المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثلاثون: في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى
قال محمد رحمه الله في كتاب الشروط: في الرجلين أجرا من رجل داراً عشر سنين، فخاف المستأجر أن يخرجاه منها، فأراد أن يستوثق من ذلك، فالحيلة: أن يستأجر كل شهر من الشهور الأول بدرهم، والشهر الآخر مقسم الأجر، فإن معظم الأجر إذا كان للشهر الآخر، فهما لا يخرجانه من الدار.

وعن هذه المسألة استخرجوا الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى، أو جعلوا أجر السنين المتقدمة شيئاً قليلاً، وجعلوا معظم الأجر للسنة الأخيرة. وحكي أن في الابتداء كانوا يكتبون بيع المعاملة مثلما كان في زمن الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، كره ذلك لمكان شبة الربا، وأخذت هذا النوع من الإجارة ليصل الناس إلى الاسترباح بأموالهم، فيحصل لهم منفعة الدار والأرض مع الأمن عن ذهاب شيء من مقصود المال.
وقد أخبرني من أثق به: أني وجدت الإجارة الطويلة المرسومة في فتاوى قديمة مروّية عن محمد، برواية الشيخ الإمام الزاهد أبي جعفر الكبير، وإنما شرط الخيار لكل واحد منهما؛ ليتمكن كل واحد منهما من الفسخ، فيصل إلى أصل ماله بواسطة الفسخ، وإنما اشتبه ثلاثة أيام من آخر كل شهر حتى يشترط الخيار في هذه الأيام المستثناة فيكون شرط في غير الأيام الداخلة في العقد، إذ لو كان شرط الخيار في الأيام الداخلة في العقد يزيد الخيار على ثلاثة أيام في العقد. وإنه يفسد العقد عند أبي حنيفة. أما إذا شرط الخيار في الأيام المستثناة عن العقد، كان هذا اشتراط زيادة على ثلاثة أيام في غير العقد، ولأنه لا يفسد العقد؛ ولأنا إذا شرطنا الخيار في الأيام الداخلة في العقد، لا يصح الفسخ من غير محضر من صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد، فشرطنا الخيار في هذه الأيام المستثناة عن العقد؛ لتمكن كل واحد منهما من الفسخ بغير محضر من صاحبه؛ لأن الفسخ يكون امتناعاً من لزوم العقد بعد هذه الأيام، فلا يشترط حضرة صاحبه.

(7/617)


وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: يفتي بجواز هذه الإجارة. وكذا من بعده من الأئمة ببخارا إلى يومنا هذا.
وكان الزهاد من مشايخنا، كالشيخ الإمام أبي بكر بن حامد، والشيخ الإمام أبي حفص السفكردري وأمثالهما، كانوا لا يفتون بجواز هذه الإجارة وكانوا يقولون فيها شبهة، وليس الأمر كما قالوا.

وبيان الشبهة: أن هذا عقد واحد؛ لأنه حصل بإيجاب واحد، فإذا شرط الخيار ثلاثة أيام في آخر كل ستة أشهر، وفي آخر كل سنة نزيد مدة الخيار على ثلاثة أيام، واشتراط الخيار في عقد واحد زيادة على (57أ4) ثلاثة أيام يوجب فساد العقد على قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف يجيء شبهة أخرى.
وبيان ذلك: أنهما إذا عقدا عقد الإجارة في غرة الشهر، أو في وسط الشهر. وشرط الخيار في آخر كل سنة، فإن تلك السنة كلها تصير أيام خيار عنده، وكذلك السنة الثانية والثالثة إلى آخر المدة، فلا يفيد العقد فائدة.
وقاسوا هذه المسألة على مسألة أخرى على مذهب أبي يوسف.
وصورتها: رجل اشترى من آخر عبداً أو ثوباً على رأس شهر على أنه بالخيار فيه آخر يوم من هذا الشهر، إن ذلك الشهر خيار كله، والمعنى المجوز دفع حاجة الناس بأموال الغير؛ لأن الإنسان لا يعرض غيره شيئاً كبيراً من ماله من غير أن يطمع فيه وصول نفع مالي إلا نادراً، وبذلك النادر لا تقوم الحوائج، فكان في تجويز هذه الإجارة تعديل النظر من الجانبين.
ثم اختلف المشايخ الذين قالوا بجواز هذه الإجارة: أنهما يعتبر عقداً واحداً، أو عقوداً مختلفة. بعضهم قالوا: يعتبر عقوداً مختلفة حتى يزيد مدة الخيار ثلاثة أيام في عقد واحد فيفسد به العقد عند أبي حنيفة. وبعضهم قالوا: يعتبر عقداً واحداً؛ لأنا لو اعتبرناها عقوداً فما سوى العقد الأول يكون مضافاً، وفي الإجارة المضافة لا تملك الأجرة بالتعجيل، ولا باشتراط التعجيل. والغرض من هذه الإجارة تلك الأجرة، ويبتني على هذا الاختلاف إجارة دار اليتيم إجارة طويلة، واستئجار الدار لليتيم إجارة طويلة.
ووجه البناء: أن هذا العقد لاشك أنه لا يجوز في المدة التي يصيبها قليل الأجرة في الإجارة، وكثير الأجرة في الاستئجار، وهل يتعدى الفساد إلى الباقي؟ فمن جعله عقوداً قال: لا يتعدى، ومن جعله عقداً واحداً، قال: يتعدى.

وبعض المحققين من مشايخنا قالوا: يتعدى الفساد إلى الكل، اعتبرناها عقداً واحداً أو عقوداً إن اعتبرناها عقداً واحداً، فظاهر، وإن اعتبرناها عقوداً متفرقة فكذلك؛ لأنها إنما تعتبر عقوداً متفرقة باعتبار استثناء بعض هذه الأيام. أما من حيث اللفظ، ومقصود المتعاقدين فهما عقد واحد، أما من حيث اللفظ فلأن الآجر يقول: أجرتك هذه الدار بكذا هذه المدة بهذه الشرائط، والمستأجر يقول: قبلت، استأجرت. وأما من حيث مقصود المتعاقدين، فلأن مقصود المتعاقدين مباشرة عقد واحد، واستثناء بعض هذه المدّة

(7/618)


من هذا العقد لإتمام ما هو مقصودهما من هذا العقد، وهو التوثيق بالمال مع حصول النفع للمستأجر، ويمكن كل واحد منهما من الفسخ قبل تمام المدة. فهو معنى قولنا: العقد واحد مقصوداً ولفظاً فإذا فسد البعض ثبت الفساد في الباقي من وجه، فيلحق بالفاسد من كل وجه احتياطاً، فإن طلبا حيلة في جواز هذه الإجارة، فالحيلة إذا كانت الدار للصغير أن يجعل مال الإجارة بتمامه للسنة الأخيرة، ويجعل بمقابلة السنين المتقدمة مالاً هو أجر مثله، أو أكثر. ثم يبرء والد الصغير المستأجر عن أجر السنين المتقدمة، ويصح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وإن أراد أن يصير مجمعاً عليه يلحق به حكم الحاكم، والحيلة: إذا أستأجر الأب للصغير أن ينظر إلى أجر مثله كل سنة لهذه الدار، فيجعل مال الإجارة على اعتباره للسنين المستأجرة، ولسنين المتقدمة شيئاً قليلاً.

صورته: إذا كان مال الإجارة ألف درهم مثلاً، وأجر مثل هذه الدار كل سنة مئة، يجعل بمقابله عشرين سنة من أوائل هذه السنين شيء قليل ويجعل بمقابلة العشر سنين المستأجرة ألف إلا شيء قليل، فيجوز، ويجعل المقصود. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والأصح عندي أنه يعتبر عقوداً في سائر الأحكام عقداً واحداً في حق تلك الأجرة بالتعجيل أو باشتراط التعجيل. وعندي لا حاجة إلى هذا التكلف، فإنه يمكن اعتبارها عقداً واحداً.
قوله: يزيد الخيار على ثلاثة أيام في عقد واحد. قلنا: نعم، يزيد الخيار على ثلاثة أيام، لكن لا في العقد فإن من جوز هذه الإجارة شرط أن يشترط الخيار في هذه الأيام الثلاثة المستثناة التي هي غير داخلة تحت العقد، كيلا يريد الخيار في الأيام المستثناة، وإنها غير داخلة في العقد، كان هذا اشتراط الخيار زيادة على ثلاثة أيام في غير أيام العقد، وإنه لا يفسد العقد بالإجماع، وكذا يمكن اعتبارها عقوداً إن اعتبرناها عقوداً.
قوله: بأن الأجرة لا تملك في الإجارة المضافة قلنا عن أصحابنا فيه روايتان على ما ذكرنا، فنأخذ بالرواية التي تملك فيها الأجرة بالتعجيل، واشتراط التعجيل. وكما تجوز الإجارة الطويلة في العقار والضياع، تجوز في الدواب والمماليك أيضاً، إذ المعنى لا يوجب الفصل. وهذا كله في الأملاك.
جئنا إلى الأوقاف. فنقول: إذا استأجر الأوقاف من المتولي مدة طويلة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة يجب مراعاة شرطه لا محالة، ولا نفتي بجواز هذه الإجارة، وإن كان لم يشترط شيئاً، نقل عن جماعة من مشايخنا أنه لا يجوز أكثر من سنة واحدة. وقال الفقيه أبو جعفر: إنما أجوز في ثلاث سنين، ولا أجوز فيما زاد على ذلك. والصدر الشهيد الكبير هشام الدين تغمده الله بالرحمة، كان يقول: في الضياع، يفتى بالجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز.

وفي غير الضياع يفتى بعدم الجواز فيما زاد على سنة واحدة، إلا إذا كانت المصلحة في الجواز، وهذا أمر مختلف باختلاف الزمان والموضع، ثم إذا استأجر على

(7/619)


الوجه الذي جاز من حصة أجرتها، لا تفسخ الإجارة، وإذا ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه لا يفسخ العقد، وذكر في «شرح الطحاوي» : أنه يفسخ العقد، ويجدد على ما ازداد. وإلى وقت الفسخ يجب المسمّى لما مضى.
ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها، بأن كان فيها زرع لم يحصد بعد، فإلى وقت الزيادة يجب المسمى بحساب ذلك، وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر مثلها، وزيادة الأجر إنما تعرف إذا ازدادت عند الكل.
f

ذكر الطحاوي هذه الجملة في كتاب المزارعة. وأما في الأملاك لا يفسخ العقد، رخص أجر المثل أو غلا باتفاق الروايات.
وإذا أستأجر من آخر داراً أو أرضاً مقاطعة مدة قصيرة سنة مثلاً، ثم إن الآجر أجرها من غيره إجارة طويلة، لاشك أن الإجارة الطويلة لا تجوز في مدة الإجارة القصيرة، لما ذكرنا أن إجارة المستأجر لا تنعقد أصلاً.
وهل يجوز فيما ورائها؟ فمن جعلها عقداً واحداً يقول: لا تجوز، ومن جعلها عقوداً متفرقة يقول: تجوز؛ لأن العقد فيما وراء المدة القصيرة مضاف، وإضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل جائزة، فإذا انقضت المدة القصيرة تنعقد الطويلة ضرورة، وإذا باع المستأجر في الإجارة الطويلة، ثم جاء وقت الاختيار، هل ينفذ البيع؟

حكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد البسّتاني: إن في المسألة روايتين؛ لأن الإجارة فيما وراء الأيام المستثناة مضافة، فإذا نفذ البيع في أيام الخيار تنفسخ تلك الإجارة، وفي فسخ الإجارة المضافة روايتان على ما مرّ، بعض مشايخ زماننا قالوا: يجب أن يفتى بعدم النفاذ احترازاً عن التلبيس والاحتيال، فإنهم قد يحتالون، ويقولون: قد بعنا قبل الأيام، وانفسخت الإجارة في الأيام، ويطلبون أجرة ما مضى بعد الفسخ، وعسى يزداد على مال الإجارة، فيؤدي إلى الإضرار بالمسلمين.
وإن باع الآجر المستأجر في الإجارة الطويلة في أيام الفسخ قبل الفسخ ذكر شمس الأئمة السرخسي إن هذا الفصل يجب (57ب) 4أن يكون على الروايتين. كما لو باع قبل الفسخ؛ لأن الإجارة في المدة الثانية مضافة.
وقال الصدر الشهيد حسّام الدين: يجب أن يكون نفاذ هذا البيع باتفاق الروايات؛ لأن للآجر ولاية في الفسخ في الأيام المستثناة، والبيع دلالة الفسخ، ولا كذلك الإجارة المضافة؛ لأنه ليس للآجر ولاية الفسخ في الإجارة المضافة، فجاز أن يكون في نفاذ بيعه اختلاف الروايتين، وبه ختم

نوع آخر من هذا الفصل
قد ذكرنا أن الأيام المستثناة في الإجارة الطويلة غير داخلة تحت العقد، فلو أجر المستأجر المستأجر من غيره يبين تلك الأيام في الإجارة الثانية، أنها اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر من شهر كذا، ويستثني نصاً لتبين الداخل من الأيام في العقد

(7/620)


الثاني من غير الداخل، هكذا ذكر الحاكم السمرقندي رحمه الله في كتاب الشروط، وهذا إذا كتب ذكر الإجارة الثانية على هذه أما إذا كتب في الذكر الأول، أو على ظهره فذكر فيه سوى الأيام المستثناة المذكورة فيه، يكفي بجواز الإجارة الثانية، والله أعلم.

نوع آخر

اختلف المشايخ فيمن يجوز الإجارة الطويلة في فصل، وهو أنه: إذا كان من أحد العاقدين بحيث لا يعيش إلى مدة ثلاثين سنة معه غالباً، هل تصح هذه الإجارة؟ فبعضهم لم يجوزوا ذلك، وممن لم يجوزوا القاضي الإمام أبو عاصم العامري، ووجهه: أن الغالب يلحق بالتيقن في الأحكام حتى يحكم بموت المفقود بموت أقربائه، فإذا كان الظاهر والغالب أنه لا يعيش إلى هذه المدة تيقناً بفساد العقد، لأن تلك المدة التي خرجت من الإجارة مجهولة؛ ليتمكن الجهالة في الباقي، فلا يجوز. ولأن منفعة الأرض فيما سوى مدة عمره لا تكون مملوكة له، فقد جمع بين المملوك وغيره، والمملوك مجهول، فلا يجوز هذا العقد؛ ولأنه بمنزلة التأبيد في الإجارة لما ذكرنا. والتأقيت شرط جوازها والتأبيد يبطلها.
أقصى ما في الباب: أن حياته إلى هذه المدة غير مستحيلة، ولكن ذكرنا أن في الأحكام تصير الغالب، والظاهر.
وبعضهم جوزوا ذلك، وممن جوز ذلك الخصاف؛ لأن العبرة في هذا الباب بصيغة كلام العاقدين، وإنه يقتضي التوقيت، فصح ذلك ولا عبرة لموت أحد العاقدين قبل أسماء المدة؛ لأن ذلك عسى يوجد فيما إذا كانت المدة مقدار ما يعيش الإنسان إليها غالباً، ولا عبرة له.
ونظير هذا: ما إذا تزوج امرأة إلى مئة سنة، أنه يكون متعة، ولا يكون نكاحاً صحيحاً في الروايات الظاهرة عن أصحابنا، وإن كان لا يعيش إلى هذه المدّة غالباً وجعل ذلك بمنزلة نكاح مؤقت، واعتبر ظاهر حياته في الحال، وجعل ذلك بمنزلة الوقت اليسير، وإنما فعلنا كذلك لما ذكرنا أن الاعتبار للفظ وإنه يقتضي التأقيت، فصار النكاح مؤقتاً. والنكاح المؤقت باطل.

وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: بأن مشايخنا يترددون في فصل النكاح في مثل هذه الصورة. بعضهم قالوا: يجوز النكاح في مثل هذه الصورة، ويجعل ذلك التأقيت بمنزلة التأبيد، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة فكأنهم قاسوا هذا على ما ذكر في كتاب الطلاق في باب الإيلاء، إذا قال: والله لا أقربك إلى خروج الدجال إلى طلوع الشمس من مغربها، فإن هناك لا يصير في القياس مولياً، ويصير مولياً استحساناً ويجعل في الاستحسان ذلك التأقيت بمنزلة التأبيد كذا ههنا.
وإذا استأجر شيئاً إجارة طويلة صحيحة بدنانير دين موصوفة، فأعطاه مكان الدنانير دراهم، ثم تفاسخا العقد، فالآجر يطالب بالدنانير لا بالدراهم؛ لأن التعجيل مشروط في الإجارة الطويلة، والأجرة تجب باشتراط التعجيل في الإجارة الصحيحة، فإذا قبض مكان

(7/621)


الدنانير دراهم، كانت هذه مصارفة بدين واجب فيصح، وصار المستأجر بائعاً الدراهم مؤقتاً الدنانير. ولو كان العقد فاسداً. وباقي المسألة بحاله يطالب الآجر بإعطاء الدراهم؛ لأن الأجرة لا تملك باشتراط التعجيل في الإجارة الفاسدة، فلم تصح المصارفة، فلا يصير المستأجر مؤقتاً الدنانير فلا يجب على الآجر إيفاء الدنانير.
وإذا أجر أرضاً، وفي الأرض زرع أو أشجار لا يجوز، وإن أراد الحيلة في ذلك فقد مرّ ذكره في الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب.
وإذا أستأجر كرماً لم يره، وقد باع صاحب الكرم الأشجار قبل الإجارة صحت الإجارة، كان للمستأجر خيار الرؤية في الكرم، ولو تصرف في الكرم تصرف الملاك بطل خيار الرؤية كما في البيع.
ولو أكل من ثمار الكرم، فقد قيل: لا يبطل خيار الرؤية؛ لأنه تصرف في المشترى وهو الثمار لا في المستأجر، وهو الكرم. ولو قيل يبطل فله وجه أيضاً.
وإذا قال لغيره: أجرتك داري هذه، أو قال: أرضي هذه على أنك تفسخ العقد متى شئت كانت الإجارة فاسدة، لأن مدة الخيار تزيد على ثلاثة أيام.

وفي «فتاوى الفضلي» : إذا أجر الرجل حانوته مشاهرة، ثم أجره من غيره إجارة طويلة، وأمر الآجر المستأجر إجارة طويلة أن يكون هو الذي يقبض الأجر من المستأجر مشاهرة ثم مات الآجر بعد ذلك، والمستأجر إجارة طويلة هو الذي يقبض الأجرة، فما قبض فهو له إلا أجرة الشهر الذي وقعت الإجارة الأولى فيه؛ لأن الإجارة الثانية إنما تصح عند الشهر الثاني؛ لأن بمجيئه تنفسخ الأولى.
ومعنى المسألة: أن الإجارة الأولى وقعت صحيحة، وإنما تمنع صحة الإجارة الثانية ولكن للآجر حق الفسخ عند الشهر الثاني، وإقدامه على الإجارة الثانية دليل الفسخ، فانفسخ العقد الأول عند الشهر الثاني. وصحت الإجارة الطويلة، فإذا طلب المستأجر إجارة طويلة الأجر من المستأجر الأول وأجابه المستأجر الأول إلى ذلك، فقد انعقد بين الأول وبين المستأجر إجارة طويلة إجارة جديدة مشاهرة. فهو معنى قوله: ما قبض المستأجر الثاني من الأجرة فهي له، إلا أجر الشهر الذي وقعت فيه الإجارة. قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السعدي رحمه الله: أراد بقوله: ما قبض المستأجر من الأجرة فهي له، ما قبض في حال حياة الآجر؛ لأن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، فما يأخذ بعد ذلك يأخذ بغير حق، فيلزمه رده على من أخذ منه. وفي «الفتاوى الصغرى» : إذا أجر داره من رجل إجارة طويلة، ثم أجر من آجر طويلة لا يجوز، ولا ينقلب جائزاً بعدما انفسخت الأولى بفسخها، وإنه مشكل. وينبغي أن تكون المسألة على روايتين، لأن في الإجارة الطويلة بعض العقود مضافة، وفي صحة فسخ الإجارة المضافة قبل مجيء الوقت المضاف إليه روايتان. والإجارة الثانية دليل فسخ الإجارة الأولى كالبيع، فيجب أن تكون في المسألة روايتان كما في البيع.

(7/622)


الفصل الحادي والثلاثون: في النصيف
إذا استأجر الرجل داراً، ولم يسم بالعمل فيها، ينصرف إلى السكنى، وليس له أن يعمل فيها عمل القصارين والحدادين، فإن عمل فانهدم كان عليه الضمان ولا أجر عليه، وإن سلم الأجر عليه قياساً، وعليه الأجر استحساناً.
والراعي إذا رعى في مكان لم يؤذن له بالرعي فيه، فعطب الغنم أو ما أشبه ذلك، صار الراعي ضامناً لما عطب ولا أجر له. وإن سلمت الغنم كان في وجوب الأجر له قياساً واستحساناً على ما مر.
وإذا استأجر ثوباً ليلبسه مدة معلومة بأجر معلوم، ليس له أن يلبس غيره فإن ألبس غيره في ذلك الوقت إن هلك ضمنه اللبس ولا أجر عليه، وإن سلم لا أجر عليه أيضاً.
وإذا استأجر دابة بعينها ليركبها إلى مكان معلوم بأجر معلوم، ليس له أن يركب غيره فإن حمل (58أ4) عليها غيره ضمن، ولا أجر عليه وإن ركب هو وحمل معه آخر، فسلمت فعليه الكراء كله وإن عطبت بعد بلوغها ذلك المكان من ذلك الركوب، فعليه الأجر كله، وهو ضامن لنصف قيمته.
وإذا استأجر دابة ليذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر وسلمت الدابة، أو هلكت فلا أجر عليه.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن استيفاء المعقود عليه يوجب الأجر على المستأجر، وعند استيفاء ما ليس بمعقود عليه، إنما يجب الأجر على المستأجر إذا تمكن المستأجر من استيفاء ما هو معقود عليه، أما إذا لم يتمكن فلا. ألا ترى أن من استأجر من آخر ثوباً ليلبسه، وغصب هذا المستأجر من هذا الأجر ثوباً آخر، ثم إن المستأجر لبس الثوب المغصوب دون الثوب المستأجر، فإن كان متمكناً، من لبس الثوب المستأجر بأن كان في بيته فإنه يجب الأجر على المستأجر في الثوب المستأجر وإن لم يكن متمكناً بأن غصب رجل الثوب المستأجر من المستأجر الأجر على المستأجر أصلاً؛ لهذا إن في الوجه الأول: استوفى ما ليس بمعقود عليه، وهو منافع الثوب المغصوب مع تمكنه من استيفاء ما هو معقود عليه.

وفي الوجه الثاني: استوفى ما ليس بمعقود عليه وزيادة، فإن سلم العين يسقط اعتبار الزيادة، فيجب الأجر ولا يجب الضمان، وإن هلك العين ليست استيفاء تلك الزيادة، إن صار المستأجر بسبب استيفاء الزيادة مستعملاً كل العين يجب ضمان كل العين، وإن صار مستعجلاً بعض العين يجب ضمان البعض، وهل يجب الأجر؟ ففيما إذا وجب ضمان كل العين لا يجب شيء من الأجر، فيما إذا وجب ضمان العين بقدر الزيادة يجب كل الأجر، ومتى كان المستوفى مع ما دخل تحت العقد جنساً واحداً من حيث الاسم، إلا أن بينهما تفاوت فإن كان تفاوتاً فاحشاً، التحقا بجنسين مختلفين، ولا يعتبر

(7/623)


معقوداً عليه فباستيفائه لا يجب الأجر، وإن كان التفاوت يسيراً لا يلحقا بجنسين مختلفين، بل يعتبر الجنس واحداً، ويكون التفاوت راجعاً إلى الصفة، فإن لم يسلم يجب الضمان، ولا يجب الأجر وإن سلم يجب الأجر ولا يجب الضمان.

إذا ثبت هذا جئنا إلى مسألة البيت فنقول: المعقود عليه لما كان هو السكنى، فإذا سكن وعمل فيها عمل القصارين والحدادين، فقد استوفى زيادة شيء بسبب عمل القصارين والحدادين، فإن سلمت الدار سقط اعتبار الزيادة، وإن هلك الدار لا يجب الأجر ويجب كل الضمان؛ لأنه باستيفاء هذه الزيادة صار مستعملاً كل الدار، فيجب كل الضمان عند الهلاك، ولم يجب شيء من الأجر.
وأما مسألة الراعي قلنا: الراعي في هذا المكان والرعي في المكان الذي أذن بالرعي فيه واحد اسماً إلا أن بينهما تفاوتاً، وهذا التفاوت يسير في الرعي، ولهذا صحت الإجارة على الرعي، وإن لم يبين المكان، فيبقى الجنس واحداً فكان هذا اختلافاً في الصفة، فإن الرعي في بعض الأمكنة ربّما يكون أجود، فلهذا كان كما قلنا.

وأما مسألة الثوب قلنا: التفاوت بين اللبسين تفاوت فاحش، فالتحقا بجنسين مختلفين، وإن جمعهما الاسم، والداخل تحت العقد لبسه مكان لبس غيره، باعتبار هذا التفاوت غير داخل تحت العقد، فكان هذا استيفاء ما ليس بمعقود عليه، ولم يكن المستأجر متمكناً من استيفاء ما هو معقود عليه، وهو لبسه في المدة؛ لأن ذلك إنما يكون إذا لم يكن في يد غيره وكذلك الوجه فيما إذا استأجر دابة ليركب إلى مكان معلوم، فحمل عليها غيره وفيما إذا استأجر دابة ليركب إلى مكان معلوم، فأردف غيره إلى ذلك المكان، لم يسقط اعتبار الزيادة فيجب كل الأجر، وإن هلكت من الركوب بعد بلوغها إلى ذلك المكان لم يسقط اعتبار الزيادة، فيجب الضمان. ولكن إنما يضمن نصف قيمته؛ لأنه باستيفاء الزيادة صار مستعملاً بعض الدابة، وهو ما زاد على مقدار ركوب المستأجر، أما قدر ركوب المستأجر فهو داخل في الإجارة؛ لأن المعقود عليه هنا مقدر بالركوب لا بالمدة فصار قدر ركوبه من هذه الدابة مستأجراً والبعض غير مستأجر، فصار باستيفاء هذه الزيادة مستعملاً هذا القدر، فلهذا يجب عليه ضمان ذلك القدر، وجب كل الأجر.
وفيما إذا استأجر دابة ليذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر فنقول: بين المكانين تفاوت فاحش في الركوب، فاعتبر الجنسين مختلفين، فلم يكن الركوب في مكان آخر معقوداً عليه، واستيفاء غير المعقود عليه لا يوجب الأجر أصلاً، إذا لم يمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وإذا ذهب بها في مكان آخر فما تمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.

(7/624)


الفصل الثاني والثلاثون: يقرب إلى المسائل التي هي في معنى قفيز الطحان
إذا دفع إلى آخر بقرة بالعلف؛ ليكون الحادث بينهما نصفان، فالحادث كله لصاحب البقرة وعليه أجر مثل عمل المدفوع إليه، وثمن العلف وهذا لأن المدفوع إليه غير متبرع فيما صنع؛ لأنه إنما فعل ذلك رجاء أن يسلم له نصف الحادث، ولا يسلم له نصف الحادث منها لفساد العقد ليكون البدل مجهولاً. قال: فلو مضى على ذلك زمان واتخذ المدفوع إليه بعض اللبن مصلاً، والعين قائم في يده، فما كان قائماً من اللبن فهو للمالك، وما اتخذه المدفوع إليه مصلاً فهو للمدفوع إليه وانقطع حق المالك عنه لتبدل الاسم والمعنى، وعلى المدفوع إليه لصاحب البقرة مثل ذلك اللبن لأن اللبن مثلي، وما ذكر من انقطاع حق المالك عن المصل مشكل؛ لأن الاسم والمعنى وإن تبدلا، ولكن يصنع ما دون فيه من جهة المالك، وعلى هذا: إذا دفع الدجاجة إلى رجل لتكون البيضات بينهما، فلو أن المدفوع إليه دفع البقرة أو الدجاجة إلى رجل آخر بالنصف، فهلك في يده، فالمدفوع إليه الأول ضامن؛ لأن العين أمانة في يده وليس للآجر أن يدفع الأمانة إلى غيره من غير ضرورة، فلو أن المدفوع إليه بعث البقرة إلى السرح، فلا ضمان لمكان العرف.
وفي بيوع الفتاوى: امرأة أعطت بذر العلق إلى امرأة بالنصف، فقامت عليه حتى أدرك فالعلق لصاحب البذر؛ لأنه حدث من بذره ولها على صاحب البذر قيمة الأوراق، وأجر مثلها. وفي إجارات الفتاوى: إذا دفعت بذر العلق إلى أختها وأخيها على أن العلق بينهم، فلما خرج الدود قالا: إن أكثرها قد هلك، فقال لهما: ادفعا إلي ثمن البذر وأنا منه بريء وهما كاذبان فقد خرج العلق كله، فالعلق كله لها، ولهما عليها قيمة ورق الفرصاد، إن كان له قيمة وأجر مثل عملهما في ذلك.

وفي مضاربة «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا دفعت إلى امرأة دوداً لتقوم عليه بنفقتها على أن العلق بينهما نصفان، فهو بمنزلة المضاربة فكل العلق لصاحب الدود وعليها أجر مثل العاملة، وثمن الأوراق، ولو صب من آجر دود القزّ أو بيض الدجاجة، فأمسكها حتى خرج العلق أو الفرخ لمن يكون الفرخ والعلق؟ حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: إن خرج بنفسه فهو لصاحبه.
والحيلة في جنس هذه المسائل: أن يبيع صاحب البيضة نصف البيضة، وصاحب الدجاجة والبقرة من المدفوع إليه، ويبرئه عن ثمن ما اشترى، فيكون بينهما.
رجل له غريم في مصر آخر، قال لرجل: اذهب وطالبه بالذي لي عليه، وهو كذا فإن قبضته فلك عشرة من ذلك، ففعل فله أجر المثل؛ لأن هذا في معنى قفيز الطحان، فلم يصح هذا العقد، وقد استوفى منافعه بحكم هذا العقد، فيجب أجر المثل.

(7/625)


الفصل الثالث والثلاثون: في الاستصناع
ذكرنا في كتاب البيوع كيفية الاستصناع وصفته، وما يجوز فيه وما لا يجوز، ولم نذكر ثمة المسائل فنذكرها ههنا، ومحمد رحمه الله أورد باب الاستصناع في البيوع والإجارات، فنحن فعلنا هكذا أيضاً اتباعاً له.
والاستصناع (58ب4) أن تكون العين والعمل من الصانع، فأما إذا كان العين من المستصنع لا من الصانع يكون إجارة، ولا يكون استصناعاً.
قال محمد رحمه الله: وإذا سلم الرجل إلى حائك في ثوب من قطن ينسجه له، وسمى عرضه وطوله وجنسه ودقته، والغزل من الحائك حتى كان استصناعاً، فالقياس أن يجوز؛ لأنه استصناع في عمل معلوم، ببدل معلوم فيجوز، كما في الخفاف والأواني استحسن. وقال: لا يجوز؛ لأن جواز الاستصناع بخلاف القياس؛ لأنه بيع المعدوم، لتعامل الناس ولا تعامل في الثياب فيبقى على أصل القياس.
وإن ضرب لذلك أجلاً يصير سلماً، ذكر المسألة في كتاب الإجارات من غير ذكر خلاف.

وفي كتاب البيوع في شرح شيخ الإسلام: أن الاستصناع مما للناس فيه تعامل يصير سلماً، يضرب الأجل في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يصير سلماً، وفيما لا تعامل للناس فيه نحو: الثياب يصير سلماً بضرب الأجل بالإجماع.
وفي «القدوري» : وإن ضرب للاستصناع أجلاً فهو بمنزلة السلم، يحتاج فيه إلى قبض البدل في المجلس ولا خيار لواحد منهما في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بسلم من غير فصل بينما، للناس فيه تعامل وبينما لا تعامل لهم فيه فذكر المسألة في كتاب الإجارات من غير خلاف.
يؤيد ما ذكره شيخ الإسلام في شرح كتاب البيوع: أن فيما لا تعامل فيه يصير الاستصناع سلماً بضرب الأجل بالإجماع.
قال محمد رحمه الله: وإذا دفع حديداً إلى حداد يصنعه أناءً، بأجر مسمى فجاء به الحداد على ما أمره به صاحب الحديد، ويجبر على القبول. ولو خالفه فيما أمره به، فإن خالفه من حيث الجنس بأن أمره بأن يصنع له قدوماً، فصنع له مراءً ضمن حديداً، مثل حديده، وإلا ناله ولا خيار لصاحب الحديد. فإن خالفه من حيث الوصف، بأن أمره أن يصنع له منه قدوماً يصلح للنجارة، فصنع له منه قدوماً يصلح لكسر الحطب، فصاحب الحديد بالخيار إن شاء ضمنه حديداً مثل حديده، وترك القدوم عليه، ولا أجر، وإن شاء أخذ القدوم وأعطاه الأجر، وكذلك الحكم في كل ما يسلمه إلى عامل ليصنع منه شيئاً مسماه، كالجلد يسلمه إلى الإسكاف ليصنعه خفين، أو ما أشبهه.

(7/626)


رجل سلم غزلاً إلى حائك لينسجه، وأمره أن يزيد في الغزل رطلاً من غزله، فهذا على أربعة أوجه:
الأول: أن يقول: أقرضني رطلاً من غزلك على أن أعطيك مثله، وأمره أن ينسج منه ثوباً على صفة معلومة بأجرة معلومة، وإنه جائز استحساناً، سواء كان الاستقراض مشروطاً في عقد الإجارة، أو لم يكن.

والقياس فيما إذا كان الاستقراض مشروطاً في عقد الإجارة أن لا تجوز الإجارة؛ لأن هذه إجارة شرط فيها مالا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، ولكن تركنا القياس للتعارف والتعامل. فإن العرف جار فيما بين الناس، أنهم يدفعون غزلاً، ويأمرون الحائك بنسج ثوب مقدر ولا يفي الغزل للثوب المأمور به ويشترطون قرض ما يتم به الثوب من عند الحائك، فهذا شرط متعامل فيما بين الناس من غير نكير، فيجوز ويترك القياس لأجله كما ترك القياس في الاستصناع للتعامل، وترك القياس فيما إذا اشترى نعلاً على أن يشركه البائع ويحدده كان الشراء جائزاً وإن شرط فيما اشترى أجراً، وأجازه لأنه شرط متعارف فيما بين الناس، فكذلك هذا.
وأما الوجه الثاني: إذا قال زدني رطلاً من غزلك على أن أعطيك مثل غزلك، وإنه جائز ويكون قرضاً. وإنما جعل قرضاً، أما إذا قال: على أن أعطيك مثل غزلك؛ لأنه وإن احتمل البيع يحتمل القرض، فكان حمله على القرض حتى لا يصير بائعاً ما ليس عنده أولى من حمله على البيع ويصير بائعاً ما ليس عنده، وإنه منهي عنه شرعاً. وأما إذا سكت إنما جعل قرضاً، وإن احتمل الهبة؛ لأنه كما يحتمل الهبة يحتمل القرض والقرض أقل التبرعين؛ لأنه لتمليك المنفعة دون العين على ما عرف، والهبة لتمليك العين والمنفعة جميعاً، فكان الأقل منتفياً، فكان الأقل أولى بالإثبات.
ثم إن لم يكن مشروطاً في عقد الإجارة جازت الإجارة قياساً واستحساناً.
وإن كان مشروطاً، فالمسألة على القياس والاستحسان الذي ذكرنا؛ لأن رفع الاختلاف بين رب الثوب وبين الحائك بعد ما فرغ الحائك من العمل، فقال رب الثوب: لم يزد فيه شيئاً، وقال الحائك: لا بل زدت، والثوب مستهلك، فإن باعه صاحبه قبل أن يعلم وزنه، فالقول قول ربّ الثوب مع يمينه، وعلى الحائك البيّنة. فإن نكل رب الثوب عن اليمين يثبت ما ادعاه الحائك، فيلزم رب الثوب ذلك. وإن حلفه برئ عما ادعاه الحائك، وإن كان الثوب قائماً سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
الرابع: أن يقول: زد رطلاً من مالك على أن أعطيك ثمن الغزل، وأجر عملك كذا كذا درهماً. فالقياس: أن لا يجوز وفي الاستحسان يجوز ويجيء للقياس طرق ثلاثة إن كان شراء الغزل مشروطاً في الإجارة.

أحدها: أنه باع ما ليس عنده لا على وجه السلم، فيكون فاسداً.
والثاني: أنه شرط بيعاً في إجارة، وهذا يوجب فساد الإجارة، كما في إجارة الدار.
والثالث: أنه استصنع في حق الزيادة؛ لأن العمل والعين من الحائك، والاستصناع في الثياب لا يجوز كما لو استصنع في أصل الثوب، وإن لم يكن مشروطاً، فلا يجوز

(7/627)


قياساً لعلتين أحداهما: وهو أنه باع ما ليس عنده وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا سلماً ولم يوجد. ولأنه استصنع في حق الزيادة والاستصناع في الثياب لا يجوز، إلا أنه في الاستحسان يجوز لتعامل الناس فإن الإنسان قد يدفع غزلاً إلى حائك ويأمره بنسج ثوب، ويعلم أنه لا يكفي الغزل المدفوع للثوب المأمور به فيشترط عليه زيادة غزل على سبيل الشراء، أو يدفع غزلاً وعنده أنه يفي هذا الغزل، فينتقص الغزل عن القدر المأمور به ولا يجد رب الثوب غزلاً مثله، فنقول للحائك: زد فيه غزلاً من عندك على أن أعطيك ثمنه، فإذا كان كلا الأمرين متعارفاً فيما بين الناس، ترك القياس فيهما وخص به الأثر وهو النهي الوارد عن بيع ما ليس عنده.

وإذا جاز هذا، فإن اختلفا بعد الفراغ من الثوب، فقال رب الثوب: لم يزد فيه شيئاً. وقال الحائك: زدت فيه ما أمرتني فهذا على وجهين أيضاً. فإن كان مستهلكاً ذكر أن القول قول رب الثوب مع يمينه على عمله؛ لأنهما تنازعا في شيء، ولم يمكن معرفة ما وقع التنازع فيه من جهة غيرهما، فتعتبر فيه الدعوى والإنكار. والحائك يدعي على صاحب الغزل زيادة ثمن الغزل، وزيادة الأجر. ورب الثوب ينكر، فيكون القول قوله مع يمينه على علمه؛ لأنه يحلف على فعل الغير، فيحلف على العلم، فإن نكل عن اليمين تثبت الزيادة، فكان عليه جميع ما سمي للحائك بعضه بإزاء العمل، وبعضه ثمن الغزل؛ لأن ما ادعاه الحائك ثبت بنكول رب الثوب، فكان كالثابت بإقراره. وإن حلف ولم تثبت الزيادة، ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه يطرح عنه ثمن الغزل، ويلزمه أجر الثوب؛ لأنه لم يثبت الزيادة من عند الحائك لما حلف رب الثوب، فلا يكون له ثمن الغزل، فيطرح عنه ما يخص الغزل.
ومعرفة ذلك: أن يقسم المسمى على أجر مثل عمله، فيما أمر به وذلك عمله في من ونصف قيمة الغزل المشروط على الحائك؛ لأنه قابل المسمّى بالغزل، وبالعمل في منّ، ونصف؛ لأن مناً من غزل أعطاه المستأجر، ونصف من اشترى منه، فيطرح عنه ثمنه وأصاب العمل هو آجر الثوب يلزمه، حتى أنه كان المسمى، مثلاً ثلاثة دراهم بإزاء الغزل وبإزاء العمل. وقيمة الغزل درهم مثل عمله فيما أمر به درهمان من المسمى، يطرح عنه درهم ثمن الغزل، ويقسم ما بقي من المسمى على أجر مثل عمله، فيما عمل، وفيما لم يعمل؛ لأنه جعل الأجر بإزاء عمله فيما دفع إليه من الغزل، وفيما أمره بالزيادة (59أ4) ولم يوف العمل فيما أمره بالزيادة، فلا بد أن يطرح عنه حصة ذلك من الأجر.
وكيف تعرف حصة ما لم يعمل في الزيادة من الأجر مما عمل؟ اختلف فيه المشايخ. قال بعضهم: يعرف باعتبار الوزن، إن كان ما دفع إليه مناً من غزل، وما شرط عليه نصف من يقسم الباقي من المسمّى بعد ثمن الغزل وذلك درهمان عليهما أثلاثا ثلثاه بازاء ما عمل، وثلثه بازاء ما لم يعمل فيطرح عنه الثلث، ولا تعتبر السهولة والصعوبة في العمل بسبب صغر الثوب، وكبره كما في المراحل إذا ماتت الدابة المستأجرة في وسط الطريق، فإنه يطرح بعض الأجر، ويبقى البعض، ثم يتعرف قدر الساقط من القائم باعتبار

(7/628)


قدر المراحل لا عبرة فيهما للسهولة والصعوبة فكذلك هذا.
فقال بعضهم: بأنه يتعرف قدر الساقط من القائم باعتبار السهولة والصّعوبة في العمل بسبب صغر الثوب وكبره، وهذا لأن العمل قد يسهل على الحائك بطول الثوب، ويصعب بقصره، فإنه متى قصر يحتاج إلى الوصل، وإلى عمل الدقيق مراراً، ومتى طال يحتاج إلى ذلك مرة واحدة وهذا التفاوت معتبر فيما بين العمل من هذه الصناعة في زيادة الأجر بسبب صغر الثوب، ونقصانها بسبب الكبر، فلا بد من اعتبارها. وإذا وجب اعتبارهما يجب أن يقيم الباقي من المسمى، وذلك درهمان على أجر مثل عمله في من، وأجر مثل عمله في منّ ونصف درهمان ونصف، وفي منّ درهمان يكون بازاء الزيادة نصف درهم، فيطرح عنه من درهمين نصف درهم حصة ما لم يعمل، بخلاف المراحل؛ لأن الصعوبة والسهولة في المراحل ساقط الاعتبار، فيما بين أهلها إذا اشتملت على المراحل السهل والصعب، فلهذا وجب قدر المراحل في قسمة الأجر بخلاف ما نحن فيه؛ لأن التفاوت في القصر والكبر معتبرة في التفاوت في الأجرة، فلا بد من اعتبارها اللهم إلا أن يكون التفاوت بين القصير والطويل بذرع أو بذرعين حتى لا يكون لهذا التفاوت عبرة في زيادة الأجر ونقصانه.

ولم يذكر محمد رحمه الله أن صاحب الثوب يخير وإنما لم يذكر الخيار. وإن خالفه الحائك في صفة ما أمر به، لأنه متى نسج الثوب من منّ ونصف، يكون أطول مما إذا نسجه من منّ واحد، والطول في الثياب صفة مرغوبة كالصفاء والرقة، لأن الطويل يصلح لنوع لا يصلح له القصير، إلا أن التخير غير ممكن بعد هلاك الثوب؛ لأنه لا يمكنه ترك الثوب عليه حتى يضمنه غزلاً مثل غزله، فتعين وجوب الأجر، ثم ماذا يجب أجر المثل، أو المسمى؟ فعلى قول بعضهم: أجر المثل لا يجاوز حصته من المسمى، وعلى قول بعضهم: إن رضي بالعيب فعليه المسمى بحساب ذلك، وإن لم يرض بالعيب فعليه أجر مثل العمل لا يجاوز حصته من المسمى، كما قلنا فيما تقدم من المسائل. ومحمد رحمه الله ذكر الأجر في هذه المسألة مطلقاً ولم يقل المسمّى يخرجها على حسب ما ذكرنا في المسألة الأولى، فأما إذا كان قائماً: إن كان لا يعرف مقدار ما دفع إليه صاحب الغزل، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان هالكاً من أوله إلى آخره؛ لأنه تعذر معرفة ما وقع التنازع فيه من حيث الوزن، وإن كان الثوب قائماً فكان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الثوب مستهلكاً، فأما إذا كان الثوب قائماً وقد عرف مقدار ما دفع إليه من الغزل، بأن تصادقا على أن ما دفع إليه منّ إذا كان الثوب قائماً، فإنه يوزن الثوب؛ لأن معرفة ما وقع التنازع فيه ممكن من حيث العنان بالوزن؛ لأن ما وقع إليه إذا كان معروفاً يعرف الزيادة من حيث الوزن، فلا يلتفت إلى قول واحد منهما، بل يوزن الثوب فإن وزن فإذا هو من واحد لم تثبت الزيادة بيقين، فيكون القول قول صاحب الثوب من غير يمين وإن كان منوينّ فالقول قول الحائك، إن لم يدع رب الثوب إن الزيادة من الدقيق؛ لأن الزيادة تثبت بتصديق صاحب الثوب. وإن أدعى أن الزيادة من الدقيق، فلم يرى أهل البصر من

(7/629)


تلك الصناعة، فإن قالوا: قد يزيد الدقيق مثل هذا، فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه؛ لأن الظاهر صار شاهداً لرب
المال، لما قال أهل تلك الصناعة. أن الدقيق يزيد هذا القدر، إلا أنه يجعل القول قوله مع اليمين؛ لأن الزيادة لم تثبت بيقين أنه من الدقيق. وإنما يثبت بنوع من الظاهر وإن قالوا: الدقيق لا يزيد هذا القدر صار الظاهر شاهداً للحائك، فيكون القول قوله لكن مع اليمين، لأنه لم تثبت بيقين الزيادة بسبب الغزل، وإنما تثبت بنوع من الظاهر، فجعل القول قوله مع اليمين.
قال: ولو أن رجلاً دفع سمسماً إلى رجل فقال أقشره وزنه ببنفسج واعصره على أن أعطيك أجرك درهماً، كان هذا فاسداً؛ لأنه أستأجره لعمل مجهول، لأنه أستأجره لتربية السمسم بالبنفسج، وقدر ما يربي بالسمسم من البنفسج مجهول قد يقل وقد يكثر، فيكون العمل مجهولاً، وجهالة العمل يوجب الفساد إلا أن يكون قدر ما يربى به مثل هذا السمسم من البنفسج معرفاً، فيما بين الناس فحينئذ يكون جائزاً، لأن المعروف كالمشروط كما في نقد البلد، فيكون العمل معلوماً وقد أستأجره لما يصلح أجراً فرق بين هذا وبينما إذا دفع ثوباً إلى صباغ ليصبغه بعصفره كانت الإجارة جائزة، وإن لم يتبين قدر العصفر، وهنا قال: لا تجوز الإجارة إذا لم يبين قدر البنفسج، ووجه الفرق بينهما من وجهين:

الأول: وهو قدر ما يصنع به مثل هذا الثوب من الصبغ معروف فيما بين الصباغين، بحيث لو زادوا على ذلك المقدار فسد الثوب، والمعروف كالمشروط. ولو كان قدر العصفر مشروطاً جازت الإجارة؛ لأن العمل معلوم، وهنا ليس لمثل هذا السمسم مقدار معروف من البنفسج بين أهل الصنعة، بحيث لا يزاد عليه، فإنه كلما ازداد البنفسج يزداد السمسم حراً، حتى لو كان معروفاً فيما بين التجار بحيث لا يزاد عليه جاز أيضاً لأن المعروف كالمشروط.

والثاني: أن المعروف والمتعامل فيما بين الصباغين أنهم يجمعون الثياب من الناس، ويصبغون الكل بدفعة واحدة في وعاء واحد، ولا يفردون ثوب كل واحد من الناس بالصبغ على حدة، فلو شرطنا لجواز هذا العقد بيان مقدار العصفر ولأنهما للصباغ الإمساك بذلك، إلا بعد أن يفرد كل ثوب بالصبغ على حدة ضاق الأمر عليهم، وما ضاق على الناس اتسع. حكمة هذا التعامل معدوم في تربية السمسم، لأنهم يفردون سمسم كل رجل على حدة في التربية، ولا يخلطون سمسم هذا بسمسم الآخر، ومتى خلطوا ضمنوا؛ لأنه يتهيأ لهم التمييز، فلو شرطنا بيان مقدار البنفسج لكل سمسم لا يؤدي إلى أن يضيق الأمر عليهم، فأخذنا في البنفسج بالقياس.
قال: وإذا دفع الرجل جلداً إلى الإسكاف، وأستأجره بأجر مسمى على أن يحرم به خفين وسمى له المقدار، والصفة على أن نعلة الإسكاف وسطية من عنده، ووصف له

(7/630)


البطانة والنعل، فهو جائز استحساناً. والقياس أن لا يجوز.
ووجه القياس في ذلك أن هذا إجارة شرط فيها شراء، فتفسد. كما لو أستأجر داراً، وشرط فيها شراء، ولأنه صار مشترياً ما ليس عنده لا على وجه السلم، وشراء ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا سلماً، وكان بمنزلة ما لو دفع ثوباً إلى خياط ليخيط له جبّة على أن يحشو وسطه من عنده بأجر مسمّى، فإنه لا يجوز لما ذكرنا، فكذلك هذا.
ذكر محمد مسألة الجبة في الأصل على هذا الوجه، إلا أنه ترك هذا القياس في باب الخفّ للتعامل، ولا تعامل في فصل الخياط، فيرد فصل الخياط إلى ما يقتضيه القياس.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: رجل دفع إلى خياط ظهارة، وقال: بطنها لي من عندك فهو جائز، وقاسه على ما إذا اشترى خفاً، وقال للبائع: انعله بنعل من عندك، فصار في المسألة روايتان.

ولو دفع إليه بطانة. وقال: ظهرها لي من عندك فهو فاسد باتفاق الروايات، ثم إن محمداً رحمه الله جوز هذا التصّرف، وإن لم ير صاحب الجلد النعل والبطانة وصرفه إلى نعل وبطانة يليق بتلك الخف، وكذا إذا أمر الرجل إسكافاً أن يحرر على خفيه ومكعبيه أربع قطع من هرم بكذا، ولم ير الرجل القطع فهو جائز استحساناً (59ب4) وكذا ترقيع الخرق في الخفاف يجوز من غير أن يرى الإسكاف الرقاع.
وفي نوادر ابن سماعة: شرط الإراءة في النعل. وهكذا ذكر في القطع الأربع، وهكذا في ترقيع الخرق، فإذا في الخف نعل وفي النعل يخصف روايتان، وإذا جازت هذه الإجارة استحساناً، فإذا عمل الإسكاف وأتى به إن كان عمله متعارفاً صالحاً لا فساد فيه أجبر صاحب الجلد على القبول، ولم يكن له خيار، فقد اعتبر المقارنة للزوم لا حقيقة الموافقة من كل وجه، بين المسمّى في الذمة، وبين ما عين الأجير غير ممكن؛ لأنه لا بد من أدنى تفاوت يقع بين الموصوف في الذمة وبين العين، فسقط اعتبار الموافقة من كل وجه للزوم، وقامت المقارنة مقام الموافقة من كل وجه كما في السلم، لا يشترط الموافقة بين المسمّى في الذمة وبين العين للزوم، وإنما يشترط المقارنة؛ لأن الموافقة من كل وجه غير ممكن، فكذلك هذا وليس لصاحب الجلد خيار الرؤية لا في حق العمل ولا في حق النعل في حق العمل لا إشكال؛ لأن العمل كان واجباً في ذمة الأجير، وما ثبت في الذمة لا يثبت فيه خيار الرؤية، كما في السلم، ولا يثبت في حق النعل، وإن صار مشترياً للنعل لا على وجه السلم لوجهين:
أحدهما: أن شراء النعل إنما جاز تبعاً للإجارة، فإنه مشروط في الإجارة، فيكون تبعاً له وحكم البيع لا يفارق حكم البيوع، فإذا لم يثبت في الإجارة خيار الرؤية لما ذكرنا، لم يثبت فيما صار تبعاً للإجارة.

والثاني: أن العمل بخيار الرؤية غير ممكن؛ لأن العمل بخيار الرؤية أن يرد ما اشترى إلا بزيادة ضرر يلحق أحدهما فإنه متى رد النعل وحده يحتاج فيه إلى نقص الصفة،

(7/631)


وإذا رد مع الخف يضمن الإسكاف قيمة الخف، وكل ذلك ضرر بالإسكاف هذا إذا عمل عملاً مقاوماً صالحاً، فأمّا إذا فسد بأن خالف في صفة ما أمر به ذكر أن صاحب الجلد بالخيار إن شاء ترك الخف عليه وضمنه قيمة جلده، وإن شاء أخذ الخف وأعطاه الأجر. وإنما يجبر لما ذكرنا أن العامل موافق من وجه مخالف من وجه فإن شاء مال إلى الخلاف وضمنه وإن شاء مال إلى الوفاق، وأخذ الخف، فإن ترك الخف عليه وضمنه فلا أجر عليه؛ لأن العمل حصل للعامل متى ترك الخف عليه، فلا يكون عليه أجر. وإن مال إلى الوفاق وأخذ الخف، فإنه يعطيه أجر مثل عمله في حرز الخف أجر مثل عمله؛ لأن الثابت في حرز الخف إجارة محضة، وفي الإجارة المحضة متى تعذر إيجاب المسمّى يجب أجر المثل، ولا يجب ما زاد العمل فيه. وفي النعل عمل وعين حال اتصل بملك صاحب الخف، وفي هذا يجب قيمة ما زاد كما في الصبغ، إذا حصل بحكم الغصب، واختار المالك أخذ الثوب، فإن صاحب الثوب يضمن قيمة ما زاد الصبغ فيه، فلهذا اعتبر أجر مثل عمله في حزر الخف وفي حق النعل اعتبر قيمة ما زاد ومعرفة ما زاد النعل فيه أن ينظر إلى قيمة الخف محرراً غير منعل، ومبطن وإلى قيمته مبطناً منعلاً. فإن كان قيمته غير منعل ولا مبطن عشرة، وقيمته منعلاً اثنا عشر، علم أن قيمة ما زاد فيه درهمان، فيكون درهمان قدر ما زاد النعل فيه، ثم ينظر أجر مثل عمله في حزر الخف غير منعل ومبطن، فإن كان ثلثه مثلاً يضم إلى قيمة الخف ما زاد، فيصير خمسة، ثم يقابل بالمسمى فإن كان خمسة مثل المسمى أو أقل من المسمّى، فللإسكاف ذلك. وإن كان المسمى أقل من خمسة بأن كان المسمى أربعة، فإنه يعطي له أربعة؛ لأنه أبرأه عن الزيادة على أربعة لما رضي بأربعة.

وإذا اعتبر قيمة ما زاد النعل والبطانة فيه لا يعتبر أجر مثل عمله في حزر النعل؛ لأن أجر عمله في حزر النعل قد اعتبر لما اعتبرنا قيمة ما زاد النعل فيه؛ لأن قيمة ما زاد النعل أن يعتبر الخف منعلاً ومبطناً وغير منعل وإنما صار منعلاً بالعمل والنعل، فيكون قدر ما زاد النعل قيمة العمل والنعل، فمتى أوجبنا أجر مثل عمله في حزر النعل لا ينتقص أجر مثل عمله مرتين.
وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا دفع خفاً محرزاً إلى إسكاف لينعله بنعل من عنده بأجر معلوم، حتى جازت الإجارة استحساناً؛ للتعامل فنعله بنعل لا ينعل به الخفاف، حتى أفسد الخف بذلك ثبت لصاحب الخف الخيار، كما في هذه المسألة. واختار الأخذ فإنه يعطيه أجر مثل عمل وقيمة ما اتصل به من النعل من ابلا غير محرز لا يجاوز بهما ما سمي، وهنا أوجب مع أجر المثل قيمة ما زاد العمل فيه، ولم يوجب عليه قيمة النعل. والبطانة من ابلا غير محرز، والمتصل بخف الإسكاف في الموضعين عين مال وعمل، ثم أخذ في الموضعين أوجب قيمة ما زاد النعل فيه. وفي الموضع الآخر أوجب قيمة النعل من ابلا غير محرز من مشايخنا قال: لا فرق بين المسألتين ما ذكر في تلك المسألة يكون

(7/632)


ذكراً في هذه المسألة: أن صاحب الخف إذا أراد أن يعطيه أجر مثل عمله في حزر الخف والنعل والبطانة، ثم قيمة النعل والبطانة من ايلا فله ذلك كما في تلك المسألة وذلك لأن للصباغ في الخف في المسألتين سيان، عين مال وعمل، فإن شاء صاحب الخف أعطاه أجر مثل عمله في الخف، وقيمة العين من ابلا غير محزر. وإن شاء أعطاه مع أجر مثل عمله في الخف ما زاد العمل فيه في الموضعين جميعاً. ومنهم من فرق، وقال في مسألتنا: أمكن إيجاب قيمة ما زاد النعل والبطانة فيه، لأن النعل والبطانة أوجب زيادة في الخف وفي تلك المسألة لم يكن إيجاب قيمة ما زاد النعل فيه؛ لأن نعل الخف بما لا ينعل به الخفاف يوجب فساداً في الخف، ولا يوجب زيادة في الخف وإذا تعذر إيجاب ما

زاد العمل فيه، أوجب قيمة النعل من ابلا غير محزر، قياس هذه المسألة من تلك المسألة: أن لو شرط عليه نعلاً جيداً، فحرز بنعل غير جيد، ولكن ينعل بمثله الخفاف، وهناك صاحب الخف إذا اختار الأخذ يعطيه أجر مثل عمله، وقيمة ما زاد فيه لا يجاوز به ما سمي، كما في هذه المسألة ثم قال محمّد في المسألتين جميعاً: لا يجاوز به ما سمّي. فمن مشايخنا من قال: أراد بقوله: لا يجاوز به ما سمى فيما يخص العمل، فأما ما يخص العمل فإنه يجب بالغاً ما بلغ وذلّك؛ لأن ما يخص العمل إجارة، وفي الإجارة متى وجب قيمة العين، فإنه يجب بالغاً ما بلغ. كما في الشراء الفاسد. ومنهم من قال: بأنه لا يجاوز به ما سمي في حق النعل والعمل جميعاً وإنما كان كذلك وذلك لأن ما يخص النعل إن كان بدل عين من حيث الصورة والحقيقة، فهو بدل منفعة حكماً؛ لأن العين إنما تملك تبعاً للإجارة، والمملوك بالإجارة منفعة فكذا ما ملك تبعاً للإجارة، ولهذا لم يثبت فيه خيار الرؤية، وجاز وإن لم يكن عنده تبعاً للإجارة، وفرق محمد بين هذه المسألة وبين مسألة الصبغ، فإنه قال: إذا دفع الثوب إلى صباغ ليصبغه بعصفر من عنده، فصبغه بما سمي إلا أنه خالف في صفة ما أمر به بأن اتسع، أو قصر في الإشباع حتى تعيب الثوب، قال: صاحب الثوب بالخيار إن شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته أبيض، ولو شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثل عمله لا يجاوز به ما سمي، ولم يقل يعطيه قيمة ما زاد الصبغ، كما قال في مسألة الخف يعطيه قيمة ما زاد النعل فيه، والعمل في الموضعين حصل بحكم العقد، والصانع في الموضعين جميعاً موافق من وجه مخالف من وجه في أصل العمل موافق، وفي وصفه مخالف.
ثم قال: في الصبغ يعطيه أجر مثل عمله، ولم يوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، وفي النعل أوجب قيمة ما زاد النعل فيه مع أجر مثل عمله، ووجه الفرق بينهما: أنا متى أوجبنا في مسألة الصبغ قيمة ما زاد الصبغ فيه لسوينا، فيه بين حالة الغصب وبين حالة العقد؛ لأن الواجب بحكم الغصب * وهو مخالف من كل وجه في الصبغ * قيمة ما زاد الصبغ فيه فلو أوجبنا ههنا قيمة ما زاد الصبغ فيه أيضاً، والصبغ في مسألتنا حصل بحكم العقد من وجه لسوينا بين حالة الغصب، وبين حالة العقد، وألغينا اعتبار العقد وعمل الصانع أسند إلى عقد قائم بينهما؛ لأنّ. (60أ4) الصانع لم يخالف من كل وجه، وإنما خالف من

(7/633)


وجه في اللون، فأما في أصل الصبغ موافق، فيكون مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، فيجب أن لا يحكم عليه بالخلاف العام، ولا يحصل كأنه صبغ بغير عقد، فأوجب أجر المثل في مسألة الصبغ حتى لا يلغو اعتبار العقد والتسمية، فيكون في إيجاب أجر مثل عمله قيمة العمل، وقيمة الصبغ؛ لأن أجر مثل عمله أن ينظر أنه بكم يستأجر لهذا والصبغ من عنده بخلاف مسألة النعل، لأنا وإن أوجبنا قيمة ما زاد النعل فيه، ولم يوجب أجر مثل عمله في حرز النعل لا يقع التسوية بين حالة الغصب وحالة، العقد حتى يلغو اعتبار العقد؛ لأن الواجب حالة الغصب في مسألة النعل قيمة النعل مزايلاً لا قيمة ما زاد النعل فيه كمن غصب ساحة وأدخلها في بناية، يضمن قيمة ساحته مزايلاً لا قيمة ما زاد الساحة في بنائة، فكذلك ههنا.q
فإن قيل: إن كان إيجاب أجر المثل في مسألة الصبغ لتقع التفرقة بين حالة العقد، وحالة الغصب حتى لا يلغو اعتبار العقد، ولا يصير الصباغ كالعامل بغير عقد وأجر أصلاً، كان يجب أن يوجب أجر عمله في الصبغ من غير أن يكون الصبغ من عنده، وقيمة الصبغ مزايلاً كما اعتبره في مسألة النعل: إذا أنعله بما لا ينعل به الخفاف، فالمفارقة تقع بهذا الطريق بين حالة الغصب، وحالة العقد.

والجواب عنه: أن المفارقة بين الغصب والعقد تقع بهذا الطريق، إلا أنه غير ممكن اعتبار هذا الوجه في مسألة الصبغ لأنا لو أوجبنا قيمة العمل على حدة، وقيمة الصبغ مزايلاً احتجنا إلى تقويم الصبغ مزايلاً حال ما يتصل بالثوب، ولا يمكن تقويمه في ذلك الوقت، لأنه مخلوط بالماء حال ما يتصل بالثوب، فلا يمكن تقويمه؛ لأن قيمة الصبغ تتفاوت بتفاوت الماء ولا يعرف قدر الماء، فقد تعذر اعتبار هذا الوجه للتفرقة بين حالة العقد، وبين حالة الغصب، فلم يبق للتفرقة وجه إيجاب أجر المثل في مسألة الصبغ، بخلاف مسألة النعل؛ لأن تقويمه مزايلاً ممكن حال ما يتصل بالخف، فمتى أوجبنا أجر عمله على حدة أمكننا إيجاب قيمة النعل مزايلاً فبالوجهين جميعاً تقع التفرقة بين حالة الغصب والعقد في مسألة النعل، فذكر الوجهين جميعاً ثمة، ولم يذكر في الصبغ إلا وجهاً واحداً، وهو إيجاب أجر المثل؛ لأن التفرقة بين حالة الغصب وحالة العقد لا تقع إلا به.

ثم أوجب محمد رحمه الله أجر مثل عمله متى اختار أخذ الخف، ولم يوجب المسمى، وهذا على قول من يقول بإيجاب المسمى في مثل هذه المسائل متى رضي بالعيب واختار أخذ الخف محمول على ما إذا اختار أخذ الخف ولم يرض بالعيب. وفي مثل هذه الحالة يجب أجر المثل على قول هذا القائل، وعلى قول من قال بإيجاب أجر المثل على كل حال متى خالف لا يحتاج إلى هذا التأويل.
ولو أن رجلاً دفع خفه إلى رجل لينعله من عنده بأجر مسمى فأنعله بنعل تنعل بمثله الخفاف، فهو جائز عليه، وإن لم يكن جيداً ولا خيار له؛ لأنه وافق شرطه من حيث العرف، ولو وافق شرطه من حيث الشرط، بأن سماه نعلاً موصوفاً، فأتى بذلك لم يكن له خيار، فكذا إذا وافق شرطه من حيث العرف فقد وافق شرطه عرفاً لما نعله بنعل تنعل

(7/634)


به الخفاف في العرف والعادة، وإن شرط الجودة وأتى بما يطلق عليه اسم الجيد أجبر على القبول، ولا خيار له؛ لأن مطلق اسم الجيد ينصرف إلى ما ينطلق عليه اسم الجيد، لا إلى المتناهي في الجودة الذي لا يعدل في العرف والعادة، كما في السلم.
وإن لم يكن جيد يجبر لأنه خالف شروطه من حيث الشرط، ولو خالف مشروطه من حيث العرف يجبر على ما بينا، فإذا خالف مشروطه من حيث الشرط أولى أن يجبر.
قال: ولو اختلفا في قدر الأجر، بأن قال الإسكاف: شرط لي درهماً، وقال رب الخفّ: شرطت لك دانقين، وقد حرره على وصفه له، ولم يختلفا في ذلك وأقاما جميعاً البينة فالبينة بينة العامل؛ لأنه يثبت ببينته زيادة أجر، فكان أولى بالقبول. كما في البائع والمشتري إذا أقاما جميعاً البينة. ولم يذكر الجواب فيما إذا لم تقم لهما بينة. ويجب أن يحكم في ذلك قيمة النعل بخفه موجب معلوم مزايلاً، ويجعل القول قول من شهد له قيمة النعل كما في الصبغ؛ لأن لاتصال النعل بخفه موجب معلوم، لو جعل بغير عقد وهو قيمته مزايلاً لا يقع البراءة عنه إلا بالتسمية، فيجعل ذلك موجب العقد حالة الاختلاف في التسمية، كما في مسألة الصبغ. وكما في النكاح على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا اختلفا في مقدار المسمى، فإن كانت قيمة النعل درهماً كما يدعيه الإسكاف، فالقول قوله مع اليمين لأن قيمة النعل تجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا على أن العقد عقد به إلا أن ربّ الخف ادعى أنه حط عنه أربعة دوانق، وأنكر الإسكاف فيكون القول قول الإسكاف مع يمينه.

ولو كانت قيمة النعل يشهد لصاحب الخف بأن كان دانقين، كما يدعيه صاحب الخف جعل القول قوله مع يمينه؛ لأن قيمة النعل يجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا أن العقد عقد به، إلا أن الإسكاف ادعى أنه زاد أربعة دوانق، ولما حلف صاحب الخف لم تثبت الزيادة، فيقضى له بدانقين ولا يتحالفان. وإن كان المبيع قائماً عندهم جميعاً لأنهما لم يختلفا في موجب العقد، إنما اختلفا فيما يغير موجب العقد، إما إلى زيادة أو إلى نقصان. والاختلاف متى وقع فيما يغير موجب العقد بعدما ثبت الموجب، فإنه لا يجب التحالف إذا لم توجد الدعوى، والإنكار من الجانبين. كما في بيع العين إذا تصادقا أن الثمن كان ألفاً، إلا أن البائع ادعى زيادة خمس مئة على الألف، وأنكر المشتري، أو ادعى المشتري براءة خمس مئة. وأنكر البائع لا يجب التحالف عندهم جميعاً، فكذلك هذا.

وإن كانت قيمة النعل لا تشهد لأحدهما بأن كان نصف درهم، فإنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، كما ذكر في فصل الصبغ في بعض روايات هذا الكتاب. وذلك لما ذكرنا أن قيمة النعل تجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا أن العقد عقد به إلا أنهما اختلفا فيما يغير موجب العقد.
ادعى الإسكاف أن رب الخف زاده على هذا الموجب نصف درهم، وانكر رب الخف وادعى صاحب الخف براءة دانق، وأنكر الإسكاف ذلك، فجعل كل واحد مدعياً

(7/635)


ومدعى عليه، فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، بخلاف ما إذا كانت قيمة النعل تشهد لأحدهما؛ لأنّ من يشهد له قيمة النعل لا يدعي نغيراً إنما يدعي الذي لا يشّهد له موجب العقد، إما إبراء أو زيادة، وإذا لم تتحقق الدعوى والإنكار من الجانبين لم يجب التحالف، هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر، فأما إذا اختلفا في أصل الأجر، قال صاحب الخف: عملته لي بغير أجر. وقال الإسكاف: لا بل عملت لك بأجر ذكر أنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، أما صاحب الخف فلأنه مدعي على الإسكاف هبة العمل والنعل والإسكاف أنكر ذلك. والإسكاف يدعي بيع العمل والنعل وصاحب الخف أنكر ذلك فكل واحد منهما ادعى عقداً أنكره صاحبه، فيجب التحالف. وإن كان الفسخ متعذراً كما في بيع العين إذا اختلفا في نوع العقد لا في مقداره، ادعى أحدهما الهبة والآخر البيع والمال هالك، يجب التحالف لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فكذلك هذا فإن حلفا ولم يثبت واحد من الأمرين، ذكر أن صاحب الخف يغرم قيمة ما زاد النعل فيه، وكان يجب أن يضمن قيمة نعله مزايلاً؛ لأنهما لما تحالفا لم يثبت واحد من الأمرين، فيبقى عاملاً بغير عقد، وإلا يقال: متى حصل بغير عقد واختار المالك أخذ الخف فإنه يضمن قيمة النعل مزايلاً إلا أن الجواب أن الأمر كما قلت لم يثبت واحد من الأمرين إلا أن الإذن لم ينتف، لأنهما مع اختلافهما في كيفية العقد أنه كان هبة أو بيعاً انتفاء على الإذن. وإذا كان الإنعال (60ب4) حاصلاً بإذن يعذر القول بأنه يعطيه قيمة النعل مزايلاً؛ لأن هذا حكم الغاصب، وهذا كان مأذوناً في العمل، ولم يكن غاصباً، فأوجب قيمة ما زاد النعل فيه، وهو من حيث الحكم قيمته مزايلاً، ولا يكون شيء منه بدل العمل ألا

ترى في مسألة الصبغ أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه إذا كان غاصباً، وأنه قيمة الصبغ لا غير؛ لأنه لا قيمة للعمل بغير عقد ولكن لما تعذر إيجاب قيمة الصبغ مزايلاً حال ما يتصل بالثوب، أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، وجعله قيمة الصبغ لا قيمة العمل، فكذلك ههنا أوجب قيمة ما زاد النعل فيه، وهو قيمة النعل لا قيمة العمل ضرورة أن لا يصير المأذون في العمل غاصباً، ولم يخير صاحب الخف ههنا مثل ما كان يخير فيما مضى لأن فيما مضى كان العامل مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، وكان له أن يميل إلى الخلاف وإلى الوفاق، وههنا موافق من كل وجه، إلا أن الخلاف وقع أنه بأجر أو بغير أجر، وإذا لم يكن مخالفاً لم يخير، ولكن قال: يأخذ الخف ويعطيه قيمة النعل، وكان الجواب فيه كالجواب في الثوب، إذا هبت به الريح وألقته في صبغ إنسان، والصبغ لا يكون لصاحب الثوب تضمين الثوب، بل يأخذ الثوب ويعطيه قيمة ما زاد الصبغ فيه، فكذلك هذا.

قال: ولو عمل الخف كله من عند حتى كان استصناعاً، ثم اختلفا قبل القبض في مقدار الأجر كان القول قول الإسكاف، وكان يجب أن يتحالفا؛ لأن الاستصناع يصير بيعاً في الانتهاء وفي بيع العين إذا اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض يتحالفان قياساً، إلا أنه قال: لا يتحالفا، ن ويكون القول قول الإسكاف؛ لأن يمينه يفيد، لأن المستصبغ يدعي

(7/636)


على الإسكاف ما لو أقر الإسكاف به لزمه، فإذا أنكر يستحلف فأما يمين المستصبغ لا يفيد؛ لأنه لو نكل لا يلزمه شيء، كما لو أقر به.
قال: وإذا اختلف الصباغ ورب الثوب فقال رب الثوب: أمرتك بأن تصبغه بعصفر، وقال الصّباغ: أمرتني بأن أصبغه بزعفران. قال: القول قول رب الثوب مع يمينه. وهذا قول علمائنا. وقال ابن أبي ليلى: القول قول الصباغ مع يمينه. والخلاف في هذه المسألة، نظير الخلاف فيما إذا قال: أكلت مالك بإذنك، أو هدمت دارك بأذنك، وأنكر صاحب المال الإذن، فعلى قول علمائنا رحمهم الله: القول قول صاحب المال مع يمينه، ويضمن المقر. وعلى قول ابن أبي ليلى القول قول المقر مع اليمين، ولا ضمان عليه. وذهب في ذلك أن المقر ينكر سبب الضمان، وصاحب المال يدعي عليه، فيكون القول قول المنكر. كما لو أنكر الأكل أصلاً، وإنما قلنا: إنه ينكر سبب الضمان؛ لأنه أقر بأكل موصوف بالإذن، وصبغ وخياطة موصوف بالإذن وهذا غير موجب للضمان، فكان منكراً للضمان من الأصل، كما لو قال: أقررت لك بألف درهم وأنا صبي أو مجنون، وقال المقر له: لا بل أقررت، وأنت بالع أو صفيق. وعلماؤنا: ذهبوا إلى أنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وادعى ما يبرئه وأنكر صاحب المال البراءة، فيكون القول قوله كما لو أقر بالدين وادعى القضاء والإبراء وأنكر صاحب الدين، وإنما قلنا: أقر بالسبب الموجب للضمان، وذلك لأنه أقر بالأكل وبالصبغ في ثوب الغير، وهذا سبب الضمان في الصبغ متى اختار المالك ترك الثوب على الصباغ، وادعى الإذن إلا أن الإذن لم يثبت بمجرد دعواه، لما أنكر صاحب المال؛ لأنه دعوي عليه وإذا لم يثبت الإذن بقي مقراً بأكل مطلق بغير إذن، وإنه سبب ضمان. بخلاف ما لو أضاف الإقرار إلى حال الصبي؛ لأن الخلاف ثمة وقع أن السّبب قد وجد، أو لم يوجد، المقر يقول: لم يوجد لأن إقرار الصبي والمجنون لا يكون إقراراً، فكان المقر منكرا الإقرار من حيث المعنى، والمقر له مدعياً، فكان بمنزلة ما لو أدعى أنه أقرّ له والمدعى عليه قال: لم أقرّ لك وكان كما لو قالت المرأة: تزوجتني وأنا صبية، وقال: لا بل تزوجتك وأنت

بالغة كان القول قول المرأة؛ لأنها أنكرت النكاح معنى، وأما ههنا سبب الضمان قد تحقق، وهو الأكل والصبغ والقطع والخياطة، وإنه سبب ضمان إلا أنه ادعى البراءة بدعوى الإذن وأنكر صاحبه، فيكون القول قول صاحب المال، ووجه آخر للفرق وهو أن إضافة الإقرار إلى حالة الصبي ليس بدعوى على المقر له، ولكن حكاية عن فعله فيثبت فعله بقوله، أما ههنا يدعي إذن صاحب المال، وإنه فعل يوجد من صاحب المال، فيكون دعوى عليه، فلا يثبت إذا أنكر.

قال: وإذا استصنع الرجل خفين عند إسكاف، فعمله ثم فرغ منه، قال المستصنع: ليس هذا على المقدار والخرر والتقطيع الذي أمرتك، وقال الإسكاف: بل هذا أمرتني وأراد الإسكاف أن يحلف صاحب المال ليس له ذلك، بخلاف الصباغ إذا ادعى أن ما صبغ كان بأمره، وأراد صاحب الثوب كان له ذلك، وذلك لأن الصباغ يدعي على

(7/637)


صاحب الثوب، معنى لو أقر به لزمه، ولم يكن خيار، فإذا أنكر يستحلف على ذلك لأن الاستحلاف بعيد فأما ههنا الصابغ يدعي على المستصبغ معنى لو أقر به لا يلزمه، فإن المستصنع لو أقر بالموافقة، أو ثبت ما ادعى بالبينة كان لا يلزمه، وكان له خيار، ومن ادعى على آخر معنى لو أقر به لا يلزمه، فإذا أنكر لا يستحلف على ذلك؛ لأن الاستحلاف لا يفيد وستأتي بعض مسائل الاستصناع في المتفرقات إن شاء الله تعالى.

الفصل الرابع والثلاثون: في المتفرقات
ذكر في «النوازل» : إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار سنة بألف درهم، كل شهر بمئة. تقع الإجارة على ألف ومائتي درهم، ويصير القول الثاني فسخاً للأول، كما لو باع بألف، ثم باع بأكثر.
قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا قصد أن تكون الإجارة كل شهر بمئة. أما إذا غلطا في التفسير، لا يلزمه الألف درهم؛ لأنه لم يقصدا فسخ العقد الأول، فإن ادعى الآجر أنه كان قصدهما فسخ الأول، وادعى المستأجر الغلط في التفسير فالقول قول مدعي الفسخ مع يمينه، كما لو تواضعا على بيع تلجئة ثم باشر البيع مطلقاً من غير شرط، يثبت البيع بينهما مطلقاً، إلا أن يتفقا على أنهما باشرا على ما تواضعا عليه، كذا ههنا.
وفيه أيضاً: إذا قال لآخر: أجرتك داري هذه يوماً واحداً بكذا وسنة مجاناً، أو قال: أجرتك داري هذه سنة يوماً بكذا. وباقي السنة مجاناً، أو قال: أجرتك داري هذه سنة يوماً بكذا، وباقي السنة مجاناً، فسكنها سنة كان عليه أجر مثله في يوم واحد، ولا شيء له في الباقي؛ لأنه بقي الإجارة في الباقي، وإنما وجب أجر المثل في يوم واحد؛ لأن الإجارة في يوم واحد وقعت بصفة الفساد؛ لجهالة اليوم، وإذا دفع الرجل إلى قصار ثوباً ليقصره فقصره وتصادقا أن الدفع حصل مطلقاً، وأنهما لا يشترطا شيئاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» .
وذكر في «النوازل» : أن على قول أبي حنيفة القصار متبرع، ولا أجر له وعلى قول محمد: إن اتخذ دكاناً وانتصب لعمل القصارة بالأجر، يجب الأجر وما لا فلا. وعلى قول أبي يوسف هو متبرع، إلا أن يكون خليط، وهو أن يكون يدفع إليه ثيابه للقصارة بالأجر عادة. وفي باب الخلع من شرح «الكافي» إذا قال للحمال: احمل هذا إلى بيتي، وقال للخياط: خط إن كان الخياط معروفاً أنه يخيط بأجر، والحمال كذلك يجب الأجر وما لا فلا.

وفي إجارات المنتقى: مثل محمد رحمه الله: عن رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره، فقصره وقال: قصرت بغير أجر وضاع، قال: أما في قولي إذا كان قصاراً قد نصب نفسه للقصارة، لم أصدقه وأضمنه كما لا أصدق رب الثوب في هذه الصورة إذا

(7/638)


قال: قصرت لي مجاناً. وقال القصّار: قصرت بغير أجر. وفي نكاح «النوازل» : إذا دفع إلى قصار ثوباً ليقصره ولم يذكر الأجر يحمل على الأجرة لمكان العرف.
وفي باب. (61أ4) الأجر من صرف «الكافي» : إذا دفع الرجل إلى رجل ذهباً أو فضة، وأمره أن يصوغه كذلك، ثم اختلفا فقال الدافع: عملته لي بغير أجر، وقال العامل: عملته بأجر ذكر في الرواية: أن القول قول الدافع لإنكاره وجوب الأجر في ذمته. وفي «الشرح» عن أبي يوسف: أن هذا الرجل إن كان أعلم على باب دكانه بعلامة، أو نحو ذلك بحيث يعلم أنه لا يعمل إلا بأجر، فالقول قول العامل. وإن لم يكن كذلك، فالقول قول الدافع.

وعن محمد أنه إذا كان بين هذا الرجل، وبين العامل خلطة، وإعطاء بحيث اعتادا أنهما لا يفندان كل مرة، ولا يشترطان شرطاً فالقول قول العامل. وإن لم يكن بينهما خلطة على نحو ما ذكرنا، فالقول قول الدافع. قال: وكذلك لو اختلفا في مقدار الأجر، فالقول قول الدافع؛ لإنكاره الزيادة على ما أمر به.
وفي هذا الباب أيضاً: إذا استقرض من آخر كر حنطة. وقال: اطحنها لي بدرهم، فطحنها، وكان ذلك قبل أن يقبضها المستقرض، فذلك باطل. ولا أجر للمقرض؛ لأنه لما لم يقبضها المستقرض لم يصر ملكاً له، فصار المقرض عاملاً لنفسه بطحن حنطة نفسه، فكيف يستحق الأجر على غيره.
وإذا باع الدلال صبغة رجل بأمره، فقال صاحب الصبغة: بعتها بغير أجر. وقال الدلال: لا بل بعت بأجر، فإن كان هذا الدلال معروفاً بأنه يبيع أموال الناس بأجر لا يصدق الآمر على دعواه، ويجب أجر المثل.

وفي «النوازل» : استقرض من آخر دراهم، وسلم إلى المقرض حماره ليمسكه، ويستعمله إلى شهرين حتى يوفر عليه الدراهم، فالحمار عند المقرض بمنزلة المستأجر إجارة فاسدة، فإن استعمله فعليه أجر مثله. وكذلك إذا سلم إلى المقرض داره ليسكنها فهذه إجارة فاسدة. ولا يكون رهناً.
وفيه أيضاً: لو استقرض دراهم من رجل، وقال: اسكن حانوتي هذا، فما لم أرد عليك درهمك، فلا أطالبك بأجرة الدار، والأجرة التي تجب عليك هبة لك، فدفع المقرض الدراهم، وسكن الحانوت مدة، قال: إن كان ذكر ترك الأجرة عليه مع استقراضه منه المال، فالأجرة واجبة على المقرض يريد به أجر المثل، وإن كان ذكر ترك الأجرة قبل استقراض أو بعده فلا أجر على المقرض، والحانوت عنده عارية؛ لأن في الوجه الأول قصد التوسل بمنافع الدار إلى القرض، فما رضي باستيفائها مجاناً، والمستقرض وافقه على ذلك. حيث أقرضه على تلك المواضعة، فكان إجارة فاسدة.
فأما في الوجه الثاني: لم يطمع في مقابله منافع الدار شيئاً فكانت الدار عارية.

قيل الصحيح: إنه يجب أجر المثل في الوجهين؛ لأنا نعلم يقيناً أن عرضه من دفع الدار، وترك الأجرة والتوسل إلى القرض، فما رضي باستيفاء منافع الدار مجاناً في

(7/639)


الحالين جميعاً، فوجب أجر المثل في الحالين جميعاً من هذا الوجه. وفي «نوادر ابن سماعة» ، عن أبي يوسف: رجل استأجر من آخر أرضاً، على أنها عشرة أجربه بعشرة دراهم، فزرعها، ثم وجدها خمسة عشر جريباً، أو وجدها تسعة أجربة، قال: فله الأجر الذي سمي. ولو قال: كل جريب بدرهم. حسب عليه كل جريب بدرهم. ذكر الحاكم استأجر عبداً للخدمة مدة معلومة، وعجل الأجرة، ثم مات المؤاجر كان للمستأجر أن يمسك العبد حتى يرد الأجر عليه، وإن مات العبد في يده لم يكن عليه فيه ضمان. ويرجع بالأجر، فيأخذه قوله حتى يرد الأجر عليه أي حصة ما بقي من المدة، وإنما كان له حق إمساك العبد إلى أن يستوفي الأجر بحصة ما بقي من المدة إظهاراً للعدل والإنصاف فإن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، ويتعين حق ورثة الأجر في العبد فيجب تعيين حق المستأجر في حصة ما بقي من المدّة من الأجر، وذلك بالاستيفاء.

ابن سماعة عن محمد رحمهما الله رجل اكترى من رجل داراً بعبد سنة، فسكن الدار، ثم ناقصه الإجارة في العقد، فإنه يرد العبد ويعطيه أجر مثل الدار، وإنما كان كذلك؛ لأن جعل العبد أجرة صحيح، كجعله ثمناً، فصارت الأجرة عوضاً وصارت هذه الإجارة في معنى بيع العوض بالعوض. وأحذ العوضين وهو العبد باقي. فيصح النقص والإقالة عليه؛ لأن في بيع العوض بالعوض بعد هلاك العوضين تصح الإقالة، والنقص على العرض القائم. وإذا صحت الإقالة على العبد عاد العبد إلى ملك المستأجر، فوجب على الآجر رد العبد على المستأجر، ووجب على المستأجر رد المنافع على الآجر، وتعذر ردها صورة فيجب ردها معنى برد أجر المثل.

وفي «الأصل» إذا أستأجر عشراً من الإبل إلى مكة بعبد بعينه، أو بغير عينه، فإن كان العبد بعينه فالإجارة جائزة، وإن كان العبد بغير عينه، فالإجارة فاسدة، ثم إذا كان العبد بعينه حتى جازت الإجارة، فهلك العبد قبل التسليم بعدما استوفى المعقود عليه كان على المستأجر أجر مثل الإبل لما عرف أن العقد يفسد بهلاك أحد البدلين قبل القبض، إذا كانا عينيين، فإذا فسد العقد كان عليه رد ما استوفى بعينه من المنافع، وقد عجز عن ردها بعينها، فكان عليه رد قيمتها وقيمة المنافع أجر المثل، وإذا كان العبد بغير عينه حتى فسدت الإجارة كان على المستأجر أجر المثل مات العبد، أو لم يمت.
رجل تكارى منزلاً كل شهر بدراهم معلومة، وطلق الرجل المستكري المرأة، وخرج من المصر، وذهب هل لصاحب المنزل سبيل على المرأة قالا: لا، لأن المرأة ليست بعاقدة، وليست بكفيلة عن العاقد بالأجر، والأجر إنما يجب بأحد هذين، وليس لصاحب الدار أن يخرج المرأة من الدار حتى الهلال؛ لأن الإجارة لازمة قبل مجيء الهلال ألا ترى لو كان المستأجر حاضراً لم يكن له أن يفسخ الإجارة قبل مجيء الهلال، فإذا كان غائباً أولى.
فإن جاء الهلال والزوج غائب هل لصاحب الدار أن يفسخ الإجارة ويخرج المرأة من الدار يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة ومحمد ليس له

(7/640)


ذلك. وعلى قول أبي يوسف: له ذلك.
إذا تكارى منزلاً كل شهر بدرهم على أن ينزله، ولا ينزل غيره، فتزوج امرأة أو امرأتين، فله أن ينزلهما وليس لصاحب الدار أن يأبى؛ لأن هذا شرط مانع لا منفعة فيه لصاحب الدار؛ لأن سكنى غيره لا يصير بالدار حتى يكون في ترك سكنى غير المستأجر منفعة للمستأجر، فقد حكم بجواز هذا العقد مع هذا الشرط، وإن كان هذا شرطاً لا يقتضيه العقد إلا أنه ليس لأحد المتعاقدين فيه منفعة، ومثل هذا الشرط لا يفسد العقد كما لو اشترى ثوباً بشرط أن لا يلبس، أو اشترى دابة بشرط أن لا يركبها وهذه المسألة مأولة تأويله أن لا يكون للمنزل بئر بالوعة ولا بئر وضوء وقد ذكرنا هذا التأويل في المسائل المتقدمة.

وفي «الأصل» : إذا أستأجر الرجل من آخر داراً، ودفعها إليه رب الدار إلا بيتاً منها، كان فيه متاع له وسكنها المستأجر قال: يرفع عنه بحصة ذلك وهذا مشكل؛ لأن الغائب صفة؛ لأن البيت صفة للدار.
ولهذا قالوا: لو أستأجر داراً على أن فيها ثلاثة بيوت، فإذا فيها بيتان، فإنه يتخير، ولا يسقط شيء من الأجر كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز، والجواب: أن الفائت إن كان صفة، إلا أن الفوات بفعل البائع، والوصف له حصة من البدل، إذا فات بفعل البائع. كما في بيع العين بخلاف ما لو انهدم بيت منها، أو حائط وسكن المستأجر في الباقي، حيث لا يسقط شيء من الأجر؛ لأن الوصف هناك فات بآفة سماوية، والوصف متى فات بآفة سماوية لا يوجب سقوط شيء من البدل. وما ذكرنا من الجواب: فيما إذا أستأجر داراً على أن فيها ثلاث بيوت، فإذا فيها بيتان أنه يتخير، ولا يسقط شيء من الأجر، فذلك فيما إذا لم يقل كل بيت بكذا، فأما إذا قال: كل بيت بكذا، يرفع عنه بحساب ذلك، على قياس مسألة الجريب التي تقدم ذكرها في هذا الفصل.

قال: وإذا أستأجر الرجل داراً شهوراً مسماة بأجر معلوم، ثم أراد رب الدار أن يشتري من المستأجر بالأجر شيئاً قبل القبض جاز؛ لأن الأجر دين لم يجب بعقد صرف، ولا سلم، فيجوز الاستبدال به. قيل: كما في سائر الديون. وقد مرت المسألة من قبل. وكذلك الثاني يستأجر البيت ليبيع فيه كل شهر بأجر معلوم، فكان رب البيت يأخذ منه الدقيق. (61ب4)
والسويق يشرى، ذلك شيء يعني بالأجر، قبل استيفاء المنفعة، كان جائزاً، لما ذكرنا في أول الكتاب أن الشراء بالأجر جائز قبل الوجوب وبعد الوجوب، ولو أن رب البيت أراد أن يتعجل الأجر كله قبل الهلال فأبى المستأجر أن يعطيه، فإنه يجبر المستأجر على أن يعطيه بقدر ما سكن لأنه بقدر ما سكن وجب الأجر فيجر على اتفاقه، فأما حصة ما لم يسكن لا يجبر على إلغائه، لأن أجرة ما لم يسكن غير واجب عليه بعد، فلا يجر على اتفاقه.
قال ولو أن رجلاً استقرض من رب البيت أجر هذين الشهرين ما من رب البيت الثاني أن يعطيه ذلك، فكان الرجل يشتري به الثاني السويق والدقيق والزيت والسمن حتى

(7/641)


استوفى أجر الشهرين فهو جائز، وذلك لأن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو اشترى من الثاني شيئاً بالأجر يصح الشراء، ويري الثاني من الأجر لوقوع المقاصة بين الأجر والثمن فكذا إذا اشتراه المستقرض.
وإنما قلنا أن المستقرض قام مقام المقرض، لأن المقرض أقرضه الأجر منه وسلطه على قبضه يصح ذلك وصار الموهوب له وكيلاً عن رب البيت في القبض أولاً ثم قابضاً لنفسه بحكم الهبة، لأن الهبة لا تصح إلا بملك الواهب، ولا يصير ما وهب ملكاً للواهب إلا بالقبض فكذا ههنا لا يصح القرض إلا بملك المقرض وما أقرض لا يصير ملكاً له، إلا بالقبض فصار ثابتاً عنه في القبض أولاً ثم قابضاً لنفسه بحكم القرض، وإذا كان كذلك صح أن المستقرض قام مقام المقرض وليس للثاني على المستقرض شيء، لما ذكرنا أن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو اشترى بالأجر شيئاً لم يكن للثاني على المقرض شيء؛ لوقوع المقاصة بين الأجر والثمن، فكذلك هذا، ولرب البيت على المستقرض أجر هذين الشهرين، لأن رب البيت ما ملكه الأجر هبة، وإنما ملكه قرضاً، والقرض مضمون بالمثل، فكان لرب البيت عليه أجر هذين الشهرين.

قال: ولو اشترى المستقرض من الثاني بالأجر ديناراً فإنه يجوز إذا اشترى الدينار بعد وجوب الأجر، بأن مضت المدة أو شرط التعجيل عندهم جميعاً، وإن لم يكن وجب الأجر بأن كان قبل مضي المدة واشتراط التعجيل، فعلى قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله يجوز، وعلى قول أبي يوسف الآخر لا يجوز، لأن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو صادف مع الثاني كان الجواب على هذا التفصيل فكذلك هذا.

قال: ولو كان للثاني على الرجل المستقرض دينار أو أجر البيت عشرة دراهم كل شهر، فمضى شهر ثم أمر رب البيت الثاني أن يدفع أجر هذين الشهرين إلى هذا الرجل قرضاً عليه، ورضى الرجل بذلك فهو جائز، لأنه ملكه الدين الذي له على الثاني، وسلطه على قبضه قرضاً، فيصح كما لو وجب منه، وسلطه على قبضه فإن قاصه بالدينار الذي له عليه وأخذ بالفضل حوائجه، قال فهو جائز وهذا الجواب لا يشكل فيما اشترى من الحوائج لأنه اشترى الحوائج بالأجر بما وجب من الأجر وبما لم يجب فيجوز كما يجوز من رب البيت، وإنما يشكل فيما إذا قاصه بالدينار ذكر أنه جائز إذا رضى بذلك الثاني، وإن كان الجنس مختلفاً، فإن أحدهما دينار والآخر دراهم، لأن المقاصة في الجنس المختلف، إنما لا يجوز إذا لم يوجد التراضي على المقاصة، فأما إذا وجد يجوز إلا أنه يكون صرفاً، ثم يجوز هذا الصرف عندهم بحصة ما وجب من أجر شهر عندهم جميعاً، لأن المستقرض قائم مقام المقرض، والمصارفة من المقرض بأجر واجب جائز عندهم، فكذا من المستقرض، فأما بحصة ما لم يجب من الأجر وهو الشهر الثاني يجب أن يكون المسألة على الخلاف، يجوز عند محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ولا يجوز في قول أبي يوسف الآخر كما لو باشر المقرض الصرف بأجر لم يجب بعد، وهو الشهر الثاني. ثم قال: وليس هذا بصرف فيما بين رب البيت والمستقرض ولكنه صرف فيما بين

(7/642)


المستقرض والثاني، وذلك لأن رب البيت ما عقد عقد الصرف مع المستقرض، إنما أقرضه الآخر الذي له على الثاني، وعقد المصارف إنما جرت بين المستقرض والثاني، ثم قال وهذا كله قول أبي يوسف وهو قول محمد، فأما على قوله الآخر فإنه لا يجوز، وقد ذكرنا هذا في أول الكتاب.

قال: ولو كان رب البيت أقرضه الدراهم على أن يرد عليه ديناراً بعشرة دراهم فإنه لا يجوز لأن بجوازه قرضاً غير ممكن؛ لأن القرض يكون مضموناً لجنسه، فإذا شرط جنساً آخر فقد شرط ما لا يقتضيه القرض فكان قرضاً فاسداً، ولا وجه إلى أن جوزنا مصارفه، لأنهما صرف مشبه، فيكون باطلاً.
قال: فإن أحاله على هذا الوجه بالدراهم الأجر على الثاني، يريد به أنه أحاله على الثاني ليأخذ الأجر منه ليعطيه ديناراً. فقال: فقاصه الثاني بالدينار، الذي له على المستقرض وأخذ بالبعض حوائجه قائماً لرب البيت على المستقرض عشرون درهماً تأويله، إذا وجب أجر هذين الشهرين حتى صار الصرف عندهم جميعاً، وصار المستقرض مستقرضاً عشرين درهماً من الثاني بالمقاصة، فيكون لرب البيت على المستقرض ما اقتضى من الثاني وذلك عشرون درهماً ولا يكون عليه دينار، كما شرط عليه لأن اشتراط الدينار اشتراط باطل لأنه صرف مشبه.

قال: ولو أن هذا الثاني لم يكن وجب عليه أجر هذين الشهرين ولكن رجل استقرض من رب البيت أجر هذين الشهرين، فأمر هذا الثاني أن يعطيه إياه وأن يعجل له، وطابت نفس الثاني بذلك، فأعطى الرجل دقيقاً أو زيتاً أو ديناراً بعشرة، ثم مات رب البيت قبل أن يسكن الثاني شيئاً من هذين الشهرين أو انهدم البيت، فإن الثاني لا يرجع على الرجل بعشرين درهماً فرضاً عليه، وذلك لما ذكرنا أن المستقرض صار وكيلاً عنه بالقبض أولاً، حتى يصح القرض ثم لنفسه فإذا قبض ناب قبضه مناب قبضين، فصار قابضاً له أولاً ثم لنفسه بحكم القرض، وإذا صار قابضاً للأمر صار كأن الأمر قبض بنفسه ثم أقرضه ولو أن صاحب البيت قبض العشرين بيده، ثم أقرضه من المستقرض ثم انفسخت الإجارة لم يكن للثاني أن يرجع على المستقرض بشيء، وإنما يرجع على رب البيت، ثم رب البيت يرجع على المستقرض بحكم القرض فكذلك هذا، ثم يرجع بعشرين درهماً على رب البيت في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد فأما على قول أبي يوسف الآخر ما كانت حصة الحوائج يرجع عليه بالدراهم، لأن الشراء قد صح فصار مقضياً للدراهم، فأما ما يخص الدينار فإنه لا يرجع على رب البيت بالدراهم ولكن يرجع على المستقرض فيأخذ منه الدينار؛ لأنه قبضه بحكم صرف فاسد.
وفي «فتاوى الفضلي» : رجل اكترى حماراً من كسر إلى بخارى فبقى الحمار في الطريق وصاحب الحمار ببخارى فأمر المستكري رجلاً حتى ينفق على الحمار في علفه كل يوم مقداراً معلوماً وقاطعه أجره إلى أن يقبض صاحب الحمار حماره، فأمسكه الأجير أياماً وأنفق عليه في علفه.
إن علم المأمور بالنفقة، أن الحمار لغير الآمر فهو متطوع، فما

(7/643)


أنفق لا يرجع على أحد بشيء إلا أن يكون الآمر ضمن له النفقة.
فإن كان لا يعلم بذلك رجع على الآمر بالنفقة، وإن كان لم يضمن له الآمر النفقة، فإن كان استأجر أجيراً لحفظه فالأجر عليه.

وفي «الفتاوى» : إذا استأجر مشاطة ليزين العروس فالإجارة فاسدة، والأجر مكروه غير طيب لها إلا أن يكون على وجه الهدية من غير شرط ولا يتقاضى، فيكون أهون وفيه نظر.
والصواب أن يقال إذا استأجرها مدة معلومة أو كان العمل معلوماً أنه يجوز الإجارة ويطيب لها الأجر لأن تزيين العروس ليس بمعصية، بل هو مباح فصار كسائر الأعمال المباحة.
وفي «فتاوى الفضلي» : الدلالة في النكاح لا يستوجب الأجر وبه كان يفتي رحمه الله، وغيره من (62آ4) مشايخ زمانه كانوا يفتون بوجوب أجر المثل لهما، لأن معظم الأمر في النكاح يقوم بها، ولها سعي في إصلاح مقدمات النكاح، فيستوجب أجر المثل بمنزلة الدلال في باب البيع، وبه يفتى.
وفيه أيضاً أهل بلدة ثقل عليهم مؤنات العمال فاستأجروا رجلاً بأجرة معلومة ليذهب ويرفع أمرهم إلى السلطان الأعظم، ليخفف عنهم بعض التخفيف، وأخذ الأجرة من عامتهم غنيهم وفقيرهم، ذكر أنه إن كان بحال لو ذهب إلى بلد السلطان يتهيأ له إصلاح الأمر بيوم أو بيومين جازت الإجارة، وإن كان بحال لا يحصل ذلك إلا بمدة وقتوا للإجارة وقتاً معلومة، فالإجارة جائزة، والأجر كله له، وإن لم يوقتوا فالإجارة فاسدة وله أجر مثله والأجر عليهم على قدر مونتهم، وهذا نوع توسيع واستحسان، أما على جواب الكتاب لا تجوز هذه الإجارة إلا مؤقتة، وبه يفتى. وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في باب الرشوة من شرح «أدب القاضي» أن هذه الإجارة لا يجوز إلا مؤقتة، وإن كان مدة الإصلاح يوماً أو يومين.

قال في «الأصل» : رجل تزوج امرأة فنزل عليها وهي في منزل بكر، فمكث عندها سنة فجاء صاحب المنزل يطلب أجر منزله، فقالت المرأة: أجر منزله عليك. فقال الزوج: إنما استكريت بأجرة عليك. وقالت المرأة: قد أخبرتك أنه معي بأجر. وقال الرجل: ما أخبرتني أنها تسكن بأجر، فإنه لا عبرة لإنكار الزوج إنها لم تخبره لأنها وإن أخبرته فلا أجر عليه، وإنما لم يكن على الزوج أجر لأن الزوج ليس بعاقد ولا بضامن عنها الأجر لرب المنزل، فلا يجب عليه الأجر فإن ضمن الأجر عنها لرب البيت، الآن يؤاخذ الزوج بالأجر لأنه كفل عنها بالأجر لرب المنزل، والكفيل يؤاخذ بما كفل به، فإن أدى لا يرجع سواء كفل بإذنها أو بغير إذنها، إن كان بغير إذنها فلا إشكال، كما لو كفل عنها بدين آخر، وإن كان بإذنها فكذلك، وذلك لأن العرف أن الزوج إنما يضمن عنها أجر المسكن على سبيل الصلة، لا ليرجع بذلك عليها لأن الإسكان عليه، والمعروف كالمشروط فكأنه شرط في الكفالة أن يكفل عنها، ولا يرجع بذلك عليها ولو صرح أن لا

(7/644)


يرجع بذلك عليها لا يرجع، فكذلك هذا.

ونظير هذا قال محمد رحمه الله في «كتاب النكاح» : أن الأب إذا ضمن المهر عن الصغير فإنه لا يرجع في مال الصغير استحساناً، لأنه في العرف إنما يبذل ذلك صلة للصغير لا ليرجع في ماله، فكذلك هذا، فإن لم يضمن لرب المنزل ذلك، ولكن أشهد لها بأن قال: أضمن لك الأجر ولم يضمن لرب البيت، فإنه لا يلزمه الأجر؛ لأنه لم يضمن عنها لرب البيت حتى يصير كفيلاً عنها بالأجر، فيؤخذ بذلك إنما ضمن لها ما عليها من الأجر، ومن ضمن للمديون ما عليه، ولم يضمن عنه لصاحب الدين لا يكون كفيلاً.

الكفيل أن يضمن عن المديون ما عليه لصاحب الدين، ولم يوجد هذا فلم يمكن بجواز هذا كفالة، وإذا لم يكن كفالة، فإما أن يعتبر بعد ذلك هبة من الزوج لها أو عدة فإن كان هبة، فهي هبة، لم يقبض فلا يجر على الوفاء بها، وإن كان عدة فلا يجر على إنجاز هذا الوعد.
قال في الأصل: رجلان استأجرا منزلاً من رجل، كل شهر بدرهم، واشترطا فيما بينهما على أن ينزل أحدهما في أقصى الحانوت، والأجر في مقدمه، ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة. قال: الإجارة جائزة، ولكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك، أما الإجارة جائزة لأنها خلت عن شرط يفسدها، فإنه قال: ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة ولكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك؛ لأن هذا مواضعه منهما على المهاياة، ولكل واحد من الشريكين أن ينقض المهاياه وإنما كان لكل واحد منهما نقض المهاياة، وذلك لأن المهايأة قسمة المنفعة فيعتمر بقسمة العين، وفي قسمة العين لكل واحد منهما، أن ينقص القسمة قبل التمام فإنهما إذا أفرزا أو عزلا الأنصب. فقلَّ أن يتعين نصيب كل واحد منهما بالإقراع.
إذا أراد أحدهما نقص القيمة، كان له ذلك، فلان يكون لكل واحد منهما نقص القسمة ولم يتعين حق واحد منهما في المنفعة قبل وجودها، ولم ينفرز نصيب أحدهما من الآخر أولى وأحرى، ثم ذكر في «الكتاب» : أن الإجارة لا تفسد إذا لم يكن اشترطا ذلك في أصل الإجارة، ولم يذكر أنهما إذا شرطا ذلك في الإجارة هل يفسد الإجارة، قال مشايخنا: ولقائل أن يقول بأنه يفسد الإجارة، أما القائل أن يقول بأن الإجارة تفسد لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد؛ لأن هذه المهايأة منها، والمهايأة على هذا الوجه الذي شرطا، وهو أن يسكن أحدهما في المقدم، والآخر في المؤخر مما لا يقتضيه الإجارة ألا ترى أن الآبي منهما لا يجير على ذلك، ولأحدهما في هذا الشرط منفعة، يوجب فساد العقد، وإليه أشار في «الكتاب» ؛ فإنه قال: ولم يشترطا ذلك في الإجارة فمفهوم ما ذكر يقتضي أنه إذا شرط ذلك في العقد أوجب فساده، وأما من قال بأنه لا يفسد ذهب في ذلك إلى أن هذا الشرط متى شرط في العقد، يكون اشتراطاً على المالك، صار كل واحد منهما مستأجراً ما عين من المالك فكان الأجر، قال: أجرت من هذا

(7/645)


مقدم الحانوت، ومن الآخر مؤخره، ولو نص على هذا كان جائزاً.

ومفهوم قول محمد: ولم يشترط ذلك في أصل العقد، أنهما متى شرطا ذلك في العقد لا يكون لكل واحد منهما أن يرجع، لأن كل واحد يصير مستأجراً ما عين من المالك، ومتى لم يكن مشروطاً في العقد يكون مهاياة منهما ولكل واحد منهما أن ينقض المهاياة.

وروى بشر عن أبي يوسف في رجل استأجر رجلاً ليبني له حائطاً أراه موضعه، وسمى طوله في السماء، وطوله على الأرض وعرضه، على أن يبني كل ألف آجرة بكذا، وكذا من الجص بكذا، وكذا من الدراهم، فبنى في السفل فأدخل ألف أجرة بالجص المسمى لها، ثم مات البنّاء، فإن الآجر يقسم على موضع ما بقي من الحائط، وما بنى فيعطي بحصة ما بنى من القيمة؛ لأن كل ألف آجرة شرط بناؤها فهي في أعلى الحائط وأسفله، يدركها رخص الأسفل، وعلا الأعلى، فلا بد من الجمع بين القيمتين ليجتمع الرخص مع الغلاء، فيظهر في التوزيع العدل.
وعنه أيضاً أجر الرجل عبده، وسلمه ثم باعه من غير عذر، وسلمه إلى المشتري، فقتل، لم يكن للمستأجر أن يضمن المشتري قيمته، والمستأجر في هذا الحرف مخالف للمرتهن، والفرق وهو أن حق المستأجر في المنافع والقبض لا يلاقيها، وحق المرتهن في العين والقبض يلاقيه.
ذكر الحاكم استأجر عبداً للخدمة مدة معلومة، وعجل الأجرة، ثم مات المؤاجر، كان للمستأجر أن يمسك العبد حتى يرد الأجر عليه، وإن مات العبد في يده لم يكن عليه فيه ضمان، ويرجع بالأجر فيأخذه.
قوله حتى يرد الأجر عليه، أي حصة ما بقي من المدة، وإنما كان له حق إمساك العبد إلى أن يستوفي الأجر بحصة ما بقي من المدة، إظهاراً للعدل والإنصاف، فإن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، ويتعين حق ورثة الآجر في العبد، فيجب تعيين حق المستأجر، في حصة ما بقي من المدة من الأجر، وذلك بالاستيفاء.
وإذا غصب رجل الدار المستأجرة من المستأجر ثم تركها الغاصب، فأراد المستأجر أن يمتنع عن قبضها في باقي المدة، أو أراد الآجر أن يمتنع من التسليم فليس للمستأجر أن يمتنع من التسليم في باقي السنة، وللآجر أن يمتنع عن التسليم.
قال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يكن في السنة وقت يرغب في الاستئجار لأجله، أما إذا كان ولم يسلم في ذلك الوقت، فإن المستأجر يتخير، وقد مرّ جنس هذا فيما تقدم.

وفي «القدوري» : لو استأجر من آجر دارين فانهدمت أحداهما أو غصبت أو ما أشبه ذلك، فله أن يترك الأخرى؛ لأن الصفقة وقعت متحدة، وقد تفرقت فيثبت الخيار.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر دابة ليلاً ليزف عليها عروساً إلى بيت زوجها، فهذا على وجهين: إما أن تكون العروس بعينها أو بغير عينها، فإن كان

(7/646)


العروس بعينها، وبيَّن المكان، فإنه يجوز الإجارة، كما لو استأجر رجلاً دابة ليركبها إلى مكان معلوم بأجر معلوم، كانت الإجارة جائزة، فكذلك هذا، وإن كان العروس بغير عينها فالإجارة فاسدة، كما لو استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركب كانت الإجارة فاسدة فإن أركب عروساً فالقياس. (62ب4) أن لا يعود العقد جائزاً، وفي الاستحسان يعود العقد جائزاً، وعليه المسمى كما لو استأجر دابة للركوب، ولم يبين من يركب، ثم يركب هو أو أركب غيره، فإنه يعود العقد جائزاً استحساناً، وفي القياس لا يعود جائزاً، وقد ذكرنا هذا، فإن حبسوا الدابة حتى أصبحوا من الغد، هل يجب الأجر، إن كان استأجر هذه الدابة لركوب عروس بعينها في المصر، فإنه يجب الأجر، وإن استأجرها لركوب عروس بعينها خارج المصر، فإنه لا يجب الأجر لأنه لم يكن من الركوب في المكان الذي أضيف إليه العقد، فإنه لا يجب الأجر، وهذا لأن تسمية المكان في باب الدابة، وأنه شرط لجواز العقد عليها بمنزلة تسمية المدة في غيرها من الإجارات، والتمكن من الاستيفاء متى وجد في غير المدة المضاف إليها العقد، فإنه لا يجب الأجر، وهل يعتبر ضامناً بالحبس إن وقعت الإجارة على الركوب خارج المصر يضمن لأنه لم يجب الأجر بهذا الإمساك، ولم يؤذن له بإمساك لا يجب الآجر.

وإن وقعت الإجارة على أن يركبها في المصر لا يصير ضامناً بهذا الحبس؛ لأنه يجب الأجر بهذا الإمساك، وإن كان استأجروها لركوب عروس بغير عينها، فإنه لا يجب الأجر متى حبسوها سواء استأجروها للركوب في المصر أو خارج المصر، لأن الإجارة فاسدة متى لم يعينوا العروس، وفي الإجارات الفاسدة الأجرة لا تجب بالتمكن من الاستيفاء، وإنما تجب بحقيقة الاستيفاء ولم يوجد، فإن استأجر لحمل عروس بعينها، فأركب غيرها صار ضامناً ولا يجب الأجر سلمت الدابة أم ملكت، كما لو استأجر دابة ليركب بنفسه فاركب غيره، وإن كان لحمل عروس بغير عينها، لم يضمن، كما لو استأجر دابة للركوب فاركب غيره، إذا اشترى بيتاً وأجره من غيره قبل القبض لا يجوز كما لو باعه، وهذا إذا كان منقولاً، فإن كان عقاراً، فقيل هو على الخلاف في البيع، وقيل لا يجوز الإجارة إجماعاً.
في «الجامع الصغير» : رجلان استأجرا شيئاً ودفع أحدهما إلى صاحبه ليمسكه فلا ضمان عليه، إذا كان شيئاً لا يحتمل القسمة؛ لأن ما لا يحتمل القسمة فلأحد المستأجرين أن يدفعه إلى صاحبه ليمسكه، في «إجارة الفسطاط» استأجر قدراً ليطبخ فيه شيئاً معلوماً، فطبخ في البيت، وأخذ القدر بحجره مع ما فيه ليخرج إلى الدكان فانزلقت رجله في الطين، فوقع وانكسر القدر فعليه ضمان القدر بمنزلة الحمال، إذا انزلقت رجله، ووقع الحمل، وانكسر، وقيل: ينبغي أن لا يجب الضمان في هذه الصورة قياساً على ما إذا استأجرت المرأة ثوباً لتلبسه فلبسته وتخرق من لبسها، وقد مرت مسألة الثوب من قبل وهو الصحيح.
u
استأجر رجلاً شهراً معيناً ليعمل له عملاً معلوماً، فعمل له ذلك العمل بشهرين، هل

(7/647)


يستحق الأجر في الشهر الثاني؟ يجب أن تكون المسألة على الخلاف المعروف في القصار أو الخياط، إذا عمل من غير عقد، وقد كان انتصب نفسه لذلك، وإذا تكارى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم، فجعل في جوالق عشرين مختوماً، ثم أخر المستأجر رب الدابة، وكان هو الذي وضعها على الدابة، فلا ضمان؛ لأن صاحب الدابة هو المباشر لحمل الزيادة على دابته، وإن حملاها جميعاً، ووضعاها على الدابة، ضمن المستأجر ربع قيمة الدابة؛ لأن نصف الحمل يستحق بالعقد ونصفه غير مستحق، وفعل كل واحد منهما في الحمل شائع في النصفين، فما حمله المستأجر نصفه وهو ربع الكل مستحق بالعقد، ونصفه وهو الربع غير مستحق، فلهذا ضمن ربع قيمتها، وإن كان الحمل في عدلين، فحمل كل واحد عدلاً ووضعاها على الدابة جميعاً، لا يضمن المستأجر شيئاً ويجعل حمل المستأجر مما كان مستحقاً بالعقد في باب ما يضمن الأجر، ويعرف عن هذه المسألة كثير من المسائل، رجل يبيع بالمزايدة، فاستأجر رجلاً لينادي عليه أن وقت له وقتاً، أو قال كذا صوتاً، يجوز إذا دفع إلى صباغ لبداً ليصبغه أحمر، فقد قيل إن قال بكذا من العصفر يجوز، وإن لم يبين مقدار العصفر لا يجوز، وهذا ليس بصواب فقد ذكرنا الرواية في فصل الاستصناع، إن بان مقدار الصبغ ليس بشطر، فلو صبغه رديئاً هل يضمن؟ فقال: قيل إن انتقص الثوب، وكان النقصان فاحشاً عند أهل البصر فلصاحب اللبد أن يضمنه قيمة لبده أبيض، وإن كان النقصان يسيراً فله أن يضمنه النقصان.
وعلى هذا التفصيل القصار إذا قصر الثوب رديئاً. إذا استأجر حماراً أو بقراً، ليس له أن يبعث به إلى السراح، هكذا ذكر في الفتاوى، وقيل إن كان المتعارف فيما بين الناس أن المستأجر يبعث ذلك إلى السراح، فله أن يبعث ومالا فلا.

وذكر الصدر الشهيد في «فتاويه الصغرى» ، أن للمستأجر أن يؤاجر، وأن يعير، وأن يودع، والبعث إلى السرح إيداع، فهلكه المستأجر.
وفي «مجموع النوازل» زوج أمته، ثم أجرها من زوجها، جاز لأن خدمة الزوج ليست عليها، فالإجارة وردت على ما ليس بمستحق فيصح.
استأجر أرضاً ليلبن فيه لنفسه عليها، فالإجارة فاسدة، بعد ذلك ينظر إن كان للتراب قيمة في ذلك الموضع يضمن قيمة التراب، ويكون اللبن له؛ لأن الإجارة لما لم تصح، صار المستأجر غاصباً للتراب، ولما حوله لبناً فقد هلك على المالك، وإن لم يكن للتراب قيمة لا شيء عليه، واللبن له لأنه حصل بصنعه.

رجل يقبل من رجل طعاماً على أن يحمله من موضع إلى موضع باثني عشر درهماً اليوم، فحمله في أكثر من ذلك لا يلزمه الأجر المسمى، بل يجب أجر المثل بمنزلة ما لو استأجر رجلاً لينجز له عشر مخاتيم دقيق اليوم، هكذا ذكر في الفتاوي، وهذا يجب أن يكون على قول أبي حنيفة؛ لأن على قوله هذه الإجارة وقعت فاسدة، لأنه جمع فيها بين الوقت والعمل، أما على قولهما هذه الإجارة وقعت جائزة، فيجب الأجر المسمى.
رجل حمل رجلاً كرنا إلى بعض البلدان، فعلى الحامل كراؤه حتى يرده إلى الذي

(7/648)


حمله منه، وكذا في كل ما له حمل ومؤنة.
رجل استأجر من آخر كرماً إجارة طويلة، وقبضها وأجرها من غيره مقاطعة كل ستة أشهر، ببدل معلوم فلما رآه المستأجر الثاني، وجد الأشجار قد احترق من البرد ولم يجد أجره ليرده عليه، حتى جاء أيام الفسخ وحضر آجره وفسخ الإجارة، وطلب مال المقاطعة، وأبى المستأجر الثاني، واعتل بعلة أن الأشجار محترقة، سمع علته وسقط عنه مال المقاطعة إذا لم يعمل في الكرم عملاً يدل على الرضا، ولو كان آخذه حاضراً حتى أمكنه الرد ولم يرد لا يسقط مال المقاطعة، وعلى هذا إذا أجر داره وأراد المستأجر ردها بخيار رؤية، أو بخيار عيب، إن لم يمكنه الرد بأن كان المؤاجر غائباً، كان له الرد إذا حضر المؤاجر، ولا يجب الأجر إذا لم يكن عمل في الدار عملاً يدل على الرضا، وإذا وجب الأجر على المستأجر مالاً بالقرض أو نحوه، فقال المستأجر للآجر: احسب هذا من مال الإجارة وفارسيته فرورواز مال إجارت فقال الأجر: فرور فتم فقد قيل: ينفسخ الإجارة بقدره.
استأجر رجلاً ليذهب محمولاته إلى موضع كذا بكذا فلما سار نصف الطريق بدا للحمال أن يذهب فترك الحمولة على المستأجر ثمَّ وطلب نصف الأجر، قال: له ذلك إذا كان الباقي من الطريق مثل الأول في السهولة، هكذا ذكر في الفتاوي. وقد ذكرنا في فصل الاستصناع أن العبرة في قسمة الأجر بقدر المراحل للسهولة والصعوبة، فيتأمل عند الفتوى.

قال في «الأصل» : ولو أن رجلاً دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي بدرهم فصبغه بقفيز، فهذا على وجهين أما إن صدقه رب الثوب في ذلك فصاحب الثوب بالخيار، إن شك ترك الثوب عليه وضمنه قيمة الثوب، وقد ذكرنا وجه ذلك فيما تقدم، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد العصفر فيه مع الأجر، ولم يذكر أنه أراد به المسمى (63أ4) أو أجر المثل قال بعضهم: أراد به أجر المثل. وقال بعضهم: أراد به المسمى. من قال بأنه يعطيه أجر المثل، تقول بأن العمل وإن لم يصر معيناً من حيث الحقيقة بالزيادة، بل الزيادة تزيده جوده، لكن من حيث الحكم صار معيناً، لما كان لا يتوصل إليه إلا بزيادة عزم، ولهذا ثبت له الخيار كما لو يكن في العمل عيب من حيث الحقيقة، ولو يكن في العمل به عيب من حيث الحقيقة بأن خالف في صفة المأمور به، كان الجواب على ما عرف من الخلاف بين المشايخ، فكذلك هذا،

وقال بعضهم: بأنه أراد به المسمى لأنه لا عيب في العمل المأمور به من حيث الحقيقة، فإنه أتى بما أمر به وزيادة، فالزيادة تزيده جودة، وإذا لم يتمكن في القدر المأمور به عيب من حيث الحقيقة، لا يكون له عطاء أجر المثل، لأن أجر المثل إنما يعطيه في مثل ذلك الموضع ليدفع عن نفسه ضرر العيب، ثم قال: يعطيه ما زاد العصفر في قيمة الثوب، يريد به ما زاد العصفر في قيمة الثوب من الثلاثة الأرباع، لا قيمة ما زاد القفيز فيه؛ لأنه ضمن للربع بدلاً، وهو الآجر فلا يضمن مرة أخرى، ثم إنما يعرف قيمة

(7/649)


ما زاد العصفر فيه، وهو أن يغرم الثوب مصبوغاً بربع قفيز ومصبوغاً بقفيز فإن كانت قيمته ربع قفيز عشرة، وقيمته مصبوغاً بقفير اثنى عشر، علم أن الصبغ زاد فيه بقدر درهمين، فإن قيل في إيجاب قيمة ما زاد الصبغ فيه إيجاب قيمة العمل؛ لأن قيمة ما زاد الصبغ فيه أن يقوم مصبوغاً، وغير مصبوغ، وفي تقويمه مصبوغاً وغير مصبوغ اعتبار قيمة العمل والعمل لا يتقوم من غير عقد، ولا شبهة عقد، والجواب عنه أن قيمة ما زاد الصبغ فيه بدل الصبغ، من حيث الحكم لا قيمة العمل، لأن إيجاب قيمة الصبغ مزايلاً متعذر؛ لأنه لا يعرف قيمة الصبغ بقيمة العمل، مزايلاً حال ما يتصل بالثوب لأنه مخلوط بالماء، وإذا تعذر إيجاب قيمة الصبغ مزيلاً أوجبنا قيمة ما زاد الصبغ فيه، واعتبرنا ذلك كله قيمة الصنع.
والدليل عليه أن محمداً أوجب أجر المثل حيث احتاج إلى إيجاب قيمة العمل مع قيمة الصنع، وهنا لما أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، علمنا أنه جعل ذلك قيمة الصبغ مزايلاً، ومنهم من قال بأن الصباغ ملك رب الأرض صنعاً معمولاً وهو مال فلا بد من أن يغرم قيمته، كذلك على الوصف الذي ملكه كمن بنى في أرض رجل، ورضي به صاحب الأرض بأخذه، فإنه يغرم له قيمة البناء مبنياً لأنه ملك ذلك البناء وهو مبني معمول، فلزمه قيمة بناء مبني، فكذلك هذا، وإلى هذا ذهب الفقيه أبو بكر البلخي هذا إذا صدقه في الزيادة، فأما إذا كذبه في الزيادة، فإنه يري أهل البصر من تلك الصناعة، لأنه أمكن معرفة فيما وقع التنازع فيه لا من جهتها، فلا يلتفت إلى قول واحد منهما، فإن قالوا مثل هذا الصبغ قد يكون بربع قفيز كان القول قول رب الثوب لأن الظاهر معه، لكن مع يمينه بالله ما يعلم أنه زاد، لأنه لم يثبت من حيث اليقين أنه لم يرد فيه على الربع، وإن قالوا لا يكون إلا بالقفير صار الظاهر مع الصباغ مع اليمين؛ لأنه لم يثبت ما قالوا من حيث اليقين، فإن حلف تثبت الزيادة، وإذا ثبت الزيادة كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا صدقه رب الثوب الخياط إذا فرغ من الخياط وبعث الثوب على يدي ابنه، وهو ليس ببالغ، فطر الطرار منه في الطريق، فإن كان الصبي عاقلاً ضابطاً يمكنه حفظه لا يضمن، وإن لم يكن ضابطاً ولا يمكنه حفظه ضمن.

في «مجموع النوازل» مثل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن رجل استأجر رجلاً ليوقد النار في المطمورة ليلة، ففعل ونام في بعض الليل فاحترقت المطمورة وما فيها، هل يضمن الأجر؟ قال: لا قيل له فإن أوقد النار ثانياً، بغير أمر هل يضمن؟ قال: نعم.

رجل دفع عيناً إلى رجل على أنه إن شاء قبضه بالشراء بكذا وإن شاء أخذه إجارة سنة بكذا، فقبض وملك عنده، إن ملك بعد الاستعمال فهو على الإجارة، ولو قال أردت الملك إن كانت قيمته مثل الآخر، أو أكثر قبل قوله وإن كان الأجر أكثر لا يصدق، ولو لم يستعمله حتى هلك فلا ضمان عليه، لأنه لم يقبضه على الضمان.
في «مجموع النوازل» : رجل يبيع شيئاً في السوق فاستعان بواحد من أهل السوق

(7/650)


على بيعه، فأعانه، ثم طلب منه الأجر، فإن العبرة في ذلك لعادة أهل السوق، فإن كان عادتهم أنهم يعملون بأجر يجب أجر المثل، وإن كان عادتهم أنهم يعملون بغير أجر فلا شيء له.
رجل قال لخياط: خط هذا الثوب لأعطيك أجرك، فقال الخياط: لا أريد الأجر، ثم خاطه فلا أجر له.
ولو أن صباغين أجر أحدهما آلة عمله من الآخر، ثم اشتركا في ذلك العمل، إن كان أجر كل شهر بكذا يجب الأجر في الشهر الأول، ولا يجب فيما بعده شيء، لأن الإجارة في الشهر الأول، وقعت صحيحة، وإنما ينعقد في كل شهر بعده بدخول ذلك الشهر، والشركة سبقت بأول الشهر الأول؛ فمنعت انعقادها فلا يجب أجر ما سوى الشهر الأول من هذا الوجه، وإن أجرها عشر سنين مثلاً، كل شهر بكذا، وجب أجر كل المدة؛ لأن الإجارة انعقدت على كل المدة في الحال، فلا يبطلها الشركة بعد ذلك، وإذا استأجر رجلاً ليبني له في هذه الساحة بيتين ذي سقفين أو ذي سقف واحد، وبيّن طوله وعرضه، وما أشبه ذلك وفارسيته، شكر درادن، ذكر في «فتاوي أبي الليث» : أنه لا يجوز، وينبغي أن يجوز إذا كان بآلات المستأجر للتعامل.

وفي «مجموع النوازل» : رجل دفع إلى سراج بعض آلات السرج، وأمره أن يتخذ له سرجاً بهذه الآلات، وبآلات أخرى يحتاج إليها من عند نفسه، على أن يدفع إليه أجر عمله وثمن آلاته، ودفع إليه عشرة دراهم، فلما أتم السرج، استولى على السرج بعض الظلمة وذهب به، قال: يسترد من السراج قيمة آلاته، وما دفع إليه من الأجر؛ لأن العمل لم يصر سلماً إليه، ولم يصر المستأجر قابضاً آلات السرج، باتصاله بآلاته؛ لأنه يمكن تمييزها من غير ضرر، وهذه الإجارة فاسدة؛ لأنه لا يعامل في السرج بخلاف القلنسوة والخف، لأن فيهما تعاملاً.
ومثل شمس الإسلام الأوزحندي رحمه الله عمن دفع إلى طبيب جارية مريضة، وقال له: عالجها بمالك فما يزداد من قيمتها بسبب الصحة، فالزيادة لك، ففعل الطبيب ذلك، وبرأت الجارية، فللطبيب على المالك أجر مثل المعالجة، وثمن الأدوية والنفقة، وليس له سوى ذلك.
وسئل أيضاً عمن قال لطيان أصلح هذا الخراب بعشرة، فلما شرع في العمارة ازداد الخراب فأصلح الكل فلا شيء له سوى العشرة. وسئل هو أيضاً: رجل استأجر رجلاً شهراً، قال: لا يدخل يوم الجمعة في العقد بحكم العرف.
وفي «مجموع النوازل» : معلم طلب من الصبيان ثمن الحصير، وصرف البعض إلى حاجة نفسه، أو اشترى به الحصير، واستعمله في الكتب زماناً، ثم رفعه وجعله في بيته، هل يسعه ذلك قال: نعم؛ لأن هذا في الحقيقة تمليك من آباء الصبيان للمعلمين وفيه أيضاً: دفع الرجل ولده الصغير إلى أستاذ ليعلمه حرفة كذا، في أربع سنين، وشرط على الأب أنه لو حبسه قبل أربع سنين، فللأستاذ عليه مائة درهم فحبسه بعد ثلاث سنين،

(7/651)


فليس للأستاذ أن يطالب الأب بالمائة، ولكن يطالبه بأجر مثل عمله.
وقيل في الصغير يدفع شيئاً من المأكول إلى المعلم، إنه لا يحل للمعلم أكله، وقيل يحل، وهو الأصح لأن الآباء والأمهات راضون بذلك.

استأجر رجلاً، ليكتب له عيناً بالعربية أو بالفارسية، يطيب له الأجر، وكذا لو استأجرت امرأة لتكتب لها إلى حبيبها، يجب الأجر ويطيب له، لأنه بدل كسبه هذا إذا بين ثم ... الجواز بأن بين مقدار الخط، وما أشبه ذلك، أما إذا لم يبين كانت الإجارة فاسدة.
استأجر وراقاً ليكتب له جميع القرآن وينقطه ويعجمه. (63ب4) ويعشره وأعطاه الكاغد والحبر، وشرط له بدلاً معلوماً، فأصاب الوراق البعض وأخطأ في البعض، فإن فعل ذلك في كل ورقة فله الخيار، إن شاء أخذه وأعطاه أجر مثل عمله، لا يجاوز ما سمى، وإن شاء ترك عليه وأخذ منه قيمة ما أعطاه، وإن كان ذلك في بعض المصحف دون البعض، يعطيه حصة ما أصاب من المسمى، ويعطيه مثل عمله، لأنه وافق في البعض، وخالف في البعض، وقيل في النكال إذا غلط في جميع حدوده أو في بعضه، فإن لم يصلحه فلا أجر له وإن أصلحه فللآجر الخيار، وإن رضي به فللكاتب أجر مثله.
رجل له أجيران يعملان له عمل الزراعة بنفور له عين أحدهما بقرين، ولآخر بقرين، فاستعمل أحدهما غير ما عين له، فهلك ضمن المستعمل قيمته، وهل يضمن الأجر بالدفع؟ فقد قيل: يضمن وقيل: لا يضمن؛ لأن مودع في البقر، وقد دفعه إلى من يقوم على الدواب، والقول الأول أصح؛ وأنه جواب ظاهر الرواية وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي.

في «مجموع النوازل» : رجل أودع عند رجل أحمالاً من الطعام، ففرغ المودع الظروف، وجعل فيها طعاماً له، ثم إن المودع سأل المودع أن يرد عليه أحماله حتى يحمل إلى مكة، فدفع إليه طعام نفسه، ولم يعلمه به، فحملها المودع على إبله حتى أتى مكة، كان للمودع أن يأخذ طعامه ولا أجر عليه.

سئل شمس الأئمة الحلواني: عمن استأجر حماماً في قرية مدة معلومة، فنفر الناس، ووقع الخلا، ومضت مدة الإجارة، هل يلزم المستأجر الأجر؟ قال: إن لم يستطع الرفق بالحمام فلا وأجاب ركن الإسلام السعدي بلا مطلقاً، ولو بقي بعض الناس، وذهب البعض، يجب الأجر، كذا أجابا.
وفي «مجموع النوازل» : استأجر من آجر طاحونة ببدل معلوم، على أن عليه ما سمى من الأجر أيام جريان الماء وانقطاعه، فهذا الشرط يخالف مقتضى العقد؛ لأنه لا ينتفع بالرحا زمان انقطاع الماء، والأجرة بدل المنفعة فيفسد به العقد.
وفي «النوازل» سئل الفقيه أبو القاسم عن طحان ركب في الطاحونة حجراً من ماله،

(7/652)


واتخذ فيه حديداً وأشياء أخر كلها من ماله، فانقضت مدة إجارته، هل له أن يدفع ذلك؟ قال: إن كان فعل ذلك بإذن صاحب الطاحونة على أن يرجع في العلة يرجع فيها، وأن فعل بغير أمره إن كان غير مركب فهو له، وإن كان مركباً يدفع إليه قيمته.
وفي «فتاوى الفضلي» : وصي أو متولي أجر منزل اليتيم، أو منزل الوقف بدون أجر المثل، أيلزم المستأجر أجر المثل أم يصير غاصباً بالسكنى، فلا يلزمه الأجر بالسكنى، ذكر هنا أنه يجب على أصول علمائنا أن يصير غاصباً، ولا يلزمه الأجر لأنه قال في كتاب المزارعة الوكيل يدفع الأرض مزارعة: إذا دفعها مزارعة وشرط للمزارع من الزرع ما لا يتغابن الناس في مثلة، أن الوكيل يصير مخالفاً غاصباً ويصير الزارع غاصباً، ولم يقل أن هذه مزارعة فاسدة، فيحكم فيها بما يحكم في المزارعة الفاسدة، قال: وذكر الخصاف في كتابه: أن المستأجر لا يكون غاصباً، ويلزمه أجر المثل، وجعل حكمه حكم الإجارة الفاسدة، فقيل له الفتى بما ذكره الخصاف؟ فقال: نعم، وذكر بعد هذا أيضاً أنه يلزم المستأجر أجر المثل بكماله، لأن الإجارة لو كانت من مالك المنزل، ولم يكن سمى الأجر فيها، كان يجب على المستأجر أجر المثل بالغاً ما بلغ، ولو كان سمى فيها الأجر وجب الأجر، ولا يزاد على المسمى، فالزيادة على المسمى إنما لم تجب على المستأجر، لأن المؤاجر أبطلها بالتسمية، فالوصي والقيم أيضاً لولا يسميان فيها الأجر يجب فيها أجر المثل بالغا ما بلغ، فإذا سميا الأجر لو لم تجب الزيادة على المسمى لكان سقوط الزيادة لإبطالهما إياها بالتسمية وليس لهما إلى إبطالهما سبيل، فيجعل كأن التسمية لم توجد في الزيادة، فوجب وذكر قبل هذا إذا أجر منديلاً لابنه الصغير بدون أجر المثل.

قال القاضي الإمام على السعدي لو غصب إنسان دار صبي، قال بعض الناس يجب عليه أجر المثل، فما ظنك في هذا، وهكذا فيمن غصب الوقف قال بعضهم: يجب أجر المثل. قال الفضلي رحمه الله: والذي يصح عندي أن المستأجر يصير غاصباً عند من يرى غصب الدور، ويجب جميع المسمى عنده، أما عند من يرى غصب الدور فعلى مذهبه جميع المسمى لازم له على كل حال. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين يفتي بوجوب أجر المثل في أرض الوقف، في الغصب، وفي أرض الصبي لا. ومن المشايخ من يفتى بوجوب أجر المثل، أما إذا كان ضمان النقصان خير لليتيم وللوقف، وهكذا فيمن سكن داراً له، أو حانوتاً له وذلك وعد للإجارة، يجب أجر المثل، إلا إذا كان النقصان خيراً له.
وفي «فتاوى الفضلي» أيضاً: أجر منزلاً إجارة طويلة، وهذا المنزل موقوف عليه، كان وقف والده عليه وعلى أولاده أبداً ما تناسلوا، وأنفق المستأجر في عمارة هذا المنزل بعض النفقات بأمر المؤاجر، فإن لم يكن للمؤاجر ولاية في الوقف، كان غاصباً، ولم يكن على المستأجر إلا المسمى، وذلك للمؤاجر يتصدق به، وإن كان له ولاية في الوقف وعلى المستأجر أجر المثل في المدة التي كانت في يده لا عبرة لما سمى من قليل الأجر

(7/653)


في السنين الأولى، ويرجع المستأجر بالذي أنفق في غلة الوقف، إن كان للمؤاجر ولاية في الوقف، وإلا فهو متطوع فيما أنفق لا يرجع به على المؤاجر ولا في علة الوقف، لأنه إذا لم يكن له ولاية، صار وجود الأمن منه كعدمه، ولو أنفق بدون أمره لا يرجع بذلك على أحد، كذا ههنا، وقد ذكرنا فيما تقدم أن مكتري الحمار إذا أمر غيره أن ينفق على الحمار المكترى الذي بقي في الطريق ففعل، إن كان المأمور يعلم أن الحمار لغير الأمر فهو متطوع، لا يرجع بما أنفق علي أحد، إلا أن يكون الأمر ضمن له النفقة، وإن كان لا يعلم أن الحمار لغير الآمر فليس بمتطوع، فكذا في مسألة البناء، في الوقف بأمر الآجر يجب أن يكون الجواب على ذلك التفصيل.

مريض أجر داره من رجل بدون أجر المثل، يعتبر من جميع المال؛ لأن حق الورثة لا يتعلق بالمنافع، وما لا يتعلق به حق الورثة، فالمريض والصحيح فيه على السواء.
استأجر حانوتاً موقوفاً على الفقراء وأراد أن يبني عليه غرفة من ماله، وينتفع بها من غير أن يزيد في أجره، فحينئذ يبني على مقدار ما لا يخاف على البناء القديم من ضرر، وإن كان هذا حانوتاً يكون معطلاً في أكثر الأوقات، وإنما رغب فيه المستأجر لأجل البناء عليه، فإنه يطلق له في ذلك من غير زيادة في الأجر؛ لأن فيه مصلحة الوقف.

رجل استأجر حجرة من أوقاف المسجد، ويكسر فيها الحطب بالقدوم، والجيران لا يرضون بذلك، والمتولي يرضى به، فإن كان في ذلك ضرر بين بالحجرة مثل القصارة والحدادة، والمتولي يجد من يستأجرها بذلك الأجر، فعليه أن يمنعه من ذلك، فإن لم يمنع أخرجه من الحجرة، وأجرها من غيره، وإن كان غيره لا يستأجر بتلك الأجرة، فالقيم يتركها في يده، إلا إذا خاف تلف بناء الوقف من ذلك العمل.
وفي «فتاوي الفضلى» : متولي الوقف أجر ضيعة الوقف من رجل سنين، ثم مات الآجر، ثم مات المستأجر قبل انقضاء المدة، ودفع المستأجر غلة الضيعة، فإن كانت الغلة زرعا زرعها الورثة ببذرهم كانت الغلة لهم، وعليهم ما نقصت الزراعة الأرض، تصرف ذلك إلى مصالح أرض الوقف لا حق للموقوف عليهم الأرض في ذلك، لأن هذا النقصان إنما وجب لنقصان في عين الأرض، وهو الموقوف عليهم في منفعة الأرض لا في عينها، وإنما وجب نقصان الأرض دون الأجر؛ لأن الإجارة قد انفسخت بالموت، وصارت الورثة بالزراعة بعد ذلك غاصبين، فوجب النقصان دون الأجر لهذا.
وفي «النوازل» ساحة (64أ4) بين يدي حانوت لرجل في الشارع، فأجرها من رجل يبيع الفاكهة كل شهر بدرهم، فما يأخذ من الأجرة فهو للعاقد؛ لأنه غاصب، وفي الغضب الأجرة للعاقد.
v

قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا كان ثمة بناء أو دكان؛ لأن بذلك يصير غاصباً، أما بدونه لا يصير غاصباً؛ لأن غصب العقار عندهما لا يتحقق، وعندي أن الصحيح هو الأول، لأن عندهما الغصب إنما لا يتحقق في العقار في حق حكم الضمان، لا فيما وراء ذلك يتحقق، ألا ترى أن في حق الرد يتحقق، فكذا في حق استحقاق الأجرة.

(7/654)


رجل استأجر أرضاً، وانفسخت الإجارة بينهما بمضي المدة أو بالفسخ، قبل مضى المدة وفي الأرض زرع، والزرع يغل، فالزرع للمستأجر، فإن أبى المستأجر الآجر عن جميع الخصومات والدعاوي، ثم بعد ذلك أدرك الزرع، ودفع الآجر الغلة، وادعى المستأجر الغلة وخاصم الآجر فيها، هل يسمع دعواه؟ فقد قيل يسمع دعواه، وقد قيل لا يسمع دعواه، وهو الأشبه، وكذلك لو كان الآجر دفع الغلة أولاً، ثم أبرأه المستأجر عن الدعاوي لا يصح دعوى المستأجر الغلة، وهذا إذا جحد الآجر أن الزرع زرعه، فأما إذا كان مقراً أن الزرع للمستأجر يؤمر بالرد عليه، وعلى هذا إذا أبرأ أحد الورثة الباقين، ثم ادعى التركة، وجحد باقي الورثة التركة، لا يسمع دعواه، ولو أقروا بالتركة يؤمرون بالرد عليه.
استأجر طاحونة، وأجرها من غيره، فانهدم بعضه، فقال المستأجر الأول للثاني: أنفق في عمارة هذه الطاحونة، فأنفق هل يرجع بذلك على المستأجر الأول إن علم الثاني أنه مستأجر وليس بمالك، لا يرجع وإن ظنه مالكاً فيه روايتان، في رواية لا يرجع ما لم يشترط الرجوع، وفي رواية يرجع بدون الشرط.

دار فيها بئر استأجر رجل الدار، فله أن يتوضأ بذلك الماء، ويشرب.
استأجر حجرة كل شهر ببدل معلوم، وغاب وترك امرأته في الدار، فليس للآجر أن يخرجها؛ لأنه ليس له أن يفسخ الإجارة، من غير محضر من صاحبه، والحيلة في ذلك أن يؤاجر هذه الدار من إنسان، في بعض الشهور فإذا مضى ذلك الشهر ينفسخ الإجارة الأولى وتنعقد الثانية، وكان للمستأجر الثاني أن يخرج المرأة من الدار.

وإذا استأجر من آجر داراً، ثم إن الآجر وهب له أجر شهر رمضان، إن استأجرها سنة جاز الهبة عند محمد رحمه الله لأنه أبرأ بعد وجود سبب الوجوب، وإن استأجرها كل شهر لا يجوز الهبة عند محمد، إلا إذا دخل شهر رمضان.
استأجر داراً وبنى فيها حائطاً من تراب، كان فيها بغير أمر صاحب الدار، ثم أراد الخروج وأراد نقض الحائط، هل له ذلك، ينظر إن كان اتخذ من التراب لبنا، وبنى الحائط من اللبن، فله ذلك وعليه قيمة التراب؛ لأن باتخاذ اللبن صار اللبن ملكاً له، فله أن يأخذ ملك نفسه، وإن كان بنى الحائط من الطين له يأخره بنايا شد فليس له أن ينقض الحائط، لأن ما نقض يعود على ملك المالك؛ لأنه يصير تراباً.
رجل اشترى شجرة وقطعها، واستأجر أرضاً ليضع فيها الأشجار حتى تيبس، والأرض المستأجر لها طريق في أرض رجل آخر، فأراد مشتري الأشجار أن يمر في الأرض التي فيها طريق إلى الأرض المستأجرة بخشبه وحمولاته، وأراد صاحب الأرض أن يمنعه من ذلك، ليس له أن يمنعه، لأنه يحتاج إلى الإخراج والإخراج يكون بطريقة، وطريقه هذا.
وبه ختم كتاب الإجارات بعون الله وحسن توفيقه والحمد لله رب العالمين.

(7/655)