المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الوقف
هذا الكتاب يشتمل على ستة وعشرين فصلاً:
1 * في الألفاظ التي تجري في الوقف، وما يتم به الوقف وما لا يتم.
2 * فيما يتعلق بجواز الوقف، وصحته، وشرائط صحته.

3 * في بيان ما يجوز من الأوقاف وما لا يجوز وهو أنواع: منها في تعليق بالشروط، ومنها في أوقاف المنقول، ومنها فيما يدخل في الوقف من غير ذكر؛ ومنها في الأوقاف المضافة؛ ومنها وقف المحجور.
4 * فيما يتعلق بالشروط في الوقف وهو أنواع.
5 * في الإقرار بالوقف.
6 * في الولاية في الوقف.
7 * في تصرف القيم في الأوقاف وهو نوعان: أحدهما فيما يرجع إلى عمارة الوقف، والآخر فيما يرجع إلى العقود.
8 * في الوقف على نفسه وما يتصل به.
9 * في الوقف على ولده وولد ولده وبنته ونسله، وما يتصل بذلك.
10 * في الوقف على فقراء قرابته.
11 * في الرجل يقف أرضه على قرابته فيجيء رجل فيدعي أنه من قرابته، وفيه الوقف على أقرب الناس منه أو إليه.
12 * في الوقف على أهل البيت والآل، والجنس والعصب والجيران، وأشباه ذلك.
13 * في الرجل يقف على الفقراء فيحتاج أحد من ولده أو يحتاج هو بنفسه.
14 * في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك.
15 * في وقف المريض.
16 * في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم الغلة.

(6/105)


17 * في الرجل يقف على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض، أو يكون بعضهم حياً وبعضهم ميتاً.
18 * في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة، وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين بصفة فتزول تلك الصفة عن كلهم أو عن بعضهم.
19 * في المسائل التي تتعلق بالصك وما فيه.
20 * في المسائل المتعلقة بالدعاوي والخصومات والشهادات في باب الوقف وهو أنواع منها، في المسائل العائدة إلى الشهادة في الوقف.
21 * في المساجد، وهو أنواع.
22 * في المسائل العائدة إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياًض والطرق والسقايات.
23 * في المسائل العائدة إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك.
24 * في المسائل الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل به من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر.
25 * في وقف الكفار.
26 * في المتفرقات.

(6/106)


الفصل الأول: في الألفاظ التي تجري في الوقف وما يتم به الوقف وما لا يتم
إذا قال: أرضي هذه صدقة محررة مؤبدة حال حياًتي وبعد وفاتي، أو قال: أرضي هذه صدقة مؤبدة في حال حياًتي وبعد وفاتي، أو قال: أرضي هذه صدقة محبوسة مؤبدة أو حبسة مؤبدة حال حياًتي وبعد وفاتي، يصير وقفاً جائزاً لازماً على الفقراء عند الكل، ولو لم يقل حال حياًتي وبعد وفاتي، فالمسألة على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله.
ولو قال: أرضي هذه صدقة محبوسة، أو قال: حبسته ولم يقل: مؤبدة فإنه يصير وقفاً، في قول عامة من يجيز الوقف، وقال الخصاف وأهل البصرة بأنه: لا يصير وقفاً، ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على المساكين يصير وقفاً بالإجماع، وذهبوا في ذلك إلى أن جواز الوقف معلق بالتأبيد لما نبين بعد هذا إن شاء الله، وما يكون معلقاً بالتأبيد لا يكون إلا بذكر التأبيد نصاً وإنما جاز بذكر المساكين ولم ينص على التأبيد؛ لأن ذكر المساكين ذكر التأبيد؛ لأنهم لا يقطعون أبداً وجه قول العائد أن التأييد كما يثبت بذكر الصدقة؛ لأن الصدقة تثبت مؤبدة؛ لأنها لا يحتمل القسم، ولو قال: أرضي هذه موقوفة، أو قال: داري هذه موقوفة أو قال: أرضي هذه، أو قال: داري هذه، فعلى قول أبي يوسف يكون وقفاً، وقال محمد وهلال لا يكون وقفاً، وكذلك على قول الخصاف وأهل البصرة لا يكون وقفاً؛ لأنه لما لم يصير وقفاً في المسألة الأولى عندهم وقد جمع بين الصدقة والموقوفة؛ فلأن لا يصير وقفاً هنا كان أولى.

وجه قول محمد أن قوله: وقفت أرضي، يحتمل وقفتها على الفقراء فيكون وقفاً تاماً، ويحتمل وقفتها على الأغنياء، فلا يكون وقفاً بالشك، وأبو يوسف يقول: العرف الظاهر فيما بين الناس إنهم يريدون بهذا الوقف على الفقراء وكان مشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف، قال: صدر الشهيد في «واقعاته» ونحن نفتي به أيضاً وكذلك إذا قال: أرضي هذه حرمتها أو حبستها أو قال: هي محرمة أو قال: محبوسة أو قال: حبسته فهو على الخلاف أيضاً، وكذلك إذا قال: أرضي هذه موقوفة محرمة حبس، أو قال: موقوفة حبس محرمة لا تباع ولا توهب ولا تورث فهو على الخلاف أيضاً.
وكذلك لو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة أو قال: أرضي هذه وقف أو قال: صدقة محبوسة فهي بلا خلاف * هذا إذا لم يعين إنساناً، فأما إذا عين بأن قال: وقفت أرضي هذه على فلان أو قال: داري هذه موقوفة على فلان أو قال: على ولدي أو قال: على قرابتي وهم يحصون * لا يجوز.

(6/107)


فرق أبو يوسف بين هذا وبينما إذا لم يعين إنساناً.
والفرق: أنه إذا لم يعين انساناً فالجواز باعتبار أنه وقف على الفقراء ظاهراً بحكم العرف، وإذا عين إنساناً لا يمكن أن يجعل هذا وقفاً على الفقراء هذا إذا عين إنساناً وذكر لفظ الوقف مفرداً، أما إذا ذكر صفة لفظ الصدقة بأن قال: أرضي هذه صدقة على ولدي، كان وقفاً. والغلة لفلان مادام حياً، وإذا مات هو يصرف الغلة إلى الفقراء؛ لأنه لما نص على الصدقة والصدقة لا تكون إلا على الفقراء كان هذا وقفاً على الفقراء، وكان ذكر فلان لتخصيصه بالغلة في الباب الأول من الوقف «الواقعات» ، وعن أبي يوسف أنه إذا عين إنساناً وقال: وقفت أرضي، هي وقف لك، حبستها لك فهو تمليك منه يتم بالتسليم إليه، وفي شروط محمد بن مقاتل رحمه الله قال: أبو يوسف جاز الوقف على رجل بعينه وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى ورثة الوقف، وفي «البرامكة» : عن أبي يوسف يجوز الوقف على رجل بعينه، وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى المساكين، فصار في رجوع الوقف إلى ورثة الموقوف عليه روايتان عنه. وكل ذلك يدل على جواز الوقف على رجل بعينه (2أ3) وفي الوقف الخصاف إذا قال: جعلت هذه الأرض صدقة موقوفة على فلان وولده وولد ولده وأولاد أولادهم، فإذا سمى من ذلك فهو وقف مؤبد إلى يوم القيامة، قال: ثمة أيضاً وقال أبو يوسف، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على فلان وولده وولد ولده فهو جائز، لقوله: أبداً.

وفي «المنتقى» قال: أبو يوسف: إذا جعل أيضاً له صدقة موقوفة على ولده جاز ما داموا أحياًء، فإذا انقرضوا رجعت إلى صاحبها إن كان حياً، وإلى ورثته إن كان ميتاً. قال: وليس هذا نظير قوله: أرضي صدقة موقوفة ينفق من عليها على فلان لأنه إذا قال: هي صدقة موقوفة على فلان فإنما أوجبها له خاصة، وإذا قال: هي صدقة موقوفة ولم يقل على فلان، فإنما أوجبها للفقراء، فإذا استثني أن ينفق من عليها، فإنما استثني من صدقة أمضيت فما ذكر في «الواقعات» وفي وقف «هلال» إذا قال: أرضي هذه موقوفة لله تعالى أبداً، كان وقفاً صحيحاً على المساكين؛ لأن معنى قوله: أرضي صدقة أبداً؛ لأن الوقف لله تعالى لا يكون إلا في وقف الأصل ليتصدق بالغلة، وكذلك إذا قال: موقوفة لله من غير ذكر الأبد، وكذلك إذا قال: موقوفة لرحمة الله أو قال: لطلب ثواب الله إذا قال: أرضي هذه صدقة، أو قال: جعلت أرضي هذه صدقة كان هذا نذراً بالتصدق فينبغي أن يتصدق بنفسها أو يبيعها ويتصدق بثمنها، ذكر هلال في وقفه عن أبي حنيفة إذ قال: جعلت أرضي هذه للفقراء، إن كان هذا في تعارفهم وقفاً، وإن لم يكن في تعارفهم وقفاً، يسأل عنه ماذا أراد بقوله جعلتها للفقراء، إن قال: أردت أن تكون وقفاً على الفقراء، تكون وقفاً على الفقراء؛ لأنه نوى ما يحتمل لفظه، وإن أراد به الصدقة، أو لم يكن له نية

(6/108)


فهو نذر بالصدقة، أمّا إذا نوى الصدقة، فلأنه نوى ما يحتمله لفظه، وأما إذا لم ينوِ، فلأن هذا فكان له بيانه أولى عند الاحتمال، ومتى صارت نذراً كان عليه أن يتصدق بقيمتها كما لو نص عليه.
وإذا قال: أرضي هذه السبيل ولم يزد على هذا، فيه تفصيل: فإن كان هذا الرجل من قوم هذا اللفظ في متعارفهم: وقف، وإن لم يكن من قوم تعارفهم أن هذا وقف، يسأل عنه إن أراد به الوقف فوقف وإن أراد به الصدقة فهو صدقة فيتصدق بعينها أو بثمنها، وذكرنا في المسألة المتقدمة وهو ما إذا قال: جعلت أرضي هذه للفقراء ولم ينوِ شيئاً أنه يكون نذراً ولا فرق بينهما؛ لأنه إذا صار نذراً، فإذا مات يصير ميراثاً عند هذه الجملة في الباب الأول من «الواقعات» . وفي هذا الموضع أيضاً إذا قال: ضيعتي هذه للسبيل، فلم يزد على هذا لم يصر وقفاً، إلا إذا كان القائل في ناحية يفهم أهل تلك الناحية بها الوقف المؤبد بشرائطه؛ لأن المطلق ينصرف إلى المتفاهم فيصير كالتصريح بالوقف وفي هذا الموضع أيضاً إذا قال: اشتروا من غلة داري هذه كل شهر بعشرة دراهم حراً وفرقوا على المساكين صارت الدار وقفاً؛ لأن هذا لفظ يودي معنى الوقف، فصار كما قال: وقفت داري هذه بعد موتي على المساكين.
وفيه أيضاً رجل قال في مرضه: جعلت ترك كرمي وقفاً، وكان فيه تمراً ولم يكن صار الكرم وقفاً وهذا؛ لأن الترك لا يصير وقفاً إلا بوقف الكرم فقال قوله وقفت ترك كرمي منزلة قوله وقفت كرمي بما فيه من الترك، وكذلك لو قال: جعلت غلة كرمي وقفاً وفي «وقف هلال» إذا قال: أوصى بأن يوقف بثلث أرضه بعد وفاته لله تعالى أبداً، كان وصية بالوقف على الفقراء؛ لأن الوقف لله تعالى يكون وقفاً على المساكين فالأمر بالوقف لله يكون أمراً بالوقف على المساكين وفيه أيضاً إذا قال: أرضي هذه موقوفة على وجوه البر أو على وجوه الخير فهو وقف صحيح على المساكين لأن البر عبارة عن الصدقة قال الله تعالى: {أن تبروهم} (الممتحنة: 8) والخير والبر بمعنى واحد، فصار على تقدير كلامه أرضي هذه صدقة موقوفة.

الفصل الثاني: فيما يتعلق بجواز الوقف وصحته وشرائط صحته
ذكر في «ظاهر الرواية» أن شرط جواز الوقف عند أبي حنيفة الإضافة إلى ما بعد الموت، أو الوصية حتى أو يضيف إلى ما بعد الموت، ولم يوصى به لم يصح. وقال أبو يوسف ومحمد: هذا ليس بشرط، حتى يمنع من بيعه ولا يورث عنه متى مات. وحاصل الخلاف راجع إلى أن تقدير الوقف مادي قال أبو حنيفة: تقديره حبست العين على ملكي، وتصدقت به على المساكين، فلا يصح إذا كانت الثمرة معدومة إلا بطريق الوصية، وعلى قولهما: تقدير الوقف إزالت العين عن ملكي إلى الله تعالى، وجعلته محبوساً في ملكه ومنفعته للعباد، وهذا صحيح، وإن لم يكن موصي، كما في المسجد قال شمس الأئمة السرخي: الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية عند أبي حنيفة ليست بشرط للجواز، فإن الوقف جائز عنده بدون ذلك، لكنه غير لازم، وإنما يصير لازماً بالإضافة إلى ما بعد الموت، أو بالوصية به وهذا؛ لأن أبا حنيفة يجعل الواقف حابساً العين على ملكه، صارفاً المنفعة إلى الجهة التي سماها، فيكون بمنزلة العارية، والعارية جائزة غير لازمة، ومعنى الجواز جواز صرف الغلة إلى تلك الجهة، وتفسير الوصية به أن يقول: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة وأوصيت به بعد موتي، فإذا قال ذلك يكون لازماً، حتى لا يملك بيعه قبل الموت ولا يورث عنه، وذكر محمد رحمه في «السير الكبير» إذا أضافه إلى ما بعد الموت يصح عند أبي حنيفة بطريق الوصية لغلة داره لإنسان أو غلة أرضه أو يوصي ذلك للفقراء، وهو كالوصية بالعين وذكر الطحاوي أن الوقف المباشر في مرض الموت عند أبي حنيفة كالمضاف إلى ما بعد الموت، حتى أن الوقف المباشر في مرض الموت يقع لازماً جائزاً على ما ذكره الطحاوي قال شمس

(6/109)


الأئمة السرخسي رحمه: الصحيح أن المباشر في مرض الموت عنده كالمباشر في الصحة، حتى لا يجوز في ظاهر الرواية من غير الوصية والإضافة إلى ما بعد الموت، وحتى لا يلزم على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه.
وذكر شيخ الإسلام أن الوقف المباشر في مرض الموت إذا لم يكن مضافاً إلى ما بعد الموت عن أبي حنيفة روايتان وجه الرواية التي قال (فيها) : لا يجوز أنه لم يوجد الإضافة إلى ما بعد الموت حقيقة فلا يجوز كالوقوف في حالة الصحة ولم يضف إلى ما بعد الموت وجه الرواية الأخرى أن تصرفات المريض كالمضافة إلى ما بعد الموت، ألا ترى أنه يعتبر بتبرعاته من الثلث فوجدت الإضافة إلى ما بعد الموت اعتباراً. قال رحمه الله: التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف حتى إن على قوله لو لم يسلم الوقف إلى المتولي لا يزول عن ملكه وله أن يرجع في ذلك، وإذا مات يورث عنه، وقال أبو يوسف: التسليم إلى المتولي ليس شرط ويكتفي فيه بالإشهاد.

وجه قول أبي يوسف: أن الوقف تبرع شرع لإبطال ملك الواقف عن العين (2ب3) لا للتمليك، فيصح من غير قبض قياساً على الاختلاف، بيانه: أن التمليك من الله تعالى، لا يتحقق من جهتنا فقصروا؛ لأن ما في أيدينا ملك الله تعالى على الحقيقة ولنا فيه ملك التصرف جاعلاً إلينا إبطال ملك التصرف، لا التمليك من الله، وتقريب ما مر بخلاف الصدقة المنفذة حيث لا يصح بدون القبض؛ لأن ما يثبت لله تعالى في الصدقة، يثبت في ضمن التمليك من الفقير؛ لأن التمليك منه مقصورة، فما يثبت لله تعالى في ضمنه يثبت على سبيل التمليك، وإن كان التمليك منه لا يتحقق ضرورة أن ما يثبت في ضمن الشيء يكون حكمه حكم ذلك الشيء، فأما في الوقف ما يثبت لله تعالى من الحق مقصوداً، إلا في ضمن التمليك من العباد، فإن العين الموقوف لا يصير ملكاً للعباد والتمليك من الله تعالى مقصوداً من العبد لا يتحقق.

وجه قول محمد قوله عليه: لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة محوزة من غير فصل،

(6/110)


والمعني فيه أن الوقف إزالة الملك بطريق التبرع، فيما يكون بالتسليم كما في الصدقة، وهذا لأنه لو تم قبل التسليم فيؤدي إلى أن يصير تبرعه سبباً للزوم ما لم يتبرع به، وكذلك التأبيد شرط عند محمد حتى لو وقف على جهة يتوهم انقطاعها بأن وقف على أولاده لم يجعل آخره للفقراء، لا يصح الوقف عند محمد وعلى قول أبي يوسف التأبيد ليس بشرط، حتى إن في هذه المسألة يجوز الوقف عنده، وإذا ماتوا وانقرضوا يعود إلى ملكه إن كان حياً وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً، والخلاف على هذا الوجه مذكور في شرح الطحاوي وفي شرح شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله، وقد ذكر محمد رحمه في آخر كتاب الوقف: أن الوقف المؤقت باطل، ولم يذكر فيه خلافاً فيحتمل ذلك على أنه قول محمد: وإن كان على الوفاق فهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، فقد روى الحسن بن مالك عن أبي يوسف: أن الوقف المؤقت باطل، وبعض مشايخنا قالوا: لا خلاف أن التأبيد شرط صحة الوقف، وإنما الخلاف في تلك المسألة في شيء آخر، أن عند أبي يوسف: أن التأبيد يثبت بنفس الوقف من غير اقتران شيء آخر به، وعند محمد لا يثبت التأييد بنفس الوقف ما لم يجعل آخره للمساكين أو الفقراء، ولما كان من مذهب أبي يوسف أن التأبيد يثبت بنفس الوقف، فإذا مات أولاده وانقرض رحمه تصرف الغلة إلى الفقراء.
وهذا القائل يقول ما ذكر في «شرح الطحاوي» وفي «شرح شمس الأئمة السرخسي» : أنه إذا مات أولاده يعود إلى ملكه خطأ وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا وقف أرض على ذي الحاجة من ولده وولد ولده ما تناسلوا أبداً فذلك جائز، ولوقفها على فقراء ولده ولم يجعلها لفقراء النسل منهم لم يجز قال: ليس يجوز من الوقف إلا الوقف المؤبد، فإذا كان لقوم خاص لا يجوز الوقف عليهم؛ لأنهم فقراء، وأهل بيته ونسلهم ما تناسلوا فهو جائز، فإن انقرضوا ولم يكن استثني أنه لفقراء المسلمين فإنه يرد على فقراء المسلمين قال: من قبيل أن أصلها صدقة على ذوي الحاجة وقد أخرنا أولهما، وكان الوقف في ذلك على الأبد قال: وليس هذا كالوقف على ولده لا يذكر النسل؛ لأن الوقف على الولد ليس بوقف على الأبد وإذا ذكر النسل فهو وقف أبداً، قال: وكذلك لو وقفه على نفس واحدة ونسلها، فالواحدة والجماعة سواء، وعن الحسن عن أبي يوسف: إذا وقف على ولده ونسله، أو على أولاده وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا في الأخرى سواء في ما ذكرنا، وهو أنه إذا أمكن أن ينقرضوا لم يجز الوقف، وإذا وقف نصف أرض على الفقراء فعلى قول أبي يوسف: يجوز، وعلى قول محمد: لا يجوز.

واعلم أن الشيوع فيما يحتمل القسمة لا يمنع صحة الوقف، بلا خلاف، ألا ترى أنه لو وقف نصف الحمام يجوز: وإن كان كان مشاعا؛ لأنه لا يحتمل القسمة فصار كمية المشاع فيما لا يحتمل القسمة.

وفي الشيوع فيما يحتمل القسمة هل يمنع صحة الوقف؟ ففيه خلاف على قول محمد يمنع، وعلى قول أبي يوسف لا يمنع، وهذه المسالة في الحاصل بناءً، على أن

(6/111)


القسمة فيما تحتمل القسمة من تمام القبض، وأصل القبض عند أبي يوسف فيما يحتمل القسمة ليس بشرط فكذا تمامه لا يكون شرطاً، وعند محمد أصل القبض فيما يحتمل القسمة شرط فكذا ما يتم به القبض، ولو وقف جميع أرضه أو داره ثم استحق نصفه أو ربعه أو ما أشبهه شائعاً، بطل الوقف فيما بقي عند محمد؛ لأن بالاستحقاق تبين أن ما أوقفه الواقف كان مشاعاً، ووقف المشاع فيما يحتمل القسمة عنده باطل، وهذا بخلاف ما لو استحق شيئ منه بعينه، حيث لا يبطل الوقف في الباقي؛ لأن هناك لا يثبت الشيوع في الباقي؛ لأن المستحق مميز ما بقي، فهو بمنزلة ما لو وقف دارين واستحق أحدهما، ومشايخ بلخ أخذوا بقول محمد.
ذكر في «فتاوى أبي الليث» تفريعاً على قول أبي يوسف فقال: إذا كان أرض بين شريكين وقف أحدهما نصيبه مشاعاً ثم اقتسما فوقع نصيب الواقف في موضع لأخر لا يجب عليه أن يقف ثانياً؛ لأن بالقسمة يتعين الموقوف، وإن أراد الإخبار عن الخلاف نصفه ثانياً، وإن كان الأرض كلها له فوقف بعضها ثم أرادا القسمة.
فالوجه في ذلك: أن يتبع ما بقي ثم يقتسمان؛ لأن القسمة إنما تجري بين اثنين، وإن كان لم يتبع ورفع إلى القاضي ليأمر إنساناً معه جاز؛ لأن هنا القسمة جرت بين اثنين، وإذا قضى القاضي بجواز وقف المشاع ينفذ قضاؤه ويصير متفقاً عليه، كما في سائر المختلفات فإن طلب بعضهم القسمة قال أبو حنيفة: لا يقسم، ويتهاونون، وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم وأجمعوا أن الكل لو كان موقوفا على الأرباب فارادوا القسمة لا يقسم في «واقعات الناطفي» وفي «فتاوى أبي الليث» أيضاً.

وصورة ما ذكر في «فتاوي أبي الليث» : رجل وقف ضيعة له على بنيه وأرادا أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعة، وإنما ذلك إلى القيم.
وإذا كانت الأرض لرجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على الفقراء ودفعاها إلى والٍ يقوم بها كان ذلك جائز؛ لأن مثله في الصدقة النافذة يجوز ففي الموقوفة أولى، وإن تصدق كل واحد منهما بنصفها مشاعاً على حدة صدقة موقوفة، وسلم كل واحد منهما نصفها إلى والٍ على حدة، لم يجز، وإن تصدق كل واحد منهما بنصفه على حدة صدقة موقوفة وجعل الوالي على ذلك رجلاً واحداً، وسلما إليه جميعاً جاز ولو تصدق الواحد بجميع الدار على واحد وسلم النصف مشاعاً ثم سلم الباقي جاز.

وإنما جاء الفرق لأن العبرة في صحة الهبة وفسادها (3أ3) في الشائع ليمكن الشيوع وعدمه في القبض وقت ثبوت الحكم لا في العقد كما في الصدقة المنفذة وفي المسألة الأخيرة لم يتمكن الشيوع في القبض وقت ثبوت الحكم لأن الحكم إنما يثبت بقبض جميع المعقود عليه، وما يقبض بعض المعقود عليه؛ لأن العقد على الكل كان واحداً، فكان تمكين الشيوع في القبض، ولم يكن الحال حال ثبوت الحكم ليمكن الثبوت حالة العقد ليس ذلك بمانع، وفي المسألة المتقدمة يمكن الشيوع في القبض وقت ثبوت الحكم؛ لأن نصيب كل واحد منهما جميع المعقود عليه لأنه يفرق العقد منهما.

(6/112)


وإذا كانت الأرض بين رجلين تصدقا بها على الفقراء صدقة واحدة، وجعل كل واحد منهما والياً فهذا على رجلين إن جعل كل واحد منهما والياً ليقبض نصيبه ونصيب صاحبه بأن قال كل واحد منهما لواليه: وليتك تقبض هذه الأرض، وإن جعل كل واحد منهما والياً ليقبض نصيبه لا غير، لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول لم يتمكن الشيوع في القبض حال ثبوت الحكم.p

ذكر الخصاف في «وقفه» تفريعاً على قول أبي يوسف فقال: أرض بين رجلين وقف أحدهما حصته منها وهو النصف، فله أن يقاسم شريكه فيقرر حصة الوقف؛ لأن ولاية الوقف إليه فإن كان الواقف قد مات فلوصيه أن يقاسم الشريك ويقرر حصة الوقف؛ لأن ولاية الوقف قد مات ولوصيه أن يقاسم الشريك وتقرر حصته الوقف.
وإن رجلين كانت بينهما أرض فوقف كل واحد منهما حصته على قوم معلومين فهو جائز، وإن كانا وقفاها جميعاً على وجوه سمياها ثم أرادا قسمتها فلهما ذلك، ويقرر كل واحد منهما ما وقف ويكون في يده يَتَولاها.
ولو أنَّ رجلاً وقف جميع أرضه ثم استحق نصفها شائعاً، وقضى القاضي للمستحق بالنصف وبقي النصف الباقي وقفاً على حاله عند أبي يوسف، كان للواقف أن يقاسم المستحق فيقرر حصة الوقف.
ولو وقف من داره أو أرضه ألف ذراع جاز عند أبي يوسف؛ لأنه يجز ذلك في البيع ففي الوقف أولى، ثم يذرع الأرض والدار فإن كانت ألف ذراع أو أقل كان كلها وقفاً، وإن كانت ألفي ذراع كان الوقف منها النصف، وإن كانت ألف وخمسمائة، كان الوقف منها الثلثان، وإن كان في بعضها نخيل وبعضها لا نخيل فيها، يكون للوقف من حصة النخيل.
رجلان بينهما أرض ودور، وقف أحدهما نصيبه من الأرضين والدور، ثم أراد الواقف أن يقاسم شريكه فله ذلك ويقسم كل أرض وكل دار على حدة، وقال أبو يوسف: إن كان الأصلح للوقف أن يجمع ذلك، جمع إذا كانت الأرض من أراضي قرية واحدة، وليس للواقف أن يأخذ دراهم من الشريك أفضل ما يصير إليه في القسمة لأنه بيع، وإن أعطى الواقف شريكه دراهم أفضل ما صار في يده، جاز ذلك ويكون حصته ما دفع من الدراهم مطلقاً له.
في «فتاوى الفضلي» امرأة وقفت منزلاً في مرضها على بناتها، ثم بعدهن على أولاد من أولادهن أبداً ما تناسلوا فإذا انقرضوا فللفقراء، ثم ماتت من مرضها وخلفت من الورثة ابنتين وأختاً، والأخت لا ترضى بما صنعت، ولا مال لها سوى المنزل، جاز الوقف في الثلث ولم يجز في الثلثين بين الورثة على قدر سهامهم، ويوقف الثلث فما خرج من عليه قسم بين الورثة كلهم على قدر سهامهم يوقف الثلث ما عاشت الابنتان، فإذا ماتتا صرفت الغلة إلى أولادها وأولاد أولادها كما شرطت الواقفة لا حق للورثة في ذلك؛ لأن هذا الوقف وصية بالغلة للابنتين وأولادهما ما تناسلوا، فإذا لم تجز الأخت

(6/113)


بطلت الوصية للابنتين، وجازت لأولادهما؛ لأن بطلان هذه الوصية من حيث أنها للوارث، إلا أن الوصية لأولادهما بعد موتهما. قال صدر الشهيد في «واقعاته» : هذا التفريع يتأتى على قول أبي يوسف أن وقف المشاع جائز، أما لا يتأتى على قول محمد، وعندي أن هذا التفريع على قول الكل لأن حق الورثة إنما يثبت بعد الموت فإبطالهم في قدر الذي أبطلوا يقتصر على هذه الحالة، ولا يتبين أن ابتدأ الوقف في الجزء الشائع بل يكون هذا شرعاً طارياً وسياتي بيان ذلك في كتاب الهبة إن شاء الله.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل وقف داراً له في مرضه على ثلاث بنات له وليس له وارث غيرهن قال: الثلث من الدار وقف والثلثان مطلق أن يصنعن بهما ما شئن قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا لم يجزن الوقف، فأما إذا أجزن صار الكل وقفاً عليهن قال: صدر الشهيد في «واقعاته» : هذا التفريع إنما يتأتى علي قول أبي يوسف بناء علي أن وقف المشاع عنده صحيح وعندي أن هذا التفريع على الكل على ما بينا.

الفصل الثالث: في بيان ما جاز من الأوقاف وما لا يجوز
قال هلال في «وقفه» : وقف أرض الجور، وتفسير أرض الجور: الأرض التي جرت لبيت المال بأن لا يقدر صاحبها على زراعتها الى الإمام ليكون منافعها حراً للخراج، وإذا عرفت تفسير الجور فنقول: إن كان الإمام وقف هذه الأرض لا يجوز؛ لأنه لا يملكها وإن وقفها صاحب الجور وهو المالك يجوز؛ لأن الجور لا يوجب زوال الملك، ألا ترى أنه متى قدر صاحبها على زراعتها وطلب من الإمام أن يردها عليه ردها عليه؟
ذكر شيخ الإسلام في شرح «كتاب الوقف» : إن الوقف علي أقرباء الرسول (صلى الله عليه وسلّم جائز، وإن كانت الصدقة لا تحل لهم وفي «المنتقى» عن أبي يوسف إنه يجوز صرف صدقات الوقف إلى الهاشمي إذا سمي في الوقف، وهو دليل جواز الوقف وفي «الجامع الأصغر» أن الوقف على أهل رسول الله عليه السلام لا يجوز كالصدّقة قال ثمة: وفي الصدقة، الفريضة والتطوع سواء، وفي «شرح القدوري» أن الصدقة الواجبة كالزكاة والعشور والنذور والكفارات لا يجوز، فأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع فلا بأس فصار في الوقف روايتان، وفي صدقة التطوع روايتان أيضاً.
ولو قال: ما لي لأهل بيت النبي عليه السلام وهم يحصون، يجوز ويصرف إلي أولاد فاطمة رضي الله عنها.
في «فتاوى أبي الليث» : إذا وقف داره على فقراء مكة، أو على فقراء قرية، إن كان

(6/114)


الوقف في حسابه أو صحته والفقراء يحصون، لا يجوز هذا الوقف؛ لأن الوقف لا يجوز إلا مؤبداً وهذا لم يقع مؤبداً، بجواز أنهم يموتون فينقطع الوقف، وإن كان الفقراء لا يحصون جاز الوقف؛ لأنه وَقَفَ مؤبداً، وإن كان الوقف بعد موته يجوز، سواء كانوا يحصون (أو لا) أما إذا كانوا لا يحصون لأنه وقع موبداً، وإما إذا كانوا يحصون فلأنه إن تعذر تجويزه وصيته، والوصية لقوم يحصون يجوز حتى إذا انقرضوا صار ميراثا عنهم.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» وينبني علي هذه المسألة مسألة أخرى، رجل قال: وقفت ضيعتي هذه علي فقراء قرابتي، وجعل أجره للمسلمين حتى جاز سواء كانوا يحصون أولا يحصون، فأراد القيم أن يفصل بعضهم على البعض فالمسئلة على ثلاثة أوجه: إما إن كان فقراء قرابته وقريته لا يحصون أو يحصون أو أحد الفريقين يحصون والفريق الآخر لا يحصون (3ب3) .
ففي الوجه الأول: للقيم أن يجعل نصف الغلة لفقراء القرابة ونصفها لفقراء القرية ثم يعطي لكل فريق من شاء منهم، ويفضل البعض علي البعض كما شاء؛ لأن قصده الصدقة وفي الصدقة الحكم كذلك.

وفي الوجه الثاني: يصرف الغلة إلى الفريقين بعددهم ليس له أن يفضل البعض على البعض؛ لأن قصده الوصية وفي الوصية الحكم كذلك.

وفي الوجه الثالث: يحعل الغلة بين الفريقين أولاً: فيصرف إلي الذين يحصون بعددهم وإلى الذين لا يحصون بينهم واحد لأن الذين يحصون لهم وصية والذين لا يحصون لهم صدقة، والمستحق الصدقة واحد ثم يعطي هذا السهم من الذين لا يحصون من شاء ويفضل البعض على البعض في هذا السهم كما شاء، وهذا التفريع يتأتى علي قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الفقراء عندهما اسم جنس أما لا يتأتى على قول محمد: إن الفقراء عنده اسم جمع، أصل هذا الاختلاف كتاب الوصايا ذكر الخصاف في باب الوقف الذي لا يجوز إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على الناس، فالوقف باطل والأرض على ملك الواقف، وكذلك إذا قال: على بني آدم أو على أهل بغداد، فإذا انقرضوا فهو علي المساكين، فالوقف باطل؛ لأن أهل بغداد لا ينقرضون، وكذلك لو قال: على الزمنى والعميان فالوقف باطل، وذكر الخصاف هذا العميان والزمني في موضع آخر وقال: الغلة تكون للمساكين ولا تكون على العميان والزمنى، وقال لأنه قال: صدقة موقوفة لله تعالى أبداً وكذلك لو قال: وقف على قراء القرآن أو على الفقهاء فهو باطل لأن الغني فيهم والفقير، ولا يحصون، وفي «وقف هلال» : أن الوقف على الزمني والمنقطع صحيح؛ لأنه يتأبدون ويكون للفقراء منهم دون الأغنياء.
قال مشايخنا: الوقف على معلم المسجد يعلم الصبيان فيه لا يجوز؛ لأنه مجهول ولا يشترط، يعني: لا يشترط فقره في الوقف وبعض مشايخنا قالوا: يجوز؛ لأن عامتهم الفقراء والفقير منهم غالب فصار بحكم الغلبة الفقير كالمشروط.

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام رحمه الله

(6/115)


يقول: وعلى هذا القياس إذا وقف على طلبة علم كورة كذا أو محلة كذا يجوز، وإن لم يشترط فقرهم لأنه عامتهم الفقراء، والفقير فيهم غالب، فصار الفقير كالمشروط قال: الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الوقف» : الحاصل في جنس هذه المسائل أنه متى ذكر مصرفاً فيه تنصيص على الفقر والحاجة، فالوقف صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون، قوله سواء كانوا يحصون أو لا يحصون يشير إلى أن التأبيد ليس بشرط وقد ذكرنا قبل هذا بخلافه، ومتى ذكر يستوي فيه الغني والفقير يعني ذكرا بينما ينال الغني والفقير، فإن كانوا يحصون فذلك صحيح باعتبار أعيانهم، يريد به أنه يصح بطريق التمليك، وإن كانوا لا يحصون فهو باطل؛ لأنه لا يمكن تصحيحه وقفاً، لأنه لا يكون قصده الصدقة إذا كان يستوي فيه الغني والفقير، فلو صح صح بطريق التمليك وهم مجهولون؛ ولأن التمليك من المجهول باطل قال: إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالاً بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ، كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون والأغنياء والفقراء فيهم سواء وإن كانوا لا يحصون، فالوقف صحيح ويصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم؛ لأن الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره.
قال الخصاف في «وقفه» : إذا قال: أرضي هذه موقوفة على اليتامى، وكذلك إذا قال على الزمنى، ولو قال: على يتامى بني فلان وهم موات يحصون فهذا باطل، يعني لا يكون وقفاً إما يكون تمليكا منهم، وإن كانوا لا يحصون فهو جائز وهي للفقراء منهم دون الأغنياء، وهذا بناء على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في «وقف هلال» إذا قال: أرضي هذه موقوفة علي الجهاد أو الغزو أو في أكفان الموتى أو في حفر القبور أو غير ذلك مما يشبهها فذلك جائز؛ لأن هذه الوجوه مما يتأبد فصار الوقف علي هذه الوجوه بمنزلة الوقف على المساكين.
وفي وصايا «المنتقى» ابن سماعة قال: سمعت يقول: إذا أوصى في أكفان موتى المسلمين أو في حفر مقابر المسلمين فهذا باطل، ولو أوصى بثلثه أكفان فقراء المسلمين يجوز، وكذلك في حفر مقابرهم، وذكر ثمة أصلا فقال: الوصية إذا وقفت على الفقراء لا يشترط العينة بخلاف ما إذا وقفت مطلقة.
في «وقف هلال» إذا وقف على ابن السبيل صح؛ لأنهم ينقطعون ويكون لفقراء ابن السبيل دون اغنيائهم كما في اليتامى قال الخصاف: إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أو على زيد أو على قرابتي فالوقف باطل؛ لأنه جعل ذلك على شك، وكذلك لو قال: جعلتها صدقة موقوفة لله أبداً على زيد أو عمرو ومن بعد ذلك على المساكين فهو أيضا باطل، ولو قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على فلان حال حياتي بعد أن الوقف جائز وتكون الغلة لفلان ما دام حياً، فإذا توفي كانت

(6/116)


الغلة للمساكين؛ لأنه قال: أبداً.
وكذلك إذا قال: على فلان ولم يقل حياته، ولو قال: موقوفة على فلان بعد موتي، سنة فإنها تكون على ما قال سنة، ثم ترجع إلى الورثة؛ لأن هذه وصية، إذا قال: جعلت أرض فلان صدقة موقوفة على الفقراء، فبلغ ذلك صاحب الأرض فأجاز، فإنه يكون وقفاً من قبل مالكها وإليه ولايتها.

سئل الفقيه أبو بكر أيضاً: عمن وقف أرضاً له على مصاحف موقوفة ان يصلح ما يدرس منه قال: الوقف باطل؛ لأن هذا ليس من أوقاف الناس.
في «وقف هلال» : رجل اشترى أرضاً بيعاً جائزاً ووقفها قبل القبض وبعد الثمن فالأمر موقوف، فإن أدى الثمن وقبضها فالوقف جائز، وإن مات ولم يترك مالاً تباع الأرض ويبطل الوقف، قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ.
وهذه بثلاث فصول: العتق والبيع والوقف، فالعتق قبل القبض ينفذ بلا توقف، والوقف بلا خلاف فيه بين أبي يوسف ومحمد، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد بن سلام يقول: ينبغي أن يبطل الوقف ولا يتوقف كالبيع، ولكن فرق بينهما هلال.

ووجه الفرق: أن الوقف يشبه العتق من حيث إنه لا يبطل بالشروط الفاسدة، ويشبه البيع من وجه وهو أنه يحتمل القبض بعد رجوعه فلشبهه بالعتق لا يبطل ولشبهه بالبيع لا ينفذ، فقلنا بالتوقف، وهذا الجواب على قول من لم يشترط القبض لصحة الوقف ظاهراً، وعلى قول من يشترط القبض، وهو محمد كان الوقف كالهبة وهب المشتري قبل القبض وسلط الموهوب على القبض صح كذا الوقف.

نوع (4أ3) من ذلك في تعليق الوقف بالشرط
ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال أحد إن مت من مرضي هذا فقد وقفت أرضي هذه، لا يصح برأ أو مات، فرق بين هذا وبينما إذا قال: إن مت من مرضي هذا فاجعلوا وقفاً.

والفرق: أن في الفصل الأول: علق الوقف بالشرط وتعليق الوقف بالشرط باطل، وفي الفصل الثاني: علق التوكيل بالشرط وتعليق التوكيل بالشرط صحيح وعلى هذا إذا قال: إن دخلت هذه الدار فقد جعلت أرضي هذه وقفاً لا يصح، ولو قال إن دخلت فاجعلوا أرضي هذه وقفاً صح لما مر، ذكر الخصاف في وقفه: إن كان غداً فأرضي هذه صدقة موقوفة فهو باطل قال: لأنه لم يجعلها وقفاً الساعة، ولو قال: إذا قدم فلان، إذا كلمت فلان، فأرضي هذه صدقة فإن هذا يلزمه وهو بمنزلة اليمين والنذر، فإذا وجد الشرط وجب عليه أن يتصدق بالأرض ويكون وقفاً ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة إن شاء فلان، وقال فلان فذهب فهو باطل.
في «فتاوى أبي الليث» : رجل ذهب له شيء فقال: إن وجدته فلله علي أن أوقف أرضي على أبناء السبيل، فوجدها يجب عليه أن يوقف؛ لأن هذا نذر والوفاء بالنذر

(6/117)


واجب، فإن وقف فهذا على ثلاثة أوجه، إما إن وقف على الأجانب أو على القرابة التي يجوز إعطاء الزكاة اليها أو على القرابة التي لا يجوز إعطاء الزكاة إليها، في الوجه الأول والثاني، جاز وفي الوجه الثالث، لا؛ لأن صرف الصدقة الواجبة إلى من لا يجوز إعطاء الزكاة إليه لا يجوز، فلو وقف على القرابة التي لا يجوز إعطاء الزكاة إليها فالوقف صحيح، وأما النذر باقي؛ لأنه لم يؤد المنذور، نوع من ذلك في الوقف المنقول يجب أن يعلم أن الوقف المنقول تبعاً للعقار جائز بأن جعل أرضه وقفاً مع العبيد والثيران الذين يعملون فيها ويصير المنقول وقفاً تبعاً للعقار، وأما وقفه مقصوداً، إن كان كراعاً أو سلاحاً يجوز، ونعني بالسلاح السلاح، ونعني بالكراع جنس الخيل والابل، وإن كان ينوي ذلك إن كان شيئاً لم يجز التعارف بوقفه كالنبات والحيوان لا يجوز عندنا، وإن كان يتعارفاً كالفأس والقدوم والحبان ونبات الحبان وما يحتاج إليه من الأواني والقدور في غسل الموتى والمصحف لقراءة القرآن، قال أبو يوسف: لا يجوز، وقال محمد: يجوز وإليه ذهب عامة المشايخ منهم شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وذكر في شرح كتاب الوقف فقال: ما يتعارفه الناس ليس في عينه نص يبطله، فهو جائز كما في الاستصناع وغير ذلك.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا جعل ظهر دابته أو غلة عبده في المساكين لا يصح، في قول علمائنا رحمهم الله، أما على قول أبي يوسف فلأنه لايرى الوقف في المنقول إلا في الكراع، وأما على قول محمد فلأنه يعتبر العرف ولا عرف في هذه الصورة.

سئل أبو نصر عمن وقف الكتب قال: كان محمد بن سلمة لا يجيز وبصير كان يخبره وقد وقف كتبه وكان الفقيه أبو جعفر يجيز ذلك وبه أخذ، وسئل عمن وقف بقرة علي رباط على أن ما يخرج من لبنها وسمنها يعطى أبناء السبيل قال كان في موضع تغلب ذلك في أوقاته رجوت أن يكون جائزاً ومن المشايخ من قال: بالجواز مطلقاً، قالوا: لأنه جرى التعارف في ديار المسلمين بذلك.
وفي «الواقعات» ذكر هلال البصري في «وقفه» : وقف البناء من غير وقف الأصل وهو الصحيح، وكذلك وقف الكردار بدون وقف الأصل لا يجوز، هو المختار لأن الكردار والبناء منقول ووقفها غير متعارف، وإذا كان الأصل البقعة موقوفة على جهة قرية فبنى عليها أبناؤها على جهة قرية أخرى اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن جهة القرية إذا اختلفت لا يصير البناء تبعاً للبقعة، ما بيّنَهُ ما إذا كانت البقعة له واستيفاؤها لنفسه، وقال بعضهم: يجوز لأن جهات القرية وإن اختلفت فالأصل القرية يجميعها، واختلاف الجهة لا يوجب اختلاف الحكم بعد إثبات الأصل القرية.

(6/118)


هذا كما قلنا: في سبعة نفر نحروا بقرة أو بدنة ونوى بعضهم الأضحية وبعضهم هدي المتعة أو القران، وبعضهم جزاء الصيد وبعضهم التطوع جاز لوجود أصل القربات، وبمثله لو نوي بعضهم اللحم لا يجوز، وكذا ههنا.
وأما إذا وقف البناء علي الجهة التي كانت البقعة وقفاً يجوز ويصير تبعاً للبقعة كما لو وقف البناء والعرصة جميعاً على جهة واحدة، فأما إذا غرس شجرة ووقفها إن غرسها في الأرض غير موقوفة فلأن إن وقفها وموضعها من الأرض صح تبعاً للأرض بحكم الاتصال، وإن وقفها دون أصلها لم يصح وإن كانت في أرض موقوفة فوقفها على تلك الجهة جائز.
وإن وقفها على جهة أخرى فعلى الاختلاف الذي مر وهذا لأن الشجرة نظير البناء من حيث إن إقامتها بالأرض وهي تبع للأرض بحكم الاتصال كالبناء.
ذكر الخصاف في «وقفه» إذا وقف أرضاً ومعها رقيق يعملون فيها، فينبغي أن يسمى الرقيق في الوقف، ويبين عددهم، وكذلك بقر ينبغي أن يسمى البقر ويبين عددهم، وينبغي أن يشترط في الصدقة أن نفقة الرقيق والبقر من غلة الأرض وإن لم يشترط نفقتهم من غلة الأرض فان ضعف بعض الرقيق عن العمل، فان له أن يبيعه ويشتري بثمنه غلاماً فكأنه لم يجد بثمنه غلاماً مكانه، فأراد أن يزيد في ذلك من غلة الأرض فلا بأس بذلك؛ لأن ذلك من عمارة الأرض وكذلك الحكم في الدواب وآلات الزراعة إذا وقف مع الأرض، ولولاة الصدقة أن يعملوا ذلك.

وفي «وقف الأنصاري» وكان من أصحاب زفر إذا وقف الدراهم أو الطعام أو ما يكال أو يوزن أنه يجوز ويدفع الدراهم مضاربة ويتصدق بفضلها في الوجه الذي وقف عليه وما يكال ويوزن يباع ويدفع ثمنه مضاربة فعلى هذا القياس إذا قال: هذا الكر من الحنطة وقف على شرط أن يقرض الفقراء الذين لا بذر لهم أن يزرعوها لأنفسهم، ثم وجد منهم بعد إدراك قدر القرض، ثم يقرض لغيرهم من الفقراء أبداً على هذا السبيل فهذا جائز.
قال: ومثل هذا كثر في الجبال التي في ناحية رماوند. وفيه أيضاً ان وقف الأكسية جائز، وتدفع الأكسية إلى الفقراء، فينتفعون بها في أوقات لبسها في الشتاء ثم يردونها إلى القيم.
وسئل أبو نصر عمن وقف داراً وفيها حمامات يطرن ويرجعن، قال: يدخل في وقفه الحمامات الأهلية. في «فتاوى أبي الليث» وفيه أيضاً: لو وقف برج حمام أرجو أن يكون جائزاً؛ لأن الحمامات وإن كانت منقولة إلا أنها تصير وقفاً تبعاً للبيت، كما لو وقف ضيعة بما فيها من الثيران والعبيد، وكذلك لو وقف بيتاً فيه كوارات العسل يجوز، ويصير النحل وقفاً تبعاً للبيت، ويجب أن يكون تأويل هذه المسألة أن يوقف البيت والبرج بما فيه من النحل والحمام كما في وقف الأرض مع العبيد والثيران.

(6/119)


وقف كراسة على مسجد لقراءة أو على أهل المسجد المسجد جائز، والوقف على أهل المسجد إن كانوا يحصون يجوز أيضاً.
وفي «وقف (4ب3) الحسن بن زياد» إذا اشترى مصاحف وجعلها في المسجد الحرام أو في غيره من المساجد وقفاً مؤبداً لأهل ذلك المسجد ولجيرانه ولمارة الطريق ولابن السبيل ليقرؤون فيها جائز في قول أبي يوسف.

نوع منه فيما يدخل في الوقف من غير ذكر
ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف الرجل أرضاً في صحة على وجوه سماها ومن بعدها على الفقراء، فإنه يدخل في الوقف البناء والنخيل والأشجار، وذكر القاضي الإمام شمس الأئمة محمود الأوزجندي رحمه الله في شرح كتاب «الوقف» لهلال: أن الشجر الذي لا ثمرة له ولا غلة ففي دخوله في وقف الأرض روايتان، وأما الثمر هل يدخل في وقف الأشجار؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب الرهن: ذكر هلال عن محمد أنه يدخل، وعلل فقال: لا صحة للعقد إلا بعد دخوله، فيدخل ضرورة وكما رهن في رهن قال رحمه الله: وأكثر مشايخنا أنه لا يدخل وهكذا ذكر الخصاف.
وإن وقف الأرض واستثنى الأشجار التي فيها لا يجوز الوقف؛ لأنه صار مستثنياً الأشجار بمعنى أضيعها، فيصير الداخل تحت الوقف مجهولاً.
وأما الزرع هل يدخل في وقف الارض؟ حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله: إن لم يكن للزرع قيمة يوم الوقف دخل، وإن كان له قيمة لا يدخل مالم يذكر، وذكر هلال: أنه لايدخل من غير فصل، وهكذا ذكر الخصاف قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ.
قال الخصاف: ولو كان فيها بقلٌ أو رياحين لا يدخل في الوقف، فما كان يقطع في كل سنة لا يدخل في الوقف، وما كان يقطع في كل سنتين أو ثلاث يدخل، والشرب لا يدخل إلا إذا ذكر الأرض بحقوقها أو بكل قليل وكثير هو لها.

وأما الرطاب فما كان من رطبة قد طلعت فهي للواقف، وما كان يقطع من أصول ذلك فهو داخل في الوقف، وكذلك الباذينجان والقطن إلا أن يكون شجرة القطن يجز في كل سنة، فإن كان كذلك لا يدخل.
وبصل العنبر والزعفران يدخل في الوقف، السكّر لا يدخل لأنه يقطع في كل سنة، فهو كالزرع وشجر الورد والياسمين يدخل في وقف الأرض، والرحا في الضيعة، رحاء الماء ورحاء اليد في ذلك على السواء، وكذلك الدواليب يدخل والدالية لا تدخل وفي وقف الدار إذا لم تكن الدار بحقوقها ولا بكل قليل ولا كثير، هو لها فيها ومنها من حقوقها يدخل. ما كان يدخل في بيع الدار وفي وقف الحمام يدخل قدر الحمام، وفي وقف الحوانيت يدخل ما كان يدخل في بيعها. وصواني الدباسين وقدور الدباغين لا يدخل في الوقف سواء كان في البناء أو لم يكن.

(6/120)


نوع منه في الأوقاف المضافة
سئل الخصاف عمن قال: جعلت ضيعتي * وحددها * صدقة موقوفة لله تعالى بعد سنة من هذا الوقت على المساكين هل تكون هذه الضيعة بعد مضي السنة وقفاً؟ قال: لا أحفظ عن أصحابنا في هذا شيئاً، وعندي أنه لا تكون هذه الضيعة وقفاً.
وإذا أوصى لرجل بغلة بستانه لرجل عشر سنين، ومات فجعل ابنه هذا البستان وقفاً صحيحاً بعد مضي هذه العشر سنين فهو جائز وهو وقف. وكذلك إن قال للموصي: قد جعلت هذا البستان وقفاً بعد مضي هذه السنتين، وهو يخرج من ثلثه فهو جائز، ولو أن رجلاً آجر ضيعة له سنين، ثم إنه جعلها بعد ذلك صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على سبيل سماها، ثم بعد ذلك على المساكين، قال: ليس لصاحب الأرض أن يبطل ما عقد عليه من الإجارة وكانت الضيعة وقفاً على ما جعلها عليه من الوقف الذي وقفها.

ولو أن رجلاً رهن ضيعة له من رجل، ثم أنه وقفها وقفاً صحيحاً فإذا افتكها الرهن، فالوقف جائز نافذ، وإن لم يصلها حتى مضى سنة أو سنتين، لا يبطل الوقف، حتى لو افتكها بعد ذلك كان وقفاً، فإن مات صاحب الضيعة في فصل الإجارة والرهن قبل الافتكاك، ففي فصل الرهن: إن كان له مال غير الضيعة أدى الدين من ماله وكانت الضيعة وقفاً، وإن لم يكن له مال غير هذه الضيعة بيعت الضيعة في الدين ويبطل الوقف، وأما في فصل الإجارة، فالإجارة تنتقض بموت الآجر أو المستأجر، وكانت الضيعة وقفاً.
وإذا اشترى ضيعة على أن البائع بالخيار، فوقفها ثم أجاز البايع البيع لم يجز الوقف والله أعلم.

نوع منه في بيان ما لا يجوز من الأوقاف
بلغني في الواقف: رجل حجر عليه القاضي لسفهه أو لدين عليه، فوقف أرضاً له لم يجز لأنه إنما حجر عليه القاضي لئلا يبذر ماله ولا يخرجه عن ملكه، وفي «الفتاوى» صبي محجور عليه وقف أرضاً له، قال الفقيه أبو بكر: وقفه باطل إلا بإذن القاضي، وقال الفقيه أبو القاسم: وقفه باطل وإن أذن له القاضي، لأنه تبرع فصار كالهبة والصدقة.

الفصل الرابع: فيما يتعلق بالشروط في الوقف
إذا وقف أرضه وشرط الكل لنفسه أو البعض ما دام حياً وبعده للفقراء، فالوقف باطل عند محمد وهلال الرازي، وقال أبو يوسف: الوقف صحيح ذكر الخلاف على هذا الوجه في مواضع كثيرة، فأبو يوسف يعتبر الابتداء بالانتهاء لأنه يجوز الوقف على وجه

(6/121)


يتوهم انقطاعها، وإذا انقطعت عادت الغلة إليه، فكذلك في الابتداء يجوز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة، وهذا لأن معنى التقرب لا يزول بهذا، قال: عليه نفقة الرجل على نفسه صدقة، وقد صح برواية زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: «كان يأكل من صدقته» وأراد به الصدقة الموقوفة.

ولا يحل للواقف الأكل من الوقف إلا وأن يشترطه لنفسه شيئاً من ذلك، دل أنه كان يشترط لنفسه شيئاً، وجه قول محمد: أن معنى التقرب في الوقف بإزالة الملك واشتراط كل الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال الملك فيمنع صحة الوقف ومشايخ بلخ أخذوا بقول أبي يوسف، وعليه الفتوى ترغيباً للناس في الوقف.
ذكر الفقيه أبو جعفر: إنه لو شرطه لنفسه أن يأكل من الغلة يجوز عند محمد، وكذلك لو شرط الغلة لإمامه فهو كان كإشراطها لنفسه، ولو شرط بعض الغلة لأمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك، وسمى لكل واحدة منهن كل سنة شيئاً معلوماً في حال حياًته، وبعد وفاته فهو جائز بلا خلاف، أما على قول أبي يوسف فلأنه لو شرط بعض الغلة لنفسه حال حياًته يجوز فهاهنا أولى، وأما على قول محمد فمشكل لأنه لا يجوز اشتراط الغلة لنفسه حال حياًته واشتراطها لأمهات أولاده حال حياًته بمنزلة اشتراطها، والوجه في ذلك لا بد من (أن يكون) صحيح، هذا الشرط بعد وفاته لأنهن يعتقن بموته فاشتراطها لهن كاشتراطها لسائر الأجانب فيجوز ذلك في حال حياته أيضاً، تبعاً لما بعد الوفاة، وهذا كما قال أبو حنيفة في أصل الوقف إذا كان قال: وقفت أرضي هذه حال حياتي وبعد وفاتي يصير (5أ3) لازما للحال وكان لزومه في الحال تبعاً لما بعد الموت، وكذلك إذا سمي ذلك لمدبريه لأنهم يعتقون بموته كأمهات الأولاد، بخلاف العبيد والإماء على قول محمد. وإذا وقف وقفاً موبداً واستثنى لنفسه أن ينفق من غلة هذا الوقف على نفسه وعياله وجهه ما دام حياً، حتى جاز الوقف والشرط جميعاً عند أبي يوسف، فإذا انقرضوا صارت الغلة للمساكين، ولو وقف وقفاً على فلان أو على أقربائه بأعيانهم، جاز ماداموا أحياًء، فإن انقرضوا رجع اليه إن كان حياً، والى ورثته إن كان ميتاً هكذا في «الأجناس» .

وأشار إلى الفرق فقال في المسألة الثانية: أوجب الصدقة لهذا خاصة، فإذا مات لا ينتقل إلى غيره، وفي المسألة الأولى أجعلها صدقة موقوفة على الفقراء فقد مضت المسألة ثم أدخل الاستثناء رجعت إلى المساكين، وإذا وقف وقفاً وشرط لنفسه أن يأكل ويؤكل من أحب ما دام حياً، ثم من بعده على ولده وولد ولده ونسلهم أبداً ما تناسلوا، فإذا انقرضوا فهو على المساكين، فهو جائز عند أبي حنيفة، ولم يكن ذلك وصية للولد؛ لأن الولد يأكل من مال الله، ألا ترى أنه لو وقف على أولاده وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا وجعل آخره للفقراء يجوز ذلك هنا ذكره في «الأجناس» .

(6/122)


وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا وقف وقفاً وشرط لنفسه أن يأكل ما دام حياً، ثم مات وعنده معاليق وزبيب من هذا الوقف لأن المستثني يرد إلى الوقف لأن المستثنى هو الأكل، وقد تعذر، ولو كان عنده حرير ذلك الوقف يكون ميراثاً عنه لورثته ولا يرد إلى الوقف، والفرق: أنه ليس للأوصياء أن يجيزوا ما خرج من البر فإذا خرج فقد فعل ما ليس له ذلك فملكه فيصير ميراثاً لورثته، وللأوصياء أن يتجددوا المعاليق والزبيب، فقد فعل ما له ذلك، فلم يملكه فلم يصير ميراثاً لورثته فيرد إلى الواقف أن يكون هو المتولي، فعلى قول أبي يوسف: الوقف والشرط صحيحان، وعلى قول محمد وهلال: الشرط والوقف باطلان. وهذا بناء على ما تقدم أن التسليم إلى المتولي ليس بشرط لصحة الوقف عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد شرط.

ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : إذا شرط في أصل الوقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك، فيكون وقفاً مكانها، فهو جائز عند أبي يوسف، يعني الوقف والشرط، وكذلك إذا شرط أن يبيعه ويستبدل بثمنه مكانه، وعند محمد وهلال: الوقف جائز والشرط باطل؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في المبيع من زوال الملك والوقف يتم ذلك ولا يتقدم به معنى التأبيد أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه، ويبقى الاستبدال شرطاً فاسداً فيكون باطلاً في نفسه، وإن شرط في الوقف أن له بيع ذلك ولم يشترط الاستبدال بثمنه ما يكون وقفاً مكانه قال محمد: الوقف باطل، وعن أبي يوسف أن الوقف جائز والشرط باطل ذكره الخصاف في وقفه.
ولو شرط أن يبيعها ويستبدل بثمنها أرضا فاستبدل بثمنه داراً أو عقاراً، ذكر الخصاف هذه المسألة في باب واحد في موضعين فقال في أوله: ليس له ذلك وفي أخرى قال: له ذلك. ولو اشترط لنفسه أن يبيعها وأن يستبدل بثمنها ولم يقل غير هذا، فهو باطل لأنه لم يقل ويستبدل بثمنه ما يكون وقفاً مكانه، ثم إذا جاز الوقف وشرط البيع والاستبدال بالثمن فباعه ما يتغاين الناس فيه فالبيع باطل، وإذا جاز البيع واشترى بثمنها أرضاً أخرى تكون وقفاً على شروطها، وليس له أن يبيع الثانية إلا إذا شرط ذلك في أصل الوقف، وإن باع الأرض وقبض الثمن وهلك في يده فلا ضمان، ويكون الثمن عنده أمانة، وليس له أن يبيع الأرض إلا بالدارهم في قول أبي يوسف، فإن باعها فردت عليه بعيب بعد القبض بقضاء أو غير قضاء أو بإقالة تعود وقفاً كما كانت وليس له أن يبيع الأرض بعد الإقالة، إلا أن يكون اشترط ذلك في الوقف، وإن باعها واشترى بثمنها مكانها أرضاً أخرى ثم ردت عليه الأولى بيعت بقضاء فإنه تعود كما كانت، وتكون الثانية له يصنع بها ما بدا له، فإن استحقت الأرض التي باعها من يد المشتري فالأرض الثانية لم يصنع بها ما شاء، ولا تكون وقفاً من قبل أن التي استحقت كان وقفه باطل.

وسئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن وقف على أولاده وقال لهم: إن عجزتم عن أمساكه فبيعوه قال: لو كان هذا شرطاً في الوقف كان الوقف باطلاً، وهذا يجب أن يكون قول محمد، أما على قول أبي يوسف يجوز الوقف ويبطل الشرط على ما ذكرنا قبل هذا.

(6/123)


وإذا شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام فعلى قول أبي يوسف بن خالد: الوقف جائز والشرط باطل، محمد يقول: الوقف صحته تعتمد تمام الرضا، ألا ترى أنه لا يصح مع كره؟ واشتراط الخيار يمنع تمام القبض، ألا ترى أن في الصرف والسلم لا يتم القبض مع شرط الخيار؟ وأبو يوسف يقول: الوقف يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ ببعض الأسباب، واشتراط الخيار للفسخ، فيصح شرط الخيار فيه كما في البيع فان قال: أبطل الخيار، لا ينقلب الوقف جائزاً عند محمد، ذكره هلال في وقفه.
إذا شرط الولاية لنفسه في عزل القوام والاستبدال بهم من يده إلى يد المتولي، جاز نص عليه في «السير الكبير» لأن هذا الشرط لا يحل لشرائط. لو وقف ولم يشترط الولاية لنفسه، وأخرجه من يده، قال محمد رحمه الله: الولاية للقيم، وليس للواقف أن يعزله، وكذا لو مات وله وصي فلا ولاية لوصيه، والولاية للقيم قال أبو يوسف: لا ولاية للواقف.

وله أن يعزل القيم في حياته، وإذا مات الواقف بطل ولاية القيم عنده صحيح بدون التسليم إلى المتولي، كأن المتولي كالوكيل عنه فينعزل بموته إلا إذا جعله قيماً في حال حياته وبعد وفاته فحينئذٍ يصير وقفاً، وعند محمد التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف فلا يكون المتولي كالوكيل عنه فلا يملك عزله في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: ما هو قريب من هذه المسألة وصورتها: إذا أخرج الوقف من يده وسلمه إلى المتولي، ثم أراد إخراجه من يده إن كان شرط في أصل الوقف أن له الإخراج من يد القيم فله أن يخرجه من يده؛ لأن شرط الوقف مراعى، وإن لم يشترط ذلك في أصل الوقف (ليس له) أن يخرجه من يده عند أبي يوسف خلافاً لمحمد.
قلنا: ذكر الخصاف في «وقفه» مسائل: على قول أبي يوسف فقال: إذا كتب في صك الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يملك ثم قال في آخر الكتاب: وعلى أن لفلان بيع ذلك، والاستبدال بثمنه ما يكون وقفاً، فله أن يبيع ويستبدل؛ لأن العبرة للآخر والآخر ناسخ للأول، وإن قال في أول الكتاب: على أن لفلان بيع ذلك، فليس له أن يبيع، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى داراً بمائة دينار وكتب في أول الشراء الخيار وفي أخره أنه لا خيار لفلان فيما اشترى؟ فما سمى ووصف في هذا الكتاب أن الشراء جائز وقد أبطل الخيار، وإذا شرط في الوقف أن يبيعه وأن يجعل ثمنه في وقف أفضل منه، حتى جاز الشرط والوقف عند أبي يوسف (5ب3) فله أن يبيعه، وذكر الأنصاري في «وقفه» : أنه لا يبيع إلا بإذن الحاكم، قال الأنصاري أيضاً: وينبغي للحاكم إذا رفع إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن له في البيع إذا رآه أحوط لأهل الوقف، فإن باعها واشترى بثمنها أرضاً كان وقفاً، وليس له أن يبيع الأرض إلا أن يشترط ذلك في أصل الوقف ذكره هلال في «وقفه» ، ولو شرط في أصل الوقف أن يبيع الوقف ويجعل ثمنه للمساكين لم يجز هذا الشرط ذكره الأنصاري في «وقفه» ، وذكر الخصاف في وقفه لو شرط أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى ما يرى من أبواب الخير فالوقف باطل، وإن شرط في أصل الوقف أن يبيعه ولم

(6/124)


يبعه، لا يجوز لمن ولد بعده أن يبيعه.

في «وقف الأنصاري» إذا وقف ضيعته على أن له أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى حاجة قال: أبو نصر الوقف جائز والشرط باطل، وعن أبي القاسم نحوه، وقال أبو بكر الإسكاف: الوقف باطل، قال الصدر الشهيد: وهو المختار؛ لأنه ينعدم فيه التأبيد، وكذلك لو حبس فرساً أو سلاحاً وجعله وقفاً عشرين سنة، ثم هي مردودة إلى صاحبها لما قلنا.

في «فتاوى أبي الليث «وفي «سر العيون» : حبس فرساً في سبيل الله عشر سنين ثم هي مردودة على صاحبها فهو باطل، وعن أبي يوسف بن خالد السمتي أستاذ هلال أن الوقف جائز والشرط باطل، وكذا في الوقف على شرط أن يبيعه، كما قال أبو القاسم وأبو نصر.
وفي «فتاوى أبي الليث» إذا جعل فرسه للسبيل على أن يمسكه مادام حياً إن أراد الإمساك ليجاهد عليه له ذلك؛ لأنه لو لم يشترط ذلك له أن يجعل السبيل إمساكه ليجاهد وإن أراد الإمساك لينتفع به غير الجهاد لم يكن له ذلك، وصح جعله للسبيل. في «فتاوى أبي الليث» .

نوع آخر
لو أن رجلاً وقف أرضاً على قوم ثم من بعدهم على المساكين وشرط في الوقف أن له أن يزيد من رأى زيادة من أهل هذا الوقف وله أن ينقص من رأى نقصانه منهم وإن يدخل فيهم من رأى إدخاله ويخرج من رأى إخراجه فهو جائز على هذا الشرط فإن يزاد أحدهم منهم شيئاً على ما سمي له وأخرج منهم أحداً أو أدخل أحد أهل له بعد ذلك، أن ينقص من رأى من بعضه أو يخرج من كان أدخله.
قال الخصاف في «وقفه» : إذا فعل ذلك مرة فليس له أن يصر بعد ذلك، فإذا أراد أن يكون له ذلك أبداً ما عاش يزيد وينقص ويدخل ويخرج مرة قال: يشترط ذلك ويقول في وقفه ومن زاد فلان شيئاً من غلة هذه الصدقة على ما جعله فله أن ينقصه بعد ذلك ومن نقضه فلأن شيئاً عما جعله من غلة هذه الصدقة فله أن يزيده بعد ذلك، ومن أخرجه عن هذه الصدقة، فله أن يدخل فيها بعد ذلك، ومن أدخل في هذه الصدقة، فلا يخرجه عنها بعد ذلك، هي ما رأى يفعل ذلك كله برأيه وبحصته على شبهه أبداً ما كان حياً رأياً بعد رأي ومشيئه بعد مشيئة، وإن اشترط الواقف هذه الاشياء لإنسان ما دام حياً فله ذلك، وإن اشترط لوالي هذه الصدقة من بعده ولم يشترط لنفسه.
قال الخصاف: اشترط ذلك لوالي الصدقة اشتراط لنفسه، وله أن يفعل ذلك ما كان

(6/125)


حياً، فإذا مات كان لوالي هذه الصدقة أن يفعل ما شرط له، وكذلك لو اشترط لوالي هذه الصدقة من بعده أن له أن يبيع هذه الصدقة، وما رأى منها وإن اشترى بثمن ذلك يكون وقفاً على ما سبيله له فهو جائز واشتراط ذلك لوالي الصدقة اشتراط لنفسه ولكل واحد منهما أن يفعل ذلك ولكن الوالي يفعل ذلك بعدما مات الواقف، وإن اشترط لوالي هذه الصدقة ما دام الواقف حياً، فهذا له ولوالي الصدقة ما دام الواقف حياً، فإن مات الواقف فليس للوالي أن يفعل ذلك، وإن اشترط الواقف أن يقضي دين من عليه فذلك جائز، وكذلك إذا قال: إن مت وعلي دين يؤدى من غلة هذه الصدقة بقضاء ما علي من الدين، فإذا قضى كانت غلة هذه الصدقة بعد ذلك جارية على ما سبيلها فذلك جائز، ولو شرط أن له يعني للواقف أن ينفق على نفسه وولده ويقضي دين من عليه، فإذا حدث به حدث الموت كانت غلة هذه الضيعة لفلان بن فلان وولده وولد ولده ونسله وعقبه أو بدأ بما جعل لفلان وآخر ما يجعل لنفسه.
قال الخصاف رحمه الله تقديمه وتأخيره سواء على مذهب أبي يوسف، وهو جائز على ما اشترطه.

نوع آخر

إذا قال: أرضي صدقة موقوفة أبداً على أن أضع عليها حيث شئت جاز، وله أن يضع عليها حيث شاء فإن وضع في المساكين، أو في الحج أو في إنسان بعينه فليس له أن يرجع عنه، وكذلك لو قال: جعلتها لفلان أو أعطيتها فلاناً فلا يرجع عنه، ولو وضعها في فريق بعد فريق جاز؛ لأن المشيئة عامة، ولو وضعها في نفسه بطل الوقف، وهذا إنما لا يتأتى على قول هلال وهذا؛ لأن الوضع قد يكون عند نفسه وقد يكون عند غيره فنفسه محل الوضع كما أن غيره محل الوضع، فإذا وضع في نفسه فهو محل أو التحق بالتعيين في الابتداء وصار كما لو شرط الوضع في ابتداء الوقف وهناك يبطل الوقف على قول هلال فهنا كذلك بخلاف ما لو قال: على أن أعطي عليها من سبب أو أدفع إلى نفسه لا يكون فلم يتناول العقد نفسه فلغى الدفع والاعطاء إلى نفسه لما لم يتناول العقد، وبقي الوقف صحيحا على ما كان.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لي أن أعطي عليها من شئت من ولدي، فالوقف صحيح وله أن يعطي من شاء من ولده؛ لأن ابتداء الوقف عليهم صحيح، ويجوز إعطاء الوقف أياً منهم. ولو أراد أن يعطي عليها جميع ولده لا يجوز؛ لأن حرف من للتبعيض، فيترك واحداً منهم. وفي الاستحسان: يجوز إذ لا يراد بمثل هذا الكلام التبعيض، وإنما يراد به إثبات الخيار لنفسه بين إعطاء الواحد وبين إعطاء الكل كما في قوله: كل من طعامي ما شئت، قال الفقيه أبو جعفر: القياس المذكور في المسألة قول أبي حنيفة، والاستحسان قولهما بناء على مسألة «الجامع» إذا قال لغيره: أعتق عبيدي من شئت، طلق من نسائي من شئت.

(6/126)


نوع آخر

إذا قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على أن أعطي عليها من شئت من الناس، فهو جائز، وليس له أن يعطي نفسه. وإن قال بعد ذلك: جعلت عليها لفلان ما عاش، فذلك جائز ويصير كأنه سماه عند الوقف وشرط له ذلك، فإن قال بعد ذلك: حولتها عن فلان وجعلتها لفلان ليس له ذلك؛ لأن مشيئته قد انقطعت عن غلة هذا الوقف ما دام فلان حياً؛ لأن تعيينه قد صح في هذه الحالة، والتحق بالتعيين في ابتداء العقد.
وهو نظير ما لو قال: أوصيت بثلث مالي إلى فلان يعطيه من شاء، فقال: فلان بعد موت الموصي: شئت أن أعطيه فلاناً، ثم قال بعد ذلك: أعطيته فلاناً آخر ليس له ذلك كذا هاهنا، فإن مات من جعل له الغلة ما عاش عادت المشيئة إلى الواقف؛ لأن جعل المشيئة إلى نفسه عاما في جميع ما يخرج الله تعالى من الغلات، وإنما قطع المشيئة في بعض الغلات وهو ما يوجد في حال حياة فلان، فتكون مشيئة باقية فيما وراءه. وإن مات الواقف قبل أن يجعل الغلة لواحد من الناس كانت الغلة للفقراء؛ لأنه لما قال في صدر الكلام: صدقة موقوفة قد جعلها للفقراء، وبقوله: على أن أعطي عليها من شئت، أستثنى عن حق الفقراء وبموته بطل الاستثناء، فعادت إلى الفقراء.
ثم يدخل في هذا الوقف (الفقراء) والأغنياء بخلاف ما إذا وقف على الأغنياء، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الأغنياء لا انقراض لهم، فلا يتصور أن للفقراء فيه حقاً بحال وإنهم مجهولون و (هذه) الجهة ليست بقربه، وفي مسألتنا يتصور أن يكون للفقراء حق بأن يعطي الفقراء.
ولو جعل غلتها لفلان سنة جاز وله أن يجعلها بعد ذلك لمن شاء، وإن جعل غلتها لرجلين فالغلة بينهما ما شاء، فان مات أحدهما فللحي نصف (6أ3) الغلة ولو قال: جعلت غلتها لولدي صح كما لو وقف عليه في الابتداء.

ولو قال: جعلت عليها لأهل الدنيا الفقراء والأغنياء فالقياس أن يكون الوقف باطلاً، وفي الاستحسان: الوقف صحيح والجعل باطل، وله المشيئة على حالها لأن أصل الوقف للفقراء وإنه جائز، إلا أنه استثنى الغلة لمشئية نفسه، فإذا لم تصح المشيئة بقي الوقف على حاله والمشيئة على حالها كأنه لم يشأ أصلاً، ولو أوصى بثلث ماله وقال: فلان يعطي من شاء فذلك جائز، فإن اختار أن يضع عند ابن الميت، فإن أجاز سائر الورثة جاز، وإن أبوا بطل وعاد الثلث إلى الورثة، وليس له المشيئة بعد ذلك؛ لأن تعيين الوصي، وإنه قائم مقام الموصي كتعيين الموصي.
n
ولو كان الموصي أوصى لوارثه لا يجوز، فكذا إذا عين الوصي وارثه للوصية.

ولو وقف في مرضه على أن يعطي فلانٌ غلتها من شاء، فاختار الوصي أن يضع ذلك في ولد الميت لا يجوز؛ لأن الوقف في المرض وصية وتعيين (الوصي كتعيين) الموصى، فكأن الواقف أوصى لولده، ويبطل الوقف قياساً كما في الوصية؛ لأن تعيين الوصي كتعيين الموصي في الوقف، فكأن الموصي وقف على ولده في المرض فهذا

(6/127)


كذلك. وفي الاستحسان: الوقف على الصحة؛ لأن أصله وقع صحيحاً للفقراء إلا أن الواقف جعل لفلان المشيئة، فإن شاء ما يصح به الوقف يصح وإلا يبطل مشيئته.

نوع آخر
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لفلان أن يعطي من شاء، فمات الواقف قبل أن يجعل فلان الغلة لأحد بطلت مشيئته قياساً؛ لأنه نائب عن الواقف في المشيئة، وموت المنوب عنه يوجب بطلان النيابة، وفي الاستحسان: له المشيئة ما دام حياً؛ لأن ملك الواقف قد زال بنفس الوقف، فلا يمكن أن يجعل فلان نائباً عنه في المشيئة، وإنما هو يصرف للموقوف عليهم، فموت الواقف لا يبطل ولايته كمن وقف وقفاً نصب قيماً، ثم مات الواقف.

فإن قال: فلان أعطيتها ولدي ونسلي جاز، وكذلك لو قال: جعلتها لولد الواقف جاز. ولو وضعها فلان في نفسه لم يجز، ولو أعطاها للواقف بطل الوقف بخلاف ما إذا جعل الواقف المشيئة إلى نفسه في إعطاء الغلة، فأعطى نفسه حيث لا يبطل الوقف؛ لأن ذلك لا يكون إعطاء؛ لأن اللفظ لا يتناوله، وهنا يكون إعطاء؛ لأن اللفظ يتناوله، فيتعين الواقف بتعينه، وصار كأن الواقف وقف على نفسه فيبطل ضرورة.
ولو قال فلان: جعلتها للأغنياء بطل الوقف؛ لأن تعيينه كتعيين الواقف، وكأن الواقف وقف على الأغنياء، وكذلك لو قال: جعلتها للواقف سنة ثم بعد ذلك للفقراء بطل الوقف كما لو وقف على نفسه ثم بعد ذلك على الفقراء، فإنه لا يصح؛ لأن في السنة لا يكون وقفاً وبعد السنة يكون تعليقاً بالحظر، وإنه لا يجوز.

نوع آخر
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني فلان على أن لي (أن) أفضِّل من شئت منهم كان ذلك جائزاً، ويكون له أن يفضل من شاء ولو ردَّ المشيئة فقال: لا أشاء، أو مات كانت الغلة بين بني فلان بالسوية، ولو حرم بعضهم ليس له ذلك؛ لأنه جعل لنفسه المشيئة في تفضيل البعض على البعض لا في حرمان.
وكذلك لو وقف على بني فلان على أن لفلان أن يفضل من شاء منهم، ولو كان بنوا فلان ثلاث إخوة، فقال: لأحدهم فضله بنصف الغلة فله ثلثا الغلة، والثلث للآخرين؛ لأنه جعل له نصف الغلة خاصة، ولم يتصرف في النصف الآخر بشيء، فبقي بينهم بالتسوية بأصل الوقف، فكان له من ذلك ثلثه وله النصف خاصة، فجملة ذلك الثلثان والثلث للآخرين.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لي أن أخص من شئت منهم، فهو كما قال: وله أن يخص من يشاء منهم، ولو دفع الكل إلى الكل، القياس: أن لا يجوز عملاً بكلمة (من) . وفي الاستحسان: أنه يجوز، وقد مر جنس هذا.

ولو قال: لا أخص واحداً منهم هذه السنة جاز، وكان بينهم بالتسوية بأصل الوقف. ولو قال: لا أشاء أن أخص واحداً

(6/128)


منهم في حولي صار بينهما بالتسوية.
ولو قال: على أن لي (أن) أحرم من شئت منهم، فهو كما قال، وله أن يحرم من شاء منهم. ولو حرم الكل لا يعمل تحريمه قياساً (حصته) لكلمة (من) . وفي الاستحسان: يعمل كما مر. وقيل: هو قياس قول أبي يوسف ومحمد كما ذكرنا من مسألة «الجامع» ، وإذا عمل تحريم الكل استحساناً كان الغلة للفقراء؛ لأن قوله: صدقة موقوفة يقتضي أن يكون للفقراء. ولو قال: حرمتهم سنة يكون تلك السنة للفقراء، ثم بعدها يكون لهم.
ولو قال: حرمت فلاناً أو فلاناً فالبيان إليه، وإذا مات لا يكون البيان إلى الورثة. قال هلال: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به إذا أوصى بثلث ماله لفلان أو فلان ومات الموصي كان البيان للورثة. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: مسألة الوصية على الخلاف: روي عن أبي حنيفة أن الوصية باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وعن أبي يوسف أن الوصية لهما لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، وبهذا الطريق قلنا: إن من أعتق أحد عبديه ومات قبل البيان شاع العتق فيهما. وعند محمد: الوصية صحيحة، والبيان للورثة. وفرق محمد بين الوصية وبين الوقف. والفرق: أن الوقف يزول عن ملك الواقف بنفس الايقاف، فحين مات لم يكن الوقف على ملكه ليخلفه وارثه في الملك، ثم ثبت له البيان بناء عليه.

إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على زيد وعمرو ما عاشا، ومن بعدهما على المساكين على أن يبدأ بزيد، فيعطى من غلته في كل سنة ألف درهم، ويعطى عمرو قوته لسنة، فهو جائز على ما قال، فإن فضل بعد ذلك من الغلة شيء كان بينهما، وإن لم تكن غلته لسنة إلا ألف درهم يعطي ذلك زيداً، إذا كان أقل من ألف، فذلك كلها لزيد، فإن مات زيد ثم جاءت غلة سنة يعطى عمرو قوته لسنة، فإن كان الغلة ثلاثة آلاف درهم، وقوت عمرو لسنة ألف درهم وقع إليه ألف درهم، ويكون له تمام نصف الغلة، وذلك خمسمائة (والباقي) للمساكين، فإن لم يمت زيد، ومات عمرو أعطي زيدٌ ألف درهم الذي سمي له وتمام نصف الغلة، ويكون الباقي للمساكين.

ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد وخالد وعمرو، يبدأ بزيد فيكون غلة هذه الصدقة له أبداً ما عاش، ثم لعمرو فيكون غلة هذه الصدقة له أبداً ما عاش ينفد ذلك على ما ذكر من تقديم بعضهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للفقراء والله أعلم.

الفصل الخامس: الإقرار بالوقف
رجل في يده أرض، أقر في صحته أنها صدقة موقوفة، ولم يزد على ذلك جاز إقراره وهو وقف. ويجب أن يعلم بأن قول من الأرض في يده: هذه الأرض وقف إقرار بالوقف، وليس بابتداء وقف، حتى لا يشترط له شرائط الوقف، وهذا لأن قوله: أرضي

(6/129)


هذه دعوى الأرض (6ب3) لنفسه وإنه من تصرف الملاك، واليد عند تصرف الملك دليل الملك، وإذا ثبت الملك له، كان قوله صدقة موقوفة ابتداء وقف، ولا كذلك هذا الأرض، ألا ترى أن من قال لعبد في يده: عبدي حر، كان ابتداء إعتاق؟ ولو قال: هذا العبد حر، كان إقراراً بالعتق، كذا ههنا، قال هلال البصري في «وقفه» : ولا يجعل المقر هو الواقف لها وغيره، وهكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ؛ لأن قوله: هذه الأرض صدقة موقوفة يتعرض لأصل الوقف، أما لا يتعرض للواقف، وكما يجوز أن يكون هو الواقف يجوز أن يكون الواقف غيره، فحكمنا بأصل الوقف؛ لأنه لا احتمال فيه ولم نحكم بكونه واقفاً، ولا يكون غيره واقفاً لمكان الاحتمال، قال هلال: إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر فيجعل المقر هو الواقف، وهو كرجل في يديه عبد، أقر أنه حر وشهد الشهود أن العبد كان له حين أقر بهذا الإقرار جعلت الولاية له، وإن لم يشهدوا بذلك جعلنا العبد حراً باقراره، ولم أحكم له في الولاء بشيء.
ذكر الخصاف الأنصاري في «وقفه» : إذا قال: هذه الأرض التي في يدي صدقة موقوفة ويجعل كأنه هو الذي وقفها، ألا ترى أنه لو قال لعبد في يديه: إنه حر كان ولاؤه للمقر وجنايته على عاقلته؟ قال الشيخ الإمام أبو العباس: فعلى قياس هذا: إذا شهد الشهود أن الأرض في يديه هي وقف على الفقراء، ولم يذكروا من وقفها ينبغي أن يحكم أنها وقف من الذي هي في يديه وأنه هو الواقف.

قال بعض مشايخنا: قول هلال إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر، فيجعل المقر هو الواقف مشكل، وهذا لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد خصومة صحيحة، وعلى من يصح الخصومة هذا حتى يشهد الشهود أنها كانت في ملك يوم المقر.
والجواب: يحتمل أن الخصومة وقعت بعد وفاته بأن كانت قرابته فقراء، فيقيمون البينة حتى يثبت أنه هو الواقف، فيكون صرف الغلة إليهم أولى، أو يحتمل أن في حال حياته تغلب عليها غيره، وزعم أنه هو الواقف، فيحتاج المقر إلى أن يقيم البينة أنه هو الواقف حتى ينزعها من يده والولاية له استحساناً، حتى يقسم الغلة بين الفقراء، ولكن ليس له أن يوصي إلى غيره، وهذا لأن يد المقر على الأرض حجة ظاهراً، إن كان يده هو الواقف كان يده بحصته، وإن كان الواقف غيره فكذلك لأنا نجعل كأن ذلك العين ولاه أمرها، فإن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد، واذا كانت يده محقة من حيث الظاهر، لا يجوز إبطالها عليه الحجة.

رجل في يده أرض أقر أنها صدقة موقوفة من قبل فلان فهذا على وجهين: إما يكون الاضافة إلى غيره بحرف من أو بحرف عن، وإما أن يضيفه إلى والده أو إلى رجل أجنبي، وإذا أضافه إلى الأجنبي إما أن يسمي ذلك الرجل بعينه أو لم يسمه بعينه.
فأما إذا أضافه إلى والده فإن أضافه إليه بحرف من بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من والدي، كان هذا إقراراً بالملك لأبيه لأن كلمة من تستعمل في العرف غالباً

(6/130)


(للملك) ، فقال: ادن مني فقد قرب الأرض الموقوفة إلى أبيه وتقريب عين من الأعيان إلى إنسان يكون للملك حقيقة؛ لأنه هو المقرب الكامل، فهو معنى قولنا: أقر بالملك لأبيه وأقر بالوقف عليه، فينظر إن كان على الأب دين أو أوصى بوصية وليس له مال آخر، فإنه يباع من الأرض قدر الدين والوصية، فيقضي الدين وينفذ الوصية من الثلث؛ لأن إقرار الوارث في حق الغريم أو الموصى له غير معتبر.
ثم في الباقي ينظر هل للميت وارث سواه أو لم يكن، فإن لم يكن بعد إقرار الباقي من الأرض وقفها على الفقراء؛ لأنه أقر على نفسه بحق الفقراء ظاهراً؛ لأن الملك له في الظاهر، ثم ينظر إن لم يدع الولاية لنفسه، فلا ولاية له، وللقاضي أن يولي آخر من شاء، وإن ادعى الولاية قبل قوله استحساناً حملاً لأمره على الصلاح، وأما إذا كان معه وارث آخر فإن أقر الآخر بجميع ما أقرَّ به هذا الوارث كان الجواب كما قلنا، وإن أنكر الوقف كان نصيب المنكر ملكاً له يتصرف فيه كما شاء ونصيب المقر وقف.
وأما إذا قال: هذه الأرض صدقة موقوفة عن والدي، فإنه يكون هذا إقراراً بالملك في الأرض لوالده ولا (يكون إقراراً) هو الواقف؛ لأن كلمة (عن) استعمل للتبعيد، ويكون معناه: وقفت هذه الأرض بسبب والدي، ولا (أقر) أنه لوالدي كما يقال: فلان تصدق عن والده كذا وفلان أعتق عن والده بكذا، واذا لم يكن هذا إقراراً بالملك لوالده لا يقبل منازعة وارث آخر أياً كان، ولكن صح إقراره أن الأرض وقف على الفقراء؛ لأنه أقر بما في يده أنه حق الفقراء ولا يجعل الواقف هو ولا غيره على ما مر، وكانت الولاية له استحساناً كما ذكرنا قبل هذا.
فأما إذا أضاف الوقف إلى رجل أجنبي، فان ذكر رجلاً معروفاً سماه بعينه وكانت الإضافة بحرف (من) فإن كان ذلك الرجل في الأحياء وكان حاضراً يرجع إليه؛ لأنه أقر بالملك له وشهد عليه بالوقف. فإن صدقه في جميع ذلك (يثبت) بتصادقهما، وإن صدقه في الملك، وكذبه (في الوقفية) يثبت (الملك) بتصادقهما ولم تثبت الوقفية لكون الشاهد واحداً.

وإن كان ميتاً، فالأمر إلى ورثته في التصديق والتكذيب على ما ذكرنا، فإن صدقه البعض في جميع ذلك وكذبه البعض في الوقفية، فنصيب المصدق وقف ونصيب الجاحد ملك له يتصرف فيه كما شاء. وأما الولاية ففي حال تصديق الورثة له استحساناً، فإذا صدقه البعض في الوقفية، وكذبه البعض، فلا ولاية له قياساً. قال هلال: وبالقياس نأخذ في هذه الصورة، وكذلك إذا صدقوه في الوقف وكذبه البعض في الولاية فلا ولاية له قياساً، قال: هلال آخذ فيه بالقياس؛ لأن حال تصديقهم إنما أثبتنا له الولاية لانعدام المنازع وقد وجد المنازع هاهنا فلا ولاية له لهذا. قال: إلا أن يشهد شاهدان بالولاية على الجاحدين، وشهادة الوارثين في ذلك مقبولة؛ لأنه لا تهمه في شهادتهما؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما منفعة ولا يدفعان عن أنفسهما غرامة، وإن كانت الإضافة بحرف (عن) فهذا ليس بإقرار بالملك لفلان على نحو ما بينا.
وأما إذا كانت الإضافة إلى أجنبي لم يسمه بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من

(6/131)


فلان أو عن فلان صار وقفاً؛ لأنه أقر بما في يده للفقراء، فيصح كما لو لم يضفه إلى أحد، فإن سمى بعد ذلك رجلاً لم يصدق إذا كان مفصولاً وكانت الإضافة بحرف (من) ؛ لأنه لو صدق أدى إلى إبطال حق الفقراء بعد ثبوته؛ لأن ذلك الرجل ينكر الوقف ويعتبر إنكاره؛ لأن المقر بالوقف ما أقر له بالملك في هذه الصورة، والولاية له بعد الإقرار الثاني يريد به إذا كانت الإضافة بحرف (من) ؛ لأن الإقرار الثاني كما لم يعتبر جعل كالسكوت، فلا يصير به ما كان قبله.
ولو أقر (7أ3) بالوقف وسكت عن ذكر الموقوف عليه ثم ذكره بعد ذلك أن الموقوف عليه فلان وفلان فالقياس أن لايقبل قوله الثاني؛ لأن بالكلام الأول صارت الغلة حقاً للفقراء، فلا يصدق في صرفها إلى غيرهم. وفي الاستحسان يقبل؛ لأن العادة جرت بذكر الأوقاف دون الموقو ف عليه إلا عند الاستثناء وعن الموقوف عليه.

ولو أقر أنها صدقة موقوفة على وجه سماها ثم بين بعد ذلك وجهاً آخر لا يقبل قوله الثاني قياساً واستحساناً، ويكون ما بين أولاً لأن في الوجه الأول الحاجة إلى البيان ما بينه، فيقبل قوله في البيان. وفي الوجه الثاني لا حاجة إلى البيان فلا يقبل وهذا أصل كبير في كتاب الإقرار أن البيان إنما يعتبر عند مساس الحاجة إليه.
أرض في يدي رجل قال صاحب اليد: هذه الأرض ولايتها للقاضي فلان وهي صدقة موقوفه لم يصح إقراره؛ لأن كما قال: ولايتها للقاضي فلان هذا أقر باليد وبحق التصرف كذلك للقاضي ثم ادعى الانتقال إليه، فلا يثبت ذلك إلا بحجة، ولكن إن كان الوقف العتق يتلوم القاضي في ذلك زماناً، فإن صح أمرها وإلا جوّز إقراره وألزمه قسمة الغلة على نحو ما أقر، قال هلال: أستحسن ذلك حتى لا يؤدي إلى إبطال الوقوف في العتق، ولو قال: هذه الأرض ولايتها (للقاضي والدي) ثم توفي والدي وأوصى إلي وهي صدقة موقوفه على كذا لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: هذه الأرض كانت في يد والدي أو قال: كانت في يد فلان، فأوصى بها إليَّ وهي صدقة موقوفة لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: كانت في يد فلان وقد أوصى إلي، وكانت في يد فلان آخر قبل ذلك وقد أوصى بها إلى فلان الذي أوصى بها إلي لا يقبل قوله ويؤمر بالتسليم إلى وارث فلان الذي أقر أنها كانت في يده وأوصى إلى ذلك الذي أوصى بها؛ لأنه أقر باليد له ثم شهد بزوال اليد.

قال الخصاف في «وقفه» : لو أن رجلاً قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد بن عبد الله وولده وولد ولده ونسله وعقبه أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فقال زيد: إن الواقف جعل هذه الوقف علي وعلى ولدي وولد ولدي وعلى عمرو، فإنه يصدق على نفسه ولا يصدق على غيره، فينظر إلى الغلة عند قسمتها فيقسم على زيد وعلى من كان موجوداً من ولده وولد ولده ونسله، فما أصاب زيداً منها دخل عمرو معه في ذلك، فيكون حصة زيد بين زيد وبين عمرو أبداً ما كان زيد في الأحياًء، فإذا مات زيد بطل إقراره ولم يكن لعمرو حق في هذه الصدقة.
وكذلك لو كان الواقف وقفها على زيد ومن بعده على المساكين، فأقر زيد لعمرو على نحو ما بينا كان لعمرو أن يشارك زيداً في غلة

(6/132)


الوقف ما دام زيد في الأحياء فإذا مات كانت الغلة كلها للمساكين.
وكذلك لو أن زيداً أقر أن الواقف وقف هذه الأرض كلها على عمرو وحده، فهو على ما أقر، فإذا كانت الغلة كلها للمساكين.

وفيه أيضاً: رجل في يديه أرض أو دار ادعاها رجل عند القاضي إنها له، والذي في يديه يقول: هذه الأرض وقف وقفها رجل حر من المسلمين على المساكين، ودفعها إلي، فإن القاضي يجعل الأرض وقفها على ما أقر به، ولكن لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بذلك، حتى أن المدعي لو قال للقاضي: حلفه ما هذه الأرض لي، فإن القاضي يحلفه، فإن نكل عن اليمين أو أقر بها لهذا الرجل، فالقاضي يضمنه قيمة الأرض ولا يبطل ما مضى به من الوقف، فإن كان الذي في يديه الدار قال: هذه الدار وقف، وقفها رجل حر من المسلمين على فلان وفلان وعلى أولادهم ونسلهم أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وقال هؤلاء الذين أقر المقر أنها وقف عليهم: إن هذه الدار لهذا المدعي، وإنها لم تكن للذي وقفها علينا، قبل قولهم على أنفسهم في غلة الدار، فيكون غلتها للمدعي إن لم يكن لهم أولاد وأولاد أولاد، فإن مات هؤلاء المسمون كانت الغلة للمساكين، فلو أن الذي في يديه الدار بعد ما أقر أنها وقف على فلان وفلان وأولادهم ومن بعدهم على المساكين إن أقر أن الدار للمدعي، ثم إن هؤلاء المسمون حضروا وكذبوا صاحب اليد في إقرار وقف لم يكن بينة على المدعي، كان له أن يستحلف هؤلاء المسمين على دعواهم، فإن أقروا بالدار للمدعي ونكلوا عن اليمين، كان إقرارهم جائزاً على أنفسهم دون أولادهم وأولاد أولادهم والمساكين وكذا لا يجوز على الرقبة.
في «فتاوي الفضل» سئل عمن أقر بوقف صحيح، وأنه أخرجه من يده، ووارثه أخرجه من يده، ووارثه يعلم أنه لم يكن أخرجه من يده قال: إقراره على نفسه جائز والوقف صحيح.
رجل في يديه دار وأقر الذي في يديه الدار أن هذه الدار وقف وقفها رجل من المسلمين في أبواب البر وعلى المساكين ودفعها إليه وولاه القيام بها، ثم جاء رجل وقدم صاحب اليد إلى القاضي، وقال: أنا وقفت هذا الوقف على هذه الوجوه والسبل ودفعتها إلى هذا ووليته القيام بأمرها، وأراد أن يقضيها من يدي الذي هي في يديه، ينظر إن كان الذي في يديه صدقه أنه هو الذي وقفها، فله أن يقضيها منه، وإن كان هذا الرجل الذي جاء قال: أنا مالك هذه الأرض وما وقفتها وإنما دفعتها إليه وديعة، وصاحب اليد يقول: إنها كانت له، إلا أنه وقفها على هذه الوجوه التي ذكرتها، فإن القاضي لا يقبل قول صاحب اليد لأن هذه الأرض لهذا المدعي؛ لأنه لو قبل قوله صار ملكاً لهذا الرجل فيبطل الوقف فيها.
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أن من مات وترك ابنين وفي يد أحدهما ضيعة يدعي أنه وقف عليه من أبيه والابن الآخر يقول: هي وقف علينا، كان

(6/133)


القول قوله، وهي وقف عليهما هو المختار؛ لأنهما تصادقا على أنها كانت في يد أبيهما فلا ينفرد أحدهما باستحقاقها إلا بالحجة.

الفصل السادس: في الولاية في الوقف
ذكر هلال رحمه الله: إذا وقف الرجل أرضه، ولم يشترط الولاية لنفسه ولا لغيره إن الوقف جائز والولاية للواقف، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه. قال هلال: وقد قال قوم: إن الواقف لو شرط الولاية لنفسه كانت الولاية له، وإن لم يشترط فلا ولاية له، قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد؛ لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط صحة الوقف، فإذا سلم لا يبقى له ولاية، وجه هذا القول: أن ولايته كانت بحكم الملك وبالوقف أزال ملكه فتزول ولايته، وجه ما ذكر هلال: أن الواقف أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، ألا ترى أن المعتق أولى الناس بالمعتق؛ لأنه أقرب إليه؟

وفي «فتاوي أبي الليث» إذا وقف أرضاً وسلمها (7ب3) إلي المتولي ثم أراد أن يأخذها منه، فإن كان شرط في الوقف أن له العزل والإخراج من يد المتولي فله ذلك، وإن لم يكن شرط ذلك، فعلى قول أبي يوسف: له ذلك، وعلى قول محمد: ليس له ذلك بناء على ما قلنا.
واذا كان الوقف على الفقراء وشرط الواقف الولاية لنفسه، وكان هو منهما غير مأمون على الوقف، فللقاضي أن ينزعها من يده؛ لأن القاضي نصب ناظراً للفقراء لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وبالوقف زال ملكه وثبت الحق فيه للفقراء، فإذا كان متهماً كان للقاضي أن يخرجه نظراً للفقراء كما له أن يخرج الوصي نظراً للصغار.
وكذلك لو ترك العمارة وفي يده من غلته ما يمكنه أن يعمره فالقاضي يجبره على العمارة، فإن فعل وإلا أخرجه من يده.
ولو شرط الواقف ولايتها لنفسه وأن ليس للسلطان ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره، فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن الشرع أطلق للقاضي إخراج من كان متهماً دافعاً للضرر عن الفقراء.
ولو جعل الواقف ولاية الوقف لرجل، كانت الولاية له كما شرط الواقف، ولو أراد الواقف إخراجه كان له ذلك، ولو شرط الواقف أن ليس له إخراج القيم فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن القوامة وكالة والوكالة ليست بلازمة، ولو جعل إليه الولاية في حال حياته وبعد وفاته كان جائزاً فكان وكيلاً في حال حياته وصياً بعد الموت، ولو قال: وليتك هذا الوقف فإنما له الولاية حال حياته لا بعد وفاته.
H
ولو قال: وكلتك بصدقتي هذه في حياتي وبعد وفاتي فهو جائز، وهو وكيله في حياًته ووصيه بعد وفاته.

(6/134)


و (إن) لم يشترط الواقف الولاية لأحد وحضره الموت فقال لرجل: أنت وصيي، ولم يزد على هذا فهو وصي في ماله وولده وفيما كان في يده من الوقوف؛ لأنه أطلق الوصاية ولم يخص، ولو أوصي إليه في الوقف خاصة قال محمد: هو وصي في الوقف خاصة على قولنا وقول أبي يوسف، وعلى قول أبي حنيفة: هو وصي في الأشياء كلها، هكذا ذكر هلال، والمشهور أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: هو وصي في الأشياء كلها، وعلى قول محمد: هو وصي فيما خص له، وما ذكر هلال فذاك جواب «النوادر» وهو المذكور في «مختصر الكرخي» ، فأما في «ظاهر الرواية» : فقول أبي يوسف كقول أبي حنيفة، وجه قول محمد: أن الوصي يتصرف بحكم التفويض، فإنما تصرف بقدر ما فوض إليه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن تصرف الوصي ليس بحكم التفويض، ألا ترى أنه لو أوصى إليه ولم يبين مقصوده صح؟ ولو كان تصرفه بحكم التفويض يشترط بيان مقصوده كما في التوكيل، ولكن الموصى به خلافه، وأقامه الموصي مقام الموصى والخلف يعمل الأصل على العموم كالجد لما كان خلفاً عن الأب قائماً مقامه عمل على العموم، وعلى هذا لو أوصى إلى رجل في الوقف، وأوصى إلى آخر في ولده أو أوصى إلى رجل في وقف نفسه وأوصى إلى آخر في وقف آخر بعينه كانا وصيين فيهما جميعاً وسيأتي جنس هذه المسائل في كتاب الوصايا.
ولو وقف أرضه وجعل ولايتها إلى رجل، ذكر هلال عن محمد: أن الوصي يشارك القيم في أمر الوقف فكأنه جعل ولاية الوقف إليهما، فالأصل عند محمد هو قول هلال وإحدى الروايتين عن أبي يوسف: أن الخاص لا يشارك العام فيما وراء ما خص به والعام يشارك الخاص فيما يخصه وهو مقدر فيما وراءه، وعند أبي حنيفة، وأظهر الروايات عن أبي يوسف الوصاية لا تقبل التخصيص، فالعام والخاص فيه سواء.

ولو جعل ولاية الوقف بعد وفاته إلى رجلين أحدهما (قبل) ذلك ولم يقبل الآخر، فينبغي للقاضي أن يجعل مع الذي حل رجلاً يقوم مقام الذي لم يقبل، فإن كان الذي حل موضعاً لذلك عند القاضي ووضع ذلك القاضي إليه فهو جائز.
ولو قال الواقف: ولاية هذا الوقف إلى الأفضل فالأفضل من ولدي وإذا فضل القبول فالقياس: أن يقيم القاضي غير الأفضل مقام الأفضل مادام الأفضل حياً، فإذا مات الأفضل صرف الولاية إلى من يليه في الفضل، وفي الاستحسان: الولاية لمن يليه في الفضل؛ لأن إباء الأفضل بمنزلة موته، ولو ولى القاضي أفضلهم ثم صار في ولده من هو أفضل منه، فالولاية إليه اعتباراً لشرط الواقف، وإذا استوى الاثنان في الصلاح، فالأعلم بأمر الوقف أولى، ولو كان أحدهما أميناً ورعاً وصالحاً، والآخر أعلم بأمر الوقف فالأعلم أولى بعد أن يكون بحال يؤمن خيانته.

ولو جعل الولاية إلى عبد الله حتى يقدم زيد فهو كما قال، فإذا قدم زيد فكلاهما واليان عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يحجر على عبد الله بعد وقد قدم زيد، وعلى قول هلال: تحولت الولاية إلى زيد ولا يبقى عبد الله والياً.

(6/135)


وإذا جعل الولاية إلى رجل ومات ذلك الرجل حال حياة الواقف، فالأمر في نصب القيم إلى الواقف يقيم من أحب؛ لأن العين في الصدقة الموقوفة، وإن زال عن ملكه حقيقة فهو باقٍ على ملكه حكماً، ألا ترى أنه جعل متصدقاً شرعاً بكل ما يحدث من الغلة كأنها حدثت على ملكه، وجعل هو متصدقاً لها صدقة جديدة؟ فدل أنها مبقاة على ملكه حكماً فيعتبر بما لو كانت مبقاة على ملكه حقيقة وهناك التدبير في التصرف وفي نصب المتصرف إليه لا إلى القاضي كذا ههنا، هكذا ذكر المسألة في «أصل الوقف» وفي «السير الكبير» وقال محمد رحمه الله: القاضي أولى بنصب قيم آخر، وإن مات القيم بعدما مات الواقف، فإن كان القيم قد أوصى إلى غيره فوصيه بمنزلته، وإن كان لم يوص إلى غيره فولاية نصب القيم للقاضي، ولا يجعل القيم من الأجانب ما دام يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك لأنه أشفق على الوقف من الأجنبي به، وإن لم يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك، جعل القيم من الأجانب في هذه الصورة ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الوقف، وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم: أنه لا يصرف إليه إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف.
المتولي إذا أراد أن يفوض إلى غيره عند الموت بالوصية يجوز، بمنزلة الوصي عند الموت، وللوصي أن يوصي إلى غيره، وإذا أراد أن يقيم غيره مقام نفسه (في) وصيته وصحته، لا يجوز إلا إذا كان التفويض إليه على سبيل العموم.

الفصل السابع: في تصرف القيم في الأوقاف
وهو أنواع: منه (ما) رجع إلى عمارة الوقف: رجل وقف أرضاً له على المساكين وقفاً صحيحاً ولم يذكر عمارتها في غلة هذه الأرض فهذا القيم أو لا من الغلة بعمارتها وما يصلحها (8أ3) وما فضل من ذلك يقسم على الفقراء، وهذا لأن العمارة وإن لم تكن مشروطة في الوقف نصاً فهي مشروطة اقتضاء، لأن مقصود الواقف إدرار الغلة مؤبداً على المساكين، وهذا المقصود إنما يحصل بإصلاحها وعمارتها، فهي معنى قولنا: إن العمارة مشروطة اقتضاء ثابت بطريق الضرورة والضرورة تندفع بشرط العمارة من غلة هذه الأرض، فلهذا كانت العمارة في غلة هذه الأرض، فإن كان في أرض الوقف نخلة فخاف القيم هلاكها كان له أن يشتري من غلتها فصلاً فيغرسه، لأن النخل بنسله على امتداد الزمان فتهلك فينقطع ثمرها فكان إبقاؤها بالغرس مكانها حتى يبقى خلفاً عن سلف، وهو نظير الدار الموقوفة كرم ما استرم منه بإدخال خشبته ولبن ونحوها حتى لا يخرب، فإن كانت قطعة من هذه الأرض سبخة لا تنبت شيئاً فيحتاج الي كشح وجهها وإصلاحها حتى تنبت، كان للقيم أن يبدأ من غلة جملة الأرض بمؤنة إصلاح تلك القطعة؛ لأنها إذا صلحت كبرت الغلة فكان أنفع للفقراء.

(6/136)


قال: إذا أراد القيم أن يبني فيها قرية ليسكن أهلها وحفاظها ويحرز فيها الغلة لحاجته إلى ذلك كان له أن يفعل ذلك، لأن هذا من جملة مصالح الوقف، وهذا كالخان الموقوف على الفقراء إذا احتيج فيه إلى خادم يكشح الخان ويفتح الباب ويسده، فسلم المتولي إلى رجل بعض البيوت بطريق الأجرة له ليقوم بذلك فهو جائز وطريقه ما قلنا كذا ههنا.
وإن أراد أن يبني فيها بيوتا يصلها بالإجارة فهذه المسألة في الحاصل على وجهين: إن كانت أرض الوقف متصلة ببيوت المصر يرعب في استئجار بيوتها ويكون غلة ذلك فوق غلة الأرض والنخل كان له ذلك، وإن كان أرض الوقف بعيداً عن المصر، ولا يرغب في استئجار بيوتها بأجرة تزيد منفعتها علي منفعة الزراعة فليس له ذلك والوجه في ذلك أن الواقف ما عين جهة الاستغلال نصاً لكن عين الاستغلال بالزراعة فيجب العمل بهذا الظاهر ما لم يوجد جهة أخرى في حق الفقراء؛ لأنا نعلم قطعاً أن غرض الواقف من الوقف إنفاع الفقراء، ففي الوجه الأول وجدنا جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فتركنا هذا الظاهر تحصيلاً لغرض الواقف بأبلغ الوجوه، وقد روي عن محمد ما هو أبعد من هذا، فإنه قال: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضاً أخرى هي أكثر ريعاً كان له أن يبيع هذه الأرض وثم يشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً، فأما في الوجه الثاني لم نجد جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فعملنا فيه بالظاهر، فلم يكن القيم في هذه الصورة مأذوناً بالبناء والاستغلال بالإجارة، فلا يكون له أن يفعل ذلك.

وإذا قال: داري هذه صدقة موقوفة على الفقراء على أن سكناها لفلان ما عاش، فإذا مات فلان سكانها لفلان آخر ما عاش، فإذا مات فلان فعلى الفقراء، فهذا وقف صحيح، وإذا صح الوقف واحتيج إلى العمارة (فالعمارة) على من يستحق الغلة كما في الباب الأول إلا أن في الباب الأول المستحق للغلة الفقراء، وهم قوم كثر لا يمكن مطالبتهم بالعمارة، فقلنا: بأن القيم يبدأ من الغلة بالعمارة، وههنا المستحق للغلة شخص معين يمكن مطالبته بالعمارة وهو الأول ما عاش وبعده الثاني، فلا يحبس شيء من الغلة لأجل العمارة بل تصرف كل الغلة إلى الأوقاف ويطالب بالعمارة، وله أن يعمرها من أي مال شاء، وإنما المستحق العمارة بقدر ما يبقى الوقت على الصفة التي وقفه المالك، ولا يطالب بالزيادة إلا أن يرضى فلان بالزيادة فحينئذ يكون تبرعا بالزيادة وله ذلك.

ولو كانت الغلة مصروفة إلى الفقراء وكان في زيادة العمارة زيادة في الغلة، ورأى القيم أن يزيد في العمارة لتزيد الغلة، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا له ذلك وقاسوه بمسألة هذا أن أرضي أوقفت على الفقراء إذا كانت متصلة ببيوت المصر، فأراد القيم أن يبني فيها بيوتاً يستغلها بأجر فله ذلك وفيه صرف الغلة إلى زيادة العمارة من غير ضرورة، ومنهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن صرف الغلة إلى العمارة ثبت ضرورة في الزيادة فوجب صرف الغلة إلى مصرفها وهو الفقراء، وهذا لأن المستحق على القيم العمارة بقدر ما تبقى

(6/137)


الأرض موقوفة أو الدار على الصفة التي وقفها المالك ولا ينقص لأنها بصفتها صارت غلتها مستحقة الصرف إلى الفقراء، فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة للفقراء، فلا يجوز صرف غلة مستحقة إلى جهة غير مستحقة، والدليل عليه أن المتولي لو أراد أن يشتري بالغلة داراً أخرى أو أرضاً أخرى ليضمها إلى الأول، فيستغلها للفقراء ليس له ذلك، فأما بناء البيوت للغلة في أرض الوقف فليس ذلك من باب الزيادة إنما ذلك تبديل جهة الاستغلال إلى جهة خير من الأولى، فأما المستغل واحد والجهتان فيه مختلفان، فكان ذلك بمنزلة أصل العمارة لا بمنزلة الزيادة ولكن الإشكال قائم، فإنه لا ضرورة في صرف الغلة إلى تبديل جهة الاستغلال كما لا ضرورة في الزيادة ههنا.
قال: فإن احتاج الوقف إلى العمارة في مسألتنا فلأن الذي شرط له الغلة ما عاش إما للأول، وأما الثاني إلى العمارة فإنه لا يجبر على العمارة لأن في العمارة إتلاف ماله ولكن لو أجر هذا الوقف من غيره بقدر ما ينفق من غلتها في العمارة، فإذا حصلت العمارة تصرف الغلة إليه وهذا لأنه لابد من العمارة كما مر، ويقدر خبرة هذا الرجل على العمارة، فحصلت العمارة في الغلة كما في باب الفقراء، وهذا الذي ذكرنا أنه لو أجر الدار من ماله وأبى البعض قال: من أراد العمارة عمر بحصته ومن أخر حصته وصرفت غلته إلى العمارة إلى أن يحصل العمارة ثم يعاد إليه، ويعتبر لكل بعض حكم نفسه فإن كان الواقف حين شرط الغلة لفلان ماعاش بشرطه على فلان مرمتها وإصلاحها فيها كأن لا بدّ لها منه فالوقف جائز مع هذا الشرط لأن هذا الشرط يقتضيه مطلق العقد، وإنما أورد المسألة بهذا الشرط لنوع أشكال أنه لما شرط له السكنى وشرط عليه المرمة كان بمنزلة الإجارة والأجرة مجهولة فينبغي أن يفسد، والجواب أن مع اشتراط المرمة عليه لا يصير إجارة؛ لأن المرمة لا تصير مستحقة عليه بالشرط، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة، فإن خربت الدار الموقوفة ورمها الذي شرط له السكنى من ماله ثم مات فالبناء (8ب3) ميراث لورثته (فيقال لهم) ارفعوا بناءكم، فإن رفعوه ... له أن ملكوه الوقوف عليه بعد ذلك بالقيمة جاز بتراضيهم؛ لأن تمليك مال بمال بالتراضي، وإن أبى أحد الفريقين ذلك لا يجبر عليه؛ لأن الإنسان لا يجبر على البيع والشراء. ونظيره: من غصب ساحة وبنى عليها ثم مات وهناك الجواب كما قلنا فكذا في الوقف، فإن كان المشروط له السكنى أدار حيطان الدار الموقوفة بالآجر وجصصها أو أدخل فيها..... ثم مات ولا يمكن نزع شيء من ذلك إلا بضرر بالبناء، فليس لورثته أخذ شيء من ذلك صيانة لبناء الدار الموقوفة، ولكن يقال للمشروط له السكنى بعده اضمن لورثة الميت قيمة البناء ولك السكنى، فإن أبى أوخرب

الدار فصرفت الغلة إلى ورثة الميت فقدر قيمة البناء، فإذا توفر عليه ذلك أعيدت السكنى إلى من له السكنى.
واستشهد في «الكتاب» لإيضاح ما ذكرنا بمسألة فقال: ألا ترى أن من عمر داراً

(6/138)


دخل بغير إذنه لا يخلص مرمتها إلا بضرر بالدار فإنه ليس للذي عمر الدار أن يأخذ مرمتها، ويقال لصاحب الدار: ضمن له قيمة مرمته كذا هنا، إلا أنَّهُ فرّق بين المسألتين أن في مسألتنا من له سكنى الدار إذا رضي أن يأخذ ورثة الميت، أماهم لا يصح رضاهم، وفي تلك المسألة إذا رضي صاحب الدار أن يأخذ الثاني مرمته صح رضاه، وقيل للآجر: خذ مرمتك، والفرق بينهما أن صاحب الدار مالك رقبة الدار، فإذا رضي بلحوق الضرر بملكه عمل رضاه، وفي باب الوقف الموقوف عليهم الفقراء وإنما صار السكنى لهؤلاء باستثناء السكنى بهم من سكنى الفقراء فيكون الضرر برفع البناء عائداً إلى الفقراء فلا يصح رضاه، وإن كان ما رم الأول قبل تجصيص أو تطيين سطوح أو ما أشبهه ثم مات الأول، فليس لورثته أن يرجع بشيء من ذلك على الثاني، لأنها مستهلكة لها، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى داراً وجصصها أو طين سطوحها ثم استحقت الدار لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الجص وإنما يكون له الرجوع على البائع بقيمة ما يمكن أن يهدمه ويسلم إليه.

ومن هذا الجنس
ذكر في «فتاوي أبي الليث» : حانوت موقوف على الفقراء وله قيم بنى رجل في هذا الحانوت بناء بغير إذن القيم ليس له أن يرجع بذلك على القيم، فبعد ذلك ينظر إن كان أمكنة رفع ما بنى من غير (أن) يضر بالبناء القديم فله رفعه، وإن لم يمكنه رفع ما بنى من غير أن يضر بالبناء القديم فليس له رفعه ولكن يتربص أن يتخلص ماله إن لم يرض هو بتملك القيم البناء للوقف، وإن اصطلح مع الوصي على أن يجعل البناء للوقف ببدل يجوز لكن ينظر إلى قيمته مبنياً وإلى قيمته منزوعاً، فأيهما كان أقل لا يجاوز ذلك، قال المشروط له السكنى لا يؤاجر كالموصى له بالسكنى؛ لأنه ملك المنفعة بغير بدل.
وأما المشروط له الغلة والموصى له بالغلة هل له أن يسكن مكان أبو بكر بن سعيد يقول: لا يسكن.
وهكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ؛ لأن فيه ضرراً بالميت، فربما يظهر على الميت دين، فتصرف هذه الغلة إلى قضائه وبالسكنى يبطل ذلك، وكان أبو بكر الاسكاف يقول: له أنه يسكن، وقال: ما يسقط من البناء فللقيم أن يبيعه لأن الوقفية زالت حكماً بأن فصار منقولاً، وهذا إذا لم يمكن إعادته إلى موضعه. فأما إذا أمكن أعيد إلى موضعه؛ لأنه من رقبة الوقف؛ لأن الثمن بدل ما سقط، وكذلك ما تناثر من البناء من تراب فللقيم بيعه وصرف ثمنه إلى المرمة، ولا يصرف من ثمن ما أسقط إلى الفقراء؛ لأنه بدل البعض والبعض من جملة تربة الوقف ولا حق للفقراء في تربته، وإنما الحق لهم في غلته ولا يصرف شيء من ذلك للفقراء، وإنما يصرف إلى المرمة وما فضل من ذلك عن المرمة يمسكه القيم إلى وقت الحاجة إلى المرمة، وإن كان المشروط له السكنى قبل الفقراء إنما شرطت له غلة سنة، فليس عليه شيء من العمارة؛ لأن العمارة لا تفيد إلا في السنين المستقبلة، فمنفعتها لا تصل إلى صاحب السنة، وكذلك إذا شرط له غلة سنين، فلا شيء عليه من العمارة، وأما المشروط له الغلة في ثلث سنين يؤخذ بالعمارة؛ لأن منفعة العمارة تعود إليه.

(6/139)


قال: ويجوز أن يقال في المشروط له غلة سنين إذا حدث صورتين في الوقف يؤمر بعمارة قليلة مقدار ما تبقى الدار الموقوفة إلى السنة الثانية نحو تطيين الحائط الذي أخذ في الخراب قدر ما يمنع السقوط في السنة الثانية ونحو سدر ما والسطوح والحيطان قدر ما يمنع الخراب في السنة الثانية، وإذا خرب أرض الوقف، وأراد القيم أن يبيع بعضاً منها ليرم الباقي بثمن ما باع ليس له ذلك؛ لأنا لو أطلقنا ذلك له أدى إلى أن يبطل الوقف كله، فإنه كلما خرب شيء منها باع بعض الباقي وعمر الباقي إلى أن لا يبقى الوقف، وليس بيع بعض الوقف كبيع بعضه وكبيع نخلة في أرض الوقف قد سقطت؛ لأن التربة أصل في الوقف، ولا يجوز إبطال أحد الأصلين لأجل الأصل الآخر، فأما البناء والنخل منع سبب الاتصال، فإذا سقط سقوطاً لا يمكن إعادته إليه صار منقولاً وزالت الوقفية إلى بدله، فإن باع عن عينه فاحلنا الوقفية إلى بدله.

فإن باع القيم شيئاً من البناء لم ينهدم ليهدم او نخلة حية لتقطع فالبيع باطل؛ لأنه ما دام متصلاً بالأصل فالوقفية ثابته له بحكم الاتصال، فإن هدم المشتري البناء أو حرق النخل ينبغي للقاضي أن يخرج القيم عن هذا الوقف؛ لأنه صار خائناً، ولا ينبغي للقاضي أن يأتمن الخائن بل سبيله أن يعزله ثم القاضي إن شاء ضمن له قيمة ذلك البائع وإن شاء ضمن المشتري؛ لأن كل واحد منهما متعد في استهلاك ما استهلك فيضمن كل واحد منهما، فإن ضمن البائع نفذ بيعه، وإن ضمن المشتري بطل بيعه، وهذا عرف في كتاب الغصب.

نوع منه: يرجع إلى العقود
وإذا وقف داره على الفقراء فالقيم يؤاجرها؛ لأنه استغلال الوقف ولا بد للوقف منه، ويبدأ من غلتها بعمارتها وما فضل يصرف إلى الفقراء، وليس للقيم أن يسكن فيها أحداً بغير أجر؛ لأنه إتلاف منافع الوقف بغير عوض، وإن مات القيم بعد ما أجر لا تبطل الإجارة، وإن كان الواقف هو الذي أجر ثم مات ففيه قياس واستحسان، القياس أن تبطل الإجارة وبه أخذ أبو بكر الإسكاف؛ لأن الواقف بمنزلة المالك ليس لأحد حجره ومنعه، والمالك لو أجره ومات انتقضت الإجارة، وفي الاستحسان لا تنقض الإجارة؛ لأنه أجرها لغيره وهو الفقراء كالوكيل والقيم (9أ3) إذا أخذ ثم مات، وهذا لأن الإجارة إنما تنقض بموت المالك؛ لأن الملك بالموت ينتقل إلى الوارث، فلو لم يبطل حصل استيفاء المنافع على ملك غير الأجر، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى معدوم ههنا بهذا الطريق لم تنتقض الإجارة بموت الوكيل ولم تنتقض بموت الموكل.
وبهذا الطريق قلنا: الوصي إذا أجر دار اليتيم ومات الوصي لا تنقض الإجارة. ولو مات الصبي تنتقض، ولم يذكر القياس والاستحسان في الوكيل بالاستئجار إذا مات؛ لأن الوكيل بالاستئجار حاله كحال الوكيل بشراء العين؛ لأن المنافع لها حكم الأعيان؛ فيصير الموكل كأنه يملك من جهة الوكيل فيكون للوكيل حكم المالك، فأما الوكيل

(6/140)


بالإجارة فليس له حكم المالك؛ لأن المنافع إنما تتولد من دار هي للموكل فكان على الوكيل في العقد لا غير، وقد فرغ منه.

في «واقعات الناطفي» القاضي إذا أجر الدار الموقوفة ثم عزل قبل انقضاء المدة لا تبطل الإجارة؛ لأنه بمنزلة الوكيل عن الفقراء. وفيه أيضاً دار موقوفة أجرها الوصي مدة معلومة ثم مات بعض الموقوف عليهم قبل تمام المدة لا تبطل الإجارة، فالإجارة لا تبطل بموت الموقوف عليه؛ لأنه ليس بمالك الرقبة، إنما حقهم في الغلة ثم ما وجب من الغلة إن مات هذا الميت تصرف إلى ورثته، وما وجب بعد موته فهو لمن بقي. وكذا لو مات بعضهم بعد موت الأول ثم، فهو على هذا القياس وسيأتي تمام ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف، ولو احتيج إليها فالوجه في ذلك أن يعقدوا عقوداً مترادفة كل عقد على سنة فيكتب استأجر فلان بن فلان كذا بثلاثين عقدا كل عقد على سنة فيكون العقد الأول لازماً لأنه ناجز، ويكون العقد الثاني غير لازم لأنه مضاف.
وإن أجر متولي الوقف داراً موقوفة أو أرضاً موقوفة أكثر من سنة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجارها سنة وكانت إجارتها أكثر من سنة أدر على الوقف وأنفع لا يجوز إجارته أكثر من سنة؛ لأن شرط الواقف مراعى، فإن كان قد شرط أن يؤاجر أكثر من سنة إلا إذا كان أنفع للفقراء فحينئذ تجوز إجارته أكثر من سنة إذا رأى ذلك خيراً للفقراء، وإن لم يشترط في الوقف أن لا يؤاجر أكثر من سنة، روي عن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول في الدور: لا تؤاجر أكثر من سنة، وهذا لأن المدة إذا طالت أدت إلى إبطال الوقف عسى أنه متى تصرف فيه بتصرف الملاك على طول الزمان، وكل من لقيه يظن أنه متصرف في ملكه، فمتى أنكر المستأجر الوقف وادعى الملك فهؤلاء الذين لقوه يتصرف ويشهدون له بالملك.

وأما في الأرض فإن كانت الأرض تزرع في كل سنة مرة فكذلك، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة أو في كل سنين مرة، فيزرع في كل سنة طائفة منها، فينبغي أن يشترط في المدة ذلك القدر الذي يتمكن به المستأجر من زراعة الكل على العادة؛ لأنه لو آجرها سنة والحالة هذه المستأجر يزرع كل الأرض، فيؤدي إلى تخريب الأرض.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو جعفر البخاري يجيز في الضياع ثلاث سنين؛ لأن مصلحة الوقف في ذلك؛ لأن المستأجر لا يرغب في أقل من ذلك، وكان لا يجيز في غير الضياع أكثر من سنة واحدة، وكان الفقيه أبو الليث يجيز ذلك في ثلاث سنين في الضياع والدار وغيرها.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : المختار أن يفتي في الضياع الجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وهذا أمر يختلف باختلاف الموضع واختلاف الزمان، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا ينبغي للمتولي أن يؤاجر أكثر من ثلاث سنين، ولو فعل جازت الإجارة وصحت، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحيلة التي ذكرناها في الإجارة الطويلة.

(6/141)


رجل له دار فيها موضع مقدار بيت هو وقف لا يصل إلى الموقوف عليه شيء من غلته، فأراد صاحب الدار أن يستأجره مدة طويلة، فإن (كان) لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم لا يجوز لأنه لو جاز يندرس الوقف، وإن (لم) يكن لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم (فإنه يجوز) .
إذا استأجر أرض وقف ثلاث سنين بأجرة معلومة، هي أجر المثل حتى جازت الإجارة فرخصت أجرتها لا تفسخ الإجارة، وإن ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة على رواية «فتاوى سمرقند» بأن لا يفسخ العقد، وعلى رواية «شرح الطحاوي» يفسخ، ويجدد العقد، وإلى وقت الفسخ يجب المسمى لما مضى، ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها بأن كان فيها زرع لم يستحصد بعد قال: وقت زيادته يجب المسمى بقدره وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر سنة وزيادة الأجر يقيم إذا نهاه عند الكل.

هذه الجملة في مزارعه «شرح الطحاوي» حانوت وقف عمارته لآخر، أبى صاحب الوقف أن يؤجره بأجر مثله فهذا على وجهين، أما إن كانت العمارة لو رفعت يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه كلف رفع العمارة ويؤاجر من غيره، لأن النقصان عن أجر المثل من غير ضرورة لا يجوز، وأما إن كانت العمارة إذا رفعت لا يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه لا يكلف رفع العمارة ويبقى سنة في يده بذلك الأجر؛ لأن فيه ضرورة.

في «فتاوي أبي الليث» في وقف الخصاف: إذا أجر الوقف إجارة طويلة إن كان يخاف على رقبتها التلف بسبب هذه الإجارة، فللحاكم أن يبطلها، وكذلك أجرها من رجل يخاف على رقبتها من المستأجر ينبغي للحاكم أن يبطل الإجارة.
في «فتاوي أهل سمرقند» خان أو رباط سبيل، أراد أن يخرب يؤاجر وينفق عليه فإذا صار معموراً لا يؤاجر؛ لأنه لو لم يؤاجر يندرس فيه.
وفيه أيضاً: قيم على عمارة وقف استأجر أجيراً بدرهم ودانق، وأجر مثله درهم، فاستعمله في عمارة الوقف ونقد الأجرة من مال الوقف يضمن جميع ما نقد لأن الاجارة وقعت له.
متولي الوقف إذا أسكن رجلاً بغير أجر ذكر هلال أنه لا شيء على الساكن، وعامة المتأخرين من المشايخ أن عليه أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن، صيانة للوقف وعليه الفتوى. وكذلك قالوا فيمن سكن دار الوقف بغير أمر القيم وبغير أمر الواقف كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ، وكذا قالوا في أهل الجماعة: إذا رمموا الوقف حتى لم يصح أو سكنه المرممون يجب أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم (9ب3) تكن.
وكذلك قالوا في متولي مسجد باع منزلاً موقوفا على المسجد، فسكنه المشتري ثم عزل القاضي هذا المتولي وولى غيره فادعى هذا الثاني على المشتري المنزل أن البيع

(6/142)


باطل وأبطل القاضي البيع وسلم إلى المتولي الثاني، فعلى المشتري أجر مثل هذا المنزل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن.

وإذا أجر القيم الدار بأقل من أجر المثل قدر ما لا يتغابن الناس فيه حتى لم تجز الإجارة لو سكنه المستأجر كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ على ما اختاره المتأخرون من المشايخ، وكذلك إذا أجره إجارة فاسدة، إذا أجر القيم دار الوقف من نفسه لا يجوز، كذا ذكر هلال في «وقفه» ، وكذا (لو) أجره من عبده أو مكاتبه لا يجوز كما لو أجره من نفسه على قياس الوكيل إذا أجر من نفسه؛ لأن كل واحد منهما يتصرف بتفويض من جهة غيره. وقيل: ينبغي أن يكون هذا على قياس الوصي إذا باع مال الصبي من نفسه، إن كان فيه منفعة للوقف يجوز عند أبي حنيفة.
ولو أجر من ابنه أو أبيه، هو على الاختلاف في الوكيل عند أبي حنيفة لا يجوز، وعندها يجوز، ومن مشايخنا من قال هنا: يجوز وقاسه على المضارب إذا أجر من هؤلاء، فإنه يجوز بلا خلاف، وكذلك الوصي؛ لأنهما عاما التصرف بخلاف الوكيل. ومن مشايخنا من قال: لو فرق إنسان بين المضارب والوصي وبين والي الوقف لأبي حنيفة جاز، فإن والي الوقف ليس بعام الولاية، وإن كان وصياً في الوقف، ألا ترى أنه لا يتجاوز أمر الواقف وشرطه؟

إذا أجر القيم الدار الموقوفة بعرض من العروض جاز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بالدارهم والدنانير، وذكر هذه المسألة في الإجارات، وأجاب بالجواز من غير ذكر الاختلاف، والمتأخرون من مشايخنا قالوا: إنما لم يذكر محمد رحمه الله الخلاف؛ لأنه لم يكن في الأجرة تعارف في زمنهم، وذكر هلال الخلاف؛ لأنه كان الأجر تعامل كما في الثمن. قال الفقيه أبو جعفر: وفي زماننا في الأجر تعامل كما في الثمن، وبعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز في الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ما تعارفه الناس أجرة وثمناً في الاجارات والبياعات مثل الحنطة والشعير، فأما العبيد فلا يجوز بالإجماع.

والأب والوصي إذا أجر دار اليتيم بعرض يجوز بلا خلاف؛ لأنهما يملكان شراء العرض له، فأما قيم الوقف فشراؤه العرض على الوقف لا يجوز فكان كالوكيل، ثم إذا جاز إجارة الوقف بالعرض على قول من قال بالجواز فالقيم يبيع العرض الذي هو أجره ويجعل في سبيل الوقف.
إذا أجر القيم الوقف وشرط المرمة على المستأجر بطلت الإجارة؛ لأن المرمة مجهولة إلا أن يسمي دراهم معلومة ويأمره بأن يصرفها في المرمة، وإذا كان الوقف على معينين فأجر القيم الوقف من الموقوف عليهم جاز؛ لأنه لا حق لهم في الرقبة إنما حقهم في الغلة، فصار في حق الرقبة كالأجانب إلا أنه يسقط حصة المستأجر من الأجر؛ لأنه لو أخذ منه استرد ثانياً فلا يفيد الأخذ.
والموقوف عليهم لو أرادوا أن يؤاجروا لا يجوز لما ذكرنا أنه لا حق لهم في الرقبة ولا ملك قال الفقيه أبو جعفر: إذا كان الأجر كله له بأن كان الواقف لا يحتاج إلى

(6/143)


العمارة كالحوانيت والدور وليس معه شريك في الوقف حينئذ جازت الإجارة، وأما في الأرض إن كان الواقف شرط تقديم العشر والخراج وسائر المؤن وما فضل فللموقوف عليهم فليس لهم إجارته؛ لأن فيه إبطال (لشرط) الواقف البداية بالخراج والمؤن.

بيانه: أن إجارة الموقوف عليه إنما تجوز على معنى إجارته ملك نفسه لا على اعتبار إجارته للوقف؛ لأنه ليس بمتول للوقف، وإذا كان جواز إجارته على اعتبار إجارته ملك نفسه لنفسه كان الأجر له ليس فيه خراج ولا شيء فهو على معنى قولنا: إن فيه إبطال شرط الواقف، وأما إذا لم يشترط بداية الخراج والمؤن يجب أن تجوز إجارته ويكون الخراج والمؤنة عليه، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف في أرض الوقف إذا كان الموقوف عليهم اثنين أو ثلاثة فتقاسموا وأخذ كل واحد منهم أرضاً يزرعها بنفسه قال أبو يوسف: إن كانت الأرض عشرية جاز منها ما يأتهم، وإن كانت الأرض خراجية لا يجوز قال: لأن العشر صدقة، وما وقف عليهم كالصدقة عليهم، فصارت الجهة في جميع الغلة واحدة فأشبه سكنى الدار.

إذا كان الموقوف عليهم نفراً فبدالهم أن يقتسموا وأن يسكن كل واحد منهم ناحية منها على سبيل التهايؤ إذ ليس فيه تعين شرط إذ ليس سبيل العشر أن يبدأ كما يبدأ بالخراج والمؤن، وأما في الأرض الخراجية، فإن عادة الواقفين شرطهم بداية الخراج من الغلات، ونحن لو أخرنا التهايؤ لم يكن الخراج في الغلة، بل يكون في ذمة الموقوف عليهم إذ (الحال) صورة التهايؤ، وأن يخص كل واحد منهم بما يخصه، ولما صار بالمنفعة مختصاً كان المالك، فيكون الخراج في ذمته كالمالك، فيكون فيه تعيين شرط الواقف،؛ لأن الواقف شرط أن يكون الخراج في الغلة.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وقد احتال بعض الصكاكين في زماننا في الصكوك في إجارة الوقف لما كان الفتوى على أن إجارة الوقف لا تجوز في السنين الكثيرة فذكروا في الصك أن الواقف وكل فلان بإجارة هذه الضيعة من فلان كل سنة بكذا وهي ما أخرجه من الوكالة فهو وكيل. وأرادوا بذلك بقاء الوقف في يد المستأجر أكثر من سنة. قال الفقيه أبو جعفر: إلا أنا نبطل هذه الوكالة في الوقف، وإن كان القياس تجويزه تحرياً بإصلاح الوقف كما تبطل الإجارة.

وقد اختلف نصير بن يحيى ومحمد بن سلمة في الوكالة بهذه الصفة قال نصير: يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يجوز، قال الفقيه أبو جعفر: إنما اختلفا لاختلافهما في معنى قولهما: مهما عزلتك فأنت وكيلي، قال محمد بن سلمة: معناه كلما عزلتك فأنت وكيلي بالوكالة السابقة، وهذا مخالف للشريعة؛ لأنهما قصدا أن لا يرد على هذه الوكالة العزل، ومن حكم الشرع أن الوكالة يرد عليها العزل. وقال نصير معناه: كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مشايعه، ولو صرح بهذا يصح؛ لأن الوكالة يصح تعليقها بالشروط، فيصح تعليقها بشرط العزل قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبطل هذه الوكالة في الوقف؛ لأنه أصلح للوقف.

(6/144)


استأجر أرضاً موقوفة وبنى فيها حانوتاً وسكنها، فأراد غيره أن يزيد في الغلة ويخرجه من الحانوت ينظر إن آجره مشاهرة، فإذا جاء رأس الشهر كان للقيم فسخ الإجارة إذا كانت مشاهرة ينعقد رأس كل شهر، فبعد ذلك ينظر إن كان رفع البناء لا يضر بالوقف رفعه إن شاء؛ لأنه ملكه، وإن كان رفع البناء يضر بالوقف، فبعد ذلك المسئلة على وجهين: إن كان المستأجر يرضى أن يتملك القيم بناء الوقف بقيمته مثبتا أو منزوعاً أيهما كان أقل يملك القيم ذلك، وإن كان لا يرضى (10أ3) لا يتملك؛ لأن تملك ماله بغير رضاه لا يجوز فيبقى إلى أن يتخلص ملكه.

في «فتاوى أبي الليث» في «فتاوى الفضلي» : فقير يسكن وقف الفقراء بأجر فترك له بحساب الفقراء ما وجب عليه من الأجر يجوز، فالرواية محفوظة عن علمائنا أن من له حق في مال بيت المال إذا ترك عليه خراج أرضه لمكان حقه في بيت المال جاز، هكذا قال في «فتاوى أبي الليث» .
قيم وقف أجر دار الوقف فله أن يحتال بالغلة على مديون المستأجر إذا كان مليئاً، واذا كان أخذ كفيلاً فذاك أولى؛ لانه إذا أخذ كفيلاً فكان المطالب بالأجر اثنان.

في آخر إجارات «فتاوى أبي الليث» : إذا باع الأشجار التي في أرض الوقف ثم أجر منه الأرض، فإن باع الأشجار بعروقها دون الأرض يجوز إذا لم تكن الإجارة طويلة؛ لأن الأرض لا تكون مشغولةً بملك الغير فيصح التسليم، وإن باع الأشجار من وجه الأرض لا تجوز إجارة الأرض؛ لأن الأرض مشغولة بملك الغير وهو عروق الأشجار فلا يصح التسليم، وإن كان قد وقع الأشجار منه معاملة سنة أو سنتين أو ما أشبه ذلك، ثم أجر الأرض منه بأجر المثل، فعلى قول أبي حنيفة لا تجوز إجارة الأرض عنده للعاملة غير الجائزة فتبقى الأرض مشغولةً بحق الأجر فلا تجوز الإجارة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المعاملة جائزة فجازت الإجارة والاحتياط: أن يبيع الأشجار بعروقها ثم يؤاجر الأرض ليكون متفقاً عليه.
وإذا أراد أن يستأجر أجراء ليعملوا في أرض الوقف جاز؛ لأن فيه منفعة راجعة إلى الوقف، مزارعة يجوز إذا لم يكن فيه محاباه راجعة إلى الوقف قدر ما لا يتغابن الناس فيها؛ لأنه إن كان البذر من قبل القيم فهو مستأجر العامل ليعمل في الوقف، وإن كان البذر من قبل العامل فقد أجر الأرض منه ببعض الخارج، وكذلك لو دفع ما فيها من النخيل معاملة يجوز، فإن مات القيم قبل انقضاء مدة المزارعة والمعاملة، وإن مات المزارع والمعامل، فإن المزارعة والمعاملة تبطلان.
وإن دفع القيم أرض الوقف مزارعة سنين معلومة فهو جائز، إذا كان ذلك أنفع وأصلح في حق الفقراء جوز المزارعة سنين معلومة من غير التقدير بالثلاث، والمعنى الذي لأجله استحسن المشايخ أن لا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف هو أن لا يؤدي إلى إبطال الوقف، عسى لا يتأتى في المزارعة يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى.

وإذا دفع أرض الوقف مزارعة أو دفع نخيل الوقف معاملة ولا حظّ فيه للواقف لا

(6/145)


يجوز على الوقف ويصير غاصباً الأرض، فإن سلمت الأرض من النقصان فلا ضمان، وإن نقصت فالضمان واجب إن شاء على الآخذ ولا شيء للموقوف عليهم من الخارج من الأرض، وأما الثمار فهي للموقوف عليهم؛ لأنها تخرج من النخيل ولا شيء للمدفوع إليه من الثمار، إنما حقه في آخر عمله على الدافع في ماله خاصة ولا يرجع به على أحد ذكره هلال في «وقفه» .

في «فتاوى أهل سمرقند» أرض وقف بدرعم وهي ناحية من نواحي سمرقند، استأجره رجل من حاكم درعم بدراهم معلومة وزرعها، فلما حصلت الغلة طلب المتولي الحصة من الغلة كما جرى العرف بالمزارعة بدرعم على النصف أو على الثلث، فقال الرجل عليَّ الأجر، كان للمتولي أن يأخذ الحصة؛ لأن تولية القاضي لهذا المتولي إن كان قبل تقليد الحاكم ثم دخل ذلك تحت تقليده إن كان بعد تقليده خرج عن ولاية تلك الأرض فلم يصح إجارته، فإذا زرعها وقد جرى العرف بالمزارعة على النصف أو على الثلث صار كأن المتولي دفعها إليه مزارعة على ذلك.
في «فتاوى أبي الليث» : وقف ضيعة له على بنيه، فأراد أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد، وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعه، وإنما ذلك للقيم.

قال: أرض الوقف إذا كانت عشرية دفعها القيم مزارعة ومعاملة فعشر جميع الخارج في نصيب الدافع، وهذا على قول أبي حنيفة، فإن عنده في الإجارة بالدراهم العشر على الأجر كالخراج، وعندها: يجب في الخارج فكذلك في المزارعة؛ لأنه إن كان البذر من قبل رب الأرض، فهو مستأجر للعامل، فالعشر كله عليه، وإن كان البذر من قبل الزارع فالقيم يؤاجر الأرض فكان العشر عليه، وكان ينبغي أن لايجب العشر في أرض الوقف في الحاصل على الفقراء إنما وجب؛ لأن الآخذ مختلف؛ لأن حق أخذ العشر للسلطان، وله فيه حق العمالة، وإنما الوقف، فالقيم هو الذي يتصرف فيه. وهو نظير المال المنذور بالتصدق بها إذا حال الحول عليها يجب الزكاة فيها، فيؤدي صاحب المال الخمسة زكاة ويتصدق بالباقي، وإن كان المصرف في كلا الحقين واحداً.
وإذا كانت الدار موقوفة على قوم أحدهما القيم فمات بعضهم قد ذكرنا قبل هذان الإجارة لا تنتقض بموت الموقوف عليه وذكرنا أيضاً أن ما وجب من الأجر قبل موت من مات منهم، فذلك ميراث لورثته وما وجب بعد موته فهو كله للباقين، فإن عجلت الأجرة واقتسمها الموقوف عليهم ثم مات أحدهم فالقياس أن تنقض القسمة ويكون للذي مات حصته من الأجرة مقدار ما عاش؛ لأن المنفعة التي تحدث بعد موته لا يتظهر ملكه ولكنا نستحسن، ولا ينقض القسمة؛ لأن القسمة قد صحت ووقع الملك لكل واحد منهم في نصيبه، فما حدث من السبب المغير في القسمة لا يقدح في القسمة الماضية كرجل مات وترك ألف درهم وعليه لرجل ألف درهم ولرجل ألفان فاقتسما الألف أثلاثاً ثم إن صاحب الألف أبرأ الميت لا تبطل القسمة كذا هنا.

قال: وكذلك على هذا الشرط

(6/146)


تعجيل الأجرة؛ لأن الأجرة كما تملك بالتعجيل تملك باشتراط التعجيل.
قال: إذا أجر الدار الوقف سنة بمائة درهم والموقوف عليهم ثلاثة نفر ثم مات أحدهم بعد مضي ثلث (السنة ثم مات الثاني بعد مضي ثلث) آخر من السنة وبقي الثالث، فإن الثلث الأول من الأجرة بين ورثة الميت الأول وبين ورثة الميت الثاني وبين الباقي أثلاثاً، والثلث الثاني بين ورثة الثاني والباقي نصفان والثلث الثالث كله للباقي، فتخرج المسئلة من ثمانية عشر، قال هلال في «وقفه» : إذا احتاجت الصدقة إلى العمارة وليس في يد القيم ما يعمرها، فليس له أن يستدين عليها،؛ لأن الدين لا يجب ابتداء في الذمة وليس للوقف والفقراء.، وإن كان لهم ذمة إلا أن لكثرتهم لا يتصور مطالبتهم فلا يثبت الدين باستدانة القيم إلا عليه لا يملك قضاؤه من غلة هي للفقراء، وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن القياس هذا، لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون (10ب3) في أرض الوقف زرع يأكله الجراد ويحتاج القيم إلى النفقة بجميع الزروع أو طالبه السلطان بالخراج جاز له الاستدانة؛ لأن القياس يترك بالضرورة. قال: والأحوط في هذه الضرورات أن يستدين بأمر الحاكم؛ لأن ولاية الحكم أعم في مصالح المسلمين من ولايته، فيكون أنفى لشبهة عدم ثبوت الدين، ألا (أن) يكون بعيداً من الحاكم ولا يمكنه الحضور، فلا بأس بأن يستدين بنفسه. وهذا إذا لم تكن السنة غلة، فأما إذا كانت يصرف القيم الغلة على المساكين ولم يمسك للخراج شيئاً، فإنه يضمن حصة الخراج؛ لأن قدر الخراج وما يحتاج إليه الوقف من العمارة والمؤنة مستثنى من حق الفقراء، فإذا دفع القيم ذلك ضمن، وهذا الذي روي عن الفقيه أبي جعفر مشكل؛ لأنه جمع بين أكل الجراد الزرع وبين الخراج ويتصور الاستدانة في أكل الجراد الزرع مال الفقراء، وهذا الدين إنما يستدان لحاجتهم فأمكن إيجاب الدين في مالهم، فأما في باب الخراج فلا يتصور؛ لأنه إن كان في الأرض غلة فلا ضرورة إلى الاستدانة؛ لأن الغلة تباع ويؤدى منه الخراج، وإن لم يكن في الأرض

غلة فليس هنا إلا الرقبة، الوقف ليس للفقراء ولا يستقيم إيجاب دين يحتاج إليه الفقراء في مال ليس لهم، فهذا الفصل مشكل من هذا الوجه إلا أن يكون تصوير المسألة فيما إذا كان في الأرض غلة وكان معه متعذراً للحال وقد طولب بالخراج ثم ما روي عن الفقيه أبي جعفر في الخروج يدل على فضل العمارة أن الوقف إذا كان محتاجاً إلى العمارة وصرف القيم الغلة على الفقراء ولم يمسك للعمارة شيئاً ينبغي أن يضمن. وإذا لم يكن للوقف غلة وقد اشتدت حاجة الوقف إلى العمارة وخيف عليه ضرر بين وقد تحقت الضرورة كما في الزرع بأكل الجراد، وكما في الخراج إذا طولب به، قالوا: وليس قيم الوقف في الاستدانة على الوقف كالوصي في الاستدانة على القيم؛ لأن القيم له ذمة صحيحة وهو ملوم فيتصور مطالبته، ألا ترى أن للوصي أن يشتري لليتيم شيئاً نسيئة من غير ضرورة.

(6/147)


وفي «فتاوى أبي الليث» قيم وقف طلب منه الجنايات والخراج وليس في يده من مال الوقف شيء، فإن أراد أن يستدين، فهذا على وجهين: إن أمره الواقف بالاستدانة فله ذلك، وإن لم يأمره بالاستدانة فقال: اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: والمختار ما قاله الفقيه أبو الليث إنه إذا لم يكن من الاستدانة بد يرفع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بالاستدانة ثم يرجع في الغلة؛ لأن للقاضي هذه الولاية.
وفي «واقعات الناطفي» المتولي إذا أراد أن يستدين على الوقف ليجعل ذلك في ثمن البذر إن أراد ذلك بأمر القاضي فله ذلك بلا خلاف؛ لأن القاضي يملك الاستدانة على الوقف فيملك المتولي ذلك أيضاً بإذن القاضي، وإن أراد ذلك بغير أمر القاضي ففيه روايتان.
متولي الوقف إذا رهن الوقف بدين لا يصح؛ لأن فيه تعطيل منافع الرهن، فإن سكن المرتهن فيه فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ سواء كان معداً للاستغلال أو لم يكن نظراً للوقف. وقد ذكرنا جنس هذه المسألة فيما تقدم.
في «فتاوي أبي الليث» : أرض موقوفة في يدي أكار وكان فيه قطن فسرق القطن فوجده الأكار في منزل رجل فأخذ صاحب المنزل وخاصمه، فقال صاحب المنزل: ضمنت لك أن أعطيك مائة من القطن أيحل للقيم أن يأخذ ذلك؟ فهذا على ثلاثه أوجه: إما أن يعلم أن صاحب المنزل يعطي خوفاً من هتك الستر، أو أن يعلم أنه سرق ذلك المقدار أو أكثر أو أقر بذلك، أو علم أنه سرق لكن مما يعطي، ففي الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ؛ لأنها رشوة، وفي الوجه الثاني جاز؛ لأنه أخذ بناء عليه، وفي الوجه الثالث لا يجوز إلا مقدار ما يعلم يقيناً أنه سرق؛ لأن الدين لم يكن فإذا وقع الشك فيه لا يثبت.
وفي «فتاوى سمرقنديان» : أكار تناول من مال الوقف فصالحه المتولي على شيء، فهذا على وجهين: أما إن كان الأكار غنياً أو فقيراً، ففي الوجه الأول: لا يجوز الحط من مال الوقف، وفي الوجه الثاني: يجوز إذا لم يكن فيه غبن ظاهر.
وفي «فتاوى أبي الليث» : أرض وقف خاف عليها القيم من سلطان أو وارث أن يغلب عليها، يبيعها ويتصدق بثمنها، وكذا كل قيم خاف شيئاً من ذلك فله أن يبيع ويتصدق بالثمن. قال الصدر الشهيد: والفتوى على أن لا يبيع؛ لأن الوقف بعد ما صح بشرائطه لا يحتمل البيع.
في «فتاوى أهل سمرقند» : شجرة وقف في دار وقف خربت الدار ليس للمتولي أن يبيع الشجرة ويعمر الدار لكن يكرى الدار ويعمرها ويستعين بالأجر على عمارة الدار لا بالشجرة؛ لأنه إذا باع الشجرة لا تبقى. وإذا أجر الدار نبقى كلها.

في «فتاوي الفضلي» : الأشجار الموقوفة إن كانت مثمرة لم يجز بيعها إلا بعد القلع؛

(6/148)


لأنها بمنزلة البناء الموقوف، وبيع بناء الوقف لا يجوز قبل الهدم، ويجوز بعد الهدم، وكذا باب الوقف لا يجوز بيعه إلا بعد الرفع كذا هذا، وإن كانت الأشجار غير مثمرة جاز بيعها قبل القلع؛ لأنها بمنزلة الغلة وقد مر مسألة الشجرة قبل هذا من غير تفصيل.

وفي «فتاوى أبي الليث» : قرية وقف على أرباب مسمين في يدي المتولي، باع المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأنه بمنزلة الغلة، فلو أراد المشتري قطع قوائم الشجرة يمنع؛ لأنها ليست بمبيعة، ولو امتنع المتولي من بيع المشتري عن قطع القوائم كان ذلك حسابه منه.
في «فتاوى أبي الليث» : متولي الوقف إذا اشترى بغلة الوقف ثوباً ودفعه إلى المساكين لا يجوز ولكن يعطي الدراهم؛ لأن المشترى وقع للقيم بقي حق المساكين في الدراهم.
ومما يتصل بهذا الفصل: ما ذكر الخصاف في «وقفه» قال: قلت في رجل وقف وقفاً صحيحاً وجعل ولايتها إلى رجل وجعل إليه القيام بأمرها في حال حياته، وبعد وفاته (جعل) لهذا الرجل من غلة هذا الوقف في كل سنة مالاً معلوماً، لقيامه بأمر هذا الوقف فما الذي يجب على هذا الرجل القيم من العمل؟ قال: ليس ذلك على ما يتعارفه الناس من القيام عمارة الضيعة واستغلال ذلك وبيع غلاته وينفق ما يجتمع من غلاته في الوجوه التي سبلها فيه، أرأيت إن لم يباشر الرجل هذا بنفسه؟ قال: إنما يكلف من هذا ما يجوز أن يفعله مثله، ولا ينبغي أن يقصر في ذلك، وأما ما كان يفعله الوكلاء والأجراء فليس ذلك عليه، ألا ترى أنه لو جعل ذلك إلى امرأة أكان عليها ما يعمله الوكلاء؟ فإن حدث بهذا القيم علة مثل خرس أو عمى أو ذهاب عقل أو الفالج هل يكون هذا الأجر قائماً له؟ قال: إذا دخل علة من ذلك شيء يمكنه مع ذلك الكلام والأمر والنهي والأخذ فالأجر قائم، فإن تعطل عن الحفظ والتدبير قطع عنه الأجر، قلت: فما تقول إن طعن عليه في الأمانة، فرأى الحاكم أن يدخل معه غيره في الوقف أو رأى الحاكم إخراج الوقف من يده وتسليمه إلى غيره، قال: أما الإخراج (11أ3) من يد هذا الرجل، فليس ينبغي أن يكون ذلك إلا لجناية ظاهرة، فإذا صح ذلك أو استحسن إخراج الوقف من يده قطع عنه ما أجرى له الواقف، وإن رأى أن يدخل معه آخر ويكون له بعض هذا المال فلا بأس بذلك، وإن كان هذا المال الذي سمى
قليلاً ضيقاً فرأى الحاكم أن يجعل للرجل الذي أدخل معه رزقاً من غلة الوقف، فلا بأس بذلك.، فإن كان الواقف جعل له للقيام بأمر هذا الوقف مالاً معلوماً في كل سنة، وكان المال الذي سماه الواقف لهذا الرجل أكثر من أجر مثله على القيام به فهو جائز، ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله، قلت: وإن كان الواقف جعل لهذا الرجل القيم في كل سنة مالاً، وجعل له أن يوكل بالقيام بأمر هذا الوقف في حياته، ويجعل لمن يوكله من هذا المال في كل سنة....... قال: هذا

(6/149)


جائز، فإن وكل فيه وكيلاً وجعل في ذلك المال شيئاً فله إخراج الوكيل والاستبدال، فإن وكل القيم وكيلاً في حياته، أو جعله وصيه في ذلك بعد وفاته، وجعل المال الذي جُعِل له أو بعضه، ثم إن القيم الذي كان جعله الواقف جن جنوناً مطبقاً، أو ذهب عقله من أذى أو غير ذلك، قال: تبطل الوكالة التي كان جعلها إليه ويبطل المال وكذلك الوصية تبطل إلى من أوصى إليه ويبطل المال ويرجع ذلك إلى غلة الوقف، فإن جعل القيم في كل سنة مالاً ولم يشترط للقيم أن يجعل هذا المال لغيره، قال: وليس لهذا القيم أن يوصي بهذا المال ولا شيء منه إلى غيره أن يوصي بالقيام بأمر هذا الوقف.

ولو زال عقله سنة وعجز عن القيام به ثم رجع إليه عقله وصح، يعود إلى ما كان من القيام بأمر هذا الوقف، وإن صح عند الحاكم أن هذا القيم لا يصلح للقيام بأمر هذا الوقف فأخرجه وجعل مكانه آخر ثم جاء حاكم فادعى أن الحاكم الذي كان قبل ذلك، إنما أوصى عن القيام بأمر هذا الوقف حتى له القيام بذلك، فإن صح عند هذا الحاكم أنه موضع لذلك رده، وأجرى ذلك المال له من غلة هذا الوقف.

ولو أن القاضي أخرج هذا القيم بوجه من الوجوه وأقام غيره مقامه، فينبغي للقاضي أن يجري لهذا الرجل شيئاً بالمعروف ورد الباقي إلى غلة الوقف، فإن كان الواقف أراد أن يكون هذا المال جارياً لهذا القيم، فإن أخرجه القاضي لم يبطل عنه ذلك المال ينبغي أن يشترط في وقفه أن هذا المال جار لهذا القيم أبداً ولا يقول لقيامه بأمر الوقف، فيكون ذلك كله (له) .
في «فتاوي أبي الليث» : رجل وقف على مواليه وقفاً صحيحاً، ومات الواقف (والوقف) في يد القيم، وجعل له عشر غلاته في الوقف.
طاحونة في يدي رجل بالمقاطعة، لا حاجة لها إلى القيم وأصحاب الطاحونة يقضون عليها لا يجب عشر غلة الطاحونة؛ لأن بمنزلة الأجير، والأجير مستحق الأجر بإزاء العمل فلا عمل له في الطاحونة.
في «مجموع النوازل» : متولي وقف بتقليد القاضي امتنع عن العمل في ذلك بنفسه ولم يرفع الأمر إلى القاضي ليعزله ويقيم غيره مقامه، هل يخرج عن كونه متولياً؟ قال نجم الدين رحمه الله: فإن امتنع عن القاضي ما على المتغلبين زماناً ولم يقبضه هل يأمر بذلك؟ قال نجم الدين: لا، فإن هرب بعض المتغلبين بعدما اجتمع عليه مال كثير من حق القتالة هل يضمن المتولي؟ قال نجم الدين: لا.

الفصل الثامن: في الوقف على نفسه وما يتصل به
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على نفسي قال هلال: لا يجوز؛ لأن الواقف لو شرط لنفسه أن يأكل من غلته على قول أبي يوسف: يجوز، على ما مر، وليس عن محمد

(6/150)


رواية ظاهرة في هذه الصورة، واختلف المشايخ على قوله. بعضهم قالوا: لا يجوز عنده؛ لأن عنده الإخراج عن يده والتسليم إلى متولٍ شرط، وإذا كان الوقف على نفسه كان المتولي قابضاً للواقف فكأنه لم يخرج من يده. وبعضهم قالوا على قول محمد يجوز فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف إذا وقف على أمهات أولاده يجوز، والوقف على أمهات الأولاد كالوقف على نفسه. وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يجيز أن يشترط لنفسه الأكل، فيقول: على أن آكل منها ولا يجيز الوقف على نفسه، وكان يقول: الوقف على نفسه خرج مخرج الفساد فبطل، وشرط الأكل لنفسه خرج بعد خروج الوقف على وجه الصحة، فوجه قول أبي يوسف: أن قوله أرضيَّ صدقة موقوفة وقف صحيح تام على الفقراء فبفوات معنى الصدقة في الاستثناء لا يبطل أصل الوقف كما لو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة على فلان، وجه قول هلال: أن الإنسان لا يكون متصدقاً على نفسه كما لا يكون واهباً من نفسه؛ لأن كل واحد منهما تمليك والتمليك من نفسه لا يتصور، فذهب معنى القربة فينبغي الحبس مطلقاً، ومَاْلُه يكون محبوساً عليه قبل الوقف، فلا معنى للاستغلال بالحبس على نفسه بخلاف الغني؛ لأن التمليك منه متصور، وفيه نوع قربة ولكن دون قربة الفقراء؛ فأما هنا فأصل التمليك لا يتصور.

وكان ينبغي على قول هلال أن يلغي ذكر نفسه ويجعل وقفاً على الفقراء كما لو قال: أرضي صدقة موقوفة على الموتى، فإنه يكون وقفاً صحيحاً على الفقراء، ويلغوا ذكر الموتى، والفرق بينهما على قول هلال أن الميت في نفسه ليس من أهل التمليك، فلغت الإضافة إليه، أما نفسه من أهل التمليك في الجملة ولكن تمليكه من نفسه لا يتصور، فمن حيث إنه أهل التمليك في الجملة اعتبرت الإضافة، ومن حيث إن تمليكه من نفسه لا يتصور لا تعتبر الإضافة، عند الوقف.
فإذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على أمهات أولادي، أو قال: على عبيدي فالوقف باطل، وهذا إنما يتأتى على قول هلال؛ لأن الوقف على أمهات أولاد والعبيد كما (لو) وقف على نفسه، ولو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة عليَّ ومن بعدي على فلان كان باطلاً، وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على فلان ثم من بعده عليَّ كان باطلاً على قول هلال، بخلاف ما إذا قال: أرضي صدقة موقوفة عليَّ وعلى فلان حيث يصح نصفه وهو حصة فلان؛ لأن في الفصل الأول أثبت الغلة كلها لفلان في زمان ولنفسه في زمان، وشرط الكل لنفسه في زمان مبطل الوقف، وفي هذه المسألة ما أثبت الغلة كلها لنفسه في زمان بل أثبت الحصة بين نفسه وبين فلان في الغلة في جميع الأزمان.

ولو أفرد الوقف على نفسه لا يصح ولو أفرد على غيره يصح، فإذا جمع بينهما كان بينهما وكان لكل واحد حكم نفسه. وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على نفسي وولدي ونسلي كان الوقف كله باطل؛ لأن حصة النسل مجهولة وهذا على قول هلال أيضاً.

(6/151)


الفصل التاسع: في الوقف على ولده وولد ولده ونسله وما يتصل بذاك
إذا وقف الرجل أرضه على ولده ومن بعده على المساكين وقفاً صحيحاً، فإنما يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم وجود الغلة سواء كان موجوداً (11ب3) يوم الوقف أو وجد بعد ذلك وهذا قول هلال. وبه أخذ مشايخ بلخ، وقال يوسف بن خالد السمتي: يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم الوقف، وأراد بهذا الوجود: الخلق، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، قال: لأن الحق إنما يملكه في الوقف يوم الوقف بدلالة أن الواقف لا يقدر على الرجوع منه على قول مجيزي الوقف، ولا يملك إدخال غيرهم عليهم ويعتبر شرط يوم الوقف فصار يوم الوقف كيوم موت الموصي في الوصية. ومن أوصى لولد عبد الله، ننظر إلى ولد عبد الله يوم موت الموصي في الوصية كذلك ههنا.
ووجه قول هلال أن الموقوف عليه لا يملك الرقبة، بل يملك الغلة، والغلة معدومة يوم الوقف والمعدوم لا يملك، وإنما يملك الموجود، فصار في حق الموقوف عليه يوم وجود الغلة كيوم موت الموصي في حق الموصى له وفي حق الواقف رقبة الوقف تزول عن ملكه يوم الوقف فروعي شرطه يوم يزول ملكه.
ولو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي من الولد، فإذا انقرضوا فعلى المساكين، فالجواب عليه كالجواب في الفصل الأول، وهو أنه ينظر إلى ولده يوم وجود الغلة؛ لأن قوله وعلى من يحدث لي من الولد شرط لو لم يذكر لكان معتبراً، فإنه لو حدث له ولد بعد الوقف قبل الغلة يشاركهم، فإذا شرط كان الشرط تأكيداً لمقتضاه لا تغييراً.

(ولو) قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد، فإنه يجوز، فإذا أدركت الغلة قسمت على الفقراء، فإن أحدث له ولد بعد ذلك فلاحظ له من هذه الغلة؛ لأن أوان استحقاق هذه الغلة سبق حدوث هذا الولد، ولكن الغلة التي توجد بعد ذلك تصرف إلى هذا الولد ما بقي، فإذا لم يبق له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة تكون وقفاً على الفقراء، وذكر الولد لاستثناء الغلة من الفقراء فصار كأنه قال: أرضي موقوفة على الفقراء إلا أنه إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي، فإن ولدت امرأته الحرة أو أم الولد الولد بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر يشركهم هذا الولد في هذه الغلة؛ لأنه كان موجوداً وقت مجي الغلة.

وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا لم يشركهم؛ لأن استحقاقهم ثابت ظاهراً، ووجوده في ذلك الوقت مشكوك فيه لجواز أنه حدث من بعد، فلا تثبت مزاحمته بالشك، ولو كان له أمة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم وجدت الغلة فادعاه يثبت نسبه منه، ويكون ابنه ولا يدخل في هذه الغلة، ويدخل فيما يأتي بعد ذلك من الغلات، ولا يصدق على هذا الرجل على أن يدخل مع أولاده الذين استحقوا هذه الغلة ولد لا يعرف إلا بقوله، فإن مات الواقف ساعة جاءت الغلة فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من الساعة

(6/152)


التي جاءت فيها الغلة شرك الأولاد في الغلة؛ لأن المتوفى عنها زوجها إذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين وقت الوفاة يثبت النسب على ما عرف في كتاب الطلاق فإن عاش بعد إدراك الغلة من الوقت ما يمكنه الوصول إلى أهله فمات فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من وقت إدراك الغلة لاحق لهذا الولد في هذه الغلة لعلمها بوجوده حين مجيء الغلة، ولو كان الموت قبل مجيء الغلة بيوم أو بيومين ثم جاءت بولد ما بينها و (بين) سنتين من وقت الموت كان لهذا الولد حصته، في هذه الغلة؛ لأن الموت لو كان وقت مجيء الغلة كان للولد حصته فإذا كان قبله أولى؛ لأنه أدلُّ على وجود الولد عند الغلة، وكان النسب ثابتاً فلهذا يستحق.

ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على ولدي الذين يسكنون البصرة، فالغلة لساكني البصرة من ولده دون غيرهم فيثبت الاستحقاق لولده بصفة أن يكون ساكن البصرة، فتعلق الاستحقاق بالولادة وسكنى البصرة جميعاً، ويعتبر ساكني البصرة يوم وجود الغلة على ما مر من ولده، ولو قال: أرضي صدقه موقوفة على ولدي العور والعميان، فالوقف لهم خاصة دون غيرهم؛ لأنه علق الاستحقاق بصفة العور وصفة العمى فيتعلق بهما. ويعتبر العور والعميان من ولده يوم الوقف لا يوم الغلة.
وكذلك إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أصاغر ولدي، يعني ولدي الصغار، فالوقف للصغار دون الكبار، ويعتبر الاستحقاق من كان صغيراً وقت الوقف لا وقت الغلة، وأما العور والعميان فلأن العور والعمى وصف لازم لا يزول، وقد ذكره لزيادة التعريف، فجرى مجرى اسم العلم، ولو ذكر باسم العلم بأن قال: أرضي صدقة موقوفة على فلان ولدي اختص فلان بالاستحقاق من جملة أولاده، فلو ولد بعد ذلك له ولد آخر وسماه بذلك الاسم لم يشارك الثاني الأول في الاستحقاق، فكذلك في العور والعمى. وأما الصغر، وإن كان مما يزول بالكبر ولكنه يزول زوالاً لا يعود بخلاف الفقراء وساكني البصرة؛ لأن الفقر يزول عن الإنسان ويعود، فتارة يستغني، فلم يكن الثبوت تاماً ولا الزوال. وكذلك السكنى.
فصار الحاصل أن الاستحقاق إذا كان ثابتاً بصفة لا تزول أو تزول ولكنها لا تعود بعد الزوال، يعتبر في الاستحقاق قيام تلك الصفة وقت مجي الغلة، فعلى هذا الأصل يدور جنس هذه المسائل.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على ولد فلان، وليس لفلان ولد لصلبه وله ولد الولد يريد به ولد الابن كانت لولد الابن. ولو كان لفلان ولد لصلبه وولد الولد فلا شيء لولد الولد. وكذلك هذا في ولد الواقف وولد ولده، وهذا؛ لأن اسم الولد عند الاطلاق يتناول ولد الصلب ولا يتناول ولد الولد؛ لأن المطلق من الأسامي يتناول المطلق من المسميات، وولد الانسان مطلقاً ولد لصلبه؛ لأنه يولد منه بلا واسطة، أما ولد الولد يولد منه بواسطة فكان ولداً مقيداً. والمقيد لا يدخل تحت المطلق إلا لدليل، ففيما إذا لم يكن له ولد لصلبه وجد دليل، وهو صيانة تصرفه؛ لأنه إذا لم يكن له ولد لصلبه لو لم يحمل

(6/153)


على ولد الابن يلغوا تصرفه، ومثل هذا الدليل لم يوجد فيما إذا كان له ولد لصلبه.

إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي انصرف إلى البطن الأول يريد به ولد صلبه ولا يشارك البطن الثاني البطن الأول يريد بالبطن الثاني ولد الابن، فما دام واحد من البطن الأول فالغلة له، وإن لم يبق واحد من ذلك البطن فالغلة للفقراء ولا يصرف إلى البطن الثاني، فإن لم يوجد البطن الأول ووجد البطن الثاني وهو ولد الابن، فالغلة للبطن الثاني ولا يشاركه من دونه من البطون، وجعل الحال في حق ما بين البطن الثاني ومن دونه من البطون كالحال في حق ما بين البطن الأول والثاني ولو عدم البطن الأول والثاني ووجد البطن الثالث والرابع ومن دونه اشترك البطن الثالث ومن دونه من البطون، وإن كثرن البطن (12أ3) الثالث قد فحش بعده كالبطن الرابع والخامس، ألا ترى أنك إذا نسبت إلى الأب الأعلى بذكر الوسائط، فتقول ولد ولد ولد فلان فتذكر ثلاثة أباء والثلاث جمع صحيح؟ فثلاث إلى النسبة بعيد والبعيد إذا فحش يتعلق الحكم بنفس الانتساب، كما لو أوصى لبني تميم، أو لبني هاشم، أو لأولاد أبي بكر انصرف إلى منتسبهم، ويستوي فيه من بعدت ولادته ومن قربت كذا ههنا، فأما في البطن الثاني فالبعد غير متفاحش، ألا ترى أنك إذا نسبته إلى الأب الأعلى بذكر واسطتين؟ فتقول هذا ولد ولد فلان فلا يتعلق الحكم بنفس الانتساب؟ وكل جواب عرفته في الوقف على ولده فهو الجواب في الوقف على ولد فلان.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي اختص به البطن الأول، و (لو) لم يذكر غيره اختص به البطن الأول، فإذا ذكرهما اختصا به، لو قال: على ولدي وولد ولدي فالقياس أن يختص به البطون الثلاث كما قلنا في البطنين. وفي الاستحسان إن اشترك البطون كلها، وإن سفلوا، لما ذكرنا أن البعد إذا فحش يعتبر مجرد النسبة ويسقط اعتبار الأقرب.
وإذا وقف أرضه على ولده وليس له ولد لصلبه وله ولد الابن صرفت الغلة إلى ولد الابن، فإن وجد له ولد لصلبه بعد ذلك صرفت الغلة المستقبلة إلى الولد لصلبه؛ لأن كل غلة تدرك، فإنما ينظر إلى مستحقها وقت الإدراك، ولا ينظر إلى ما مضى لما مر، فإذا وجد وقت الإدراك من سماه الواقف، صرفت الغلة إليه سواء كان موجوداً يوم الوقف أو حدث بعده. ألا ترى أن من جعل أرضه صدقة موقوفة على ولده وليس له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؟ فإن حدث له بعد ذلك ولد صرفت الغلة المستقبلة إليه كذا ههنا.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله ابنان فصاعداً استحقا جميع الغلة، وإن حصل الإيجاب بلفظ الجمع؛ لأن في المثنى معنى الجمع من وجه يضم الواحد إلى الواحد، ألا ترى أن في باب الوصية أعطى المثنى حكم الجمع؟ وكذا في الوقف نظير الوصية، ولو لم يكن له إلا ابن واحد، كان للابن نصف الثلث والنصف الآخر للفقراء، ألا ترى أن من أوصى بثلث ماله لبني فلان وليس لفلان إلا ابن واحد كان للابن نصف الثلث؟ والثلث الآخر يكون لورثة الموصي وليس اسم الابن كاسم الولد، فإنه إذا وقف

(6/154)


على ولده وله ولد واحد كان جميع الغلة له، ولو كان له أولاد قسمت الغلة بينهم؛ لأن الولد بصيغته اسم وجدان وبمعناه اسم جنس؛ لأن معنى الولادة يعم الجنس واحداً كان أو جماعة فيصح صرفه إلى الواحد بصيغته وإلى الجمع بمعناه بخلاف قوله بني؛ لأنه اسم جمع بصيغته وبمعناه حتى لو قال: أرضي صدقة موقوفة على ابني وله ابن واحد كان له جميع الغلة؛ لأن الابن اسم وجدان بصيغته، فإنما أوجب الغلة للواحد.

ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله بنون وبنات قال هلال: هم جميعاً في الوقف سواء؛ لأن البنين والبنات عند الاجتماع تسمى بنين، وهكذا ذكر الحصاف في «وقفه» ، ورواية عن أبي حنيفة وعن يوسف بن خالد السمتي فيمن أوصى بثلث ماله لبني فلان وله بنون وبنات فالثلث لهم جميعاً وهم فيه سواء، فكذا الوقف. قال هلال: وروى يعقوب عن أبي حنيفة أن ذلك للبنين دون البنات، علل فقال: ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان؟ بعض مشايخنا على أن مسألة روايتان عن أبي حنيفة وبعضهم وفق بين الروايتين، فقال: ما روي أنه يدخل فيه البنين والبنات مجعول على ما إذا كان فلان أب قبيلة، كبني تميم، وما روى أنه لا يدخل فيه البنات، مجعول على ما إذا كانوا بني أب يحصون، وقد أشار في التعليل إلى ما قلنا، حيث قال: لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان، وهذا إنما يستقيم فيما إذا كانوا بني أب يحصون صح ذلك، فإنه يستقيم أن يقال: هذه المرأة من بني تميم، ونحوه. روي عن أبي يوسف في الوصي، فإنه قال: الثلث للبنين دون البنات، إلا في كل أب يحسن أن يقال هذه المرأة من بني فلان مثل فخذ أو قبيلة.
ولو قال: على بني وليس له بنون وله بنات فالغلة للفقراء ولا شيء للبنات؛ لأن اسم البنين لا يتناول البنات المفردات، وكذلك إذا قال: على بنات وله بنون فالغلة للفقراء ولا شيء للبنين، ولو كان الوقف باسم الولد دخل فيه البنون والبنات؛ لأن الولد اسم مشتق من الولادة، وهذا المعنى يوجد في الفريقين.
ولو قال: على ولدي وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل فيه ولد الابن بلا خلاف وقد مر هذا، وهل يدخل فيه ولد البنت؟ ذكر هلال أنه لا يدخل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» .
h

وفي شروط «الخصاف» أن ولد البنت يدخل في هذا، الوقف فصار في المسألة روايتان وفي كتاب الحج على أهل المدينة لمحمد بن الحسن رحمه الله في قوله ولد الولد أنه يدخل فيه ولد الابنة عند أصحابنا رحمهم الله، وفي «مسائل علي الرازي» جمعها في الحسابيات: إذا وقف على أولاده وأولادهم دخل فيه ولد الابن وولد الابنة.
وفي «السير الكبير» : إذا استأمنوا على أولادهم دخل فيه ولد الابن، وهذا؛ لأن ولد الولد حقيقة اسم لابن ولده وولده، وابنته ولده، فمن ولديه ابنته، يكون ولد ولده حقيقة بخلاف ما لو استأمنوا على أولادهم؛ لأن أولاد الرجل في الحقيقة من ولدهم هو ومن حيث الحكم من يكون منسوباً إليه بالولادة، وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات.

(6/155)


وإذا وقف على نسله دخل فيه ولد الابن وهل يدخل فيه ولد الابنة؟ ذكر هلال أن فيه روايتين عن أصحابنا، وإذا وقف على ولده ونسله وله أولاد الصلب وأولاد الأولاد، وإن بعدت ولادتهم، فأولاد الصلب يدخلون تحت اسم الولد وتحت اسم النسل، وأولاد الأولاد يدخلون تحت اسم النسل، ولواقف على ولده ونسله وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل ولد الولد في الوقف باسم الولد والنسل، فإن حدث له ولد لصلبه دخل في الوقف أيضاً باسم الولد والنسل.
ولو قال: على ولدي المخلوقين ونسلي، دخل الولد الحادث لصلبه في الاستحقاق بلفظ النسل إلى نفسه والولد الحادث من نسله، بخلاف ما إذا قال: على ولدي المخلوقين ونسلهم حيث لا يدخل في الاستحقاق ما حدث له من ولد الصلب؛ لأنه أضاف الاستحقاق في حق أولاده لصلبه إلى المخلوقين، والمعدوم لا يكون مخلوقاً، وفي حق النسل أضاف الاستحقاق إلى النسل المضاف إلى أولاده.

وكذلك إذا قال: على ولدي المخلوقين وعلى أولادهم لا يدخل في الاستحقاق من حدث له (21ب3) ولد لصلبه ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم ونسلهم دخل أولاد المخلوقين فيه وأولادهم أبداً ما تناسلوا، وهذا؛ لأن قوله: أولاد أولادهم، إن كان خاصاً في أولاد الأولاد، فالنسل عام، فيدخل في الاستحقاق أولاد أولاد الأولاد بالنسل، ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم وسكت؛ لم يكن لولد ولده شيء؛ لأنه يثبت الاستحقاق لأولاده القيام ولأولاد أولادهم، فلا يكون لولد الولد شيء.
ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهم دخل عبد الله في الاستحقاق وزيد وعمرو وأولادهم أبداً ما تناسلوا؛ لأنه نص على الأصول الثلاثة وعلى نسل المضاف إليهم. ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسله دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ومن حصل من أولاد عمرو خاصة؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن واحد منهم والكناية تنصرف إلى أقرب المكني ذكراً وأقربهم هنا عمرو.
ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهما دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ودخل أولاد زيد وعمرو؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن اثنين، فينصرف إلى اثنين وهما عمرو وزيد، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل.
ولو قال: على ولد عبد الله وعلى ولد زيد، وليس لزيد ولد كانت الغلة كلها لولد عبد الله، وهو نظير الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله ولولد زيد وليس لزيد ولد كان الثلث كله لولد عبد الله.

ولو قال: على بني فلان ثم من بعدهم على المساكين وليس لفلان إلا ابن واحد، فله نصف الغلة. ولو قال: على ولد فلان ثم من بعدهم على المساكين، وليس لفلان إلا ولد واحد، فالغلة كلها له، وقد مر جنس هذا فيما تقدم.
ولو قال: على ولدي وولد ولدي الذكور، فإنه يدخل في الاستحقاق بنوه وبنو بنيه

(6/156)


وبنو بناته، وهذا على الرواية التي قال: ولد البنت يدخل في هذا الباب، فقد جعل قوله الذكور راجعاً إلى الولد الأول والثاني ذكراً، ولم يجعل راجعاً إلى الولد الآخر ذكراً، وإن كان الولد الآخر ذكراً أقرب إلى لفظ الذكور إذ لو جعل كذلك دخل في الوقف البنون والبنات من صلبه؛ لأن البنين والبنات من ولده، ولم تدخل البنات في هذا الوقف، وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود من ذكر الذكور تعريف المستحقين، والمستحقون الولد وولد الولد، فيرجع نعت الذكور إليهم، كأنه قال: على ولدي الذكور وعلى الذكور من ولد ولدي. ولو قال: على ولدي وأولاد الذكور من ولد ولدي كان هذا وقفاً على البنين والبنات من بنيه؛ لأن الذكور هنا مضاف إليهم والمضاف إليهم في أولاد أولادهم إلا ما دون المستحقين.
إذا قال في صحته: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على ولدي وولد ولدي وأولاد أولادهم ونسلهم أبداً ما تناسلوا، فإنه يدخل في هذه الصدقة كل ولد كان له يوم وقف هذا الوقف، وكل ولد يحدث له بعد هذا الوقف قبل حدوث الغلة وولد الولد أبداً، ومن مات منهم قبل حدوث الغلة سقطت حصته، ومن مات بعد ذلك استحق سهمه ويكون ذلك لورثته، والبطن الأعلى والبطن الأسفل في ذلك على السواء، إلا إذا قال في وقفه: على أن يبدأ في ذلك بالبطن الأعلى منهم، ثم بالبطن الذي يلونهم.، فإن قال على هذا الوجه، فمات البطن الأعلى وبقي ولده كانت الغلة كلها لهذا الباقي وحده دون البطن الذي يليه.

المحيط البرهانى
وإن قال: على أن يبدأ بالبطن الأعلى من الذين يلونهم على أن ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فجاءت الغلة والبطن الأعلى ولا أنثى معهم، أو إناث لا ذكور معهن، فذلك كله بينهم على السواء، وهذا بخلاف الوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لولد زيد بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكان لزيد ثلاث بنين، فالثلث بينهم يقسم عليهم، وعلى بنت لو كانت معهم، فما أصاب الابنة من الثلث يرد على ورثه الموصي؛ لأن ما يبطل من بالوصية يعود إلى التركة ويكون ميراثاً والوقف لا يكون كذلك.
وإن قال: على ولدي وولد ولدي أبداً ما تناسلوا ولم يقل بطناً بعد بطن، لكنه قال: كلما مات أحد كان نصيبه من هذه الغلة لولده، فالحكم قبل موت بعضهم ما ذكرنا أن الغلة تكون لجميع ولده وولد ولده ونسله بينهم بالسوية.

وإن مات بعض ولد الواقف لصلبه وترك ولدا ثم جاءت الغلة، فالغلة تقسم على عدد القوم على الولد وولد الولد، وإن سفلوا، وعلى الذي مات من ولد الصلب، فما أصاب الميت من الغلة كان ذلك لولده ويصير لولد هذا الميت سهمه الذي جعله له الواقف وسهم والده.
وهذا بخلاف الوصية.، فإن قال: أوصيت لفلان بألف درهم، وأوصيت بثلثي لقرابتي وكان الموصى له بألف من قرابته، فإنه ينظر إلى ما يصيبه من الثلث إذا كان من القرابة وما يصيبه من الألف من جملة الثلث، فيعطى الأكثر من ذلك ويعطى من وجه واحد ولا يجمع ذلك له.

(6/157)


ولو قال: على ولدي وولد ولدي ونسلهم وأولادهم أبداً ما تناسلوا على أن يبدؤوا في ذلك بالبطن الأعلى ثم بالبطن الذين يلونهم إلى آخره بطناً بعد بطن، فكلما حدث الموت على واحد منهم وترك ولدا كان نصيبه من الغلة لولده وولد ولده ونسله أبداً ما تناسلوا على أن يقدم الأعلى، وكلما حدث الموت على واحد منهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا نسلاً ولا عقباً كان نصيبه من هذه الصدقة مردودة إلى أصل هذه الصدقة، فقسمت الغلة سنين على البطن الأعلى فمات البعض بعد ذلك وترك ولداً وولد ولد، فإن الغلة تقسم على أولاد الواقف من كان موجوداً وقت الوقف، من حدث بعد ذلك، فما أصاب الأحياء من ذلك أخذوه، وما أصاب الموتى كان لولد من مات منهم على ما شرط الواقف من تقديم البطن الأعلى اعتباراً لشرط الواقف.
ولو لم يترك الميت من البطن الأعلى ولداً لصلبه، وإنما ترك ولد ولد، فإن نصيب الميت من الغلة لولد ولده وهو من البطن الثالث، وكذلك إن كان أسفل من الثالث؛ لأن الواقف كذا شرط، وإن كان عدد البطن الأعلى عشرة أنفس، فمات منهم اثنان ولم يتركوا ولدا ولا ولد ولد فتنازعت الأربعة الباقون من البطن الأعلى وولد الابنين الميتين قسمت الغلة يوم يأتي على هؤلاء الأربعة وعلى الميتين الذين تركا أولاداً كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين تركا أولاداً كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين لم يتركوا أولاداً هذه المسألة وأجناسها في وقف الخصاف في باب قبل باب الوقف.

ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة للمساكين على أن يبدأ ولدي لصلبي فيجري غلة هذا الوقف عليهم، ثم بعدهم على أولادهم ونسلهم، فإنه تكون الغلة لولده وولد ولده على ما شرط، ثم على المساكين. وكذلك إذا قال: غلة صدقتي هذه للمساكين لا تخرج عنهم، وقال مع هذا: وعلى أن يجري غلة هذه (31أ3) الصدقة على قرابتي ما بقي منهم أحد، فإن غلة هذه الصدقة تكون لقرابته أبداً، ثم من بعدهم على المساكين.

ولو قال: على أن تكون غلتها لعبد الله بن جعفر ولولد زيد أبداً ما بقي منهم أحد، فإذا انقرضوا، فهي على المساكين، فإن الغلة تقسم على عدد ولد زيد وعلى عبد الله، فإن كان ولد زيد خمسة يقسم على ستة أسهم، وعلى هذا القياس جنس هذه المسائل في هذا الباب أيضاً.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على ولدي وولد ولدي ونسلي ثم مات، فإن الوقف على ولده لصلبه لا يجوز؛ لأن الوصية للوارث لا تجوز، وعلى ولد ولده تجوز؛ لأنهم لا يرثونه ولا يكون الكل لهم ما دام ولد الصلب حياً؛ لأنه لم يجعل الكل لهم فيقسم الغلة في كل سنة على عدد رؤوس ولد الصلب وعلى عدد رؤوس ولد الولد، فما أصاب ولد الولد فهو لهم وقف، وما أصاب ولد الصلب، فهو ميراث بين جميع الورثة حتى يشاركهم الزوج والزوجة وغيرهما؛ لأن الميراث لا يختص به بعض الورثة دون البعض، فإن مات بعض ولد الصلب، فالغلة تقسم على عدد رؤوس ولد الولد

(6/158)


وعلى الباقي من ولد الصلب، فما أصاب الباقي من ولد الصلب يكون بين جميع ورثة الميت الأحياء والأموات، كل من كان حياً منهم عند موت الواقف لما ذكرنا أن ولد الصلب إنما يستحق ذلك بطريق الإرث، فلا ينصرف ثبوته، بل يكون لكل من كان وارثاً عند موت الواقف، ثم من مات منهم تكون حصته لورثته، فمن كان ولد ولد الصلب للميت يستحق لوجهين ما يصيبه بالقسمة يستحقه بالوقف، وما يصيب أبوه يستحق بالإرث من جهة ابنه

الفصل العاشر: في الوقف على فقراء قرابته
إذا قال: أرضي هذه صدقة على فقراء قرابتي، أو قال: على فقراء ولدي ثم من بعدهم على المساكين، فهذا الوقف صحيح والمستحق للغلة من كان فقيرا يوم مجيء الغلة عند هلال، وبه نأخذ.
ولو قال: على من افتقر من قرابتي، فهذا على من افتقر بعد الغناء، وعند محمد وقال غيره: هذا من كان فقيراً يوم مجيء الغلة سواء كان فقيراً من الأصل أوكان غنياً ثم افتقر كقوله: على من احتاج من قرابتي، فهو على من كان محتاجاً من الأصل أو كان غنياً ثم احتاج، وكقوله: على من يسكن البصرة من قرابتي يعتبر سكناه بالبصرة يوم مجيء الغلة سواء كان ساكناً بالبصرة من الابتداء أو لم يكن ساكناً، وإنما سكن الآن ثم من له المسكن لا غير أو كان له مسكن وخادم، فهو فقير في حق الزكاة والوقف.
وكذلك إذا كان له مع ذلك ثياب كفاف لا فضل فيها، وكذلك إذا كان مع ذلك متاع البيت ما لا غنى عنه؛ لأن هذه الأشياء من جملة ما (لا) بد منه، وإن كان له مائتا درهم أو عشرين مثقال ذهب، فلا حظ له من الوقف؛ لأنه غني، ألا ترى أنه وجب عليه الزكاة، وإن كان له فضل من متاع البيت أو الثياب، وذلك الفضل يساوي مائتي درهم فصاعدا فهو غني لا يحل له الزكاة ولا الوقف، وإن كان له مسكنان أو خادمان والمسكن الفاضل والخادم الفاضل يساوي مائتي درهم فهو غني في حق خدمة الزكاة والوقف، وإن لم يكن غنياً في حق وجوب الزكاة، وهذا مذهب أصحابنا رحمهم الله.

وإن كان له أرض تساوي مائتي درهم وليس تخرج له ما يكفيه قال أبو يوسف: هو غني لا يعطي من الزكاة والوقف، وهو قول هلال، وقال محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل الرازي: هو فقير، وقال الفقيه أبو جعفر: إذا كان لا يخرج من الغلة ما يكفيه لنقصان في الأرض فهو فقير، وإن كان نقصان الغلة بقاء هذه الأرض وقصوره في القيام عليها فهو غني، فإن كان له مال غائب عنه أو كان على الناس ديون وهو لا يقدر على أخذه حل له الزكاة والوقف، وإن كان يقدر على الاستقراض، فالاستقراض له خير من متولي الزكاة والوقف ومع هذا لوصل الزكاة والوقف والحالة هذه لا يكره؛ لأنا جعلنا

(6/159)


مال الغائب والدين الذي لا يقدر على أخذه كأن لم يكن له مال، وهو يقدر على الاستقراض فلم يستقرض وأخذ الزكاة والوقف أليس انه لا يكره كذا هنا.
والفقير الكسوب لا بأس أن يأخذ من غلة الوقف، وإن كان لا يحل له الزكاة؛ لأن باب الوقف واسع، ألا ترى أنه لا يجوز أخذ الزكاة لفقراء بني هاشم، ويجوز لهم أخذ غلة الوقف إذا سموا في الوقف، وإن كان له دين على مفلس فهو فقير، وإن كان على مليء وهو مقر به فهو غني، وإن كان منكراً وله نية فكذلك، وإن لم يكن له نية فهو فقير.

ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي وفيهم رجل فقير يوم مجيء الغلة فاستغنى قبل أن يأخذ حصته فهذه حصته؛ لأن الملك قد وجب له يوم مجيء الغلة. ألا ترى أن من مات بعد مجيء الغلة قبل أخذ نصيبه لا يبطل نصيبه، وإنما لا يبطل لما قلنا، فإن ولدت امراة من قرابته ولداً بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر فلا حصة لهذا الولد في هذه الغلة؛ لأن الاستحقاق بصفة الفقراء مع صفة القرابة، وصفة الفقر غير ثابتة للحمل؛ لأن الفقر هو الحاجة ولا حاجة للحمل إلى شيء، وإنما يثبت له صفة الفقر بالانفصال عن الأم فهو كواحد من قرابته كان غنياً يوم مجيء الغلة ثم افتقر بعد ذلك لا يستحق من هذه الغلة شيئاً كذا ههنا.

ولو قال: على من كان فقيراً من نسل فلان، وليس في نسل فلان إلا فقير واحد، فله جميع الغلة؛ لأن كلمة (من) جهة تصلح كناية عن الجماعة وعن الواحد، قال الله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك} (الأنعام: 25) ذكر الاستماع بلفظة الوحدان ثم قال: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} (الأنعام: 25) يفقهوه بخلاف ما لو قال: على فقراء بني فلان أو قال: على فقراء آل فلان، وليس فيهم إلا فقير واحد، فله نصف الغلة؛ لأنه نص على صيغة الجمع هنا وأقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في هذا الباب المثنى، فصار موجباً لهذا الواحد نصف الغلة.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف رجل آخر أرضه على مثل ذلك وفي أولاد عمر فقراء فأي الغلتين أدركت فهي لهم، وإن أدركت إحدى الغلتين فأصاب كل واحد منهم تلك مائتا درهم فصاعداً ثم أدركت الغلة الأخرى وعندهم ذلك فلا حقَّ لهم في الأخرى؛ لأن صفة الفقر قد بطلت قبل مجيء الغلة الأخرى، ولو أدركت الغلتان معاً كانتا لهم، وإن كان يصيب كل واحد رجل منهم من كل غلة ما يصير به غنياً؛ لأن صفة الفقر قائمة عند الغلتين وهو نظير ما (لو) أوصى رجلان كل واحد منهما بثلث ماله لفقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوقع على الرجلين بيت وماتا قبلت كل واحد منهما لفقراء ولد عمر، وإن كان كل واحد منهما يغنيهم.
كذلك لو كان الواقف رجلاً واحداً وقد وقف وقفين أرضين في وقتين كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الوقف من رجلين إخوان الأب والأم وقفا على فقراء قرابتهما، فجاء بفقير واحد من القرابة ينظر إن كانا وقفا أرضاً مشتركاً بينهما (13ب3) يعطى هذا الفقير قوت واحد،؛ لأن هذا وقف واحد.

(6/160)


وإن وقف كل واحد أرضاً على حدة يعطى من كل واحد على حدة، والمراد من القوت في جنس هذه المسائل الكفاية، فإن كان الوقف أرضاً يعطى كفاية سنة بلا إسراف ولا تقتير؛ لأن غلة الأرض إنما يحصل بالسنة، وإن كان الوقف حانوتاً يعطى كفاية شهر،؛ لأن غلة الحانوت يحصل كل شهر، وإذا وقف على فقراء قرابته، فجاء رجل يدعي الغلة ويدعي أنه قريب الواقف، وإنه فقير كلف إقامة البينة على القرابة وعلى أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد يلزمه نفقته، والقياس أن لا يكلف إقامة البينة على الفقر؛ لأن الأصل الفقر؛ لأنه خلق عديم المال استحساناً.

وقلنا: يكلف إقامة البينة على ذلك؛ لأن الاستحقاق بالفقر الأصلي بالظاهر واستصحاب الحال، وإنه لا يصلح حجة للاستحقاق، ثم شرط مع إقامة البينة على الفقر إقامة البينة على أنه ليس له أحد يلزمه نفقته؛ لأنه يعتبر غنياً ببقاء المنفق في حق حكم الوقف، وفيه كلمات كثيرة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن أقام البينة على أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد تلزمه نفقته أدخله القاضي في الوقف، واستحسن هلال أن لا يدخله حتى يسأل عنه في السر، قال مشايخنا: وإنه حسن، وقال أيضاً إن الخامسة على ما قلنا، ويسأل القاضي في السر أيضاً، ووافق خبر السر البينة أنه فقير، وليس له أحد تلزمه نفقته، فالقاضي لا يدخله في الوقف حتى يستحلف بالله مالك مال، وأنك فقير. قال مشايخنا: وإنه حسن أيضاً؛ لأن مال الغير لا يقف عليه غيره في الحقيقة وهو يعلم ذلك، فيستحلف عليه، وكذلك يستحلف على قول هلال بالله مالك أحد تلزمه نفقتك، وإنه حسن أيضاً، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه.

وإن شهد شاهدان على فقره وأخبره عدلان في السر أنه غني، فخبر الغنى أولى؛ لأنه مثبت، ولأن المخبر عن الغني يعلم الآخر قال هلال: والخبر في هذا الباب والشهادة سواء؛ لأن هذا ليس بشهادة على الحقيقة بل هو خبر، وإن شهد الشهود أنا لا نعلم له أحداً تلزمه نفقته يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول بأنه ليس له أحد ينفق عليه كما في الميراث إذا شهدوا أنا لا نعلم له وارثاً غيره يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول أنه ليس له وارث غيره.
وإذا أراد الرجل إثبات قرابة ولده وفقره في الوقف، فله ذلك إن كان صغيراً؛ لأنه له ولاية عليهم، ووصي الأب في هذا بمنزلة الأب، فإن لم يكن لهم أب ولا وصي الأب ولهم أم أوأخ أو عم أو خال، فلهؤلاء إثبات قرابة الصغير في حجره استحسانا؛ لأن هذا محض منفعة في حق الصغير فصار كقبول الهبة، ولهؤلاء قبول الهبة على الصغير في حجره إلا أن بين قبول الهبة وبين إثبات القرابة نوع فرق، فإن غير الأب يقبل الهبة على الصغير، وإن كان الأب حياً، ولا يثبت قرابة الصغير وفقره إذا كان الأب حياً.
والفرق أن الهبة ربما تفوت لو انتظر مجيء الأب بأن يرجع الواهب عما أوجب أو يقوم من يجلسه، فيبطل الهبة لو انتظر حضور الأب، وهنا لو انتظر حضور الأب لا يفوت على الصغير شيء؛ لأن الأب إذا حضر يثبت قرابة الصغير وفقره في الأزمنة الماضية،

(6/161)


فيستحق الغلات الماضية، ثم إن كانت الأم أو العم أو الأخ موضعاً لوضع الغلة في أيديهم فما قبض الصغير من الغلة يدفع إليهم ويؤمرون بالإنفاق عليه، وإن لم يكن موضعاً لذلك يوضع في يدي رجل ثقة يؤمر بالنفقة عليه.

في «النوازل» : إذا وقف على فقراء قرابته، فأراد بعض الفقراء من قرابته أن يحلف البعض بأنهم أغنياء إن ادعوا عليهم دعوى صحيحة بأن ادعوا عليهم مالاً يصيرون به أغنياء كان لهم أن يحلفوهم؛ لأنهم ادعوا عليهم معنى لو أقروا بذلك يلزمهم، فإن كان القيم يمثل إليهم، فأراد هؤلاء أن يحلفوا القيم بالله ما يعلم أن هؤلاء أغنياء ليس لهم ذلك؛ لأن القيم لو أقر بذلك لم يلزم أولئك شيء، فإذا أنكروا لا يستحلف.
وإذا ثبت الرجل قرابته وفقره عند قاضى ثم جاء يطلب وقفاً آخر لا يكلف إعادة البينة على الفقر؛ لأنه ثبت فقره في وقف، ومن كان فقيراً في وقف كان فقيراً في كل وقف. وكذلك لو أثبت قرابته من الواقف في وقفه ثم جاء يطلب وقف أخيه لا يكلف إعادة البينة على القرابة إذا كان الثاني أخ الأول لأبيه وأمه؛ لأنه إذا كان أقرب أحد الأبوين كان قرب الأخ الآخر ضرورة. وكذلك لو جاء أخ المقضي له لأبيه وأمه لا يكلف إعادة البينة على القرابة من الواقف؛ لأن ذلك ثابت ضرورة بثبوت قرابة الأول، وكذلك لو أثبت رجل في وقف أنه من بني العباس لا يحتاج إلى إثبات نسبه في وقف آخر وكذلك على هذا سائر القرابات.
ولو أقام رجل بينة عند القاضي أن القاضي الذي كان قبله قضى بقرابته وفقره قبل هذا ثم استحقت الغلة (قبلت) ، وإن طالت المدة في القياس؛ لأن الفقر قد ثبت فنحن على ذلك حتى يحدث غيره استحسنا، وقلنا: إن القاضي يسأله إعادة البينة إذا طالت المدة على أنه فقير، وهذا لأن الإنسان لا يبقى على حالة واحدة زماناً طويلاً هذا هو الظاهر، وإنما يعتبر الفقر في كل سنة عند حدوث الغلة، فمن كان فقيراً قبله استحق تلك الغلة، ومن افتقر بعد ذلك لا يستحق من تلك الغلة إنما يستحق من غلة أخرى.
m

فإذا قضى القاضي أنه فقير ثم جاء بعد ذلك بطلت الغلة وهو غني وقال إنما استغنيت بعد حدوث الغلة، وقال شركاؤه: لا، بل استغنى قبل حدوث الغلة، فالقياس أن يكون القول قوله؛ لأنا عرفنا فقره، فكان الغنى في حقه حادثاً فحال به على أقرب الأوقات، وفي الاستحسان: القول قول الشركاء ويجعل المال حكماً على ما مضى على ما عرف في كثير من المسائل.
ولو لم يكن القاضي (قضى) بفقره، فجاء بطلت الغلة ويدعي أنه فقير وقال الشركاء: إنه غني وأرادوا استحلافه فلهم ذلك، ويحلفه القاضي بالله ها هو القوم غني عن الدخول في هذا الوقف مع فقرائهم وعن أخذ شيء من عليه، وإذا شهد الشهود على فقره، وكان ذلك بعد حدوث الغلة لم يدخل في تلك الغلة، وإنما يدخل في الغلة الثانية إلا أن يوقنوا فقره وكان الفقر قبل حدوث الغلة فحينئذ ثبت حقه في تلك الغلة.
ولو أن رجلاً أثبت فقره عند القاضي في وقف، فجاء رجل وعليه دين وأراد حبسه

(6/162)


عند القاضي، فقال القاضي: إنك قد قضيت لفقري فلا تحبسني، فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك؛ لأن فقر الوقف دون إعدام الدين، فإن من كان له سكن وخادم وثياب البدن يستحق الوقف، وفي الدين مثل هذا لا يكون معدماً، ولو ثبت إعدامه في الدين، فجاء يطلب الوقف، فالقاضي لا يكلفه البينة على الفقر؛ لأن الإعدام فوق الفقر وثبوت الأعلى يغني عن إثبات الأدنى، وإذا شهد القرابة بعضهم لبعض في الوقف لا يقبل إذا شهد كل فريق لصاحبه؛ لأنهم يثبتون مالاً مشتركاً، وإن كان الشهود (14أ3) أغنياء شهدوا لرجل من قرابتهم بقرابته وفقره ذكر الخصاف في «وقفه» في باب الوقف على فقراء قرابته أنهم إذا لم يجروا إلى أنفسهم منفعة بشهادتهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم بذلك مضرة قبلت شهادتهم في (ذلك) ذكر هو في باب قبل هذا الباب متصل به لو شهد رجلان من صحب قرابتهما لرجل أنه قرابة الواقف وفسروا قرابته أن ذلك جائز، فإن لم يعدل شهادتهما فرد القاضي شهادتهما، فللذي شهدا له بقرابة الواقف أن يدخل معهما فيما يصل إليهما من مال الواقف، ويشاركهما في ذلك.
ذكر هلال في «وقفه» : إذا شهد رجلان أجنبيان بقرابة رجل من الواقف، وشهد قومان بفقره قبلت شهادتهما من غير تفصيل. قال هلال رحمه الله في وقفه: لو أقر رجل من القرابة أنه كان غنياً ثم جاء يطلب الوقف. وقال: أنا فقير، وإنما افتقرت قبل حدوث الغلة لا يقبل قوله، وإن كان فقيراً للحال؛ لأنا قد علمنا غناه ولم نعلم فقره بعد ذلك قبل حدوث الغلة مجرد قوله ولا يجعل الحال حكماً؛ لأن تحكيم الحال عمل بنوع ظاهر، والظاهر لا يستحق به شيء.

وإن شهد الشهود أنه أتلف ماله قبل حدوث الغلة استحق الغلة، وإن قالوا:.... أو أبهم القاضي بالتلجئة لا يعطيه إذا كان لم تلجئه تصل يده إليه. وإذا كانت امرأة فقيرة ولها زوج غني لا تعطى من الوقف؛ لأن نفقتها على زوجها والزوج إذا كان فقيراً يعطى من الوقف، وإن كانت امرأته غنية لا نفقة للزوج على المرأة، فلا يعد غنياً إذا كان أقربه ولد كبير لا زمانة به وهو فقير، ولهذا الولد أولاد صغار فقراء، فإنه لا يعطي أولاد الولد من الوقف؛ لأن أفرض نفقتهم في مال جدهم، وأما أبوهم وهو ولد القريب لصلبه، فله حظ له في الوقف؛ لأنه لا نفقة على ابنه؛ لأنه كبير لا زمانة به. وإذا كان للرجل ابن غني وهو فقير لا يعطى من الوقف؛ لأن نفقته على ابنه.

ثم الأصل في جنس هذه المسائل إن كان من وجبت نفقته على غيره بالإجماع يعد غنياً يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف كالوالدين والمولودين، وكل من كان في وجوب نفقته اختلاف لا يعد غنياً يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف هذا هو عبارة بعض المشايخ، وعبارة بعضهم أن كل من وجب نفقته في مال إنسان وله أن يأخذ ذلك من غير قضاء ولا رضا ويقضي القاضي بالنفقة في ماله حال غيبته ومنافع الأملاك متصلة

(6/163)


بينهما حتى لا يقبل شهادة أحدهما لصاحبه يعد غنياً يعني المنفق في حكم الوقف، وذلك كالوالدين والمولودين والأجداد، وكل من وجب نفقته في مال غيره بفرض القاضي ولا يأخذ النفقة من ماله إلا بقضاء أو رضا، والقاضي لا يقضي بالنفقة في ماله في حال غيبته ومنافع الأملاك متميزة حتى يقبل شهادة أحدهما لصاحبه لا يعد غنياً يعني المنفق في حق حكم الوقف، وذلك كالإخوة وسائر المحارم، على هذا الأصل تدور المسائل.

الفصل الحادي عشر: في الرجل يقف أرضه على قرابته
قسمت الغلة على قرابته على عدد رؤوسهم الصغير والكبير والغني والفقير فيه سواء؛ لأن اسم القرابة يتناولهم على السواء والاستحقاق بهذا الاسم، فإن جاء رجل يدعي أنه من قرابة الواقف، فإن كان الواقف حياً فهو خصمه يثبت عليه قرابته منه؛ لأن الوقف والغلة في يده، فالمدعي يدعي عليه لنفسه حقاً فيما في يده ويمنعه عنه، فينتصب خصماً له، وإن كان الواقف ميتاً فخصمه وصيه الذي الوقف في يده وجعله فيما عليه لما ذكرنا، ولأن القيم قائم مقام الميت بإقامة الميت إياه مقام نفسه، فينتصب خصماً للمدعي كالميت.

وإن كان له وصيان أو أكثر فادعى على أحدهم جاز، ولا يشترط اجتماعهم ولا يكون وارث الميت خصماً للمدعي في ذلك إلا أن يكون متولياً، وكذلك أرباب الوقف لا يكون خصماً للمدعي أما أرباب الوقف؛ لأنه لا ملك لهم إنما لهم مجرد الحق؛ ألا ترى أن المرتهن لا ينتصب خصماً لمن يدعي غير الرهن، وإنما لا ينتصب؛ لأنه لا ملك له في غير الرهن، وأما الوارث فلأنه لا ملك له في عين الوقف ليس في يديه، فإن حضر القيم وجاء بشاهدين شهدا على أنه قريب هذا الواقف، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى شهدا بنسب معلوم، فيشهدا أنه ابنه أو أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه، والجواب في هذا نظير الجواب في فصل الميراث إذا شهد الشهود بوراثة رجل، وكذلك على هذا إذا وقف على نسله، فجاء رجل يدعي أنه من نسل الواقف، فأقام على ذلك بينة لا يقبل شهادتهم ما لم يثبتوا أنه ولده لصلبه أو ولد ابنه أو ولد ابنته أو ما أشبه ذلك، فإن فسروا القرابة، وقالوا: لا نعلم له قريباً آخر سوى هذا القريب، فالقاضي يعطيه الغلة، وإن لم يقولوا ذلك فالقاضي يتأنى ويتلوم زماناً، فإن طال ذلك ولم يظهر له قريب آخر قال: أستحسن أن أعطيه الغلة وآخذ منه كفيلاً، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منه كفيل كما في الميراث، فإن قال الشهود: له قرابة غيب، فالقاضي يفرز أنصباءهم، فإن قال الشهود: لا ندري عددهم كم هم ينبغي للقاضي أن يقول لهم: احتاطوا ولا تشهدوا إلا بما تتيقنوا به فتقولوا لا نعلم له قرابة أخرى سوى كذا وكذا، وإن أقام يدعي القرابة شاهدين شهدا أن فلانا القاضي قضى أن هذا قريب الواقف، وإنه من قرابته قال هلال: ينبغي للقاضي أن يسألهما عن تفسير القرابة، فإن فسروا قرابة يستحق بها الوقف

(6/164)


أعطاه وإلا فلا يعطيه شيئاً، وإن لم يفسر الشهود وقد ماتوا أو غابوا، فالقاضي يسأل المدعي ويستفسره القرابة، فإن ذكر قرابة لا يستحق بها الغلة لا يعطيه شيئاً، إن ذكر قرابة يستحق بها

يعطيه وليس هذا بقضاء للقاضي الأول؛ لأن القاضي الأول قضى بكونه قريب الواقف فقط، ولا ينقض هذا القضاء، ولكن ليس كل قريب يستحق الوقف حتى لو قضى القاضي له بالغلة أو قضى بأنه موقوف عليه، فإن القاضي الثاني يمضية ويعطيه الغلة.

وإن لم يفسر المدعي القرابة أيضاً أو كان صبياً قال هلال: القاضي يعطيه الغلة ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة وعلى أنه قضى بقرابة يستحق بها، وقاسه على مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الزيادات» : أن (من) يدعي الميراث إذا أقام بينة عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بأني وارث فلان الميت، ولم يزد الشهود على هذا، فهذا القاضي يجعله وارث الميت ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة كذا هنا، هذا جملة ما أورد هلال في «وقفه» .
وذكر الخصاف في «وقفه» أن شهود المدعي إذا شهدوا أن قاضي بلد كذا قضى أن هذا قريب الواقف أستحسن أن أجيز هذا وأحمله على الصحة ولم يذكر سؤال الشهود ولا سؤال المدعي، قال الفقيه أبو جعفر: وعندي أنه لا يقضي له بالغلة وليس هذا مسألة «الزيادات» ؛ لأن الوراثة متى تثبت يستحق بها الإرث على كل حال، فأما القرابة متى تثبت قد يستحق بها الغلة وقد لا يستحق (14ب3) فلا تكون القرابة نظير الوراثة.
رجل أثبت قرابته عند القاضي وقضى القاضي بها ثم جاء آخر وادعى أنه قريب الواقف، فلم يجد الوصي، فأراد أن يخاصم المقضي له الأول، فإن كان الأول قد أخذ شيئاً من الغلة فهو خصم للثاني، وإن لم يكن أخذ شيئاً من الغلة لم يكن خصماً للثاني، سواء قدمه إلى القاضي الذي قضى به للأول أو قدمه إلى قاض آخر، وهذا الاستحسان ذهب إليه هلال.

والقياس أنه إذا قدمه إلى القاضي للأول أن يجعل خصماً كما في مسألة الوصية بالثلث إذا أقام شهوداً أن الميت أوصى له بالثلث وقضى القاضي له بذلك، فأعطاه شيئاً من التركة، فجاء رجل وادعى أن الميت أوصى له بثلث ماله فلم يجد الوارث قدم هذا الموصى له، فهو خصم للثاني؛ لأنه يدعي شيئاً فيما في يده، وإن كان الأول لم يأخذ شيئاً من التركة، فإن قدمه الثاني إلى قاض آخر لا يكون خصماً له، وإن قدمه إلى القاضي الأول جعله خصماً له، يجب أن يكون الجواب في القرابة كذلك.
استحسن هلال وفرق بين المسألتين، ووجهه أن الموصى له شريك الوارث، فإذا قدمه إلى قاض علم بكونه شريك الوارث صار كما لو قدم الوارث، فأما الموقوف عليه ليس شريك الوارث والثاني لا يدعي على الأول شيئاً إنما يدعي على الواقف أنه قريبه والموقوف عليه ليس بنائب عن الواقف فلهذا لا يكون خصماً.
ولو أن رجلاً أثبت قرابته من الواقف وفسر القرابة وقضى القاضي له بالغلة جاء آخر وأقام بينة أنه ابن المقضي له الأول، فإنه يقضي له بالغلة ولا يحتاج أن يفسر قرابته من الواقف؛ لأن الأول أثبت قرابته من الميت، فإذا أثبت الثاني أنه ابن الأول كان ابن

(6/165)


الأول بتلك القرابة ضرورة، وكذلك لو كان المقضي له الأول امرأة وباقي المسألة بحاله.

وإن أقام الثاني بينة أنه أخ المقضي له لابنه، فالقاضي إن قضى الأول بقرابته من قبل أبيه قضى للثاني، وإن قضى للأول بقرابته من قبل أمه كان الثاني أجنبياً عن الواقف، وعلى هذا يخرج جنس هذه الشهادة وشهادة ابني الواقف أن هذا الرجل قريب وَالدِنا مع تفسير القرابة مقبولة؛ لأنه لا تهمه في هذه الشهادة.

ولو ادعى قوم أنهم قرابة الميت وشهد بالقرابة بعضهم لبعض بأن شهد ابنان لابنين منهم أنهما قرابة الواقف لا يقبل شهادتهم؛ لأن كل فريق شهد للفريق الآخر بما له فيه شركة؛ لأن ما (من) جزء من أجزاء المال يثبت لأحد الفريقين إلا وللفريق الآخر فيه من الشركة، وإن كان القاضي قضى بشهادة الشاهدين الأولين ثم شهد المقضي لهما للشاهدين لا يقبل شهادتهما للشاهدين الأولين؛ لأنها لو قبلت تقع الشركة بين المشهود لهما وبين الشاهدين، وشهادة الشاهدين للأول ماضية على حالهما؛ لأنها تأكدت بالقضاء، فلا تبطل، بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بشهادة الشاهدين الأولين حيث لا يقبل شهادتهم جملة؛ لأن هناك شهادة واحد أحد الفريقين لم يتأكد، أما هنا بخلافه.
وإذا وقف أرضه على قرابته فجاء رجل وادعى أنه من قرابته وأقر الواقف بذلك وفسر القرابة وقال: هذا ممن وقفت عليه، فإن كان للواقف قرابة معروفون لا يصح إقراره؛ لأن الوقف قد ثبت للمعروفين، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال حق المعروفين في البعض، فلا يصدق كالمريض إذا أقر أن هذا أخي أو عمي وله ورثة معروفون، فإنه لا يصح إقراره كذا ههنا، وهذا إذا كان الإقرار من الواقف بعد عقد الوقف، فأما إذا أقر بذلك في عقد الوقف بأن قال في عقد الوقف: هذا ممن وقفت عليه قبل ذلك منه؛ لأن حق الغير لم يثبت بعد فلم يكن هذا الإقرار مبطلاً حقاً على أحد بخلاف ما إذا كان الإقرار من الواقف (بعد) عقد الوقف، أما إذا لم يكن له قرابة معروفون فالقياس أن لا يصح إقراره؛ لأن الحق قد ثبت للفقراء فلا يقبل قوله في تنقيص حقهم وفي الاستحسان يقبل قوله؛ لأن الحق لم يثبت لشخص بعينه، وهو نظير المريض إذا لم يكن له ورثة معروفون، فقال لرجل: هذا أخي لأبي وأمي صح إقراره، وإن كان فيه إبطال حق يثبت المال، والمعنى ما ذكرنا أن الحق أثبت لشخص بعينه، وإذا عرفت الجواب في إقرار الوقف بالقرابة ينبني عليه مسألة الشهادة على إقرار الوقف بالقرابة، ففي كل موضع صح إقراره قبلت الشهادة على إقراره.
قال: وإذا وقف على ولده ونسله ثم أقر رجل أنه ابنه، فإنه لا يصدق في الغلات الماضية؛ لأنها صارت حقاً للمعروفين ويصدق في الغلات المستأنفة؛ لأن النسب يثبت بإقراره فعند الاستحقاق هو وسائر الورثة على السواء في النسب.

وإذا وقف على قرابته وجاء رجل يدعي أنه من قرابته وأقام بينة فشهدوا أن الواقف كان يعطيه مع القرابة في كل سنة شيئاً، لا يستحق بهذه الشهادة شيئاً وكذلك لو شهدوا أن

(6/166)


قاضي فلان كان يدفع إليه مع القرابة في كل سنة شيئاً فلا يكون دفع القاضي حجة يحتمل أن القاضي قضى على بعض قرابة الواقف بإقراره له.

ومما يتصل بهذا الفصل معرفة قرابة الواقف الذين يستحقون الوقف: قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أبيه، وكل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أمه المحرم وغير المحرم، والقريب والبعيد، والجمع والفرد في ذلك سواء، فإذا وقف على قرابته أو ذي قرابته أو على أقربائه أو على ذوي قرابته دخل هؤلاء تحت الوقف عندهما. وقال أبو حنيفة: إن حصل الوقف بلفظ الوحدان نحو قوله: على قرابتي على ذي قرابتي دخل تحت الوقف من كان أقرب إلى الواقف من محارمه، وإن حصل الوقف بلفظ الجمع نحو قوله: على ذي قرابتي على أقربائي يعتبر مع ما ذكرنا الجمع حتى ينصرف اللفظ إلى المثنى فصاعداً، وتكلم المشايخ في معنى قوله أقصى أب له في الإسلام قال بعضهم: معناه أقصى أب أسلم وقال بعضهم: معناه أقصى أب أدرك الإسلام أو لم يسلم، وثمرة هذا الاختلاف يظهر في العلوي إذا وقف على قرابته، فعلى قول من يشترط إدراك الاسلام أول أب أدرك الاسلام أبو طالب، فيدخل تحت الوقف أولاد عقيل وأولاد جعفر وأولاد علي، على قول من شرط نفس الإسلام أول أب أسلم علي، فيدخل تحت الوقف أولاد علي ولا يدخل أولاد عقيل وأولاد جعفر.
وقال هلال: القرابة إلى ثلاثة آباء، فمن انتسب إلى واحد من الآباء الثلاث يدخل في الوقف وما لا فلا وقال قوم: القرابة إلى أربع آباء، وإنما اعتبر أبو يوسف ومحمد أقصى أب له في الإسلام؛ لأنه لا وجه إلى صرف الوقف إلى القرابة العامة؛ لأنه (15أ3) يدخل تحت الوقف من كان في الجاهلية؛ لأن جميع الناس أقرباؤه؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام، فلو دخلوا تحت الوقف لا يصيب كل واحد منهم شيئاً منتفعاً، ونحن نعلم أن قصد الواقف إنفاع الموقوف عليه، أما لو اعتبرنا أقصى أب في الإسلام يصيب كل واحد منهم شيئاً منتفعاً، فلهذا اعتبرنا ذلك، وإنما سوينا بين القريب والبعيد والمحرم؛ لأن الاستحقاق باسم القريب وهذا اسم يتناول الكل، وإنما سوينا بين الجمع والفرد؛ لأن الاستحقاق باسم القرابة والقريب، وإنه اسم جنس، واسم الجنس ينصرف إلى الواحد مع احتمال الجمع، وأما أبو حنيفة رحمه الله إنما اعتبر الجمع فيما إذا حصل الإنفاق بلفظه الجمع، عملاً بحقيقة اللفظ، وإنما اعتبر القرابة المحرمة للنكاح؛ لأن مقصود الواقف صلة القرابة، فالظاهر أنه يريد به قرابته بفرض وصلها، وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب؛ لأن القرابة سبعة من القرب فمن كان أقرب كان أولى يصرف اللفظ إليه.

بيان جملة ما ذكرنا إذا كان للواقف عمان وخالان وقد حصل الإنفاق بلفظ الجمع، فعلى قول أبي حنيفة الغلة للعمين؛ لأنه يعتبر الأقرب فالأقرب، وقرابة العم أقرب من قرابة الخال، ولهذا كان الميراث للعم دون الخال، واسم الجمع ينطلق عليهما، وعندهما: الغلة للعمين والخالين أرباعاً؛ لأنهما لا يعتبران الأقرب لما ذكرنا أن اسم القرابة يتناول الكل.

(6/167)


ولو كان له عم واحد وخالان فعلى قول أبي حنيفة للعم نصف الغلة والنصف بين الخالين نصفين؛ لأن أبا حنيفة يعتبر الأقرب، وقرابة العم أقرب فكأن العم انفرد، إلا أن العم الواحد لا يستحق أكثر من نصف الغلة إذا كان الإنفاق بلفظ الجمع عنده؛ لأن استحقاق الكل عنده في هذه الصورة معلق بوجود الجمع والواحد ليس بجمع لا بد، وأن ينقص من الكل شيئاً، وأعلى ما يستحق الواحد وغيره النصف، وإنما اعتبرنا الأعلى وهو النصف؛ لأنه إنما ينقص حقه عن النصف إذا كثر المزاحم ولا نهاية لما زاد على الواحد، فلا يعتبر المزاحم أكثر من الواحد، وإذا أخذ العم نصف الثلث خرج هو من البين وصار الواقف في النصف الباقي كأنه لا عم له، فيكون بين الخالين، وعلى قول أبي يوسف ومحمد الغلة بين العم والخالين بالسوية لما قلنا: إنهما لا يعتبران الأقرب ولا يعتبران الجمع.
ثم اختلف المشايخ على قول أبي يوسف ومحمد، بعضهم قالوا: إنما يصح الوصية لقرابة إذا كان من يجمعه وأقصى أب له في الإسلام لا يخرجون عن حد الإحصاء.
وعامة المشايخ على أن الوقف صحيح على كل حال، ولأن هذا وقف أريد به وجه الله تعالى وهو صلة القرابة فيصح على كل حال.
فبعد ذلك إن كانوا يحصون، فالغلة بينهم على السوية لا يفضل البعض، وإن كانوا لا يحصون صار كأنه وقف على الفقراء، فعلى قول أبي يوسف جاز صرف جميع الغلة إلى الواحد منهم بناء على أن الفقراء عنده اسم جنس، وعند محمد لا يجوز أن يعطي دون الاثنين بناء على أن عنده الفقراء اسم جمع وأقل الجمع في هذا الباب المثنى أصل هذا الاختلاف في الوصايا: قال الله تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين} (البقرة: 180) عطف القريب على الوالد والشيء لا يعطف على نفسه ولأن اسم القريب يبنى عن القرب وبين الوالدين والمولودين بعضه، وإنما يبنى عن الإيجاد دون القرب.
ودخل تحت هذا الوقف الجد والجدة وولد الولد؛ لأن اسم القريب ينطلق عليهم.

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يدخلون، والذي ذكرنا في قوله لأقربائه ولذوي قرابته فكذا في قوله يدخل لأرحامه ولأنسابه ولذوي أنسابه؛ لأن المعنى يجمع الكل.
ولو وقف على ذي قرابته أو على قرابته فالقياس أن تكون الغلة لواحد من قرابته حتى إذا كان له عم وخالان، فالغلة كلها للعم؛ لأن اللفظ فرد بصيغته وفي الاستحسان الوقف عليهم؛ لأنه يراد به الجنس، فإنه يراد به التودد، فكأنه عمهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه المسألة يجب أن تكون على الخلاف على قياس مسألة الوصية إذا أوصى بثلث ماله لهذا ولهذا أو لأحد من بني فلان، فعلى قول أبي حنيفة الوصية باطلة؛ لأنها وقعت لمجهول وعلى قول محمد الوصية جائزة وللورثة الخيار؛ لأنهم قائمون مقام المورث وعلى قول أبي يوسف الثلث لهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فعلى قياس تلك المسألة يجب أن تكون الغلة للكل على قول أبي

(6/168)


يوسف، وعلى قول محمد يجوز إعطاؤها للواحد، وعلى قول أبي حنيفة يجب أن يكون كقول محمد؛ لأنه جعل الوصية للواحد حتى قال: الوصية وقف للمجهول.
ولو كان وقف على ذوي قرابته أو أقربائه أو أنسابه أو أرحامه الأقرب فالأقرب فإنه يدخل تحت الوقف الأقرب، فالأقرب ولا يعتبر الجمع بلا خلاف؛ لأن قوله الأقرب فالأقرب خرج تفسيراً لصدر الكلام، فيكون العبرة له، وإنه اسم فرد، فيتناول الواحد عند أبي حنيفة والأقرب عندهما.

ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً إذا وقف على أقرب الناس منه أو إليه ومن بعده على المساكين وله ابن وأب دخل تحت الوقف على أقرب الناس من قرابته لا يدخلان تحت الوقف؛ لأن في الفصل الثاني اعتبر الأقرب من قرابته وابنه وأبوه ليسا من قرابته وفي الفصل الأول اعتبر الأقرب إليه والابن أقرب إليه، وإن كان له ابن وأبوان، فالغلة للابن؛ لأن الابن أقرب إليه كذلك الابنة، فإذا مات الابن أو الابنة كانت الغلة للمساكين، ولا يكون للأبوين؛ لأنه جعل ذلك للأقرب ولم يجعل الأقرب فالأقرب، وإن كان له أبوان لا غير كانت الغلة بينهما نصفان، فإن مات أحدهما كان للحي النصف والنصف الآخر للمساكين، وإن كان للواقف أم وأخوة كانت الغلة للأم دون الأخوة.
Y
وكذلك إذا كان للواقف أم وجد، فالأم أقرب من الجد ومن الأخوة، والأب أيضاً أقرب، وإن كان جد أب وأخوة، فالغلة للجد في قول من يداه بمنزلة الأب وفي قول الآخر للأخوة دون الجد، فإن كان له ثلاثة أخوة متفرقين فالغلة للأخ لأب وأم، فإن كان له أخ لأب وأخ لأم، فالغلة لهما جميعاً، ولا ينظر في ذلك إلى الوارث وعند أبي حنيفة الأخ لأب أولى.
ولو كان له أب وابن ابن، فالغلة للأب دون ابن الابن، فإن كانت له بنت بنت وله ابن ابن أسفل من هذه كانت الغلة لبنت البنت، وكذلك الوصية في هذا كله. ولو كان له أخت لأب وأم وبنت بنت فبنت بنت البنتان أولى؛ لأنها من صلبه والأخت من صلب أبيه ولا يعتبر الإرث، ألا ترى أنه لو كان له موالي العتاقة، فبنت البنت أولى في الوقف، وإن كان مولى العتاقة مقدماً على بنت البنت في الميراث.

فالحاصل أنه يبدأ بولد الواقف ثم بولد الأب ثم بولد الجد، فإن كان له أب الأم وبنت الأخ له أم ولأب أو لأب وأم، فعند أبي حنيفة الجد أولى، وعندهما بنت (15ب3) الأخ أولى، ولو كان مكان بنت الأخ بنت البنت فهي أولى بالاتفاق، ولو كان له ابن أخ لأب وأم وأخ لأب أو لأم فالغلة للأخ، وإن كان له ابن أخ لأب وابن أخ لأم فعند أبي حنيفة الغلة لابن الأخ، وعندهما الغلة بينهما وجنس هذه المسائل في «وقف الخصاف» في باب الرجل يقف أرضه على قرابته يبدأ بأقربهم.
ولو قال: أرضي صدقة في القرابة أو على القرابة ولم يقل قرابتي قال: هما سواء ويكون ذلك لقرابته وكذلك لو قال: للأقارب والأنساب أو لذوي الرحام ولم يضف إلى نفسه يكون ذلك لقرابته لمكان العرف، ولأن معهود كل إنسان قرابته، والألف واللام لتعريف المعهود، ولو كان (قال) على قرابتي من قبل أمي وأبي أو على قرابتي من قبل أمي

(6/169)


فهو على ما قال، وتقسم الغلة عليهم على عدد رؤوسهم يستوي فيه من كان من قبل أبيه ومن كان من قبل أمه، ولا تترجح قرابته من قبل أبيه وأمه.
ولو قال: بين قرابتي من قبل أبي وبين قرابتي من قبل أمي، فنصف الغلة تكون لقرابته من قبل أبيه، ونصفها يكون لقرابته من قبل أمه. قال: ألا ترى أن من قال أوصيت بثلث مالي بين زيد وبين عمرو، فاذا أحدهما ميت فللحي منهما نصف الثلث.

ولو قال: أوصيت بثلث مالي لزيد وعمرو فإذا أحدهما ميت فللحي منهما كل الثلث. ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف على قرابته الأقرب فالأقرب وبعدهم على المساكين، فالغلة كلها لأقرب قرابته منه واحداً كان أقربهم أو أكثر من ذلك ويقسم عليهم على عدد رؤوسهم، فإن قال بعضهم: لا أقبل هذا أو قبل بعضهم كانت الغلة لمن قبل منهم وسقط من لم يقبل منهم، فإن مات هؤلاء الذين كانوا أقرب إليه كانت الغلة لمن يلي هؤلاء بطناً بعد بطن. وكذا لو قال: يعطي غلة هذا الوقف أقرب الناس إلي نسباً ورحماً ثم الأقرب فالأقرب بعد ذلك، وكذلك لو قال: الأولى فالأولى وكذا إذا وقف على فقراء قرابته الأقرب فالأقرب بدئ بالأقرب فالأقرب، هكذا ذكر الخصاف وهلال عن أبي يوسف أن القريب والبعيد في هذا سواء إلا أن يقول: الأقرب ثم الأقرب ثم على ما ذكر هلال والخصاف إذا وجبت البداية بالأقرب يعطي مائتي درهم ولا يعطي أكثر من مائتي درهم، أما إعطاء المائتين؛ لأن المقصود من هذا الوقف الأغنياء عرف ذلك بذكر الفقراء والغناء لا يقع بأقل من المائتين ولا يعطي أكثر من المائتين؛ لأن الإغناء بقدر المائتين، فلا حاجة إلى الزيادة، فإن أعطى مائتي درهم وبقي من الغلة شيء يعطي الذي يليه مائتي درهم، فإن أعطى كل واحد منهم مائتي درهم وبقي من الغلة شيء، فالقياس أن يكون ذلك كله للأقرب فالأقرب، وهناك يعطي الأقرب كل الغلة، فهنا بذلك.

وفي الاستحسان: يقسم بينهم بالسوية؛ لأن الأصل كان مقسوماً بالسوية، فكذا الفضل يؤخذ حكمه من الأصل كما قلنا في المواريث ما فضل من السهام يرد عليهم على قدر الأصول، ذكر هلال المسألة على القياس والاستحسان، والخصاف في جنس هذه المسالة لم يذكر القياس والاستحسان، وصورة ما ذكرها الخصاف إذا كان أقربهم إليه جماعة قسمت بينهم بالسوية إذا كان الذي يصيب كل واحد منهم مائتا درهم أو أقل، وإن كان في الغلة ما يصيب كل واحد من البطن الأعلى مائتا درهم وفضل عنهم، قال: يقسم الفاضل بينهم، قال: وكذلك يكون الحال في كل بطن منهم، وقال أيضاً: إذا كان قال: يبدأ بالأقرب فالأقرب مني يعطي من غلة هذه الصدقة ما يصيبه، قال: يبدأ بأقربهم فيعطى مائتا درهم يليه ثم يعطي الذي يليه مثل ذلك حتى ينتهي إلى آخرهم، فإن فضل شيء من غلة هذه الصدقة كان ذلك لهم.
ولو قال: على فقراء قرابتي على أن يبدأ، فيعطي جميع الغلة الأقرب فالأقرب يعطي الأقرب كل الغلة؛ لأنه هكذا أوجب، وإنما كنا نعطيه مائتي درهم بدلالة ذلك الفقراء، ولا قوام للدلالة إذا جاء الصريح بخلافها.

(6/170)


ولو قال: على فقراء قرابتي يعطي منها الأقرب فالأقرب، يعطي الأقرب مائتي درهم ولا يعطي جميع الغلة؛ لأن الهاء في قوله: منها كناية عن الغلة، فقد أوجب بعض الغلة الأقرب فلا يعطي جميعاً.
ولو قال: على أن ما أخرج الله تعالى من غلاتها يعطي الأقرب فالأقرب من قرابتي، يعطي الأقرب جميع الغلة؛ لأن (من) هنا راجع إلى الأرض دون الغلة؛ لأن الخارج يكون من الأرض، فلا يوجب تنقيصاً في الغلة.

الفصل الثاني عشر: في الوقف على أهل البيت والآل والجنس والعصب والجيران وأشباه ذلك
وإذا وقف أرضه على أهل بيته دخل تحت الوقف كل من يتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، يستوي فيه المسلم والكافر والذكر والأنثى والمحرم وغير المحرم والقريب والبعيد وهذا لأن المراد من البيت المذكور هنا بيت النسب لا بيت السكنى، فكل من يجمعه وآباؤه بيت نسبه دخل تحت الوقف، ونسب الإنسان من قبل أبيه، فكل من اتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، فهو من أهل بيته ولا يدخل تحت الوقف الأب الأقصى لو كان حياً؛ لأنه مضاف إليه لا يدخل تحت الإضافة ويدخل تحت الوقف وكذا الوقف؛ لأن ولد الواقف يضاف إلى أب الواقف الأكبر، وكذلك ولده يدخل تحت هذا الوقف لما قلنا، ولا يدخل تحت هذا الوقف أولاد البنات، وأولاد الأخوات؛ لأنهم لا ينسبون إلى أب الواقف الأكبر إنما ينسبون إلى آبائهم فصاروا من أهل بيت آخر، وكذلك لا يدخل أولاد من سواهن من الإناث لما قلنا.
إذا كان زوجها من بني أعمام الوقف وعشيرته فحينئذٍ يدخلون؛ لأنهم من أهل بيت نسبه، والجواب فيما إذا وقف على جنسه كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الإنسان من جنس قوم أبيه.
والجواب فيما إذا وقف على آله كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الآل وأهل البيت يستعملان استعمالاً واحداً، فإذا وقفت امرأة على أهل بيتها أو على جنسها أو على آلها لا يدخل تحت الوقف والديها؛ لأن والديها لا ينسب إلى أبيها الأكبر الذي هو صاحب بنت نسبها، وكذلك ولدها لا يدخل لهذه العلة.
واذا وقف على أهله فالقياس أن يدخل تحته امرأته لا غير، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثمة، وذكر هلال في وقفه قول أبي حنيفة ولم يذكر القياس، وفي الاستحسان يدخل تحت الوقف كل من في عياله ونفقته....... هذا هو المتعارف، ولا يدخل

(6/171)


تحت الوقف مماليكه؛ لأن مماليكه خدام الأهل، وما يجب لهم فهو للمولى والمولى لم يدخل (16أ3) تحت الوقف.

وأما العيال فكل من كان في نفقة إنسان فهو من جملة عياله سواء كان في منزله أو غير منزله.
وأما الحشم فقد ذكر هلال أن الحشم بمنزلة الأعيال، ورواه عن أصحابنا وقد قيل: إن الحشم أعم، يقال للسلطان هم كثر؛ لأن صاحب الكتاب وضع المسألة في أواسط الناس وأواساط الناس لا يجمعون الجنوس، فلهذا سوى بين العيال والحشم.
وإذا وقف على جيرانه، فعلى قول أبي حنيفة الجار يستحق الشفعة، وشرط هلال والخصاف أن يكون ملازقاً لداره والالتزاق ليس بشرط أنه يستحق الشفعة ملازقاً كان أو غير ملازق، ثم في ظاهر مذهب أبي حنيفة السكنى، مالكاً كان الساكن أو غير مالك، وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط هو الملك دون السكنى، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية. وقال أبو يوسف ومحمد: الجار كل من يجمعهم مسجد المحلة، وفي «الزيادات» : أن قول أبي حنيفة قياس، وقولهما استحسان.

والصغير والكبير والمسلم والكافر في ذلك على السواء؛ لأنهم في استحقاق اسم الجار على السواء. والعبيد والإماء لا يدخلون في هذا الوقف، بخلاف المكاتبين؛ لأن الجوار بالسكنى وسكنى المكاتب مضاف إليه بخلاف سكنى العبيد والإماء، ألا ترى أن المكاتب يستحق الشفعة، والعبد والأمة لا يستحقان الشفعة؟ قال بعض مشايخنا: اختيار ما ذكر من الجواب في العبيد محمول على ما إذا كانوا مع الموالي، فإذا كانوا منفردين بأن كانوا مأذونين يدخلون تحت الوقف؛ لأن سكناهم في هذه الصورة تضاف إليهم، ألا ترى أن العبد المأذون يستحق الشفعة كالمكاتب، ومن انتقل من جوار الوقف بعد الوقف أو استغنى لم يكن له من الوقف شيء، وإنما ينظر في هذا إلى مكان جار الوقف يوم تقع قسمة الغلة لا يوم حدوث الغلة قال هلال: بخلاف القرابة؛ لأن الجوار يزول وينقطع بخلاف القرابة. ولو وقف على جيرانه، وله دار فيها ساكن، فانتقل منها إلى دار قرابته وسكنها بأجر إلى أن مات، فالغلة لجيران الدار التي انتقل إليها ومات فيها.
ولو وقف على جيرانه ثم خرج إلى مكة ومات فيها، قال: إن كان اتخذها داراً، فالغلة لجيرانه بمكة؛ لأن جوار هذه قد انقطع، وإن خرج حاجاً أو معتمراً فالغلة لجيران بلده؛ لأن جوارهم لم ينقطع.
ولو كان له داران وهو يسكن في إحداهما والأخرى للغلة، فإن الغلة لجيران الدار التي يسكن فيها، وإن كان له في كل واحد منهما زوجة، فالغلة لجيران الدارين، وكذلك لو كانت إحداها بالبصرة والأخرى بالكوفة وله في كل واحد منهما زوجة.
ولا يدخل في هذا الوقف ولد الواقف وإن كان جاراً، وولد الولد يدخل إذا كان جاراً قياساً على القرابة ولا يدخل استحساناً؛ لأنه لا يسمى جاراً عرفاً، وكذلك زوجته لا تدخل، وأما أخوه وعمه وخاله يدخلون؛ لأن اسم الجار يقع عليهم، ولو وقف على فقراء جيرانه ومات، فباع ورثته تلك وانتقلوا إلى ناحية أخرى، فالغلة لجيرانه يوم مات ولا يلتفت إلى بيع الورثة.

(6/172)


ولو وقف على فقراء الجيران ولم يضف الجيران إلى نفسه بأن لم يقل على فقراء جيراني، فهذا وما لو قال: على فقراء جيراني سواء لما قلنا في القرابة، وإن كان حين مرض حوله ابنه إلى محلة أخرى أو قرية ثم مات، فالغلة لجيرانه الأولين وليس هذا بانتقال.
ولو أن امرأة كانت تسكن في دار فوقفت على جيرانها وقفاً ثم تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها وماتت فيها، فجيرانها جيران زوجها؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فانقطع جوارها الأول، قالوا: إن كان متاعه في داره فالغلة للأولين؛ لأن جوارهم لم ينقطع، وإذا وقف على جيرانه، فأعطى الوصي بعضهم دون البعض ضمن؛ لأنهم هنا يخصون، فكانوا متعينين فقد دفع حقاً مستحقاً لقوم معينين إلى غيرهم فيضمن، بخلاف ما إذا وقف على الفقراء؛ لأن هناك المستحق ليس معين.

وإذا وقف على فقراء جيرانه، فالأرملة تدخل إذا كانت جاراً، وذات البعل لا تدخل؛ لأن سكنى الأرملة مضاف إليها فكانت جاراً حقيقة بخلاف ذات البعل؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فلم يكن سكناها مضافاً إليها، فلم يكن جاراً حقيقة.
وإذا وقف على أيتام قرابته، فاليتيم صغير أو صغيرة مات أبوه ولم يدرك حياة الأم (لا) يخرجه من أن يكون يتيماً، كذلك حياة الجد لا يخرجه من أن يكون يتيماً، وإذا أدرك الصغير أو الصغيرة فقد خرج أن يكون يتيماً، وإدراك الغلام بالاحتلام وأدرك الجارية بالحبل أو الحيض، وإن لم يكن شيء من ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، ففي المسألة اختلاف والمسألة معروفة، وإن احتلم الغلام بعد مجيء الغلة وحاضت الجارية بعد مجيء الغلة، فحصته ثابتة له من هذه الغلة؛ لأنه استحقاق قد ثبت حين جاءت الغلة، وهو لم يدرك، فلا يبطل الإدراك بعد ذلك.

فإن تنازعوا في ذلك فقال سائر المستحقين: إنما احتلمت قبل مجيء الغلة، وقال هؤلاء: بل احتلمت بعد مجيء الغلة، فالقول قوله. وكذلك إذا وقع الاختلاف في حيض الجارية، وهذا لأن الاحتلام أمر حادث، والحيض كذلك، والأصل في الحوادث أن يحال حدوثها على أقرب الأوقات يوضحه: أن حاصل اختلافهم في خروجه عن الاستحقاق، فيكون القول قوله.
وإذا وقف على عقب فلان فاعلم بأن عقب الإنسان كل من يرجع بآبائه إليه، ولا يدخل فيه ولد البنات إلا إذا كان أزواج البنات من ولد فلان، وكذلك أولاد من بنيهن من الإناث لا يدخل في هذا الوقف إلا إذا كان أزواجهن من ولد فلان، ولو وقف على زيد وعقبه ولزيد أولاد وزيد حي لا يكون للأولاد شيء من الوقف؛ لأن ولد الرجل لا يسمى عقبه إلا بعد موته، وإذا وقف على أهل بيته دخل تحت الوقف من كان موجوداً من أهل بيته ومن يأتي بعد هؤلاء من أولادهم، وأولاد أولادهم.
ولو أوصى بثلث ماله لأهل بيته، فإن الوصية لمن كان موجوداً وقت موت الموصي ولمن كان يولد من أهل بيته لأقل من ستة أشهر من يوم مات الموصي، والفرق أن الوصية لا تجوز لمن لم يخلق، والوقف يجوز.

(6/173)


ولو قال: وقف على فقراء أهل بيتي أو قال: على من افتقر من أهل بيتي، قال الخصاف: أنظر في هذا إن كان فقيراً يوم تقع القسمة ولا أعتبر وقت طلوع الغلة، وكذلك في كل موضع كان الوقف على الفقراء، فالخصاف لا يعتبر يوم طلوع الغلة، قال: لأن الواقف إذا ذكر الفقراء صار الوقف كالزكاة لا ينظر إلى يوم الوجوب إنما ينظر إلى يوم الأداء، فكذا هذا.

وفرق هلال بينما إذا كان الوقف على الفقراء والمساكين، وبينما إذا كان الوقف على فقراء قرابته فقال: إذا كان الوقف على الفقراء (16ب3) والمساكين يعتبر الفقير يوم القسمة لا يوم طلوع الغلة، وفيما إذا كان الوقف على فقراء القرابة يعتبر يوم طلوع الغلة حتى لو استغنى بعد ذلك يعطى نصيبه، وإذا مات يورث نصيبه، ولو كان غنياً يوم طلوع الغلة ثم افتقر لا يعطى شيئاً.
والفرق أن في الوقف على الفقراء والمساكين الحق غير ثابت للمعين في الغلة يوم حدوثها. ألا ترى أن للقيم أن يعطي من شاء ويحرم من شاء، وألا ترى أن شهادة الفقيرين على الوقف على الفقراء مقبولة، وإنما يجب الحق بالقسمة فيعتبر يوم القسمة، فأما في الوقف على فقراء قرابته الحق قد وجب لهم بأعيانهم، ألا ترى أن القيم لو منع حصة أحدهم ضمنها له، وألا ترى أنه لا يقبل شهادة الشاهدين من القرابة على هذا الوقف فعلم أن الحق قد ثبت في الغلة يوم حدوثها، فلا يبطل هذا الحق بالموت أو بالاستغناء بعد ذلك.

الفصل الثالث عشر: في الرجل يقف أرضه على الفقراء، فيحتاج أحدمن ولده أو يحتاج هو في وقف نفسه
إذا جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين، فاحتاج بعض قرابته وأراد أن يعطى من تلك الغلة بأن هنا مسألتان: إحداهما إذا احتاج الواقف بنفسه والحكم فيها أن لا يعطى من تلك الغلة شيء، هكذا ذكر هلال في وقفه. قال الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله: هذا الجواب على مذهب هلال صحيح، فإن من مذهبه أن الواقف لو شرط أن يأكل بنفسه مادام حياً لا يصح، ولا يحل له الأكل، فكذا إذا احتاج بعد ذلك لا يحل له الأكل اعتباراً للانتهاء بالابتداء، فأما على قول أبي يوسف يصح؛ لأن على قوله لو شرط في ابتداء الوقف أن يأكل بنفسه صح الشرط له الأكل، فكذا يحل له الأكل في الانتهاء إذا احتاج إليه بعد ذلك، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: هذا الجواب صحيح على قول الكل؛ لأن على قول أبي يوسف إذا شرط في ابتداء الوقف أن يأكل إنما يحل له الأكل؛ لأنه بالشرط استثنى الغلة عن حق الفقراء، فلم يزل الغلة عن ملكه إنما زالت الرخصة عن ملكه، فيصير آكلاً ملك نفسه، أما ههنا الغلة زالت عن ملكه وثبت فيها حق

(6/174)


الفقراء، فلا يصير آكلا ملك نفسه لو حل له الأكل حل بطريق الصدقة، ولا وجه إليه؛ لأنه يصير متصدقاً على نفسه، وقال الفقيه أبو جعفر: يجوز أن يفرق بين الابتداء وبين الانتهاء، فيقال في الابتداء: إنما يستحق بالشرط؛ لأن الشرط خرج على وجه الفساد، وهذا الوقف قد صح بإضافته إلى الفقراء، فيجوز له التناول بحكم فقره، وهذا كما قال محمد في «السير» إذا قال الأمير: إن قتلت هذا الكافر فلي سلبه ثم قتله لا يستحق السلب؛ لأن كلامه خرج على وجه الفساد.
وبمثله لو قال: من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل الإمام بنفسه كافراً استحق السلب؛ لأن كلامه خرج على الصحة، فيستحق السلب عند وجود نسبته منه.
المسألة الثانية: إذا احتاج بعض قرابته، فإن كان الوقف في حالة مرض الموصي لا يعطي؛ لأن هذا في معنى الهبة للوارث في مرض الموت لا يجوز، وكذا إن كان الوقف في حالة الصحة، ولكن يضاف إلى ما بعد الموت بأن قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على المساكين، وهي تخرج من الثلث؛ لأن هذه الوصية والوصية للوارث باطلة، ويعطي ولد ولده إن لم يكن وارثاً ذكر هلال في وقفه، وذكر الخصاف في «وقفه» أنه إذا أوصى الواقف أن يجعل أرضه صدقة موقوفة لله أبداً بعد وفاته على المساكين، فاحتاج ولده أعطاهم غلة هذه الصدقة، وليس هذا بوصية، وأجاب عن قول هلال؛ لأن هذا وصية، فقال: هذا من طريق الايجاب، وإن كان الوقف في حالة الصحة ولم يكن مضافاً إلى ما بعد الموت، ذكر في «واقعات الناطفي» : أن الصرف إلى ولد الواقف أفضل، ثم إلى قرابة الواقف ثم إلى مولى الواقف ثم إلى أهله حضره أيهم أقرب من الواقف منزلاً، وذكر هلال في وقفه أن يعطي أقل من مائتي درهم، وهو أولى من سائر الفقراء.

ولو رأى القيم أن لا يعطيه كان له ذلك وهو قول الفقيه أبي بكر الأعمش رحمه الله مقصود الواقف من الوقف الثواب، والتصدق على فقراء القرابة أكثر ثواباً، وإليه أشار عليه (الصلاة والسلام) في قوله لامرأة عبد الله بن مسعود حين أرادت أن تتصدق على زوجها «لك أجران أجر الصدقة (وأجر القرابة) » والدليل عليه أن في باب الزكاة على قرابته الذين دور الدفع إليهم أولاً ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل بلده، ولكن يعطى أقل من مائتي درهم، ولو أعطى مائتي درهم يجوز، ويكره كما في الزكاة، وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: لا يعطي لأحد من قرابة الواقف شيء من هذا الوقف؛ لأنه إن أعطى صيروه ملكاً بمرور الزمان، فيؤدي إلى إبطال الوقف، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: إن طلب وخاصم وباع القيم لا يعطى؛ لأنه إذا خاصمه في ذلك أن قصده التملك وإبطال الوقف بخلاف ما إذا لم يخاصم ولم ينازع، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن خاصم القيم ونازعه لا يعطى، وإن لم يخاصمه ولم ينازعه يعطى وهو أولى، ولكن لا يصرف إليه كل الغلة، فإنما يصرف في بعض الأزمان دون البعض؛

(6/175)


لأن في صرف الكل إليهم على الدوام إبطال الوقف عسر؛ لأنه ربما يقع عند الناس أنه ملكهم فيشهدون له بالملك عند دعواه ذلك لنفسه، هذا إذا وقف على الفقراء أو احتاج إليه بعض قرابته، فأما إذا وقف على فقراء قرابته تصرف جميع الغلة إليهم، وإن كان نصيب كل واحد منهم أكثر من مائتي درهم؛ لأن الواقف أوجب ذلك، وأما إذا وقف على الأفقر فالأفقر من قرابته، فهنا لا يعطي الكل إنما يعطي أقل من مائتي درهم.

قال هلال: إذا وقف على الفقراء جاز صرفه إلى ولده إذا احتاج إليه، وفرق بين الوقف وبين الزكاة، فإنه لا يجوز صرف الزكاة إلى ولده، والفرق أن بوجوب الزكاة لم يزل ملك المالك عن قدر الزكاة، فكان الواجب على المالك الإخراج والتمليك من كل وجه، ولا يتحقق ذلك فيما بين الوالدين والمولودين؛ لأن منافع الأملاك بينهما متصلة، أما الوقف قد زال عن ملك الواقف بنفس الإنفاق، فليس عليه الإخراج والتمليك من كل وجه، وإنما عليه إعانة الفقراء على أخذ حقهم، والإعانة على أخذ الحق يتحقق بين الوالدين والمولودين.
ولو وقف أرضه على أن نصف غلتها للمساكين ونصفها للفقراء من قرابته فاحتاج قرابته وكان الذي سمي لا يكفيهم يعطيهم (17أ3) ما جعل للفقراء لفقرهم قال هلال: وهو قول أبو يوسف بن خالد السمتي، وقال إبراهيم بن يوسف البلخي: وعلي بن أحمد الفارسي والفقيه أبو جعفر الهندواني يعطون من نصيب الفقراء؛ لأنهم فقراء وفقراء قرابته يستحقون بالجهتين جميعاً كمن وقف أرضاً على قرابته وأرض جيرانه وبعض جيرانه قرابته يستحقون من الوقفين، وجه قول هلال: أنه لما بين نصيب كل فريق فقد قطع الشركة وشرط لكل فريق بعضه فيجب رعاية شرطه.
h
وعن أبي يوسف أن الواقف إن شرط في الوقف أن لفقراء قرابته كذا وللمساكين والفقراء كذا، يعطي فقراء القرابة من نصيب الفقراء، وبه أخذ محمد بن سلام البلخي رحمه (الله) وجعلا هذا نظير الوصية، فإن أوصى ببعض الثلث لقرابته وببعضه للفقراء استحق القريب من نصيبه الفقراء إذا كان فقيراً، وبمثله لو أوصى ببعض الثلث لقرابته والباقي للفقراء لا يستحق القريب من نصيب الفقراء كذا هنا.

لو جعل أرضه صدقة موقوفة على الغارمين وله قرابة محتاجون، فإنهم لا يعطون منها شيئاً إلا أن يكونوا غارمين اعتباراً للشرط، وكذلك إذا قال في ابن السبيل: لا يعطي قرابته منها شيئاً إلا أن يكون في قرابته ابن السبيل، وكذا إذا قال: في سبيل الله قال: وسبيل الله الغزو والجهاد، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنهما قالا: جميع وجوه الخير والبر سبيل الله، ولو جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء فاحتاج قرابته فرفع ذلك إلى القاضي فأعطاهم منها القوت أيكون هذا حكماً لهم من القاضي بالأقوات؟

(6/176)


قال هلال: لا، وإنما هذا بمنزلة الفتوى وليس بقضاء حجة، حتى لو عزل بطل، وكذا لو رجع بنفسه عمل رجوعه، ولو أعطى القيم غيرهم لم يضمن، ولو قال حكمت أن لا يعطى قرابته نفذ حكمه حتى ليس لقاضٍ آخر أن يبطله، ولو أعطى القيم غير القرابة ضمن، هكذا ذكر هلال في وقفه، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا ينفذ حكمه، وجه قوله في ذلك أن هذا حكم بخلاف ما يقتضيه الشرع؛ لأن الواقف ما وقف على القرابة إنما وقف على الفقراء وحال ما وقف لم يكن هؤلاء ليدخلوا تحت الوقف من حيث إنهم فقراء، وجه ما ذكر هلال: أن مقصود الواقف الآخر الثواب، وفي الصرف إلى القرابة أكثر فكان قضاؤه موضع الاجتهاد فينفذ.
لو وقف أرضاً له على فقراء قرابته وأرضاً له أخرى على فقراء المساكين ووقف القرابة لا يكفيهم، فإن كان ذلك في عقد واحد لا يعطون كأنه وقف واحد، وقد قطع الشركة حتى يبين كل واحد نصيباً، فأما إذا كان في عقدين فلم يقطع الشركة، فإذا اجتمع الوصفان استحق بهما، ويجب أن يكون ما ذكر من الجواب فيما إذا كان العقد واحداً على قول هلال و (أبي) يوسف بن خالد على نحو ما بينا قبل هذا.

وإذا وقف أرضه على الفقراء والمساكين فاحتاج بعض قرابته إلى ذلك فأعطي من الغلة مائتي درهم فأنفقها وصار فقيراً وقد بقي من الغلة شيء، فإن كان يعلم أن إنفاقه في غير فساد وأنه أنفقها فيما لابد منه أوصى من يعطي من النفقة ما يكفيه، وإن علم أنه أسرف أو أنفق في فساد لا يعطى؛ لأنه يكون إعانة على الفساد، وكذلك هذا الجواب في الزكاة ويصير هذا الفصل رواية في أن الفقير إذا كان يعلم أنه ينفق في معصية أو سرف، أنه لا ينبغي.

وإذا وقف على فقراء قرابته وله قرابة من غير أهل البلد الذي الواقف إلى تلك البلدة يقسم على فقرائهم في هذه البلدة، وإن بعث القيم إلى تلك البلدة، فلا ضمان وهو بمنزلة الزكاة.
ومما يتصل بهذا الفصل، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة أبداً على زيد وولده وولد ولده أبداً ماتناسلوا، ومن بعدهم على المساكين على أنه إن احتاج قرابتي رد عليهم هذا الوقف، فكانت غلته لهم فكانت قرابته جماعة، فاحتاج بعضهم وبعضهم أغنياء رد هذا الوقف على من احتاج من قرابته، وكذلك لو قال: إن احتاج موالي فاحتاج بعضهم، ولو قال: على أن ولد زيد إن ماتوا ردت غلة هذا الوقف على عمرو، فمات بعض ولد زيد وبقي البعض لم ترد الغلة حتى يموت كل ولد زيد، هكذا ذكر الخصاف قال: ولا يشبه هذا الباب الأول؛ لأن في الأول قصد إلى الرد على المحتاجين منهم.
قال هلال في «وقفه» : إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد موتي على الفقراء، فمن احتاج من ولدي وولد ولدي أعطي ما يكفيه، كان كما قال فإن احتاج أحد من ولد

(6/177)


صلبه ينظر إلى ما يكفيه فيكون ذلك ميراثاً لجميع الورثة؛ لأنه لا يستحق بالوقف؛ لأنه بمنزلة الوصية لا يجوز للوارث، فلا يختص هو به، وإن احتاج بعض ولد الولد أعطي له ما يكفيه، ويكون ذلك بالوقف؛ لأن الوصية له جائزة، فإن احتاج ولد الصلب وولد الولد أعطيا، ثم ما يصيب ولد الصلب يكون بين الورثة وما يصيب ولد الولد يكون له، و (إن) احتاجوا جميعاً يقسم على عدد الرؤوس ثم الحكم ما ذكرنا من الإرث والوقف، وإن استغنى المحتاج لا يعطى له وهذا ظاهر، وإن قصرت الغلة عما يسمى لكل فقير وكان يكفي لأحدهما، فإنه يبدأ بولد الولد؛ لأن حقه قوي يجوز من غير إجازة، وحق ولد الصلب لا يثبت إلا بإجازة الورثة والبداية بالاقوى أولى.