشبه
الصبغ المتصل بثوبك، فلي أن أضمنك قيمته كما في الصبغ؛ لم يذكر هذه المسألة
في «الأصل» ، وذكر في «المنتقى» في موضع أن له ذلك إلا إن رضي رب الأرض أن
يترك الزرع في أرضه حتى يستحصد أو يكون ذلك منه وفاءً بالشرط الذي شرط في
عقد العارية، فلا يلزمه شيء آخر، وقال في موضع آخر: ليس للمزارع أن يضمن رب
الأرض قيمة الزرع.
قال في «المنتقى» : وإن أراد رب الأرض أن يعطي المزارع بذره ونفقته ويخرج
الأرض من يده، ويكون الزرع له؛ يعني لرب الأرض، ورضي المزارع به، فإن كان
لم يطلع من الزرع شيء لا يجوز، وإن كان الزرع قد خرج جاز؛ لأن المزارع يصير
بائعاً الزرع، وبيع الزرع قبل أن يخرج لا يجوز بلا خلاف، وبعد أن يخرج فيه
كلام، وأشار ههنا إلى الجواز.
ولو استعار داراً ليبني فيها بناءً، أو أرضاً ليغرس فيها نخلاً ففعل ثم
أراد رب الدار والأرض أن يخرجه، فله ذلك؛ سواء كانت العارية مطلقة، أو
مؤقتة ولا يضمن صاحب الدار والأرض قيمة البناء والأشجار؛ إن كانت العارية
مطلقة عند علمائنا، ويضمنها إن كانت العارية مؤقتة، وأراد إخراجه قبل
الوقت؛ هكذا ذكر المسألة في «الأصل» ، وذكر في «المنتقى» عن أبي حنيفة أن
عليه قيمة البناء سواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة، فصار في العارية
المطلقة عن أبي حنيفة روايتان.
وجه ما ذكر في «المنتقى» : أن البناء للدوام، وقد أذن له في ذلك فبالإخراج
يصير غاراً، فلدفع الغرور أوجبنا القيمة. وجه ما ذكرنا في «الأصل» : أن
الثاني معير، وليس بغرور؛ لأنه بنى هذا البناء معتمداً على إذنه مع علمه أن
البناء بهذا الإذن على الجواز دون اللزوم، وأما إذا كانت العارية مؤقتة،
وأراد إخراجه قبل الوقت يغرم قيمة البناء والأشجار قائماً يوم الاسترداد
باتفاق الروايات؛ لأن التوقيت غير محتاج إليه لتصحيح العارية، وإنما فائدته
ضمان تبعية البناء إلى هذا الوقت، وضمان قيمة البناء إن أخرجه قبل الوقت،
وإنما يعتبر قيمة البناء قائماً؛ لأن القلع والنقض غير مستحق عليه قبل
الوقت ولهذا يضمن له، وإذا لم يكن القلع مستحقاً عليه كان حقه في بناء قائم
بغير الاسترداد، فيعتبر قيمته.
كذلك هذا إذا أراد صاحب الأرض إخراجه قبل الوقت، وإن مضى الوقت، فصاحب
الأرض يقلع عليه الأشجار والبناء، ولا يضمن شيئاً عندنا؛ لأن القلع بعد
الوقت مشروط يقتضي ذكر الوقت فيعتبر بما لو كان مشروطاً نصاً؛ قال: إلا أن
يضر القلع بالأرض، فحينئذٍ صاحب الأرض يتملك البناء، والأغراس بالضمان،
ويعتبر في الضمان قيمته مقلوعاً؛ لأن القلع مستحق عليه بعد الوقت؛ بخلاف ما
لو أراد إخراجه قبل الوقت حيث يضمنه قيمته قائماً؛ لأن النقض والقلع هناك
غير مستحق عليه، فكان حق
(5/566)
المستعير في البناء القائم، وفي الأشجار
القائمة.
في «النوازل» : رجل استعار من رجل داراً، وبنى فيها حائطاً بالتراب، ويقال
بالفارسية: باجنره، واستأجر الأجراء بعشرين درهماً، وكان ذلك بغير إذن رب
الدار، ثم إن صاحب الدار استرد الدار منه، فليس للمستعير أن يرجع بما أنفق؛
لأنه فعل بغير إذنه، وهل له أن ينقض الحائط؟ إن كان قد بناه من تراب من
صاحب الأرض، فليس له ذلك؛ لأنه لا يفيد؛ لأن بالهدم يعود تراباً، والتراب
حق صاحب الدار، والله أعلم.
الفصل الثامن في الاختلاف الواقع في هذا الباب،
والشهادة فيه
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل استعار من رجل دابة ليركبها إلى حمام
أعس فجاوز بها إلى حمام أعس ثم رجع إلى حمام أعس أو إلى الكوفة، والدابة
على حالها، ثم عطبت الدابة، فقال رب الدابة: قد خالفت، ولم تردها إلى
الموضع الذي أذنت لك، فقال المستعير: قد خالفت فيها، ثم رجعت بها إلى
الموضع الذي أذنت لي، فلا ضمان عليَّ، فالقول قول رب الدابة، والمستعير
ضامن؛ لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وهو المجاوزة عن المكان المسمى، ثم
ادعى ما يبرئه، وهو العود، فلا يصدق إلا بحجة، فإن أقام البينة أنه قد ردها
إلى الكوفة، أو إلى الموضع الذي أخذها إليه، ثم نفقت بعدما ردها، قال: هو
ضامن لها حتى يرجعها إلى صاحبها، وتأويله أنه استعارها إلى ذلك المكان
ذاهباً جائياً، ومتى كان كذلك كان ضامناً؛ لأن الثابت بالبينة العادلة
كالثابت معاينة، ولو عاينا أنه عاد إلى المكان المشروط؛ فإنه لا يبرأ؛ لأنه
عاد إلى الوفاق، فالعقد منتهٍ، فلا يبرأ عن الضمان، فأما إذا كان ذاهباً
وجائياً يبرأ عن الضمان متى أظهر البينة أنه عاد إليه كما لو تمت معاينته،
ولو تمت معاينته برىء؛ لأنه عاد إلى الوفاق، والعقد قائم، فيبرأ عن الضمان.
إذا قال: أعرتني دابتك وهلكت، وقال المالك: غصبتها مني، فلا ضمان عليه إن
لم يكن ركبها، وإن كان قد ركبها، فهو ضامن، ولو قال: أعرتني، وقال المالك:
ركبها وهلكت من ركوبه، فالقول قول الراكب، ولا ضمان عليه.
وفي «القدوري» : وإن اختلف المعير والمستعير في الأيام أو في المكان أو
فيما يحمل عليه، فالقول قول رب الدابة مع يمينه؛ لأن الإذن من جهته مستفاد،
فكان القول قوله.
وفيه أيضاً: وإذا تصرف المستعير، وادعى أن المعير أذن له وجحد المعير، فهو
ضامن؛ إلا بقوم البينة على الإذن؛ لأن سبب الضمان قد تحقق، فإذا ادعى
الإذن، فقد ادعى المسقط، فلا يفضل إلا بحجة.H
(134أ2)
وفي «المنتقى» : رجل قال لغيره: أعرتني هذه الدار، أو هذه الأرض لأبنيها،
أو
(5/567)
أغرس فيها ما بدا لي من النخل أو الشجر،
فغرستها هذا النخيل، وبنيتها هذا البناء، وقال المعير: أعرتك الدار والأرض
وفيها هذا البناء والأغراس، فالقول قول المعير؛ لأن البناء والأغراس بحكم
الاتصال صار وصفاً للأرض بمنزلة أوصاف الحيوان.
وإن أقاما البينة، فالبينة بينة المعير أيضاً؛ لأن الإعارة لا تكون إلا بعد
سابقة الاستعارة، فالمعير ببينته أثبت استعارته الأرض مع البناء والأغراس،
وباستعارة الأرض مع البناء والإغراس يصير مقراً بالبناء والإغراس.
الفصل التاسع في المتفرقات
رد المستعار على المستعير، ورد المستأجر على الآجر، والعبرة لما يعود
ويحصل.
فالحاصل للآجر بدل المنفعة، وللمستأجر المنفعة، وبدل المنفعة عين فكان
خيراً من المنفعة، فكان مؤنة الرد عليه.
والحاصل للمستعير المنفعة، والمعير لا شيء له، فإنما يعود إليه ملكه لا
غير، فكان المستعير أسعد حالاً، فكان مؤنة الرد على المستعير ذكره الصدر
الشهيد في باب من المسائل المتفرقة من كتاب الإجارة، وفي «الواقعات» نفقة
العبد المستعار على المستعير، وكسوته على المعير؛ لأن بقاء المنفعة الحالية
بالنفقة، والمنفعة تعود إلى المستعير، ولا كذلك الكسوة.
قال أبو نصر: لو أن رجلاً استعار من رجل عبداً فطعام العبد على المستعير،
ولو أن مولى العبد أعاد العبد فطعامه على المعير؛ قال الفقيه أبو الليث:
يعني إذا قال مولى العبد: خذ عبدي، واستخدمه من غير أن تستعيره، فإن هذا
بمنزلة الوديعة، فطعامه على مولاه.
في «المنتقى» : إذا قال لغيره: أعرني ثوبك، فإن ضاع فأنا له ضامن، فلا ضمان
عليه، وهذا الشرط باطل؛ لأنه يخالف قضية التبرع، وكذلك هذا الحكم في سائر
الأمانات؛ نحو الودائع وغيرها.
وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف في المستعير إذا خرج بالدابة، أو الثوب من
المصر، فاستعمله، فهو ضامن، وإن خرج به ولم يلبس، ولم يركب؛ ضمن في الدابة،
ولم يضمن في الثوب؛ معنى المسألة استعار ثوباً، أو دابة في المصر حتى تقيد
الإذن بالاستعمال في (المصر) لما أن الاستعمال خارج المصر يخالف الاستعمال
في المصر، ثم خرج بهما عن المصر إن استعمل الثوب والدابة، فهو ضامن، وإن لم
يستعملهما ففي الثوب لا ضمان؛ لأنه حافظ له خارج المصر؛ كما هو حافظه في
المصر؛ بخلاف الدابة؛ لأنها بمجرد الخروج، صارت عرضة للنفور، فيكون إخراجها
إتلافها معنى فيضمن لها.
(5/568)
وفيه أيضاً: ذكر المعلى في «نوادره» عن أبي
يوسف: في رجل استعار محملاً أو فسطاطاً، وهو في مصر، فسافر به؛ لا يضمن،
وإن استعار سيفاً أو عمامة، وسافر به ضمن، والفرق: أن الاستعارة، وإن وجدت
في المصر؛ إلا أن الفسطاط والمحمل يستعملان خارج المصر عادة، فصار عادتهما
إذناً بالمسافرة بهما، ولا كذلك السيف، والعمامة.
وفيه أيضاً: استعار من رجل فرساً ليغزو عليه أربعة أشهر، ثم لقيه المعير
بعد شهرين في بلاد المسلمين، وأراد أخذه، فله ذلك، وإن لقيه في بلاد الشرك
في موضع لا يقدر على كراء وعلى شراء ليس له أن يأخذه دفعاً للضرر عن
المستعير، ويكون على المستعير، أجر مثل ذلك الفرس من ذلك الموضع الذي طلبه
منه صاحبه دفعاً للضرر من الطرفين.
ونظير هذه المسألة: رجل استعار من آخر أمة ترضع ابناً له، فلما تعود الصبي
وصار لا يرضع إلا منها؛ قال المعير: اردد عليَّ أمتي، فليس له ذلك، وله أجر
مثل جاريته إلى أن يفطم الصبي، وكذلك إذا استعار من آخر زقاقاً وجعل فيها
زيتاً فأخذه في صحراء، فليس له أن يأخذ الزقاق وله أجر مثلها إلى موضع يجد
فيها زقاقاً فيحول زيته.
وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رجل قال لرجل: أعرني دابتك فرسخين، أو قال:
إلى فرسخين، قال: له فرسخان ذاهباً وجائياً، فتصير أربعة فراسخ، وكذلك كل
عارية تكون في المصر؛ نحو تشييع الجنازة وأشباهها، وهذا استحسان أخذ به
علماؤنا لمكان العرف الظاهر فيما بين الناس، والقياس أن يكون هذا على
الذهاب خاصة، ولا يكون له أن يرجع عليها.
استعار من آخر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فبعث الدابة مع وكيل له
ليحمل عليها الحنطة، فحمل الوكيل حنطة نفسه مثلها لا يضمن. في كتاب الشركة
في باب خصومة المتفاوضين استعارة الشيء للرهن من غيره جائز، وإنه معروف،
والاستعارة ليؤاجر من غيره جائز؛ ذكر شيخ لإسلام في شرح كتاب المزارعة في
باب اختلافهما في الزراعة.
وذكر في «فتاوى أبي الليث» : أن والد الصغير ليس له أن يعير متاع ولده
الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني في أول شرح الوكالة: أن للأب أن يعير
ولده الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني، وهل له أن يعير مال ولده الصغير؟
بعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: له ذلك، وعامة المشايخ على أنه ليس له
ذلك.
صبي استعار من صبي شيئاً كالقدوم، ونحوه، فأعطاه، وكان الشيء لغير الدافع،
فهلك في يده؛ إن كان الصبي الأول مأذوناً لا يجب على الثاني شيء، وإنما يجب
على الأول؛ لأنه إذا كان مأذوناً صح الدفع منه، فكان التلف حاصلاً بتسليطه،
وإن كان الشيء
(5/569)
للأول لا يضمن الثاني أيضاً لما قلنا، وإن
كان الأول محجوراً عليه ضمن هو بالدفع، ويضمن الثاني بالأخذ منه، ويكون
الأول غاصباً، والثاني غاصب الغاصب.
استعار من آخر شيئاً، فدفع ولده الصغير المحجور عليه المستعار إلى غيره
بطريق العارية، فضاع يضمن الصبي الدافع، وكذا المدفوع إليه؛ لأن كل واحد
منهما غاصب في حقه.
أعار من آخر شيئاً وهلك في يد المستعير، ثم استحقه مستحق فله الخيار؛ يضمن
أيهما شاء، فإن ضمن المعير، فليس له أن يرجع على المستعير؛ لأنه تبين أنه
أعار ملك نفسه، وإن ضمن المستعير، فكذلك لا يرجع على المعير؛ لأن المستعير
في القبض عائد لنفسه، فإنما يضمن بسبب عمل لنفسه، فلا يرجع به على غيره.
في «الجامع الأصغر» : أرض بين جماعة؛ أذن واحد منهم للباقين أن يبنوا فيها
قصوراً، فبنوا ثم أراد الآذن أن يهدم بناء قصر منها؛ كان لهم منعه، وله أن
يأخذهم برفع قصورهم بناء على ما قلنا: إن العارية غير لازمة، والله أعلم.
تم كتاب العارية.
(5/570)
|