المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الهبة والصدقة
هذا الكتاب يشتمل على اثني عشر فصلاً:
1 * في ألفاظ الهبة، وما يقوم مقامها به.
2 * فيما يجوز من الهبة وما لا يجوز.
3 * فيما يتعلق بالتمليك، وما يتصل به.
4 * في هبة الدين فيمن عليه دين.
5 * في الرجوع في الهبة.
6 * في الهبة من الصغيرة.
7 * في العوض في الهبة.
8 * في حكم الشرط في الهبة.
9 * في اختلاف الواهب والموهوب له، والشهادات في ذلك.
10 * في هبة المريض.
11 * في المتفرقات.
12 * في الصدقة.

(6/235)


الفصل الأول: في ألفاظ الهبة وما يقوم مقامها
ذكر الحاكم في «المنتقى» : إذا كان لرجل عبد في يدي رجل قال المودع لمولى العبد هبة فقال: هو لك فقال: لا أقبل فهو هبة، فقد جعل الهبة نظير النكاح لا نظير البيع، إذا قال لغيره هذه الجارية لك فهي هبة جازت، رواه ابن سماعة عن أبي يوسف، وفي هبة إذا قال: هي لك فاقبضها فهي هبة، وفي الأصل جعلت هذه الدار لك فاقبضها فهي هبة؛ لأن معنى كلامه ملكتك هذه الدار، ألا ترى أن في التمليك يعدل لفظ الجعل ولفظ التمليك سواء، فكذا في التمليك يبدل، وفي الفتوى عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله، إذا قال لغيره: أين ترى فهذه هبة لا يجوز إلا بالقبض، ولو قال: (أين تراست) فهذا إقرار، وسئل أبو نصر عمن قال جميع ما أملكه لفلان قال: هذا هبة لا يجوز إلا بالقبض

وسئل أبو بكر عن رجل له ابن صغير غرس كرماً وقال: اغرسه باسم ابني فهذا لا يكون هبة، قيل: إن قال: جعلته لابني قال: لا شك في هذا أنه هبة. في «الأصل» إذا قال: عمرتك هذه الدار أعطيتك هذا الثوب عطية كسوتك هذا الثوب فهذا كله هبة. وفي «البقالي» إذا قال: أعطيته وهو في يده فقال: أعطيتك فهذا هبة، وإن كان في يد صاحبه فهو وديعة. في «الأصل» إذا قال: منحتك هذه الدراهم أو هذا الطعام، ولو قال: منحتك هذه الأرض، هذه الجارية فهو عارية فالأصل: أن لفظ المنحة إذا أضيفت إلى ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو هبة، وإذا اضيفت إلى ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو عارية.
وإذا قال: أعطيتك هذه الأرض فهو عارية. ولو قال: أطعمتك هذا الطعام، فإن قال فاقبضه فهو هبة، وإن لم يقل فاقبضه يكون هبة أو عارية؟ فقد اختلف المشايخ في شروحهم.
في «الأصل» إذا قال: داري لك عمرى سكنى فهو عارية وليس بهبة. إذا قال: هي لك هبة عارية أو قال: عارية بهبة فهذا كله عارية. ولو قال: داري هذه لك عمرى يسكنها فهو هبة؛ لأن قوله يسكنها ليس بتفسير لقوله عمرى؛ لأن الفعل لا يصلح تفسيراً للاسم بل هو مشورة، فإن شاء قبل مشورته، وإن شاء لم يقبل، بخلاف قوله عمرى سكنى؛ لأن قوله سكنى يصلح تفسيراً لقوله عمرى؛ لأن كل واحد منهما اسم والكلام إليهم إذا تعقبه تفسير فالعبرة للتفسير.
إذا قال: هذه الدار هبة لك ولعقبك من بعدك فهي هبة، وذكر العقب لغو. وكذلك

(6/237)


إذا قال: أسكنتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعد موته فهذه عارية له حياته ولعقبه بعد موته، وذكر العقب لا يكون لغواً، والفرق: أن قوله هي هبة لك تمليك العين منه، وبعد مالك العين لا يبقى له ولاية الإيجاب لغيره فكان كلامه عارية في حقه وفي حق عقبه بعده، في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا قال: لفلان نصف مالي لفلان ربع مالي نصف عبدي هذا فهذا هبة.

وفي «فتاوي النسفي» : إذا قال: لغيره هذه الجارية لك حلال فهذا على أنه أحل فرجها له فلا يجوز إلا أن يكون قبله كلام يستدل على أنه وهبها له، ولو قال: وهبت لك فرجها فهو هبة إذا قبضها.

الفصل الثاني: فيما يجوز في الهبة وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا تجوز الهبة إلا محوزة مقسومة مقبوضة يستوي فيها الأجنبي والولد إذا كان بالغاً، وقوله لا يجوز: لا يتم الحكم، فالجواز ثابت قبل القبض باتفاق الصحابة، والقبض الذي يتعلق به تمام الهبة؛ القبض بإذن الواهب وذلك نوعان: صريح، ودلالة ففيما إذا أذن له بالقبض صريحاً يصح قبضه في المجلس وبعد الافتراق عن المجلس ويملكه قياساً واستحساناً، ولو نهاه عن القبض بعد الهبة لا يصح قبضه لا في المجلس ولا بعد الافتراق عن المجلس ولا يملكه قياساً، ولو لم يكن أذن له بالقبض ولم ينهه عنه إن قبضه في المجلس صح قبضه استحساناً ولم يصح قبضه قياساً، وإن قبضه بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياساً واستحساناً، ولو كان الموهوب غائباً فذهب وقبض، فالجواب فيه وفيما إذا كان حاضراً وقبضه بعد الافتراق عن المجلس سواء إن كان القبض بإذن الواهب جاز استحساناً لا قياساً، وإن كان بغير إذنه لا يجوز قياساً واستحساناً. وفي «البقالي» عن أبي يوسف إذا قال: اقبضه فقال: قبضت والموهوب حاضر جاز إذا لم يشرح الموهوب قبل قوله فقبضت، ولا يكفي قول قبلت، وإذا لم يقل اقبضه، فإنما القبض أن يقبله، فإذا لم يقل قبلت لم يجز وإن يقل إلا أن تكون الهبة....

في «المنتقى» إبراهيم عن محمد: إذا وهب جارية في البيت وليست بحضرتهما فقالت: قبلت لم يجز إلا أن يكون بحضرتهما، وقد ذكرنا أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، والقبض نوعان: حقيقي وأنه ظاهر، وحكمي وذلك بالتخلية؛ لأنها إذا كانت بحضرتهما فقد تمكنت من قبضها حقيقة، وهو تفسير التخلية، وهذا قول محمد خاصة، وعن أبي يوسف: التخلية ليست بقبض في الهبة الصحيحة، فأما في الهبة الفاسدة فالتخلية ليست بقبض بلا خلاف، وفي «المنتقى» أيضاً: إذا وهب غلامه من رجل والغلام بحضرتهما ولم يقل له الواهب، فذهب الواهب وترك الغلام فليس له أن يقبضه حتى يأمره بقبضه.

(6/238)


في «المنتقى» أيضاً: رجل وهب لرجل غلاماً فلم يقبضه الموهوب له حتى وهبه الواهب من رجل آخر ثم أمرهما بالقبض فقبضاه فهو للثاني، وكذلك لو أمره الأول بالقبض فقبضه كان باطلاً؛ لأن الهبة من الثاني أبطلت الهبة من الأول.
وفيه أيضاً: وهب لرجل ثوباً في صندوق مقفل عليها ودفع الصندوق إليه قال: هذا ليس بقابض لما وهب له؛ لأن في الفصل الأول لم يصر مخلياً بين الموهوب والموهوب له، بخلاف «الفصل الثاني في المشاع» فيما يحتمل القسمة من رجلين أو من جماعة، عندهما صحيحة، وعند أبي حنيفة رحمه الله فاسدة وليست بباطلة حتى تفيد الملك عند القبض، فالشيوع من الطرفين مانع صحة الهبة وتمامها بالإجماع، ومن طرف الموهوب له مانع عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأن الشيوع من طرف الموهوب له لا يلحق ضماناً بالمتبرع، وهو المانع من تمام الهبة في الشيوع من الطرفين، وإنما يشترط كون الموهوب مقسوماً ومفرزاً وقت القبض والتسليم لا وقت الهبة بدليل أنه لو وهب نصف الدار شائعاً وسلم ثم وهب النصف الثاني وسلم لا يجوز، وعلى أصل أبي يوسف ومحمد: إذا وهب الدار من رجلين وسلم إليهما جملة يجوز ولو سلم إلى (30أ3) كل واحد منهما نصف الدار لا يجوز فهذا سر لك أن العبرة بحالة القبض، واختلف المشايخ في بيان معنى ذلك بعضهم قالوا: بأن هبة المشاع عندنا غير فاسدة إلا أنها غير تامة لعدم القبض على وجه التمام بسبب الشيوع، فإذا انعدم الشيوع قبل القبض زال المانع من تمام القبض فعملت الهبة الشائعة عملها، وبعضهم قالوا: إن التسليم في معنى شطر العقد في باب الهبة فإذا زال الشيوع قبل القبض صار كأن العقد وقع على المفرز وعلى المقسوم، ولهذا إذا وهب النصف ولم يسلم حتى وهب النصف الآخر وسلم الكل جاز وجعل كأن العقد واحد ضرورة اتحاد الشطر وهو القبض والتسليم بخلاف ما إذا تفرق التسليم؛ لأن هناك تفرق العقد، وكل عقد ليس بتام لانعدام تمام القبض الذي هو شطر العقد، وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال لرجلين: وهبت لكما هذه الدار لهذا نصفها ولهذا نصفها جاز؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا تفسير لحكم العقد على هذا التقدير لا يتمكن الشيوع في العقد وهو المانع من تمام الهبة، وهكذا روى ابن

سماعة عن محمد، ولو قال لأحدهما: وهبت لك نصفها ولهذا نصفها لم يجز لأنه أثبت الشيوع في العقد، لو قال: وهبت لكما هذه الدار لك ثلثها ولهذا ثلثاها على قول محمد: يجوز، وعلى قول أبي يوسف: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا تفسيراً؛ لأن مطلق العقد لا يقتضي المثالثة فكان لإثبات الشيوع في العقد.
وعنه أيضاً: في رجل وهب نصف دار غير مقسوم ودفع الدار إليه فباع الموهوب له ما وهب له لا يجوز، قال: بمنزلة من باع هبة لم يقبضها، وهذا بناء على ما قلنا: إن الهبة لا تفيد الملك قبل القبض، والشيوع لا يحتمل القبض بصفة الكمال إلا بالقسمة فلا

(6/239)


يفيد الملك قبل القسمة فهو معنى ما قال: وهو بمنزلة من باع هبة لم يقبضها. ذكر محمد في «الأصل» هبة الدار من رجلين وعطف عليها الصدقة فقال: وكذلك الصدقة وهذا يدل على أنه إذا تصدق ما يقسم على رجلين إنه لا يجوز عند أبي حنيفة كالهبة.

وفي «الجامع الصغير» قال: لو تصدق بعشر دراهم على فقيرين يجوز، قال الحاكم الشهيد: يحتمل أن يكون المراد من قوله: وكذلك الصدقة على عسر فيكون ذلك بمنزلة الهبة؛ لأنه جعل الهبة من الفقير صدقة فتكون الصدقة على الغني هبة، والأظهر أن في المسألة روايتين: فعلى رواية «الجامع الصغير» فرق بين الهبة والصدقة، وفي «الجامع الصغير» أيضاً: لو وهب عشرة دراهم من فقيرين جاز وجعل الهبة من الفقير كالصدقة، وأما إذا وهب عشر دراهم من غنيين عند أبي حنيفة لا يجوز؛ لأنه هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في شرح كتاب الهبة: إذا وهب الرجل لرجل نصف درهم صحيح من الدراهم المعدلة أنه يجوز هو الصحيح، وجعل هذا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة.
وذكر أصلاً فقال: كل ما يوجب قسمته نقصانا، فإنه مما لا يحتمل القسمة وإذا لم يوجب نقصانا فهو مما يحتمل القسمة، فعلى هذا يقول: إن كان الدرهم الواحد ينتقص بالقسمة يجوز هبة نصفه، وإن كان لا ينتقص لا يجوز هبة نصفه، وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب الباء: إذا وهب لرجلين درهما صحيحا تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن تنصف الدرهم لا يضر فكان مشاعا يحتمل القسمة، قال: والصحيح أن يجوز؛ لأن الدرهم الصحيح لا يكسر عادة فكان مشاعا لا يحتمل القسمة. في «المنتقى» ابن مالك عن أبي يوسف في رجل معه درهمان فقال لرجل: وهبت لك درهما منهما قال: إن كانا مشاعاً مستويين لم تجز الهبة إلا أن يفرز له أحدهما؛ لأن الهبة تناولت أحدهما وهو مجهول، وإن كانا مختلفين فالهبة جائزة؛ لأنهما إذا كانا مختلفين فالهبة قدر درهم منهما وهو مشاع لا يحتمل القسمة.
قال: وأما في المقطعة لا يجوز ذلك حتى يفرزه، ولو قال: وهبت لك أحد هذين الدرهمين وهما مختلطان وهما مما يميز أو لا يميز فالهبة باطلة؛ لأن الموهوب مجهول وسبب التمليك لا ينعقد في محل مجهول، وفيه أيضاً: عن أبي حنيفة إذا دفع درهمين إلى رجلين فقال أحدهما: لك هبة لم يجز كانا في الوزن سواء أو مختلفين؛ لأن الموهوب مجهول، ولو قال: نصفهما لك، وإن كانا في الجودة والوزن سواء لم يجز، وإن كان أحدهما أدون من الآخر وأردى جاز؛ لأنه إذا قال: نصفها لك صار الموهوب معلوماً وهو النصف لو امتنع عمل الهبة إنما يمتنع لمكان الشيوع، فإذا كان في الوزن والجودة سواء يتمكن الشيوع، وإن كان أحدهما أردأ أو أدون فلا شيوع فيجوز. في «فتاوي أبي الليث» رجل قال لحر: بالفارسية ان رهزترا فذهب وزرعها إن كان قال: الحر عندما قال: هذه المقالة قبلت صارت الأرض له وإن لم يقل قبلت لا شيء له، وقد ذكرنا في أول هذا الفصل ما يخالف هذا، وإذا وهب نصف عبده أو ثلثه وسلم يجوز؛ لأن هذا مما لا يحتمل القسمة.

(6/240)


وكذلك إذا وهب عبده رجلين أو وهب رجلان عبداً لهما من رجل، وكذلك لو وهب رجل لرجلين نصف عبدين أو نصف ثوبين أو نصف عشرة أثواب مختلفة زطي وهروي؛ لأن مثل هذه الهبات لا يقسم قسمة واحدة، فكان واجبا لقضية بنصف كل ثوب، وكل ثوب ليس بمحتمل القسمة في نفسه، وكذلك الدواب المختلفة على هذا، وإن كان ذلك من نوع واحد يقسم قسمة واحدة، وكذلك الدواب المختلفة على هذا، وإن كان من نوع واحد لم يجز هبته إلا مقسوماً؛ لأن الهبات إذا كانت من نوع واحد يقسم واحدة الدواب، كذلك إنما وهب النصف مشاعاً فيما يحتمل القسمة وذلك جائز أو إن وهب نصيباً له في حائط أو طريق أو حمام وسمي وسلط فهو جائز؛ لأنه غير محتمل للقسمة؛ لأنه إذا قسم لا يمكن الانتفاع على الوجه الذي ينتفع به قبل القسمة وهذا هو صفة مالا يحتمل القسمة.
نوع منه: رجل وهب لرجل داراً فيها متاع الواهب ودفعها إلى الموهوب له فالهبة باطلة، هكذا ذكر في «الزيادات» ومعناه إنه غير تامة وفي «البقالي» يقول: في الدار متاع الواهب أو إنسان من أهله، الأصل في جنس هذه المسائل أن اشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام الهبة، لما ذكرنا: أن القبض شرط تمام الهبة، واشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام القبض من الموهوب له، وهذا لأن الموهوب ما دام يملك الواهب كان يد الواهب قائمة على الموهوب لقيامها على ما هو شاغل للموهوب، وقيام يد المواهب.... يمنع تمام الموهوب له، فأما اشتغال ملك الواهب بالموهوب لا يمنع تمام الهبة؛ لأن الموهوب فارغ لا مانع من تمام القبض؛ لأن اشتغال ملك الواهب للموهوب لا يوجب يد للواهب على الموهوب له فلا يمنع تمام الهبة.
جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: الموهوب وهو الدار مشغولة بملك الواهب فيمنع تمام القبض وهو المعني من البطلان المذكور. في «الكتاب» ألا ترى أنه لو فرغ الدار وسلمها إليه فارغة تمت الهبة فيها، كذلك لو وهب لرجل آخر جراباً أو جولقاً فيه طعام الواهب فالهبة غير تامة لما ذكرنا، لو وهب مافي الدار من المتاع فالهبة تامة (30ب3) لأن الموهوب ههنا شاغل بملك الواهب وليس بمشغول بملكه وذلك لا يوجب يداً للواهب على الموهوب، أكثر ما فيه أن يد الواهب قائمة على الدار والجوالق والمتاع والطعام فيها إلا أن هذه الأشياء مانعة دالة تحفظ ما فيها، وقيام اليد على البيع لا يوجب قيام اليد على الأصل ولا كذلك المسألة الأولى، نظير هذا: إذا وهب جارية لرجل عليها حلي وهب الجارية وسلمها فالهبة تامة؛ لأن الموهوب شاغل بملك الواهب.

وبمثله لو وهب الحلي دون الجارية وسلم الجارية فالهبة تامة، وكذلك إذا وهب دابة وعليها سرج أو لجام وهب الدابة دون السرج واللجام وسلمها إليه فالهبة تامة، ولو وهب السرج واللجام دون الدابة فالهبة غير تامة، والمعنى ما ذكرنا، ولو أن الواهب أودع

(6/241)


المتاع والطعام من الموهوب له ثم وهبه الدار والجوالق منه وسلم الكل إليه أو أودع المتاع والطعام بعدما وهب الدار والجراب والجوالق وسلم الكل إليه تمت الهبة في الدار؛ لأن بالإيداع تثبت يده على المتاع حقيقة، فلا تبقى يد الواهب على الشاغل حقيقة.
وفي «فتاوي أبي الليث» : وهبت المرأة دارها من رجل هو زوجها وهي ساكنة فيها ولها أمتعة فيها والزوج ساكن معها يصح؛ لأنها مع ما في يدها من الدار في يد الزوج فكانت الدار في يد الواهب معنى فصحت الهبة.

وفي «المنتقى» : رجل وهب عبده من رجل وعلى عنق العبد شيء يحمله جازت الهبة في العبد، ولو وهب حماراً عليه حمل وهب الحمار دون الحمل لا يجوز وهو بناء على ما ذكرنا، وهب رجل أرضاً فيها زرع ونخيل أو نخيلاً فيها تمر أو وهب زرعاً أو نخيلاً في أرض أو تمراً على نخل لم تجز الهبة؛ لأن الموهوب متصل بغير الموهوب اتصال خلقة فكان بمنزلة مشاع يحتمل القسمة. والطرفان في حق هذا المعنى على السواء، وهب داراً وسلمها إلى الموهوب له وفي الدار متاع الواهب، ثم وهب المتاع منه بعد ذلك وسلمه إليه جازت الهبة في المتاع ولا تجوز في الدار. لو وهب المتاع أولاً وسلمه إليه ثم وهب الدار منه وسلمها إليه جازت الهبة فيهما، كذلك إذا وهب الجراب والجوالق ولم يسلم حتى وهب الطعام وسلم جملة جازت الهبة في الكل؛ لأنه مانع من تمام الهبة حالة التسليم.
وهب من آخر دار فيها متاع الواهب، وهب الدار والمتاع جملة بعقد واحد وسلمها إلى الموهوب له ثم جاء مستحق المتاع، فالهبة تامة في الدار؛ لأن بالاستحقاق لا يتبين أن الدار كانت مشغولة بملك الواهب وهو المتاع من تمام الهبة في المسألة الأولى، كذلك لو وهب جوالقاً بما فيه من المتاع وسلمها إلى الموهوب له ووهب جراباً بما فيه من الطعام ثم استحق المتاع والطعام كانت الهبة تامة في الجراب والجوالق.
v
ولو وهب أرضاً بما فيها من الزروع وسلمها أو وهب نخيلاً بما فيها من التمر وسلمها ثم استحق الزرع والتمر بدون النخيل والأرض فالهبة باطلة في الأرض والنخيل؛ لأن باستحقاق الزرع ظهر الشيوع المقارن بالهبة على وجه يحتمل القسمة إنه يبطل الهبة بخلاف مسألة الجوالق والجراب والدار.
في «المنتقى» قال لغيره: وهبت لك هذين البيتين وأحدهما مشغول لا تجوز الهبة في واحد منهما، ولو قال: وهبت لك هذا البيت وحصتي من هذا البيت الآخر جازت الهبة في البيت؛ لأن في الفصل الأول العقد في البيتين حصل بلفظين، فبطلان أحدهما لا يوجب بطلان الآخر، وفيه أيضاً: إذا وهب داره من ابنين له أحدهما صغير في عياله والآخر كبير قال: إن قبض الكبير جازت الهبة لهما، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أن الهبة فاسدة وهو الصحيح، ولا شك في فساد هذه الهبة عند أبي حنيفة، وإنما الشك على مذهبهما، فإنه لو وهب من كبيرين يجوز عندهما، وإذا كان أحدهما صغيراً قال: لا

(6/242)


يجوز، وهكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» والفرق: إنه إذا كان أحدهما صغيراً فالهبة للصغير انعقدت للحال لقيام قبض الأب مقام قبضه، والهبة من الكبير احتاجت إلى قبض الكبير مانعة معنىً ففسدت كلها بالإتفاق.
قال «البقالي» : الحيلة أن يسلم الدار إلى ابنه الكبير ثم يهب الدار منهما. الحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا أعطاه نصف داره صدقة عليه ونصفها هبة له وقبل ذلك الرجل وقبضها فهو جائز، وله أن يرجع في نصفها الذي وهبه، وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن الهبة مع الصدقة يختلفان حكماً، فإنه لا رجوع في الصدقة، وفي الهبة رجوع، وباختلاف الحكم يتحقق الشيوع فينبغي أن لا تجوز الهبة.
نوع منه: إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وسلطه على القبض جاز ذلك استحساناً، والقياس: أن لا يجوز وبه أخذ زفر؛ لأن الدين ليس بمال، والهبة وضعت لتمليك المال، فالهبة أضيفت إلى غير محلها فلا يصح، وإنما جاز هبة الدين فيمن عليه الدين بطريق الكناية عن الإبراء والإسقاط، ولنا: أن الواهب لما أمره بالقبض فقد جعله نائباً عن نفسه في القبض فيقع قبض الموهوب للواهب أولاً ثم لنفسه أو أن عمل الهبة ما بعد القبض وبعد القبض هو مال محل للتمليك بخلاف البيع؛ لأن أوان عمله للحال فهو في الحال ليس بمحل التمليك.

وإذا وهب ما على ظهر غنمهم من الصوف أو في ضرعها من اللبن لم يجز، فإن أمره بجز الصوف وحلب اللبن ففعل وقبض جاز استحساناً، وعلى هذا زرع الأرض وثمر الأشجار إذا أمره بجزاز وحصاد كذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا وهب ما في بطن جاريته لرجل وسلط على قبضه إذا وضعت فوضعت وقبضها الموهوب له لم يجز، وكذا دهن السمسم قبل أن يعصر، والزيت في الزيتون، ودقيق الحنطة. من أصحابنا من يقول: على قياس هبة الدين ينبغي أن يجوز ههنا أيضاً إذا سلطه على القبض، والأصح أن لا يجوز، أما الولد الذي في البطن فلأنه يتيقن بوجوده في البطن، وبعد الوجود لا يتيقن بحياته، ودهن السمسم وزيت الزيتون ودقيق الحنطة لا بد لوجودها في السمسم من العصر، وفي الحنطة من الطحن والعصر والطحن آخرهما وجوداً، فيضاف وجود الدهن والدقيق إلى العصر والسمسم فلم يكن موجوداً وقت الهبة، فلهذا لا يجوز.

وفي «فتاوي البقالي» عن محمد: إنه يجوز في الدهن، وكذلك في قوله: إن أدرك التمر وقد طلع أو إذا كان عسر. في «الفتاوي لأبي الليث» : رجل صلب منه لولده فوجهها لرجل وسلطه على قبضها وطلبها فطلبها وقبضها قال أبو يوسف: الهبة باطلة؛ لأن في قيامها وقت الهبة خطر، وقال زفر: الهبة جائزة، ذكر الحاكم في «المنتقى» : إذا وهب المضاربة للمضارب وبعضها على الناس وبعضها في يده جازت الهبة فيما في يدها، وأما ما كان على الناس، فإن قال: اقبضها فهو جائز، وإن كان في يد المال ربح فلا يجوز قال: لأنها هبة غير مقسومة، أما هبة في يد المضارب فهو هبة عين هو أمانة في يد

(6/243)


المضارب، وأما هبة على الناس فهو هبة الدين من غير من عليه الدين، وهبة الدين من غير من عليه الدين إذا سلطه على القبض وقبض صحيحة استحساناً، وأما الربح فهو هبة المشاع فيما يحتمل القسمة.

الفصل الثالث: فيما يتعلق بالتحليل وما يتصل به
في «فتاوي أبي الليث» : (31أ3) في رجلٍ قال لآخر: أنت في حلٍ مما أكلت من مالي فله أن يأكله، ولو قال: من أكل من مالي فهو حل لا يحل لأحد أن يأكل، هذا قول ابن زياد حكى عنه نصير قال نصير: وسألت محمد بن سلمة عن ذلك فقال: كل من أكل فهو في حل، قال نصير أيضاً: سألت محمد بن مقاتل عن رجل له شجرة فقال: من أكل منها فهو حل، ولا بأس أن يأكل منها الغني والفقير.
إذا قال لآخر: حللني من كل حق لك علي ففعل وأبرأه من غير أن يعلم ما عليه قال أبو يوسف: برئ مما عليه حكما وديانة، وقال: محمد في الحكم كذلك، وفي الديانة لا يطيب له ما لم يعلم صاحب الحق بما عليه. في «فتاوي القاضي» والصحيح قول أبي يوسف؛ لأن الإبراء إسقاط، وجهالة الساقط لا تمنع صحة الإسقاط، وعن نصير قال: سألت الحسن بن زياد عن رجل قال لآخر: أنت في حل مما أكلت من مالي، أو قال: أخذت أو قال: أعطيت قال: لا يحل أن يأخذ وأن يعطي إلا الأكل.

وسئل أبو بكر عمن قال لآخر: جعلتك في حل الساعة أو قال في الدنيا، قال نصير في حل الدارين، ولو قال: لا أخاصمك ولا أطلبك فيما لي قبلك قال هذا ليس بشيء وحقه عليه على حاله، وسئل أبو القاسم عمن سيب دابته لعلة فأخذها إنسان وأصلحها لمن تكون قال: إن سيبها وقال: من شاء فليأخذها فأخذها رجل فهي له، قال الفقيد أبو الليث: الجواب هكذا، إذا قال لقوم معينيين عند القبض، وإن لم يقل ذلك لقوم معينيين أو لم يقل ذلك أصلاً فالدابة على ملك صاحبها أين وجدها، وفي «الفتاوي» ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما. إذا قال: ذلك القول أو قال مطلقا، وسئل أبو بكر عمن قال أبحت مالي لفلان أن يأكل، والمباح له لا يعلم بذلك يباح له الأكل؛ لأن الإباحة إطلاق والإطلاق لا يعلم قبل العلم، وسئل هو أيضاً عن عبد مأذون دفع من مال مولاه أو من تجارته شيئاً لإنسان هبة هل يسعه أن يقبل منه؟ قال: إن دفع شيئاً أو بلغ مولاه كره ذلك لا يسعه أن يقبل، وإن دفع شيئاً لو بلغ مولاه لا يكره ذلك وسعه أن يقبل منه. إذا وهب للصغير شيء من المأكول هل يباح لوالديه أن يتناولا من ذلك؟ روي عن محمد نصا أنه يباح، رجل اتخذ وليمة للختان وأهدى الناس هدايا ووضعوا بين يدي الولد فهذا على وجهين:

إما قال هذا للولد أو لم يقل، والجواب في الوجهين واحد، فنقول: المسألة على

(6/244)


قسمين: أما إن كانت الهدية تصلح للصبي كالدراهم والدنانير ومتاع البيت والحيوان ففي القسم الأول الهدية للصبي؛ لأن هذا تمليك من الصبي عادة، وفي القسم الثاني ينظر إلى المهدي، فإن كان من أقرباء الأم أو من معارفها فهي للأم؛ لأن التمليك منها عرفاً، هكذا روي عن الشيخ أبو القاسم عن أبي الليث، فالحاصل: أن التعويل على العرف حتى لو وجد سبب أو وجه يستدل به على غير ما قلنا معتمد على ذلك، وكذلك إذا اتخذ وليمة لزفاف ابنته إلى بيت زوجها فأهدى أقرباء الزوج أو أقرباء المرأة، وهذا كله إذا لم يقل المهدي: أهديت الأب أو الأم في المسألة الأولى، وللزوج أو المرأة في المسألة الثانية؛ بأن تعذر الرجوع إلى قول المهدي، أما إذا قال: فالقول قول المهدي؛ لأنه هو المملك.

وفي «فتاوي سمرقند» بأن رجل قدم من السفر وجاء بهدايا إلى من نزل عنده، وقال له: اقسم هذه الأشياء بين امرأتك بين أولادك وبين نفسك، إن كان المهدي قائماً يرجع في البيان إليه، وإن لم يكن فما يصلح للنساء فهو للنساء، وما يصلح للصغار من الإناث فهو لهن، وما يصلح للصغار من الذكور فهو لهم، وما يصلح له فهو له، وإن كان يصلح للرجل وللمرأة جميعا ينظر إلى المهدي بحيث إن كان من أقارب الرجل أو من معارفه فله، وإن كان من أقارب المرأة أو من معارفها فلها، فإذاً التعويل على العادة.
وفي «الفتاوي لأبي الليث» : رجل أهدى إليه جاره شيئاً من المأكولات في إناء فأراد أن يأكل في ذلك الإناء هل يباح له ذلك؟ قال: إن كانت الهدية ثريداً ونحوه يباح له التناول من الإناء؛ لأنه مأذون فيه دلالة؛ لأنه لو جعل في إناء آخر ذهبت الذمة، وإن كانت الهدية مثل الفاكهة ونحوها، فإن كان بينهما انبساط مثل هذا يباح له التناول لمكان الإذن، وإن لم يكن بينهما انبساط في مثل هذا لا يباح لانعدام الإذن، سئل أبو مطيع عن رجل قال الآخر: ادخل كرمي وخذ من العنب كم يأخذ؟ قال: عنقوداً واحداً، وإن قال: خذ من البرتقال، يأخذ مقدار منوين؛ لأن المنوين يجوز في كفارة اليمين. قال الفقيه أبو الليث: يجوز له أن يأخذ من العنب مقدار ما يشبع إنسانا؛ لأن هذا أذن بأخذ ما يحتاج إليه في الحال عادة.

الفصل الرابع: في هبة الدين ممن عليه الدين
ذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح كتاب الهبة أن هبة الدين ممن عليه لا تتم من غير قبول والإبراء يتم من غير قبول، ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء، وعن زفر رحمه الله: أنه سوى بينهما وقال: تتم الهبة والإبراء بدون القبول، وهذا الذي ذكر اختياره، وذكر في بيوع «الواقعات» فصل الهبة كما ذكره شمس الأئمة أنه لا يتم من غير قبول، وذكر عامة المشايخ في شرح كتاب الكفالة وفي شرح كتاب هبة الدين ممن عليه: والإبراء يتم من غير قبول ويريد بالرد وابراؤه يتم من غير قبول ولا يرد، وإن وهب الدين الذي عليه الأصل أو أبرأه فمات قبل الرد فهو بريء؛ لأن البراءة تتم من غير قبول،

(6/245)


فإن رد الوارث هذا الإبراء يعمل ردّه ويقضى المال، وقال محمد: لا يعمل رده والبراءة ماضية على حالها.

فوجه قول محمد: أن الإبراء وقع للميت؛ لأن الدين على الميت فلا يعمل رد الوارث، كما لا يعمل رد الكفيل بإبراء الأصيل، وكما لا يعمل رد الوكيل بقضاء الدين إبراء الموكل، ولأبي يوسف أن الإبراء وقع للوارث معنى؛ لأن الدين انتقل إلى الوارث في حق أحكام الدنيا، ألا ترى أن المطالب بالدين هو الوارث بخلاف الوكيل بقضاء الدين والكفيل؛ لأن الإبراء للأصيل؛ لأنه حي يطالب به وينتفع بالإبراء فلا يعمل رد الكفيل ورد الوكيل أما هنا بخلافه.
ولو وهب الغريم الدين من الوارث صح بلا خلاف؛ لأن الإبراء وقع له، ولو كان لرجل دين على عبد الغير فوهب الغريم الدين لمولاه صح سواء كان على العبد دين أو لم يكن.
في كتاب الهبة: وهب عبداً لتاجر، فإن رده المولى هل يرد برده؟ قيل: هو على الخلاف الذي تقدم في رد الوارث، وقيل: بأن هذا يرد إجماعا.
إذا كان الدين بين شريكين فوهب أحدهما نصيبه من المديون صح، ولو وهب نصف الدين مطلقا ينفذ في الربع ويتوقف في الربع كما لو وهب نصف العبد المشترك، من عليه الدين إذا وهب مالا من رب الدين يملكه رب الدين بالهبة لا بالدين. في «الزيادات» في آخر باب الحوالة في «فتاوي أبي الليث» : إذا قال المولى لمكاتبه: وهبت لك ما لي عليك فقال المكاتب: لا أقبل عتق المكاتب والمال دين عليه وهذا بناء على ما قلنا: إن هبة الدين ممن عليه الدين تصح من غير قبول وترد بالرد فلا يظهر انتقاض الهبة في حق انتقاض العتق.
وفيه أيضاً: سئل أبو بكر عن شريكين قال أحدهما لصاحبه: وهبت لك حصتي من الربح فرد علي رأس المال فرده عليه، ثم أراد أن يطالبه بالربح قال: إن كان (31ب3) المال قائماً غير مستهلك ولم يقسمها حتى وهبة فالهبة باطلة والله أعلم.

الفصل الخامس: في الرجوع في الهبة
الهبة أنواع: هبة الأجنبي، وهبة لذي محرم، وهبة لذي رحم ليس بمحرم أو محرم ليس بذي رحم، وفي جميع ذلك للواهب حق الرجوع قبل التسليم؛ لأنه بالرجوع قبل التسليم يمتنع إتمام العقد، وبعد التسليم ليس له حق الرجوع في ذي الرحم المحرم سواء كان أحدهما كافراً، وفيما سوى ذلك له حق الرجوع إلا مانع أخذ العوض، وأن يزداد الموهوب في يديه زيادة متصلة حتى إن زيادة الشعر لا تمنع الرجوع، وكذلك الزيادة المنفصلة لا تمنع الرجوع في الأصل لما يأتي بعد هذا، وأن يخرج الموهوب عن ملك

(6/246)


الموهوب له، وأن يموت الواهب أو الموهوب له، وأن يهلك الموهوب، وأن يتغير الموهوب من جنس إلى جنس الموهوب حكماً بصيرورته شيئاً آخر.
ذكر في باب العطية من هبة الأصل: إذا وهب لرجل عبد مريضاً به جرح فداواه الموهوب له حتى برء فليس للواهب أن يرجع فيها الزيادة الصفة الحاصلة عند الموهوب له، وكذلك لو كان أصماً أو أعمى فسمع وأبصر، أما إذا مرض في يد الموهوب له فداواه حتى برء كان للواهب أن يرجع فيه، وإن كان الموهوب داراً أرضاً فبنى في طائفة منها بناء أو غرس شجراً فلا رجوع، وهذا إذا كان ما بني يعدّ زيادة، وإن كان لا يعد زيادة.... أو يعد نقصاناً كالسور في الكاسان لا يمنع الرجوع، فالمانع من الرجوع الزيادة في المالية بزيادة في العين، كذا ذكره شمس الأئمة السرخي رحمه الله، والنقصان في الهبة فعل الموهوب له أو لا بفعله لا يمنع الرجوع.

الحسن بن زياد في «المحرر» عن أبي حنيفة، إذا وهب لرجل ثوباً فصبغة فله أن يرجع فيه، قال ابن أبي مالك: كان أبو يوسف أولاً يقول في هذه المسألة بقول أبي حنيفة ثم رجع وقال: ربما أنفق على السواد أكثر مما أنفق على الأصباغ فأدى إلى زيادة فليس له أن يرجع. من المشايخ من رجح قول أبي يوسف لما أشار إليه من المعنى، ومن المشايخ من قال: إن أبا حنيفة ما قال بانقطاع حق الرجوع في سواد يزيد في قيمة الثوب، وإنما قال ذلك في سواد ينقص قيمة الثوب، ومنهم من قال: فتوى أبي حنيفة في مطلق السواد؛ لأن السواد آخر الألوان لا يقبل الثوب لوناً آخر بعده، فصار السواد نقصاناً من حيث إنه لايقبل لوناً آخر.
في «المنتقى» : ذكر هشام عن محمد: رجل وهب لرجل جارية أعجمية فعلمها القران والكلام والكتابة، فللواهب أن يرجع فيها في قولهم، وكذلك لو علمها عملاً آخر، ذكره بعد هذا يريد بقوله في قولهم في قول عامة العلماء سوى قوله، قال: لأنهم يقولون: ما أنفق عليها في ذلك لا يضعه على رأس المال في بيع المرابحة، يشير إلى (أن) هذا ليس بزيادة على الحقيقة إذ لو كان زيادة لكان ما أنفق عليها في ذلك مضموماً إلى رأس المال.

قال محمد رحمه الله: وله أن يبيعها عليه مرابحة عندنا وقد أشار إلى أن هذا زيادة على الحقيقة فلا تكون للواهب أن يرجع فيها، ثم ذكر محمد لنفسه أصلاً فقال: كل ما زاد صلاحاً في العين فليس للواهب أن يرجع فيها، وما كان بغير فعل أحد أو غلا سوقه فله أن يرجع فيه، وهذا لأن ما زاد صلاحاً بفعل الغير فهو زيادة معنوية تبدل الأعراض بإزائها فيصير نظير الصبع المتصل بالثوب، ولا كذلك ما إذا أراد صلاحاً بغير فعل أحدٍ، وأبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما من العلماء يقولون: حق الرجوع حق أثبته الشرع لفوات عرض وهو العرض فلا يؤثر في قطعه إلا زيادة لها غير قائم متصل بتعذر الفسخ بحكم الرجوع، ويصير المحل لمكان الزيادة في حكم الهالك.
وذكر بعد هذا عن الحسن بن زياد عن أبي يوسف إنه لا رجوع فيه. قال: ثمة روى

(6/247)


أبو يوسف عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف، ذكر الحاكم إذا ولدت الجارية الموهوبة ولداً فله أن يرجع فيها إذا استغنى الولد عنها. في «فتاوي أبي الليث» وهب من آخر كرباساً فقصره الموهوب له فليس أن يرجع فيه فرق بين هذا وبين الغسل، وفيه أيضاً: وهب من آخر عبداً كافراً فأسلم في يد الموهوب له فليس للواهب أن يرجع فيه؛ لأن الإسلام زيادة فيه، وعن محمد أن له أن يرجع. في «فتاوي أبي الليث» : رجل وهب لرجل ثم أسلم فحمل الموهوب له التمر إلى يده ليس للواهب أن يرجع فيها. قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : من وهب لرجل جارية في دار الحرب إلى دار الإسلام ليس للواهب أن يرجع فيها؛ لأنه ازداد زيادة متصلة.
وفي «المنتقى» محمد عن أبي حنيفة: في رجل وهب من آخر ثياباً هروية بهراة فحملها إلى العراق ووهب طعاماً في العراق فحمله الموهوب له إلى مكة، فليس للواهب أن يرجع، قال: لأنها زيادة، قالوا: وهذا إذا كان قيمته في المكان المنقول إليه أكثر، فأما إذا كان أقل أو كان على السواء فللواهب أن يرجع. وفي «البقالي» ذكر الزيادة في وضع المسألة فقال: لو حمل الثياب إلى بلد وزاد قيمتها أو كان أنفق في النقل ما لو أبان في الكرا مالاً، وذكر القاضي الإمام علي السغدي في شرح «السير» في باب الأنفال: إذا كانت الهبة شيئاً لا حمل له ولا مؤنة فحمله الموهوب له أي إلى بلدة يعرفها ويعلو سعرها فلا رجوع فيها، ولو حمل إلى بلدة لا يعرفها وكان السعر في البلدتين على السواء ثم عزّ وغلا سعره فللواهب الرجوع كما لو وهب سعره في بلده. ولو نقطه المصحف فأعرب فلا رجوع، وكذا قيل في تحديد السكين.

وللواهب أن يرجع في بعض الهبة إن شاء، وكذلك لو وهب عبداً لرجلين أو جعله لإحدهما صدقة، وكذلك لو وهب رجلان لرجل هبة وقبضها الموهوب له ثم أراد أحدهما أن يرجع في هبته فله فلك، وإذا حبلت الجارية الموهوبة، فإن كان الحبل قد ازداد فيها حسناً ليس له أن يرجع فيها، وهذا لأن حال النساء مختلف فمنهن من إذا حبلت سمنت وحسن لونها، ومنهن من إذا حبلت أصفرّ لونها ودق ساقها، والزيادة تمنع الرجوع، والنقصان لا يمنع فينظر في ذلك.
في «المنتقى» : رجل وهب لرجل وظيفاً فشب عند الموهوب له وكبر وطال، فأراد الواهب أن يرجع فيه وقيمته الساعة أقل من قيمته حين وهبه فليس له أن يرجع فيه؛ لأنه زاد من وجه وانتقص من وجه آخر، وحين زاد سقط حق الرجوع فلا يعود بعد ذلك، ولو كان طويلاً يوم وهبه فطال عند الموهوب له وكان ذلك الطول نقصان لا زيادة بل كان أسمج له وكان ينقص ثمنه، فهذه الزيادة ليست بزيادة حقيقة فلا يمنع الرجوع، وقد يكون الشيء زيادة ونقصاناً معنى كالإصبع الزايدة، وإذا وهب لرجل حديدة فضربها سيفاً أو وهب دفاتر فكتب فيها لم يكن (له) أن يرجع في ذلك.

أما تبدل العين أو الزيادة في العين إذا وهب له جذعاً فكسرها وجعلها حطباً أو وهب له لبنا فجعله طيناً فله أن يرجع فيها وإن أعادها لبنا لم يرجع فيها، ولو وهب له

(6/248)


عنباً فجعله خلاً لم يرجع فيه، ولو وهب له حماماً فجعله مسكناً أو وهب له بيتاً فجعله حماماً، فإن كان البناء على حاله لم يزد فيه شيئاً فله أن يرجع، وإن كان زاد فيه بناء أو علق عليه باباً أو جصصه أو أصلحه أو طينه فليس له أن يرجع فيه؛ لأن هذا كله زيادة في العين، ولو وهب له شاة فله أن يرجع فيها وهذا بلا خلاف، وكذا لو ضحى بها أو ذبحها في هدي المتعة (32أ3) لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع فيها وتجزئه الأضحية والمتعة ولم يقف على قول أبي حنيفة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنه كقول أبي يوسف، وقال بعضهم: إنه كقول محمد وهو الصحيح.
وهب لرجل هبة وقبضها الموهوب ثم وهبها الموهوب له لرجل آخر، ثم رجع فيها الواهب الثاني بهبة أو صدقة أو إرثاً أو وصية أو شراء أو ما أشبه ذلك لم يكن للواهب الأول أن يرجع فيه، يجب أن يعلم بأن الرجوع في الهبة على رواية «الجامع» فسخ عند محمد سواء كان الرجوع بقضاء أو بغير قضاء، وكذلك على رواية «الأصل» أن رواية أبي حفص وعلى رواية «الأصل» من رواية أبي سليمان فسخ إذا كان بغير قضاء فهو عقد جديد، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال، وقد ذكرنا المسألة بتمامها مع ما فيها من اختلاف المشايخ في زكاة «الجامع» ، فما ذكر من الجواب في الفصل الأول فيما إذا كان الرجوع بغير قضاءٍ فهو يوافق رواية أبي حفص ورواية «الجامع» على قول محمد بن سماعة عن أبي يوسف.

ويجوز تصرف الموهوب له في الهبة ما لم يحكم القاضي بنقضها، فإذا حكم فلا يجوز تصرفه، وكذلك قول محمد وأبي حنيفة، يجب أن يعلم بأن الرجوع في الهبة لا يصح إلا بقضاء أو برضا، إما لأن الرجوع مختلف فيه بين العلماء فكان في أصل ثبوته نوعها، أو لأن فيه قطع الملك على الموهوب له، وقطع الملك على الإنسان من غير قضاء ولا رضا لا يجوز، فقبل قضاء القاضي، وقبل رد الموهوب له الهبة على الواهب باختياره تصرف الموهوب له حصل في ملك نفسه فيصح، وبعد ما قضى القاضي أو رد الموهوب له الهبة بإختياره صار الموهوب ملكاً للواهب فلا يصح تصرف الموهوب له، وإن مات في يد الموهوب له قبل أن يقبضه الواهب بعد ما قضى القاضي به لم يكن للواهب أن يضمنه؛ لأن أصل القبض لم يكن ضمان، فكذا الدوام عليه إلا أن يكون منعه بعد القضاء وقد طلب منه الواهب، فحينئذ يصير متعيناً فيضمن، ولو لم تزداد الهبة بعد الرجوع ولم يحكم به الحاكم حتى وهب الموهوب له الهبة من الواهب فهو بمنزلة رده أو رد الحاكم؛ لأن الرد بعد الرجوع مستحق على الموهوب له فيقع عن جهة المستحق، وإن دفعه الموقع بجهة أخرى عرف ذلك في موضعه، وإذا قضى القاضي بإبطال الرجوع لمانع ثم زال المانع عاد الرجوع.
d

بيانه: إذا بنى في الدار الموهوبة له وأبطل القاضي رجوع الواهب بسبب البناء فهدم الموهوب له البناء وعادت كما كانت فله أن يرجع فيها، وهذا بخلاف ما لو اشترى عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فحينئذٍ العبد في مدة الخيار وخاصم المشتري البائع في الرد وأبطل حقه بسبب الحمي ثم زال الحمي في مدة الخيار وليس له أن يرد، وهب لامرأة ثم

(6/249)


تزوجها فله أن يرجع فيها، ولو وهب لامرأته هبة ثم أبانها فليس له أن يرجع فيها؛ لأن في الوجه الأول الهبة انعقدت موجبة للرجوع، وفي الوجه الثاني انعقدت غير موجبة للرجوع، والبقاء يكون على نهج الانعقاد، وهبت لعبد رجل أشياء فالقبول والقبض إلى العبد وبعد القبول والقبض فالملك للمولى، فبعد ذلك ينظر إن كان العبد ومولاه كل واحد منهما أجنبياً عن الواهب فللواهب حق الرجوع، وإن كان العبد ذا رحم محرم من الواهب بأن كان أخاه والمولى أجنبي عن الواهب فللواهب حق الرجوع، وإن كان العبد أجنبياً من الواهب ومولاه ذو رحم محرم من الواهب بأن كان مولى العبد أخاً للواهب فللواهب حق الرجوع فيها عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن كان العبد ومولاه وواحد منهما ذو رحم محرم من الواهب فعلى قولهما ليس للواهب حق الرجوع، أما على قول أبي حنيفة قال الكرخي: قال محمد: قياس قول أبي حنيفة أن له حق الرجوع، وقال الفقيه أبو جعفر: ليس له حق الرجوع.
وإذا كان للرجل دين فوهب المولى العبد من رب الدين وسلمه إليه حتى سقط دينه ثم رجع المولى في العبد قال أبو يوسف: يعود الدين، وقال محمد: لا يعود. هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر الحاكم في «المنتقى» قول أبي يوسف كقول محمد، حكي عن البلخي أن أبا يوسف استحسن قول محمد فقال: أرأيت لو كان الدين لصبي على عبد رجل وهب مولى العبدِ العبدَ من الصبي وقبله الوصي وقبض العبد وسقط الدين ثم رجع الواهب في الهبة لو قلنا: لا يعود الدين ملك الوصي تصرفاً صار بالصبي وإنه فاحش.
في «العيون» صبي له على مملوك وصية دين، وهب الوصي المملوك من الصبي جاز وبطل الدين، فلو أراد الوصي أن يرجع في هبته؛ روى هشام عن محمد أنه ليس له ذلك. قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «واقعاته» : هذا الجواب خلاف ظاهر الرواية. قيل: ويجوز أن محمداً رحمه الله إنما أبطل حق الرجوع في هذه الصورة دفعاً للضرر عن الصبي، فإن من مذهبه أن الدين الساقط بسبب الهبة لا يعود بفسخ الهبة، المعلى عن أبي يوسف: رجل وهب لرجل شجرة وقطعها وأنفق في قطعها فله الرجوع؛ لأن القطع نقصان، فإنه ينقطع به......

الفصل السادس: في الهبة من الصغير
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : كل شيء وهبه لابنه الصغير وأشهد عليه وذلك الشيء معلوم في نفسه فهو جائز، والقبض منه أن يعلم ما وهبه له وأشهد عليه، والإشهاد ليس بشرط لازم، فإن الهبة تتم بالإعلام، ولكن ذكر الإشهاد احتياطاً تحرزاً عن الجحود إذا كبر الولد، وإذا أرسل غلامه في حاجته ثم وهبه لابن صغير له صحت الهبة؛ لأن

(6/250)


العبد بعد الإرسال في حاجته في يد المولى حكماً، فلو لم يرجع العبد حتى مات الوالد فالعبد للولد، ولا يصير ميراثاً عن الوالد؛ لأن الأب بنفس الهبة صار قابضاً للابن؛ لأن قبض الهبة قبض أمانة، وقبض الإنسان مال نفسه أيضاً قبض أمانة، فثبوت ما للأب من القبض عن قبض الهبة، وكذلك إذا وهب عبداً آبقا له من ابنه الصغير فما دام متردداً في دار الإسلام جازت الهبة؛ لأنه ما دام متردداً في دار الإسلام فهو في يد المولى حكماً، فيصير قابضاً لابنه بنفس الهبة، في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا تصدق بعبد آبق له على ابنه الصغير لا يجوز، وروى المعلى عنه أنه يجوز فحصل عنه روايتان.
وإذا كان العبد في يدي رجل رهنا أو غصبا أو شراء فاسداً فوهبه صاحب العبد من ابنه الصغير لا يجوز، ولم يجعل الأب قابضاً لابنه الصغير بقبض هؤلاء، ولو كان العبد وديعة في يدي رجل فوهبه صاحب العبد من ابنه الصغير يجوز، وجعل الأب قابضاً لابنه بيد مودعه، والفرق: أن يد المودع مادام مشتغلاً بالحفظ يد صاحب الوديعة حكماً، فباعتبار اليد الحكمي يصير قابضاً لولده، أما يد هؤلاء ليست يد صاحب العبد فلا يصير الوالد قابضاً عن ولده بيد هؤلاء.
فإن قيل: أليس أن المودع إذا وهب الوديعة من المودع يجوز ويصير المودع قابضاً بنفس الهبة، ولو كان يد المودع لم يكن قابضاً لنفسه بحكم ذلك اليد.
قلنا: اليد للمودع حقيقة ولكن جعل ذلك اليد يد المودع حكماً لكونه عاملاً له في الحفظ، وذلك يكون قبل التمليك من المودع بالهبة، فأما بعد ذلك فالمودع عامل لنفسه في الإمساك فيصير قابضاً للهبة بيده لا بيد المودع. وفي «فتاوي أبي الليث» رجل وهب لابنه الصغير داراً والدار مشغولة بمتاع الواهب جاز؛ لأن الشرط قبض الواهب، وسيأتي بعد هذا عن أبي (23ب3) حنيفة وأبي يوسف يخالف هذا، وفي «المنتقى» عن محمد: رجل وهب دارا لابنه الصغير وفيها ساكن آخر قال: لا يجوز، ولو كان بغير أجر وكان هو فيها يعني الواهب فالهبة جائزة؛ لأن الساكن إذا كان بأجر بيده على الموهوب بائن بصفة اللزوم فيمنع قبض غيره فيمنع تمام الهبة، بخلاف ما إذا كان ساكنا بغير أجر، وكون الواهب في الدار لا يمنع تمام الهبة؛ لأن الشرط في هذه الصورة قبض الواهب، وكون الواهب فيها يتعذر قبضه ولا ينفيه، وعن أبي يوسف لا يجوز للرجل أن يهب لامرأته، أو أن تهب لزوجها ولأجنبي داراً وهما فيها ساكنان، كذلك الهبة للولد الكبير؛ لأن الواهب إذا كان في الدار فيده بائن على الدار، وذلك يمنع تمام يد الموهوب له، قال: ولو وهبها لابنه الصغير وهو ساكن فيها يعني الواهب جاز وقد مر، وعن أبي يوسف برواية ابن سماعة أن هبته لابنه الصغير في هذه الصورة لا تجوز كهبته لابنه الكبير، وهكذا روي عن أبي حنيفة، وعنه أيضاً في رجل تصدق بأرض قد زرعها على ولده الصغير جاز، وإن كان الزرع لغير الأب فأجازه لا يجوز؛ لأن يد المستأجر بائن على الأرض بصفة اللزوم، وإنها تمنع القبض للصغير بخلاف يد الأب.

الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في رجل تصدق بداره على ابنه الصغير وله فيها متاع أو

(6/251)


هو ساكنها أو كان فيها ساكناً بغير أجر جازت الصدقة، وإن كان في يدي رجل بإجازة لم تجز الصدقة، قيل: جوابه في الصدقة فيما إذا كان فيها ساكناً بأجر أو بغير أجر يوافق جوابه في الهبة، وجوابه في الصدقة فيما إذا كان هو الساكن أو كان فيها متاعه بخلاف جوابه في الهبة، والمروي عنه في الهبة إذا كان الواهب في الدار وكان فيها متاع الواهب أنه لا يجوز، وكانت الهبة تفتقر إلى القبض فالصدقة تفتقر إلى القبض فيكون في المسألتين روايتان عنه.
قال في «الأصل» : وقبض الأب والجد الهبة على الصغير جائز سواء كان الصغير في عيالهما أو لم يكن، وكذلك قبض وصيهما على الصغير جائز سواء كان الصغير في عياله أو لم يكن، فأما غير الأب والجد نحو الأخ والعم والأم وسائر القرابات؛ القياس: أن لا يجوز وقبض الهبة على الصغير وإن كان الصغير في عيالهم. وفي الاستحسان: يملكون إذا كان الصغير في عيالهم، وكذلك وصي هؤلاء، وكذلك الأجنبي الذي يعول اليتيم وليس لليتيم أحد سواه جاز له قبض الهبة عليه استحساناً، ويستوي في هذه المسائل التي ذكرنا إذا كان الصبي يعقل القبض أو لا يعقل، وهذا كله إذا كان الأب ميتاً أو حياً لكن غائباً غيبة منقطعة، فأما إذا كان حاضراً حياً والصبي في عيال هؤلاء الذين ذكرناهم هل يصح قبض هؤلاء الهبة على الصغير؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» إلا إنه ذكر في الأجنبي إذا كان يعول اليتيم وليس لهذا اليتيم أحد سواه جاز له قبض الهبة عليه، وهذا الشرط يقتضي أن لا يصح قبض هؤلاء إذا كان الأب حاضراً.
وذكر في الجد أيضاً: أنه لا يملك القبض على الصغير إذا كان الأب حياً، ولم يفصل بينهما إذا كان الصغير في عياله أو لم يكن، فظاهر ما أطلقه يقتضي أن لا يصح، وذكر في «الأم» إذا وهبت له عبداً أو شهدت على ذلك وأبوه ميت جاز قبضها وهذا الشرط يقتضي أن لا يصح، وذكر في الصغيرة التي يجامع مثلها وهي في عيال الزوج أنه إن قبضت هي أو الزوج جاز القبض، وهذا الإطلاق يقتضي أن يصح القبض من الزوج حال حضرة الأب، فمن المشايخ من سوى بين الزوج والجد والأم والأخ الذي يعوله وقالوا: يصح القبض من هؤلاء على الصغير، وإن كان الأب حاضراً، وما ذكر من الشرط وقع اتفاقاً في الكتب وإليه ذهب الشيخ الإمام الأجل الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي ومنهم من فرق بين الزوج وغيره، وقال: يصح قبض الهبة عليها من الزوج حال حضرة الأب ولا يصح قبض غيره حال حضرة الأب وإن كان الصغير في عياله، وإليه ذهب الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخي، وجه ما ذهب إليه فخر الإسلام: أن الزوج إنما ملك القبض حال حضرة الأب بسبب العول موجود في حق هؤلاء. وجه ما ذهب إليه شمس الأئمة: أن قبض الهبة من باب الحفظ، وولاية حفظ مال الصغير للأب أو لمن أقامه الأب مقام نفسه، والأب أقام الزوج مقام نفسه في حفظها، أو حفظ مالها إذا رماها، أماماً أقام غيره مقام نفسه في ذلك فلا يثبت للغير هذه الولاية، بخلاف ما إذا مات الأب؛ لأن بالموت انقطعت ولايته، وكذلك بالغيبة المنقطعة فجاز أن يثبت الولاية لمن يعوله، ثم شرط في الصغيرة إذا كانت يجامع مثلها فمن أصحابنا من قال: إذا كانت لا بجامع مثلها لم يجز قبض الزوج عليها؛ لأنها إذا كانت بهذه الصفة لا يكون نفقتها على الزوج فلا يعولها، والعول شرط، والصحيح أنه إذا كان يعولها وهي لا يجامع مثلها جاز قبضه عليها، وإنما شرط ذلك لبيان أن العول لا يجب عليه إذا كانت لا

(6/252)


يجامع (مثلها) ، فأما إذا عالها مع ذلك جاز قبضه عليها، والصغيرة إذا لم يبن الزوج بها

لا يجوز قبض الزوج الهبة ويجوز قبض الأب الهبة عليها، وإن كانت في عيال الزوج، وإن كان الصغير قد قبض الهبة بنفسه جاز قبضه استحساناً إذا كان يعقل، وهذا قول علمائنا الثلاثة.

الفصل السابع: في العوض في الهبة
رجل وهب لرجل عبداً على أن يعوضه ثوباً بعينه واتفقا على ذلك فلم يقبض واحد منهما حتى امتنع أحدهما منه فله ذلك، وإن تقابضا جاز بمنزلة البيع، وليس لواحد منهما أن يرجع فيه بعد ذلك، يجب أن يعلم بأن الهبة بشرط العوض تنعقد تبرعاً وتصير معاوضة عند اتصال القبض، وهذا لأن اللفظ لفظ الهبة والمعنى معنى المعاوضة، فإن شرط العوض من خصائص المعاوضات ويجب اعتباراً للفظ كما يجب اعتبار المعنى؛ لأن الألفاظ قوالب المعنى، فاعتبرناه تبرعاً ابتداء عملا با للفظ وقلنا: لا يفيد الملك قبل القبض ولا يصح في المشاع ويرجع كل واحد منهما عنه، واعتبرناه معاوضة عند اتصال القبض عملاً بالمعنى فقلنا: لا يرجع واحد منهما بعد ذلك، وتجب به الشفعة للشفيع، ولكل واحد منهما أن يرد ما في يده بعيب يوجد فيه، ولو استحق ما في يد أحدهما يرجع على صاحبه بما في يده إن كان قائماً، وبقيمته إن كان هالكاً كما هو الحكم في البيع.
قال في «الأصل» : إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضاً وقبضه الواهب فليس للواهب أن يرجع في هبته بحصول مقصوده، وكذا ليس للموهوب له أن يرجع في عوضه بحصول مقصوده وهو تأكيد الملك في الموهوب، ويشترط أن يضيف الموهوب له العوض إلى الموهوب فيقول: هذا عوض من هبتك أو بدلها أو مكانها وما أشبهه من الألفاظ حتى إن الموهوب له إذا وهب للواهب شيئاً ولم يقل هذا عوض هبتك وما أشبهه من الألفاظ لا يصير عوضاً بل يكون هبة مبتدأة حتى كان لكل واحد منهما أن يرجع في هبته، والملك لا يثبت للواهب في العوض إلا بالقبض بعد القسمة؛ لأن العوض في معنى هبة مبتدأة، فالتعويض من الأجنبي صحيح يبطل به حق الرجوع للواهب في الهبة؛ لأنه تصرّف منه في ملكه ليسقط به حق الواهب في الرجوع، ومثل هذا التصرف يصح من الأجنبي كصلح الأجنبي مع صاحب الدين عن دينه على غيره (33أ3) بمال نفسه، وإذا صح التعويض من الأجنبي لا يكون للواهب حق الرجوع في هبته، ولا يكون للمعوض حق الرجوع لا في العوض ولا في المعوض عنه سواء عوض عنه بأمره أو بغير أمره، وإذا استحقت الهبة كان للمعوض أن يرجع في عوضه إن كان قائماً، وإن كان هالكاً ضمنه قيمته إلا رواية عن أبي يوسف رواها بشر أن العوض لا يضمن إذا استحقت الهبة

(6/253)


والعوض مستهلك، وإن استحق العوض كان للواهب أن يرجع في هبته إن كانت قائمة، وإن كانت هالكة فليس له أن يضمن الموهوب له قيمتها، وإن استحق نصف الهبة فللموهوب له أن يرجع بنصف العوض، وإن كان العوض قد هلك رجع بنصف قيمته.

فإن قال الموهوب له: أرد ما بقي من الهبة وأرجع بجميع العوض لم يكن له ذلك، وإذا استحق بعض من يد الواهب فأراد الواهب أن يرجع ببعض الهبة ليس له ذلك، ويكون ما بقي عوضاً عن الكل، فإن شاء أمسك الباقي من العوض ولا شيء له غير ذلك، وإن شاء رد ما بقي ورجع بجميع الهبة ألف درهم والعوض نصف ألف منها، أو كانت الهبة داراً والعوض بيت منها لم يكن عوضاً، وكان للواهب أن يرجع في الهبة استحساناً، كذلك إن كانت الهبة دراهم وثوباً فعوضه الدراهم أو الثوب عن كل الهبة لم يكن عوضاً استحساناً.
الحاصل: أن عقد الهبة إذا كان واحداً لا يصير بعض الموهوب عوضاً عن البعض، وأما إذا وهب له بيتين في عقدين مختلفين فعوضه أحدهما عن الآخر كان عوضاً.
قال في «الكتاب» : أخذ فيه بالقياس، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يكون عوضاً في الوجهين، ذكر قول أبي يوسف في «المنتقى» قال أبو يوسف: لنفسه أصلاً كل هبة من الواهب يكون له أن يرجع فيها، فإن ما لا يكون عوضاً عن شيء وهبه معها أو قبلها أو بعدها وإن رضي بها، فإن كانت قد تعين بزيادة كانت هبة أي عوضاً لم يكن له أن يرجع فيها، ولو وهب له حنطة وطحن بعضها وعوضه دقيقاً من تلك الحنطة كان عوضاً، وكذلك لو وهب له ثيابا وصنع منها ثوباً معصفراً أو خاطه قميصاً وعوضه إياه كان عوضاً، وكذلك لو وهب له سويقا فلتّ بعضه وعوضه.

عبد مأذون له في التجارة وهب لرجل هبة وعوضه الموهوب له من هبته فلكل واحد منهما أن يرجع في الذي له والهبة باطلة، وكذلك والد الصغير إذا وهب من مال الصغير شيئاً وعوضه الموهوب له؛ لأن هذا تعويض عن هبة باطلة، وكذلك إذا وهب رجل للصغير هبة وعوضه الأب من مال الصغير لم يجز العوض وللواهب أن يرجع في هبته؛ لأن الاب ملكه العوض مقابلاً بتأكيد ملك الابن في الهبة لا مقابلاً بأصل الملك فكان العوض في جانب الصغير معاوضة من وجه دون وجه، والأب إنما يملك في مال ابنه ما هو معاوضة من كل وجه لا ما هو معاوضة من وجه دون وجه فبطل التعويض وكان للواهب أن يرجع في هبته.

الفصل الثامن: في حكم الشرط في الهبة
في «البقالي» عن أبي يوسف إذا قال لغيره: هذه العين لك إن شئت ودفعه إليه فقال: شئت يجوز، وعن محمد في التمر إذا طلع فقال صاحب التمر: أدرك أو قال: إذا كان عشر فهو جائز بخلاف دخول الدار. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رجل قال

(6/254)


لغيره: وهبت لك هذه الأمة على أن تعوضني ألف درهم فدفع إليه الأمة فوطئها وولدت له قال: آمره أن يدفع العوض الذي شرط أو القيمة، وإنما كان كذلك؛ لأن الجارية صارت مملوكة للموهوب له بالقبض، والواهب لها رضي بتملكه إياها بعوض مقدر، وتعذر الجبر على أداء العوض؛ لأن الجبر على أداء العوض من حكم المعاوضة، والهبة بشرط العوض تنعقد معاوضة في الحال، فبقيت الجارية في يد الموهوب له مملوكة بعوض لا يمكن الجبر عليه فشابه المملوكة بملك فاسد، فإن دفع العوض الذي شرط عليه وإلا قضي عليه بالقيمة.

في «فتاوي أبي الليث» : سئل أبو نصر عن رجل قال لآخر: برأتك عن الحق الذي عليك على أني بالخيار جازت الهبة وبطل الخيار، فالبراءة أولى؛ لأن الهبة تحتاج إلى القبول، والبراءة لا يحتاج فيها إلى القبول. في «فتاوي أبي الليث» امرأة قالت لزوجها: وهبت منك مهري على أن كل امرأة تتزوجها تجعل أمرها بيدي فهذا على وجهين:
إما أنه لم يقبل أو قبل، ففي الوجه الأول: لا تصح الهبة، وفي الوجه الثاني: تصح، فبعد ذلك المسألة على وجهين:
إما أن يجعل أمرها بيدها أو لم يجعل، فإن جعل فالهبة ماضية، وإن لم يجعل فكذلك. ذكر هاهنا الشيخ أبو بكر الإسكاف هكذا في آخر الكتاب.
إذا قالت المرأة لزوجها: وهبت مهري منك علي أن لا تظلمني فقبل..... صحت الهبة، فلو ظلمها بعد ذلك فالهبة ماضية، ذكره عن الشيخ أبي بكر الإسكاف والشيخ أبو القاسم الصفار.
وفي «المنتقى» : امرأة قالت لزوجها تصدقت عليك بالألف الذي عليك على أن لا تتسرى علي أو قالت: على أن لا تتزوج ففعل ثم تزوج أو تسرى فلا رجوع، وذكر في كتاب النكاح من «فتاوي أبي الليث» أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته: أبرئيني عن مهرك حتى أهب لك كذا فأبرأته ثم أبى الزوج أن يهبها يصير يعود المهر عليه كما كان. وكذا في كتاب الحج امرأة تركت مهرها للزوج على أن يحج بها، قال محمد بن مقاتل: مهرها عليه على حاله، فإذا اختلف المشايخ في هذا الفصل قال الصدر الشهيد والمختار: للفتوى ما قاله نصير ومحمد بن مقاتل: إنه يعود؛ لأن الرضا بالهبة كانت بشرط العوض، فإذا انعدم العوض انعدم الرضا، والهبة لا تصح بدون الرضا، وسيأتي ما يؤكد هذا بعد هذا، في هذا الموضع أيضاً امرأة قالت لزوجها: إنك تغيب عني كذا، فإن مكثت معي ولا تغيب فقد وهبت لك الحائط الذي في مكان كذا، فمكث معها زماناً ثم طلقها فالمسألة على وجوه:

الوجه الأول: إذا كانت هذه منها لاهبة للحال، وفي هذا الوجه لا يكون الحائط للزوج؛ لأن العدة لا توجب الملك.
الوجه الثاني: إذا وهبت له وسلمت إليه ووعدها أن يمكث معها، وفي هذا الوجه الحائط للزوج؛ لأن الهبة مطلقة، وإن لم يسلم الحائط إلى الزوج لا يكون الحائط له.
الوجه الثالث: إذا وهبت على شرط أن يمكث معها وسلمت إليه وقبل الزوج، وفي هذا الوجه الحائط للزوج، وهكذا ذكر عن الشيخ أبي القاسم، وعلى قول نصير ومحمد بن مقاتل وهو المختار لا يكون الحائط للزوج.
الوجه الرابع: إذا قالت: إن مكثت معي، وفي هذا الوجه لا يكون

(6/255)


الحائط للزوج؛ لأن الصلح باطل، وفي «فتاوي الفضلي» : امرأة وهبت مهرها لزوجها لقول زوجها إنه يقطع لها ثوباً كل حول مرتين فقدرها وقد انقضى حولان ولم يفعل، إما أن لا يكون ذلك شرطاً في الهبة أو كان، ففي الوجه الأول: لا يعود مهرها، وفي الوجه الثاني: يعود؛ لأن الهبة حصلت بشرط العوض ولم يحصل، وكذلك المرأة إذا وهبت مهرها لزوجها على أن يحسن كانت الهبة باطلة لما قلنا، وهذا يؤيد ما اختاره الصدر الشهيد حسام الدين من القول في جنس هذه المسألة فيما تقدم، وفي جنس هذا الموضع أيضاً امرأة وهبت لزوجها ضيعة على أن يسكنها ولا يطلقها ثم طلقها بعد ذلك فهذا على وجهين: إما أن تشترط (33ب3) الإمساك وترك الطلاق وقتاً مؤقتاً أو لم تشترط، وفي الوجه الأول إذا طلق قبل مضي الوقت فالهبة باطلة؛ لأنه ما وفى بالشرط، وفي الوجه الثاني الهبة صحيحة؛ لأنه وفى بالشرط.

فرق بين هذه المسألة وبين ما إذا تزوج امرأة ونقص من مهرها على أن لا يخرجها من البلدة فأخرجها، فإنه يبلغ تمام مهرها، والفرق هو: أن بين المسألتين لا فرق من حيث المعنى؛ لأن الشرط في هذه المسألة عدم الإخراج ما دام على النكاح ولم يفِ بهذا الشرط، وفي المسألة الإمساك.... هو الإمساك ما دام على النكاح وعدم الطلاق مطلقاً، فإذا أمسك ساعة ثم طلقها فقد وفى بذلك الشرط، وفي «الجامع الأصغر» وهبت مهرها من زوجها على أن يطلقها وفعل الزوج قال خلف: الهبة صحيحة والشرط باطل والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، سئل الفقيه أبو جعفر عمن منع امرأته عن المسير إلى أبويها وهي مريضة فقال لها: إن وهبت لي مهرك بعثتك إلى أبويك فقالت المرأة: أفعل ثم قدمها إلى الشهود فوهبت بعض مهرها وأوهبت بالبعض على الفقراء وغير ذلك، وبعد ذلك لم يبعثها إلى أبويها ومنعها قال: الهبة باطلة قال الفقيه: لأنها بمنزلة المكرهة.

الفصل التاسع: في اختلاف الواهب والموهوب له
عين في يدي رجل ادعى أن صاحب اليد وهبه له وسلمه إليه وجحد صاحب اليد ذلك، فجاء المدعي ببينة وشهد على إقرار الواهب بالهبة والقبض، كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن هذه شهادة خالفت الدعوى؛ لأن المدعي

(6/256)


ادعى معاينة القبض، والشهود شهدوا على إقرار الواهب بذلك الواهب، ثم رجع وقال: يقبل وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعلى هذا الخلاف الرهن والصدقة، ولو كان هذا الاختلاف بين الشاهدين يمنع قبول الشهادة بلا خلاف بأن شهد أحد الشاهدين على معاينة القبض، وشهد الآخر على إقرار الواهب بذلك.

وجه قوله الآخر: أن هذه الشهادة قامت على بعض ما تناولته الدعوى؛ لأن الموهوب له ادّعى معاينة القبض، وما يدعيه المدعي يعتبر ثانياً في حق قبول الشهادة بنفس الدعوى فيتضمن دعوى معاينة القبض دعوى إقرار الواهب بالقبض؛ لأن الثابت بالإقرار دون الثابت معاينة، فكانت الشهادة قائمة على بعض ما تناولته الدعوى بخلاف ما إذا وقع هذا الاختلاف بين الشاهدين؛ لأن معاينة القبض لا تثبت بشهادة شاهد واحدٍ حتى يثبت ما دونه؛ وهو إقرار الواهب بالقبض؛ لأن المشهود به لا يثبت بشهادة الشاهد الواحد فلم يوجد اجتماع الشاهدين لا على معاينة القبض ولا على إقرار الواهب بالقبض؛ ونظيره ما قال أبو حنيفة رحمه الله في رجل ادعى على آخر ألف درهم وشهد له شاهدان بخمس مئة تقبل شهادتهما ويضمن دعوى الألف دعوى خمس مئة، وبمثله لو شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بالألف خمس مئة لا تقبل الشهادة.
ولو كان العبد في يد الموهوب له فشهد الشهود على إقرار الواهب بالقبض جازت الشهادة على قوله الأول والآخر، وإن كان الواهب أقر بذلك عند القاضي والعبد في يده أخذ بإقراره، هكذا ذكر المسألة ههنا، ولم يذكر لأبي حنيفة قول أول وآخر، وذكر في «كتاب الإقرار» الأول قال مشايخنا: ما ذكر ههنا أصح؛ لأن أكثر ما في الباب أن إقرار الواهب خالف دعوى المدعي؛ لأن المدعي ادعى معاينة القبض، والواهب أقر بالقبض، إلا أن الإقرار لا يبطل مخالفة دعوى المدعي.

على إنسان ألف درهم وأقر له المدعى عليه بمئة دينار صح إقراره، إذا استودع رجل رجلاً وديعة ثم وهبها له وحجد وشهد عليه بذلك شاهدان ولم يشهدا بالقبض فهذا جائز؛ لأن الهبة تثبت بالشهادة، وكون الموهوب في يد الموهوب له ثبت بتصادقها، وهذا كما في إتمام الهبة؛ لأن قبض الوديعة ينوب عن قبض الهبة، فإن حجد الواهب أن يكون في يده.... للمدعي وشهد الشهود على الهبة ولم يشهدوا معاينة القبض ولا على إقراره الواهب بالقبض والهبة في يد الموهوب له يوم خاصم إلى القاضي فإنه يجوز، وإذا كان ميتاً فشهادتهما باطلة، رجل وهب لرجل عبداً وقبضه الموهوب، ثم جاء رجل وأقام بينة أنه كان اشتراه من الواهب قبل القبض والهبة أبطلت الهبة؛ لأن الشراء يوجب الملك بنفسه فتبين أنه وهب وسلم ما لا يملك، وإن لم يشهدوا على الشراء قبل الهبة إنما شهدوا على الشراء لا غير فهو للموهوب له، وكذلك إن أرخ شهود الشراء شهراً أو سنة، وإن كان العبد في يد الواهب فأقام الموهوب له الثلثة أنه وهبه له وقبضه قبل الشراء، وأقام

(6/257)


المشتري البينة أنه اشتراه قبل الهبة وقبض منه فالعبد لصاحب الشراء.

رجل وهب لرجل متاعاً ثم قال: إنما كنت استودعتك فالقول لصاحب المتاع مع يمينه، فإذا حلف أخذ المتاع، وإن وجده هالكاً، فإن كان هلك بعد ما ادعى المستودع الهبة فالمستودع ضامن القيمة؛ لأن التملك بالهبة لم يثبت بقوله، فبعد ذلك إن كان المتاع وديعة في يده فجحود الوديعة سبب الضمان، وإن لم يكن وديعة في يده فأخذ مال الغير على وجه التملك سبب للضمان إلا أن يثبت التملك من صاحبه ولم يثبت، وإن كان الهلاك قبل دعوى الهبة فلا ضمان. في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف اتفق الواهب والموهوب له أن الهبة كانت بشرط العوض، ولكن اختلفا في مقدار العوض فقال الواهب: ألف وقال الموهوب له: خمس مئة، والعوض لم يقبض بعد والموهوب قائم بعينه فللواهب الخيار إن شاء قبض، وإن شاء رجع في الهبة، وإن كان الموهوب مستهلكاً رجع بقيمته إن شاء، وهذا بناء على أن الهبة من.... موجبة الرجوع والعوض والرضى به من جهة الواهب قاطع حق الرجوع، فإن شاء رضي العوض الذي عينه الموهوب له وترك حقه في الرجوع، وإن شاء لم يرض به ومال إلى الرجوع، وإن كان الموهوب مستهلكاً رجع بقيمته؛ لأن الرضا بالقبض كان بشرط العوض المقدر، ولم يسلم فبقي قبضه قبض ضمان فيرجع بقيمته لهذا.
وإن اختلفا في أصل العوض فقال الموهوب له للواهب: ما شرطت لك العوض أصلاً فالقول قوله؛ لأنه ينكر شرطاً زائداً يستغني عنه تمام الهبة، ويكون للواهب الرجوع إذا كان الموهوب قائماً، وإن كان مستهلكاً فلا شيء على الموهوب له؛ لأن العوض لم يثبت لما جعلنا القول فيه قول الموهوب له والحكم في الهبة الخالية عن شرط العوض أن الموهوب ما دام قائماً فللواهب الرجوع، فإذا هلك فلا ضمان ولكن يحلف الموهوب له ههنا على دعوى الواهب بالله ما شرط العوض، يريد به: إذا كان الموهوب مستهلكاً؛ لأن الواهب يدعي القيمة في هذه الصورة فيحلف عليه.
في «الأصل» وإذا أراد الواهب الرجوع في الهبة فقال الموهوب له: أنا أخوك أو قال عوضتك، أو إنما تصدقت به عليّ وكذبه الواهب، وكذلك إن كانت الهبة خادمة فقال: وهبتها لي وهي صغيرة فكبرت عندي وازدادت سعراً، وكذبه الواهب فالقول قول الواهب وهذا استحسان، والقياس: أن يكون القول قول الموهوب له. ولو كان الموهوب أرضاً وفيها بناءً أو شجرا أو سويقا وهو ملتوت أو ثوبا وهو مصبوغ أومخيط فقال الموهوب له: وهبتها لي فبنيت فيها وغرست، وهبته لي وهو غير ملتوت وغير مصبوغ فلتُتُه أنا وصبغته وخطته أنا، وقال الواهب: لا بل وهبته كذلك، فالقول قول الموهوب له، وكذلك إذا اختلفا في بناء الدار وحلية السيف.

في «المنتقى» إذا أراد الواهب الرجوع في الهبة وادعى الموهوب له أنها هلكت فالقول قول الموهوب له ولا يمين عليه، فإن عين الواهب شيئاً وقال: هذا هو الهبة حلف

(6/258)


الموهوب له عليه. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد في رجل وهب جارية من رجل وقبضها الموهوب له (34أ3) وأولادها ثم أقام الواهب بيّنة أنه كان دبرها قبل أن يهبها قال: يأخذها ويأخذ عقرها وقيمة أولادها؛ لأنه تبين أنه وهبها وهي مدبرة، والمدبرة لا تقبل النقل، ويأخذ عقرها؛ لأنه تبين أن الموهوب له وطء ملك الغير وتعذر إيجاب الحد لصورة الهبة....... ويأخذ قيمة الولد؛ لأن الموهوب له صار مغرورا؛ لأنه استولدها بناء على أنها ملكه، وولد المغرور حر بالقيمة فالمغرور بحكم الهبة يساوي المغرور بحكم الشراء في حق هذا الحكم وهو حرية الولد بالقيمة، ويفارقه في حق الرجوع بقيمة الولد على الغار وإنما كان كذلك؛ لأن حرية الولد المغرور بالقيمة؛ لأن المغرور لم يرضَ برق مائه، وفي حق هذا المعنى لا فرق بينهما إذا كان المغرور في عقد الهبة أو في عقد البيع، أما الرجوع على الغار في فصل الشراء؛ لأن البائع ضمن له السلامة؛ لأن عقد المعاوضة يقتضي السلامة؛ لأنه عقد تبرع.

وكذلك لو مات الواهب وأقامت الأمة بينة أن الواهب قد كان دبرها قبل أن يهبها من هذا الرجل كان الجواب كما قلنا، في «البقالي» : ويجوز الرجوع فيما وهب للعبد بغيبة المولى إن كان مأذونا له، ويصدق الواهب أنه مأذون ولا يقبل بينة العبد على أنه محجور إلا أن يكون على إقرار الواهب، ويحلف الواهب عند عدم البينة على العلم، ولو مات العبد والهبة في يده فلا خصومة مع المولى، وإن كانت في يده فهو الخصم إذا صدقه أو قامت عليه البينة.

الفصل العاشر: في هبته المريض
قال في «الأصل» : لا يجوز هبة المريض ولا صدقته إلا مقبوضة، فإذا قبضت جازت من الثلث، وإذا مات الواهب قبل التسليم بطلت.
يجب أن يعلم بأن هبة المريض هبة عقد وليست بوصية واعتبارها من الثلث ما كانت؛ لأنها وصية، ولكن لأن حق الورثة يتعلق بمال المريض وقد تبرع بالهبة فيلزم تبرعه بقدر ما جعل الشرع له وهو الثلث، فإذا كان هذا التصرف هبة عقد اشترط له سائر شرائط الهبة، ومن جملة شرائطها قبض الموهوب له قبل موت الواهب.
مريض وهب داره من رجل وسلمها إليه ثم مات ولا مال له غير الدار ولم يجز الورثة الهبة ونقصت في الثلثين لم تبطل الهبة في الثلث الباقي، وهذه المسألة تبين أن ملك الورثة واستحقاقهم يثبت بسبب مقصور على حالة الموت ولا يستند إلى أول المرض، إذ لو استند لتبين أن الهبة وجدت وثلثا الدار ملك الورثة، فصار المريض واهبا

(6/259)


بثلث الدار شائعا، وهبته بثلث الدار شائعا لا يجوز، وذكر محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب «الجبر والمقابلة» في كتابه: أن المريض إذا وهب جاريته من رجل وسلمها إلى الموهوب له فوطئها الموهوب له ومات الواهب ولا مال له غير الجارية ولم يجز الورثة الهبة ويعصب في الثلثين كان على الموهوب له ثلثا عقر الجارية للورثة، وهذا يشير إلى أن حق الورثة يستند ولا يقتصر على حالة الموت، ذكر جواب المسألة على هذا الوجه ولم يسنده إلى أصحابنا، فإن كان ما ذكر هو صحيحاً لبطلت الهبة في الثلث الباقي في مسألتنا لكن لا يكاد يصح؛ لأنه مخالف لجواب سائر كتب أصحابنا أن حق الورثة وملكهم لا يستند بل يقتصر، وإن العقر لا يجب.
قال في «الجامع» : مريض وهب عبداً قيمته ثلثمائة درهم من رجل صحيح على أن يعوضه الموهوب له عبداً يساوي مئة درهم وتقابضا ثم مات المريض من ذلك المرض ولا مال له غير العبد وأبى الورثة أن يجيزوا ما صنع الواهب كان للموهوب له الخيار إن شاء نقض الهبة ورد الموهوب كله وأخذ العوض، وإن شاء رد ثلثي العبد الموهوب على الورثة وسلم ثلثاه له ولم يأخذ (من) العوض شيئاً، فإن قال الموهوب له: أريد في العوض بقدر الزيادة فمن المحاباة على الثلث لم يكن له ذلك، ولو كان المريض وهب كرتمر فارسي يساوي ثلثمائة على أن يعوضه كرتمر يساوي مئة وتقابضا ثم مات المريض ولا مال له سوى ذلك فللموهوب له الخيار إن شاء نقض الهبة ورد الكر الموهوب وأخذ كره، وإن شاء أخذ نصف الكر الموهوب ورد نصفه واسترد نصف الكر الذي هو عوض.

في «المنتقى» : رجل وهب عبده من مريض ورجع فيه بغير حكم ورده إليه المريض قال: يجوز من الثلث، ولو رجع فيه بقضاء فأدى جاز ولا شيء لورثة الموهوب له، فيه قد ذكرنا أن الرجوع في الهبة بقضاء فسخ من كل وجه، وذكرنا اختلاف الروايات في الرجوع بغير قضاء عن محمد، فما ذكرنا من الجواب في هذه المسألة يوافق رواية أبي سليمان، فإنه اعتبر الرجوع بغير قضاء عقداً جديداً في حق الورثة.
وفيه أيضاً: مريض وهب جاريته لمريض فردها الموهوب له على الواهب بهبته منه فهو جائز بمنزلة ارتجاعه منه هبته، وليس لورثة الموهوب له أن يرجعوا في شيء مما وهب فقد اعتبر الرجوع في هذه المسالة فسخا من كل وجه، وإنه يوافق رواية أبي حفص عن محمد.
وفيه أيضاً: مريض وهب عبده لرجل وعليه دين محبط بقيمته ولا مال له غير العبد فأعتقه الموهوب له قبل موت الواهب جاز، ولو أعتقه بعد موته لا يجوز؛ لأن بالموت يتبين أن لهذا المريض مرض الموت، وإن لهذا الاعتاق حكم الوصية والوصية لا تعمل حال قيام الدين. فيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف رجل وهب عبدا له في المرض

(6/260)


ولا مال له غيره وأعتقه الموهوب له قبل موت الواهب وهو معسر نفذ عتقه، وإذا مات الواهب بعد ذلك فلا سعاية على العبد.
وفي «فتاوي أبي الليث» : مريض وهب لرجل جارية فوطئها الموهوب له ثم مات الواهب وعليه دين مستغرق يرد الهبة ويجب على الموهوب له العقر، قال الصدر الشهيد رحمه: هو المختار قال: لأن الجارية ههنا مضمونة على الموهوب له بالقيمة فجاز أن يكون المستوفي بالوطء مضمونا، أيضاً في «الأصل» مريض وهب لمريض عبدا وسلمه إليه فأعتقه وليس لواحد منهما مال غيره ثم مات الواهب ثم مات الموهوب له، فإن العبد يسعى في ثلثي قيمته لورثة الواهب، ويسعى في ثلثي الباقي لورثة الموهوب له؛ لأن عتق المولى له في مرض الموت بمنزلة الوصية، والوصية مؤخرة عن الدين، وثلثا قيمته دين لورثة الواهب على الموهوب له، فإنه أتلف عليهم حقهم في ثلثي العبد بالاعتاق، فعلى العبد أن يسعى في ذلك لهم، فإنما بقي مال الموهوب له ثلث رقبة العبد، فيسلم العبد بطريق الوصية ثلث هذا الثلث، ويسعى في ثلثي هذا الثلث، فصار العبد على تسعة سلم للعبد منه سهم وسعى في ثمانية أتساعه.

الفصل الحادي عشر: في المتفرقات
وذكر في «العيون» : إذا قال لغيره: وهبت لك هذه الغرارة الحنطة أو هذا الزق (من) السمن دخل تحت الهبة الحنطة والسمن دون الغرارة والزق، وبمثله لو قال: وهبت لك غرارة الحنطة أو زق السمن دخل تحت الهبة الغرارة والزق دون الحنطة والسمن.

في «المنتقى» قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره: جعلت لك هذه الدار عمرى أو قال: عمرك أو قال: حياتي أو قال: وحياتك فإذا مت فهو رد علي قال: هذه هبة جايزة وهذا الشرط باطل والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر. في «مجموع النوازل» رجل وهب لرجل شيئاً وقبضه الموهوب له ثم اختلسه منه الواهب واستهلكه غرم قيمته للموهوب له؛ لأن الهبة على ملك الموهوب له ما لم يرجع الواهب وقضى القاضي بالرجوع وردّ الموهوب له الهبة على الواهب باختياره ولم يوجد شيء من ذلك (34ب3) ولو وهب لرجل شاة وقبضها الموهوب له ثم ذبحها الواهب بغير أمره، أو وهب له ثوباً ثم قطعه الواهب بغير أمره، ففي الشاة يأخذ الموهوب له الشاة المذبوحة ولا يغرم الواهب له شيئاً، وفي الثوب يأخذ الموهوب له الثوب ويغرم الواهب له ما بين القطع والصحة،

(6/261)


فسئل عن الفرق فقال: لأنه يكره لحم بلحم وزيادة وفي الثوب لا بأس.

في «فتاوي أبي الليث» : إذا قال لغيره على وجه المزاح: هب لي هذا الشيء، وقال الآخر: قبلت وسلم إليه جاز؛ لأن هذه هبة تامة مستحقة شرائطها. في «مجموع النوازل» رجل له على رجل ألف درهم ... وألف درهم غلة فقال: وهبت منك إحدى هذين الألفين يجوز، والبيان إليه قال في «الأصل» : الوكيل في باب الهبة في معنى الرسول حتى يجعل العاقد هو الموكل دون الوكيل، وفيه أيضاً: إذا وكل الواهب رجلا بالتسليم وغاب، ووكل الموهوب له رجلا وغاب جاز، فإن امتنع وكيل الواهب عن التسليم خاصمه وكيل الموهوب له. في «فتاوي النسفي» : سئل نجم الدين عن امرأة أعطت زوجها مالاً.... له ليتوسع بالصرف فيه في المعيشة فظفر بالزوج بعض غرماء الزوج واستولى ذلك المال، للمرأة أن تأخذ ذلك من ذلك الغريم؟ قال: إن كانت وهبته من الزوج أو أقرضته منه فلا؛ لأنه ملك الزوج، وإن كانت أعطته ليتصرف على ملكها فلها ذلك؛ لأنه مالها، وسئل أيضاً عن رجل له ثلاثة بنين كبار وكان دفع لواحدٍ منهم في صحته مالاً ليتصرف فيه، ففعل وكبر ذلك الابن اختص به هذا الابن ويكون ميراثاً عنه بينهم؟ قال: إن أعطاه هبة فالكل له، وإن دفع إليه ليعمل فيه الأب فهو ميراث.
في «الحاوي» : قال محمد في «السير الكبير:» رجل قال لقوم: إني قد وهبت جاريتي هذه لأحدكم فليأخذها من شاء وأخذ منهم كانت له. وفيه أيضاً: قال رجل أديب للناس من مر بخيلي فمن أخذ شيئاً فهو له فبلغ الناس فأخذوا منه كان لهم، وفي «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو بكر عن المرأة أرادت أن تهب مهرها من زوجها ولا يبرأ زوجها عن ذلك ماذا تصنع؟ قال: تصالح عن مهرها مع رجل على لؤلؤة أو على شيء آخر من زوجها، ولا ينظر إلى ذلك الشيء، فإذا فعلت برء زوجها، ثم يهب مهرها من الزوج ثم ينظر إلى اللؤلؤة فيردها....... فيعود المهر على حاله، وسئل هو أيضاً عن امرأة وهبت مهرها الذي لها على زوجها لابن صغير وقبل الأب قال: أنا في هذه المسألة واقف، إذ يحتمل الجواز كمن كان عبده عند رجل وديعة فأبق العبد ووهبه مولاه من أب المودع، فإنه يجوز.
وسئل مرة أخرى عن هذه المسألة فقال: لا يجوز؛ لأنها هبة عن مقبوضة؛ لأنها في حكم المستهلكة. قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. في «العيون» : رجل دفع ثوبين إلى رجل وقال: أيهما شئت فهو لك أو لآخر أو لأبيك فلان، هذا على وجهين: إما أن يبين الذي له قبل أن يفترقا عن المجلس، أو لم يبين. ففي الوجه الأول: جاز؛ لأن ارتفاع الجهالة في آخر المجلس كارتفاعها في أول المجلس وفي الوجه الثاني: لا يجوز؛ لأن الجهالة لم ترتفع، وعلى هذا لو وهب من آخر غلاما على أن الموهوب له بالخيار ثلاثة أيام، إن اختار الهبة قبل أن يتفرقا جازت الهبة، وإن لم يختر حتى يتفرقا لم تجز.

في «فتاوي سمرقند» بأن رجل أقرّ أنه وهب من فلان عبدا، كان هذا إقرار لهبة

(6/262)


صحيحة؛ لأن الصحة أصل، ويكون إقراراً بقبض الموهوب له؛ لأن قبض الموهوب له بمنزلة الركن والإقرار بالركن، وذكر في «العيون» : أن من قال لآخر: وهبت لي ألف درهم ثم قال بعد ما سكت: لم أقبضها فالقول قوله؛ لأن الهبة هبة بدون القبض، والإقرار بالهبة لا يكون إقرارا بالقبض، وهذا الذي ذكر في «العيون» أشبه بالفقه وأقرب إلى ما ذكر في أيمان «الجامع» في «فتاوي سمرقند» بأن عبد بين رجلين وهب أحدهما شيئاً لهذا العبد فهذا على وجهين:
إن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة لا تصح الهبة أصلاً، لما لم تصح في نصيب الواهب حصل في نصيب غير الواهب مشاع يحتمل القسمة، وفي الوجه الثاني: يصح في نصيب صاحبه؛ لأن حصل مشاعا لايحتمل القسمة، اشترى من آخر دارا ووهبها من غيره لم يجز في قول أبي يوسف، وعند محمد: يجوز. فرّق بين الهبة وبين الإجارة والبيع. في القدورى في كتاب البيوع في «الأصل» : وإذا وهب جاريتين فولدت إحداهما فعوضه الولد عنهما لم يكن له أن يرجع في واحد منهما؛ لأنه عوضه ملك نفسه، ولم يرد عليه الهبة أصلاً.

وفيه: وهب لمكاتب هبة ثم أراد أن يرجع فيها فله ذلك، وفيه نوع إشكال؛ لأن المكاتب فقير، والهبة من الفقير صدقة لا رجوع فيها، والجواب: المكاتب فقير ملكاً لا إما غني غنياً يداً والهبة لا تنفك عن قصد العوض بمال إما بمنافعه أو كسبه كالهبة من العبد، فإذا لم يحصل له العوض كان له الرجوع، فإن عجز المكاتب أو عتق فله أن يرجع فيها إذا عتق ولا يرجع فيها إذا عجز، وهذا قول محمد، وقال أبو يوسف له: أن يرجع في الوجهين جميعاً.

قال في «الأصل» أيضاً: رجل عتق ما في بطن جاريته ثم وهب الجارية من رجل وسلمها إليه جازت الهبة في الأم، ولو باعها لم يجز، قال في «الكتاب» : ألا ترى لو باع جارية حاملا واستثنى ما في بطنها لم يجز البيع، ولو وهبها واستثنى ما في بطنها جازت الهبة في الأم والولد.
ووجه الاستشهاد: أن الولد في مسئلتنا صار مستثنيا عن البيع، والهبة شرعاً، فيعتبر ما كان مستثنياً، واستثناء الولد شرط يبطل البيع ولا يبطل الهبة فكذا استثناؤه شرعاً، إذا أودع الرجل رجلا شيئاً من الأشياء لقيه فوهبه إليه، وليس الشيء بحضرتهما فالهبة جائزة. إذا قال الموهوب له: قبلت، ولا يحتاج فيه إلى قبض جديد، وكذلك هذا في العارية والإجارة فقد اعتبر قبض الوديعة نائباً عن قبض الهبة ولم يعتبره نائباً عن قبض المشتري، والأصل فيه: أن القبضين إذا تجانسا ينوب أحدهما عن الآخر، وإذا اختلفا ناب الأعلى عن الأدنى ولا ينوب الأدنى عن الأعلى، قلنا: وقبض الوديعة مع قبض الهبة تجانسا؛ لأن كل واحد منهما قبض أمانة، أما قبض الوديعة مع قبض الشراء تغايرا؛ لأن أحدهما قبض أمانة والآخر قبض ضمان، وقبض العارية والإجارة كل واحد منهما قبض أمانة والله أعلم.

(6/263)


الفصل الثاني عشر: في الصدقة
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والصدقة بمنزلة هبة في المشاع وغير المشاع في حاجتها إلى القبض؛ لأنها تبرع كالهبة، قال: إلا أنه لا رجوع في الصدقة إذا تمت، فقد بقي الرجوع في الصدقة مطلقا من غير فصل بينهما إذا كان المتصدق عليه غنيا أو فقيرا، واختلفا المشايخ فيه، فمنهم من قال: ما ذكر من الجواب محمول على ما إذا كان المصدق عليه فقيرا، أما إذا كان غنيا كان للمتصدق حق الرجوع؛ لأن الصدقة على الغني هبة كما أن الهبة من الفقير صدقة، ومنهم من سوّى بين الفقير والغني. فظاهر الإطلاق في «الكتاب» يدل عليه، وذكر في «المنتقى» أنه لا رجوع في الصدقة سواء كانت الصدقة على فقير أو غني، قال أئمة القياس في الصدقة: على الغني الرجوع استحساناً، وقلنا: بأنه لارجوع؛ لأن التتصيص على الصدقة دليل على أن غرضه الثواب، قال عليه السلام «: الصدقة ما يبتغى به وجه الله» والصدقة على الغني قد تكون شيئاً في الثواب كأن كان له نصاب وعيال لا يكفيه فيكون في الصدقة عليه ثوابان، أما إذا وهب الفقير شيئاً فلا رجوع فيه استحساناً ذكر المسألة في «الأصل» مطلقاً، وذكر في بعضها: إذا وهبها منه وهو محتاج على وجه الصدقة، وذكر في بعضها إذا وهبها من الفقير وهو عالم بحاله قال في «الأصل» وكذا إذا أعطى سائلاً أو محتاجاً على وجه الحاجة (35أ3) ولم ينص على الصدقة، فلا رجوع فيها استحساناً.
Y
في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: رجل تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه له الصدقة فأقاله لم يجز حتى يقبض؛ لأنها هبة مستقبلة، كذلك الهبة إذا كانت لذي رحم، وقال: كل شيء لا يفسخه القاضي إذا اختصما إليه فهذا حكمه، وكل شيء فسخه القاضي إذا اختصما إليه فأقاله الموهوب فهو مال للواهب، وإن قبض.

يجب أن يعلم بأن الصدقة لا تقبل الإقالة والفسخ، فنجعل إقالة الصدقة تمليكاً مبتدءاً وهبة مبتدأة؛ لأن في الإقالة معنى التمليك فيجعل إقالة الصدقة مجازاً عن معناها وهو التمليك المبتدأ عن تعذر العمل بالحقيقة، والهبة ابتداء لا تعمل قبل القبض، وكذلك الوجه في كل هبة لا يفسخها القاضي إذا اختصما إليه، أما كل هبة يفسخها القاضي إذا اختصما فيها إليه فالعمل بحقيقة الإقالة فعملنا بحقيقتها، وفي الإقالات لا حاجة إلى القبض كما في باب البيع، فتعود العين إلى ملك الواهب بنفس الإقالة من غير أن يحتاج فيه إلى القبض.
وفيه أيضاً: إذا تصدق بداره على امرأته وعلى ما في بطنها وهي حامل لم يجز شيء من الصدقة. قال: وليس ما في بطنها بمنزلة الربح والحائط والميت ومن لا يملك بوجه من الوجوه لتكون الصدقة كلها للمراة، وكذلك لو قال لها: تصدقت عليك وعلى الرجل الذي في باب البيت، ففتح الباب فإذا ليس فيه أحد إنما هذا بمنزلة رجل قال: تصدقت بهذه الدار على بني الصغار الثلاثة وهو يرى أنهم أحياء وكان بعضهم ميتا قال هذا القائل وهو لا يعلم فالصدقة باطلة، ولو قال: هذا وهو يعلم بموت الميت منهم جازت الصدقة كلها للحي منهم، أشار إلى أن الإيجاب إذا وقع لمن يملك ومن لا يملك بوجه

(6/264)


من الوحوه كان الإيجاب بكماله لمن يملك، وعند ذلك لا يمكن الشيوع أصلا فيجوز الإيجاب، وإذا وقع الإيجاب لشخصين كل واحد منهما ممن يملك بوجه من الوجوه فالإيجاب يكون لهما، وعند ذلك يتمكن من الشيوع من أحد الجانبين، فيمتنع جواز الإيجاب على قول من يرى الشيوع من أحد الجانبين.

إذا تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه ثم مات المتصدق عليه، والمتصدق وارثه، فورث تلك الصدقة فلا بأس عليه فيها، كذا في هبة الأصل. وفيها أيضاً: إذا قال: جعلت غلة داري هذه صدقة في المساكين، أو قال: داري هذه صدقة في المساكين، فما دام حيا يؤمر بالتصدق، فأما إذا مات قبل تنفيذ الصدقة فالدار والغلة ميراث عنه؛ لأن هذا منه نذر بالتصدق عرفا، ولو نذر بالتصدق صريحا كان الجواب كما قلنا ههنا.
وفيها أيضاً: إذا قال: جميع مالي صدقة في المساكين فهذا على الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومالا زكاة فيه لا يدخل استحساناً، وكذلك جميع ما أملك عند بعض المشايخ، وعند بعضهم يدخل جميع ما يملك قياساً واستحساناً. في «الحاوي» إذا قال: لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم فتصدق بغيره أجزأه، وإن لم يتصدق حتى هلك في يده فلا شيء عليه، وفي «الفتاوي» قال الفقيه أبو بكر: إذا كان الرجل محتاجا فالإنفاق على نفسه أفضل من الصدقة، قال الفقيه أبو الليث: إذا كان يعلم أنه لو أنفق يصبر على الشدة فالإنفاق على غيره أفضل.
وفيه أيضاً: لا بأس بالتصدق على المكذبين الذين يسألون الناس إلحافاً ويأكلون ما لم يظهر للمتصدق أن ما يتصدّق عليه ينفق في المعصية، وعن الحسن البصري فيمن يخرج كسرة إلى مسكين فلم يجده قال: يضعها حتى يجيء آخر، فإن أكلها أطعم مثلها، وقال إبراهيم النخعي مثله، وقال عامر الشعبي: هو بالخيار إن شاء قضاها وإن شاء لم يقضها، لا تجوز الصدقة إلا بالقبض، وقال مجاهد: من أخرج صدقة فهو بالخيار إن شاء أمضى وإن شاء لم يمض، وعن عطاء مثله. قال الفقيه أبو الليث: وهو المأخوذ، تم كتاب الهبة.

(6/265)