المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثالث والعشرون: في استئجار الحمام والرحى
وإذا استأجر الرجل حماماً شهوراً معلومة بأجر معلوم فهو جائز؛ لأنه استأجر ما

(7/530)


يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فيجوز كما لو استأجر داراً أو بيتاً، فإن كان حماماً للرجال وحماماً للنساء وقد حددهما جميعاً إلا أنه سمى في الإجارة حماماً، فالقياس أن لا تجوز هذه الإجارة، وفي الاستحسان تجوز.
وجه القياس: أن المعقود عليه مجهول وجهالة المعقود عليه توجب فساد الإجارة، كما لو قال: استأجرت منك هذين الحمامين وإنما قلنا ذلك؛ لأنه استأجر حماماً والحمام اسم للفرد لا للتثنية، وإذا كان اسماً للواحد كان المستأجر أحدهما فيكون المعقود عليه مجهولاً فهذا وجه القياس.
ووجه الاستحسان أن المعقود عليه معلوم فتكون الإجارة جائزة، كما لو قال: استأجرت هذين الحمامين وإنما قلنا ذلك وذلك؛ لأن التثنية إن لم توجد نصاً وجد معنى بالتحديد فإن حدد الحمامين جميعاً والثابت بالتحديد كالثابت نصاً.
فإن قيل: إن تثبت التثنية بالتحديد لم تثبت التثنية باعتبار التسمية، فإنه سمى الحمام وإنه اسم للفرد لا للتثنية، فإن جاز باعتبار التحديد لا يجوز باعتبار التسمية فلا يجوز.

والجواب عنه: أن التثنية تثبت بالتحديد من حيث المعنى حقيقة وبالتسمية من حيث المجاز، فإن الحمام يذكر في العرف باسم الفرد، ويراد به التثنية فإنه يقال: هذا حمام فلان وإن كان حمامان، وإذا ثبتت التثنية باعتبار التحديد معنى، وباعتبار التسمية من حيث المجاز يرجع جانب الجواز قال مشايخنا: هذا إذا كان باب الحمامين واحداً والدهليز واحداً أما إذا كان لكل واحد منهما باب على حدة لا يجوز العقد حتى يسميهما، وعمارة الحمام في إصلاح قدره ومسيل مائة وما لا يتهيأ الانتفاع إلا به على الآجر؛ لأنه من مرافق الحمام فيكون في إصلاحه إصلاح الحمام وإن شرط المرمة على المستأجر فسدت الإجارة؛ لأن قدر المرمة يصير أجرة وإنه مجهول، ولو شرط رب الحمام على المستأجر وعشرة دراهم كل شهر لمرمته مع الأجر كان جائزاً؛ لأن جميع الأجر معلوم وهذا هو الحيلة لجواز الإجارة متى أراد أن يجعل بعض المرمة أجراً حين قدر ما يحتاج إليه للمرمة في الإجارة، ثم يأمره بصرف ذلك إلى المرمة فيصير وكيلاً من جهته بالإنفاق عليه.
هكذا ذكر في «الكتاب» : ولم نجد فيه خلافاً من مشايخنا من قال ما ذكر في «الكتاب» قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز هذا التوكيل إذا لم يعين الآجر أو باعه الآلات؛ لأن المصروف إليه الدين يكون مجهولاً وهذا يمنع جواز الوكالة على مذهبه، كما لو قال: أسلم ما لي عليك من الدين ولم يبين المسلم إليه، ومنهم من قال: بأنه يجوز بلا خلاف فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة البيوع.

ووجه الفرق له وهو: أن حالة التوكيل بشراء الآلة واستئجار الأجراء للأجرة غير واجبة حتى يكون أمراً بصرف الدين إلى المجهول فلا يجوز وإذا لم تكن الأجرة حالة التوكيل كان بمنزلة ما لو وكله بهذا قبل الإجارة وقبل الإجارة لو وكله بهذا جازت هذه الوكالة وإن لم يعين بائع الآلة ولا الآجر إلا أنه ليس له على الوكيل دين حتى يصير أمراً

(7/531)


له بصرف الدين إلى المجهول، فجاز فكذلك بهذا الخلاف مسألة السلم، لأن الدين واجب حالة التوكيل فإذا وكله بذلك ولم يعين المسلم إليه فقد أمره بصرف ما عليه من الدين إلى المجهول فلم يجز.
كما لو قال: أدّ ما لي عليك رجلاً من عرض الناس حتى لو كانت الأجرة واجبة وقت التوكيل يجب أن لا تجوز على قول أبي حنيفة ما لم يعين الأجراء وباعه الآلات كما في مسألة السلم، فإن قال المستأجر: قد رهنت الحمام بها لم يصدق والقول قول رب الحمام؛ لأنه يدعي إبقاء ما عليه من الأجر ورب الحمام ينكر فيكون القول قول رب الحمام إلا أن يقيم البينة على ذلك، كما لو ادعى الإيفاء حقيقة وإن أراد المستأجر أن يقبل قوله في ذلك من غير حجة.
فالحيلة أن يدفع العشرة إلى رب الحمام ثم يدفعها رب الحمام إليه ويأمره بإنفاقها في مرمة الحمام، فيكون أميناً.
وحيلة أخرى لإسقاط الحجة عن المستأجر أن يجعلا لمقدار المرمة عدلاً حتى يكون القول قول العدل فيما ينفق؛ لأن العدل أمين وليس لرب الحمام أن يمنع المستأجر بئر الماء ومسيل ماء الحمام أو موضع سرقينه وإن لم يشترط وكذلك كل شيء لا يتمكن المستأجر من الانتفاع بالحمام إلا به فهو على هذا وإنما كان كذلك؛ لأن هذه الأشياء من مرافق الحمام ومرافق المستأجر تدخل في الإجارة من غير شرط؛ لأنه لا يتهيأ الانتفاع بالمستأجر إلا به كما يدخل الطريق.

قال: ولو أن مسيل الماء الحمام امتلأ فإنه يجب على المستأجر تفريغ ذلك ظاهراً كان أو باطناً، إن كان ظاهراً فلا إشكال، وإن كان باطناً فكذلك يجب على المستأجر بخلاف البالوعة إذا امتلأت من جهة المستأجر فإن التفريغ يجب على الآجر.
ووجه الفرق: أن تفريغ مسيل الماء ممكن من غير نقص شيء من البناء؛ لأنه يكون مجصصاً مسقفاً يمكن تنقيصه بالدخول فيه من غير نقض شيء من البناء فأشبه ظاهر التعويض من هذا الوجه بخلاف بئر البالوعة؛ لأنه لا يمكن تفريغه إلا بنقض شيء من البناء ولا يملك المستأجر نقض شيء من البناء إنما يملكه رب الدار فجعل على رب الدار وإن حصل التكفل من جهته قال: ولو أن رب الحمام اشترط على المستأجر نقل الرماد والسرقين، فإن ذلك لا يفسد الإجارة فلأنه شرط في الإجارة ما تقتضيه الإجارة من غير شرط؛ لأن نقل الرماد والسرقين الذي اجتمع من عمل المستأجر عليه فلا يوجب فساد الإجارة، وإن شرط على رب الحمام أوجب فساد الإجارة؛ لأنه شرط فيها ما لا تقتضيه الإجارة ولأحد المتعاقدين فيه منفعة فيوجب فساد العقد.

قال: وإذا استأجر الرجل من رجل حمامين أشهراً مسماة كل شهر بأجر معلوم فانهدم أحدهما، فهذا على وجهين: إما أن ينهدم أحدهما قبل القبض أو بعده، فإن انهدم أحدهما قبل القبض كان المستأجر بالخيار فيما بقى إن شاء أخذ الباقي، كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض كان له الخيار في الباقي إن شاء أخذه بحصته من الثمن

(7/532)


وإن شاء ترك فكذلك هذا.
فرّق بين هذا وبينما إذا استأجر حماماً سنة بكذا فلم يسلم إلى المستأجر شهرين ثم سلم في الباقي وأبى المستأجر فإنه يجبر على قبضه والصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام ولم يثبت الخيار للمستأجر ثمة وأثبت هاهنا.

ووجه الفرق بينهما: أنه كان المستأجر حماماً واحداً ولم يسلم في بعض المدة فإنما تفرقت الصفقة في حق المنافع لا في حق العين، فإنه سلم العين كله؛ لأنه لم يفت من العين شيء وتفرق التسليم في حق المنافع لا يثبت للمشتري خياراً لأنه لم يستحق على الآجر تسليم المنافع جملة؛ لأنه ليس في وسع الآجر ذلك وإنما لا يستحق عليه تسليمه جملة (40ب4) لا يثبت للمشتري خياراً كما لو ملك أعياناً بصفقات متفرقة، فأما إذا هلك أحد الحمامين فقد تفرق على المستأجر تسليم ما استحق على الآجر تسليمه جملة وتسليم العين جملة ممكن ويفرق التسليم قبل إتمام على العاقد فيما استحق تسليمه جملة يثبت له خياراً، فقد فرق بين المسألتين من هذا الوجه هذا إذا انهدم أحدهما قبل القبض، فأما إذا انهدم أحدهما بعد القبض فلا خيار للمستأجر؛ لأن الصفقة تفرقت بعد التمام على وجه لم يوجب تعييب الباقي، فإن انهدم أحدهما لا يوجب خللاً في منفعة الباقي لتباين مرافقهما وتفرق الصفقة بعد التمام إذا لم يوجب تعييب الباقي لا يثبت للمشتري خياراً.
كما لو اشترى عبدين وقبضهما ثم هلك أحدهما بعد القبض قالوا: وعليه إشكال كان يجب أن يثبت الخيار هاهنا، وإن انهدم أحدهما بعض القبض؛ لأن الصفقة تفرقت قبل التمام؛ لأن المنافع لم تصر مقبوضة بقبض الحمام ولا تتم الصفقة إلا بقبض المعقود عليه إلا أن الجواب عن هذا الإشكال ما ذكرنا أن الصفقة تفرقت قبل التمام في حق المنافع أما في حق العين تفرق بعد التمام وتفرق الصفقة في حق المنافع لا يثبت للمستأجر خياراً.

لأنه لم يستحق على الآجر تسليمه جملة؛ لأنه ليس في وسع الآجر ذلك وإنما استحق تسليمه متفرقاً على حسب ما وجد وتفرق التسليم فيما استحق تسليمه متفرقاً لا يثبت للعاقد خياراً، فأما إذا انهدم قبل القبض فقد تفرق التسليم في حق العين قبل التمام وتفرق التسليم في حق العين يثبت للعاقد خيار الفسخ؛ لأنه استحق تسليمه جملة لما كان في وسع الآجر تسليمه جملة، هذا إذا كان المستأجر حمامين، فأما إذا كان المستأجر حماماً واحداً ثم انهدم بيت منها كان له الخيار سواء انهدم قبل القبض أو بعده أما قبل القبض فله الخيار لوجهين.

أحدهما: أن الصفقة تفرقت في حق العين قبل التمام.
والثاني: إن انهدام بيت منها يوجب تعيناً في منفعة الباقي؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها منفعة الحمام إلا بالكل وإن انهدم بعد القبض ثبت له الخيار بسبب العيب؛ لأن انهدام بيت منها أوجب خللاً في منفعة الباقي وإنه عيب حدث قبل قبض المعقود عليه، فأثبت للمستأجر خياراً.

(7/533)


قال: وإذا استأجر الرجل حماماً وعبداً ليقوم على الحمام فهلك العبد أو الحمام فهذا على وجهين: إما إن هلك أحدهما قبل القبض أو بعده، فإن هلك أحدهما قبل القبض أيهما ما كان عبداً أو حماماً كان له الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت قبل التمام في حق العين وإنه يثبت للمشتري خياراً؛ لأنه يمكن تسليم العين جملة وإن قبضهما ثم هلك أحدهما إن هلك العبد فلا خيار له في الحمام؛ لأن هلاك العبد لا يوجب خللاً في منفعة الحمام ويمكنه استعمال الحمام فيما استأجر له بعبد آخر أو بنفسه والصفقة في حق العين تفرقت بعد التمام وإن انهدم الحمام كان له الخيار في العبد؛ لأنه عجز عن استعمال العبد فيما استأجره له؛ لأنه استأجره ليقوم في هذا الحمام، فإذا انهدم الحمام فقد عجز عن استعمال العبد فيما استأجره له فكان له الخيار كما لو استأجر دكاناً ليتجر فيه فأفلس.
وإذا استأجر حماماً بغير قدر، واستأجر القدر من غيره فانكسر القدر فلم يعمل في الحمام أشهراً وقد استكراه سنة فطلب صاحب الحمام أجره وصاحب القدر أجر قدره قال: عليه أجر الحمام؛ لأنه متمكن من الانتفاع بعد انكسار القدر، فإنه يمكنه أن يستأجر قدراً آخر فينتفع به وإذا بقي التمكن من الانتفاع بعد انكسار القدر وجب الأجر وإن لم ينتفع به كما قبل انكسار القدر، فأما ليس عليه أجر القدر؛ لأنه لم يبق متمكناً من الانتفاع بالقدر بعد الانكسار ومتى فات التمكن من الانتفاع فإنه لا يجب الأجر كما لو هلك العبد المستأجر وستأتي بعض مسائل الحمام بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رحىً بالبيت الذي هو فيها ومتاعها بعشرة دراهم كل شهر ثم طحن فيها طحناً بثلاثين درهماً في الشهر فربح عشرين هل تطيب له الزيادة؟.
فهذا على وجهين: إما إن أصلح فيه شيئاً ينتفع به في الرحى بأن كرى نهرها أو ثبت الحجر أو لم يصلح، فإن لم يصلح فإن كان يلي الطحن بنفسه تطيب له الزيادة؛ لأنه أجر الرحى ونفسه فالزيادة على أجر الرحى يجعل بإزاء منفعة نفسه فيجوز، فأما إذا كان رب الطعام هو الذي يلي الطحن بنفسه فإنه لا تطيب له الزيادة؛ لأنه ليس بإزاء الزيادة عوض فيكون ربح ما لم يضمن فلا تطيب وإن كان أصلح شيئاً فإنه يطيب له، وإن كان لا يلي الطحن بنفسه ويجعل الزيادة بإزاء منفعة ما أصلح فلا يكون ربحاً فتطيب له.

قال في «الأصل» أيضاً: وإذا استأجر الرجل من الرجل موضعاً على نهر ليبني عليها بيتاً ويتخذ عليها رحى على أن الحجارة والحديد والمتاع من عند المستأجر فهو جائز؛ لأنه أجر أرضاً مملوكاً له ليبني فيها بناء مدة معلومة بأجر معلوم فيكون جائزاً، كما لو استأجر أرضاً ليبني عليها منزلاً أو داراً فإن انقطع ماء النهر كان عذراً في فسخ الإجارة؛ لأن بناء الرحى إنما يكون لمنفعة الطحن، فإذا فات منفعة الطحن كان عذراً في فسخ الإجارة.
وكان بمنزلة ما لو استأجر حانوتاً ليتجر فيها فأفلس كان عذراً في فسخ الإجارة فكذلك هذا، فإن فسخ الإجارة لم يبق لواحد منهما على صاحبه سبيل وإن لم يفسخ حتى

(7/534)


عاد الماء سقط حقه في الفسخ كما لو زال الإفلاس في مسألة الحانوت قبل الفسخ وهل تسقط عنه الإجارة بحساب ما انقطع من الماء أولا يسقط لم يذكر في «الكتاب» قالوا: ويجب أن لا يسقط؛ لأن ما هو المعقود عليه قائم بها جميعه؛ لأن المعقود عليه منفعة وضع البناء على هذا المكان لا منفعة الطحن فإنه لم يستأجر الرحى إلا أن المعقود من موضع هذا البناء الطحن فكان الطحن ثمرة من ثمرات هذا العقد والأجر يقابل المعقود عليه لا الثمرة.
وكان بمنزلة ما لو استأجر حانوتاً ليتجر فيه فأفلس فلم يفسخ حتى مضى الشهر لم يسقط شيء من الأجر؛ لأن المعقود عليه السكنى وإنه قائم إلا أن السكنى كان للتجارة ففوات التجارة في بعض مدة الإجارة أثبت للمستأجر حق الفسخ ولم يوجب سقوط شيء من الأجر.
فكذلك هذا الخلاف ما لو استأجر الرحى؛ لأن الإجارة وقعت على منفعة الطحن وقد فات في مدة انقطاع الماء فلا بد من أن يسقط الأجر بقدره.

وإذا خاف أن ينقطع الماء فيفسخ الإجارة فأكرى البيت والحجرين والمتاع خاصة فهو جائز لما ذكرنا وإن انقطع الماء يكون عذراً؛ لأن بيت الرحى مستأجر لمنفعة الطحن، وكذلك لو شرط أن لا خيار متى انقطع الماء لا يكون لهذا الشرط غيره؛ لأنه شرط عليه الأجر حال فوات المعقود عليه قبل القبض وهذا شرط باطل، كما لو شرط البائع الثمن على المشتري متى هلك المبيع في يده كان هذا الشرط باطلاً فكذلك هذا.
وإذا استأجر الرجل رحى ماء على أن يطحن فيها حنطة فطحن فيها غير الحنطة هل يصير مخالفاً؟ إن كان ضرر ما طحن مثل ضرر الحنطة أو دونه لا يكون مخالفاً؛ لأنه خلاف صورة لا معنى وإن كان في الضرر فوق ضرر الحنطة يكون مخالفاً فيصير فيه أحكام الغصب.
H
قال: وإذا استأجر الرجل رحى من رجل وبيت من آخر وبعيراً من آخر فاستأجر الكل صفقة واحدة كل شهر بأجر معلوم فأجروا ذلك فهو جائز؛ لأنه لو أفرد العقد على كل واحد من هذه الأشياء جاز فكذا إذا جمع بين الكل في عقد (41أ4) واحد.

وصار كما لو اشترى هذه الأشياء جملة منهم صفقة واحدة فإنه يجوز ويقسم الثمن بينهم على قدر قيم أموالهم فكذا ها هنا فإن لم يؤاجروا ولكن اشتركوا على أن يكون من عند أحدهم الرحى ومن الآخر الجمل على أن يؤاجروا ذلك فما رزق الله تعالى من شيء كان بينهم أثلاثاً كانت الشركة فاسدة لما ذكرنا في كتاب الشركة أن الشركة مبناها على الوكالة والتوكيل على هذا الوجه باطل.
كما لو حصل التوكيل بمثل هذا في بيع العين بأن قال: بع عبدي ليكون الثمن بيني وبينك كان التوكيل باطلاً، وإذا كان التوكيل باطلاً فسدت الشركة بعد هذا ننظر إن أجروا الجمل بعينه دون البيت والرحى فإن أجر الجمل لصاحب الجمل؛ لأنه عوض ملكه ويكون على صاحب الجمل أجر مثل البيت وأجر مثل الرحى لا يجاوز ثلث البعير عند أبي يوسف وعند محمد رحمه الله يجاوز بالغاً ما بلغ.

(7/535)


كما لو قال: بع عبدي ليكون الثمن بيني وبينك يكون الثمن كله لصاحب العبد لأنه عوض ملكه ويكون للبائع أجر مثل عمله لا يجاوز نصف الثمن في قول أبي يوسف وعند محمد يجب بالغاً ما بلغ وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الشركة وكذلك إن أجروا البيت بعينه أو أجروا الرحى، فالأجر كله لصاحب البيت أو لصاحب الرحى وعلى صاحب البيت أجر مثل الجمل وأجر مثل الرحى وإن اشتركوا على أن يتقبلوا الأعمال من الناس كان جائزاً؛ لأن الشركة مبناها على الوكالة والتوكيل بتقبل الأعمال جائز وكانت شركة لفعل جائزاً بخلاف الفعل الأول؛ لأنهم ما اشتركوا ليتقبلوا الأعمال، وإنما اشتركوا ليؤاجروا ومال كل واحد منهم ليكون أجر ذلك بينهم والشركة على هذا الوجه فاسدة.
قال: وإذا كان لرجل بيت ونهر ورحى ومتاعها فانكسر الحجر الأعلى فجاء رجل فنصب مكانه حجراً بغير أمر صاحبه وجعل يطحن للناس بأجر معلوم وينتقل الطعام بالأجر فهو مستثنى في ذلك ولا أجر عليه والأجر يكون له ويكون مستثنياً فكذلك هذا والوكالة وضع الحجر الأعلى برضا من صاحبه على أن الكسب بينهما نصفان وعلى أن يعملا بأنفسهما كان هذا مثل الباب الأول يعني متى أجروا الحجر الأعلى كان جميع الأجر لصاحب الحجر الأعلى وإن تقبل كل واحد منهم فهو بينهم على قياس مسألة الجمل لا فرق بينهما.
فإن قيل: ليس على قياسه فإن الحجر الأعلى لا يمكن أن ينتفع به وحده.
قلنا: والجمل مما لا يمكن أن ينتفع به وحده في عمل الطحن فلا فرق بينه وبين الحجر.
فإن قلت: ينتفع به في غير الطحن.
قلنا: والحجر ينتفع به في غير الطحن فلا فرق بينهما.

قال: ولو أن رجلاً بنى على نهر بيتاً ونصب فيه رحى بغير رضا صاحب النهر ثم يقبل الطعام فطحنه فكسب مالاً كان الكسب له؛ لأنه هو العاقد للأجرة فيكون الأجر له ويصير غاصباً لأرضه فتعتبر فيه أحكام الغصب فيضمن ما انتقص من أرضه كغاصب الأرض ولكن لا يضمن الماء؛ لأن الماء قبل الإجرار غير مملوك لصاحب النهر فلا يضمن للماء شيئاً والله أعلم.

الفصل الرابع والعشرون: في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه
وتجوز الحوالة والكفالة بالأجر في جميع الإجارات سواء كانت الأجرة واجبة وقت الكفالة باستيفاء المنافع أو باشتراط التعجيل، أو لم تكن واجبة إن كانت واجبة، فلأن الكفالة جعلت بدين مضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه ويمكن استيفاؤه من الكفيل، فإن يمكنه الإيفاء من ماله وهذا هو الأصل في باب الكفالة، أن الكفالة متى

(7/536)


حصلت بمضمون يجبر الأصيل على إيفائه ويمكن استيفاؤه من الكفيل أنها تصح.
ومتى حصلت بما ليس بمضمون على الأصيل لا يجبر الأصيل على إيفائه أو حصلت بما هو مضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه إلا أنه لا يمكن استيفاءه من الكفيل فالكفالة لا تصح وموضع معرفة هذا الأصل كتاب الكفالة، وأما إذا لم تكن الأجرة واجبة وقت الكفالة فلأن الكفالة حصلت بدين وجد سبب وجوبه إلا أنها لم تجب بعد ولو حصلت بدين سمحت في الثاني ولم يوجد سبب وجوبه بعد كالكفالة بما له على فلان تصح الكفالة فها هنا أولى.
ويكون على الكفيل مثل ما على الأصيل إن لم يشترط خلافه في تعجيل أو تأجيل؛ لأن الكفيل متحمل عن الأصيل فإنما يتحمل عنه ما كان عليه وليس للكفيل أن يأخذ المستأجر بالأجر حتى يؤديه.

والحاصل: أن الكفيل في الحال يعرض ذمته للمطالبة والملازمة ويعرض المال بعد الأداء فمتى طولب أو لوزم ثم العرض في حق المطالبة والملازمة فرجع بمثل ذلك على الأصيل ومتى إذا تم العرض في حق المال فرجع بمثل ذلك على الأصيل وسيأتي بيان ذلك في كتاب الكفالة إن شاء الله تعالى.
وإن عجّل الكفيل الأجر لم يرجع على الأصيل حتى يحل الأجر؛ لأن الكفيل متبرع في التعجيل فإنما ينفذ تبرعه عليه لا على المكفول عنه ولو اختلف الآجر والكفيل والمستأجر في مقدار الأجر، فقال الكفيل: هو درهم، وقال الآجر: هو درهمان، وقال المستأجر: هو نصف درهم، فالقول قول المستأجر؛ لإنكاره الزيادة ويؤخذ بدرهم؛ لأن إقراره ليس بحجة على المستأجر، ولو أقاموا جميعاً البينة فالبينة للآجر؛ لأنه ثبتت الزيادة ببينة، وإذا قبلت بينته صار الثابت بالبينة كالثابت معاينة، وإن كانت الأجرة شيئاً بعينه بأن كانت يوماً معينة وكفل به كفيل فهو جائز؛ لأن الكفالة حصلت بمضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه والكفيل قادر على إيفائه؛ لأنه مال موجود فيمكنه أن يخلي بينه وبين الآجر أو يأخذه من المستأجر ويسلمه إلى الآجر فإن هلك الثوب عند المستأجر برئ الكفيل؛ لأنه برأ المستأجر عن تسليم الثوب.

ألا ترى أنه يجب عليه تسليم قيمته وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل ويقضي على المستأجر بأجر المثل؛ لأن الإجارة قد فسدت؛ لأنه قد هلك أحد البدلين الذي تعلق العقد به قبل القبض، وهذا يوجب فساد العقد في البلد الأخر، وإذا فسدت الإجارة وجب على المستأجر رد ما استوفى وتعذر رده صورة فيجب رده معنى برد قيمته وهو أجر المثل ولا يؤخذ الكفيل بأجر المثل؛ لأنه لم يكفل به إنما كفل بالثوب.

ولو استأجر داراً بخدمة عبد شهراً وكفل بالعبد إنسان لصاحب الدار إن كفل بتسليم العبد يجوز؛ لأن الكفيل يقدر على إيفائه؛ لأنه مال موجود وإن كفل بخدمة العبد لا يجوز؛ لأن الكفيل لا يقدر على إيفائه؛ لأنه ليس في وسعه تسليم خدمته وخدمة غيره لا تقوم مقام خدمته.

(7/537)


وهو نظير ما لو استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً وشرط عليه خياطته بنفسه فكفل به إنسان إن كفل بتسليم نفس الخياط صح وإن كفل بخياطته لا يصح؛ لأنه كفل بما لا يقدر على إيفائه؛ لأنه لا يمكنه أن يأخذ بيده حتى يخيطه وخياطة غيره لا تقوم مقام خياطته وفي مسألة الخياط إن لم يشترط عليه خياطته فكفل إنسان بالخياطة صح؛ لأن الكفالة في هذه الصورة حصلت بما يقدر الكفيل على إيفائه؛ لأن المشروط خياطة مطلقة وخياطة الكفيل خياطة فيتمكن الكفيل من إيفاء ذلك من عند نفسه ثم في مسألة الخياطة إذا لم تصح الكفالة بالخياطة وخاط الكفيل رجع على صاحب الثوب بأجر مثل عمله وإذا صحت الكفالة وخاط الكفيل رجع على المكفول عنه بأجر مثل عمله بالغاً ما بلغ، وإذا كانت الكفالة بأمره؛ لأنه لو أمكنه الرجوع بعين ما ادعى، فإن كان المؤدى من ذوات الأمثال كان له الرجوع على المكفول عنه بعين ما أدى، فإذا عجز عن ذلك بأن لم يكن المؤدى من ذوات الأمثال كان له الرجوع بقيمته وقيمة العمل أجر المثل من هذا الوجه وكذلك هذا الحكم في نظائره.
وإذا استأجر الرجل من رجل محملاً وراحلة إلى مكة بأجر مسمى وكفل له رجل بالحمولة فهذا على وجهين:.... (41ب4) ومحمد فالجواب فيه كالجواب في العصفرة والزعفران؛ لأن للسواد موجباً معلوماً على قولهما لو حصل بغير عقد وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه فيجعل ذلك موجب العقد حال اختلافهما في مقدار الأجر كأنهما اتفقا على ذلك ثم اختلفا فيما يغيره إما إلى زيادة أو إلى نقصان كما في الحمرة.

فأما على قول أبي حنيفة: ليس لهذا الصبغ موجب معلوم لو حصل لغير عقد فإن صاحب الثوب لا يضمن شيئاً وإذا لم يمكن أن يجعل شيء آخر موجب العقد غير المسمى اعتبرنا اختلافهما في مقدار المسمى، والاختلاف بين المتعاقدين متى وقع في مقدار المسمى وفسخ العقد متعذر فعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل القول قول المنكر للزيادة كما في بيع العين بعد الهلاك، وكما لو وقع الاختلاف في مقدار الأجر للأعمال التي ليس لها موجب معلوم لو حصل تغير عقد عند الكل كما في الحمل والقصارة ويجعل القول قول المنكر للزيادة ولا يتحالفان متى اختلفا في حال ما لا يمكن فسخ العقد فكذلك ها هنا هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر.

فأما إذا اختلفا في أصل الأجر في السواد فقال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصباغ: لا بل عملته بأجر ذكر أن القول قول صاحب الثوب مع يمينه ولا يتحالفان عند أبي حنيفة رحمه الله وكان يجب أن يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في نوع العقد ادعى أحدهما الهبة والآخر البيع فيجب أن يتحالفا عندهم وإن كان فسخ العقد متعذراً كما في صبغ يوجب الزيادة.

(7/538)


وكما في بيع العين إذا اختلفا في نوع العقد بعد الهلاك إلا أن الجواب عنه أن الاختلاف في نوع العقد بعد القبض إنما يوجب التحالف إذا كان إيجاب التحالف يفيد ثمرته وهو التراد كما في صبغ يوجب الزيادة وكما في بيع العين فإنهما متى حلفا ولم يثبت واحد من العقدين، فإنه يجب رد العين إن كان قائماً ورد القيمة إن كان هالكاً، فكان التحالف مفيداً ثمرته أما ها هنا التحالف لا يفيد ثمرته التراد، ولا يجب التراد متى حلفا ولم يثبت واحد من العقدين عند أبي حنيفة رحمه الله لا يجب رد العمل؛ لأنه غير ممكن ولا رد القيمة لأن مجرد العمل لا يتقوم بغير عقد وهنا يصير بغير عقد متى حلفا، فلهذا لم يجب التحالف وإذا لم يجب التحالف جعلنا القول قول رب الثوب؛ لأنه ينكر الأجر ويقوم عمله.

وكان الجواب في هذه المسألة عند أبي حنيفة كالجواب عند الكل فيما إذا اختلفا في نوع العقد في مسألة الحمل والقصارة وثمة لا يتحالفان عندهم جميعاً وعندهما يتحالفان ومتى حلفا يجب على رب الثوب قيمة ما زاد الصبغ، فيه فيفيد التحالف، ثمرته وهو التراد عندهما فيتحالفان عندهما كما في بيع عين بعد الهلاك عند الكل.
قال: ولو أن رجلاً اختلف هو والقصار في أجر ثوب، فقال: القصار عملته بربع درهم وقال رب الثوب: عملته بقيراط فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل أو بعد الفراغ من العمل، فإن اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل أو بعد الفراغ من العمل، فإن اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل فإنهما يتحالفان ويترادان وهكذا الجواب فيما تقدم من المسائل لو اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل تحالفا وترادا وذلك؛ لأن الإجارة نوع بيع فإنه بيع المنفعة فيعتبر بيع العين.
ولهذا لم يثبت الحيوان ديناً في الذمة في الإجارة كما في بيع العين وفي بيع العين، لو اختلفا في مقدار البدل حال إمكان الفسخ يتحالفان ويترادان فكذلك هذا فأما إذا اختلفا في مقدار الأجر بعد الفراغ من العمل، ذكر أن القول قول رب الثوب مع يمينه ولم يحكم قيمة ما زاد القصارة فيه.

فرق بين هذا وبين مسألة الصباغ إذا صبغه بعصفر أو زعفران، ثم اختلفا في مقدار الأجر فإنه يعتبر قيمة ما زاد الصبغ فيه.
ووجه الفرق بينهما أن يحكم قيمة ما زاد الصبغ فيه حال اختلافهما في مقدار الأجر ممكن؛ لأن لإيصال هذا الصبغ ثبوته موجب معلوم على صاحب الثوب لو حصل من غير عقد وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه فيجعل ذلك موجب العقد حال اختلافهما في التسمية كأنهما تصادقا على ذلك، ثم ادعى أحدهما ما يغيره إما إلى زيادة أو نقصان ما ليس لاتصال القصارة وينوب غيره موجب معلوم لو جعل بغير عقد فإن من قصر ثوب إنسان بغير عقد فإنه لا يضمن صاحب الثوب له شيئاً إن قصر من غير مال اتصل به فلا إشكال؛ لأن المتصل ثبوته مجرد عمل ومجرد العمل لا يتقوم من غير عقد فلا شبهة عقد وإن قصر

(7/539)


بمال اتصل به من بياض البيضة وغيره فكذلك أيضاً؛ لأن ما اتصل ثبوته ليس عين مال قائم لا في الحال ولا في الثاني في الحال فلا إشكال؛ لأن المتصل بالثوب أثر مال لا عين مال وكذلك في الثاني إذا فصل من الثوب ما اتصل من بياض البيضة وغيره بالغسل لا يكون المنفصل منه في نفسه مالاً متقوماً وإذا لم يكن المتصل بالثوب عين مال قائم وإنما هو أثر مال لا غير لم يجب على صاحب الثوب شيء متى حصل بغير عقد بخلاف الصبغ؛ لأن ما اتصل بالثوب من الصبغ عين مال.
ألا ترى أنه متى فصل عن الثوب كان مالاً متقوماً لا بأس ثم استأجر ثوب آخر وعين المال القائم متقوم من غير عقد ولا شبهة عقد، وإذا لم يكن للقصارة موجب معلوم على صاحب الثوب لو حصل بغير عقد لم يمكن أن يجعل ذلك موجب حال اختلافهما في مقدار المسمى حتى يجعل كأنهما اتفقا عليه ثم ادعى أحدهما ما يغيره إما إلى زيادة أو نقصان.
وإذا لم يكن إثبات شيء آخر سوى المسمّى، يوجب العقد وجب اعتبار اختلافهما في المسمى والاختلاف متى وقع في مقدار المسمى حال ما لا يمكن فسخ العقد فإنه يجعل القول قول المنكر للزيادة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ولا يتحالفان كما في بيع العين.

فأما على قول محمد رحمه الله: هل يتحالفان؟ لم يذكر هذا في الكتاب ومشايخنا في ذلك مختلفون فمن مشايخنا قال يتحالفان على قول محمد على قيمة العمل وهو أجر المثل وما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومنهم من يقول على قول محمد لا يتحالفان في باب الإجارة بعد الفراغ من العمل وظاهر ما ذكر في «الكتاب» يدل على هذا فإنه لم يذكر خلافاً، وإنما اختلفوا على قوله اختلافهم في ثكنة محمد رحمه الله في بيع العين إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة بأي سبب تجب القيمة على المشتري عند بعضهم إنما تجب القيمة حكماً لفساد العقد؛ لأنهما اتفقا على العقد واختلفا في التسمية.

وإذا تخالفا لم يثبت واحد من المسميين فكأنه باع ولم يسم الثمن ولو باع ولم يسم الثمن كان البيع فاسداً فيجب رد العين إذا كان هالكاً فمن قال بإن مكنه في تلك المسألة بهذا قال: يجب هاهنا أن يتحالفا؛ لأن التسمية إذا لم تثبت تفسد الإجارة كأنه استأجره ولم يسم له أجراً فيجب رد أجر المثل بعد استيفاء العمل فيكون التحالف مفيداً على قول محمد، فيتحالفان عنده أيضاً.
ومنهم من قال: مكنه في تلك المسألة أن القاضي يفسخ العقد بعد التحالف متى طلبا أو طلب أحدهما فيجب على قابض العين رد العين إن كان قائماً ورد القيمة إن كان هالكاً بسبب انفساخ العقد أو لأنه لما لم يثبت واحد من العقدين لما حلفا في العين في

(7/540)


يده بغير عقد إلا أن العين (42أ4) متقوم بعقد وبغير عقد، فمن قال بأن مكنه هذه في تلك المسألة يقول: هاهنا لا يتحالفان؛ لأن القاضي إما أن يفسخ الإجارة أو لا يقض بواحد من العقدين متى حلفا، ومتى فسخ الإجارة أو لم يقض بواحد من العقدين فإنه لا يجب رد القيمة؛ لأن العمل يبقي بغير عقد والعمل لا يتقوم بغير عقد، وإذا لم تجب القيمة لم يجب التحالف؛ لأن ثمرته التراد إما رد العين أو رد القيمة حتى يصل كل واحد منهما إلى رأس ماله فيجيء حق كل واحد منهما وها هنا يبطل حق القصار أصلاً، وهذا لا وجه له إنما ذكرنا اختلاف المشايخ على قول محمد رحمه الله في مسألة القصارة ولم يذكره في الصبغ وذلك؛ لأن اختلاف المتعاقدين في الصبغ ليس في موجب العقد بل فيما يغير موجب العقد لما ذكرنا أن موجب العقد في باب الصبغ حال اختلافهما في مقدار التسمية ما يكون موجب الصبغ لو حصل بغير عقد كأنهما اتفقا أن العقد على ذلك عقد ثم اختلفا فيما يغيره إلى زيادة أو إلى نقصان ومثل هذا الاختلاف في بيع العين لا يوجب التحالف متى لم توجد الدعوى والإنكار من الجانبين وفي فعل القصارة الاختلاف وقع في موجب العقد لا في المغير؛ إذ ليس ها هنا موجب آخر سوى التسمية والاختلاف متى وقع في مقدار المسمى فإنه يجب التحالف.
إذا أمكن رد المعقود عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أو رد قيمته عند محمد.

فإن قيل: كيف يقال ليس للقصارة موجب والقصار متى قصر الثوب، فإن له أن يحبس الثوب بالأجر كما في الصباغ فإذا لحقت القصارة في حق الحبس بالصبغ فكذا في حق أن يجعل له موجب حال اختلافهما في مقدار التسمية يجب أن يلحق بالصبغ. والجواب عنه من وجهين:
الأولى: أن يقال: بأن القصارة إنما لحقت بالصبغ في حق الحبس لأن الحبس؛ إنما يكون حال قيام العقد والقصارة متقومة حال قيام العقد فإذا كان له أثر في الثوب وهو متقوم حال قيام العقد كان الأجر مقابلاً به فكان له الحبس بالأجر كما في الثوب المصبوغ، فأما في غير حالة العقد فلا قيمة له لما ذكرنا وإنما يجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار التسمية ما يجب في غيرها حالة العقد كأنهما اتفقا عليه فإذا لم يكن لاتصال القصارة بالثوب في غيرها حالة العقد موجب لم يكن تحكيمه وجعله موجب العقد حال اختلافهما في مقدار الأجر فوجب اعتبار اختلافهما في مقدار المسمى.

والثاني: أن القصار يشبه الحمال والمكاري من حيث إنه ليس في الثوب عين مال قائم ويشبه الصباغ من حيث إن له عمل وأثر مال فوفرنا على الشبهين حظهما، فألحقناه بالحمال والمكاري في حق التحالف فلم يجب التحالف كما في المكاري والحمال وجعلنا القول قول صاحب المال وفي حق الحبس ألحقناه بالصبغ توفيراً على الشبهين حظهما هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر.
وكذلك إذا اختلفا في حبس الأجر أنه دراهم أو دنانير أو في صفته أنه جيداً ورديء يتحالفان إذا كان الاختلاف قبل الشروع في العمل، وإن كان الأجرة عيناً إن اختلفا

(7/541)


في حبسه أو قدره يتحالفان، ولو اختلفا في صفته لا يتحالفان والقول قول المستأجر بخلاف ما إذا كانت الأجرة ديناً.
وقد ذكر الفرق في كتاب البيوع متى إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين وبينما إذا اختلفا في صفته وهو عين فهذا بناء على ذلك، وإذا اختلفا في مقدار الترك وكان ذلك قبل استيفاء المنفعة تحالفا كما في بيع العين فبعد ذلك إن كان الاختلاف في الأجر بدأ بيمين المستأجر وإن كان الخلاف في المنفعة بدأ بيمين المؤاجر؛ وهذا لأن اليمين حجة المنكر فمن كان اسهما إنكاراً بدأ بيمينه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المؤاجر كان الخلاف في الأجرة وإن كان الخلاف في المنفعة فالبينة بينة المستأجر؛ لأن النيات شرعت الإثبات مما كان أكثر إثباتاً كانت أولى بالقبول.
ولو ادعى المؤاجر فضلاً فيما يستحقه من الأجر وادعى المستأجر فضلاً فيما يستحقه من المنفعة، فالأمر في الاستحلاف على ما بينا، وإن أقاما البينة قبلت بينة كل واحد منهما على الفصل الذي يستحقه نحو أن يدعي الأجر شهراً بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة وأقاما البينة يقضي بشهرين بعشرة؛ لأن بينة كل واحد منهما تثبت زيادة فتقبل بينة كل واحد منهما على تلك الزيادة فإن لم يكن لواحد منهما بينة وقد استوفى بعض المنفعة فالقول قول المستأجر فيما مضى مع يمينه ويتحالفان ويفسخ العقد فيما بقي؛ لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في حق كل جزء من المنفعة كان العقد انفرد فيه.

وإن كان اختلافهما في الأجر في نوعين بأن ادعى أحدهما دراهم والآخر دنانير فالأمر في التحالف والنكول وإقامة أحدهما البينة على ما بينا، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الآجر؛ لأن الآجر ثبت حقاً له فكان هو أشبه المدعين فتكون بينته أولى بالقبول، وإن اختلفا في المدة مع ذلك أو في المسافة بأن قال المؤاجر: أجرتك إلى القصر بدينار وقال المستأجر: بل إلى الكوفة بعشرة دراهم وأقاما البينة فهي إلى الكوفة بدينار وخمسة دراهم لأنهما اختلفا في الأجر إلى القصر وكما بينه الآجر أولى لأنها أكثر إثباتاً فقضينا إلى القصر بدينار، ثم المستأجر يدعي من القصر إلى الكوفة بخمسة دراهم والآجر ينكر أصل العقد فكانت بينة المستأجر أولى؛ لأنها تثبت الإجارة.
k

نوع آخر
إذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قباء، وقال الخياط: أمرتني أن أقطعه قميصاً، فالقول قول رب الثوب؛ لأن الأذن من قبله يستفاد فكان القول قوله فيما أذن فيه قال: والخياط ضامن وقال ابن أبي ليلى: القول قول الخياط ولا ضمان عليه؛ لأنهما اتفقا على الأذن في القطع فرب الثوب يدّعي عليه تقييده بصفة زائدة ويدعي وجوب الضمان عليه وهو ينكر وإنما يقول القول قول رب الثوب في الإذن وإن ادعى تقييداً؛ لأنه ما أقر بحصول الإذن على ذلك الوصف.
ولو أنكر الإذن أصلاً كان القول قوله، فإذا أنكر الإذن إلا بصفة تكون قول قوله

(7/542)


فإذا لم يوجد على الوصف الذي أذن يجب الضمان عليه قال: وإن شاري الثوب أخذه وأعطاه أجر مثله؛ لأنه أمتثل لأمر في أصل ما أمره وهو القطع والخياطة ولكن قد يغير الوصف، فكان لصاحب الثوب الرضا به.

وقال بعض أصحابنا: بأن منفعة القميص والقباء يقع على وجه واحد وإنما تختلف الأعراض فقد وجد المعقود عليه مع العيب وكانوا يقولون: لو قطعه سراويلاً لم تجب الأجرة؛ لأنه نوع آخر من المنفعة فلم يوجد المعقود عليه قالوا: والرواية بخلاف هذا فإنه روي عن محمد أنه لو دفع شبهاً إلى رجل ليضرب له طستاً فضرب كوزاً فارسياً ضمنه مثل شبهه، فإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثل ما عمل فكذا في السراويل يجب أن يكون كذلك وإنما أوجبنا أجر المثل؛ لأن المستعمل لم يرض بالمسمى إلا على صفة مخصوصة، فإذا لم يسلم له على ذلك وجب أجر المثل ولا يجاوز المسمى.
وروي عن أبي يوسف إذا أمره أن ينزع غرساً له بأجر فنزع فقال الآمر: أمرتك بغير هذا فالقول قول الآمر مع يمينه (42ب4) وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذا لو أمره أن يقطع شيئاً من جسده أو يبط فرجه لما بينا أن الأمر من قبله يستفاد، فكان القول قوله.
قال: ولو أعطى صباغاً ثوباً ليصبغه ثم اختلفا فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه بالعصفر، وقال الصباغ: بالزعفران، فالقول قول رب الثوب لما ذكرنا أن الأمر من قبله يستفاد قال ولو دفع إلى نداف ثوباً يندف عليه قطناً وأمره أن يزيد من عنده ما رأى فجاء وقد ندف عشرين أستار، فقال صاحب الثوب: دفعت إليك خمسة عشر أستار وأمرتك أن تزيد، فلم تزد إلا خمسة وقال النداف: دفعت إلي عشرة وأمرتني أن أزيد عشرة وقد زدت فالقول قول النداف وعلى صاحب القباء أن يدفع إليه عشرة أساتير من قطن؛ لأن صاحب الثوب مقراً به لم يخالف لكنه يدعي أنه دفع إليه خمسة أستاراً فكان القول قول النداف في مقدار ما قبض فتبقى العشرة زيادة فيضمنها صاحب الثوب.

ولو اختلفا فيما أمر به أيضاً، فقال لصاحب الثوب: دفعت إليك خمسة عشر وأمرتك أن تزيد خمسة عشر، وقال النداف: دفعت إلى عشرة وأمرتني أن أزيد عشرة فزدت وصاحب الثوب بالخيار إن شاء صدقه ودفع إليه عشرة أساتير وإن شاء أخذ قيمة ثوبه ومثل عشرة أساتير، وكان الثوب للنداف؛ لأن صاحب الثوب يدعي الخلاف فكان القول قوله فيما أمر به، والقول قول النداف في مقدار ما قبض والله أعلم.

نوع آخر
ولو دفع إلى خياط ثوباً ليقطعه قباء ودفعه إليه البطانة القطن فجاء به فقال رب الثوب: البطانة ليست ببطانتي، فالقول قول الخياط مع يمينه ألبسه أنها بطانته؛ لأن البطانة أمانة في يده أو مضمون عليه وأيهما كان كان القول قوله قال: ويسع لرب الثوب أن يأخذ البطانة ويلبسها؛ لأنها إن كانت بطانته حل له لبسها وإن كانت غيرها فقد دفع إليه الخياط بدل بطانته فيجعل له اللبس.
قال: وكذلك لو أعطى حمالاً متاعاً ليحمل من موضع إلى موضع ثم اختلفا، فقال

(7/543)


رب المتاع: ليس هذا متاعي، وقال الحمال: هذا متاعك، فالقول قول الحمال مع يمينه لما ذكرنا ولا يكون على الآجر أجر إلا أن يصدقه ويأخذه؛ لأنه لم يعترف باستيفاء المنافع.
قال: والنوع الآخر والنوعان في هذا سواء إلا أنه في النوع الواحد أفحش وأقبح يريد بهذا أنه لو حمله طعاماً أو زيتاً، فقال الحمال: هذا طعامك بعينه، وقال رب الطعام: كان طعامي أجود من هذا فإن يفحش أن يكون القول قول رب الطعام ويبطل الأجر ويحسن أن يكون القول قول الحمال ويأخذ الأجر إذا كان قد حمله، فأما إذا كانا نوعين مختلفين بأن جاء به شعيراً، وقال رب الطعام: كان طعامي حنطة لم يجب له الأجر حتى يصدقه؛ لأنه إذا اتحد الجنس فرب الطعام يملك أن يأخذه عوضاً عن طعامه؛ لأن الحمال قد بدل ذلك فإذا حصل له العوض سلمت له المنفعة، فأما في النوعين فلا يسعه أن يأخذ النوع الآخر إلا بالتراضي والبيع مما لم يصدقه لا يستحق عليه الأجرة.

نوع آخر
المؤاجر إذا وجد بالآخر عيباً وأراد أن يرده على المستأجر فهذا على وجهين: إما أن يصدقه المستأجر في ذلك أو يكذبه والأجرة عين كثوب بعينه أو حنطة بعينها أو كان ديناً بأن كانت الأجرة دراهم أو دنانير أو مكيلاً أو موزوناً في الذمة سوى الدراهم والدنانير، فإن صدقه المستأجر كان له أن يرده على المستأجر سواء كانت الأجرة ديناً أو عيناً؛ لأن العيب يثبت بتصادقهما كما في بيع العين وإن كذبه المستأجر وقال: ما أعطيتك هذا إن كانت الأجرة ديناً ولم يكن أقر المؤاجر بقبض الجياد ولا بالاستيفاء وإنما أقر بقبض الدراهم لا غير.
فالقياس أن يكون القول قول المردود عليه وهو المستأجر.
وفي الاستحسان يكون القول قول الراد مع يمينه وهو المؤاجر، وقد ذكرنا جنس هذا في كتاب البيوع هذا إذا لم يقر بقبض الجياد، فأما إذا أقر بقبض الجياد بأن قال: قبضت الجياد، أو قال: قبضت الأجر أو استوفيت فإنه لا يصدق؛ لأن الاستيفاء عبارة عن أخذ الحق بتمامه فيصير مقراً بقبض الجياد، وكذلك إذا قال: قبضت الأجر؛ لأنه أضاف القبض إلى الأجر والأجر سليم عن العيب فيضمن ذلك إقراراً بالجياد ولا تقبل بينة المؤاجر على ذلك؛ لأنه مناقض في الدعوى، فأما إذا كان عيناً فالقول قول المردود عليه قياساً واستحساناً كما في بيع العين وقد ذكرنا الفرق بين الأمرين في كتاب البيوع فلا نعيد ذكره.
ولو استأجر فاميّ من رجل بيتاً فباع فيه زماناً ثم خرج منه، واختلفا فيما فيه من الرفوف وأشباهه فقال رب البيت: كان هذا في بيتي حين استأجرته، وقال المستأجر: لا

(7/544)


بل أحدثته، فالقياس أن يكون القول قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه بائع الأرض والبناء تكون هذه الأشياء مركباً بالأرض، والبناء والأرض لرب الدار فكذلك ما كان تبعاً للبناء والأرض يكون له.
ألا ترى أنهما لو اختلفا في خشب السقف أو في الباب المركب أو في العلو كان القول قول المستأجر.

ووجهه أن العرف فيما بين الناس أن المستأجر هو الذي يحدث هذه الأشياء فكان العرف شاهد للمستأجر فالتبعية بسبب التركيب شاهد لرب الدار أنه له فلم صار شاهد المستأجر أولى من شاهد رب الدار.
والجواب عنه أن يقال: بأن التركيب محتمل بين أن يكون من المستأجر وبين أن يكون من صاحب العمل؛ لأن كل واحد منهما يحدث ذلك وله فعله فقد استويا في التركيب ثم يرجح الحدوث من المستأجر بدلالة العرف فصار شاهد المستأجر أولى من هذا الوجه، وهكذا الجواب في الطحان وسائر الصناع إذا اختلفا فيما يحدثه الصناع في العرف والعادة دون الآجر، فالمسألة على القياس والاستحسان، والحاصل في جنس هذه المسائل أن كل شيء يحدثه المستأجر عادة لحاجته إليه، فالقول قول المستأجر.

ولو اختلف رب الدار والمستأجر في بناء من بناء الدار غير ما ذكرنا أو في باب أو في خشبة أدخلها في السقف، فقال رب الدار: أنا أجرتك وهذا فيها وقال المستأجر: بل أنا أحدثت فإن القول في هذا قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه تابع لأرضه وبنائه ولا عرف أن المستأجر هو الذي يحدث ذلك فيكون لرب الدار وما كان له في الدار من لبن موضوع رطب أو يابس أو جذع موضوع أو آجر أو جص فهو للمستأجر؛ لأنه في يده حقيقة وحكماً ولم يعرف كونه في يد صاحب الدار فيكون القول قول المستأجر.
وإنما قلنا: إنه في يده أما حقيقة فلا إشكال وأما حكماً فلأنه ليس بتابع للدار؛ لأنه غير مركب فيه بل موضوع فيه، فإن أقاما جميعاً البينة على ذلك ففي كل شيء جعل قول المستأجر قال: ألحقه رب الدار؛ لأن رب الدار يدعي خلاف الظاهر.
ولو اختلفا في الجص أو في السيرة أو في التنور، فالقول فيه قول رب الدار قيل: هذا في التنور، بناء على عرفهم أما في عرفنا فالقول قول المستأجر؛ لأن المستأجر هو الذي في يده في عرفنا.

ولو انهدم بيت من الدار فقال المستأجر: نقضه لي وقال رب الدار: بل هو لي إذا عرف انهدام فالقول قول رب الدار وإن كان النقض منقولاً فالقول قول المستأجر لكونه في يده لأن هذا مشغول وإن كان في يد المستأجر حقيقة إلا أنه عرف كونه في يد صاحب الدار إذا عرف أنه ينقض بيت انهدم، وفي المنقول إنما يجعل القول قول ذي اليد إذا لم يعرف أنه في يد المدعي (43آ4) فأما إذا علم فالقول قول المدعي وإن كان لا يعرف فالقول قول المستأجر؛ لأنه في يده ولم يعرف أنه في يد المدعي وإن كان رب الدار أمر المستأجر أن يبني في الدار على أن يحسب له ذلك من الأجر واختلفا فقال المستأجر: أمرتني بالبناء وقد بنيت وقال رب الدار: لم يبن فالقول قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه

(7/545)


يدعي عليه زيادة ورب الدار ينكر قالوا: هذا إذا كان مشكل الحال بأن اختلف في ذلك أهل تلك الصناعة.
فقال بعضهم: كما يقول رب البيت إنه يذهب في نفقة مثل هذا البناء قدر ما يدعيه رب البيت، وقال بعضهم: لا بل يذهب قدر ما يقوله المستأجر حتى يقدر معرفة قول أحدهما من جهة العين فتعتبر الدعوى والإنكار والمستأجر يدعي زيادة إيفاء ورب الدار ينكر فيكون القول قوله فأما إذا أجمع أهل تلك الصناعة على قول أحدهما، وقالوا: يذهب من التفت في مثل هذا البناء ما يقوله أحدهما، فالقول قوله؛ لأنه أمكن معرفة ما وقع التنازع فيه من جهة غيرها لا يلتفت إلى قولهما.

ولو كان على باب بيتهما مصراعين أحدهما ساقط والآخر معلق بالباب واختلفا في الساقط فالقول قول رب الدار إذا عرف أنه أجود وإن كان منقولاً فالقول قول المستأجر في المنقول إنما كان كذلك؛ لأنه عرف كونه في يدرب الدار لما عرف أنه أخ المعلق وفي مثل هذا القول قول رب الدار على ما مر.

ولو كان بيتاً سقفه مصور لجذوع مصورة فسقط جذع منها فكان مطروحاً في البيت فاختلف رب الدار والمستأجر فيه فقال رب الدار: هو سقف هذا البيت وقال المستأجر: بل هو لي وهو يقرأن تصاويره يوافق لتصاوير البيت فإن القول في ذلك قول رب الدار مع يمينه وإن كان منقولاً؛ لأنه منقول عرف كونه في يدرب الدار لما كان تصاويره موافقاً للتصاوير التي كان على السقف.
إذا تكارى منزلاً من رجل في الدار وفي الدار ساكن كل شهر بدرهم فأدخله في الدار وخلى بينه وبين المنزل وقال: اسكنه فلما جاء رأس الشهر طلب رب المنزل الأجر فقال المستأجر: ما سكنه حال بيني وبين المنزل ففيه كان يسكن في الدار أو غاصب ولا بينة له بذلك والساكن مقر بذلك أو جاحد لا يلتفت إلى قول الساكن؛ لأنه شاهد على الغير أو مقر وشهادة الفرد والإقرار على الغير لا يقبل قول الساكن يبقى بالاختلاف بين الآجر والمستأجر ينظر في ذلك إن كان المستأجر هو الساكن في الدار حالة المنازعة، فالقول قول رب الدار وعليه الأجر.
وإن كان الساكن في المنزل غير المستأجر، فالقول قول المستأجر ولا أجر عليه وذلك لأن كل الأجر لا يستحق بنفس العقد ولا بأصل التسليم وإنما يستحق كل الأجر بدوام التسليم من ابتداء المدة إلى آخرها ودوام التسليم ثابت باستصحاب الحال لا بدليل يوجب الدوام وذلك؛ لأن ما ثبت إن كان على البقاء ما لم يقم دليل الزوال فمن الجائز أنه زال التسليم بعدما وجب بدليل أوجب زواله بأن غصب منه غاصب.
وهذا هو حد استصحاب الحال والثابت باستصحاب الحال ثابت من وجه غير ثابت من وجه ولهذا صلح الدفع ولم يصلح الاستحقاق وجميع الأجر غير واجب فلا يمكننا إيجابه بدوام تسليم ما ثبت باستصحاب الحال ما لم يترجح ما يوجب دوام التسليم على ما يوجب زواله فحكمنا في ذلك الخلل.

(7/546)


وقلنا: بأن كان الساكن هو المستأجر يرجح ما يوجب داوم التسليم على ما يوجب زواله فكان الحكم له وإذا كان الساكن غير يرجح ما يوجب زوال الدوام على ما يوجب دوامه، فكان الحكم له.
ونظير ما لو وقع الاختلاف بين مستأجر الطاحونة والآجر بعد انقضاء مدة الإجارة في جريان الماء وانقطاعه فيما مضى فإنه يحكم الحال إن كان الماء جارياً حالة المنازعة فالقول قول من يدعي دوام التسليم وإن كان الماء منقطعاً، فالقول قول من يدعي زوال الدوام فكذلك هذا.

فإن قيل: المستأجر أقر بالتسليم في الابتداء، فهذا جعل ذلك حكماً على بقاء التسليم في آخر المدة وحكمنا على بقاء التسليم فيما مضى والجواب عنه أن كل الأجر مما لا يستحق بأصل التسليم؛ لأن منافع المدة معدومة للمال وإنما يوجد ساعة فساعة فيجعل التسليم موجوداً ساعة فساعة كالعقد سواء وإذا كان لا يستحق كل الأجر بأصل التسليم الموجود في الابتداء لا يمكننا أن نجعل التسليم الموجود في الابتداء حكماً على دوامه وإذا كان يستحق بدوام التسليم إلى آخر المدة أمكننا أن نجعل قيام التسليم في آخر المدة حكماً على وجوده فيما مضى إذا لم يعرف وجود المانع من التسليم فيما مضى.
رجل تكارى من رجل بيتاً كل شهر بدرهم، فلما جاء رأس الشهر طلب رب البيت أجر البيت فقال المستأجر: إنما أعرتنيه بغير أجر أو أسكنتيه بغير أجر وصاحب الدار ينكر ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول الساكن مع يمينه؛ لأن صاحب البيت يدعي عليه أجراً والمستأجر ينكر فيكون القول قوله وإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة صاحب المنزل؛ لأنه هو المدعي فإنه ادعى عليه أجراً وأثبته بالبينة.

وكذلك إذا قال الساكن: إن الدار داري ولا حق لك فيها فالقول قول الساكن مع يمينه؛ لأن الآجر ادعى عليه سين الأجر وكون الدار ملكاً له أو الساكن أنكر الأمرين جميعاً، فيكون القول قوله فيهما في الأجر؛ لأنه ينكر وجوب الأجر في ذمته وفي الدار؛ لأن الدار في يده فإن قال الساكن: الدار لفلان وكلني بالقيام عليها، فالقول قول الساكن ويكون خصماً للمدعي؛ لأنه ادعى عليه الأجر وكون الدار ملكاً له والمستأجر أنكر الأجر فكان القول قوله.
وادعى أن يده في الدار يد غيره حتى يندفع عن نفسه خصومته في الدار فلا تندفع عنه الخصومة بمجرد قوله: إن يده في الدار يد غيره ما لم يقم البينة على ما ادعى عندنا.
وإن قال المستأجر: إنك وهبتني المنزل فلا أجر لك وقال الآجر: بل أجرتك فالقول قول المستأجر في الأجرة، لأن صاحب المنزل يدعي عليه الأجر والمستأجر ينكر وفي الدار القول قول صاحب المنزل؛ لأن المستأجر أقر بكون الدار ملكاً له وادعى التملك من جهة وأنكر صاحب المنزل، فيكون القول قوله وإن أقاما جميعاً البينة تؤخذ ببينة الموهوب له؛ لأنا نجعل كأن الأمرين كانا يجعل كأنه أجر منه ثم وهب له بعد العقد.

(7/547)


ولو كان كذلك ثتبت الهبة ولم يكن عليه أجر، فكذا هذا بخلاف ما إذا ادعى الساكن العارية وصاحب المنزل يدعى الإجارة وأقاما جميعاً، فإن البينة هناك بينة صاحب المنزل وفي الحقيقة لا فرق؛ لأنا نجعل كأن الأمرين كانا أجر منه ثم أعار منه بعد الإجارة إلا أن الإجارة لا ترتفع بالإجارة وترتفع بالهبة وهذا كله إذا لم يكن أقر الساكن بأصل الكراء.

فأما إذا أقر بأصل الكراء ثم ادعى الهبة أو العارية فإنه لا يصدق وعليه الأجر إلا أن يقيم بينة؛ لأن الإجارة تثبت بإقراره والهبة والعارية لم تثبت بمجرد دعواه إلا أن يقيم البينة على الهبة فحينئذٍ لا أجر عليه؛ لأن الهبة تثبت بالبينة وللمستأجر خيار الرؤية إن لم يكن رأى المستأجر اعتباراً لبيع المنفعة ببيع العين فإن اختلفا فقال صاحب الدار قد كنت رأيت وقال المستأجر: لم أر فالقول قوله، لأنه متمسك بالأصل فإن عدم الرؤية أصل فإذا حلف أنه لم يرها يردها إلا أن تقوم بينة أنه قد راًها.
رجل تكارى منزلاً من رجل في داره على أن أجره أن يكفيه وعياله نفقتهم ومؤنتهم ما دام في الدار، فالإجارة فاسدة؛ لأن الأجر مجهول فإنه لا يدري قدر ما يكفيهم وجهالة الأجر مما يوجب فساد الإجارة؛ فإن سكن كان عليه أجر المثل (43ب4) كما في سائر الإجارات الفاسدة؛ فإن قال المستأجر: أنفقت على عيالك وقال صاحب المنزل: لم تنفق فالقول قول صاحب المنزل؛ لأنه يدعى عليه الإيفاء؛ لأن ما أنفق على عياله بأمره يكون ديناً عليه وله عليه مثله فيلتقيان قصاصاً فيدعي الإيفاء من هذا الوجه وإنه ينكر، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر؛ لأنه يدعي الإيفاء وبينته بالبينة ويحسب له ما قامت من البينة من أجر مثلها؛ لأن ما أنفق صار ديناً على رب المنزل وأجر المثل دين لرب المنزل عليه فيلتقيان قصاصاً.
رجل تكارى داراً شهراً بعشرة دراهم فسكنها يوماً أو يومين ثم تحول إلى دار أخرى كان للآجر أن يطالبه بأجر جميع الشهر؛ لأن الإجارة لازمة في الشهر فلا يملك فسخها إلا بعذر وأن يتحول من دار إلى دار أخرى لا يكون عذراً فإن قال إنما استأجرتها يوماً واحداً فالقول قوله؛ لأنه أقر بالإجارة في يوم وأنكر الإجارة في باقي الشهر، ولو أنكر الإجارة أصلاً ورأساً كان القول قوله، فكذا إذا أقر بالبعض وأنكر البعض، فإن أقاما البينة فالبينة بينة الآجر؛ لأنه يثبت الإجارة فيما زاد على اليوم ببينة.
وإذا استأجر من آخر داراً شهراً بدرهم فسكنها شهرين فعليه أجر الشهر الأول دون الشهر الثاني وقد مرت المسألة من قبل، فإن انهدم شيء من سكناه في الشهر الثاني يضمن ولا ضمان فيمن لا ينهدم من سكناه في الشهر الأول فإن اختلفا فيما انهدم فقال المستأجر: إنما انهدم من سكناك في الشهر الثاني فعليك الضمان، فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه ضمان ما انهدم وهو ينكر فيكون القول قوله والبينة بينة صاحب الدار؛ لأنه هو المدعي.

رجل تكارى بيتاً أو داراً على أن يسكنها شهراً فأعطاه صاحب المنزل المفتاح فلما

(7/548)


مضى الشهر جاء رب المنزل يطلب الأجر فقال المستأجر: لم أقدر على فتحه وقال الآجر: بل قدرت على فتحه وسكنت ولا بينة لهما، فإنه ينظر إلى المفتاح الذي دفع إليه للحال إن كان مفتاحاً يلائم هذا الغلق ويمكن فتح الباب به فالقول قول رب الدار ولا يصدق المستأجر في قوله لم أقدر على فتحه، وإن كان ما دفع من المفتاح مفتاحاً لا يلائم الغلق ولا يمكن فتح الباب به فالقول قول المستأجر وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة رب المنزل، وإن كان المفتاح مفتاحاً لا يلائم الغلق؛ لأنه لا عبرة لتحكيم الحال متى جاءت البينة بخلافه كما في مسألة الطاحونة لو أقام المستأجر بينة أن الماء كان منقطعاً فيما مضى، فإنه يقضي بالبينة وإن كان جازماً للحال فكذلك هذا.
فإن قيل: إذا كان المفتاح لا يلائم الغلق فكيف تقبل البينة على أنه كان يقدر على فتحه قلنا: إنما يقبل إذا كان رب المنزل يدعي أنه كان يلائم الغلق ولكن غيره والمستأجر يقول: لا بل لم يكن ملائماً من الأصل فتقبل البينة على ما يدعيه رب البيت والله أعلم.

نوع آخر

إذا استأجر الرجل من آخر حماماً مدة معلومة ثم اختلفا في قدر الحمام إنه للمستأجر أو لصاحب الحمام فالقول قول صاحب الحمام؛ لأنه مركب في بنائه ولا عرف في أن المستأجر يحدث ذلك بخلاف الآتون؛ لأن العرف أن المستأجر هو الذي يتولى ذلك فكان الحكم في الموضعين جميعاً العرف ولو انقضت مدة الإجارة وفي الحمام رماد كثير وسرقين كثير فقال رب الحمام: السرقين لي وقال المستأجر: هو لي وأنا أتقلد فالقول قول المستأجر إذا لم يعرف كون المدعي به في يد صاحب الحمام على ما مر قبل هذا، فأما الرماد فإن كان ذلك من عمل المستأجر وكان مقراً بذلك فعليه أن ينقله، لأنه صار مشغولاً من جهته وقد أمكن تفريغه من غير نقض شيء من البناء فيكون على المستأجر تفريغه كما لو كان مشغولاً بأمتعته، فإن جحد أن يكون من عمله فالقول قوله لأن صاحب الحمام يدعي عليه تفريغ هذا المكان وهو ينكر؛ ولأنه يدعي تسليم هذا المكان في الحاصل والمستأجر ينكر؛ لأن الشغل يمنع التسليم فيكون القول قوله.
w

نوع آخر
وإذا استأجرت المرأة حلياً معطوفاً لتلبسه يوماً إلى الليل فهو جائز، فإن ألبست غيرها في ذلك اليوم فهي ضامنة ولا أجر عليها؛ لأن الناس يتفاوتون في لبس الحلي فإن اختلفا فقال رب الحلي: لبسته وقالت: لا بل ألبست غيري، ذكر أن القول قول صاحب الحلي هذا إن هما اختلفا في الأجر، فقال رب الحلي: لبسته بنفسك فعليك الأجر، وقالت المرأة: ألبست غيري فلا أجر علي، قالوا: ويجب أن يكون الجواب فيه على قياس ما ذكر في الدار إذا ادعى أنه غصب منه قال: يُحَكَّم الحال إن لم يكن فيها ساكن غيره وقت المنازعة كان القول قول رب الدار وإن كان فيها ساكن غيره كان القول قول المستأجر.

(7/549)


وكما في مسألة الرحى إذا اختلفا في انقطاع الماء وجريانه فكذا ها هنا يجب أن يحكم الحال إن كان في يدها وقت المنازعة، فالقول قول رب الحلي وإن كان في يد غيرها فالقول قولها، فإن هلك الحلي كان لرب الحلي أن يصدقها ويضمنها؛ لأنه يقر بوجوب الضمان على نفسها فكان لرب الحلي أن يصدقها ويضمنها ولا أجر له كما لو ثبت الإلباس معاينة وإن كذبها فقد أبرأها من الضمان ثم يكون القول قول صاحب الحلي؛ لأن تحكيم الحال متعذر بعد الهلاك وإذا تعذر تحكيم الحال جعل القول قول رب الحلي؛ لأن المستأجر يدعي زوال التسليم بعدما وجد التسليم وصاحب الحلي ينكر فيكون القول صاحب الحلي.

نوع آخر
إذا اختلف رب الدابة والمستأجر ولم يركب بعد فقال المستأجر: أكريتني من الكوفة إلى بغداد بعشرة، وقال رب الدابة: أكريتك من الكوفة بعشرة دراهم إلى قصر والقصر هو المنتصف إن لم يقم لأحدهما بينة فإنهما يتحالفان ويترادان؛ لأنهما اختلفا في بدل عقدي تجارة حال ما يحتمل العقد الفسخ، فيتحالفان ويترادان وإن قامت لأحدهما بينة؛ فإنه يقضي بينة لأنه ادعى أمراً حادثاً وأثبته بالبينة، فإن أقاما جميعاً البينة كان أبو حنيفة يقول أولاً: يقضي إلى بغداد بخمسة عشر درهماً وهو قول زفر رحمهم الله، ثم رجع وقال: يقضي إلى بغداد بعشرة دراهم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وجه قوله الأول: لأن كل واحد منهما ادعى عقداً غير ما يدعيه صاحبه، صاحب الدابة ادعى عقداً إلى المنتصف بعشرة والآخر بخمسة فيجب القضاء بهذا العقد إلى المنتصف بعشرة ببينة صاحب الدابة، وادعى المستأجر من المنتصف إلى بغداد عقداً بخمسة أنكرها رب الدار وأثبتها بالبينة فلا بد من القضاء بها فيجب القضاء بعقدين من هذا الوجه.

ووجه قول الآخر: وهو أنهما اتفقا على أنه ما جرى ما بينهما إلا عقد واحد وقد أمكن القضاء على وفق ما اتفقا عليه بأن لا تقبل بينة رب الدابة، لأنها قامت على إثبات العشرة وإنها ثابتة له بإقرار المستأجر وإذا أمكن رد بينته بقيت بينة المستأجر لا غير، وقد أثبت الإجارة إلى بغداد بعشرة دارهم فيقضى بذلك كما لو تفرد المستأجر بإقامة البينة لا غير.
ونظير هذا ما قالوا جميعاً في بيع العين: إذا ادعى البائع أنه باع منه هذا العبد بألف وادعى المشتري أنه اشترى هذا العبد وهذه الجارية بألف درهم وأقاما جميعاً البينة يقضى بعقد واحد ببينة المشتري؛ لأنهما اتفقا على أنه ما جرى بينهما إلا عقد واحد وقد أمكن القضاء بعقد واحد بأن لا تقبل بينة البائع؛ لأنها قامت على إثبات الألف وهو ثابت له بإقرار المشتري والمشتري ادعى زيادة في المعقود عليه لم يثبت له بإقرار البائع وأثبتها بالبينة فوجب القضاء بعقد واحد فكذلك ها هنا ثم أبو يوسف لا يحتاج إلى الفرق بين هذا وبين (44ب4) السلم؛ لأن المذهب عنده أنه يقضى بعقد واحد ما أمكن وقد أمكن

(7/550)


القضاء بعقد واحد، فأما محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق أنه إنما يقضى بعقدين إذا أمكن (و) القضاء بهما غير ممكن؛ لأن للمنافع حكم العين فمتى صار مستحقاً بعقد لا يمكن أن يجعل مستحقاً بعقد آخر ومنافع هذه الدابة إلى القصر صار مستحقاً بعقد فلا يمكن أن يجعل مستحقاً بعقد آخر فيتعذر القضاء بالعقدين ها هنا.
فأما في باب السلم فرأس المال والمسلم فيه دين ومحل الدين الذمة وفي الذمة سعة فكان القضاء بالعقدين ممكناً فقضينا بهما عملاً بالبينتين.

وإذا استأجر الرجل من آخر دابة ودفعها إليه بغير سرج ولا لجام، وقال: أكريتك عرياناً ولم أكرك بسرج ولا لجام، وقال المستكري: استكريتك بسرج ولجام كان القول قول صاحب الدابة؛ لأنه لو أنكر الإجارة أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أقر بإجارة الدابة وأنكر إجارة السرج والإكاف وهذا بخلاف المسألة الأولى قال: ثمة يتحالفان وهنا قال: لا يتحالفان.
ووجه الفرق بينهما أن في المسألة الأولى اختلفا في بدل المعقود عليه والاختلاف في بدل المعقود عليه يوجب التحالف، فأما في مسألتنا لم يختلفا في بدل المعقود عليه ولا في المعقود عليه بل اختلفا في بيع من توابع المعقود عليه، فكان بمنزلة ما لو اختلفا في بيع العين في شرط يلحق به وثمة لا يتحالفان؛ لأن المشروط اتباع فكذلك هذا.
وإذا تكارى الرجل: دواب من بغداد إلى مدينة الري بأعيانها كانت الإجارة جائزة؛ لأن المعقود عليه معلوم والأجر معلوم، فجازت الإجارة وإنما شرط مدينة الري؛ لأنه لو استأجرها إلى الري كان لا تصح الإجارة على ما يذكره في ظاهر الرواية؛ لأن اسم الري يشتمل على المدينة وعلى الرستاق فإن جوار الري يسمى رياً وهي من مدينة الري بمراحل، وكان بمنزلة من استأجر دابة إلى خراسان لم يجز؛ لأن خراسان تشتمل على أمصار كثيرة فكذلك هذا.
وإذا جازت الإجارة لو أن المكاري باع هذه الدواب من غيره أو وهب أو تصدق أو أجر أو أعار أو أودع فجاء المستكري ووجد الدواب في يد غيره، فأراد أن يقيم البينة على إجارته هل تقبل بينته؟ فهذا على وجهين:

إما أن يكون المكاري حاضراً أو غائباً فإن كان المكاري حاضراً فإنه يقبل بينته عليه، وإن كان يقر أنه أجرها منه، لأن بينة المستأجر قامت على خصم حاضر؛ لأن المستأجر مع الذي في يده الدابة تصادقا أن الملك في الدابة كان للمكاري، والمكاري صدقهما في ذلك فيثبت الملك للمكاري في الدابة بتصادقهم جميعاً فكان المكاري خصماً للمستأجر فتقبل بينته عليه فإن قيل: كيف تقبل بينته والمكاري يقر أنه أجر هذه الدواب منه أولاً كما يدعيه المستكري والبينة لا تقبل على المقر قلنا: المكاري وإن أقر بذلك إلا أنه لم يصح إقراره بحق ذي اليد، وإذا لم يصح إقراره صار وجود هذا الإقرار منه وعدمه بمنزلة.
ونظير هذا ما قالوا فيمن باع من آخر شيئاً ثم ادعى البائع أنه كان باع من غيره أولاً

(7/551)


فإنه لا يصدق فيما أقربه ولو أن الأول أقام البينة على ما ادعى سمعت بينته وإن كان البائع مقراً بذلك؛ لأن إقراره غير مقبول لحق الثاني فصار وجود إقراره وعدمه بمنزلة فقبلت البينة عليه، فكذلك هذا وإذا سمعت بينه المستأجر وكأن المكاري باعه من غيره إن كان باعه بعذر فإن كان عليه دين فادح لم يكن للمستأجر سبيل على الدابة؛ لأن الإجارة تنتقض متى حصل البيع حالة العذر بقضاء قاضٍ على الروايات كلها وبغير قضاء القاضي على عامة الروايات، وفي رواية «الزيادات» لا تنتقض وإذا انتقضت الإجارة لا يبقى للمستأجر على الدابة سبيل.

وإن كان باعها بغير عذر كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة إجارته؛ لأن بيع المستأجر من غير عذر لا يوجب انتقاض الإجارة وإذا أبقى إجارة المستأجر وقد ثبت بالبينة أن إجارته كانت جامعة على بيع الذي في يده الدابة؛ كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة إجارته وما يقول في الكتاب أن البيع مردود، فتأويله إذا فسخ المشتري البيع.
وذلك لأن المستأجر لما كان أحق بالدابة بأجر قبض المشتري فيتخير إن شاء يتربص إلى أن تنقضي مدة إجارته وإن شاء فسخ البيع كما لو اشترى عبداً فأبق قبل القبض فإذا تربص حتى انقضت مدة الإجارة يكون البيع جائز أو لا يكون للمستأجر حق الفسخ؛ لأنه توصل إلى حقه من غير فسخ وإن كان أجر من غيره أو أعار أو وهب أو تصدق كان المستأجر الأول أحق بها إلى أن يستوفي إجارته ثمة تجوز هذه التصرفات ويكون الجواب في حق هذه التصرفات كالجواب فيما إذا باعه بغير عذر؛ لأن العذر لا يستحق في حق هذه الأشياء حتى تنتقض الإجارة هذا الذي ذكرنا إذا كان المكاري حاضراً.
فأما إذا كان المكاري غائباً فإن بينة المستأجر تقبل إذا كان الذي في يديه الدابة مشترياً أو متصدقاً عليه أو موهوباً له؛ لأن الذي في يديه الدابة متى كان مشترياً أو متصدقاً عليه يدعي الملك لنفسه فيما في يده فينتصب خصماً لكل من ادعى حقاً في يده وقد ادعى المستأجر حقاً فيما في يده فينتصب خصماً له وقبلت بينته بعد هذا إن كان باعه المكاري بعذر فلا سبيل له على الدابة؛ لأن الإجارة انتقضت فإن كان باعه بغير عذر أو وهب أو تصدق كان المستأجر أحق به إلى أن يستوفي إجارته؛ لأن إجارته سابقة على هذه التصرفات فكان المستأجر أحق بها إلى أن يستوفي إجارته، فأما إذا كان الذي في يده الدابة مستأجراً أو مستعيراً أو مودعاً وقد صدقه المستكري فيما قال، قال: لا تقبل بينته عليه؛ لأنه ثبت بتصادقهما أن ذا اليد مستأجر أو مستعير أو مودع من رجل معروف والمودع والمستعير والمستأجر لا ينتصب خصماً، فالبينة قامت لا على خصم فلا تقبل.

ثمة يقول في «الكتاب» : والمستأجر أحق بها حتى يستوفي إجارته ولم يذكر أن المستأجر الأول أحق بها أم الثاني، ويجب أن يكون الجواب على التفصيل إن كان المكاري حاضراً فالمستأجر الأول أحق بها، وإن كان غائباً فالمستأجر الثاني أحق بها لأن المكاري إذا كان حاضراً فبينة المستأجر الأول مقبولة في هذه الحالة والثابت بالبينة

(7/552)


أفاد له كالثابت معاينة ولو عاين القاضي إجارته أولاً جعل الأول أحق بها، فكذا إذا ثبت بالبينة، وأما إذا كان المكاري غائباً فبينة المستأجر الأول لا تقبل في هذه الحالة فيكون الثاني أحق بها إلى أن يستوفي إجارته.

ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده المسألة على هذا الوجه فلم يجعل المستأجر الثاني خصماً للمستأجر الأول.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي والشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي أن بينة المستأجر على صاحب اليد إذا كان مستأجراً مقبولة وجعله خصماً له، وفرقا بين المستأجر وبين المستعير والمودع.

رجل استأجر دابة من رجل إلى واسط بعشرة دراهم وقال المكاري للمستكري: استكر علي غلاماً يتبعك ويتبع الدابة وأجره علي وأعطه نفقة ينفق على نفسه وعلّى الدابة من كراء الدابة كان ذلك جائز، فإن اختلفا فقال المستكري: استكريت الغلام وأعطيت نفقته ونفقة الدابة من كراء الدابة وقد برئت من الأجر بذلك القدر وأنكر صاحب (44ب4) الدابة استئجار العبد، فالقول قول صاحب الدابة أنه لم يستأجر وعلى المستكري البينة أنه استأجر الغلام، وإن كان المستكري وكيلاً بالاستئجار؛ لأن الوكيل بالاستئجار بمنزلة الوكيل بالشراء إذا قال: اشتريت وهلك الثمن عندي وأراد أن يرجع بالثمن على موكله والوكيل بالشراء إذا أقر أنه اشترى وهلك عنده ولم يكن الثمن مدفوعاً إليه وأنكر الموكل فالقول قول الموكل مع يمينه وعلى الوكيل البينة أنه اشترى فكذلك ها هنا، فإن أقام البينة على أنه استأجر الغلام بعد هذا وأقر الغلام أنه قبض النفقة إلا أنه ضاع أو سرق منه وأنكر المكاري كان القول قوله، يعني: قول الغلام؛ لأنه لما ثبت استئجار الغلام صار الغلام وكيلاً من جهة المكاري يقبض ما عليه من الكراء بمقدار النفقة الوكيل بقبض الدين إذا قال: قبضت وهلك عندي كان القول قوله فكذا هذا.
فإن قيل: كيف يصير الغلام وكيلاً من جهة المكاري بقبض ما عليه من الكراء بمقدار نفقته ونفقة الدابة وهو لم يعلم بهذه الوكالة؟ قلنا: المستكري أخبره بذلك؛ لأنه حال ما يستأجر يجبره أنه يستأجره ليفعل كذا، فيصير وكيلاً كرجل وكل غائباً فبلغه الوكالة فإنه يصير وكيلاً، فكذلك هذا.

رجل استأجر دابة ذاهباً وجائياً فمات المكاري في الطريق فإن الإجارة لا تنتقض فإن استأجر المستكري رجلاً حتى يقوم على الدابة جاز وكان أجره على المستكري ولا يرجع بذلك على الورثة والمسألة قد مرت فإن اختلف الورثة والمستكري فقالت الورثة: إنما أجرك أبونا هذه الدابة على أن مؤنة الدابة عليك وأنكر المستكري ذلك فالقول قوله؛ لأنهم يدعون على المستكري زيادة والمستكري ينكر فيكون القول قوله مع يمينه، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الورثة؛ لأنهم يدعون زيادة في الأجر منها بينة المستأجر فتكون البينة بينة الورثة وإن كانوا لا يستحقون هذه الزيادة ببينتهم لفساد العقد.

هذا كما ذكر في كتاب المزارعة: إذا اختلف المزارع وصاحب الأرض في مقدار

(7/553)


المشروط فأقام الذي ليس البذر من عنده البينة أنه شرط النصف وزيادة عشرة أقفزة، وأقام الآجر البينة أنه شرط له النصف فالبينة بينة من يثبت الزيادة، وإن كان لا يستحق هذه الزيادة متى أقام البينة لفساد العقد فكذلك هذا.
وإذا استأجر رجل دابة من رجلين إلى بغداد ذاهباً وجائياً فقال أحدهما: أكريناكها بعشرة دراهم وقال الآخر: بخمسة عشر فهذا على وجهين:

إما أن يصدق المستأجر أحدهما، فيقول: أكريتها بعشرة أو لا يصدق أحدهما فيما يدعي ويقول: أكريتها بخمسة وقد اختلفا قبل استيفاء المعقود عليه، أو بعد استيفاء المعقود عليه، فإن اختلفا قبل استيفاء المعقود عليه وليستلم بينة والمستأجر يكذب كل واحد منهما ويدعي الإجارة بخمسة فإنه يجب التحالف في نصيب كل واحد منها؛ لأن الاختلاف وقع في بدل عقدين تجارة حال ما يحتمل العقد الفسخ؛ لأن المعقود عليه قائم فيجب التحالف في النصيبين جميعاً فإذا تحالفوا فسخ القاضي العقد في جميع الدابة كما في بيع العين، وإن كان المستأجر يصدق أحدهما بأن كان يدعي العقد بعشرة فإنه لا يجب التحالف في حصته الذي صدقه؛ لأنهما لم يختلفا في بدل المعقود عليه في حصته ويتحالفان في حصة الذي يدع العقد بخمسة عشر، فإذا تحالفا وطلب أحدهما الفسخ من القاضي أو طلبا جميعاً، فإن القاضي يفسخ العقد في حصته وتبقى الإجارة في حصة الآخر بخمسة دراهم عندهم جميعاً، كما لو مات أحدهما.
وإن وقع الاختلاف بعد استيفاء المعقود عليه فالقول قول المستأجر مع يمينه كما في بيع العين، إذا اختلفا بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه فكذلك هذا، وهذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يشكل، فأما على قول أبي حنيفة ففيه اختلاف المشايخ وإن أقاما جميعاً البينة فإن يقضى لكل واحد منهما بنصف ما ادعى من الأجر، لأن كل واحد منهما ببينته يثبت نصف ما ادعى من الأجر لنفسه ونصفه لصاحبه إلا أنه خصم فيما يدعيه لنفسه وليس بخصم فيما يدعي لصاحبه فتقبل بينة كل واحد منهما في نصف ما ادعى من الأجر لنفسه لا غير فيقضى لمدعي خمسة عشر تسعة ونصف، ويقضى للآخر بخمسة دراهم هذا إذا اختلفا في بدل المعقود عليه.
فأما إذا اختلفا قي قدر المعقود عليه في السير فقال أحدهما: أكريناها إلى المدائن وقال الآخر: إلى بغداد واتفقوا على الكري فهذا على وجهين: إما أن يختلفا قبل السير أو بعد السير والمستأجر يصدق أحدهما فيما يدعي أو يكذب ويدعي المسير إلى مكان أو غير ما يدعيان، فإن كانوا اختلفوا قبل السير والمستأجر يكذب كل واحد منهما فيما يدعي، ويدعي مكاناً آخر أبعد مما يقران، فإنه يجب التحالف في نصيب كل واحد منهما؛ لأنهم اختلفوا في قدر المعقود عليه في عقدي تجارة حال ما يحمل العقد الفسخ فيجب التحالف كما في بيع العين، فإن اختلفوا وطلبوا الفسخ من القاضي فسخ القاضي العقد في جميع الدابة وإن كان المستأجر يصدق أحدهما فيما يدعي فإنه لا يجب التحالف في نصيب الآخر؛ لأن التحالف يجري بين المتكاذبين لا بين المتصادقين فيجب التحالف

(7/554)


في نصيب الذي يكذبه، فإذا حلفا يفسخ القاضي في نصيبه وتبقى الإجارة في نصيب الآخر جائزة عندهم جميعاً هذا إذا اختلفا قبل المسير.

فإن اختلفا بعد المسير إلى أحد المكانين فالقول قول الآجر مع يمينه؛ لأن المستأجر يدعي زيادة في المعقود عليه وصاحب الدابة ينكر حال مالا يحتمل الفسخ فيكون القول قوله مع يمينه كما في بيع العين إذا اختلفا في قدر المعقود عليه واتفقا على الثمن حال مالا يحمل العقد الفسخ وهناك القول قول البائع مع يمينه فكذلك هذا، ولم يذكر محمد رحمه الله جواب هذه المسألة بتمامها في الكتاب، وإن أقاموا جميعاً فالبينة بينة المستأجر إذا كان يدعي زيادة مسير على ما يقولان؛ لأنه يثبت زيادة في المسير تنفيها بينة صاحبي الدابة فتكون البينة بينته.
وما ذكر في الكتاب أن القول قول الذي استأجر مع يمينه جواب المسألة الأولى لا جواب الثانية.

إذا استأجر الرجل دابة وغلاماً ليذهب به بكتاب إلى بغداد، فاختلف المستأجر والأجير فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في إيفاء العمل بأن قال العبد: دفعت الكتاب إلى فلان وقال المرسل: ما دفعت إليه أو اختلفا في إبقاء الأجر بأن قال المرسل أعطيتك الأجر أو قال: أعطاك المرسل إليه وأنكر الغلام ذلك فإن اختلفا في إيفاء العمل والمرسل ينكر يكون القول قوله كالبائع إذا ادعى تسليم المبيع والمشتري ينكر وإن اختلفا في إيفاء الأجر فالقول قول الغلام؛ لأن المرسل يدعي إيفاء الأجر والغلام ينكر فيكون القول قوله، كالمشتري إذا ادعى إيفاء الثمن وأنكر البائع كان القول قوله مع اليمين، كذا هذا.
رجل تكارى دابة من رجل ولم يسم بغلاً أو حماراً فجاءه بحمار فاختلفا فقال المستكري: إنما استكريت منك هذا البغل بخمسة دراهم وقال المكاري: بل أكريتك هذا الحمار بخمسة دارهم فهذا على وجهين:

إما إن يختلفا قبل (45آ4) الركوب أو بعد الركوب، فإن اختلفا قبل الركوب وليس لأحدهما بينة فإنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في المعقود عليه حال قيام المعقود عليه وهو قابل للفسخ فيتحالفان وإنما قلنا ذلك؛ لأن البغل مع الحمار مختلفان فتكون منفعتهما مختلفة فكان الاختلاف في المعقود عليه، وإن اختلفا بعد الركوب ولم يتم لأحدهما بينة فالقول قول المستأجر، لأن المكاري يدعي عليه إجارة الحمار وهو ينكر ويقول: ما استأجرت الحمار ولم يجب علي شيء بركوبه فيكون القول قوله مع يمينه، فأما إذا أقاما جميعاً البينة إن وقع الاختلاف في المعقود عليه وهي المنفعة، فإن اختلفا قبل الركوب فالبينة بينة المستأجر وذلك، لأن المستأجر ببينته يثبت استحقاق منفعة البغل لنفسه والمكاري يثبت استحقاق منفعة الحمار لغيره، فكان المستأجر أثبته بالمدعين فكانت بينته أولى بالقبول وكان كالبائع والمشتري إذا اختلفا في المعقود عليه وأقاما جميعاً البينة فالبينة بينة المشتري؛ لأنه يثبت لنفسه والبائع لغيره وإن وقع الاختلاف بينهما في الأجر بأن اختلفا بعد الركوب فالبينة بينة المكاري أولى بالقبول.

(7/555)


وإذا تكارى الرجل دابة من الكوفة إلى فارس وسمى مدينة معلومة فالإجارة جائزة؛ لأن المعقود عليه معلوم، والأجر معلوم فإن اختلفا في النقد فقال لمستأجر: أعطيتك نقد فارس؛ لأن الوجوب كان بفارس أنقص، وقال المكاري: لا بل عليك نقد كوفة؛ لأن العقد بالكوفة ونقد الكوفة أزيد كان عليه نقد المكان الذي فيه العقد لا نقد المكان الذي حصل فيه الوجوب وذلك؛ لأن الوجوب تبع للعقد؛ لأنه حكم من أحكام العقد والأحكام تابعة لأسبابها، وإذا كان الوجوب تبعاً للعقد كان العقد أصلاً فكان إيجاب مكان العقد وإنه أصل أولى من إيجاب نقد مكان الوجوب، وكان هذا بمنزلة ما لو اشتري عبداً بألف درهم إلى ستين ثم تغير النقد فما كان وقت العقد فإنه يجب نقد ما كان وقت العقد لا نقد ما كان وقت المطالبة لأن المطالبة تبع للعقد لأنه يوجب بسبب العقد فكان اعتبار مكان وقت العقد وإنه أصل أولي من اعتبار مكان وقت المطالبة وإنه تبع فكذلك هذا.
وإذا استأجر الرجل دابة إلى الحيرة فقال رب الدابة: هذه الدابة دونك فاركبها فلما كان يقدر ما يرجع من الحيرة اختلفا فقال المستكري: لم أذهب بها إلى الحيرة فلا أجر علي وقال صاحب الدابة: لا بل ذهبت بها إلى الحيرة ولي عليك الأجر فهذا على وجهين: إما إن يعلم خروجه إلى الحيرة أو لم يعلم خروجه، فإن لم يعلم خروجه وتوجهه إلى الحيرة فالقول قول المستأجر؛ لأنه متى لم يعلم خروجه فحاصل اختلافهما وقع في التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد صاحب الدابة يدعى تسليمها في المكان الذي أضيف العقد إليه والمستأجر ينكر فيكون القول قول المستأجر، وإن علم خروجه إلى الحيرة فالقول قول صاحب الدابة؛ لأنه متى علم خروجه إلى الحيرة فقد ثبت التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد حاصل اختلافهما بعد ذلك إنما وقع في انقطاع التسليم.

المستأجر يدعي انقطاع التسليم بعدما وجد، وصاحب الدابة ينكر فيكون القول قوله، وكان المستأجر الدار إذا ادعى أنه غصب الدابة منه بعد ما سلم للدار إليه وصاحب الدار ينكر وهناك القول قول صاحب الدار إذا لم يكن في الدار غاصب وقت المنازعة فكذلك هذا.

نوع آخر
إذا وقع الاختلاف بين المستأجر وصاحب الرحى فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مقدار مدة الانقطاع بأن قال صاحب الرحى: انقطع خمسة أيام وقال المستأجر: انقطع عشرة أيام أو يختلفا في أصل الانقطاع بأن قال المستأجر: انقطع الماء عشرة أيام وقال صاحب الرحى: لم ينقطع.
فإن اختلفا في مقدار مدة الانقطاع بعدما اتفقا على الانقطاع فالقول قول المستأجر مع يمينه لوجوه ثلاثة:
الأول: وهو أن صاحب الرحى مع المستأجر اتفقا على زوال التسليم بعد ما كان ثابتاً حين اتفقا على انقطاع الماء لأن انقطاع الماء يوجب زوال التسليم ولهذا سقط الأجر

(7/556)


بقدره فصاحب الرحى بعد ذلك يدعي تسليماً مبتدأ بعود الماء بعد خمسة أيام والمستأجر ينكر فيكون القول قوله، كما لو لم يكن التسليم ثابتاً ادعى صاحب الرحى التسليم والمستأجر ينكر فيكون القول قوله فكذلك هذا.
والثاني: أن صاحب الرحى يدعي على المستأجر زيادة أجر والمستأجر ينكر فكان القول قول المستأجر مع يمينه.
والثالث: أن العقد انفسخ في مدة خمسة أيام باتفاقهما؛ لأن انقطاع الماء يوجب انفساخ العقد ولهذا يسقط الأجر بقدره فصاحب الرحى بعد مضي خمسة أيام يدعي عود العقد والمستأجر ينكر، فعلى العبارات الثلاث القول قول المستأجر مع يمينه.
فأما إذا اختلفا في أصل الانقطاع فإنه يُحَكَّم الحال إن كان الماء جارياً وقت الخصومة فالقول قول صاحب الرحى مع يمينه؛ لأن ظاهر الحال يشهد له؛ لأن الماء كان جارياً في الابتداء ووقت الخصومة جاري فالظاهر أنه لم ينقطع فيما بين ذلك، فمن ادعى الانقطاع فقد ادعى خلاف الظاهر فكان مدعياً والآخر منكراً، وإن كان الماء منقطعاً وقت الخصومة فالقول قول المستأجر؛ لأن الظاهر يشهد للمستأجر؛ لأن الانقطاع للحال يدل على انقطاعه فيما مضى من حيث الظاهر فيجعل القول قول المستأجر.
وإذا استأجر الرجل رحى ماء فأنكر أحد الحجرين أو الدوارة فهذا عذر وله أن يفسخ الإجارة لما ذكرنا من قبل، وكذلك إذا انكسر البيت فإن اختلفا فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مدة الانكسار بعد ما اتفقا على الانكسار، أو يختلفا في أصل الانكسار والجواب فيه كالجواب فيما إذا اختلفا في قدر مدة الانقطاع وفي أصل الانقطاع.

وإذا تكارى رجل من غيره إبلاً مسماة من الكوفة إلى مكة ثم اختلفا في الخروج فقال أحدهما: أخرج لعشرة ذي القعدة وقال الآجر: لا بل يخرج بعد خمس يمضين من ذي القعدة، فإنه يؤخذ بقول من يقول أخرج بعد خمس يمضين من ذي القعدة وذلك لأن ما يقوله هذا أقرب إلى المعروف المعتاد فيما بينهم؛ لأن المعروف المعتاد فيما بينهم أنهم كانوا يخرجون بعد عشر يمضين من ذي القعدة؛ لأنهم كانوا لا يخافون فوات الحج ولا يلحقهم تعب السرعة في السير بطي المراحل؛ لأن من الكوفة إلى مكة سبعة وعشرين مرحلة فيحتاج إلى سبعة وعشرين يوماً، وقد بقي من ذي القعدة عشرين إن كُمِلَّ الشهر وإن أنقص تبقى تسعة عشر فيحتاج إلى سبعة أو إلى ثمانية من عشر ذي الحجة فيكونون يوم التروية بمكة لا محالة، وإذا كان الوقت المعروف للخروج فيما بينهم بعد عشر يمضين من ذي القعدة، فمن قال: أخرج بعد عشر يمضين كان ما يقول أقرب إلى المعروف المعتاد مما يقوله الآخر؛ لأنه يدعي التقدم على الوقت المعتاد بخمسة، والآخر يدعي التقدم بعشرة، فكان الأخذ بقوله أولى إذ ليس في الأخذ بقوله فوات الحج ولا تعب السرعة بطي المراحل وهذا بخلاف ما لو قال أحدهما: أخرج بعد النصف من ذي القعدة وقال الآخر: بل أخرج بعد خمس يمضين، فإنه لا يؤخذ بقول واحد منهما ويؤخد بالوقت المعتاد وذلك؛ لأن ما يقوله كل واحد منهما في المقارنة في الوقت المعتاد وفي المخالفة

(7/557)


على السواء (45ب4) لأن أحدهما يدعي التقدم على الوقت المعتاد بخمسة والآخر يدعي التأخر عن الوقت المعتاد بخمسة فلم يمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر فتساقط القولان للتعارض فوجب الأخذ بالوقت المعتاد وذلك بعد عشر يمضين بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك أمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر من الوجه الذي ذكرنا وهذا كله إذا لم يتفقا على شيء، فأما إذا اتفقا على وقت فإنه يجب الأخذ بذلك، وإن كان ما اتفقا عليه خلاف المعروف المعتاد؛ لأنه لا عبرة للعرف متى جاء

الشرط بخلافه، كما في نقد البلد في البياعات لا عبرة بها متى جاء الشرط بخلافه فكذلك هذا.

نوع آخر
الأصل في هذا النوع أن التنازع متى وقع بين اثنين لم يصر قول أحدهما حجة على الآخر وهذا ظاهر.
والثاني: أن القضاء بالبينة على الغائب وللغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر إما حكمي أو قصدي لا يجوز، والقضاء للغائب بإقرار الحاضر جائز.
والثالث: لأن البينة متى قامت لحفظ مال الغائب ودفع الهلاك والفساد عن ماله فالقاضي بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل؛ لأنها قامت على إثبات حق الغائب من وجه ليس عنه خصم حاضر إلا أن فيه وقع الفساد والهلاك عن أموال من كان عاجزاً عن الحفظ بنفسه، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فإن شاء مال إلى هذا الجانب وإن شاء مال إلى ذلك الجانب.
قال: رجلان استأجرا دابة من الري إلى الكوفة بأجر مسمى، فلما ذهبا إلى الكوفة اختصما عند القاضي فقال أحدهما: اكتريناها من فلان إلى الكوفة ذاهباً وجائياً وقال الآخر: اكتريناها من فلان إلى مكة ذاهباً وجائياً ولا بينة لواحد منهما فإن القاضي يقضي بالدابة ملكاً للمقر له الغائب؛ لأنهما أقرا أنها مملوكة للغائب والدابة في أيديهما وإقرار صاحب اليد بما في يده للغائب صحيح فصّح القضاء به للغائب ولا يقضي فيها بالإجارة؛ لأنهما يدعيان الإجارة فيها على الغائب والقضاء على الغائب بالبينة لا يجوز، فكيف بمجرد دعواهما، ويمنع القاضي كل واحد منها من الذهاب إلى الموضع الذي يدعي؛ لأن كل واحد منهما ينازع الآخر، وقد بينا أن قول كل واحد من المنازعين ليس بحجة على صاحبه، فإن اجتمعا على شيء تركهما القاضي وما اجتمعا عليه؛ لأن الدابة في أيديهما وقولهما فيما لا منازع لهما حجة وليس للقاضي إنشاء الخصومة للغائب فيدعهما وما اجتمعا عليه، كرجل في يده مال وهو يقول:

وهبه لي فلان أو قال: دفع إلي فلان أو دفعه إلي فلان أجر، فالقاضي لا يتعرض له لما قلنا كذا ها هنا.
فإن طلبا من القاضي أن يأمرهما بالنفقة عليها أو بيعها، فالقاضي لا يأمرهما بذلك؛ لأن القاضي إنما يجوز له الأمر بالإنفاق على الدابة والأمر بالبيع نظراً للغائب وإنما يكون نظراً للغائب إن كانا أمينين في الدابة بحيث لو لم ينفقا وهلكت الدابة لا يكون عليها ضمان، وهذا محتمل يجوز أن يكونا ضامنين فلهذا لا يأمرهما القاضي بذلك قبل إقامة البينة، فإن أقام كل

(7/558)


واحد منهما البينة على ما ادعاه من الكراء وركب البغال وقف القاضي الدابة في أيديهما؛ لأنهما أمنا أن صاحب الدابة رضي بأمانتهما ولا يأذن القاضي لواحد منهما في الركوب إلى الموضع الذي يدعي لما فيه من إزالة يد أحدهما وقد استويا فيه ولما فيه من الحكم على الغائب بالبينة ولكن يأمرهما أن ينفقا عليه على ما يرى أن رجاء قدوم صاحبها وإن لم يرج لا يأمرهما بالنفقة بل يأمرهما بالبيع؛ لأنه ثبت كونها أمانة للغائب في أيديهما، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فيأمرهما بما هو نظر للغائب، ففي الوجه الأول: الانفاق أنظر للغائب، وفي الوجه الثاني: البيع أنظر؛ لأنه إذا كان لا يرجو قدوم صاحبها لو أمرهما بالإنفاق ربما تأتي النفقة على قيمة الدابة فيأمرهما بالبيع احتياطاً، وإذا باعا الدابة بأمر القاضي وقف القاضي الثمن في أيديهما؛ لأنه كان يقف الدابة في أيديهما فيقف بدلها أيضاً في أيديهما، فإن كانا قد أنفقا عليها بأمر القاضي ويثبت ذلك عند القاضي، فالقاضي يعطيهما من الثمن مقدار ذلك؛ لأنه ثبت عند القاضي وجوب هذا القدر ديناً على الغائب؛ لأن أمر القاضي بالإنفاق وله ولاية كأمر الغائب بنفسه وثمن الدابة مال الغائب وأنه من جنس حقهما وكان للقاضي أن يعطيهما من ذلك مقدار دين الغائب.

وإن أقاما جميعاً البينة على أنهما أوفيا الكراء وطلبا من القاضي أن يقضي من الثمن بقية حقهما من الكراء لم يقبل القاضي ذلك؛ لأن هذا دين لم يثبت عند القاضي بما أقاما من البينة لأنهما أقاما البينة؛ على إثبات دين على الغائب وليس عنه خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فصار وجودها وعدمها بمنزلة.
فإن أقاما البينة على موت صاحب الدابة قبل القاضي ذلك ولقي في بقية حقهما فيما عجلا من الأجرة ويأخذ منهما ما بقي من الثمن ويضعه في يدي ثقة حتى يحضر ورثة الميت.
فرق بين هذا وبينما إذا أقاما البينة على إيفاء الكراء حال حياة الآجر حيث لا يقبل القاضي ذلك، والفرق بينهما أن بعد موت الغائب بينتهما قامت على خصم حاضر وهو القاضي فإن للقاضي بعد موت الغائب ولاية نصب الوصي للميت إذا لم يكن للميت وصي ولا وارث حاضر وما لم ينصب الوصي فالقاضي بمنزلة الوصي للميت، فقامت البينة على خصم حاضر فثبت ما أعطى من فضل الكراء فأما قبل وفاته فليس للقاضي ولاية نصب خصم عن الغائب؛ لأنه يمكن للمدعي الخصومة مع الحي في الجملة فكانت البينة في حق إعطاء فصل الكراء فإنه على غير خصم فلا تقبل وإنما يأخذ القاضي ما بقي من الثمن منهما ويضعه في يدي العدل؛ لأنه يثبت بهذه البينة أن المال صار للوارث ولم يثبت الرضا من الوارث بأمانتهما بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك ثبت كون المال للغائب وقد ثبت أنه رضي بأمانتهما فلا يخرج القاضي العين ولا الثمن بعد البيع عن أيديهما وإن أحب القاضي في جميع هذه المسائل أن لا يتعرض بأمرهما ببيع ولا نفقة ويبيعه ذلك؛ لأن فيه قضاء على الغائب من وجه وفيه حفظ المال على الغائب من وجه أيضاً، فيميل إلى أيهما شاء.

(7/559)


ولو اكتريا دابة من بغداد إلى الكوفة ذاهباً وجائياً فلما بلغا الكوفة بدا لأحدهما أن لا يرجع إلى بغداد كان ذلك عذراً في فسخ الإجارة؛ لأنه قصد ترك السفر إلى بغداد في الانتهاء فيكون ذلك عذراً كما لو ترك السفر في الابتداء فإن رفعا الأمر إلى القاضي في فسخ الإجارة وتصادقا على ذلك ولم يقيما بينة فالقاضي لا يعرض بشيء من ذلك لأن قولهما ليس بحجة على القاضي فإن أقاما البينة مع تصادقهما على ذلك فالقاضي لا يفسخ الإجارة لما في ذلك من القضاء على الغائب لكنه إن شاء أجر ذلك النصف من شريكه على سبيل النظر؛ لأن الإجارة على الغائب من باب النظر فيفعله القاضي ذلك كما في اللقطة إذا كانت دابة فإذا فعل ذلك يضمن ذلك انفساخ الإجارة الأولى في حق صاحب العذر مقتضى صحة ما يفعله، ويجوز أن يثبت الشيء ضرورة وإن كان لا يثبت مقصوداً.

وفي الكتاب يقول: إن شاء القاضي يكري للدابة كلها من الذي يرجع إلى بغداد ومعناه أن القاضي يكري النصف الذي كان لصاحب العذر من الذي يريد الرجوع إلى بغداد، ويقرر الكراء في النصف الذي كان له، وإن شاء أكرى نصفها من آخر فتركناها جميعاً أو على سبيل الثاني كما كانا يفعلان مع الأول، وأشار في بعض روايات هذا الكتاب أنهما إذا تصادقا على ما ادعيا في هذه المسألة ولم يقيما بينة أن القاضي يتعرض إما إن شاء أجر ذلك النصف من شريكه الذي يريد الرجعة إلى بغداد أو من رجل آخر على سبيل النظر، كما يفعل مثل هذا إذا أقاما البينة، وذكر في مسألة أول النوع أنهما إذا أجمعا على شيء فالقاضي يتركهما وما أجمعا عليه ولا يتعرض لهما، وليس في المسألة روايتان لكن ما ذكر في مسألة أول النوع (46آ4) جواب القياس.

وما ذكر هاهنا جواب الاستحسان وهذا لأن تصادقهما والدابة في أيديهما بمنزلة إقامة البينة، ولو أقاما البينة، القياس أن لا يتعرض لهما، وفي الاستحسان إن فعل كان أحسن وأفضل، وإذا كان فعل البينة على القياس والاستحسان فكذا فصل التصادق.
ثم لم يذكر في الكتاب أنه إذا لم يجد من يكتري ذلك النصف هل له أن يودع ذلك النصف من الذي يريد الرجوع إلى بغداد؟ وذكر في موضع آخر أنه إن شاء فعل ذلك فيكون النصف في يده بالوديعة والنصف بالإجارة فيركب يوماً وينزل يوماً وهذا الإطلاق على قولهما أما على قول أبي حنيفة إجارة النصف من رجل آخر لا يجوز لمكان البيوع
ابن سماعة عن محمد: رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره له بدرهم فقال القصار: هذا ثوبك وقد قصرته بدرهم كما أمرتني وقال دافع الثوب: ليس هذا ثوبي، وثوبي غير هذا فالقول قول القصار أن هذا ثوبه ولا يضمن بقول الدافع، والقول قول دافع الثوب فيما ادعى عليه القصار من الأجر ولا أجر للقصار، أما القول قول القابض في تعيين المقبوض ولا أجر للقصار؛ لأن الأجر إنما يستحق بإقامة العمل في المحل المأذون فيه وقد اختلفا فيه، وإن قال رب الثوب هذا ثوبي ولم آمرك أن تقصره والذي دفعت إليك ليقصر غير هذا فإنه يأخذ هذا الثوب ولا أجر عليه قال: ولو كان هذا في القطع والخياطة لم يأخذه ولكنه يضمن الخياط قيمته ويتركه على الخياط إن شاء ولم يثبت مثل هذا الخيار

(7/560)


في فصل القصار؛ لأن الخياط وجد منه نوع استهلاك والقصار لم يوجد منه الاستهلاك أصلاً.
هشام قال: سألت محمد عن رجل دفع إلى قصار ثوباً فقصره له بدرهم فأعطاه القصار ثوباً وقال: هذا ثوبك وقال رب الثوب: ويراه عوضاً عن ثوبه قال: لا يسعه لبسه أو قال: بيعه إلا أن يقول رب الثوب للقصار: أخذته عوضاً عن ثوبي فيقول القصار: نعم؛ لأن عند ذلك ينعقد بينهما مبادلة ويصير هذا الثوب ملكاً للدافع بالمبادلة.

هشام قال: سألت محمداً رحمه الله عن القصار ومن بمعناه إذا دفع إليهم الشيء بأجر إذا ادعى وذلك الشيء على الدافع لا يصدق عليه إلا ببينة، وكذلك الأجير المشترك في رعي البقر والغنم وهذا الجواب مستقيم على قول محمد ومن يرى أن يد أجير المشترك يد ضمان، أما من يرى أن يده يد أمانة وهو أبو حنيفة رحمه الله يقول: يقبل قوله في الرد كالمودع وكذلك إن ادعى الموت كان كما إذا ادعى الرد قال: ولو تكاراه على أن يحمل له مملوكاً، فادعى أنه مات صدق بلا بينة وليس ولد آدم كالبهائم.
ابن سماعة عن محمد: في رجل أجر رجلاً داراً بعشرة دراهم فاستحقها رجل ببينة قامت له على الدار وقال: كنت دفعتها إلى الآجر وأمرته أن يؤجرها لي فالأجرة لي وقال الآجر: كنت غصبتها منه وأجرتها فالأجرة لي، فالقول قول رب الدار ويأخذ الأجر؛ لأن الظاهر شاهد لرب الدار فإن الظاهر أن الإنسان يتصرف في ملك الغير لذلك الغير وإن أقام الآجر بينة على ما ادعى من الغصب لم تقبل بينته؛ لأن بهذه البينة يريد إبطال قول المستحق والبينات شرعت للإثبات لا للإبطال، وإن أقام بينة على إقرار المستحق بما ادعى من الغصب قبلت بينته وكانت الأجرة له؛ لأنه البينة لا تبطل حق المستحق إنما يثبت إقراره بالغصب ثم إذا ثبت الغصب ترتب عليه حكم الآجر.
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» عن هذه المسألة في الدابة برواية هشام عن محمد رحمه الله، وذكر الجواب فيها على نحو ما ذكرنا في مسألة الدار.
ولو كان الآجر بنى في الأرض بناء ثم أجرها بسببه فقال رب الأرض أمرتك أن تبني وتؤاجر وقال الآجر: غصبتك وبنيتها وأجرتها قال: يقسم الأجر على قيمة الأرض غير مبنية وعلى البناء فما أصاب الأرض فهو لرب الأرض وما أصاب البناء في يده.

إبراهيم وهشام عن محمد رحمه الله: في رجل في يديه أرض زرعها فقال رب الأرض: أمرتك أن تزرع فزرعت بأمري، وقال المزارع: غصبتها وزرعتها لنفسي فالقول قول الزارع يأخذ منه قدر بذره ونفقته ويتصدق بالفضل وهذا؛ لأن الزارع زرعه ببذر كان في يده والزرع نما ذلك البذر فالظاهر كما يشهد له في البذر يشهد له في نمائه فيقبل قوله فيه.
وفي «فتاوى الفضلي» : فيمن استأجر ضياعاً بعضها مزروعة، وبعضها فارغة قال: يجوز في الفارغة دون المشغولة، وإذا اختلفا فالقول للمؤاجر بخلاف البيع، فإن هناك القول لمن يدعي الصحة، لأن هناك اتفقا على أصل العقد واختلفا في وصف الصحة،

(7/561)


أما ها هنا المؤاجر ينكر العقد أصلاً.

قال القاضي: الإمام ركن الإسلام علي السغدي: ينبغي أن يُحَكِّم الحال إن كانت فارغة فالقول للآجر وإن لم يكن فللمستأجر.
وفي الدعوى من الفتاوي: أرسل صاحب الكرابيس إلى قصار رسولاً ليسترد ثيابه الأربع، فلما أتى به فإذا هو ثلاثة قال القصار: دفعت إليه أربعة، وقال الرسول: دفع إلي ولم يعده قال: يسأل صاحب الثياب فأيهما صدقه منهما برئ عن خصومته وأيهما كذبه يحلفه، فإن حلف برئ وإن أبى لزمه ما ادعاه فإن صدق القصار وجب عليه أجر الثوب الرابع وإن كذبه وحلف القصار، فللقصار على صاحب الثوب اليمين على الآجر، فإن حلف برئ عن الأجر بحصة الثوب الرابع.

قاله أبو بكر: استأجر من آخر دابة، وذهب إلى سمرقند فجاء آخر وادعاها لنفسه ولم يصدقه أنه مستأجر واستحق عليه هل للآجر أن يرجع على بائعه؟ قيل لا أشار إليه في الباب الثاني من الزيادات فإنه قال: جاريته في يد عبد الله فقال إبراهيم لمحمد: هذه الجارية بعتها منك وسلمتها إليك وقد غصبها منك عبد الله وصدقه محمد، فلإبراهيم أن يأخذ الثمن من محمد، ولو استحق إنسان الجارية بالبينة من يد عبد الله ليس لمحمد أن يرجع على إبراهيم؛ لأن في زعم البائع وهو إبراهيم والمشتري وهو محمد أن عبد الله غاصب والغاصب لا ينتصب خصماً في إثبات الاستحقاق عليه، فلم يثبت الاستحقاق في حقهما فلا يرجع عليه، فإن كان المدعي للدابة فعلاً على الذي في يديه الدابة بأن قال: هذه الدابة ملكي غصبتها مني ينتصب هو خصماً ويسمع عليه البينة ويكون للآجر حق الرجوع على بائعه إذا ادعى على آجر أني استأجرت هذه الدابة التي في يدك من فلان بتاريخ كذا قبل أن تستأجرها أنت هل ينتصب صاحب اليد خصماً للمدعي في حق إثبات الإجارة عليه؟ حتى لو أقام بينة على الإجارة هل تسمع بينته؟ فهذا على وجهين:
إن ادعى المدعي على صاحب اليد فعلاً بأن قال: استأجرت هذه الدار من فلان وقبضتها فأخذتها مني بغير حق أو غصبتها مني تسمع بينته، وأما إذا قال: استأجرت من فلان قبل أن تستأجر أنت وقد سلم إليك ولم يدع عليه فعلاً لا تسمع بينته؛ لأن المستأجر لا ينتصب خصماً لا في إثبات الكل المطلق ولا في إثبات الإجارة عليه إلا بدعوى الفعل عليه، ويشترط دعوى فعل موجب للرد لا دعوى الفعل المطلق.

ألا ترى أنه لو قال المدعي: هذه الدار ملكي اشتريته من الذي أجرها منك لا ينتصب هو خصماً للمدعي وهو نظير مسألة الوديعة إذا ادعى رجل الوديعة وادعى أنه اشتراها من المودع لا ينتصب المودع خصماً له بخلاف ما إذا ادعى الوراثة وقد ذكرنا قبل هذا في مثل هذه المسألة أن المستأجر ينتصب خصماً لمن يدعي الاستئجار قبله على قول الشيخ الإمام الزاهد علي (46ب4) البزدوي، والشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي من غير تفصيل ولا ينتصب خصماً على ما ذكره شيخ الإسلام من غير تفصيل. والله أعلم.

(7/562)


الفصل السادس والعشرون: في استئجار الدواب
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا تكارى الرجل من رجل إبلاً مسماة بغير أعيانها من الكوفة إلى مكة فالإجارة جائزة.
قال الشيخ الإمام الزاهد خواهرزاده رحمه الله: ليس تفسير المسألة أنه استأجر إبلاً بغير أعيانها؛ لأن استئجار إبل بغير أعيانها لا يجوز؛ لجهالة المعقود عليه. ألا ترى أنه لو استأجر عبداً للخدمة لا بعينه لا يجوز وإنما لا يجوز لمكان جهالة المعقود عليه. وإنما تفسير المسألة أن يقبل المكاري الحمل، فيقول له المستكري: احملني إلى مكة بكذا على إبل فيكون المعقود عليه الحمل في ذمة المكاري وإنه معلوم، والإبل آلة الحمل. وجهالة الآلة لا توجب فساد الإجارة، كما في الخياط والقصار وما أشبه ذلك. قال الصدر الشهيد رحمه الله: ونحن نفتي بالجواز كما ذكر في الكتاب، وتفسير ذلك ما قلنا وخيار ذلك معتاد، حتى لو لم يكن كذلك لا يجوز.
وفي «الفتاوى» : إذا تكارى دابة إلى موضع معلوم بأربعة دارهم على أن يرجع في يومه فلم يرجع إلى خمسة أيام، قال يجب درهمان أجرة الذهاب؛ لأنه مخالف في الرجوع. [
إذا استأجر بعيراً إلى مكة، فهذا على الذهاب دون المجيء، وفي العارية على الذهاب والمجيء؛ لأن في الإجارة مؤنة الرد على المؤاجر، وفي العارية مؤنة الرد على المستعير.

وفي «الأصل» : رجل تكارى دابتين من رجل صفقة واحدة على أن يحمل عليهما عشرين مختوماً، فحمل على كل واحد منهما عشرة مخاتيم قال: يقسم الأجر على أجر شك كل دابة منهما، ولا ينظر إلى ما حمل عليهما؛ لأن أجر الدابة على قدر سيرها وقوتها وسرعتها وإبطائها وإذا اتكارى قوم مشاة إبلاً على أن المكاري يحمل عليه من مرض منهم، أو من أعيا منهم فهذا فاسد؛ لأن الراكب مجهول.
في «الأصل» أيضاً: ولو شرطوا عليه عينه الأجير وتفسيرها: أن يركب واحد منهم ثم ينزل ثم يركب الآجر ثم ينزل، فذلك جائز؛ لأن الراكب معلوم. وإذا أجر الرجل دابة إلى الجبانة أو إلى الجنازة، فهذا لا يجوز. قالوا: إنما لا يجوز إلى الجبانة في بلدة لا مثلها جبانتان، أحديهما: بعيدة والأخرى قريبة. كما كان في بلاد محمد رحمه الله جبانتان أحدهما قريبة والأخرى بعيدة، ولا يدري إلى أيتهما أجر أما إذا كانت جبانة

(7/563)


واحدة يجوز وتقع الإجارة على أول حدود من تلك الجباية كما لو استأجر دابة من محلة إلى محلة وفي الجنازة إنما لا يجوز إذا كان المصلى اثنين أو ثلاثة، ولا يدري إلى أيهم أجر أما إذا كان المصلى واحداً أو أكثر إلا أنه يعلم أنه إلى أيهم أجر يجوز.

وإذا استأجر دابة لسبع عليها رجلاً، أو لتلقى عليها رجلاً، لا يجوز لأن المعقود عليه في الدابة إنما يصير معلوماً إما ببيان مدة معلومة إذا كان الركوب مستغرقاً جميع المدة، أو بتسمية مكان معلوم، ولم يوجد واحد منهما. أما المدة فظاهر، وأما المكان فلأنه لم يذكر أنه إلى مكان يسعه وفي أي مكان يتلقاه فيبقى المعقود عليه مجهولاً. وهذه جهالة توقعهما في المنازعة، فلهذا لا يجوز.

ومن هذا الجنس إذا استأجر دابة من رجل كل شهر بعشرة، على أنه متى بدأ به من ليل أو نهار حاجة ركبها، فإن كان سمي بالكوفة ناحية من نواحيها فهو جائز، وإن لم يسم مكاناً لا يجوز؛ لأن المعقود عليه مجهول؛ لأن المعقود عليه في الدابة لا يصير معلوماً ببيان المدة إذا لم يكن الركوب مستغرقاً جميع المدة وإنما يصير معلوماً ببيان المكان، فأما إذا استأجر يوماً ليقضي بها حوائجه في المصر فهو جائز وإن لم يبين مكاناً، لأن الركوب هاهنا مستغرق جميع المدة فهو بمنزلة ما لو استأجر رجلاً يوماً للخدمة أو للخياطة وذلك جائز.
وإذا تكارى الرجل دابة من رجل على أن يركب مع فلان تسعه إلى مكان معلوم حتى جازت الإجارة، فحبسها من الغد إلى انتصاف النهار، ثم بدا للرجل أن لا يخرج فرد الدابة عند الظهر، فلا أجر لعدم تمكنه من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وهل يضمن بهذا الحبس؟ إن حبسها قدر ما يحبس الناس لانتظار خروج ذلك الرجل لا يضمن، وإن كان أكثر من ذلك يضمن؛ لأن المالك لم يأذن بحبس لا يستوجب الأجر به، لكن قدر ما يحبس الناس لخروج ذلك يحتاج إليه فصار ذلك مستثنى عرفاً وبقي ما ورائه على أصل القياس.
وإذا تكارى الرجل دابة من الكوفة ليركبها إلى مكة أو إلى مصر آخر كان له أن يبلغ بها منزله سواء استأجرها للركوب أو للحمل وهذا استحسان. والقياس أن يقال: كما انتهى إلى أول حدود تلك البلدة تنتهي الإجارة.
وجه القياس: أن الإجارة وقعت إلى الكوفة لا إلى منزله، فإذا انتهى إلى أول حدود الكوفة، وجب أن تنتهي الإجارة كما لو استأجر في المصر من محلة إلى محلة، ونزل المستأجر في المحلة المشروط إليها، فإنه تنتهي الإجارة إذا انتهى أول تلك المحلة، ولا يبلغ بها منزله كذا هاهنا.
وجه الاستحسان: أن العرف الظاهر فيما بين الناس، أن من استأجر دابة إلى مصر أو قرية إنه يبلغ بها منزله، وكذلك في الأحمال العرف فيما بين الناس أنهم يبلغون حمولاتهم إلى منازلهم وحوانيتهم والعرف كالمشروط، هذا العرف معدوم في المحلة، والمعنى في ذلك أنه ربما تكون المسافة من المحلة المشروطة إليها إلى منزل المستأجر

(7/564)


المضاف ما يكون فيما بين المحلتين ويفتح أن يستأجر الرجل دابة إلى موضع ويدخل في الإجارة أضعاف ما ورد عليه الإجارة، أو نقول: هذا العرف فيما بين الناس إذا كانت الزيادة على المكان المشروط دونه أما لا عرف فيما إذا كانت الزيادة فوقه أو مثله، فترد هذه الزيادة إلى ما يقتضيه القياس.

وإذا استأجر دابة للحمل فله أن يركبها، وإذا استأجرها للركوب لم يكن له أن يحمل عليها، وإذا حمل عليها لا يستحق الأجر والفرق أن اسم الحمل يقع على الركوب، يقال حمل فلان فلاناً على دابته إذا ركبه، وإذا كان اسم الحمل يقع على الركوب دخل الركوب تحت اسم الحمل، أما اسم الركوب لا يقع على الحمل، ولهذا لا يقال: فلان ركب دابته إذا حمل عليها، وإنما يقال حمل فلا يدخل الحمل تحت اسم الركوب.
وفي «البقالي» : إذا استأجر دابة لحمل، فحمل عليها رجلاً لا يضمن؛ لأنه أخف. وإذا استأجر دابة يطحن عليها كل شهر بعشرة دراهم، ولم يسم كم يطحن عليها كل يوم، فالإجارة جائزة إذا سمى ما يطحن؛ لأنه إذا سمى ما يطحن، فالإجارة وقعت على عمل معلوم، إلا أنه لم يبين مقدار العمل، وبيان مقدار العمل بعد بيان جنس العمل ليس بشرط، ولأن يطحن عليها مقدار ما تحمل الدابة ويطيق، وما يطحن مثلها قدراً فى العرف، وهو نظير ما لو استأجرها ليحمل عليها الحنطة، ولم يبين مقدار ما يحمل، فإنه يجوز على ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وله أن يحمل عليها قدر ما تحتمل كذا هاهنا.

وإذا تكارى دابة من رجل إلى بغداد على أن يعطيه الأجر إذا رجع من بغداد، فمات المستأجر ببغداد ولم يرجع منها، كان للمكاري أن يأخذ أجر الذهاب من تركته لأن أجر الذهاب قد وجب بالذهاب إلى بغداد، إلا أن المكاري كان لا يطالبه بذلك قبل الرجوع؛ لأنه ضرب لذلك أجلاً وهو قدر رجوعه من بغداد، فإذا مات فقد حل الأجل فكان له المطالبة بذلك، كما في سائر الديون المؤجلة إذا مات من عليه قبل حلول الأجل والله أعلم.

الفصل السابع والعشرون: في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والضياع والتلف وغير ذلك
هذا الفصل يشتمل على أنواع:

نوع منه
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل استأجر حماراً بسرج، فنزع ذلك السرج وأسرجه بسرج مثل الحمر، فلا ضمان عليه. الأصل فيما تذكر من جنس هذه

(7/565)


المسألة: أن المستأجر إذا خالف فيما شرطه من الحمل على الدابة ينظر إن كان الجنس واحداً وضرر الثاني أقل من ضرر (47آ4) المشروط أو مثله، فلا ضمان؛ لأن الجنس إذا كان واحداً وقد استوى الضرران، أو كان ضرر أقل لم يوجد الخلاف إلا من حيث الصورة والخلاف من حيث الصورة، لا يكفي لوجوب الضمان، وإن كان ضرر الثاني أكثر من ضرر المشروط يجب الضمان بقدر الزيادة؛ لأنه في الزيادة خالف صورة ومعنى، وإن كان الجنس مختلفاً يجب ضمان كل الدابة، ولا يعتبر فيه قلة الضرر ولا كثرته؛ لأن هذا خلاف صورة ومعنى، لأن هذا الجنس له يدخل تحت العقد أصلاً، وصار الحال فيه بعد العقد كالحال قبله.

بيان هذا الأصل في تخريج المسائل: إذا استأجر دابة ليحمل عليها حنطة بكيل معلوم إلى مكان معلوم فحمل عليها شعيراً بمثل ذلك الكيل إلى ذلك المكان، وهلكت الدابة لا يضمن؛ لأن الشعير بمثل ذلك الكيل من الحنطة يكون أخف على الدابة من الحنطة، فهذا خلاف صورة لا معنى. وإن كان الشعير بمثل قدر الحنطة، وباقي المسألة بحاله يضمن؛ لأن الشعير بوزن الحنطة يكون أكثر كيلاً من الحنطة، فيأخذ من ظهر الدابة أكثر مما تأخذ الحنطة، فيكون هذا خلافاً صورة ومعنى.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب «العارية» إذا استعار دابة عليها كذا مناً من الحنطة، فحمل عليها مثل ذلك الوزن من الشعير والسمسم والأرز إنه يضمن قيمتها. وذكر شيخ الإسلام * رحمه الله * في شرحه: أنه لا يضمن استحساناً، وهو الأصح؛ لأن ضرر الشعير مثل ضرر الحنطة في حق الدابة عند استوائهما وزناً؛ لأنه يأخذ من موضع الحمل من ظهر الدابة أكثر مما تأخذ الحنطة، فكان داخلاً تحت الإذن، وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله.

ولو استأجرها ليحمل عليها عشرة أقفزة شعير، فحمل عليها خمسة أقفزة حنطة ضمن قيمتها، وقيل: فيه روايتان. وإذا استأجر دابة ليحمل عليها شعيراً بكيل معلوم، فحمل عليها حنطة بمثل ذلك الكيل ضمن قيمتها؛ لأن الحنطة بمثل كيل الشعير يكون أثقل على الدابة من الشعير، فيكون ضررها أكثر، فكان خلافاً صورة ومعنى وإن كان بمثل وزن الشعير لا يضمن فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا استأجرها ليحمل عليها عشرة أقفزة شعير، فحمل عليها أحد عشر قفيزاً من شعير، حيث يضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمتها إذا كانت الدابة مما يقوى على حمل أحد عشر قفيزاً، وفيما إذا حمل عليها حنطة بمثل كيل الشعير. قال: يضمن جميع قيمتها؛ لأن هناك المحمول عليه من جنس المسمى، فإنما هلكت الدابة بنقل أحد عشر قفيزاً وعشرة منها مأذون فيها والحادي عشر ليس بمأذون فيه، فيضمن بذلك المقدار، أما ههنا بخلافه.

وإذا استأجرها ليحمل عليها حنطة أو شعيراً بوزن معلوم، فحمل عليها لبناً أو رملاً أو حديداً، بمثل وزن الحنطة أو الشعير، ضمن؛ لأن الحنطة أو الشعير ينبسط على ظهر الدابة، والحديد والرمل واللبن يجتمع في مكان واحد، فيكون أدق بظهر الدابة، فيكون

(7/566)


(خلافاً) صورة ومعنى، وكذلك إذا حمل عليها تبناً أو حطباً أو قطناً بمثل ذلك وزناً، ضمن لأن اللبن والحطب والقطن يأخذ من ظهر الدابة من غير موضع الحمل، فيكون أشق على الدابة، فيكون خلافاً صورة ومعنى.
ولو استأجر ليحمل عليها تبناً أو حطباً أو قطناً أو رملاً أو حديداً أو لبناً فحمل عليها حنطة أو شعيراً بمثل وزن هذه الأشياء لا يضمن؛ لأن ضرر الحنطة والشعير دون ضرر هذه الأشياء لأنهما لا يأخذان من ظهر الدابة شيئاً من غير موضع الحمل في موضع الحمل ينبسطان، فيكون حمله أيسر على الدابة، فيكون خلافاً صورة ومعنى.

نوع آخر
وإذا استأجر من آجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فحمل عليها أحد عشر مختوماً، فعطبت الدابة من ذلك بعدما بلغت المكان المشروط، فعليه الأجر كاملاً ويضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة، أما عليه الأجر كاملاً؛ لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة، ولم يملك شيئاً من المستأجر، فكان عليه الأجر كملاً كما لو استأجر داراً ليسكن فيها ما سكن فيها حداداً أو قصاراً، ولم ينهدم شيء من الدار من عمله، فإن عليه الأجر كذا ههنا، وإنما قلنا استوفى المعقود عليه وزيادة؛ لأن المعقود عليه حمل عشرة مخاتيم حنطة، وقد استوفى ذلك وزيادة حيث حمل أحد عشر مختوماً، والزيادة لا تمنع استيفاء المعقود عليه كما لو حمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، وركب دابة أخرى للآجر، وكما لو استأجر داراً ليسكن فيها فسكن فيها حداداً أو قصاراً، ولم يملك شيئاً من المستأجر، وإن ضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمته، والمضمون يصير ملكاً للضامن بأداء الضمان؛ لأن الجزء المضمون ليس بمستأجر؛ لأن المستأجر عنده من هذه الدابة قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة لأنه قدر المعقود عليه بالحمل لا بالمدة، فيصير المستحق له من هذه الدابة قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة، كما في الأجير المشترك المستحق عليه قدر ما يسمي من العمل؛ لأن المعقود عليه مقدر بالعمل قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة مستأجراً، وما زاد على ذلك غير مستأجر، وحكم المستأجر يخالف حكم غير المستأجر، فيجعل كل بعض من حيث الحكم بمنزلة دابة على حدة، كما في باب الرهن: إذا كان بعض الرهن مضموناً، وبعضه أمانة يعتبر كل بعض في حق الجناية عليه بمنزلة عبد على حدة؛ لأن حكم الأمانة يخالف حكم المضمون، كذا هاهنا.

وإذا كان كل بعض بمنزلة دابة على حدة من حيث الحكم جعل كأنه كان عنده دابتان، أحدهما مستأجرة، والأخرى غير مستأجرة، وقد حمل على المستأجر عشرة مخاتيم حنطة وعلى غير المستأجرة مختوماً، وهناك لا يصير شيئاً من المستأجر مضموناً مملوكاً للمستأجر كذا ههنا، فهو معنى قولنا: الجزء المضمون ليس بمملوك للمستأجر، والتقريب ما ذكرنا وأما يضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة لأن الدابة بلغت بسبب الثقل وثقل العشرة من ذلك مأذون فيه، وثقل الحادي عشر غير مأذون فيه قالوا: تأويل المسألة من وجهين:

(7/567)


أحدهما: إذا كانت الدابة تطيق حمل ما زاد، وكانت تسير مع الحمل، أما إذا كانت لا تطيق، يضمن جميع قيمتها على قياس مسألة تأتي بعد هذا. والثاني: أن يحمل عليها أحد عشر مختوماً دفعة واحدة أما إذا حمل عليها عشرة مخاتيم حنطة ثم حمل عليها مختوماً، وعطبت الدابة يضمن قيمتها بتمامها، إذا حمل الحادي عشر في المكان الذي حمل العشرة، أما إذا حمل في مكان براً ويجب يضمن بقدر الزيادة على قياس مسألة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا استأجر ثوراً ليطحن به عشرة مخاتيم حنطة، فطحن أحد عشر مختوماً وعطبت الدابة، أو استأجرها ليكري بها جريباً، فكريت جريباً ونصف جريب، وهلك الثور، فإنه يضمن جميع القيمة؛ لأن الطحن يكون شيئاً فشيئاً. فكلما طحن عشرة انتهى العقد، فبعد ذلك هو في طحن الحادي عشر مخالف من كل وجه، فيضمن جميع قيمتها، كما لو طحن عليها قفيزاً ابتداء فأما الحمل يكون دفعة واحدة، وبعض المجهول مأذون فيه، فلا يضمن بقدره.
قال: وإذا استأجر دابة ليركبها، فركب هو وحمل مع نفسه آخر، إن سلمت الدابة، فعليه الأجر كاملاً لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة، ولم يملك شيئاً من المستأجر؛ لأنه لا ضمان لما سلمت الدابة، ولو ثبت الملك ليست بالضمان، فإن هلكت الدابة من ركوبهما بعدما بلغا المكان المشروط، فعليه الأجر كملاً ويضمن نصف قيمة الدابة. وإنما ضمن نصف القيمة؛ لأن الدابة تلفت من ركوبهما، فيكون التالف بركوب كل واحد منهما النصف، وركوب أحدهما مأذون فيه وركوب الآخر ليس بمأذون فيه، فيعطي لكل ركوب حكم نفسه، ويكون للمالك في ذلك الخيار، فإن شاء ضمن المستأجر، وإن شاء ضمن ذلك الغير.
فإن ضمن المستأجر (47ب4) لا يرجع على ذلك الغير مستأجراً كان أو مستعيراً، وإن ضمن ذلك الغير رجع على المستأجر إن كان ذلك الغير مستأجراً أو إن كان مستعيراً لا يرجع عليه، ثم في حق الضمان يستوي أن يكون ذلك الغير أخف أو أثقل؛ لأن العبرة في باب الركوب للعدد؛ لأن التلف لا يحصل بالثقل؛ لأن رب بخف ركوبه يفسد الدابة، لقلة هدايته بأمر الركوب؛ لحركاته واضطرابه، ورب جسيم لا يفسدها، هداية بأمر الركوب لقلة حركاته واضطرابه على الدابة فسقط اعتبار الوزن في الراكب، وثبتت العبرة للعدد.
قالوا: وإنما يضمن نصف قيمة الدابة إذا كانت الدابة تطيق ركوب اثنين، أما إذا كانت لا تطيق ركوب اثنين يضمن جميع قيمة الدابة؛ لأن ركوبهما والحالة هذه، قيل: معنى إن كان ركوباً صورة، والعبرة للمعنى، وإنما كان على المستأجر الأجر كاملاً وإن ضمن نصف القيمة وصار نصف الدابة ملكاً له بالضمان، لأن القدر المضمون ليس بمستأجر، لأن المستأجر من هذه الدابة قدر ركوبه؛ لأن المعقود عليه متعذر بالعمل، فصار قدر ركوبه من هذه الدابة مستأجراً ومازاد على ذلك غير مستأجر، والتقريب ما ذكرنا.

(7/568)


ثم إن محمداً رحمه الله أوجب في هذه المسألة نصف القيمة مطلقاً، وذكر في «الجامع الصغير» فيمن استأجر دابة إلى القادسية فأردف رجلاً خلفه، فعطبت الدابة ضمن بقدر الزيادة. وذكر في «الجامع الصغير» أيضاً بعد مسالة القادسية بكثير واعتبر فيها الحزر والظن.

وفي «القدوري» يقول: المستأجر يضمن النصف، سواء كان الثاني أخف أو أثقل. قال الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: وحاصل ذلك: أن يعتبر الحزر والظن، فإن أشكل يعتبر العدد، وإن حمل عليها مع نفسه صغيراً لا يمكنه استعمال الدابة، ولا تصريفها ضمن بحساب ما زاد، لأن الصغير إذا كان بهذه المثابة، فحمله وحمل شيئاً آخر سواء. وإن حمل عليها مع نفسه شيئاً آخر، وبلغت الدابة ضمن بقدر الزيادة تحرر القاضي الراكب ويزن ما حمل مع نفسه أو يرجع في ذلك إلى من له مهارة يعرف أن هذا الحمل كم يزيد على قدر ركوبه، كذا هاهنا.
ثم إذا ركب وحمل عليها مع نفسه حملاً يضمن بقدر ما زاد إذا ركب في غير مكان الحمل؛ لأن ثقل الراكب مع ثقل الحمل لا يجتمعان في مكان واحد، فيبقى موافقاً في البعض مخالفاً في البعض، فيضمن بحساب ما خالف فأما إذا ركب على مكان الحمل يضمن جميع القيمة؛ لأن ثقل الراكب مع ثقل الحمل يجتمعان في مكان واحد، فيكون أدق على الدابة. فعلى هذه المسألة نقول:
إذا استأجر دابة ليركبها، فركبها وحمل على عاتقه غيره، يضمن جميع القيمة، وهذا إذا كانت الدابة تطيق أن يركب عليها مع الحمل، أما إذا كانت لا تطيق ذلك يجب جميع الضمان في الأحوال كلها.
ولو استأجر ليركبها فلبس من الثياب أكثر مما كان عليه حين استأجرها إن لبس من ذلك مثل ما يلبسه الناس، فلا ضمان، وإن لبس ما لا يلبسه الناس ضمن بحساب ما زاد؛ لأن في الفعل الأول ما زاد من الثياب داخل تحت الإجارة عرفاً، والمعروف كالمشروط.
وفي الفعل الثاني: ما زاد من الثياب ليس بداخل تحت الإجارة أصلاً لا عرفاً ولا شرطاً، فيضمن بحساب ذلك، كما لو حمل عليها شيئاً آخر. وإذا استأجر دابة ليركبها فلم يركبها بنفسه بل ركب غيره، ضمن قيمة الدابة؛ لأن ركوب غيره ليس بداخل تحت العقد لأن الناس يتفاوتون في الركوب.
وفي «الأصل» : إذا تكارى الرجل من غيره دابة يحمل عليها إنساناً بأجر معلوم، فحمل عليها امرأة ثقيلة، فعطبت الدابة، فإن كانت الدابة بحال تطيق حملها، فإنه لا ضمان؛ لأنه حمل عليها إنساناً كما سمى في العقد؛ لأن اسم الإنسان يقع على الرجل والمرأة وعليه الأجر استحساناً، لأنه استأجرها للركوب ولم يتبين الراكب فوقعت الإجارة فاسدة. فإذا ركب إنساناً انقلبت الإجارة جائزة استحساناً. وإن كانت الدابة بحال لا تطيق حملها يكون ضامناً، لأن الدابة إذا كانت لا تطيق حملها كان حملها عليه إتلافاً لا حملاً، والإتلاف لم يدخل تحت الإذن إذا استأجر دابة ليركبها، فحمل عليها صبياً صغيراً

(7/569)


فعثرت الدابة من حمله فهو ضامن؛ لأنه خالف، لأن الصبي الذي لا يستمسك نفسه على الدابة ضمن نصف القيمة، فثبت أن وضع الصبي على الدابة حمل، وليس إركاب، والحمل مع الركوب جنسان مختلفان، فصار به غاصباً ضامناً.

وإذا استأجر حماراً بسرج، فأسرجه بسرج لا يسرج بمثله الحمر، فهو ضامن بقدر ما زاد باتفاق الروايات بالإجماع، لأنه موافق في البعض صورة ومعنى؛ لأنه أسرج كما شرط في العقد، إلا أن هذا السرج أثقل من الذي شرط في العقد، فهو بمنزلة ما لو استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فحمل عليها أحد عشر مختوماً. وإن كان السرج الثاني أخف من الأول، أو مثله فلا ضمان؛ لأنه ليس بمخالف معنى وكذلك لو استأجره بإكاف، تنزع ذلك الإكاف وأوكفه بإكاف هو أخف من الأول، أو مثله فلا ضمان، وإن أوكفه بإكاف هو أثقل ضمن بقدر الزيادة، وإذا استأجر حماراً بإكاف ليركبه، فنزع الإكاف وأسرجه، فلا ضمان ولأن السرج أخف على الدابة من الإكاف، فلم يكن هذا خلافاً معنى.
ولو استأجر حماراً بسرج فحمل عليه مكان السرج إكافا وركبه، فهو ضامن هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قالوا: هذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: هو ضامن بقدر ما زاد، وذكر في «الأصل» وقال: هو ضامن بقدر ما زاد ولم يذكر الخلاف، فمن مشايخنا من قال: لا اختلاف بين الروايتين عند أبي حنيفة، فإنه ذكر في «الجامع الصغير» أن قول أبي حنيفة هو ضامن ولم يذكر أنه ضامن جميع القيمة أو بقدر ما زاد، فصار ما ذكر في «الأصل» تفسيراً لما ذكر في «الجامع الصغير» . ومنهم من قال: في المسألة روايتان على قول أبي حنيفة على رواية «الأصل» يضمن بقدر ما زاد، هو قولهما. وعلى رواية «الجامع الصغير» يضمن جميع القيمة، وهذا إذا كانت الدابة تؤكف بمثل هذا الإكاف، أما إذا كانت دابة لا تؤكف أصلاً أو لا يؤكف بمثل هذا الإكاف؛ يضمن جميع القيمة في قولهم جميعاً.
s

وكان الفقيه أبو بكر محمد رحمه الله يوفق بين الروايتين، ويقول: رواية «الجامع الصغير» محمولة على دابة تصلح للإكاف والسرج وبرواية «الأصل» محمولة على دابة لا تصلح للإكاف. ومن المشايخ من لم يوفق بين الروايتين من هذا الوجه، وذكر لكل رواية وجهاً. وجه ما ذكر في «الأصل» وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أن المستأجر فيما يسع، موافق في البعض صورة ومعنى، ومخالف في البعض معنى؛ لأن الإكاف والسرج جنس واحد؛ لأن كل واحد منهما آلة الركوب، وكل واحد منهما متخذ من الخشب، إلا أن الإكاف أثقل من السرج، فكان بمنزلة ما لو حمل عليها سرجاً آخر أثقل من السرج المأمور به.
وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» وهو الأصح: أنه مخالف في الكل صورة ومعنى؛ أما صورة: فلأن الإكاف غير السرج صورة واسماً وهيئة. وأما معنى: فلأن الإكاف أثقل من السرج على الدابة، فكان مخالفاً صورة ومعنى؛ فيضمن جميع قيمة الدابة إذا هلكت

(7/570)


من ذلك قياساً على ما إذا استأجر دابة ليحمل عليها شعيراً، فحمل عليها بمثل ذلك الكيل حنطة.

ولو استأجر حماراً عرياناً فأسرجه وركبه فهو ضامن. قال مشايخنا: إذا استأجره من موضع إلى موضع لا يمكن الركوب إليه إلا بسرج، نحو: إن استأجره من بلد إلى بلد لا يضمن؛ لأن الإذن بالإسراج يثبت دلالة، وكذلك لو استأجره ليركب في المصر، والمستأجر ممن لا يركب في المصر عرياناً، فلا ضمان ويثبت (48أ4) الإذن بالإسراج في حقه دلالة وإن كان المستأجر ممن يركب في المصر عرياناً فعليه الضمان إذا لم يثبت الإذن بالإسراج في حقه لا نصاً ولا دلالة ثم إذا ضمن يضمن جميع القيمة أو بقدر ما زاد لا ذكر لهذه المسألة في الأصل.

وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يضمن بقدر ما زاد كما لو ركبها واركب مع نفسه غيره، وبعضهم قالوا: يضمن جميع القيمة وهو الصحيح لأنه بما صنع مخالف في الكل صورة ومعنى، فأما صورة فلأنه أمره أن يركبها عرياناً وقد ركبها مع السرج وأما معنى فلأن الركوب على السرج أضر بالدابة؛ لأن ثقل الراكب والسرج يجتمعان في مكان واحد فكان أدق لظهر الدابة، بخلاف ما إذا ركب وأركب مع نفسه غيره؛ لأن ثقل الآخر لم يجتمع في المكان الذي ركبه بنفسه.
ولو أستأجر دابة بغير لجام وألجمها، لا ضمان عليه؛ إذا كانت دابة تلجم مثلها؛ لأن اللجام في الأصل وضع لضبط الدابة عن السير، ولا بد للراكب من ذلك إذا كانت دابة تلجم مثلها، فيصير مأذوناً باللجام، حتى لو كانت دابة لا تلجم يصير ضامناً لإمكان الضبط من غير لجام، ولو كان عليها لجام فأبدلها بلجام آخر، فلا ضمان. هكذا ذكر القدوري في شرحه.
قال محمد رحمه الله: إذا استأجر من آخر دابة إلى الحيرة بدرهم، فجاوزتها إلى القادسية، ثم ردها إلى الحيرة، فنفقت فهو ضامن. قال: وكذلك العارية. هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قيل: هذا إذا استأجرها واستعارها إلى الحيرة ذاهباً لا جايئاً. فأما إذا أستأجرها أو استعارها ذاهباً وجائياً وإذا ردها إلى الحيرة، ونفقت فلا ضمان عليه وهذا التفصيل على هذا الوجه مذكور في «الشروط» و «النوادر» . وقيل: هو ضامن في الوجهين. وإليه أشار في «الجامع الصغير» حيث أطلق المسألة إطلاقاً، ولقت المسألة أن المستأجر أو المستعير، إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق هل يبرأ عن الضمان؟ وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يبرأ كالمودع. وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العارية، وبعضهم قالوا: لا يبرأ بخلاف المودع، وإليه أشار في «الجامع الصغير» . وهكذا أطلق المسالة في القدوري، وروى ابن سماعة عن محمد: أن المستأجر يبرأ بالعود إلى الوفاق.

وصورة ما ذكر ابن سماعة: رجل استأجر من آخر دابة أياماً معلومة، يركبها في المصر، فخرج عليها من المصر ثم ردها إلى المصر في تلك الأيام، فبقيت في يده لم

(7/571)


يضمن بمنزلة المودع.
وجه قول من فرق بينهما: إذا استأجر أو استعار ذاهباً لا جائياً: أنه إذا استعار ذاهباً وجائياً، فإذا جاوز الحيرة لم يبين العقد، فإذا عاد إلى الحيرة عاد وعقد الإجارة والإعارة تأبى والمستأجر والمستعير كل واحد منهما مأمور بالحفظ بمقتضى الإجارة والعارية؛ لأنه لا يمكنها استيفاء المنفعة إلا بالحفظ، فما بقي العقد يبقى الأمر بالحفظ، فإذا عاد إلى الوفاق عاد والأمر بالحفظ قائم، فصار ممتثلاً أمر المالك، ويد المأمور، يد الآمر فكان الرد إلى يد المأمور كالرد إلى الآمر، وهذا هو الطريق في المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، أن يبرأ عن الضمان؛ لأن الأمر بالحفظ في حق المودع مطلق، فيتناول كل زمان، وبعدما خالفه دخل العير في ضمانه لم يرتفع الأمر بالحفظ؛ لتصور المأمور به بعد ذلك، فإذا عاد إلى الوفاق عاد والأمر بالحفظ قائم، فصار ممتثلاً والتقريب ما مر.
وأما إذا استأجر أو استعار ذاهباً لا جائياً فإذا جاوز بها إلى الحيرة انتهى العقد نهايته، وإذا انتهى العقد انتهى الأمر بالحفظ ما ثبت نصاً إنما يثبت بمقتضى الإجارة والعارية، فيرتفع بارتفاع الإجارة والعارية، فأما إذا عاد إلى الحيرة عاد والأمر بالحفظ ليس بقائم، فلا يصير ممتثلاً أمر المالك، فلا يعود أميناً بخلاف المودع؛ لأن الأمر بالحفظ في الوديعة ثابت مقصوداً وإنه مطلق فيتناول كل زمان، والتقريب بما مر.

وجه قول من سوى بينهما أن المالك ما أمر المستعير والمستأجر بالحفظ مقصوداً إنما أمرهما بالاستعمال والانتفاع وإنما يثبت لهما ولاية الحفظ تبعاً للاستعمال لا بأمر ثابت من جهة المالك، فإذا جاوز الحيرة صار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه، والغاصب لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد إما على المالك أو على من هو مأمور بالحفظ من جهة المالك، ولم يوجد هاهنا ذلك. والصدر الشهيد رحمه الله: كان يميل إلى القول الثاني. وغيره من مشايخ زماننا: كانوا يميلون إلى القول الأول.
وعن أبي يوسف في «النوادر» رواية أخرى: أنه إذا استعار أو استأجر ذاهباً وجائياً لا يبرأ عن الضمان؛ لأنه إذا استأجر أو استعار ذاهباً وجائياً فالرد على المستأجر، فيكون المستأجر والمستعير بمنزلة المودع، فيبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق.

وفي «القدوري» : وقال أبو يوسف ومحمد فيمن استأجر دابة إلى مكان معلوم، فلما سار بعض الطريق ادعاها لنفسه، وجحد أن يكون استأجرها، وصاحب الدابة يدعي الإجارة: فإن نفقت من ركوبه فلا ضمان، وإن نفقت قبل أن يركب ضمن. ولو انقضت المسافة فجاء بها ليردها على صاحبها، فتلفت وجب الضمان، فقد جعلاه ضامناً بالجحود، ثم أسقطا عنه الضمان بالركوب، وهذا يقتضي أن تكون يد المستأجر قائمة مقام يد الآجر. وعلل محمد رحمه الله لهذا فقال: لأنه ليس لرب الدابة أخذها منه، فلم يكن بجحوده مانعاً حقه. بخلاف المودع إذا جحد الوديعة؛ لأن هناك لصاحبها أخذها فبالجحود منعها منه، ثم عقب هذا التعليل فقال: لو انكسرت أو ضعفت حتى لا يمكن

(7/572)


ركوبها ضمن قيمتها منكسرة، وعاصه، لأن الرد واجب إذا كانت الدابة بهذه الصفة، فتعلق بالجحود الضمان كما في الوديعة.

وذكر في «المنتقى» برواية ابن سماعة عين هذه المسألة، وأجاب على التفصيل الذي ذكره القدوري: أن الدابة إن هلكت قبل الركوب ضمنها وإن ركبها وهلكت من ركوبه فلا ضمان. ويخرج عن ضمان الغصب قال ثمة: ألا ترى أنه لو غصب من آخر دابة، ثم إن المالك أجرها منه إلى الكوفة بعشرة دراهم جاز، وبرئ عن الضمان إذا ركبها كذا ههنا، وهذا لأن بجحود المستأجر الإجارة إن انفسخ العقد في حق المستأجر، وصار المستأجر غاصباً العين لم ينفسخ في حق الآجر، فإذا ركبها إلى المكان المسمى وعقد الإجارة قائم في حق الآجر فإنما ركبها بحكم العقد في حق الآجر والضمان جميعاً.
هشام عن محمد: رجل استأجر من رجل غلاماً سنة، كل شهر بعشرة دراهم، وقبض العبد، فلما مضى نصف السنة جحد المستأجر أن يكون استأجر العبد، وقيمته يوم جحد ألف درهم، فمضت السنة وقيمته ألف درهم، ثم مات العبد. قال: الإجارة لازمة له، ويلزمه أجر جميع السنة، ويضمن قيمة العبد بعد السنة. قال هشام: قلت لمحمد: كيف اجتمع الأجر والضمان؟ قال محمد: لم يجتمعا، ففسر هشام ذلك، فقال: الأجر وجب لاستعماله العبد في السنة، والضمان وجب بعد مضي السنة؛ لأن بعد مضي السنة وجب عليه رد العبد على المالك، ولم يرد، فوجب الضمان فاختلف سبب وجوبهما واختلف الزمان، فكيف يظهر الاجتماع؛ وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: ينبغي أن يلزمه الأجر قبل الإنكار، ويبطل عنه الأجر بعد الإنكار.

استأجر قميصاً ليلبسه ويذهب إلى مكان كذا فلم يذهب إلى ذلك الموضع، ولبسه في منزله. قال أبو بكر: هو مخالف ولا أجر عليه وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: عندي أنه غير مخالف، وعليه الأجر؛ لأن هذا خلاف إلى خير فلا يصير به ضامناً، فلا يسقط الأجر، ولأن الأجر مقابل بمنفعة اللبس دون الحمل إلى ذلك المكان وإنما ذكر (48ب4) المكان لازماً في حق الآجر دون المستأجر. قال أبو الليث رحمه الله: وهذا بخلاف ما لو استأجر دابة ليذهب إلى موضع كذا، فركبها في المصر في حوائجه فهو مخالف؛ لأن في الدابة لا تجوز الإجارة إلا أن يبين المكان، وفي الثوب يحتاج إلى بيان الوقت دون المكان، فوقعت الإجارة في الدابة على المكان المذكور، والركوب في المصر ليس خلافاً إلى خير فصار مخالفاً، أما ههنا بخلافه.

استكرى دابة لمسيرة فرسخ، فسار عليها سبعة فراسخ وعليه من الكراء مقدار ما شرط وفيما زاد على الفرسخ هو غاصب، فلا أجر عليه. ولو أرضى صاحب الدابة كان له خيراً في الأجرة؛ لأنه تقاص في الأجرة بالحساب.
استأجر حماراً ليحمل عليه وقر حنطة إلى المدينة، فحمل الحنطة إلى المدينة

(7/573)


وباعها، وانصرف إلى منزله، فوضع على الحمار مقدار قفيز من الملح، فأخذه مرض في الطريق، فمات فعليه ضمان الحمار إذا حمل عليه الملح بغير إذن صاحب الحمار؛ لأنه صار غاصباً بذلك، فدخل في ضمانه.
استأجر دابة ليحمل عليها حنطة من موضع إلى منزله يوماً إلى الليل، فكان يحمل الحنطة إلى منزله، وإذا أراد الذهاب ثانياً كان يركبها، فعطبت الدابة. ذكر عن أبي بكر رحمه الله: أنه يضمن لأنه استأجرها للحمل بدون الركوب، فكان غاصباً في الركوب. قال أبو الليث رحمه الله: هو القياس، لكن في الاستحسان لا يضمن؛ لأن العادة جرت فيما بين الناس بذلك فصار كأنه إذن له في ذلك من طريق الدلالة، وإن لم يأذن بالإقصاء.

استأجر حماراً ليحمل عليه اثني عشر وقراً من التراب إلى أرضه بدرهم، وله في أرضه لبن فكما عاد من أرضه يحمل عليه وقراً من اللبن، فإن هلك الحمار في الرجوع مع اللبن يضمن قيمة الحمار دون الأجر؛ لأنهما لا يجتمعان، ولو سلم الحمار حتى تم العمل، فعلى المستأجر تمام الدرهم، في كل وقر من التراب نصف دانق ويجوز أن يخالف في العمل ثم يجب الأجر المسمى، إذا سلمت الدابة عن ذلك العمل كما في مسألة فرسخ وسبعة فراسخ التي مرت.
وكمن استأجر دابة إلى موضع معين، فجاوزه ثم عاد إلى الوثاق لا يعود أميناً بل هو ضمين، حتى لو هلكت الدابة في طريق ذلك الموضع المعين، يضمن قيمتها، ثم إذا سلمت الدابة يحسب تمام الأجر؛ وكذا لو استأجر دابة ليركب هو بنفسه إلى مكان كذا، فركب وأردف معه غيره صار غاصباً في النصف إذا كانت الدابة فيما تطيق مثلهما، ولو سلمت الدابة يجب تمام الأجر كذا ههنا.
ولو استأجر حماراً ليحمل عليه كذا كذا حملاً، فزاد على ما سمى وحمل الحمولة إلى ذلك المكان، فلما وضع الحمولة وجاء بالحمار سليماً، ضاع قبل أن يرده إلى صاحبه، ينظر إلى مقدار ما زاد من الحمولة، فيضمن من قيمة الحمار بذلك القدر؛ لأنه صار غاصباً من الحمار بذلك القدر فلا يبرأ عن ضمان ما صار غاصباً منه إلا بالرد. رواه بشر عن أبي يوسف ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله. وهذا كما ذكر في اختلاف وقران.

أن من استأجر حماراً من الكوفة إلى القادسية ذاهباً وجائياً فجاوزته القادسية، ثم عاد به سليماً إلى الكوفة، فعليه نصف ما سمى من الأجر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه صار غاصباً فلا يبرأ عن الضمان إلا بالرد. وعن أبي يوسف: فيمن استأجر دابة من مصر إلى مصره، فأمسكها في بيته فهلكت. قال: إن أمسكها مقدار ما يمسك ليتهيئوا أمورهم، فلا ضمان والأجر ثابت، وإن أمسكها أكثر من ذلك خرجت من الإجارة، وهي معلومة عنده.

نوع آخر
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جاء بدابته إلى بيطار، وقال: انظر فيها فإن

(7/574)


بها علة، فنظر فيها فقال: بجنب إذنها علة يقال لها: فارة يعني بوش، فأمره صاحب الدابة بإخراجها، فأخرج ذلك بأمر صاحب الدابة وتلفت الدابة، فلا ضمان على البيطار؛ لأنه مأذون في ذلك.
وفي «المنتقى» : رجل قال لصيرفي: انقد لي عشرة دراهم بكذا، ففعل ثم وجد صاحب الدراهم فيها زيوفاً أو ستوقاً، فلا ضمان على الصيرفي؛ لا لأنه يبطل عليه حقاً، ولكن يرد من الأجر بحساب ما وجد زائفاً، حتى إن في مسألتنا يرد عشر الأجر، ولو وجد الكل زائفاً يرد كل الأجر؛ لأنه لم يوف المعقود يد القدر.
في «فتاوى النسفي» : إذا أخذ من له الدراهم دراهمه ممن عليه، وقد استعدها الناقد، ثم خرج بعض الدراهم زيوفاً أو ستوقاً فلا ضمان على الناقد؛ ولكن يرد القابض الزيوف على الدافع، فإن أنكر الدافع وقال: ليس هذا من دراهمي، فالقول قول القابض؛ لأنه لو أنكر القبض أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر القبض فيما عدا هذا العين.
سأل وراقاً أن يكتب له جامع القرآن وينقطه ويعشره ويعجمه، وأعطاه الكاغد والحبر، وشرط له أربعون درهماً، فكتب وترك بعض العواشر وأخطاء في النقط، قال إن فعل ذلك في كل ورقة فالدافع بالخيار، إن شاء أخذ المكتوب وأعطاه أجر مثل عمله لا يجاوز به أربعين، وإن شاء ترك المكتوب وضمنه مثل بياضه وحبره، وهو نظير ما لو دفع إلى خياط ثوباً، ليخيط له فخاط قباء وطاق واحد. يقال له: قرطق، يخير المالك بين أن يضمنه قيمة ثوبه ويترك القرطق عليه، وبين أن يأخذ القباء ويعطيه أجر مثله لا يجاوز به الأجر المسمى.

وإن كان الوراق وافقه في بعضه وخالفه في بعضه، أخذ وأعطاه حصة ما وافق من المسمى، وحصة ما خالفه من أجر المثل؛ لأنه فيما وافق جرى على موجب العقد، فاستحق حصته من المسمى، وفيما خالف لم يجرِ على موجب العقد من كل وجه، فكأنه عمل بإجازة فاسدة فيستحق أجر المثل؛ ولو دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي؛ فصبغة قفيز عصفر فهذا على وجهين: إن صبغه أولاً بربع الهاشمي؛ فصاحب الثوب بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ولا أجر، وإن شاء مصبوغاً بربع الهاشمي وأعطاه المسمى، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه المسمى، وما زاد ثلاثة أرباع القفيز في الثوب، وهذا لأنه حين صبغ بالربع فقد وفى بالشرط، فإذا صبغ بعد ذلك فهو متعدٍ في هذا الصبغ، فيصير كأنه غصب ثوباً مصبوغاً بعصفر بالربع، فصبغه بعد ذلك بثلاثة الأرباع، وهذا لأن الصبغ في حكم المقبوض من وجه، إلا أنه لم يكمل القبض فيه؛ لأنه لم يصل إلى يده، فكان له أن يضمنه الثوب أبيض، وله أن يضمنه مصبوغاً بعصفر، وإن كان صبغه ابتداء بقفيز، فله ما زاد الصبغ فيه ولا أجر له؛ لأنه لم يوف العمل على الوجه المأذون فيه، فيصير كأنه غصب ثوباً وصبغه بعصفر. هكذا ذكر «القدوري» .
وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله بخلافه، فقال: له أن يضمنه قيمة ثوبه أبيض، وله أن يأخذ الثوب ويغرم الأجر. وما زاد ثلاثة أرباع القفيز فيه مجتمعاً كان أو

(7/575)


متفرقاً. وهذا لأن الثوب لا يتشرب الصبغ دفعة واحدة؛ ولكن شيئاً فشيئاً فلا يقع الفرق بين أن يكون مجتمعاً أو متفرقاً. وستأتي هذه المسألة مع زيادة تفريعات في فصل المتفرقات إن شاء الله تعالى.

ولو دفع إلى صباغ ثوباً، وأمره بصبغه بزعفران أو ببقم، فخالف بصبغه غير ما سمى، إلا أنه من ذلك الصبغ يريد به أنه لم يسبغ صبغة، وقد كان أمره صاحب الثوب أن يسبغه، فالمالك بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض، ويسلم له الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله، لا يزاد به المسمى.
في «الأصل» وفي «القدوري» إذا أمر إنساناً أن ينقش اسمه في فص خاتمه، فغلط ونقش اسم غيره، ضمن الخاتم؛ لأنه فوت عليه الغرض المطلوب من الخاتم، وهو الختم به فصار كالمستهلك له.
ومنه لو أمره أن يحمر له بيتاً فخضر، فقال: (49أ4) يعطيه ما زاد الخضرة فيه ولا أجر له؛ لأنه عمل ما لم يستأجر له، فلا يستحق الأجر، ولكن يعطيه من قيمة الصبغ ما زاد في البيت.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رحمه الله: في رجل استأجر أرضاً ليزرعها حنطة، فزرعها رطبة، قال: هو ضامن يريد به أن يمكن في الأرض نقصان ولا أجر عليه، وهذا لأن الرطبة لا يعرف نهايتها وضررها بالأرض ظاهر، وإنه يخالف ضرر سائر وجوه الزراعة، فصار غاصباً فلا يجب الأجر.
قال محمد رحمه الله فيه أيضاً: في رجل دفع إلى خياط ثوباً، وأمره أن يخيطه قميصاً بدرهم، فخاطه قباء، وأقر بالخلاف فلصاحب الثوب الخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه وترك القباء عليه، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثل ما عليه لا يجاوز به المسمى هكذا ذكر ههنا. وفي «الأصل» . وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا خيار لصاحب الثوب والخياط ضامن قيمة ثوبه. بعض مشايخنا قالوا: أراد بالقباء العرطق الذي هو ذو طاق واحد، فإن هذا القباء يشبه القميص، فإن بعض الناس يستعملونه استعمال القميص، فكان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فإن شاء رضي به باعتبار جهة الموافقة، وإن شاء تركه باعتبار جهة المخالفة إلا أن في الكتاب أطلق القباء إطلاقاً فيدل على أن الحكم في الكل واحد.

وجه ما روى الحسن: أن الخياط مخالف من كل وجه؛ لأنه خالفه في جنس ما أمر به، فإنه أمره بخياطة القميص وهو قد خاط القباء، والقباء ليس من جنس القميص، فكان مخالفاً من كل وجه، فيكون غاصباً من كل وجه. وحكم الغاصب من كل وجه أنه متى قطع ثوب غيره، وخاطه يملكه بالضمان ولا يبقى لصاحب الثوب الخيار، فكذلك هذا. وجه ظاهر الرواية هو: أن الخياط فيما صبغ موافق من وجه، مخالف من وجه، فيتخير كما لو خالفه في خياطة القميص من حيث الطول والقصر، إلا أن عبارة مشايخنا اختلفت في إثبات الموافقة من وجه منهم من يقول: إن خياطة القباء تشبه خياطة القميص من وجه

(7/576)


من حيث الدخاريص والكمين وإن كان يخالف خياطة القميص فيما عدا ذلك. وإذا كان يوافق خياطة القميص من وجه، ويخالفه من وجه، كان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فيتخير كما فيما تقدم ذكره من المسائل.

ومنهم من يقول: في إثبات المخالفة والموافقة من وجه. صاحب الثوب أمره بإدخال الخيوط في ثوبه بخياطة القميص، وهذا أدخل الخيوط في ثوبه بخياطة القباء، فكان مخالفاً من وجه موافقاً من وجه. والموافقة إن قلت: يجب إثبات الخيار حتى لا يلغو إثبات الإذن والموافقة من وجه بخلاف ما لو غصب ثوباً فقطعه وخاطه قباء؛ لأنه مخالف في القطع، وفي إدخال الخيوط في ثوبه، فكان مخالفاً من كل وجه، بخلاف ما نحن فيه.
ومنهم من يقول: إنه موافق في الخياطة، فإن الخيوط الذي استعملها فيه داخل تحت الإذن، وإنما حصل الخلاف في نفس القطع، والغاصب إذا قطع الثوب ولم يخط لم يمنع صاحبه من أخذه فكذلك هذا لا يمنع رب الثوب من أخذه، بخلاف الغاصب فإنه مخالف في القطع والخياطة، فكان مخالفاً من كل وجه، وقد استهلك الثوب وأحدث صنعة متفرقة بغير أمره، فهو معنى قولنا: إنه موافق من وجه مخالف من وجه. وإذا كان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، كان لصاحب الثوب الخيار، إن شاء ترك القباء عليه، وضمنه قيمة ثوبه ولا أجر له، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثل عمله ولا يجاوز به ما سمى، وهذا على قول من يقول: بأنه يعطيه أجر المثل متى خالفه من وجه؛ لأن العقد يفسد بالخلاف من وجه ظاهر.
وعلى قول من يقول: يعطيه المسمى إذا رضي بالعيب، نقول: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا اختار وأخذ القباء ولم يرض بالعيب وله أن يأخذ القباء ولا يرضى بالعيب، ومتى كانت الحالة هذه، فإنه يعطيه أجر المثل، فأما إذا رضي بالعيب يعطيه المسمى.
l
وسيأتي بيان القولين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن اختلفا، فقال الخياط: أمرتني بهذا. وقال رب الثوب: أمرتك بقميص، فالقول قول رب الثوب مع يمينه؛ لأن الأمر استفيد من جهته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الخياط، أقر بسبب الضمان وادعى ما يبرئه عنه، وهو الإذن وذلك غير ثابت، فهو ببينته يثبت ما ليس بثابت، وصاحب الثوب يثبت ما هو ثابت، وهو الضمان فكانت بينة الخياط أولى. ولو أمره بأن يخيط له قميصاً فخاطه سراويلاً، هل يتخير رب الثوب؟ فعلى مرد العبارة الأولى في مسألة القباء لا يتخير؛ لأن السراويل لا يشبه القميص أصلاً إذ ليس له كم ولا دخريص وعلى مرد العبارة الثانية والثالثة يتخير وإنه أقرب إلى الصواب.

فقد روي عن محمد فيمن دفع إلى رجل شيئاً ليضرب له طيناً، فضرب له كوزاً، إن له أن يأخذه ويعطيه أجر المثل، فكذا في السراويل. وقد مرت مسألة السراويل.

قال: إذا دفع إلى حائك غزلاً لينسجه له سبعاً في أربع، يريد به أن يكون طوله سبعاً وعرضه أربعاً، فخالف، فهذا على وجهين:
إما أن يكون الخلاف من حيث القدر، أو من

(7/577)


حيث الصفة، والخلاف من حيث القدر على وجهين: إما أن يكون زيادة بأن حاك ثمان في أربع، أو إلى نقصان بأن حاك ستاً في أربع والخلاف من حيث الصفة على وجهين أيضاً: إما أن يكون من حيث الزيادة، بأن أمره أن ينسجه رقيقاً فنسجه صفيقاً أو من حيث النقصان، بأن أمره، أن ينسجه صفيقاً فنسجه رقيقاً، وفي الفصول كلها صاحب الغزل بالخيار، إن شاء ترك الثوب على النساج وضمنه غزلاً مثل غزله، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه الأجر، وإنما خير صاحب الغزل؛ لأن النساج موافق في أصل العمل مخالف في الصفة في الفصول كلها.

أما إذا كان الخلاف من حيث الزيادة والنقصان في الصفة، فلا إشكال؛ أنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة، وإن كان الخلاف من حيث الزيادة والنقصان في القدر، فكذلك مخالف في الصفة إن زاد في الدرع، فلأنه لو استعمل جميع الغزل بقدر ما أمر به، وإن نقص عن القدر فلأنه لو استعمل الغزل في جميع ما أمر به كان يحصل الثوب أرق. وبسبب النقصان في الذرع يحصل الثوب أصفق، والصفاقة والرقة مقصودة في الثياب، فصح قولنا: إنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة، فيتخير صاحب الثوب إن شاء مال إلى الخلاف، وجعله عاملاً لغير عقد وترك الثوب عليه، وضمنه غزله، وإن شاء مال إلى الوفاق وأخذ الثوب وأعطاه الأجر. ولم يذكر محمد رحمه الله: أنه يعطيه المسمى أم أجر المثل. وقد اختلف المشايخ: قال بعضهم: بأنه يعطيه أجر المثل على كل حال لا يجاوز به ما سمي إن كان أجر مثله أكثر، وإن كان أقل أو مثل المسمى يعطيه ذلك. وقال بعضهم: يعطيه المسمى إذا أخذ الثوب ورضي بالعيب، وإذا أخذ الثوب ولم يرض بالعيب، فإنه يعطيه أجر المثل لا يجاوز به ما سمى. وإلى هذا ذهب أبو بكر الأعمش، ومحمد بن سلمة رحمهما الله.
وجه من قال بأنه يعطيه أجر المثل: أن الحائك مخالف من وجه موافق من وجه، باعتبار أصل العمل موافق، وباعتبار الصفة مخالف، والصفة في الغائب معتبرة؛ لأن الغائب بالصفة يعرف، ولو كان مخالفاً من كل وجه، بأن كان الخلاف في الجنس لا في الصفة كان العمل متعرياً عن العقد، ولو كان موافقاً من كل وجه في حق أهل العمل أو الصفة جميعاً، كان العمل واقعاً بجهة العقد من كل وجه، فإذا كان مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، فكان العقد قائم من وجه فائت من وجه، والعقد إذا كان قائماً من وجه غير قائم من وجه، فإنه يجعل عقداً فاسداً كما قال في بيع (49ب4) المقايضة: إذا هلك أحد العوضين قبل القبض، فإن البيع يفسد لأن البيع على القائم قائم من وجه، منفسخ من وجه فحكم بفساده على ما عرف في موضعه، فلذلك هنا لما كان العقد قائماً من وجه غير قائم من وجه يحكم بفساد الإجارة والمستحق في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا ينقص عن المسمى، ولا يجاوز به المسمى. وإذا وجب أجر المثل على قول هذا القائل، فإن كان الخلاف من حيث الزيادة في القدر، فإنه يعتبر أجر مثل العمل المأمور به وهو سبعة أذرع في أربعة، لا أجر مثل العمل المأتي به ثمانية أذرع في أربعة؛ لأن الزيادة على

(7/578)


السبع حصل بغير عقد، فلا يجب زيادة أجر بسبب ذلك الزيادة، ولكن لا يجاوز به المسمى كما في سائر الإجارات الفاسدة.

وإن كان الخلاف من حيث النقصان في القدر فإنه يعطيه أجر مثل ما عمل مقدراً بحصته من المسمى؛ لأن بعض المسمى قد سقط لأنه أتى ببعض العمل ولم يأت بالبعض فتسقط حصته ما لم يعمل من المسمى، ويبقى بعض المسمى، وينظر إلى أجر مثل عمله فيما عمل، فإن كان أقل أو مثل حصة الباقي، من المسمى فإنه يعطيه ذلك، وإن كان زيادة يعطيه بقدر حصته من المسمى، ولا يجاوز به، وإن كان الخلاف من حيث الصفة، إن كان من حيث الزيادة فإنه يعطيه أجر مثل عمله بقدر العمل المأمور به، ولا تعتبر الزيادة؛ لأن الزيادة حصلت بغير عقد، فإن كان ذلك مثل المسمى يعطيه ذلك، وإن كان أكثر من ذلك لا يجاوز به المسمى.

وإن كان من حيث النقصان: فإنه يعطيه أجر مثل عمله مقدراً بجميع المسمى، لا ينقص بخلاف ما إذا كان النقصان من حيث القدر، فإنه بقدر أجر المثل ينقص المسمى، وذلك لأن النقصان متى حصل من حيث القدر فقد سقط بعض المسمى وبقي البعض، فيعتبر أجر المثل الباقي، فأما إذا كان النقصان من حيث الصفة، فإنه لا يسقط شيء من المسمى؛ لأنه لا حصة للأوصاف من المسمى فيكون جميع المسمى على حاله، فيعتبر أجر المثل به إن كان مثله، أو أقل، فإنه يعطيه ذلك وإن كان أكثر لا يجاوز به المسمى، وأما من قال بأنه يعطيه المسمى متى رضي بأخذ الثوب معيباً، وإن لم يرضى بالعيب وأخذ الثوب فإنه يعطيه أجر المثل، ذهب في ذلك إلى أن الأمر كما قاله الأولون: إن هذا مخالف من وجه موافق من وجه، فيكون العقد قائماً من وجه وليس بقائم من وجه، إلا أنه في مثل هذا الموضع إنما يحكم بفساد العقد متى تعذر العمل بهما في الحالين. كما في مسألة بيع المقايضة، فجعلناه بيعاً فاسداً عملاً بالأمرين من الوجه الذي قلتم إذا أمكن العمل بهما في الحالين، فإنه لا يجعل العقد فاسداً وقد أمكننا العمل في الحالين بأن يعتبر الوفاق، متى اختار أخذ الثوب ورضي بالعيب، ويعتبر العقد جائزاً في هذه الحالة ويعطيه المسمى، ويعتبر الخلاف متى اختار أخذ الثوب ولم يرض بالعيب ويوجب عليه أجر المثل؛ لأنه لم يوجد من العامل ما يوجب زوال ملك صاحب الغزل عن الثوب؛ لأن أصل العمل جعل بإذن صاحب الغزل، إلا أن فيه عيباً وله أن لا يرضى بالعيب، ولا تتوفر على صاحب الغزل في المعيب إلا بأن يعطيه أجر مثل عمله، فيعطيه أجر مثل عمله عملاً بالخلاف، ولأنه متى رضي بالعيب سقط اعتبار العيب حكماً، أو صار كأنه أتى بالمأمور به فلزمه المسمى إلا في النقصان.
وإذا لم يرض بالعيب لم يسقط اعتباره، فكان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فوجب أجر المثل، ثم على قول هذا القائل: إذا وجب اعتبار المسمى، إن كان الخلاف من حيث القدر إن كان إلى زيادة يجب المسمى لا غير، ولا يجب بسبب الزيادة شيء، وإن كان إلى نقصان ينقص عن المسمى لكنه ما نقص من العمل، وإن كان الخلاف من

(7/579)


حيث الوصف إن كان إلى زيادة يجب المسمى ولا يجب بسبب الزيادة شيء، وإن كان إلى نقصان يجب جميع المسمى، إذا الفائت وصف وللأجر لا يقابل الأوصاف.
قال: وإذا دفع إلى خياط ثوباً، وقال: انظر إلى هذا الثوب، فإن كفاني قميصاً فاقطعه وخيطه بدرهم فقال: نعم، ثم قطعه، وقال بعد ما قطعه: إنه لا يكفيك، فالخياط ضامن قيمة الثوب، وإنما كان كذلك لأن القطع حصل بغير إذن صاحب الثوب، لأن الإذن بالقطع معلق بشرط الكفاية؛ لأنه ذكر الشرط وحرف التعليق، والمعلق بالشرط عدم قبل الشرط، فهو معنى قولنا: القطع حصل بغير إذن صاحب الثوب. ولو كان قال للخياط: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصاً، فقال: نعم. فقال له: اقطعه، فقطعه. فإذا هو لا يكفيه قميصاً، لا ضمان عليه؛ لأن القطع ههنا حصل بإذن المالك؛ لأن الإذن بالقطع ههنا مطلق لا تعليق فيه؛ لأنه لم يذكر حرف التعليق، فبقي الإذن مفصولاً عن أول الكلام، ألا ترى أن من قال لإمرأته: إن دخلت الدار أنت طالق يقع الطلاق في الحال. ولو قال: فأنت طالق لا يقع إلا بعد الدخول. وما افترقا إلا بما قلنا. ولو قال: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصاً. فقال: نعم. فقال صاحب الثوب: فاقطعه، أو قال: اقطعه إذاً فلما قطعه إذا لا يكفيه، لا ذكر لهذه المسألة في الكتب.

وحكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه قال: يضمن أما في قوله: اقطعه إذاً فلأنه مما لا يبتدأ به الكلام وإنما يذكر جواباً للشرط فاقتضى شرطاً وصار كأنه قال: إن كان يكفيني فاقطعه إذاً وأما في قوله: فاقطعه لأن حرف الفاء للتعليق فاقتضى شرطاً، وصار كأنه قال: إن كان يكفيني فاقطعه إذاً وأما في قوله: فاقطعه لأن حرف الفاء للتغليف فاقتضى شرطاً، وصار كأنه قال إن كان يكفيني قميصاً فاقطعه، ونظير هذا ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول فيمن قال لآخر: بعت منك هذا العبد بألف درهم فقال المشتري: فهو حر، كان قبولاً وإعتاقاً بعد القبول ولو قال: هو حر لم يكن قبولاً وإعتاقاً بعد القبول بل ولو قال: هو حر لم يكن قبولاً وإعتاقاً بعد القبول بل كان إعتاقاً قبل القبول، وذلك لأن قوله فهو حر إخبار عن حكم الإيجاب فقال: حررته فهو حر. كما يقال: كسرته فانكسر. وإذا كان إخباراً عن حكم الإيجاب، اقتضى إيجاباً، والثابت اقتضاء كالثابت نصاً، كأنه قال بعد قول البائع: بعت حررت. ولو قال: حررت يضمن قبولاً؛ لأن القبول شرط صحته، فاقتصى قبولاً ليصح كمن قال لآخر: أعتق عبدك عني على الألف درهم. فقال: أعتقت اقتضى بيعاً؛ لأنه شرط صحته فكذا هذا. وقوله: هو حر، ليس بإخبار عن حكم الإيجاب، فإنه لا يعر عن حكم الإيجاب بهذه العبارة. لا يقال: حررته هو حر. كما لا يقال: كسرته انكسر. وإذا لم يكن إخباراً عن حكم الإيجاب لم يقتض إيجاباً، فبقى إخباراً عن الحرية مطلقاً. وليس من ضرورة صحة الإخبار عن الحرية القبول؛ لأنه يصح من غير قبول فأما من ضرورة صحة الإيجاب القبول، فكذلك هذا في «فتاوى الفضلي» .

استأجر حماراً وتركه على باب منزله، ودخل المنزل ليرفع خشبة الحمار، فخرج ولم يجد الحمار. قال: إن غاب الحمار عن بصره ضمن، إلا أن يكون ذلك في موضع

(7/580)


لا يعد هذا القدر من الذهاب تضييعاً مثل، أن يكون في سكة غير نافذة، أو يكون في بعض القرى فحينئذ لا ضمان. ورأيت في بعض الفتاوى: إذا ربط الحمار المستأجر على باب داره، ودخل داره ولم يجد الحمار، فهو ضامن إن غاب عن بصره من غير فعل. وإذا كان للمستأجر حماران فاشتغل بحمل أحدهما فضاع الآخر، إن غاب عن بصره فهو ضامن.
وفي فتاوي «الأصل» إذا استأجر حماراً فضل في الطريق، فتركه ولم يطلبه حتى ضاع، قال: (50أ4) إن ذهب الحمار من حيث لا يشعر به، وهو حافظ له فإذا علم فطلبه ولم يظفر به، فلا ضمان عليه. وكذلك لو لم يطلب، وكان آيساً من وجوده، لو طلب بالقرب في حوالي الموضع الذي ذهب منه لا ضمان؛ لأن المطلوب من الأمين الحفظ، وإن ذهب وهو يراه ولم يمنعه، فهو ضامن يريد به إذا غاب عن بصره؛ لأنه لم يمنعه، فقد قصر في الحفظ فيصير ضامناً. وعلى هذا مستأجر الحمار إذا جاء بالحمار إلى الخباز، وترك الحمار واشتغل بشراء الخبز فضاع الحمار، إن غاب عن بصره فهو ضامن، وإن لم يغب عن بصره فلا ضمان.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا استأجر حماراً وربطه على رأى في سكة نافذة، وهناك قوم نيام ليسوا من عيال المستأجر، ولا من أجرائه فسرق الحمار، فإن كان المستأجر لم يستحفظهم ضمن لتركه الحفظ الواجب عليه. وإن كان استحفظهم أو بعضهم وقبلوا حفظه ولم يكن اشترط ركوب نفسه في عقد الإجارة، وكان الأغلب في مثل ذلك الموضع إن لزم من يحفظ الدواب فيه لا يكون إضاعة لها، لم يضمن لأنه ليس بمضيع ولا تارك الحفظ. وإن كان الموضع موضعاً يلزم من يحفظ الدواب، يكون إضاعة لها فهو ضامن. يعنى: إذا لم يستحفظهم، فأما إذا استحفظهم وقبلوا حفظه، فالضمان على الذي قبل الحفظ لا على المستأجر؛ لأن الذي قبل الحفظ هو المضيع.

هذا كله إذا لم يشترط المستأجر ركوب نفسه أما إذا اشترط ركوب نفسه ضمن على كل حال لأنه إذا شرط ركوب نفسه ليس له أن يودعها من أجنبي، لأنه ليس له أن يعيرها أو يؤجرها من غيره. ومن ليس له الإعارة والإجارة، ليس له الإيداع؛ لأن الإعارة والإجارة نوع ائتمان فإذا لم يشترط ركوب نفسه فله أن يودع؛ لأن له أن يعير ويؤاجر فله أن يودع.
ومن هذا الجنس: رجل استأجر حماراً واستأجر رجلاً؛ ليحفظ الدابة فهلكت الدابة في يد الأجير، إن كان المستأجر استأجرها ليركب بنفسه يضمن. وإن لم يسم الراكب فلا ضمان. والمعنى ما ذكرنا.

وفيه أيضاً استأجر حماراً ليحمل عليها إلى المدينة، فحمل وساقه في طريق المدينة، ثم تخلف لحاجة بول أو غائط أو حديث مع غيره، فذهب الحمار قبله وعطب، فإن لم يتعمد عنه الحمار ولم يتوار عنه فلا ضمان. وإن توارى عنه فهو ضامن لأنه مضيع.

(7/581)


وفي فتاوى «الأصل» مستأجر الحمار إذا أوقف الحمار وصلى الفجر فذهب الحمار وانتهت، فإن رأه ينتهب أو يذهب فلم يقطع الصلاة ضمن؛ لأنه ترك الحفظ الواجب مع القدرة عليه؛ لأن خوف فواته يبيح قطع الصلاة.
وفيه أيضاً وسئل أبو بكر عن من أمر رجلاً أن يستكري له حماراً ويذهب إلى مكان كذا، على أن يوفر الآمر الأجرة، ففعل المأمور ذلك وأدخله رباطاً، فهجم عليه اللصوص في ذلك الرباط، واستولوا على الحمار قال: فإن كان الرباط على الطريق الذي كان يمر المستأجر عليه، فلا ضمان وعليه الأجر إن كان فرغ من استعماله؛ لأنه لم يخالف.
رجل استأجر رجلاً ودفع إليه حماراً ليذهب إلى بلد كذا، ويشتري له شيئاً فذهب المأمور وأخذ السلطان حمر القافلة، فذهب بعض أصحاب الحمر في طلب الحمر، ولم يذهب البعض، وهذا الأجير لم يذهب أيضاً. قال: إن كان الذي بقي ذهبوا في طلب الدواب منهم من وجد دابته، ومنهم من لم يجد، ولا يلام على من لم يذهب في ترك الذهاب بسبب ما لزم من ذهب من الشدة والمشقة فلا ضمان.

وفي «فتاوى الفضلي» أيضاً رجل استأجر من آخر حماراً ليذهب به إلى موضع معلوم فأخبر أن في الطريق لصوص، فلم يلتفت إلى ذلك الخبر، فذهب وأخذه اللصوص وذهبوا بالحمار. قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: إن كان الناس يسلكون ذلك الطريق مع هذا الخبر بدوابهم وأموالهم فلا ضمان، وإلا فهو ضامن؛ لأنه في الفصل الأول ليس بمضيع، وفي الفصل الثاني مضيع.
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن جماعة أجر كل واحد منهم حماره رجلاً وأمروا رجلاً يذهب معه يتعاهد الدواب، فإنه لا يعرفه فذهب معه، فقال له المستأجر: قف هاهنا حتى أذهب أنا بحمار واحد، وأحمل الجوالق، فذهب بالحمار فلم يقدر عليه، فلا ضمان على المتعاهد؛ لأنهم أمروه بتعاهد ما في يد الغير وهو المستأجر، فلا يلزمه العهدة.
ومن هذا الجنس في «فتاوي النسفي» : رجلاً استكرى دابة من القرية إلى المصر، فبعث صاحب الدابة رجلاً مع المستكري، فاشتغل المبعوث في الطريق بأمر وذهب المستكري وحده وضاع الحمار من يده، فلا ضمان على الرجل المبعوث؛ لأن صاحب الدابة ما سلم الدابة إليه؛ ولأنه ما ضيع الدابة إنما تركها في يد المستكري الذي هو أمين صاحب الدابة، وإنه لا يوجب الضمان.

وفي «فتاوي الفضلي» : أكترى رجل حماراً من بلدة كسرى إلى بخارى فبقي الحمار في الطريق وصاحب الحمار ببخارى فأمر المستكري رجلاً أن ينفق على الحمار في علفه كل يوم مقداراً معلوماً، وقاطعه أجرته إلى أن يقبض صاحب الحمار حماره، فأمسك الأجير الحمار أياماً وأنفق عليه في علفه، ثم هلكت الدابة في يد الأجير، ففي المسألة حكمان: حكم النفقة، وحكم الضمان، أما حكم النفقة: فقد مر من قبل، وأما حكم الضمان فإن كان المستكري اكتراه لركوبه فهو ضامن قيمة الحمار؛ لأنه إذا اكتراه لركوبه

(7/582)


فليس له أن يودع على ما مر قبل هذا. وإن كان اكتراه للركوب ولم يسم الراكب فلا ضمان عليه؛ لأن له أن يودع في هذه الصورة.

وفيه أيضاً: وإذا دفع الرجل فرسه إلى رجل ليذهب به إلى ولده، فذهب به وسار مرحلة، ثم إنه سيب الفرس في رباط، ومضى لوجهه، فجاء رجل من أهل تلك القرية، فذهب الأمير بالفرس فهلك الفرس في الطريق، فضمان الفرس على من يجب؟ قال: لا شك أن الأول ضامن بتسيبه، وأما مستأجر الأجير الذي ذهب بالفرس إلى منزله، إن كان لم يأخذ الفرس فلا ضمان عليه؛ لأنه لم تثبت يده على الفرس، وإن أخذه ثم دفعه إلى الأجير، فإن أشهد أنه إنما أخذ ليرده على صاحبه، وكان الأجير من في عياله لا ضمان أيضاً؛ لأن الملتقط بالإشهاد يصير أميناً، والأمين أن يدفع الأمانة إلى من في عياله، ويحفظه بيده. وإن ترك الإشهاد أو أشهد، لكن الأجير لم يكن في عياله ضمن؛ لأنه صار غاصباً بالأخذ من غير إشهادو صار ضامناً بالدفع إلى من ليس في عياله، وأما الأجير فهو ضامن على كل حال؛ لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، لا على وجه الجنسية، هكذا ذكره.
وهذا الجواب في حق الأجير، مشكل إذا كان المستأجر أشهد على أنه أخذه ليرده على المالك، والأجير في عيال المستأجر. وإن سلم الفرس في ذلك الرباط إلى ابن أخ صاحب الفرس، لا يبرأ عن الضمان. وإذا ضمن الأجير لا يرجع بما ضمن على المستأجر بخلاف المودع والمستأجر، فإنهما يرجعان بما ضمنا على المودع والمؤاجر؛ لأنهما يمسكان العين لصاحب العين.
أما المودع فظاهر، وأما المستأجر فلأن صاحب العين يستحق عليه الأجرة بهذه الإمساك وإنها عين، والمستأجر يستحق المنفعة والعين خير من المنفعة، فكانا عاملين لصاحب العين في إمساك العين، فيرجعان بما لحقهما من الضمان على صاحب العين، فأما الأجير فإنما يمسك العين لنفسه؛ لأنه بهذا الإمساك يستحق الأجر على الغير بمقابلة منفعة نفسه، فكان في هذا الإمساك عاملاً لنفسه، فلا يرجع بما لحقه من الغرم على غيره.

وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل استأجر حماراً لينقل التراب من خربة، فأخذ في النقل، فانهدمت الخربة وهلك الحمار، فإن انهدمت من معالجة المستأجر ضمن قيمة الحمار؛ لأن الحمار تلف بصنعه، وإن انهدمت من غير معالجة المستأجر بل لرخاوة فيها ولم يعلم المستأجر به فلا ضمان؛ لأنه (50ب4) لم يتلف بصنعه ولا قصر في حفظه.
وفيه أيضاً اكترى حماراً ليحمل عليه الشوك، فدخل في سكة فيها نهر، فبلغ موضعاً ضيقاً، فضرب الحمار فوقع الحمار في النهر مع الحمل، فاشتغل المستأجر بقطع الحبل فهلك الحمار، إن كان المكان بحال لا يسع فيه مثل ذلك الحمار فهو ضامن؛ لأنه عرض الحمار للتلف، وإن كان الحمار يسع في ذلك الموضع مع الحمل، إن عنف في الضرب حتى وثب الحمار بضربه يصير ضامناً أيضاً، لما ذكرنا، وإن وقع لا من ضربه فلا ضمان

(7/583)


عليه؛ لأنه لم يتلفه لا بمباشرة ولا تسيباً.
وفيه أيضاً استأجر حماراً لينقل عليه الحطب من الكرم، وكان ينقل عليه الحطب ويوقره كما يوقر مثله، فعدم الحمار على حائط ووقع في النهر وهلك، إن لم يعنف عليه في السوق بل ساق مثل ما يسوق الناس مثل ذلك الحمار في مثل ذلك الطريق، فلا ضمان؛ لأنه ما تلف بفعله، وإن كان بخلافه فهو ضامن.
رجل استأجر حماراً وقبضه ما رحله في كرمه وتركه، فسرقت بردعته فأصابه البرد، فمرض فرده على صاحبه فمات من ذلك المرض، إن كان الكرم حصيناً والبرد بحال لا يصير بالحمار، ولو كان عليه البردعة لا ضمان عليه؛ لأنه لم يقصر في حفظهما؛ لأنهما محفوظان البردعة محفوظة عن السارق بحصن الكرم، والحمار محفوظ عن البردعة.

وإن كان الكرم غير حصين، والبرد بحال يضر بالحمار مع البردعة، ضمن قيمتها. أما ضمان البردعة فبتضييعه وتركه الحفظ الواجب عليه، وأما ضمان الحمار؛ لأن إرساله في برد مهلك بمنزلة إلقائه في النار وذلك استهلاك، فلا يبرأ بالرد إلى المالك عن شيء من ضمانه، كما لو خرج المغصوب ثم رده إلى المالك، فمات من ذلك. بخلاف ضمان الغصب.
وإن كان البرد بحال يضر بالحمار مع البردعة والكرم حصين، فعليه قيمة الحمار دون البردعة.
x
لأنه أتلف الحمار دون البردعة ولو كان الكرم غير حصين وكان البرد بحال لا يخاف التلف مع بردعته، فهو ضامن لقيمة البردعة، وعليه نقصان الحمار وقت الرد على صاحبه؛ لأنه بمنزلة الغاصب للحمار حين أرسله في الكرم، فإذا ارسله إلى صاحبه برئ من الضمان بقدر ما رد، ويقرر عليه ضمان النقصان بموت الحمار.

زرع بين ثلاثة نفر بالشركة حصدوها، فاستأجر واحد منهم حماراً لينقل عليه حرم البر فدفع الحمار إلى الشريك لينقل الحرم فعطب الحمار، وكانت معاملاتهم أنه يستأجر أحدهم البقر أو الحمار، ويستعمله هو وشريكه، لا ضمان عليه؛ لأن المعروف كالمشروط. ولو شرط أن يستعمله شريكه لا يضمن، فكذا إذا كان المعروف منهم ذلك.
قد ذكرنا قبل هذا أن الرجل إذا استقرض دراهم وسلم إلى المقرض حماره ليمسكه ويستعمله حتى يوفي له دراهم، فالحمار عند القرض بمنزلة المستأجر إجارة فاسدة، فإن سلمه المقرض إلى بقار فعقره الذنب فالمقرض ضامن قيمة الحمار؛ لأن من استأجر حماراً أو ثوراً ليس له أن يبعث إلى السرح ليعتلف، فإذا علف كان مخالفاً فيضمن.

استأجر قباناً ليزن به حملاً، وكان في عمود القبان عيب لم يعلم المستأجر، فوزن به وانكسر، فإن كان مثل ذلك الحمل يوزن بمثل ذلك القبان مع العيب فلا ضمان؛ لأنه لم يوجد منه سبب التلف، وإن كان بخلافه فهو ضامن. هكذا في «فتاوى أبي الليث» . وينبغي أن يقال: إذا لم يعلم الآجر المستأجر بالعيب، فقد أذن له في أن يزن به القدر الذي يوزن فيه بدون ذلك العيب، فإذا وزن ذلك القدر لا يجب الضمان عليه.
استأجر قدراً فلما فرغ حملها على حمار ليردها على الآجر، فزلق رجل الحمار

(7/584)


وانكسر القدر، فإن كان الحمار يطيق حمل تلك القدر فلا ضمان عليه؛ لأن رد القدر وإن كان على الآجر إلا أن العادة جرت فيما بين الناس أن بحمله المستأجر إلى الآجر. إما من طريق المروءة وإما خوفاً من أن يلحقه بسببه ضمان. والمعروف كالمشروط. ولأن المؤاجر راض بهذا آذن فيه دلالة، فلا يضمن المستأجر، وإن كان الحمار لا يطيق حمل تلك القدر فهو ضامن؛ لأنه سبب لتلفها.
إذا استأجر فأساً واستأجر أجيراً ليعمل فيه، فدفع إليه الفأس فذهب الأجير بالفأس قد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: المستأجر ضامن لأنه صار مخالفاً بالدفع إليه وبعضهم قالوا: إن كان استأجر الفأس أولاً فهو ضامن. هكذا ذكر في فتاوى أهل سمرقند وينبغي أن يقال: إن كان الناس يتفاوتون في استعمال الفأس، فلا بد لصحة الإجارة من تعيين مستعمل الفأس، كما لو استأجر دابة للركوب يشترط لصحة الإجارة تعيين الراكب؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب. وإذا عين نفسه حتى صحت الإجارة يصير مخالفاً بالدفع إلى الأجير، وإذا لم يعين المستعمل حتى فسد العقد، فإن استعمل الفأس أولاً بنفسه، ثم دفعه إلى الأجير يضمن عند بعض المشايخ. لما تبين لأنه تعين مستعملاً، وصار كأنه عين نفسه عند العقد، فيضمن بالدفع إلى الأجير وإن دفعه إلى الأجير قبل أن يستعمله بنفسه، فهو ليس بمخالف فإن استعمله المستأجر بعد ذلك بنفسه هل يضمن؟ يجب أن يكون في المسألة اختلاف المشايخ، كما في العارية. فإن استعار دابة للركوب، ولم يعين نفسه فركب بنفسه، أو لبس بنفسه فليس له أن يعيره بعد ذلك من غيره. ولو فعل فقد اختلف المشايخ في تضمينه. وكذلك لو ألبس غيره أولاً، أو أركب غيره أولاً، فليس له أن يلبس ويركب بنفسه بعد ذلك، ولو فعل ففي تضمينه اختلاف المشايخ فهنا يجب أن يكون كذلك.

وإن كان الناس لا يتفاوتون في استعمال الفأس، فالإجارة صحيحة، عين المستعمل أو لم يعين، ولا ضمان على المستأجر إذا دفعها إلى الأجير، سواء دفعها إليه قبل أن يستعملها بنفسه، أو بعدما استعملها بنفسه.

وفيه أيضاً: استأجر من رجل مرا وجعله في الطريق، ثم صرف وجهه من الطريق، ودعا أجيراً له ولم يبرح عن مكانه ذلك، ثم نظر إلى المر فإذا قد ذهب به. قال: إن كان تحويل وجهه لم يطل حتى لا يسمى به مضيعاً للمر لا ضمان عليه، والقول في ذلك قوله مع يمينه، إن كذبه الآجر. وإن طال إلتفاته فهو ضامن.

الفصل الثامن والعشرون: في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك
هذا الفصل مشتمل على أنواع أيضاً.

(7/585)


الأول: في الحد الفاصل بين الأجير المشترك والخاص، وبيان أحكامهما فنقول وبالله التوفيق.
اختلف عبارة المشايخ في الحد الفاصل بينهما بعضهم قالوا:
الأجير المشترك من يستحق الأجر بالعمل لا بتسليم نفسه للعمل.
والأجير الخاص: من يستحق الأجر بتسليم النفس. وبمضي المدة، ولا يشترط العمل في حقه لاستحقاق الأجر. وبعضهم قالوا:
الأجير المشترك: من يقبل العمل من غير واحد. والأجير الخاص: من يقبل العمل من واحد.
وإنما يعرف استحقاق الأجر بالعمل على العبارة الأولى؛ بإيقاع العقد على العمل. كما لو أستأجر خياطاً ليخيط له هذا الثوب بدرهم، أو استأجر قصاراً ليقصر له هذا الثوب بدرهم. وإنما يعرف استحقاق الأجر بتسليم النفس وبمضي المدة بإيقاع العقد على المدة. كما لو استأجر إنساناً شهراً ليخدمه، والإجارة على العمل إذا كان معلوماً صحيح بدون بيان المدة، والإجارة على المدة لا تصح إلا ببيان نوع العمل وإذا جمع بين العمل وبين المدة وذكر العمل أولاً نحو: أن يستأجر راعياً مثلاً ليرعى له غنماً مسماة بدرهم شهراً يعتبر هو أجيراً مشتركاً؛ لأنه جعله أجير مشترك بأول الكلام. لأنه أوقع العقد على العمل في أول كلامه. وقوله شهراً في آخر كلامه يحتمل أن يكون لإيقاع العقد على المدة، فيصير أجير واحد، ويحتمل أن يكون تقديراً للعمل الذي أوقع (51أ4) العقد عليه، فإنه لا بد من تقديره، ولا يمكننا تقديره إلا ببيان المدة في هذه الصورة، فلا يتغير أول الكلام بالاحتمال، إلا إذا صرح في آخر كلامه بما هو حكم أجير الوحد، بأن قال: على أن لا يرعى غنم غيري مع غنمي؛ لأنه بما صرح جعله أجير واحد، وبين أنه ذكر المدة لإيقاع العقد على المدة، لا لتقدير العمل المذكور في أول الشهر، وإذا كان صريحاً في جعله أجير واحد بأول الكلام؛ لأنه أوقع العقد على المدة في أول الكلام، وقوله: ليرعى هذه الأغنام محتمل بين أن يكون لإيقاع العقد على العمل، فيصير أجيراً مشتركاً، وبين أن يكون لبيان نوع العمل الذي يستحق على الأجير في المدة، فإن الإجارة على المدة لا تصح ما لم يبين نوع العمل.

فنقول: استأجرتك شهراً للخدمة أو للرعي أو للحصاد؛ لأن أنواع العمل متفاوت. وإذا كان كذلك لا يتغير حكم أول الكلام بالاحتمال، فبقي أجير واحد، إلا إذا نص في آخر كلامه بما حكم الأجير المشترك. فيقول: ويرعى غنم غيري مع غنمي، فيكون تصريحاً منه أنه جعله أجيراً مشتركاً، فيتغير به أول الكلام، ويصير أجيراً مشتركاً من هذا الوجه.

إذا عرفت الحد الفاصل بين الأجير الخاص، وبين الأجير المشترك، فنقول:
من حكم الأجر الخاص، أن ما هلك على يده من غير صنعه فلا ضمان عليه بالإجماع، وكذلك ما هلك من عمله المأذون فيه فلا ضمان عليه بالإجماع.
ومن حكم الأجير المشترك: أن ما هلك على يده من غير صنعة فلا ضمان عليه،

(7/586)


في قول أبي حنيفة. وهو قول زفر والحسن، وإنه قياس سواء هلك بأمر يمكن التحرز عنه كالسرقة والغصب، أو بأمر لا يمكن التحرز عنه كالحريق الغالب، والغارة الغالبة والمكابرة.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن هلك بأمر يمكن التحرز عنه فهو ضامن، وإن هلك بأمر لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان. وما هلك في يده بعمله، كالقصار إذا دق الثوب، فتخرق أو ألقاه في النورة فاحترق، أو الملاح إذا غرقت السفينة من يده، والحمال إذا بعثر فهو ضامن عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن الهلاك حصل من عمل غير مأذون فيه؛ لأن الهلاك حصل من دون محرق، والدق المخرق غير مأذون فيه؛ لأنه لم يدخل تحت العقد. بيانه: أن المعقود عليه في حق الأجير عمل في الذمة، وإنه نوعان: سليم، ومعيب والمستحق بحكم المعاوضات السليم دون المعيب، وفي وسعه تسليم السليم؛ لأن العيب إنما يحصل بحرق، وعنف يكون من العامل، والتحرز عنه متمكن فلم يدخل المخرق تحت العقد والإذن بخلاف المعين؛ لأن المعين متبرع في العمل، فلا يستحق عليه عمل سليم عن العيب بمطلق الإعانة. كما في هبة العين بخلاف ما نحن فيه وبخلاف النزاع والختان؛ لأنه ليس في وسعهما تسليم السليم؛ لأن السلامة بعد وجود القطع بحده إنما يكون بدفع السراية، ودفع السراية إنما يكون بقوة طبع المعقود به النزع، فلا يكون دفع في وسع الفاعل، فلا يصير مستحقاً عليه. بخلاف ما نحن فيه، فإن الدق السليم عن الخرق في وسعه، فيصير مستحقاً عليه بحكم المعاوضة. وبخلاف الأجير لواحد؛ لأن المعقود عليه في حق الأجير لواحد بتسلم النفس لا بمقابلة العمل. وإذا لم يكن الأجر في حقه بمقابلة العمل كان معيناً في حق العمل، فلا يستحق عليه عمل سليم، ثم إذا وجب الضمان على الأجير المشترك بما جنت يده عند علمائنا الثلاثة، كان المستأجر بالخيار:
إن شاء ضمنه قيمته معمولاً، وعليه أجر المثل؛ لأنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة.
فإن شاء صاحب الثوب مال إلى الخلاف، وضمنه قيمة ثوبه غير معمول، ولا أجر له؛ لأنه لم يتسلم العمل.
وإن شاء مال إلى الوفاق وأخذ الثوب وأعطاه أجر مثله.

ثم الأجير المشترك إنما يضمن ما جنت يده عندنا إذا كان محل العمل مسلماً إليه تسليماً يكفي لنقل ضمان العقد لو كان مشتركاً، والمضمون ما يجوز أن يضمن بالعقد، وفي وسع الأجير دفعه، وإنما شرط أن يكون محل العمل مسلماً إليه. لأن ما يجب على الأجير المشترك من الضمان بجناية يده إذا لم يتعمد، ولم يخالف ضمان العقد فإنه لولا هذا العقد بأن كان معيناً لا يضمن، وضمان العقد لا يستوفى من العاقد إلا بالتخلية، كما في بيع العين.

وإنما شرطنا أن يكون المضمون بحال يجوز أن يضمن بالعقد لما ذكرنا: أن ما يجب على الأجير المشترك من الضمان بجناية يده، إذا لم يتعمد، ولم يخالف ضمان عقد، وإنما يضمن بالعقد ماله أثر في إيجابه وهو المال، فأما المضمون إذا كان شيئاً لا

(7/587)


يضمن بالعقد كمال كالدم، فإنه لا يجب الضمان فيه على الأجير. وإنما شرطنا أن يكون في وسع الأجير دفع ذلك الفساد؛ لأن العقد إنما ينعقد على ما في وسع الأجير لا على ما ليس في وسعه.

نوع آخر في الحمال ومكاري الدابة والسفينة
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل استأجر حمالاً ليحمل له دناً من القراب إلى مكان معلوم بأجر معلوم، فوقع الحمال في بعض الطريق وانكسر الدن.
فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له.
وإن شاء ضمنه في المكان الذي انكسر وأعطاه من الأجر بحساب ذلك. وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الحمال أجير مشترك هلك العين في يده لوقوعه، وعثاره، والتحزر عنه ممكن في الجملة، فيجب عليه الضمان عندنا لما مر والمستأجر بالخيار على ما بينا؛ لأن الحمال موافق من وجه فإنه أمر بالحمل، وقد حمل مخالف من وجه؛ لأنه أمره بالحمل على وجه يصير الدن محمولاً إلى مكان معين، ولم يأت بذلك الحمل.
فإن شاء مال إلى جهة الخلاف، وضمنه في المكان الذي حمل ولا أجر؛ لأنه لم يسلمه العمل.

وإن شاء مال إلى جهة الوفاق وضمنه في المكان الذي انكسر، وأعطاه من الأجر بحساب ذلك. وفي هذه المسألة إشكالان:
أحدهما: أنه قال له أن يضمنه قيمته في المكان الذي حمل، ولم يوجد منه سبب ضمان في ذلك المكان.
والثاني: أنه قال: إذا ضمنه قيمته في المكان الذي انكسر أعطاه الأجر بحسابه جمع بين الأجر والضمان، والأجر مع الضمان لا يجتمعان على مذهبنا والجواب عن الإشكال الأول: لا بل وجد سبب الضمان في ذلك المكان. وهذا لأن سبب الضمان وإن كان هو من عمله ذلك حالة الانكسار، إلا أن الفساد الحاصل من عمله استبدالي حالة العقد؛ لأن الانكسار من عمله إنما أوجب الضمان باعتبار العقد، فإنه بدون عقد الإجارة الأجير يكون معيناً في الحمل، ولا ضمان على المعين ولما كان وجوب الضمان باعتبار العقد كان سبب وجوب الضمان العقد من حيث الاعتبار، والحكم يضاف إلى السبب، فقد وجد سبب الضمان في المكان الذي انكسر من عمله، فلهذا يخير.
والجواب عن الإشكال الثاني: الأجر مع الضمان إنما لا يجتمعان عندنا في حالة واحدة، وقد اختلف الحالة هاهنا بيانه: أنه إذا ضمنته قيمته في المكان الذي انكسر، فقد جعل المتاع أمانة عنده من حيث حمل إلى المكان الذي انكسر، فالأجر يجب له في حالة الأمانة، وإنما صار مضموناً عند الكسر. وهذه حالة أخرى بعد انقضاء حالة الأمانة. ومثل هذا جائز. ألا ترى أنه لو حمل المتاع إلى ذلك المكان المعين، ثم أحرقه أو طرحه فإنه يضمن قيمته في ذلك المكان الذي أحرقه أو طرحه، ولا يبطل الأجر، لأن الأجر

(7/588)


واجب في حالة الأمانة، وهذه حالة أخرى فلم يجتمع الأجر والضمان إذاً.

ومن وجه آخر أن الأجر مع الضمان إنما لا يجتمعان؛ لأن بالضمان يصير المضمون ملكاً للآخر، فيتبين أنه عمل في ملك نفسه وهذا المعنى لا يتأتى ههنا؛ لأنه إذا ضمنه في المكان الذي انكسر، فإنما يملكه الحمال في المكان الذي انكسر فيبقى حاملاً إلى هذا المكان ملك الغير، فيستحق الأجر (51ب4) وصار كما لو استهلك المتاع بعدما سلمه إلى المالك، هذا إذا انكسر في وسط الطريق. فأما إذا سقط من رأسه أو زلق رجله بعدما انتهى إلى المكان المشروط، وانكسر الدن فله الأجر ولا ضمان عليه.
حكي عن القاضي صاعد النيسابوري هكذا؛ لأنه حين انتهى إلى المكان المشروط لم يبق الحمل مضموناً عليه. فإما يتوجب جميع الأجر وصار الحمل مسلماً إلى صاحب الدن، حتى لا يستحق الحبس، والمتولد من عمل غير مضمون لا يكون مضموناً عليه بخلاف ما إذا انكسر في وسط الطريق؛ لأن الحمل مضمون لأنه لم يقع الفراغ عنه بعد، وهذا الذي حكي عن القاضي صاعد يوافق قول محمد أخيراً على قول أبي يوسف، وهو قول محمد.
أو لأن الحمال يجب أن يكون ضامناً، فقد ذكر بعد هذا عن ابن سماعة: في رجل استأجر حمالاً يحمل له فرقاً من سمن إلى بيته، ثم أنزله الحمال مع صاحب الفرق من رأس الحمال، فوقع من أيديهما وهلك، فالحمال ضامن في قول أبي يوسف. وهو قول محمد أولاً. فأبو يوسف ما اعتبر الوصول إلى بيت صاحب الفرق إذ لو اعتبرها قال: بوجوب الضمان، وإنما بيته معنى آخر أن يد الحمال قد بتت، وصار الفرق في ضمانه، فلا تبرأ عن الضمان إلا إذا أزال يد الحمال من كل وجه، وإذا وضعاه عن رأس الحمال، فما زال يد الحمال من كل وجه وفي مسألة: ما لم يزل يد الحمال أصلاً. فأولى أن لا يبرأ عن الضمان عنده ههنا.

ثم رجع محمد عن هذا. وقال: لا ضمان على الحمال، وأشار إلى المعنى: أن السمن وصل إلى صاحبه فيبرأ عن الضمان. هذا إذا حصل التلف بجناية يده. أما إذا حصل التلف لا بجناية يده إن حصل بأمر لا يمكن بالتحرز عنه لا ضمان عليه بالإجماع. وله الأجر لأن عمل الحمال يعتبر مسلماً إلى المالك في موضع لم يجب الضمان على الحمال. فإنما هلك المتاع بعد التسليم، فلا يسقط الأجر.
وإن هلك بأمر يمكن التحرز عنه. فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله لا ضمان عليه وله الأجر بحساب ذلك.
وعندهما يجب الضمان وللمالك الخيار. كما لو حصل التلف بجناية يده.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : في الملاح إذا أخذ الأجر وغرقت السفينة من موج، أو ريح أو مطر، أو من شيء ليس في وسعه دفعه، فلا ضمان عليه.

وإن حصل الغرق من عمله بأن غرقت من يده أو من خرقه يضمن، إذا لم يكن صاحب المتاع فيها؛ لأن محل العمل سلم إليه والمضمون لا يجوز أن يضمن بالعقد، وفي وسع الأجير دفع

(7/589)


ذلك.
وإن كان صاحب المتاع في السفينة، أو وكيله وغرقت السفينة من يده ومعالجته فلا ضمان عليه، إلا أن يخالف لأن محل العمل غير مسلم إليه.
إذا كان صاحب الطعام في السفينة وكان بمنزلة ما لو عثرت الدابة المستأجرة من سوق أجير المشترك، فسقط الحمل ففسد، وصاحب المتاع راكب على الدابة؛ فإنه لا يضمن الأجير لأنه لم يحل بينه وبين المتاع، فكذلك هذا بخلاف ما لو عثرت الدابة المستأجرة، فسقط المتاع فهلك وصاحب المتاع يسير معه خلف الدابة، فإن الأجير يضمن؛ لأن الهلاك حصل من جناية يده، ومحل العمل مسلم إليه؛ لأنه سلم المتاع إليه وسيره معه خلف الدابة، ليس باسترداد لما دفع إليه. ألا ترى أنه بهذا السير غير متمكن من الدابة، فكيف يتمكن ما عليها، بخلاف راكب السفينة؛ لأنه متمكن من السفينة فيكون متمكناً مما كان في السفينة، فلا تحصل التخلية.

قياس مسألة السفينة من الدابة: أن لو كان صاحب المتاع راكباً على الدابة، فعثرت الدابة من مسافة، وسقط المتاع وهلك، ولو كان كذلك لا يضمن.
وفي «المنتقى» لو حمل متاعاً على حمال وصاحب المتاع يمشي معه، فعثر الحمال وسقط المتاع وفسد فهو ضامن؛ لأن عثاره من جناية يده.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: وإن كان على الدابة مملوك صغير لرب المتاع، واستأجر الدابة ليحملهما فعثرت الدابة فوقعا، فمات المملوك، وإن كان الهلاك من جناية يده؛ لأن المضمون هو الدم لأنه صار قاتلاً للعبد. وما يجب بقتل العبد ضمان دم، والدم مما لا يضمن بالعقد. بخلاف المتاع، ثم إنما يضمن المتاع إذا كان العبد بحيث لا يصلح لحفظ المتاع، فأما إذا كان يصلح لحفظ المتاع لا يضمن المتاع؛ لأنه في يد العبد ويد العبد يد المالك، فكان بمنزلة ما لو كان على الدابة وكيل المولى.
وقد نص على هذا في مسألة السفينة فقال: وكذلك السفينة لو حمل فيها رقيقاً له مع متاعه، ومثلهم لا يحفظ شيئاً فغرقت السفينة من فعله وهلك المتاع وهلك الرقيق، فإن الملاح يضمن المتاع، ولا يضمن الرقيق شرطه لضمان المتاع أن لا يصلح مثل هذا الرقيق للحفظ، فهذا يبين لك أنه إذا كان يصلح أن لا يضمن المتاع، وكذلك ما هلك من غير صنع الأجير المشترك، إنما يجب عليه ضمانه عندهما إذا صار العين مسلماً إلى الأجير، حتى قال محمد رحمه الله: وإذا كان رب المتاع والمكاري راكبين على الدابة المستأجرة، أو سابقين أو قائدين عثرت الدابة وهلك المتاع الذي عليه، لا ضمان على المكاري. وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا سرق المتاع من رأس الحمال ورب المتاع معه، فلا ضمان عليه؛ لأن يد صاحب المتاع قائم على المتاع بعد وقيام يده يمنع وقوع التسليم إلى غيره.

قال القدوري رحمه الله في كتابه: ولو كان الطعام في سفينتين مقرونتين إلا أنهما يسيران معاً، ويحبسان معاً، وصاحب المتاع في أحدهما فلا ضمان على الملاح فيما هلك.

(7/590)


وفي «المنتقى» لو كانت سفن كثيرة وصاحب المتاع أو الوكيل في إحداها فلاضمان على الملاح، فيما ذهب من السفينة التي فيها صاحب المتاع أو وكيله، وضمن ما سوى ذلك. قال: هذا كله قول أبي يوسف ومحمد قال ثمة ولأبي يوسف: فيما إذا كانت السفن كثيرة قول آخر. فقال: إذا كانت السفن تنزل معاً وتسير معاً، حتى يكونوا في رفقة واحدة، فلا ضمان على الملاح وإن تقدم بعضها بعضاً وكذلك القطار إذا كان عليها حمولة ورب الحمولة على بعير فلا ضمان على الحمال، لأن يد صاحب المتاع ثابتة على جميع ذلك.
وعن أبي يوسف: فيمن استأجر حمالاً ليحمل له هو فرقاً من سمن فحمله صاحبه، والحمال ليضعاه على رأس الحمال، فوقع وتخرق الزق، لا يضمن الحمال؛ لأنه لم يسلم إليه السمن، فإن السمن بعد في يد صاحبه ولا ضمان على الحمال بدون التسليم وهكذا روى ابن سماعة في نوادره عن محمد.
قال: في نوادر ابن سماعه: ولو حمله ثم وضعه في بعض الطريق، ثم أراد رفعه فاستعان برب الزق فرفعا بصعابه، فوقع فتخرق، فالحمال ضامن لأنه صار في ضمانه حين حمله، ولم يبرأ منه بعد؛ لأنه لم يسلمه إلى صاحبه.
وإن حمله إلى بيت صاحبه، ثم أنزله الحمال مع صاحب الفرق من رأس الحمال فوقع من أيديهما، فالحمال ضامن عند أبي يوسف. وهو قول محمد أولاً؛ لأن يد الحمال قد ثبتت وصار في ضمانه فلا يبرأ إلا إذا أزال يد الحمال من كل وجه وإذا وضعاه جميعاً فيد الحمال لم تزل، فلا يزول الضمان. ثم رجع محمد رحمه الله وقال: لا ضمان على الحمال، لأن السمن قد وصل إلى يد صاحبه فيبرأ عن الضمان.
h

قال الفقيه أبو الليث: القياس أن يضمن الحمال النصف؛ لأن الفرق وقع من فعلهما، وكثير من مشايخنا افتوا به. وروى ابن سماعة عن محمد: إذا كان رب المتاع والمكاري يسوقان الدابة، فلا ضمان على المكاري. وعن أبي يوسف: إذا كان رب المتاع مع المكاري، فعثرت الدابة فلا ضمان على المكاري. وإن كان عثار الدابة من سياقه أو قياده.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا انقطع حبل الحمال وسقط الحمل، ضمن الحمال بالاتفاق؛ لأنه لما شده بحبل لا يحتمله فكأنه هو المسقط للحمل، وكان التلف حاصلاً من جناية يده معنى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: الحمال إذا أنزل في مفازة وتهيأ له الانتقال فلم (52أ4) ينتقل حتى فسد المتاع بسرق أو مطر، فهو ضامن وتأويله: إذا كان السرقة والمطر غالبا؛ لأنه يكون مضيعاً.

وفي «الواقعات» : استأجر حمالاً يحمل له طعاماً في طريق كذا، فأخذ في طريق آخر يسلكه الناس، فهلك المتاع فلا ضمان. وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» قالوا: وهذا إذا كان الطريقين متقاربين لأنه لا يصح التعيين لعدم الفائدة.

(7/591)


فأما إذا كان بينهما تفاوت ظاهر من حيث الطول والقصر أو السهولة والصعوبة، ضمن الأجير. وهو رواية هشام عن محمد غير أنه أطلق في الكتاب؛ لأن الطريق إذا كان يسلكها الناس، قل ما يقع التفاوت فيها حتى لو حمله في البحر ضمن، وإن كان مما يحمله الناس لما كان بينهما تفاوت فاحش، ولكن إذا بلغ فله الأجر في البحر وغيره؛ لأنه إذا سلم يبقى التفاوت صورة، فلا يمنع وجوب الأجر.
قال الناطفي: وهكذا الجواب عندي في البضاعة، إلا أن يأذن صاحبه في الحمل في البحر.

وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا استأجر مكارياً يحمل له عصيراً على دابته إلى موضع معلوم، فلما أراد أن يضعه عن الدابة أخذ أحد العدلين من جانب ورمى بالعدل الآخر من الجانب الآخر فانشق العدل من رميه وخرج العصير. فالمكاري ضامن لنقصان الزق، وللعصير؛ لأن الهلال كان بصنعه.
استأجر حمالاً ليحمل حقيبته إلى مكان معلوم، فانشقت الحقيبة بنفسها وخرج ما فيها. قال الفقيه أبو بكر: الحمال ضامن، كالحمال إذا انقطع حبله.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يضمن الحمال، ويشبه هذا انقطاع الحبل؛ لأن ثمة التفريط كان من قبل الحمال، حيث شد الحمل بحبل واه، وههنا التقصير من قبل صاحب الحقيبة، حيث جعل ماله في حقيبة لا يستمسك ما فيها.
قال الفقيه رحمه الله: وتأخذ ونحن نفتي به أيضاً. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا رفع حملاً إلى مكار ليحمله إلى موضع، وشرط عليه أن يسير ليلاً، وصاحب الحمل معه يسيران ليلاً، فضاعت الدابة مع الحمل. قال: إن كان المكاري ضيع بترك الحفظ ضمن بلا خلاف. وإن ضاعت الدابة من غير تضييع من المكاري، لم يضمن المكاري في قول أبي حنيفة خلافاً لهما. وينبغي أن لا يضمن إذا كان رب المتاع يسير معه، بلا خلاف بدليل ما مر قبل هذا.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: مكار حمل كرابيس رجل، فاستقبله اللصوص فطرح الكرابيس وذهب بالحمار. قال: إن كان لا يمكنه التخلص منهم بالحمار والكرابيس، وكان يعلم أنه لو حمله أخذ اللصوص الحمار والكرابيس فلا ضمان؛ لأنه لم يترك الحفظ مع القدرة عليه.

نوع آخر في النساج والخياط

قد ذكرنا بعض مسائل النساج في فصل الحبس بالأجر. ومن جملة ما لم نذكر ثمة نساج كان ساكناً مع صهره، ثم اكترى داراً وانتقل إليها وترك الغزل ثمة، فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة؛ لأن الغزل ما دام ثمة فهو ساكن عنده، فالسكنى عنده لا تبطل ما دام بعض المتاع باقياً. وعندهما: هو ضامن على كل حال. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا دفع إلى نساج غزلاً لينسجه كرباساً، فدفع النساج إلى آخر لينسجه فسرق من عند الآجر، إن

(7/592)


كان الآجر أجير الأول فلا ضمان على واحد منهما، وإن لم يكن أجير الأول وكان أجنبياً ضمن الأول بلا خلاف، ولا يضمن الآجر في قول أبي حنيفة خلافاً له. وهو نظير المودع إذا أودع الوديعة من أجنبي بغير إذن المالك.
وفي «القدوري» : ومن استأجر على عمل فله أن يعمل بنفسه وأجرائه إلا إذا شرط عليه العمل بنفسه فعلى ما ذكر القدوري: إذا كان الآجر أجيراً للأول، إنما لا يضمن الأول بالرفع إليه إذا لم يشترط على الأول عمله بنفسه. أما إذا شرط عليه العمل بنفسه يضمن بالرفع إلى الآجر. وإن كان الأجير أجيراً للأول.
وفي فتاوى أهل سمرقند: نساج ترك كرباس رجل في بيت الطراز فسرق ليلاً، فإن كان بيت الطراز حصيناً يمسك الثياب في مثله لا يضمن، وإن لم يكن حصيناً ولا يمسك الثياب في مثله، إن رضي صاحب الكرباس فيه فلا ضمان، وإلا فهو ضامن.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دفع إلى نساج كرباساً بعضه منسوج وبعضه غير منسوج، فسرق من عنده. فعلى قول من يقول: بأن الأجير المشترك يضمن ما هلك على يده من غير صنعه، يضمن النساج كل الثوب؛ لأن المنسوج مع غير المنسوج كشيء واحد لاتصاله به، وكذا نسج الباقي يزيد في قيمة المنسوج، فكان أجيراً مشتركاً في الكل.

وفي هذا الموضع أيضاً: إذا دفع إلى خياط كرباساً فخاطه قميصاً، وبقي منه قطعة فسرقت القطعة فهو ضامن. وكذا لو دفع صرمياً إلى إسكاف ففضل عنه شيء، فسرق منه لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه؛ لأن المالك إنما سلم إليه للقطع لا غير. فإذا قطع يجب عليه رد الزيادة.
وذكر الحاكم في «المنتقى» إذا دفع إلى خياط ثوباً، وقال: اقطعه حتى يصيب القدم، وكمه خمسة أشبار وعرضه كذا، فجاء به ناقصاً كان قدر أصبع ونحوه، فليس بشيء، وإن كان أكثر منه فله أن يضمنه، وكثير من مسائل الخياط مرت في الفصل السابع والعشرين.

نوع آخر في المسائل العائدة إلى الحمام
قد ذكرنا بعض المسائل العائدة إلى الحمام في فصل إجارة الحمام. ومن جملة ما لم نذكر ثمة رجل دخل الحمام، وقال لصاحب الحمام: احفظ الثياب، فلما خرج لم يجد ثيابه، فإن أقر صاحب الحمام أن غيره رفعه وهو يراه، ويظن أنه يرفع ثياب نفسه فهو ضامن؛ لأنه تارك الحفظ، حيث لم يمنع القاصد وهو يراه.
وإن سرق وهو لا يعلم به فلا ضمان عليه، إن لم يذهب من ذلك الموضع، ولم يضيعه. وهذا قول الكل؛ لأن صاحب الحمام مودع في حق الثياب، إذا لم يشترط له بازاء حفظه الثياب أجر.
فأما إذا شرط له بإزاء الحفظ أجر، ودفع الثياب إلى الثاني: وهو الذي يحفظ

(7/593)


الثياب بأجرة وفارسيته دار فلا ضمان عليه فيما سرق، عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأنه أجير مشترك.
وفي «فتاوى الفضلي» : امرأة دخلت الحمام، فأعطت ثيابها إلى المرأة التي تمسك الثياب بأجر وفارسيتها جابة دار فلما خرجت لم تجد عندها ثوباً من ثيابها.
قال: إن كانت هذه المرأة قبل هذه المرة تدخل الحمام وتدفع ثيابها إلى هذه الممسكة، وتعطيها الأجر على حفظ ثيابها فلا ضمان عليها عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لهما، وإن كان هذا أول مرة دخلت هذه الحمام، ودفعت ثيابها إلى هذه الممسكة فلا ضمان عليها في قولهم جميعاً؛ لأنه إذا كان هذا أول مرة، ولم يدفع الأجر أولاً، شرط لها أجراً فهي مودعة لا أجيرة مشتركة. هكذا ذكر وعلى قياس ما ذكرنا عن محمد: أن كل عمل لا يعمل إلا بأجر، فالأجر به ثمن يرصد له ... ينبغي أن يكون الثانية أجيرة مشتركة عند محمد، حتى تضمن عنده والفتوى على قول أبي حنيفة: أن الثاني لا يضمن إلا بما يضمن المودع.
رجل دخل الحمام، وقال لصاحب الحمام: أين أضع الثياب؟ فأشار صاحب الحمام إلى موضع؟ فوضع ثمة ودخل الحمام، ثم خرج رجل وأخذ الثياب، فلم يمنعه صاحب الحمام؛ لأنه ظنه صاحب الثياب، ضمن صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ له، فصار مودعاً. وقد قصر في الحفظ فيصير ضامناً. وهذا قول ابن سلمة وابن نصر الدبوسي.
وكان أبو القاسم يقول: لا ضمان على صاحب الحمام. والأول: أصح. وهو نظير ما لو دخل رجل بدابته خاناً، وقال لصاحب الخان: أين أربطها؟ فقال: هناك، فربطها وخرج فلما رجع، لم يجد دابته، فقال صاحب الخان لصاحب الدابة: إن صاحبك قد أخرج الدابة ليسقيها ولم يكن له صاحب، ضمن صاحب الخان؛ لأن قوله: أين أربطها؟ استحفاظ لصاحب الخان، فإذا أشار إلى موضع الربط (52ب4) فقد أجابه إلى الحفظ، فصار مودعاً. وقد قصر في الحفظ فصار ضامناً كذا ههنا. رجل دخل الحمام ونزع الثياب من يدي صاحب الحمام، ولم يقل بلسانه شيئاً فدخل الحمام ثم خرج، ولم يجد ثيابه، فالمسألة على وجهين:

إن لم يكن للحمام ثيابي يضمن صاحب الحمام ما يضمن المودع بأن وضع الثوب برأي عين صاحب الحمام ما يضمن المودع؛ لأن وضع الثوب برأي عين صاحب الحمام، إذا لم يكن ثيابي استحفاظ له.

وإن كان للحمام ثيابي إلا أنه لم يكن حاضراً، فكذلك الجواب أيضاً. وإن كان حاضراً لا يضمن صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ للثيابي دلالة دون صاحب الحمام، فلا يضمن صاحب الحمام إلا إذا صاحبه الثياب على استحفاظ صاحب الحمام، بأن قال

(7/594)


له: أين أضع الثياب؟ فحينئذ يصير صاحب الحمام مودعاً، فيضمن ما يضمن المودع.
وإذا دخل رجل الحمام ودفع ثيابه إلى صاحب الحمام، واستأجره للحفظ واشترط عليه الضمان إذا تلف فضاع الثياب، كان الفقيه أبو بكر يقول: يضمن الحمامي إجماعاً. وكان يقول: الأجير المشترك إنما لا يضمن عند أبي حنيفة، إذا لم يشترط عليه الضمان. أما إذا شرط عليه الضمان يضمن، وكان الفقيه أبو جعفر يسوي بين شرط الضمان وعدم الشرط، وكان يقول: بعدم الضمان لأن شرط الضمان في الأمانة شرط مخالف لقضيه الشرع، فيكون باطلاً.
قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ ونحن نفتي أيضاً بما قال الفقيه أبو الليث.

ونوع آخر في البقار والراعي والحارس

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل راعياً يرعى معلوماً له مدة معلومة، بأجر معلوم، فهذا جائز، ويكون الراعي أجيراً مشتركاً؛ لأنه أوقع العقد على العمل لما ذكر العمل أولاً، إلا إذا قال: على أن لا ترعى غنم غيري مع غنمي، فحينئذ يصر أجير وحد. وقد مر هذا في أول هذا الفصل ولو كان استأجره مدة معلومة على أن يرعى غنماً معلوماً له بأجر معلوم، فهو جائز، ويكون أجير وحد لأنه أوقع العقد في حقه على المدة، لما ذكر المدة أولاً. إلا إذا قال: ويرعى غنم غيري مع غنمي، فحينئذ يكون أجير مشترك. ثم الراعي إذا كان أجير وحد وماتت من الأغنام واحدة، حتى لم يضمن لا ينقص من الأجر بحسابه، وذلك لأن الغنم لو ماتت كلها لا يسقط من الأجر شيء إذا سلم نفسه في المدة للرعي، وكان للآجر أن يمكنه رعي أغنام أجر؛ لأنه أجير وحد وأجير الوحد يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة، لا بحقيقة العمل فإذا ماتت شاة منها أولى أن لا يسقط من الأجر شيء.
ولو ضرب شاة منها ففقأ عينها أو كسر يدها ضمن؛ لأن أجير الوحد يضمن بالخلاف. وقد خالف لأنه ضرب والضرب غير داخل تحت الإجارة. إنما دخل كلها الرعي والرعي يتحقق بدون الضرب، وإذا لم يدخل الضرب تحت الإجارة صار الحال في حق الضرب، بعد الإجارة كالحال قبلها وقبل الإجارة لو ضرب شاة هذا، أو تلف من ضربه شيء ضمن، فكذلك هذا.
ولو هلك منها شيء في السقي أو الرعي لم يضمن؛ لأنه أجير وحد وأجير الوحد لا يضمن ما لم يخالف، ولم يخالف لأنه فعل ما أذن له في ذلك؛ لأن السقي داخل تحت العقد؛ لأن الرعي لا يتحقق بدونه، وإذا دخل تحت العقد لم يضمن ما هلك منها كأجير الوحد إذا دق فتخرق وهو مصدق فيما هلك منها لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين هذا إذا كان الراعي أجير واحد.

فأما إذا كان أجير مشترك فإنه لا يضمن ما مات من الأغنام عندهم جميعاً؛ لأن الهلاك حصل من أمر لا يمكن التحرز عنه؛ لأن الموت حتف أنف مما لا يمكن التحرز

(7/595)


عنه. فإنه ليس في هذا الراعي ذلك.
وهذا إذا ثبت الموت بتصادقهما أو بالبينة فأما إذا ادعى الراعي الموت وجحد رب الأغنام فعلى قول أبي حنيفة: القول قول الراعي؛ لأنه أمين فيكون القول قوله أنه مات كالمودع.
وأما عندهما القول قول رب الأغنام. وكان يجب أن يكون القول قول الراعي؛ لأنه أمين، لأن المال أمانة في يده عندهما. وإنما لا يضمن إذا هلك بآفة يمكن التحرز عنه؛ لأنه يعد ذلك تضييعاً منه، فيضمن بالتضييع. ولهذا قالا: إذا خلط خلطا لا يمكن التمييز فإنه يضمن قيمته يوم الخلط، ولو كان قبضه قبض ضمان عندهما لكان يضمن قيمته يوم القبض كالغاصب، فدل أن المال أمانة في يد أجير المشترك عندهما. وإنما يضمن بالتضييع إذا حصل الهلاك بأمر يمكن التحرز عنه. ولهذا علل محمد رحمه الله في الكتاب فقال: لأنه ضيع حيث لم يحفظها من السبع والسرقة.

وإذا كان المال أمانة في يده وإنما يضمن بالتضييع كان يجب أن يكون القول قوله ما لم يقر بالتضييع. ولم يوجد منه الإقرار بالتضييع إلا أنه جعل القول قول رب الغنم، وذلك لأنه وجب على أجير المشترك زيادة حفظ لم يجب على المودع. وعلى أجير الوحد مخافة أن لا يضيعوا أموال الناس، فإنه يجتمع في أيديهم أموال الناس على ما أشار في حديث علي رضى الله عنه. وإنما تأتى بزيادة حفظ لم يجب على المودع، وعلى أجير الوحد إذا لم يجعل القول قوله عند الهلاك وإن لم يوجد منه الإقرار بسبب الضمان؛ لأنه متى علم أن القول قوله عند الهلاك. كما في المودع لا يجد في الحفظ، فلهذه الضرورة لم يجعل القول قوله عند الهلاك وإن كانت المال أمانة عنده ليحصل ما هو المقصود من زيادة حفظ وجب عليه، لم يجب على المودع وعلى أجير الوحد.

ولو ساقها إلى المرعى فعطب منها شاة لا من سياقة بأن صعدت الجبل أو مكاناً مرتفعاً، فتردى منه فعطبت فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأن الهلاك ما كان من قبله وعلى قولهما ضمن؛ لأن الهلاك حصل من أمر يمكن التحرز عنه بأن لا يأتي هذا المكان، أو إن أتى هذا المكان بحفظها عن الصعود على الجبل، وعلى المكان المرتفع. وكذا لو أوردها نهراً ليسقيها، وغرق شاة منها على قول أبي حنيفة لا ضمان. وعلى قولهما ضمن. وكذلك لو أكل منها سبع أو سرق منها، فالمسألة على الخلاف. ولو ساقها وعطبت شاة منها من سياقه بأن استعجل عليها، فعثرت وانكسر رجلها، أو أندق عنقها فعليه الضمان عند علمائنا الثلاثة.
وإذا ساق الراعي الغنم فتناطحت بعضها بعضاً من سياقه، أو وطئ بعضها بعضاً من سياقة. فإن كان الراعي مشتركاً فهو ضامن على كل حال؛ لأن هذا من جناية يده. وإن كان خاصاً: إن كانت الأغنام لواحد فلا ضمان عليه. وإن كانت الأغنام لاثنين أو ثلاثة فهو ضامن.
وصورة الأجير الخاص في حق الاثنين والثلاثة: أن يستأجر رجلان أو ثلاثة راعياً

(7/596)


شهراً ليرعى غنماً لهم، أو لهما فقد فرق في حق الأجير الخاص بينهما، إذا كانت الأغنام لواحد، وفيما إذا كانت الأغنام لاثنين أو ثلاثة. والفرق بينهما وهو أن الأغنام كلها لما كانت لواحد ففعل الأجير في السوق منقول إلى صاحب الأغنام، باعتبار القاتل والمقتول فإنه عامل له فيهما، فصار فعله في السوق منقولاً إلى صاحب الأغنام، فكأن صاحب الأغنام ساق بنفسه. ولو ساق بنفسه فقتل بعضها بعضاً لا يجب الضمان إذا كانت الأغنام كلها للسائق، فكذلك هذا. فأما إذا كانت لرجلين بأن كان بعضها لزيد وبعضها لعمرو ففعل الأجير إن صار منقولاً إلى زيد باعتبار القاتل، فإنه عامل لزيد في حق القاتل، فإن بالقاتل ملك زيد. فباعتبار المقتول لا ينتقل فعله في السوق إلى زيد لأنه في سوق المقتول أجير عمرو، وإذا انتقل فعله إلى صاحب القاتل باعتبار القاتل، ولم ينتقل باعتبار المقتول لم يثبت الانتقال، فبقي مقصوراً عليه وللراعي أن يبعثه بالأغنام على يدي غلامه أو أجيره أو ولده الكبير الذي في عياله؛ لأن بالرد من الحفظ. وله الحفظ بيد من في عياله. فإن هلك في يده (53أ4) حالة الرد. فإن كان الراعي مشتركاً فلا ضمان عليه في قوله أبي حنيفة على كل حال. وعندهما إن هلك بأمر يمكن التحرز منه فهو ضامن كما لو رد بنفسه وهلك في يده حالة الرد، وإن كان الراعي أجير خاص، فلا ضمان على كل حال، كما لو رد بنفسه وهلك في يده حالة الرد.

ويشترط أن يكون الراد كبيراً يقدر على الحفظ؛ لأنه متى كان صغيراً لا يقدر على الحفظ يكون هذا تضييعاً منه، والأجير يضمن بالتضييع عندهم جميعاً. وشرط أن يكون في عياله؛ لأنه متى لم يكن في عياله كان الرد بيده وبيد أجنبي سواء، ليس له الرد بيد الأجنبي هكذا بيد من ليس في عياله.

وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي: أن للمشترك أن يرد بيد من ليس في عياله وليس للخاص ذلك. والحاكم يرد به يتولى بينهما وقال: ليس لهما ذلك.
الراعي المشترك إذا خلط الأغنام بعضها ببعض، فإن كان يمكنه التمييز بأن كان يعرف غنم كل واحد، فلا ضمان عليه؛ لأن مثل هذا الخلط ليس باستهلاك، ويكون بمنزلة خلط السود بالبيض. والقول قول الراعي في تعيين الغنم لكل واحد، لأن اليد له، فيكون القول قوله: إن هذا لهذا، وإن كان لا يمكنه التمييز، بأن يقول: لا أعرف غنم كل واحد، فهو ضامن قيمة الأغنام، لأن مثل هذا الخلط استهلاك بمنزلة خلط السود بالسود والقول قول الراعي في مقدار القيمة؛ لأن صاحب الغنم يدعي عليه زيادة وهو ينكر.
وتعتبر قيمة الأغنام يوم الخلط وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يشكل. وعلى قولهما اختلف المشايخ بعضهم قالوا: تعتبر القيمة يوم القبض. وقال بعضهم: يوم الخلط وهو الصحيح؛ لأن الأجير المشترك عندهما لا يضمن بالقبض، وإنما يضمن بترك الحفظ والتضييع.
وقيل: يجب أن يتخير أرباب الغنم إن شاءوا ضمنوه، وإن شاءوا أخذوها مشتركة كما في خلط الحنطة بالحنطة. وإذا ادعى بعضهم طائفة من الغنم، فإن الراعي يحلف ما

(7/597)


هذه غنم هذا؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقرَّ به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف. فإن حلف برئ وإن نكل ضمن القيمة لصاحبه. إذا خاف الراعي على شاة منها فذبحها فهو ضامن قيمتها يوم ذبحها؛ لأن الذبح ليس من عمل الرعي في شيء، فلا يكون داخلاً تحت العقد قال مشايخ بلخ: هذا إذا كان يرجى حياتها بأن كان شكل الحال يرجى حياتها وموتها. أما إذا تيقن لموتها فلا ضمان عليه؛ لأن الأمر بالرعي أمر بالحفظ، والحفظ الممكن حالة التيقن بالموت بالذبح. فيصير مأموراً بالذبح في هذه الحالة. وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأول من شركة «واقعاته» : أن من ذبح شاة إنسان لا يرجى حياتها يضمن، والبقار والراعي لا يضمن في مثل هذا. وفرق بين الأجنبي والراعي والبقار والفقيه أبو الليث سوى بينهما فقال: لا يضمن الأجنبي كما لا يضمن الراعي والبقار لوجود الإذن بالذبح دلالة في حق الكل في هذه الحالة وهو الصحيح، وكذلك الجواب في البعير؛ لأن الذبح في هذه المواضع إصلاح اللحم، فأما في الحمار فلا يذبح. وكذا في البغل؛ لأن الذبح لا يصلح اللحم فيهما. وفي الفرس أيضاً لا يذبح عند أبي حنيفة؛ لأن الصحيح من مذهبه أن لحم الفرس مكروه كراهة التحريم. وإذا باع المالك بعض الأغنام، فإن كان الراعي خاصاً لم يبطل شيء من الأجر وإن كان مشتركاً يبطل من الأجير بحصة ما باع. والكلام فيه نظير الكلام.

فيما إذا مات بعض الأغنام وهذا لأن الخاص يستحق الأجر بتسليم النفس، وقد سلم نفسه للرعي بأقصى ما في وسعه، فأما المشترك يستحق الأجر بالعمل ولم يوجد عمل الرعي فيما باع. وإذا أراد رب الغنم أن يزيد في الغنم ما يطيق الراعي، كان له ذلك إذا كان الراعي خاصاً؛ لأن رب الغنم ملك جميع منافعه في حق الرعي في هذه الإجارة، فصار الأجير في حق الرعي بمنزلة العبد له وله أن يكلف عبده من الرعي ما يطيق، فكذا ههنا ولا يكلفه فوق طاقته؛ لأن الأجير الخاص لا يكون أشقى حالاً من عبده، وليس له أن يكلف عبده من الرعي ما لا يطيق فهاهنا أولى.
وسواء سمى له الغنم أو لم يسم فالعقد جائز إذا بين المدة؛ لأنه إذا بين المدة وصار أجير وحد تنصرف الإجارة إلى أقصى ما في وسع الأجير من الرعي في هذه المدة. وصار كأنه نص عليه. ولو نص عليه جاز العقد، وإن لم يسم الغنم كذا ههنا هذا إذا استأجر شهراً ليرعى غنمه ولم يشر إلى الغنم فأما إذا أشار إلى الغنم، بأن قال استأجرتك لترعى هذه الأغنام ثم أراد المستأجر أن يزيد في الغنم فالقياس أن ليس له ذلك، كما في الراعي المشترك.
l
وفي الاستحسان له ذلك؛ لأنه لو لم يشر إلى هذه الأغنام كان المستحق عليه بحكم هذه الإجارة من الرعي ما في وسعه وطاقته. فلو تغير موجب هذا العقد إنما يتغير بهذه الإشارة، ولا وجه إلى ذلك؛ لأن قوله: هذه الأغنام بعض ما شمله أول الكلام على موافقة حكمه؛ لأن مطلق العقد يقتضي رعي هذه وغير هذه فبقوله: هذه الأغنام ذكر رعي هذه لا غير.

وذكر بعض ما شمله أول الكلام على موافقة حكمه لا يوجب تغيير أول الكلام،

(7/598)


صار وجوده والعدم بمنزله. ولو انعدم قوله هذه الأغنام كان له أن يكلفه من الرعي ما يطيق كذا ههنا بخلاف الأجير المشترك؛ لأن الإشارة في الأجير المشترك ليس بذكر لبعض ما شمله مطلق العقد، بل هو ذكر لجميع ما تناوله العقد؛ لأن العقد في الأجير المشترك لا يجوز إلا بالإشارة إلى الأغنام، أو بذكر العدد. وإذا كانت الإشارة بياناً ما تناوله العقد بمطلق العقد بالمشار إليه، فلم يكن له أن يكلفه مقدار الزيادة.
أما ههنا فالعقد يجوز، وإن لم يشر إلى الأغنام ولم يسم عددها، ويستحق عليه من الرعي مقدار ما يطيق، فكانت الإشارة ذكر البعض لشمله أول الكلام، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا ولدت الأغنام أولاداً فإن كان الراعي أجير خاص فعليه رعي الأولاد، وإن كان الراعي أجير مشترك فليس عليه رعي الأولاد. وإن شرط على الأجير المشترك رعي ما يحدث من الأولاد فهو شرط فاسد. لو فارق العقد يفسد به العقد قياساً. وفي الاستحسان يجوز وجه القياس في ذلك وهو أن بعض المعقود عليه مجهول، وهو رعي الأولاد؛ لأنه لا يدري كم ظهر الأغنام وكذلك الأجر بإزاء الأغنام والأولاد، وإذا كان الأولاد مجهولاً كانت حصة الأولاد من الأجر مجهولة فيكون حصة الأمهات مجهولة أيضاً. ومع الجهالة تمكن الخطر في هذا العقد؛ لأنه لا يدري أن الأغنام تلد أولا تلد. وجه الاستحسان في ذلك: أن الجهالة إنما توجب فساد العقد؛ لكونها مانعة من التسليم والتسلم. وهذا المعنى لا يتأتى ههنا؛ لأن تسليم الأولاد وتسلمها مما لا يحتاج إليه في الحالة حتى يقال في الحال مجهولة. وإنما يحتاج إليهم بعد الحدوث وبعد الحدوث هي معلومة، والأجر في الحال معلوم؛ لأن الأجر كله بإزاء الأمهات في الحال؛ لأن رعي الأولاد شرط على سبيل الزيادة وما يكون زيادة على المعقود عليه لا يكون لها حصة من البدل ما لم يوجد، بل يكون كله بمقابلة الأصل، وحال وجود الأولاد الذي هو حال انقسام البدل الأولاد معلومة، فكان الأجر معلوماً والخطر المتمكن في وجود الأولاد لا يوجب فساد العقد في الأمهات، لأن الأولاد جعلت معقوداً عليها على سبيل الزيادة والخطر في الزيادة لا يوجب خطراً (53ب4) في الأصل، والخطر في محل المبيع انعقاد العقد في محل آخر، فالخطر في الأولاد لا تمنع العقد على الأمهات للحال، وليس للراعي أن يبرئ على شيء منها بغير أمر صاحبها، وإن فعل ذلك يضمن ما عطب منها؛ لأن الإبراء لم يدخل تحت العقد؛ لأن الإجارة عقدت على الراعي، والإبراء ليس من الرعي، فصار الحال فيه بعد العقد كالحال قبله.

ولو أن الراعي لم يفعل ذلك، ولكن الفحل الذي في الغنم نزا على واحدة منها، فعطبت فلا ضمان على الراعي في ذلك بالإجماع، إن كان الراعي أجير خاص. وإن كان الراعي أجير مشترك فكذا الجواب عنده.
وعندهما: هو ضامن لأن الهلاك حصل بأمر يمكن التحرز (عنه) ، وإن مدت واحدة منها، وترك اتباعها حتى لا يضيع الباقي فهو في سعة من ذلك، ولاضمان عليه فيما مدت

(7/599)


بالإجماع، إن كان الرعي خاصاً وعند أبي حنيفة إن كان الراعي أجير مشترك. وإن ترك حفظ ما مدت والأمين يضمن بترك الحفظ؛ لأن الأمين إنما يضمن بترك الحفظ إذا ترك بغير عذر، فأما إذا ترك بعذر، فإنه لا يضمن، كما لو دفع الوديعة إلى أجنبي حالة الحريق فإنه لا يضمن وإن ترك حفظها؛ لأنه تركها بعذر، فكذلك ههنا إنما ترك حفظها كيلا يضيع الباقي، وعندهما يضمن؛ لأنه ترك الحفظ بعذر يمكن الاحتراز عنه.

ورأيت في بعض النسخ: لا ضمان عليه فيما مدت إذا لم يجد من سعته يردها، أو سعته ليجر صاحبها بذلك. وإن تكارى من يجيء بالواحدة متطوع؛ لأنه لم يؤمر باستئجار هذا، وإن تفرقت الغنم والبقر عليه فرقاً لم يقدر على اتباعها كلها، وأقبل على فرقة منها وترك على ما سوى ذلك، فهو في سعة من ذلك ولا ضمان عليه؛ لأنه ترك حفظ البعض بعذر، وعلى قولهما: يضمن لأنه ترك بعذر يمكن الاحتراز عنه في الجملة.

وإذا كان الراعي أجير مشترك فرعاها في بلد، فعطبت واحدة منها أي هلكت بآفة نحو الغرق في الماء، وافتراس الفرس والسقوط من الحرّ وما أشبه ذلك. فقال ربّ الغنم: إنما شرطت عليك أن ترعى في موضع كذا وكذا عين موضعاً آخر غير هذا الموضع، وقال الراعي بل شرطت علي الرعي في الموضع الذي رعيتها، فالقول قول ربّ الغنم بالإجماع حتى يضمن الراعي بالإجماع؛ لأن الإذن يستفاد من جهته، والبينة بينة الراعي حتى لا يضمن في قول أبي حنيفة؛ لأنه هو المدعي؛ لأنه يثبت ما ليس بثابت. وكذلك إذا كان الراعي أجير خاص، واختلف على نحو ما بينا فالقول قول رب الأغنام لما ذكرنا.
وإذا خالف الراعي ورعاها في غير المكان الذي أمره، فعطبت فهو ضامن ولا أجر له وإن سلمت الغنم القياس أن لا أجر له.
وفي الاستحسان: يجب الأجر لأن الراعي، موافق في أصل الرّعي، مخالف في صفته. فإن الرعي في بعض الأماكن ربما يكون أجود من البعض. فعملنا بجانب الخلاف إن عطبت الأغنام فأوجبنا الضمان، ولم نوجب الأجر وعملنا بجانب الوفاق، إن سلمت الأغنام فأوجبنا الأجر.

راعي الرماك إذا يومق الرمكة، فوقع الرمق في عنقها، فجدبها فعطبت فهو ضامن؛ لأن التوميق لم يدخل تحت الإذن لأنه ليس من عمل الرعي فكان التلف حاصلاً من عمل غير مأذون فيه، وإن فعل ذلك بإذن صاحب الرمكة فلا ضمان هكذا ذكر في الأصل. قال بعض مشايخنا: هذا إذا كان الراعي أجير واحد، فإما إذا كان أجير مشترك فهو ضامن؛ لأن هذا من جناية يده، فيكون بمنزلة ما لو دق فتخرق وعامتهم على أنه لاضمان على كل حال؛ لأن هذا ليس من عمل الرعي، فكان الراعي معيناً فيه، ولاضمان على المعين على كل حال. وإذا شرطوا على الراعي ضمان ما عطبت بفعله فهو

(7/600)


جائز. ولا يفسد به العقد؛ لأن هذا شرط يقتضيه العقد من غير شرط، وإن شرطوا عليه ضمان ما مات منها، إن كان الشرط في العقد يفسد العقد؛ لأن هذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه النفق وإن شرطه بعد العقد لم يصح الشرط، ولا يفسد العقد. هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح إجاراته. وعلى قياس ما ذكر القدوريّ في بيوعه أنه إذا لحق بالعقد الصحيح شيء من الشروط المفسدة، التحقت بأصل العقد، وفسد العقد في قول أبي حنيفة يجب أن يقال على قول أبي حنيفة في فصل الإجارة، أنه إذا لحق هذا الشرط بالعقد أن يفسد العقد، وإذا شرط على الراعي إن مات منها يأتي بسمنها، وإلا فهو ضامن فليس عليه إثبات السمنة؛ لأن إثبات السمنة عمل شرط في هذه الشاة بعد إنفساخ العقد فيها؛ لأن الإجارة فيما ماتت قد انفسخت بموتها، فلا يلزمه ذلك كما قبل الإجارة. ولا يصير ضامناً بهذا الشرط لما مرّ قبل هذا وهل يفسد العقد بهذا الشرط فهو على التفصيل الذي ذكرنا في المسألة المتقدمة.

وإذا قال ربّ الغنم للراعي: دفعت إليك مئة شاة، وقال الراعي لا بل تسعون. فالقول قول الراعي لإنكاره القبض فيما زاد على التسعين. وإن أقاما البينة فالبينة بينة صاحب الغنم؛ لأنها تثبت له زيادة في القبض على الراعي، وليس للراعي أن يسقى من ألبان الغنم. وأن يأكل لأن هذا التصرف لم يدخل تحت العقد؛ لأنها ليست من الرعي في شيء. وليس للراعي إذا كان خاصاً أن يرعى غنم غيره بأجر، فلو أنه أجر نفسه من غيره لعمل الرعي ومضى على ذلك شهور. ولم يعلم الأول به فله الأجر كاملاً على كل واحدة منهما لا يتصدق بشيء من ذلك، إلا أنه يأثم.
وإن كان هذا أجير وحد وليس لأجير الوحد أن يؤاجر نفسه من غيره، بخلاف الأجير المشترك لأن أجير الوحد في الرعي يشبه أجير المشترك من وجه، من حيث إنه يمكنه إيفاء العمل إلى كل واحد منهما بتمامه في المدة، بأن يرعى غنم الأول في المدة ويرعى غنم الثاني. فمن حيث إنه يقدر على إيفاء العمل لكل واحد منهما بتمامه، كان أجير مشترك، ومن حيث إنه أوقع العقد على المدة لا على العمل كان أجير وحد، ولو كان مشترك من كل وجه كما في القصار والخياط كان له أن يؤاجر نفسه من غيره، ويستحق الأجر على كل واحد منهما كاملاً، ولا يأثم ولا يتصدق بشيء من ذلك، ولو كان أجير وحد من كل وجه بأن أوقع العقد على المدة لعمل لا يمكنه الإيفاء إلى كل واحد منهما بتمامه في المدة بأن أجر نفسه يوماً بدرهم للحصاد، أو للخدمة فخدم وحصد في بعض اليوم لغيره، فإنه لا يستحق الأجر كاملاً على الأول ويأثم، فإذا كان له شبهاً تأجير المشترك وقوما على الشبهين حظهما فقلنا: لشبهه بأجير المشترك يستحق الأجر كاملاً على كل واحدة منهما، ولا يتصدق، ومن حيث إنه أجير وحد يأثم توقيراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان، وإنما أظهرنا شبه أجير الوحد في حق الإثم لا في حق نقصان الأجر؛ لتمكننا العمل بالشبهين؛ لأنا لو أظهرنا شبه أجير الوحد في حق نقصان الأجر، كان يأثم أيضاً؛ لأن الأجر إنما يسقط لمنعه بعض المعقود عليه عن الأول، وهذا

(7/601)


موجب الإثم، فيتعطل العمل بالشبهين، فلهذا أظمها شبه أجير الوحد في حق الإثم، وفيما عدا ذلك من الأحكام ألحقناها بأجير المشترك.

ونظير هذا ما قلنا في باب الظئر إذا استأجر ظئراً شهراً لترضع ولده، كانت أجيرة وحد حتى لا يكون لها أن تؤاجر نفسها فإن أجرت نفسها، من قوم آخرين ولم يعلم الأولون حتى مضت المدة، وقد أرضعت ولد كل واحد فإنها تستحق الأجر كاملاً على كل واحدة منهما. ولا تتصدق بشيء من ذلك، وتأثم. وإن كانت أجيرة وحد، لأنها أوقعت العقد على المدة لا على العمل، إلا أن لها شبهاً بأجير المشترك في الرضاع من حيث إنه يمكنها إيفاء الرضاع إلى كل واحد منهما بتمامه فوقر ما على الشبهين حظهما، فقال: تأثم؛ لأنها أجيرة وحد، ولشبهها بأجير المشترك قلنا: تستحق الأجر كاملاً ولا تتصدق بشيء فكذلك (45أ4) هذا.

قال: ولو كان تبطّل يوماً أو يومين في الشهر، أو مرض يسقط الأجر بقدره؛ لأنه لم يسلم نفسه للرعي في مدة التبطل والمرض، وأجير الوحد إنما يستحق من الأجر بقدره؛ ولو دفع إليه غنمه ليرعى على أنه أجرها ألبانها وأصوافها، فإن هذا فاسد؛ لأنه استأجره بمجهول ومعدوم؛ لأن الأصواف والألبان الموجودة للحال مجهول المقدار، وما يزداد ويحدث بعد ذلك ساعة فساعة معدوم. وأحدهما مانع جواز الإجارة، فمجموعها أولى أن يمنع.
قال: ولو دفع رجل غنمه إلى راعي واشترط على الراعي جبناً معلوماً وسمناً معلوماً، وما بقي من ألبانها وسمونها وأصوافها، فهو للراعي فهذا فاسد؛ لأن فيه ما في الأول فإنه استأجره بمجهول ومعدوم؛ فإن ما بقي بعد المشروط مجهول ومعدوم، وفيه زيادة غرر ليس في الأول. وهو: أنه يجوز أن لا يبقى للراعي شيء بعد المشروط لربّ الغنم فكان في هذا الفصل زيادة منع ليس في الأول، فإذا لم تجز الإجارة في الفصل الأول فههنا أولى وما أصاب الراعي من ألبانها وسمونها فهو ضامن؛ لأنه استهلكها بحكم عقد فاسد، وله على صاحب الغنم أجر المثل؛ لأنه استوفى عمله بحكم إجارة فاسدة.
وإن دفع الراعي غنم رجل إلى غيره فأستهلكها المدفوع إليه، وأقر بذلك الراعي فإن لصاحب الغنم أن يضمن الراعي، وليس له أن يضمن القابض إذا لم يقر أن المقبوض ملك المدعي، ولم يقم للمدعي بينة، أما الراعي فيضمن؛ لأنه لا يخلو إما إن كان يعتبر أميناً أو ضميناً، وأي ذلك ما اعتبر لابد من إيجاب الضمان عليه متى دفع المال إلى من ليس في عياله. ولا يضمن القابض للمدعي؛ لأنه لم يثبت كون ما قبض القابض ملكاً للمدعي لا بإقرار القابض، ولا بالبينة لو ثبت إنما يثبت بإقرار الراعي، وإقرار الراعي أن ما دفع كان لغيره مقبول في حقه، ولا تقبل في حق المدفوع إليه إذا أنكر، فلم يكن له

(7/602)


تضمين القابض، فإن أقام المدعي البينة أن ما قبض كان له أو أقرَّ القابض بذلك أن كان ما قبض قائماً بعينه في يد القابض، كان للمدعي أن يأخذه؛ لأنه وجد عين ماله وإن كان مستهلكاً كان المالك بالخيار إن شاء ضمن القابض وإن شاء ضمن الراعي أما تضمين الراعي فلا إشكال؛ لأنه دفع ماله إلى غيره، وأما القابض فتضمينه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن الراعي دفع إليه على سبيل الإيداع. ومن مذهبه أن مودع المودع لا يضمن، إنما كان كذلك؛ لأنه وضع المسألة إن استهلكها المدفوع إليه، ومودع المودع يضمن إذا استهلك عندهم جميعاً، إنما الخلاف فيما إذا هلك في يده، وإذا رعى الراعي في مكان لم يؤذن بالرعي فيه، هل يستحق الأجر؟ فهذا على وجهين:

إما إن عطبت الغنم أو سلمت فإن عطبت فإنه لا أجر عليه؛ لأنها لما عطبت الغنم صار ضامناً، فصار الغنم ملكاً له من وقت الخلاف فصار راعياً ملك نفسه، فلا يستحق الأجر.
وإن سلمت فالقياس أن لا يستحق الأجر. وفي الاستحسان يستحق الأجر.
وجه القياس في ذلك أنه خالف فلا يستحق الأجر، وإن لم يضمن قياساً على ما لو استأجر دابة لتذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر، وسلمت الدابة فإنه لا أجر عليه، وإن لم يضمن فكذلك هذا.

ووجه الاستحسان أن الراعي فيما صنع موافق من وجه مخالف من وجه؛ لأنه موافق في الأصل المعقود عليه مخالف في الصفة؛ لأن التفاوت بين المكانين في حق الرعي تفاوت يسير فلا يلحقها بجنسين مختلفين، ولهذا قيل بأن الإجارة صحيحة وإن لم يبين المكان وإذا لم يلتحقا بجنسين مختلفين بسبب التفاوت مع الجنس واحداً، إنما اختلفا في الصفة لا غير، فإن الرعي في بعض الأمكنة ربما يكون أجود، وكان موافقاً في حق الأصل مخالفاً في حق الصفة والعمل بهما في حالة واحدة متعذر؛ لأن أحدهما يوجب الأجر والآخر يمنع ولم يوجب فعملها في حالين. إن لم يسلم عملنا بجانب الخلاف، وأوجبنا الضمان ولم يوجب الأجر، وإن سلم عملنا بجانب الموافقة وأوجبنا الأجر، فأما في باب الدابة فالمستأجر مخالف من كل وجه؛ لأن الطرق في حق الركوب متفاوتة تفاوتاً فاحشاً، رب طريق يفسد الدابة يوماً يسير فيه لصعوبته، ورب طريق لا يفسدها بالسير فيه شهراً لسهولته، فالتحقا بجنسين مختلفين باعتبار التفاوت، وإن جمعهما اسم واحد وهو الركوب واختلاف المجانسة بين الشيئين متى بدت بسبب التفاوت دون الاسم، كاختلاف المجانسة الثانية من حيث الحقيقة.
ولو استوفى جنساً آخر حقيقة، بأن استأجر دابة للركوب فاستخدم عبده، أو لبس ثوبه لا أجر عليه سلم أو لم يسلم، فكذلك هذا.
فإن قيل: هذا يشكل بما لو دفع ماله إلى رجل مضاربة على أن يعمل به في الكوفة فأخرجه من الكوفة، فباع واشترى حتى ربح، فإن المضاربة فاسدة، ويضمن.
وهذا موافق من وجه مخالف من وجه؛ لأن التفاوت بين الأماكن في حق التجارة تفاوت يسير، ولهذا صحت المضاربة من غير بيان المكان، ومع هذا قال: بأنه إذا تصرف

(7/603)


في غير ذلك المكان، وربح فإنه يضمن كما لو خسر. قلنا: في المضاربة استهلك المضارب المال الذي وقعت فيه المضاربة بالبيع والشراء، فعاد إلى الكوفة، وفي يده مال آخر سوى ما وقعت عليه المضاربة. ولو أنه لم يستهلك المال، وعاد بالمال بعينه لم يكن عليه ضمان، وكان على المضاربة، فقياس مسألة المضاربة من مسألتنا أن لو عطبت الأغنام، وقياس مسألتنا من المضاربة أن لو لم يبع حتى عاد بالمال بعينه إلى الكوفة.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : بقار لأهل قرية ومرعاهم بين أشجار ملتفة لا يقدر البقار على النظر إلى جميع الدواب، فذهبت من دواب مرحه لا ضمان عليه؛ لأنه إنما يرعى دوابهم في هذا المرعى بأمرهم، وهم إنما يستحفظون البقار بما في وسعه، فإذا لم يكن في وسعه النظر إلى جميع الدواب في ذلك المرعى لم يلزمه، فلا يكون تاركاً حفظاً لرميه، فلا يضمن. وفيه أيضاً: أهل موضع جرى العرف بينهم إن البقار إذا أدخل السرح في السكك أرسل كل بقرة في سكة صاحبها، ولا يسلمها إلى صاحبها، ففعل الراعي كذلك فضاعت بقرة أو شاة، قبل أن تصل إلى صاحبها، فقال أبو نصر الدبوسي: لا ضمان عليه لما مرّ غير مرّة، أن المعروف كالمشروط. وقال بعضهم: إذا لم يعد ذلك خلافاً لا ضمان عليه.

وذكر في «النوازل» : أن من أرسل بقرة إلى بقار ليرعاها فجاء ليله، وزعم أنه رد بقرتة، وأدخلها القرية فطلبها صاحبها في القرية، فلم يجدها ثم وجدها بعد أيام، وقد وقعت في نهر في الجناية. قال: إن كان أهل القرية رضوا من البقار بأن يأتي بالبقور إلى القرية، ولم يكلفوه أن يدخل كل بقرة في منزل صاحبها، فالقول للبقار: أني قد جئت بالبقرة إلى القرية مع يمينه، ولا ضمان عليه إذا حلف، وإن أبى أن يحلف ضمن قيمتها. وفي «المنتقى» : اشترط البقار على أصحابها أني إذا دخلت البقر القرية إلى موضع منها مسمى فأنا بريء منها، فالشرط جائز وهو بريء. فإن مات بقر رجل منهم، فجاء بمثلها إلى موضع البقر الذي اجتمع فيه البقر لم يخرجها. قال: فهو على الشرط الأول، وإن بعث رجل بقرة إلى ذلك الموضع، ولم يسمع بالشرط الذي كان بينه وبين أهل القرية لم يرى البقار حتى يرد عليه، وإن كان يسمع الشرط فالشرط جائز عليه استحساناً.
وفي «النوازل» : امرأة بعثت ثوراً إلى بقار ثم جاء الرسول إليه فقال: الثور لي وأخذ منه، فهلك الثور إن قامت لها بينة، فلها أن ترجع على البقار؛ لأنه ظهر أن البقار دفع مالها إلى الغير بغير إذنها، ثم لا يرجع البقار على الرسول إن كان يعلم أنه لها، ومع ذلك دفع إليه وإن لم يكن علم بذلك يرجع؛ لأنه ترك الباقورة في جناية وغاب عنها، فوقعت الباقورة في زرع رجل فأفسدته (54ب4) لا ضمان عليه إلا أن يكون البقار هو الذي أرسلها في الزرع، إنما تلف بفعل الباقورة وذلك غير مضاف إلى البقار، إذا لم يرسلها في الزرع وقد مرّ.

في «الأجناس» في كتاب الغصب والضمان: أهل قرية يرعون دوابهم بالنوبة فذهبت منها بقرة في نوبة أحدهم، قال إبراهيم بن يوسف: هو ضامن في قول من يضمن الأجير

(7/604)


المشترك وقال أبو الليث: عندي أنه لا يضمن في قولهم جميعاً؛ لأن كل واحد منهم معين في رعيه لا أجير؛ لأنه إن جعل أجير كان ذلك مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها وذلك لا يجوز، فكان معيناً لا أجيراً والمعني لا يضمن.

ذكر المسألة في «مجموع النوازل» قال ثمة:
وإذا كان نوبة أحدهم فلم يذهب هو لكن استأجر رجلاً ليحفظها فأخرج الباقورة إلى المفازة، ثم رجع إلى الأكل، يعني: الأخير ثم عاد فضاع بقر منها، ينظر إن كان ضاع بعدما رجع من الأكل فلا ضمان عليه، وإن ضاع قبل ذلك فهو ضامن، ولا ضمان على صاحب النوبة بحال، لأن له أن يحفظها بأجرائه، ولكن هذا إذا لم يشترط عليه الحفظ بنفسه على ما مر قبل هذا.
رجل استؤجر لحفظ الخان فسرق من الخان شيء لا ضمان عليه؛ لأنه يحرس الأبواب، أما الأموال فهو في يد أربابها فلا يضمن إلا بالتضييع ولم يوجد، هذا جواب الفقيه أبي جعفر رحمه الله.
وذكر عن أحمد بن محمد القاضي: في حارس يحرس الحوانيت في السوق فنقب حانوت وسرق منه شيء، أنه ضامن؛ لأنه في معنى الأجير المشترك، لأن كل واحد حانوت على حدة، فصار بمنزلة من يرعى غنماً لكل إنسان شاة ونحو ذلك.
قال الفقيه أبو بكر: عندي أن الحارس أجير خاص، ألا ترى أنه لو أراد أن يشغل نفسه في صنف أجر لم يكن له ذلك، والفتوى على قول أبي بكر، والفقيه أبي جعفر.
وإذا استأجر الحارس واحد من أهل السوق فله أن يأخذ الأجر منهم جميعاً، ويجعل له ما يأخذ منهم إذا كان المستأجر رئيسهم؛ لأن في هذا جرت المعاملة، وصار كأنهم استأجروه جميعاً، وإن كرهوا ولم يرضوا بذلك فكراهتهم باطلة؛ لأن في ذلك مصلحتهم، فإذا استأجر رئيسهم جاز ذلك؛ لأنهم جعلوه كالسيد على أنفسهم فكان استئجاره بمنزلة استئجارهم.

ولا يصير البقار تاركاً للحفظ وإن نام ما لم يغب البقور عن بصره، وإذا غاب عن بصره يصير تاركاً للحفظ.
وتأويله: إذا نام جالساً أما إذا نام مضجعاً يصير تاركاً للحفظ، وقد ذكرنا في كتاب الوديعة الفرق بين النوم مضجعاً وبين النوم جالساً في غير السفر وسوينا بينهما في السفر، فقلنا لا ضمان على كل حال فهاهنا يكون كذلك وبه ختم.
h

نوع آخر في القصار وتلميذه
في «فتاوى أبي الليث» : قصار وضع الثوب على.... في الحانوت، وأقعد ابن أخيه حَافظ وغاب القصار، فدخل ابن أخيه الحانوت الأسفل فطر الطرار الثوب فهذا على وجهين:
إن كان البيت الأسفل بحال لو دخله إنسان غاب عن عينه الموضع الذي

(7/605)


كان فيه الثوب وإنه هلى وجهين أيضاً:
إن كان ابن الأخت ضمه إلى القصار أبوه أو أمه أو لم يكن له أب ولا أم وضمه الخال إلى نفسه فالضمان على الصبي؛ لأنه منعه بترك الحفظ الواجب عليه، ولا ضمان على القصار؛ لأن له أن يحفظ الثياب بيد ذلك الصبي، ولا يضمن القصار بترك الثياب عند الصبي.
وإن كان الصبي غير منضم إلى القصار من جهة من ذكرنا، لكن القصار أخذ بيده وأقعده محافظاً للحانوت فالضمان على القصار؛ لأنه مخالف في استحفاظ من ليس في عياله.
وإن كان الصبي بحيث يراه مع دخوله ذلك الموضع، فإن كان الصبي منضماً إليه فلا ضمان على واحد منها.
أما القصار فلأن له حفظه بيد الصبي، وأما الصبي فلأنه لم يترك الحفظ لما كان الموضع الذي دخل فيه بحيث يرى الثوب فيه.
قصار سلّم ثياب الناس إلى أجيره ليشمسها في المقصرة ويحفظها، فنام الأجير ثم رجع بالثياب، وقد ضاع منها خمس قطع لا يدري كيف ضاعت ومتى ضاعت، قال الفقيه أبو جعفر: إذا لم يعلم أنه ضاع في حال نومه، فالضمان على القصار دون الأجير، وإن علم أنه ضاع في حال نومه، فالأجير ضامن بترك الحفظ الواجب عليه، وإن شاء صاحب الثياب ضمن القصار في الوجهين جميعاً.

قال الفقيه أبو الليث: إنما قال له أن يضمن القصار لأنه كان يأخذ في مسألة الأجير المشترك بقول أبي يوسف ومحمد، أما في قول أبي حنيفة فلا ضمان على القصار؛ لأن الهلاك لم يكن بعلمه وبه نأخذ.
قصار رهن ثوب قصاره ثم فكه وقد أصاب الثوب نجاسة عند المرتهن فلما نظر إليه صاحب الثوب كلفه القصار بتنقيته فامتنع القصار من ذلك وتشاجرا فترك الثوب في يد القصار فهلك عنده، إن كانت النجاسة لم تنقص من قيمة الثوب فلا شيء على القصار، لأنه إن خالف بالرهن فإذا أفكه وخلى بينه وبين المال خرج عن ضمان قيمة الثوب.
والنجاسة إذا لم تنقص من قيمته لا يلزمه بسببها شيء بمنزلة من صب على عبد غيره نجاسة، فجعل صاحب العبد عنده ليغسل تلك النجاسة فهلك، لا ضمان عليه.
وإن كانت تنقص قيمته فليس على القصار إلا نقصان الثوب، والثوب بذلك أمانة لما ذكرنا، أنه بالتخلية خرج عن ضمان الثوب.
وهو نظير من خرق ثوب إنسان خرقاً يسيراً، قال له رب الثوب: أصلح هذا الخرق فإن ترك الثوب عنده فهلك لم يكن على المخرق إلا نقصان الخرق هاهنا.
وإذا دق أجير القصار ثوباً من ثياب القصارة فخرقه أو عصره فتخرق فلا ضمان عليه؛ لأن الخرق حصل من عمل القصارة في ثوب القصارة، والأجير مأذون في ذلك، لأن الإذن يثبت بالإجارة، وإنه أجير بالقصارة فيما كان من ثياب القصارة، وأجير القصار لا يضمن بالخرق من عمله المأذون فيه، إلا أن يخالف، لأنه أجير وحد في حق القصار ولم يخالف، والإستاد ضامن لأن عمل الأجير منقول إليه فيصير كأن الإستاد عمل

(7/606)


بنفسه من حيث الحكم، ولو عمل الإستاد بنفسه حقيقة كان عليه الضمان كذا هاهنا.

وإذا وطىء ثوباً فتخرقه إن كان ثوباً يوطأ مثله فلا ضمان عليه بذلك؛ لأنه مأذون فيه من جهة الإستاد دلالة، وإن كان ثوباً لا يوطأ مثله، فإنه يضمن سواء كان الثوب ثوب القصارة أو لم يكن، لأنه غير مأذون لوطىء ما لا يوطأ مثله من جهة الإستاد، وهذا بخلاف ما لو حمل شيئاً في بيت القصار بإذن الإستاد فسقط على ثوب فتخرق، إن كان من ثياب القصارة لا يضمن الأجير فإنما يضمن الإستاد وإن لم يكن من ثياب القصارة ضمن الأجير، وفي الوطىء يضمن في الحالين إذا كان مما لا يوطأ مثله.
وجه الفرق بينهما: أن الوطىء غير مأذون فيه من جهة الإستاد لا نصاً ولا دلالة، أما نصاً فلأنه ليس من أعمال القصارة، ودلالة فلأنه إذا كان الثوب رقيقاً لا يوطأ مثله فالثابت بدلالة الحال النهي عن وطئه لا الإذن بوطئه، فأما الحمل من أعمال القصارة وأسبابها، فإذا سقط على ثوب القصارة فالفساد حصل من عمل القصارة في ثوب القصارة، والأجير مأمور بأعمال القصارة في ثياب القصارة، فيصير عمله منقولاً إلى الإستاد فلا يضمن الأجير، ويضمن الإستاد، كما لو دق فتخرق.
وإن وقع على ما ليس من ثوب القصارة، فالفساد حصل من عمل غير مأذون فيه؛ لأنه إنما أذن فيه بالقصارة، فيما كان من ثياب القصارة، لا فيما ليس من ثياب القصارة، وليس بأجير فيما لم يكن من ثياب القصارة، وإذا هذا تحت الإذن كان هو والأجنبي في ذلك سواء، وكذلك لو دخل بنار أو سراج بأمر القصار فوقعت شرارة فأحرقته، إن كان من ثياب القصارة فلا ضمان على الأجير وإنما الضمان على الإستاد (55أ4) وإن لم يكن من ثياب القصارة ضمن الأجير، أما ما كان من ثياب القصارة لا يضمن الأجير؛ لأنه أجير فيما كان من ثياب القصارة بالقصارة، وهذا من أسبابه فما تولد منه يكون ضمان ذلك على الإسناد لا على الأجير، كما لو دق فتخرق.

ويضمن ما ليس من ثياب القصارة؛ لأنه ليس بأجير فما ليس من ثياب القصارة، فيكون الأجير والأجنبي في ذلك سواء. وكذلك إذا استأجر رجلاً ليخدمه، فوقع شيء من يده من متاع البيت، وسقط على شيءٍ من متاع البيت، فأفسده فإنه لاضمان عليه؛ لأنه أجير في حق الواقع، والوقع عليه؛ لأنه استؤجر للخدمة، وإنما يستأجر للخدمة ليرفع متاع البيت ويضع، فيكون بمنزلة أجير القصار إذا دق فتخرق ثوباً من ثياب القصارة، بخلاف ما لو سقط على وديعة كان عند صاحب البيت فأفسد، كان الضمان على الخادم؛ لأنه ليس بأجير فيما كان عنده من الوديعة، فيكون هو والأجنبي سواء. وكان بمنزلة أجير القصار إذا سقط من يده شيء فوقع على ثوب ليس من ثياب القصار فأفسده. ولو كان كذلك يضمن فكذلك هذا.
وهذا بخلاف المودع إذا سقط من يده شيء فوقع على الوديعة فأفسدها يضمن، وههنا قال: لا يضمن، وذلك لأن المودع مأمور بالحفظ والإمساك في الوديعة غير مأمور بالتصرف فيها، فإذا سقط من يده عليها شيء كان ضامناً؛ لأنه لم يتولد هذا من الحفظ،

(7/607)


فأما الأجير للخدمة مأمور بالعمل في متاع البيت؛ لأنه هو الذي يتولى رفعها ووضعها، فإذا تولد من ذلك فساد لا يكون عليه ضمان؛ لأنه تولد من عمل مأذون فيه. وكان قياس الوديعة من مسألتنا أن لو سقطت الوديعة من يد المودع، فهلكت وهناك لاضمان لأن الهلاك حصل من الإمساك. وإنه مأذون فيه فكذلك هذا. ولو أن أجير القصار فيما يدق من الثياب انقلبت منه المدقية، فوقعت على ثوب فتخرق، فهذا على وجهين:

أما إن انقلبت المدقة أولاً على الثوب قبل أن يقع على الخشبة التي يدق عليها، أو انقلبت بعدما وقعت على الخشبة التي يدق عليها، فإن انقلبت قبل أن يقع على ثوب القصارة وخرق ثوباً. إن كان من ثياب القصارة فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على الإستاد، لأن الخرق حصل من عمل القصارة فيما كان من ثياب القصارة فيكون بإذن الإستاد؛ لأنه أجير بالقصارة في حق هذا الثوب، وأجير القصار لا يضمن ما جنت يده، وإنما يضمن الإستاد. وإن وقع على ثوب ليس من ثياب القصارة، فإن الأجير يضمن لأن الخرق حصل بغير إذن الإستاد؛ لأن الإذن بالعمل يثبت بالإجارة، وإنه أجير فيما كان من ثياب القصارة، ليس بأجير فيما ليس من ثياب القصارة، فيكون هو والأجنبي في ذلك سواء.
فأما إذا انقلبت المدقة بعدما وقعت على الخشبة التي يدق عليها ثياب القصارة، فأصابت ثوباً آخر، ذكر في «ظاهر الرواية» : أنه لا يضمن بلا تفصيل، بين أن يكون ذلك الثوب من ثياب القصارة أو لم يكن من ثيابه.

حكي عن أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يقول: يجب أن يكون الجواب فيه، كالجواب فيما إذا وقعت المدقة ابتداء على هذا الثوب، وقد ذكر الجواب فيه على التفصيل، فكذلك هذا.
وهذا لأن الإذن بالعمل ثبت بالإجارة، وإنه أجير بالقصارة فيما كان من ثياب القصارة، وليس بأجير فيما ليس من ثياب القصارة، ولكن في «ظاهر الرواية» لم يفصل. فكأنه فرق بين انقلاب المدقة على الثوب الذي ليس من ثياب القصارة قبل وقوعها على الخشبة، وبين انقلابها بعدما وقعت على الخشبة، وعليها ثياب القصارة.

ووجه الفرق بينهما أن الانقلاب متى حصل أولاً على الثوب الذي ليس من ثياب التجارة، فهذا العمل غير مأذون فيه أصلاً؛ لأن الإذن ثبت بالإجارة، وإنه أجير فيما كان من ثياب القصارة، لا فيما ليس من ثياب القصارة فإذا حصل هذا بغير إذن بقي مقصوراً على الأجير. ولم ينتقل إلى الإستاد، فكان الضمان على الأجير لا على الإستاد.
فأما إذا وقع أولاً على الخشبة التي يدق عليها وعليها ثوب القصارة ثم انقلبت إلى ثوب آخر ليس من ثياب القصارة وتخرق فهذا العمل حصل بإذن الأستاد لأنها وقعت على ثوب القصارة أولاً، وإنه أجير في حقه، فيكون مأذوناً في دقه. وإذا كان هذا العمل حاصلاً بإذن الإستاد انتقل هذا القدر من العمل إلى الإستاد، فكأن الإستاد دق بنفسه ثم انقلبت المدقة بعد ما وقعت على الخشبة التي يدق عليها، وأصاب الثوب فتخرق. ولو كان كذلك يجب الضمان على الإستاد لا على الأجير، فكذلك هذا.

(7/608)


وإن أصابت آدمياً يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا في الثوب. إن كان الانقلاب على الآدمي قبل أن يقع على الخشبة فالضمان على الغلام، وإن كان بعد ما وقعت على الخشبة يجب أن يكون الضمان على الإستاد لا على الأجير، كأن الإستاد فعل بنفسه.
ولو كسر شيئاً من أداة القصارة على هذا الوجه، إن كان مما يدق ويدق عليه فلا ضمان عليه؛ لأنه سلط على استعمال ما يدق، ويدق عليه من جهة الإستاد، فيكون الكسر حاصلاً بإذن الإستاد فلا يضمن فأما إذا كان مما لا يدق ولا يدق عليه. فالأجير ضامن لأن الكسر حصل بغير أذن الإستاد فإنه غير مسلط من جهة الإستاد على استعمال مالا يدق ولا يدق عليه.
ولو جفف القصار الثوب على حبل فجرت به حموله فخرقته لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأن الهلاك لم يكن من فعله وعمله. وعندهما يضمن لأن هذا مما يمكن التحرز عنه، والسابق ضامن لأن مشي الدابة منقول إلى السابق، فما تولد من مشيها كان ضمان ذلك على السابق.

وفي «العيون» : قصار استعان برب الثوب لدقه معه، فأعانه وتخرق الثوب ولا يدري من أي الدقيق تخرق، فالضمان كله على القصار، رواه ابن سماعة عن محمد. وروى بشر عن أبي يوسف: أن على القصار نصف القيمة باعتبار الأحوال، لمحمد: أن الثوب في ضمان القصار بالقبض، فما يحدث فيه يكون في ضمانه إلا أن يعلم أنه من فعل غيره، وهذا يجب أن يكون على قولهما خاصة. أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يضمن القصار أصلاً ما لم يعلم أنه تخرق من دقه بناء على أن الأجير المشترك يد أمانة عنده، يد ضمان عندهما، أو يكون قوله كقول أبي يوسف اعتباراً للأحوال.
وفي «النوازل» : سلم ثوباً إلى قصار أو خياط، ثم وَكَلَّ رجلاً بقبضه، فدفع إليه القصار غير ذلك الثوب؛ لم يلزم ذلك رب الثوب لأن القصار لا يستند بالمعاوضة ولا بالتمليك من ربّ الثوب، ولا ضمان على الوكيل إذا هلك الثوب في يده؛ لأنه قبض مال القصار بأمره، فكان أميناً، ولرب الثوب أن يبيع القصار بثوبه.
وفي «المنتقى» : رجل عنده ثياب وديعة، فجعل فيها ثوباً له ثم طلبها صاحبها، فدفعها كلها إليه، فضاع ثوب المستودع فالآخذ ضامن له، كلُ من أخذ شيئاً على أنه له، فضاع فهو ضامن له. وإن كان رب الثوب بعث رجلاً ليأخذ ثوبه فدفع القصار إليه ثوباً غير ثوب المرسل إن كان الثوب للقصار فلا ضمان على الرسول، وإن كان لغيره ضمن رب الثوب أيهما شاء فإن ضمن القصار لم يرجع على الرسول، وإن ضمن الرسول لم يرجع على القصار.

وسئل القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي عمن دفع ثوبه إلى قصار ليقصره اليوم، فلم يفعل اليوم حتى هلك الثوب، هل يضمن القصار؟ قال: نعم. بعث ثوباً إلى قصار بيد تلميذه، ثم قال للقصار: إذا أصلحت فلا تدفعه إلى تلميذي فلما أصلحه دفعه

(7/609)


إلى تلميذه، فذهب التلميذ بالثوب هل يضمن القصار فقيل: إن كان التلميذ حين دفع الثوب إلى القصار لم يقل له هذا ثوب فلان بعث به إليك لا يضمن، وإن كان قال: ذلك للقصار، فإن صدق القصار التلميذ في ذلك ضمن، وما لا فلا. والله أعلم.

نوع آخر في المتفرقات
وفي «النوازل» (55ب4) :
دفع إلى رجل مصحفاً ليعمل فيه، ودفع الغلاف معه أو دفع سيفاً إلى صيقل ليصقله، ودفع الجفن معه، فسرق لا يضمن الغلاف لأنه في الغلاف مودع؛ لا أجير والمودع لا يضمن إلا ما جنت يده.
وفي «القدوري» عن محمد أنه قال: يضمن المصحف والغلاف والسيف والجفن؛ لأن السيف لا يستغني عن الجفن، والمصحف عن الغلاف، فصار الشيء واحد، وإن أعطاه مصحفاً يعمل له غلافاً، أو سكيناً يعمل له نصاباً، فضاع المصحف أو السكين لم يضمن؛ لأنه أستأجره على إيقاع العمل في غيرها لا فيها وهما ليسا بتبع لذلك الغير، بخلاف ما تقدم، فكان فيهما كالمودع، وهذا كله على قول محمد.
أما على قول أبي حنيفة لا يضمن، إلا ما هلك بصنعه أو بالتقصير في الحفظ، كالمودع. والفتوى على قول أبي حنيفة لا يضمن إلا ما هلك، كما ذكرنا.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: دفع إلى رجل سيفاً ليصلح من جفنه شيئاً، فضاع نصله لم يضمن؛ لأن النصل عنده وديعة؛ لأن العمل في الجفن وكذلك لو دفع إليه مصحفاً ينقطه بأجر، فضاع غلافه لا يضمن. وكذلك إذا دفع إليه ثوباً لرقوه في منديل، فضاع بالمنديل وكذلك إذا دفع إليه ميزاناً ليصلح كفيه، فضاع العود الذي يكون فيه الميزان. ولو دفع إليه ثوباً يقطعه صفة على سرجه، فهو ضامن للصفة والسرج جميعاً؛ لأن العمل فيهما والله أعلم.

دفع إلى صانع ذهباً ليتخذ له سواراً منسوجاً، والنسج لم يكن من عمله، فأصلح الذهب وطوله ودفعه إلى من ينسجه، فسرق من الثاني، فإن كان الصانع الأول دفعه إلى الثاني بغير أمر مالكه، ولم يكن الثاني أجيراً ولا تلميذاً، كان للمالك أن يضمن أيهما شاّء في قولهما. وعند أبي حنيفة: الصانع الأول ضامن، أما الأجير فإن ذكر أنه سرق منه بعد العمل لم يضمن؛ لأنه إذا فرغ من العمل صارت يده يد وديعة، أما ما دام في العمل، فيده يد ضمان؛ لأنه يتصرف في مال الغير بغير أمره، ومودع المودع إنما لا يضمن عند أبي حنيفة إذا لم يتصرف في الوديعة بغير أمر مالكها.

نوع آخر
الرد في أجير المشترك، نحو القصّار والخياط والنساج، على الأجير لان الرد بقبض القبض، فإنما يجب على من كان منفعة القبض له، ومنفعة القبض في هذه المواضع

(7/610)


للأجير لأن للأجير عين، وهو الأجرة، ولرب الثوب منفعة، والعين خير من المنفعة، فكان منفعة الأجير أكثر فكان الرد عليه وهذا بخلاف ما لو أجر عبداً أو دابة، وفرغ المستأجر، فإنه يجب الرد على صاحب الدابة؛ لأن ثمة للأجير عين، وللمستأجر منفعة، فكانت منفعة الأجير أكثر، فكان الرد عليه.

نوع آخر
النحاس أجير مشترك؛ لأنه يبيع للناس ويشتري لهم بأجر، حتى لو ضاع جارية أو غلام عنه لا بصنعه لا يضمن عند أبي حنيفة. وكذلك تم بأن أجير مشترك؛ لأنه يحفظ مال الناس بأجر فمتى ضاع شيء لا يصنعه، كان وجوب الضمان عليه خلافاً بين أبي حنيفة وصاحبيه. وكذلك الدلال أجير مشترك فلو دفع الدلال الثوب إلى رجل ليراه، ويشتري فذهب بالثوب ولم يظفر به، فلا ضمان على الدلال؛ لأن هذا أمر لابدّ منه في البيع، ولو كان في يد الدلال ثوب فقال له رجل: هذا مالي سرق مني، فدفع الدلال ذلك إلى من أعطاه فلا ضمان عليه؛ لأن أكثر ما فيه أن الدلال غاصب، إلا أنه قد رده على الغاصب، وغاصب الغاصب يبرأ بالرد على الغاصب.

نوع آخر
إذا دفع إلى قصار ثوباً، فلما سلمه القصار إليه قال: ليس هذا ثوبي قال محمد: القول قول القصار مع يمينه، في قول من يضمن القصار، وفي قول من لا يضمنه، ولكن لا يصدق في الأجر ولا أجر عليه، وإنما كان القول قول القصار؛ لأنه إن اعتبر ضميناً، فالقول قول الضمين في مثل هذا، كالغاصب يقول هذا الذي غصبه، وإن اعتبر أميناً فكذلك كالمودع إذا قال: هذا هو الذي أودعني، إلا أنه لا يستحق الأجر، لأن الضمين والأمين إنما لا يصدقان في حق دفع الضمان عن أنفسهما، أما في إيجاب الضمان على غيرهما، فلا لأن المدعي في ذلك الأجير، والمنكر هو المستأجر؛ لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد، إنما تجب باستيفاء المنفعة المعقود عليها، ولم يعلم استيفاؤها.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر حمالاً ليحمل له حمولة إلى بلد كذا، ويسلمها إلى السمسار، فحملها فقال السمسار للحمال: إن وزن الحمولة في الغار ما صح كذا قد نقصت في الوزن، فإنما لا أعطيك من الأجر بحساب ما نقص، ثم اختلفا بعد ذلك، فقال السمسار: أوفيتك الأجر، وكذبه الحمال فالقول للحمال، ولا خصومة لكل واحد منهما قبل صاحبه؛ لأنه لا شغل بينهما، إنما الخصومة بين الحمال وبين صاحب الحمل.
وفي «العيون» عن محمد: فيمن دفع إلى ملاح أكرار حنطة فحمل كل كر بكذا، فلما بلغا موضع الشرط، قال رب الطعام: نقص طعامي. وقد كان كاله على الملاح. وقال الملاح: لم ينقص فالقول لصاحب الطعام. ويقال للملاح: كله حتى يأخذ منه من كل كر مقدار ما سمي ولو طلب ضمان الملاح، وقد كان دفع إليه أجره، فالقول للملاح أن الطعام وافر ويقال لصاحب الطعام: كله حتى يضمنه ما نقص من طعامك؛ لأن في

(7/611)


الوجه الأول الملاح يدعي زيادة الأجر، وصاحب الطعام منكر لما ذكرنا، أن الأجرة إنما تجب بالعمل لا بنفس العقد.

وفي الوجه الثاني صاحب الطعام يدعي وجوب رد شيء من الأجر بحسابه، والملاح ينكر، ثم قال هاهنا: يقال لصاحب الطعام: كله، حتى تضمنه ما نقص من طعامك، فيحتمل أن يكون المراد به حتى يسترده من الأجر بقدر ما نقص من طعامك ويحتمل أنه أراد به تضمين ما انتقص من الطعام كما هو ظاهر اللفظ، فإن كان المراد به الأول فهو ظاهر على قول الكل وإن كان المراد به الثاني فهذا على قول محمد خاصة، أو على قوله وقول أبي يوسف على ما ذكرنا، فيما إذا قال الأجير المشترك: قد رددت. أما على قول أبي حنيفة ليس لصاحب الطعام تضمين الملاح، إلا بجناية أو تقصير منه على ما ذكرنا غير مرّة. والفتوى على قوله.

وفي «النوازل» : ركب سفينة قال له صاحب السفينة: حملتك بدرهمين، فهات الدرهمين. وقال الراكب: بل استأجرتني لأحفظ السكان بدرهمين، فهات الدرهمين. وأقاما البينة، تقبل بينة الراكب؛ لأن صاحب السفينة حيث استأجره لحفظ السكان، فقد أذن له بأن يركب كذا ذكر ههنا.
وذكر بعد هذا: رجل ادعى على إجارتك استأجرتني لأمسك السكان في سفينتك، من ترمذ إلي آمل بعشرة دراهم، وادعى عليه رب السفينة أني حملتك في سفينتي من ترمذ إلى آمل بخمسة دراهم، فالقول لكل واحد منهما مع يمينه، والبداية بيميني أحدهما ليست بأولى من البداية بيمين الآخر، لاستواء حالهما في الدعوى والإنكار، فللقاضي أن يبدأ بأحدهما، وإن أقرع نفياً للتهمة فحسن ولا أجر لكل واحد منهما على صاحبه.
وإن أقاما البيّنة، فالبينة بيّنة الملاح، وله على صاحب السفينة عشرة دراهم، ولا أجر لصاحب السفينة على الملاح؛ لأن الأمرين جميعاً لو كانا لكانت إجارة صاحب السفينة انتقضت؛ لأنه لا بد للملاح من كونه في السفينة.

ولو ادعى رجل على آخر أني أكريتك، بغلاً من ترمذ إلى بلخ بعشرة دراهم، وادعى عليه الأجر أنك استأجرتني لأبلغه إلى فلان ببلخ بخمسة دراهم، فالقول لكل واحد منهما مع يمينه، ولا أجر. وإن أقاما البينة، فبينة صاحب البغل أولى؛ لأن حفظ البغل واجب على غير صاحب البغل على تقدير ثبوت الأمرين، فلا تجوز الإجارة على ذلك تقدمت أو تأخرت، فلا يجب الأجر.
وفي «النوازل» : أجر داره سنة، فلما انقضت السنة أخذ الدار وكنسها وسكنها، فقال المستأجر: كان لي فيها دراهم فكنستها وألقيتها، فإن صدقه رب الدار في ذلك ضمن وإن أنكر فالقول (56آ4) قوله مع يمينه؛ لأن المستأجر يدعي عليه ضماناً، وهو ينكر.

نوع آخر
إذا دفع غزلاً إلى نساج لينسجه، أو دفع ثوباً إلى قصار ليقصره، أو إلى صباغ

(7/612)


ليصبغه، فجحد المدفوع الغزل والثوب وحلف على ذلك ثم أقر وجاء به منسوجاً أو مقصوراً أو مصبوغاً، فإن كان قد عمل قبل الجحود فله الأجر؛ لأنه عمل حال قيام الإجارة، فاستحق الأجر وإن كان عمل بعد الجحود، ففي النساج الثوبُ للنساج، وهو ضامن للمالك غزلاً مثل غزله؛ لأنه بالجحود صار غاصباً للغزل؛ ومن غصب غزلاً ونسجه يبطل حق المالك، وضمن مثل ذلك الغزل؛ لأن الغزل من ذوات الأمثال ولا أجر له؛ لأنه عمل لنفسه وفي القصار الثوبُ لصاحبه ولا أجر له؛ لأنه ليس له في الثوب عين مال قائم، وقد عمل بعد بطلان الإجارة.
وفي الصباغ يخير رب الثوب إن شاء أعطاه قيمة ما زاد الصبغ فيه؛ لأن له عين مال قائم في الثوب وهو الصبغ، بخلاف القصار، وإن شاء ترك عليه ثوبه وضمنه قيمته أبيض كما في الغاصب. هذه الجملة في «العيون» .

وفي «واقعات الناطقي» : ثوب مخيط قال رب الثوب: أنا خطته وقال الخياط: أنا خطته فإن كان في يد رب الثوب، أو في داره فالقول قول رب الثوب مع يمينه، لأنه ينكر ما يدعيه، فإذا حلف لا أجر عليه، وإن كان في يد الخياط أو في يديهما، فالقول للخياط مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له، فإذا حلف فله الأجر على رب الثوب.

الفصل التاسع والعشرون: في التوكيل في الإجارة
وإذا وكل الرجل رجلاً بأن يستأجر له داراً بعينها ببدل معلوم ففعل، فالآجر يطالب الوكيل بالأجرة، والوكيل يطالب الموكل وللوكيل أن يطالب الموكل بالأجرة، وإن لم يطالبه الآجر. وإذا وهب الآجر الأجر من الوكيل، وأبرأه صح. وللوكيل أن يرجع بالأجر على الآمر.
الوكيل باستئجار الدار، إذا ناقص الإجارة مع الآجر إن لم يكن الوكيل قبض المستأجر، فمناقصته صحيحة قياساً أو استحساناً وإن قبضه فالقياس أن تصح المناقصة.
وفي الاستحسان لا تصح وإذا وكله أن يستأجر أرضاً له شهراً، فأستأجره شهرين، فالشهر الأول للموكل، والشهر الثاني للوكيل.
وإذا وكل رجلين باستئجار دار وأرض فأستأجر أحدهما وقع العقد له لأن أحد الوكيلين لا ينفرد بالاستئجار فيعذر إيقاع العقد للموكل فيقع للوكيل فإن دفعها الوكيل إلى الموكل انعقدت بينه وبين الموكل إجارة مبتدأة بالتعاطي. وهذه المسألة نص أن الإجارة تنعقد بالتعاطي.
وفي «نوادر» ابن سماعة عن محمد. وفي «الأمالي» عن أبي يوسف: رجل أمر رجلاً أن يؤاجر داره أو أرضه من رجل بأجر معلوم ففعل، ثم إن المؤاجر نقص المستأجر الإجارة، فالنقص جائز ولا ضمان على المؤاجر. ولو كان الأجر شيئاً بعينه ويعجل الأجر ذلك لا تجوز مناقصته على الآمر.

(7/613)


والفرق أن في المسألة الثانية: الأجر صار مملوكاً للآمر، فالمؤاجر بالقبض يريد إزالة ذلك عن ملك الآمر، أما في المسألة الأولى الآمر لم يملك شيئاً، فالمؤاجر بالنقص لا يزيل ملكه عن شيء، فافترقا.

وإذا وكل الرجل رجلاً أن يستأجر له داراً بعينها من رجل هذه السنة بمئة درهم، فأستأجرها الوكيل وقبضها من المؤاجر، وأراد الموكل أخذها من الوكيل، فمنعها الوكيل من الموكل حتى يأخذ الأجر، فهذه المسألة على وجوه:
الأول: أن تكون الأجرة مطلقة، وفي هذا الوجه ليس للوكيل أن يحبس الدار من الموكل؛ لأن الوكيل بالاستئجار في حق الحقوق كأنه أستأجره لنفسه، ثم أجر من الموكل، ولو كان هكذا وكان الأجر مطلقاً لم يكن للوكيل منع الدار؛ لأجل الأجرة لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد، فكذا ههنا. فإن منعها الوكيل مع أنه ليس له حق المبيع حتى مضت السنة، فالأجر واجب على الوكيل؛ لأن الوكيل في حق الحقوق بمنزلة العاقد لنفسه. والأجر من حقوق العقد ولو أستأجر الدار لنفسه سنة، وقبض الدار مدة الإجارة كان عليه الأجر، وإن لم يسكن كذا ههنا. ويرجع الوكيل على الموكل بالأجرة؛ لأن الوكيل قبض الدار من الآجر وله حق القبض، وقبض الوكيل متى حصل بحق، فهو بمنزلة قبض الموكل في حق المعقود عليه لأن يد الوكيل في حق المعقود عليه الذي يقابله البذل يد أمانة ونيابة، وللمنفعة حكم الوجود شيئاً فشيئاً في حق حكم العقد. فإذا صار يد الوكيل كيد الموكل صار كأن المنافع وجدت شيئاً فشيئاً في يد الموكل، فلا يسقط شيء من الأجر إلا إذا خرجت يد الوكيل من أن تكون يد الموكل، وذلك يأخذ معينين، بأن يحبس الوكيل العين بالبدل حتى تصير يد الوكيل يد ضمان بحكم العقد، وذلك لم يوجد ههنا؛ لأنه ليس للوكيل ههنا حق الحبس بالأجرة.
والثاني: أن يصير الوكيل غاصباً، ولا يمكن تحقيق الغصب ههنا لا في حق المنافع، لأن المنافع ليست بمحل الغصب عندنا، ولا في حق العين؛ لأنه لو اعتبر غاصباً للعين إما أن يعتبر من الآجر، أو من الموكل، لا وجه إلى الأول؛ لأن قبض الوكيل الدار من الأجر حصل بحكم العقد ولا وجه إلى الثاني؛ لأن الموكل ليس بمالك للعين والغصب من غير المالك لا يتصور. وإذا لم تنقلب يد الوكيل يد غاصب، ولا يد ضمان بحكم الحبس تثبت يد الوكيل يد أمانة، فصار حدوث المنافع في يد الوكيل ووجودها في يد الموكل سواء.
الوجه الثاني: أن يكون الأجر مؤجلاً إلى سنة، والجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الأول. والكلام في هذا الوجه أظهر؛ لأن العقد إذا كان مطلقاً، فالأجرة لا تجب إلا بالسكنى، وإذا كان الأجر مؤجلاً لا يجب إلا بعد السنة، فكان انعدام حق الحبس للوكيل ههنا أظهر وأبين، فكان أولى بأن لا تتبدل يده عن النيابة، والأمانة بالضمان.
ولو غصب رجل أجنبي الدار من المستأجر، أو من الآجر حتى تمت السنة لم يجب عليها أجر؛ لأن يد الغاصب ليس كيد الوكيل، ولا كيد الآمر فيما يرجع إلى حكم العقد،

(7/614)


والمنافع تحدث شيئاً فشيئاً، فحصل هلاك المعقود قبل قبض العاقد، وقبل قبض من وقع له العقد، فأوجب سقوط الأجر. بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك الدار في يد الوكيل عند حدوث المنفعة حقيقة، ويد الوكيل يد الموكل حكماً، فحصل هلاك المعقود عليه بعد قبض من وقع له العقد، من حيث الحكم فلهذا لم يسقط الأجر.
ورأيت في تعليق جدي القاضي الإمام الأجل جمال الدين ذكر في بعض الروايات: أن الوكيل في هذه الصورة لا يرجع بالأجر على الآمر استحساناً. قال: ثمة وهو الصحيح، فكأنه مال إلى الوكيل بالحبس صار غاصباً الدار من الآمر، والغصب من غير المالك منصور في الجملة، فصار هذا وما لو غصبه أجنبي سواء.

وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف، وأشار جدي إلى المعنى فقال: قبض الوكيل كقبض الموكل، فوقع قبض الوكيل أولاً للموكل، وصار الوكيل بالسكنى بعد ذلك غاصبا السكنى من الموكل، فيوجب ذلك سقوط الأجر عن الموكل. وأشار ابن سماعة إلى المعنى لأبي يوسف فقال: الوكيل بالاستئجار في حق الحقوق كأنه استأجر لنفسه، ثم أجر من الموكل حكماً. ولو كان هكذا حقيقة، ولم يسلم الوكيل الدار إلى الموكل حتى مضت المدة لم يستحق الوكيل الأجر على الموكل، كذا ههنا.
قال: وكذلك لو كان الآمر قبض الدار من الوكيل، ثم تعدى عليها الوكيل فأخرجها من يد الآمر حتى مضت السنة، لزم الأجر لرب الدار على الوكيل، ويرجع الوكيل بها على الآمر؛ لأن الوكيل قبض الدار وله حق القبض، فصار الموكل قابضاً بقبضه حكماً، فلو سقط الأجر عن الآمر، إنما يسقط إذا خرج يد الوكيل من أن يكون يد الموكل، ولم يخرج على ما مر.

فإن إنهدمت الدار من سكنى الوكيل، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يصر غاصباً الدار (56ب4) من الآمر ولما مر ولم يصر غاصباً من الآجر، وله حق القبض، وكذلك لم يصر غاصباً بالسكنى؛ لأن أكثر ما في الباب أنه شرط سكنى الآمر إلا أن السكنى مثل السكنى، إلا أن من أستأجر داراً ليسكنها بنفسه، فأسكنها غيره بأجر وبغير أجر، لم يصر مخالفاً حتى يلزمه الأجر فههنا كذلك. ثم قال محمد رحمه الله في هذه المسألة، وفي المسألة الأولى: أن الوكيل يرجع بالأجر على الآجر في القياس.
وإنما أراد به والله أعلم القياس على الوكيل بالشراء فإن الوكيل بالشراء إذا حبس، وليس له حق الحبس حتى هلك، لا يسقط الثمن عن الآجر، فكذا لا يسقط الأجر عن الموكل ههنا هذا الذي ذكرنا إذا استأجر الوكيل الدار سنة بمئة درهم مؤجلة، أو مطلقاً. فأما إذا شرط الوكيل تعجيل الأجر لا يصح عليه وعلى الآمر؛ لأن الأجر مطلق وتعجيل الأجر معتاد، فيملك الوكيل ذلك، فالوكيل بالبيع المطلق يملك البيع بالأجل المعتاد بالاتفاق فههنا كذلك فإن قبض الوكيل الدار ودفع الأجرة، أو لم يدفع فله أن يمنع الدار من الآجر حتى يستوفي الأجر، لما ذكرنا أن الوكيل بالاستئجار في حق حقوق، العقد كأنه استأجره لنفسه ثم أجره من موكله. ولو أستأجر لنفسه ثم أجره من موكله بشرط

(7/615)


تعجيل الأجر كان له حق حبس الدار، كذا هنا.
فإذا منع الوكيل الدار من الموكل بعدما طلب الموكل حتى مضت السنة، والدار في يد الوكيل، فالأجر للآجر على الوكيل لما مرّ ولا يرجع به على الآمر؛ لأنه لما حبس الدار من الآجر، وله حق الحبس خرجت يد الوكيل من أن تكون يد أمانة ونيابة، فلم تصر لمنافع حادثة في يد الموكل حكماً، فلم يجب الأجر على الموكل، وصار كالوكيل بشراء العين إذا قبض العين، وطلبه الآمر فمنعه عنه الوكيل، ثم هلك في يد الوكيل. وهناك يبطل عن الآمر اليمين ليبدل يده كذا ههنا، فلو لم يطلب الآمر الدار حتى مضت السنة لزم الوكيل الأجر؛ ورجع به على الآجر؛ لأن الآمر صار قابضاً للدار بقبض الوكيل. فلو بدلت يد الوكيل، إنما تبدل بالمنع، وذلك إنما يكون بعد الطلب، ولم يوجد فصار يد الوكيل باقياً على حكم النيابة، كما في الوكيل بشراء العين.

وإن مضت نصف السنة، ثم طلب الآمر الدار، فمنع الوكيل منه حتى تمت السنة، وجب الأجر كله على الوكيل، ويرجع على الآمر بحصة ما كان قبل الطلب، ولا يرجع بحصة ما بعد الطلب، والمنع اعتباراً للبعض بالكل، فصار كالوكيل بشراء الأعيان إذا هلك بعضها في يده قبل طلب الموكل، وبعضها بعد طلب الموكل، وسع الوكيل، فالوكيل يؤاخذ بالثمن كله، ويرجع على الآمر بحصة ما هلك بعد المنع، والطلب كذا ههنا.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أمر رجلاً أن يستأجر له أرضاً بعينها، فاستأجره المأمور كما أمره الآمر به، ثم إن الآمر اشترى الأرض لنفسه بعد ذلك من صاحبها، وهو لا يعلم بالإجارة ثم علم، فإنه لا يكون له أن يردها، ويكون في يده بحكم الإجارة.
معنى قوله لا يردها: لا يرد الإجارة؛ لأن استئجار المأمور الآمر قد صح، ونفذ على الآمر، ويعلق به حق الآمر فلا يملك إبطال حقه بالنقص والرد عليه.
وفيه أيضاً: الوكيل باستئجار الدار بعينها بعشرة إذا استأجرها بخمسة عشر، ودفعها إلى الموكل. وقال: إنما استأجرتها بعشرة، فلا أجر على الآمر، وعلى الوكيل الأجر لرب الدار؛ لأن العقد ههنا نفذ على الوكيل لمكان الخلاف. وهذه المسألة دليل أن الإجارة لا تنعقد بالتعاطي.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: الوكيل بإجارة الأراضي إذا دفع الأراضي مزارعة، إن كان البذر من قبل الوكيل لا يجوز، وإن كان من قبل المزارع جاز؛ لأن البذر إن كان من قبل المزارع يصير المزارع مستأجراً، والوكيل مؤاجراً ولا كذلك ما إذا كان البذر من قبل الوكيل، وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف في الوكيل بإجارة الدار بعشرة، إذا أجرها بخمسة عشر، فهو فاسد، ويتصدق بالخمسة إن كان قد أخذها.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أجر رجلاً داراً ثم إنه استحقها رجل ببينة قامت له على الدار، وقال: كنت دفعتها إلى الآجر، وأمر به أن يؤاجرها لي، فالأجر لي، قال الآجر: كنت غصبتها منه، وأجرتها فالأجر لي فالقول قول رب الدار؛ لأن

(7/616)


الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر أن الإنسان إنما يتصرف في ملك الغير لذلك الغير، وإن أقام الآجر بينة على ما ادعى من الغصب لا تقبل بينته؛ لأنه بهذه البينة يريد إبطال قول المستحق، والبينات شرعت للإثبات لا للإبطال. وإن أقام بينة على إقرار المستحق بما ادعى من الغضب قبلت بينته، وكانت الأجرة له؛ لأنه بهذه البينة لا يبطل قول المستحق إنما يثبت إقراره بالغصب، ثم إذا ثبت الغصب يترتب عليه حكم الأجرة. ولو كان الآجر بنى في الأرض بناء، ثم أجرها مبنية. فقال رب الأرض: أمرتك أن تبني وتؤاجر وقال الآجر: غصبتك وبنيتها وأجرتها، قال: يقسم الأجر على قيمة الأرض غير مبنية. وعلى البناء، فما أصاب الأرض فهو لرب الأرض، وما أصاب البناء فهو للغاصب؛ لأن في البناء الظاهر شاهد للغاصب؛ لأن البناء في يده.