المحيط
البرهاني في الفقه النعماني الفصل السادس
والعشرون: في إثبات الوكالة والوراثة وفي إثبات الدين
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وادعى أن
عليه ألف درهم باسم فلان بن فلان الفلاني وأن هذا المال لي، فإن فلاناً
الذي باسمه المال أقر أن هذا المال لي، وأن اسمه عارية في ذلك وإنه قد
وكلني بقبض ذلك منه بالخصومة فيه فالقاضي يسأل المدعى عليه عن هذه الدعوى،
فإن أقر بجميع ذلك أمره القاضي بدفع المال إلى المدعي وهذا لما عرف أن
الديون تقضى من مال المديون، فإقراره بذلك تصرف منه على نفسه وفي ماله
فينفذ، فقد شرط الخصاف أن يدعي أن فلاناً الذي باسمه المال وكله بقبض المال
وهذا جواب ظاهر الرواية.
وروي عن أبي يوسف أن ذلك ليس بشرط بل إذا أقر أن المال الذي عليه باسم فلان
ملك هذا المدعي أمره بالدفع إليه.
وذكر هذه المسألة في كتاب الأقضية وذكر جوابها على نحو ما ذكر الخصاف عن
أبي يوسف إلا أن في الأقضية لم ينسب هذا الجواب إلى أحد.
ووجه ذلك: أن الدين في الذمة مال مملوك كالعين، ثم لو ثبت كون العين
مملوكاً (102ب4) للمدعي بأن ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكه وأقر المدعى
عليه بذلك أمر بالدفع إليه، وإن لم يثبت كون المدعي وكيلاً بالقبض من جهة
أحد، فكذا إذا ثبت كون الدين مملوكاً للمدعي في الذمة يجب أن يؤمر بالدفع
إليه، وإن لم يثبت كون المدعي وكيلاً بالقبض من جهة أحد.
يوضحه: أن المقر أقر له بالدين مطلقاً، والمطلق ينصرف إلى الكامل وهو الثلث
(8/212)
من كل وجه، وإنما يكون الدين مملوكاً للمقر
له من كل وجه إذا كان مملوكاً له رقبة وتصرفاً في كل شيء.
وجه ظاهر الرواية: أن أصل الدين قد يكون مملوكاً لإنسان ولا يكون له حق
القبض حتى لو امتنع المشتري عن تسليم الثمن إلى الموكل كان له ذلك إذا ثبت
هذا فنقول: إن ثبت كون المال مملوكاً للمدعي بإقرار المدعى عليه ما ثبت له
حق القبض لا محالة، فيحتاج إلى دعوى الوكالة بالقبض، وإذا أقر المدعى عليه
بذلك أيضاً فله حق القبض كما يثبت له الملك، ثم إذا أقر المدعى عليه بجميع
ذلك، وأمره القاضي بدفع المال إلى المدعي، لا يكون هذا قضاء على الغائب حتى
لو جاء الغائب، وأنكر التوكيل كان له أن يأخذ ماله من المدعى عليه وهذا لأن
إقرار الإنسان حجة عليه وليس بحجة على غيره، فثبت التوكيل بإقرار المدعى
عليه في حقه فأمرناه بالتسليم إلى المدعي؛ لأن ذلك أمر عليه ولم يتعد ذلك
إلى الغائب لأنه أمر على غيره، وإن جحد المدعى عليه الدعوى كلها فقال
المدعي للقاضي: حلفه لي فالقاضي يقول للمدعي: ألك بينة على ما ادعيت من
إقرار الرجل بالمال، ومن توكيله بقبض ذلك المال لأنه يدعي لنفسه حق الخصومة
وحق القبض، والمدعى عليه ينكر ذلك كله، فيحتاج المدعي إلى إقامة البينة
عليه.
ثم شرط في الكتاب أن يقيم المدعي بينة على إقرار ذلك الرجل بالمال، وعلى
توكيله إياه بالقبض، وإقامة البينة على المال ليس بشرط لثبوت حق الخصومة
وإنما الشرط إقامة البينة على الوكالة، فيطلب للقاضي منه البينة على
الوكالة بعد هذا المسألة على وجهين:
إن أقام بينة على الوكالة ثبت كونه خصماً فيطلب القاضي منه البينة على
المال على نحو ما ادعى، فإن أقام أحد المال منه وتعدى هذه القضاء إلى
الغائب حتى لو جاء الغائب وأنكر التوكيل لا يكون له أن يأخذ المال من
المدعى عليه لأن التوكيل ثبت بالبينة والبينة حجة في حق الناس كافة،
والمدعى عليه انتصب خصماً عن الغائب في إثبات هذه الوكالة لأن المدعي على
الغائب سبب للمدعي على الحاضر، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب،
فكما ثبتت الوكالة في حق المدعى عليه تثبت الوكالة في حق الغائب أيضاً.
وإن لم يكن للمدعي بينة على المال وأراد استحلاف المدعى عليه حلفه القاضي
بالله ما لفلان بن فلان الفلاني ولا باسمه عليك هذا المال الذي سماه فلان
بن فلان ولا شيء منه، وهذا لأن المدعي لما أثبت وكالته بالبينة، صار خصماً
للمدعى عليه في دعوى المال، فهذا خصم ادعى مالاً على من هو خصم له فكان له
أن يحلفه.
هذا إذا أقام المدعي البينة على الوكالة وإن لم يكن للمدعي بينة على
الوكالة، فقال للقاضي: إن هذا المدعى عليه يعلم أن فلاناً الذي باسمه المال
قد وكلني بقبض هذا المال فاستحلفه لي على ذلك، فالقاضي يستحلفه بالله على
ذلك ما يعلم أن فلان بن فلان الفلاني وكل هذا بقبض المال على ما ادعى.
هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وأضاف هذا الجواب إلى أبي يوسف ومحمد.
(8/213)
واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: هذا
الجواب على قول الكل إلا أن الخصاف رحمه الله خص أبا يوسف ومحمداً بالذكر
لأنه لم يحفظ قول أبي حنيفة رحمه الله، لا لأن قوله بخلاف قولهما وإلى هذا
مال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
ومنهم من قال: ما ذكر في «الكتاب» قولهما أما أبي حنيفة ينبغي أن لا يحلف
المدعى عليه بناء على مسألة ذكرها في «الجامع الكبير» أن من اشترى عبداً
وطعن المشتري فيه بعيب الإباق أو غيره، وجحد البائع أن يكون به هذا العيب
فالقاضي يأمر المدعي إقامة البينة على وجود هذا العيب به في الحال، فإن
أقام بينة على ذلك ثبت العيب للحال وصار البائع خصماً له وإن لم يكن له
بينة فأراد استحلاف البائع بالله ما لم يعلم وجود هذا العيب به للحال، فعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله لا يستحلف وعلى قولهما يستحلف ولا فرق بين
المسألتين، فإن وجود العيب بالمشترى للحال شرط سماع الخصومة كما أن الوكالة
بالقبض ها هنا شرط سماع الخصومة، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه
الله.
ثم إذا حلف إما على اتفاق أو على اختلاف إن حلف انتهى الأمر، وإن نكل صار
مقراً بالوكالة فيقضي القاضي بالوكالة بحكم إقراره، ثم سأله القاضي عن
المال فإن أقر بالمال على الوجه الذي ادعى أمره بالتسليم، وإن أنكر المال
صار خصماً للمدعي في حق استحلافه على المال وأخذ المال، ولا يصير خصماً في
حق إثبات المال عليه بالبينة حتى لو أراد المدعي أن يقيم عليه البينة
بالمال، فالقاضي لا يسمع بينته، وكذلك لو كان المدعى عليه أقر بالوكالة من
الابتداء صريحاً إلا أنه أنكر المال صار خصماً للمدعي في حق الاستحلاف،
وأخذ المال لا في حق إثبات المال عليه بالبينة، وإنما كان كذلك لأن المدعى
عليه إنما صار خصماً بالوكالة، والوكالة إنما تثبت بإقرار المدعى عليه،
وإقراره حجة على نفسه وليس بحجة على غيره، فثبتت وكالة المدعي في حق
استحلافه على المال، إن كان جاحداً المال وفي حق أخذ المال منه إن كان
مقراً بالمال، لأنه يقتصر عليه ولا يتعدى إلى غيره ولا تثبت وكالته في حق
إثبات المال عليه بالبينة، لأنه لو ثبت تعدى قوله إلى الغائب وفي ذلك قضاء
على الغائب، وإنه لا يجوز.
ونظير هذا ما قال أصحابنا رحمهم الله: في رجل ادعى أن فلان بن فلان الفلاني
وكله بطلب كل حق له قبل هذا وأن له عليه ألف درهم فأقر المدعى عليه
بالوكالة، وأنكر المال فقال المدعي: أنا أقيم البينة أن هذا المال عليه، لم
يكن خصماً له في ذلك ولكن يكون خصماً في حق استحلافه وفي حق أخذ المال منه
إن أقر بالمال، والمعنى ما بينا، وإن كان المدعى عليه أقر بالمال وجحد
الوكالة فالقاضي يسأل من المدعي بينة على الوكالة فإن أقام تثبت الوكالة
بالبينة وصار خصماً مطلقاً، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف المدعى عليه
على الوكالة حلفه وهو على الاختلاف الذي قلنا، فإن حلف فقد انتهى الأمر وإن
نكل ثبتت الوكالة، ولكن في حق أخذ المال عنه لا في حق القضاء على الغائب
لما قلنا.
(8/214)
قال: ولو أن رجلاً جاء إلى القاضي فأحضر
معه رجلاً آخر وادعى أنه وكيل فلان الغائب وكله بقبض الدين الذي له على
هذا، وبقبض العين الذي في يد هذا، والخصومة فيه وديعة وصدقه المدعى عليه في
جميع ذلك، فإنه يؤمر بدفع الدين إلى المدعي ولم يؤمر بدفع العين إليه، وقد
روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يؤمر بدفع الوديعة أيضاً كما يؤمر بدفع
الدين.
وهكذا روي عن محمد، فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين العين والدين،
وعلى ظاهر الرواية يحتاج إلى الفرق بينهما.
والفرق: أن الدين إنما يقضى من مال المديون فإقراره بالوكالة في فصل الدين
إقرار بثبوت حق القبض للوكيل في مال نفسه، فيكون إقراراً على نفسه فيصح أما
إقراره بالوكالة في فصل العين إقرار بثبوت حق القبض له في ملك الغير، ليكون
إقراراً على الغير فلا يصح فإن كذبه المدعى عليه في جميع ما ادعى أو صدقه
في دعوى الوكالة وكذبه في المال أو صدقه في المال، فهو على ما ذكرنا في
المسألة المتقدمة، فإن كذبه في جميع ذلك فأقام الوكيل البينة على الوكالة
والمال جملة، ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» أن على قول أبي حنيفة
رحمه الله: القاضي لا يقبل الشهادة على المال بل يقبل، وعلى قول أبي يوسف:
القاضي يقبل البينة على الوكالة وعلى المال فإذا عدلت البينة يقضي بالوكالة
أولاً ثم بالمال، ولم يذكر قول محمد رحمه الله ثمة.
وفي موضع آخر أن على قول محمد: القاضي يقبل البينة على الوكالة والمال
جميعاً، وذكر فيه: لأن قول أبي يوسف رحمه الله مضطرب.
وجه من قال بقول البينة على الوكالة والمال: أن البينة لا توجب الحق
بنفسها، وإنما توجب بواسطة إيصال القضاء بها فيعتبر هذا الترتيب في القضاء
فلا جرم عندي، القاضي يقضي بالوكالة أولاً، ثم بالمال، ولكن يقبل البينة
على الأمرين في الابتداء.b
وجه قول أبي حنيفة: أن البينة وإن كانت لا توجب الحق بنفسها ولكن إنما يسمع
من الخصم، وإنما يصير المدعي خصماً في دعوى المال إذا كان وكيلاً ولم يثبت
ذكر بعد هذا ما إذا وكله بقبض الدين، ولم يتعرض للخصومة فجحد المديون
الوكالة والمال، قبلت بينة الوكيل على الوكالة والمال عند أبي حنيفة
وعندهما (103أ4) قبل بينته على الوكالة ولا تقبل بينته على المال، بناء على
أن الوكيل بقبض الدين هل يملك الخصومة؟ عند أبي حنيفة رحمه الله يملك،
وعندهما لا يملك.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل وكل رجلاً بالخصومة في كل حق له
على الناس، فأحضر الوكيل رجلاً يدعي قبله حقاً للموكل، وهو جاحد الوكالة
مقر بالحق، وأقام عليه البينة بالوكالة، فقبل أن تظهر عدالة الشهود غاب
الرجل، ثم عدلت الشهود، فالقاضي لا يقضي بالوكالة ما لم يحضر، لأن القضاء
لا بد له من خصم حاضر ليقضي عليه، فإن أحضر رجلاً آخر يدعي عليه حقاً
للموكل، وهو جاحد الوكالة، فيقضي القاضي عليه بالبينة الأولى، كان المدعى
عليه الأول خصماً عن جميع الناس في حق سماع البينة عليه، لأن مدعي الوكالة
يحتاج إلى إثبات الوكالة على الجميع لكون الوكالة واحدة،
(8/215)
وانتصب الذي أحضر خصماً عن الناس كافة،
وصار إقامة البينة عليه كإقامة البينة على الكل، ولو أقام على الكل ثم غاب
واحد منهم أليس أنه يقضي بها على الحاضر كذا ها هنا.
واعتبره في «الكتاب» بينة فإن قامت على الوكيل، فغاب الوكيل أو قامت على
المورث حال حياته، فمات وحضر الوارث أو قامت على وارث فغاب هذا الوارث وحضر
وارث آخر، فإن في هذه الفصول يقضي بتلك البينة على الذي حضر ثانياً،
والمعنى ما ذكرنا في «الزيادات» أيضاً.
وإذا أقام بينة على رجل أن فلاناً وكله بالخصومة وطلب ماله من الحق عليه،
فلم تظهر عدالة الشهود حتى أقام الوكيل بينة على رجل بحق للموكل. القياس:
أن لا يقبل بينته، وفي الاستحسان: يقبل وهكذا القياس والاستحسان إنما يتأتى
على قول أبي يوسف رحمه الله إن كان الخلاف فيما إذا أقام البينة على
الوكالة والمال جملة، بين أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: أما لا يتأتى على
قول أبي حنيفة رحمه الله وقد مر الكلام فيه، فبعد ذلك المسألة على وجوه: إن
زكيت البينتان قضى بالأمرين، ولكن على الترتيب الذي شهد به الشهود يقضي
بالوكالة أولاً، ثم بالمال، وإن زكيت بينة الوكالة ولم تزك بينة الحق يقضي
بالوكالة، ويؤمر إعادة البينة على الحق له، فإن لم تزك بينة الحق صار كأنه
لم يقمها، وإن زكيت بينة الحق ولم تزك بينة الوكالة، لم يقض بالحق، لأنه
لما لم تزك بينة الوكالة ظهر أن بينة الحق قامت على غير خصم.
ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وقال: إن أبي فلان مات ولم يترك وارثاً
غيري وله على هذا كذا كذا من المال، فاعلم بأن هذه المسألة على وجهين.
أحدهما: يدعي ديناً على نحو ما بيننا أو يدعي عيناً في يده أنه كان لأبيه
عليه هذا من أبيه، أو أودعه إياه أبوه أولاً تعرض لشيء فذكر أنه لأبيه، مات
أبوه وترك ميراثاً له لا وارث له غيره، فإن القاضي يسأل المدعى عليه عن
ذلك، فإن أقر بجميع ما ادعى المدعي صح إقراره وأمر بتسليم الدين والعين
إليه، أما صحة إقراره بالدين، فلما ذكرنا في فصل الوكالة، وأما صحة الإقرار
بالعين بخلاف مسألة الوكيل.
والفرق أن العين الذي في يديه صار ملكاً للذي حضر بسبب الوراثة في زعم صاحب
اليد، فإنه زعم أنه وارث الميت، وإنما أقر له بحق القبض في ملكه فيؤمر
بالتسليم إليه ولا كذلك، فصل الوكيل هذا أقر بذلك، فأما إذا أنكر ذلك كله،
فإن أقام المدعي بينة على ما ادعى قبلت بينته، وأمر المدعى عليه بتسليم
الدين والعين جميعاً؛ لأنه أثبت بالحجة موت فلان ووراثة نصيبه، وكون المدعي
به متروك فلان ومتروك الإنسان يصرف إلى ورثته، وينبغي أن يقيم البينة أولاً
على الموت والنسب حتى يعتبر، ثم يقيم البينة على المال، ولو أقام البينة
على الموت والنسب والمال فهو على الخلاف على ما ذكرنا في فصل الوكالة.
إذا أقام مدعي الوكالة البينة على الوكالة والمال جملة، وإن لم يكن للمدعي
بينة
(8/216)
وأراد أن يحلف المدعى عليه على ما ادعى ذكر
الخصاف أنه روي عن بعض أصحابنا أنه لا يحلف، قال الخصاف: وفيها قول آخر أنه
يحلف ولم يبين القائل.
بعض مشايخنا قالوا: الأول: قول أبي حنيفة، والثاني: قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله بناء على مسألة «الجامع الكبير» : على ما مر فإن قيام العيب
بالمشترى للحال شرط سماع الخصومة كما أن موت المورث يعد، وإلى هذا مال شمس
الأئمة السرخسي، فهو جعل مسألة الوارث نظير مسألة الوكيل على ما مر.
وقال الشيخ الإمام علي الرازي والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمهما
الله: القول الثاني أنه يحلف قول الكل أيضاً قالا: وهو الصحيح، فهما جعلا
هذه المسألة نظير مسألة الوكالة أيضاً، وذكر في موضع آخر أن أبا حنيفة رحمه
الله كان يقول أولاً لا يستحلف ثم رجع وقال يستحلف، فعلى ما ذكر شمس الأئمة
السرخسي رحمه الله أن مسألة الوكالة على الخلاف يحتاج إلى الفرق لأبي حنيفة
بين مسألة الوكالة وبين مسألة الوراثة على قوله الآخر، على ما ذكره في بعض
المواضع.
والفرق أن الوارث يدعي العين والدين فينتصب خصماً في الاستحلاف؛ لأن
الاستحلاف في دعوى الإنسان لنفسه حقه، والإنسان ينتصب خصماً في حقوقه، وأما
في مسألة الوكالة فقد أقر بالحق للغائب فلا ينتصب خصماً إلا بعد إثبات
الوكالة والنيابة عنه، ولم يثبت عنه بعد فلا يكون له حق الاستحلاف، ثم إذا
استحلف يستحلف على حاصل الدعوى، وإنه جواب ظاهر الرواية على ما ذكرنا.
وإن أقام المدعي بينة على النسب والموت يثبت كون المدعي خصماً له فيحلف
بدعواه كما في سائر الدعاوى، وإن أقام البينة على المال دون الموت والنسب
لا تقبل بينته، لأنه إنما ينتصب خصماً في المال بواسطة النسب دون الموت
والمال لا تقبل بينته لما قلنا، ثم إذا أقر بدعوى المدعي كله وأمر بتسليم
الدين والعين إلى المدعي لا يكون هذا على الأب حتى لو ظهر الابن حياً كان
له أن يبيع المدعى عليه بحقه، والمدعى عليه يبيع الابن، وإنما كان كذلك؛
لأن بالإرث لا يتجدد الملك بل يتقرر الملك الذي كان للمورث؛ لأن الوارث
يخلف المورث في ملاكه، فكان هذا تقرير ملك الموت، ولا يتصور أن يكون قضاء
عليه، ولو أقر بالوراثة والموت وأنكر المال يحلف على المال؛ لأنه يثبت كونه
خصماً بإقراره بالموت والوراثة، فالدعوى صدر من الخصم فيحلف كما في سائر
الدعاوى.
ولو أقر بالمال وأنكر النسب والموت لا يحلف؛ لأنه إنما ينتصب خصماً بواسطة
ثبوت النسب والموت، ولم يثبت بعد، واليمين لا يتوجه إلا بعد دعوى صحيحة من
الخصم، وهذا الجواب قول أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكر شمس الأئمة السرخسي
أو على قول أبي حنيفة أو على ما ذكر في بعض المواضع.
أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي
رحمه الله. أو قول أبي حنيفة إجراءٌ على ما ذكره في بعض المواضع ينبغي أن
يحلف، ولكن يحلف على العلم؛ لأن هذا
(8/217)
تحليف لا على فعل نفسه، والتحليف لا، فعلى
فعل نفسه يكون على العلم.
المحيط البرهانى
قال: لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: إن أب هذا قد مات ولي عليه
ألف درهم دين، فإنه ينبغي للقاضي أن يسأل المدعى عليه أولاً أنه هل مات
أبوه، ولا يأمره بجواب دعوى المدعي أولاً، وهذا لأن الجواب إنما يتوجه على
الخصم، وإنما ينتصب الابن خصماً إذا مات الأب، فبعد ذلك المسألة على وجهين:
أما إن أقر الابن، فقال: نعم مات أبي أو أنكر موت الأب، فإن أقر وقال: نعم
مات أبي سأله القاضي عن دعوى الرجل على أبيه؛ لأنه صار خصماً والجواب يتوجه
على الخصم، فإن أقر له بالدين على أبيه استوفى الدين من نصيبه لإقراره على
نفسه بذلك.
وإن أنكر فأقام المدعي بينة على ذلك قبلت بينته وقضى بالدين ويستوفي الدين
من جميع التركة لا من نصيب هذا الوارث خاصة؛ وهذا لأن أحد الورثة ينتصب
خصماً عن جميع الورثة فيما يدعى على الميت، فصارت البينة القائمة على هذا
الوارث بمنزلة البينة على سائر الورثة، وعلى الميت لو كان حياً، فيثبت
الدين بهذه البينة في جميع التركة بخلاف الإقرار.
ثم إنما يقضي القاضي بالدين في تركة الميت بهذه البينة بعد ما يستحلف
المدعي على القبض والإبراء، وإن لم يدع الوارث ذلك؛ لأن القاضي نصب ناظراً
لكل من عجز عن النظر بنفسه وهذه الدعوى في الحقيقة على الميت وهو عاجز عن
النظر لنفسه، فينظر له القاضي باستحلاف المدعي بخلاف ما إذا وقع الدعوى على
الحي؛ لأن الحي قادر على الدعوى فلا يستحلف بدون دعواه، بخلاف الميت. هكذا
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .
وذكر في «أدب القاضي» : من «أجناس الناطفي» في الجنس الرابع أن من ادعى
ديناً في تركة الميت، وأقام بينة على ذلك، فالقاضي لا يحلفه على الاستيفاء
عند أبي حنيفة ما لم يدع ذلك أحد الورثة وعلى (103ب4) قول أبي يوسف ومحمد
يحلف فيما ذكر الخصاف قولهما، وهو اختيار الخصاف، ثم إذا أراد استحلافه
يستحلفه بالله ما قبضت ولا شيئاً منه، ولا ارتهنت به منه رهناً ولا شيء
منه، ولا احتلت به على أحد ولا لشيء منه، ولا يعلم رسولاً أو وكيلاً لك قبض
هذا المال ولا شيء منه، وإن ذكر مع ذلك ولا وصل إليك بوجه من الوجوه كان
أحوط.
وروى الحسن بن زياد رحمه الله أنه قال: يستحلف بالله أنك تأخذه بحق؛ لأن في
الأسباب المسقطة للدين كثيرة فلا يمكن حصرها، فيحلف على هذا الوجه، وإن لم
يكن للمدعي بينة، وأراد استحلاف هذا الوارث، يستحلف على العلم عند علمائنا
رحمهم الله بالله ما يعلم أن لهذا على أبيك هذا المال الذي ادعى وهو ألف
درهم ولا شيئاً منه، فإن حلف انتهى الأمر، وإن نكل يستوفي الدين من نصيبه،
فإن كان هذا الوارث المدعى عليه أقر بالدين على الأب وأنكر، فلما حلف نكل
حتى صار مقراً بالدين، إلا أنه قال: لم
(8/218)
يصل إلي شيء من تركة الأب، فإن صدقه المدعي
في ذلك فلا شيء له؛ وهذا لأن الدين كان في ذمة المورث وبالموت يتحول إلى
التركة فيوفى من تركته، فإذا لم يصل إلى هذا الابن شيء أو أخذناه ليوفي دين
الأب من مال نفسه، وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه.
وإن كذبه وقال: لا بل وصل إليه ألف درهم أو أكثر وأراد أن يحلفه، يحلفه على
الثبات بالله ما وصل إليك من مال أبيك هذا الألف ولا شيء منه، لأنه يحلف
على فعل نفسه والتحليف على فعل نفسه يكون على الثبات لما مر.
فإن نكل لزمه القضاء؛ لأنه ثبت وصول التركة إليه، والدين في التركة يقدم
على الميراث، وإن حلف لا شيء عليه، هذا إذا حلف المدعي على الدين أولاً ثم
حلفه على الوصول، فلو أن المدعي من الابتداء حين أراد أن يحلف هذا الوارث
على الدين قال له الوارث: ليس لك علي يمين، فإنه لم يصل إلي من تركة الأب
شيء، وكذبه المدعي وقال: لا بل وصل إليك من تركة الأب كذا وكذا أو صدقه في
ذلك، إلا أنه مع هذا أراد استحلافه على الدين، فالقاضي لا يلتفت إلى قول
الوارث ويحلفه على الدين؛ لأن الحاجة إلى إثبات الدين وفي إثبات الدين لا
عبرة لوصول شيء من التركة إلى يده، وإنما العبرة الفائدة وفي إثبات الدين
فائدة، فإنه إذا ثبت الدين بأن نكل عن اليمين حتى صار مقراً به لو ظهر
للميت وديعة أو بضاعة عند إنسان يستوفي الدين منها من غير أن يحتاج إلى
الإثبات، فكان فيه فائدة، فيحلف لهذه الفائدة وإن كانت منتظرة.
ألا ترى أن هذا العبد المحجور يستحلف وإنما يستحلف لاستيفاء الدين بعد
العتق، وإنه فائدة منتظرة كذا هاهنا، وإن أنكر الابن الدين ووصول شيء من
التركة إلى يده وكذبه المدعي في ذلك كله، وأراد استحلافه على الدين والوصول
جميعاً لم يذكر الخصاف رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .
وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يحلف يميناً واحدة بالله ما وصل إليك
ألف درهم ولا شيء منه من تركة أبيك، ولا يعلم أن لهذا الرجل على أبيك دين
من الوجه الذي ادعى، فقد جمع بين اليمين على الثبات وبين اليمين على العلم
أنه جائز كما في حديث القسامة وعامتهم على أنه يحلف مرتين، لأنه إنما يجوز
الجمع بين اليمينين إذا كانا من جنس واحد، وإن كانا من جنسين لكن سببهما
واحد، ولا مجانسة بين اليمين على العلم وبين اليمين على الثبات، والسبب
مختلف ها هنا أيضاً؛ لأن سبب الوجوب المداينة السابقة وسبب الاستيفاء من
الوارث وصول التركة إليه، فلا يجمع بينهما بل يحلف مرتين مرة على الوصول
على الثبات ومرة على الدين على العلم، بخلاف القسامة؛ لأن السبب هناك متحد
وهو القتل هذا الذي ذكرنا، إذا أقر بموت الأب.
وأما إذا أنكر موت الأب ووصول التركة إليه وأراد الغريم استحلافه وقع هذه
المسألة في بعض نسخ هذا الكتاب، وأجاب فيها أنه يحلف على الوصول والموت
يميناً واحداً، لكن على الموت على العلم وعلى الوصول على الثبات بالله ما
تعلم أن أباك مات، ولا وصل إليك شيء من ميراثه، وبه أخذ أولئك المشايخ
وعامة المشايخ على أنه
(8/219)
يحلف مرتين مرة على الموت على العلم، ومرة
على الوصول على الثبات، فإن نكل حتى ثبت الموت وثبت وصول الميراث إليه،
يحلف على الدين على علمه لما مر.
فلو أنه أقر بالدين والموت، وإن هذه الألف تركة إلا أنه أحضر جماعة وقال:
هؤلاء إخوتي، فهذه المسألة على وجوه: إما إن بدأ وقال: هذه الألف تركة ثم
قال: هؤلاء إخوتي، وفي هذا الوجه يؤمر بتسليم الألف إلى رب الدين؛ لأنه
بإقراره أولاً صار الألف مستحقاً لرب الدين؛ لأن الدين متعلق بالتركة بعد
الموت، فلا يصح إقراره بالإخوة بعد ذلك فيما يرجع إلى إبطال الاستحقاق
الثابت له، وإن بدأ بالإقرار بالإخوة ثم بالتركة والدين، فقد أقر لهم
بالشركة معه في التركة فصارت التركة مقسومة بينهم بالحصص، فإذا أقر بالدين
والتركة بعد ذلك، فإنما يعمل إقراره في حقه فيسبق في الدين من نصيبه خاصة.
قال: ولو أن رجلاً مات فادعى وارثه على رجل أنه كان لأبيه عليه ألف درهم
دين وصار ميراثاً له، وأقر المدعى عليه بالموت وأنكر الدين، فأراد الوارث
أن يحلفه، حلفه بالله ما كان لأبي عليك ألف درهم ولا شيء منه من الوجه الذي
ادعى، وعلى قول شريح رضي الله عنه يحلف الوارث أولاً على الثبات بالله ما
قبض الأب منه شيئاً، هو يقول: بأن الدين إنما ينتقل إلى الابن إذا لم يقبضه
الأب منه، أما إذا قبض فلا.
وإنا نقول: إذا ثبت الدين للأب على المديون يبقى إلى أن يوجد المسقط والقبض
مسقط، وأنه ليس بمعلوم فيبقى الدين يقبضه الأصل، ألا ترى أن في حالة الحياة
الأب يحلف المدعى عليه على الدين، ولا يحلف الأب بالله ما قبض المال وطريقه
ما قلنا، وكذلك إذا أقام الابن بينة على الدين لا يحلف الابن على قبض الأب
عندنا، خلافاً لشريح على ما بينا، وإن أقر المديون بالدين وادعى أن الأب قد
قبض منه الدين أو عرض المديون، فقال: قد يكون على الإنسان دين ثم لا يقضي
باعتبار أن صاحب الدين يقبض ذلك، وأنا لا أحب أن أقر بشيء مخافة أن يلزمني،
وأراد استحلافه فيحلف الابن حينئذ على العلم بالله ما يعلم أن أباه قد قبض
هذا المال، أما إذا ادعى المدعى عليه القبض فلأنه انقلب مدعياً والمدعي
انقلب مدعى عليه، وأما إذا عرض المدعى عليه، فلأنه طلب من القاضي أن ينظر
له، فينظر له.
قال في «الزيادات» : رجل مات، فجاء رجل وادعى أنه وارث الميت، لا وارث له
غيره، وإن قاضي بلد كذا قضى بكونه وارث الميت، وجاء شاهدين شهدا أن قاضي
بلد كذا أشهدنا على قضائه أن هذا وارث فلان الميت لا وارث له غيره، وقال
الشهود: لا ندري بأي سبب قضى، فإن القاضي الثاني يجعله وارثاً؛ وهذا لأنه
ثبت بالبينة قضاء القاضي الأول بوراثته، وقضاء القاضي إذا ثبت يحمل على
الصحة وعلى موافقة الشرع، وذلك ها هنا في أن يحمل على أنه استقضى في سبب
وراثته على الميت، ولم يقدم على القضاء إلا بعدما علم بالحجة سبب وراثته،
وينبغي للقاضي الثاني أن يسأل المدعي ما نسبه عن الميت، وهذا السؤال ليس
بشرط لتنفيذ القضاء حتى لو لم يبين المدعي شيئاً نفذ
(8/220)
القاضي الثاني قضاء الأول حملاً له على
الحق، ولكن هذا السؤال من القاضي الثاني على سبيل الاحتياط ليعلم أنه بأي
سبب يستحق، حتى لو ظهر وارث آخر يعرف القاضي الثاني أن أيهما أولى
بالميراث؛ ولأنه ربما يبين سبباً لا يستحق الميراث بأن جيرانه مولى الميت
من أسفل، فيبطل قضاء الأول؛ لأن هذا خطأ عندنا وقد ظهر فيما هو حجة عليه
وهو إقراره، فإن أخبر المدعي بسبب يكون وارثاً على وجه من الوجوه أمضى قضاء
الأول بالميراث ودفع الميراث إليه، ولكن لا يقضي بالسبب الذي ادعى؛ لأن
الموجود في حق السبب ليس إلا مجرد الدعوى إذا لم يعرف قضاء القاضي بهذا
السبب.
أما القضاء بأصل الوراثة ثابت بشهادة الشاهدين، فلهذا قضى القاضي الثاني
بالميراث دون السبب، فإن جاء رجل بعد ذلك وادعى أنه أب الميت لا وارث له
غيره، وأقام على ذلك بينة، ينظر إن كان الأول بين سبباً لا يرث مع الأب
بذلك السبب، جعل القاضي الثاني الميراث كله للثاني؛ لأن أبوة الثاني ثبت
عند هذا القاضي بالبينة، والأول لما بين سبباً لا يرث مع الأب بذلك السبب
صار مقراً أنه (104أ4) لا حق له في الميراث، وإقرار كل مقر حجة في حقه.
وإن كان الأول بين سبباً يرث مع الأب بذلك، فإن بين أنه ابن الميت جعل
القاضي للأب سدس الميراث؛ لأن القاضي الأول قضى للأول بكل الميراث، فإنما
ينقض قضاؤه بالقدر المتيقن، والقدر المتيقن ها هنا السدس، فإن احتمال كون
الأول ابناً كما ذكر قائم ومع الاحتمال ابنه تيقن بالخطأ، وإن ذكر الأول
أنه أب الميت، وأقام الثاني أنه ابن الميت يعطى الثاني خمسة الأسداس؛ لأنه
بين خطأ القاضي الأول بهذا القدر ينتقض قضاؤه، والسدس سالم للأول، وإن ذكر
أنه أب الميت، وادعى الثاني أنه أب الميت وأقام على ذلك بينة قضى القاضي
بأبوته جعل الميراث له؛ لأن أبوة الثاني ثبت بالقضاء بالبينة وأبوة الأب لم
يثبت إلا بإقراره، وما يثبت بالبينة المفردة أقوى، فكيف إذا اتصل بها
القضاء، فإن قيل: ينبغي أن يقضي القاضي بالميراث بينهما؛ لأن القاضي الأول
قضى بكل الميراث الأول، فلا ينقض قضاؤه إلا بقدر المتيقن، والتيقن في مقدار
النصف، فإن احتمال كون الأول أباً قائم إذ يجوز أن يكون للشخص الواحد
أبوان.
ألا ترى أن الجارية المشتركة بين رجلين إذا جاءت بولد فادعياه كان الولد
لهما وهما أبوه، قلنا لا يجوز أن يكون للشخص الواحد أبوان؛ لأن الأبوة بسبب
الإلحاق من الماء، ولا يتصور إلا بخلاف من ماء الذكرين، ألا ترى أن في
مسألة الجارية المشتركة لو مات يرثانه ميراث أب واحد، إلا أن أحكام الأبوة
تثبت بينهما عند الدعوى لاستوائهما في الحجة وعدم الأولوية، وفي مسألتنا لا
مساواة؛ لأن أبوة الأول تثبت بالدعوى، وأبوة الثاني تثبت بالبينة، ولا
مساواة بين الدعوى والبينة حتى لو تحققت المساواة يقضى بالميراث بينهما على
ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
واستوضح هذا بما لو جاء رجل وأقام بينة أنه أب هذا الميت، وقضى القاضي
(8/221)
بأبوته، وجعل الميراث له، ثم جاء آخر وأقام
بينة أنه أب الميت، فالقاضي لا يقبل بينته ولا يدخل مع الأول، ولو جاز أن
يكون واحد منهما أباً، لدخل الثاني مع الأول كما في الأبناء مع البنات.
قال في «الكتاب» : ولو أن القاضي الثاني حين قضى بالميراث الثاني قال
الأول: أنا أقيم بينة عندك أني أب الميت لا يلتفت إليه، لأن تقدم الحكم
للثاني بالأبوة يمنع دعوة الأول الأبوة والقضاء له بها، وإن أقام الأول
بينة على أن القاضي الأول قضى بأبوته، جعل القاضي الثاني الميراث للأول إذ
تبين أنه تقدم الحكم للأول بالأبوة وأنه يمنع الحكم للثاني بالأبوة.
ولو أن القاضي لم يقض بأبوة الثاني حتى أقام الأول بينة على أبوته قضى
القاضي بالميراث بينهما لاستوائهما في الدعوى والحجة.
والجواب في ولاء العتق: كالجواب في الأبوة، بأن ادعى الأول أنه متولي الميت
أعتقه، وأن القاضي الثاني إنما قضى له بالميراث لذلك، وادعى الثاني أنه
متولي الميت أعتقه؛ لأنه لا يتصور أن يكون الشخص معتقاً من الاثنين مَنَّ
كل واحد منهما عليه؟ فصار الولاء كالنسب من هذا الوجه، إن سبق الحكم
لأحدهما بالميراث بسبب الولاء فهو أولى، وإن اجتمعا قضى بينهما على نحو ما
ذكرنا وإن زعم الأول أنه ابن الميت في الميراث وإن سبق الحكم لأحدهما؛ لأن
سبق الحكم لأحدهما لا يدفع الثاني، لإمكان الجمع بخلاف فصل الأبوة، لأن
هناك الجمع غير ممكن على ما مر.s
وإن زعم الأول أنه ابن الميت فأقامت المرأة بينة أنها بنت الميت، فالميراث
بينهما أثلاثاً، وإن تقدم الحكم للأول لأن تقدم الحكم للأول؛ لا يدفع
الثاني لإمكان الجمع.
ولو ادعى الأول أنه ابن أو أب وأقام الآخر بينة، أنه أخو الميت لا شيء
للثاني؛ لأن الإخوة لا يرثون مع الابن والأب، ولو كان المقضي له امرأة زعمت
أنها زوجة الميت، ثم جاء رجل وأقام بينة أنه أخ الميت أخذ منها ما زاد على
الربع؛ لأنه كان وصار الحاصل أن القاضي الأول إذا قضى بوراثة الأول ولم
يبين سبب الوراثة، وأقام الآخر بينة عند القاضي الثاني على نسبه عن الميت،
سأل القاضي الثاني الأول عن نسبه، إن ذكر نسباً لا يرث مع الثاني فالميراث
كله للثاني، وإن ذكر نسباً لا يرث الثاني معه فلا شيء للثاني، وإن ذكر
نسباً يرث مع الثاني يجمع بينهما في الميراث.
قال: فإن كان المقضي له الأول معتوهاً أو صغيراً لا يعبر عن نفسه، فأقام
بعض من ذكرنا بينة على أنه وارثه وبين نسبه عن الميت، فإن كان الثاني ممن
يحتمل السقوط بحال نحو الأخ والعم جعله القاضي ساقطاً بالأول، وإن كان
الثاني لا يحتمل السقوط، فإن القاضي يجعل للأول أفضل الأشياء ويقضي للثاني
بأقل ما يكون.
بيانه: فيما إذا كان الأول ذكراً يجعل ابن الميت حتى لو كان الثاني إنما
يعطى له السدس لكونه أقل، ولو كان الثاني زوجة الميت يعطى لها الثمن لكونه
أقل؛ لأن الأول
(8/222)
يرجح تقدم الحكم له، وإبطال القضاء لا يجوز
إلا في القدر المتيقن، والتيقن في الأقل.
قال: ولو أن امرأة أقامت بينة أن قاضي بلد كذا، قضى بأنها وارث هذا الميت،
وجعل كل الميراث لها، نفذ القاضي الثاني ذلك كما ينفذ للرجل؛ لأن المرأة قد
تستحق جميع الميراث، ألا ترى أن مولاة المعتق تستحق جميع الإرث لمولى
المعتق، وكذلك البنت تستحق جميع الميراث، النصف بالفرض، والنصف بالرد إذا
لم يكن ثمة صاحب فرض أو عصبة.
فلعل القاضي الأول إنما قضى لها بجميع الميراث لهذا، وهو الظاهر، فلهذا نفذ
القاضي الثاني ذلك، فإن أقام بعد ذلك رجل بينة أنه ابن الميت أو أبوه، أو
أقامت امرأة بينة أنها زوجته، سأل القاضي الثاني المرأة الأولى عن سبب
القضاء لها، فإن زعمت أنها بنت الميت عامل معها بزعمها، وإن كانت المرأة
الأولى صغيرة لا تعبر عن نفسها، أو كانت معتوهة جعل القاضي لها أكثر ما
يكون لها، وجعل لهؤلاء أقل ما يكون لهم مع المرأة الأولى حتى لا ينتقض
القضاء الأول إلا في القدر المتيقن.
وإذا ادعى رجل على ورثة ميت ديناً على الميت وقال: إن أب هؤلاء قد مات ولي
عليه كذا وكذا، وقد أقر بذلك في حياته طائعاً، ومات قبل أن يوفي شيئاً من
ذلك، وخلف من التركة في يد هؤلاء ما بقي بالدين المدعى به وزيادة ولم يبين
أعيان التركة، فالقاضي هل يسمع منه هذه الدعوى؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا
في «الأصل» وفي شيء من الكتب.
وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم شرطوا بيان أعيان التركة شيئاً، فشيء لسماع
القاضي دعواه. والحاكم الإمام أحمد السمرقندي ذكر في شروطه في سجل إثبات
الدين: أن المدعي إن أجمل التركة كان كافياً، وإن بين وفسر كان أحوط،
والفقيه أبو الليث رحمه الله لم يشترط بيان أعيان التركة واكتفى بذكر
الوفاء بالدين.
والخصاف رحمه الله ذكر في «أدب القاضي» في باب اليمين على العلم: مثل ما
ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله، والمختار في الفتوى هذا أن لا يشترط بيان
أعيان التركة لإثبات الدين والقضاء به، ولكن إنما يأمر القاضي الوارث بقضاء
الدين إذا ثبت وصول التركة إليهم، وعند إنكارهم وصول التركة إليهم، لا يمكن
للمدعي إثباته إلا بعد بيان أعيان التركة في أيديهم بما يحصل به الإعلام.
وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: رجل ادعى داراً في يد رجل
وقال في دعواه: هذه الدار كانت لأبي فلان، مات وتركها ميراثاً بيني وبين
أختي فلانة لا وارث له غيرنا، وترك مع هذه الدار مالاً ودواباً فقسمنا
الميراث ووقعت هذه الدار في نصيبي بالقسمة، واليوم جميع الدار ملكي بهذا
السبب، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فدعواه صحيحة؛ لأنه ادعى جميع
الدار لنفسه بسبب صحيح ادعى ثلثاها
(8/223)
بسبب الميراث وادعى الثلث بسبب القسمة، وكل
ذلك سبب صحيح للملك، ولكن لا بد وأن يقول أخذت أختي نصيبها من تلك الأموال
حتى يصح منه مطالبة المدعى عليه بتسليم كل الدار إليه.
ولو قال في دعواه: مات أبي وتركها ميراثاً لي ولأختي ثم أقرت أختي بجميعها
لي وصدقتها في ذلك، حكي عن شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله أن دعواه
صحيحة والصحيح من الجواب أن القاضي لا يسمع دعواه في الثلث؛ لأن هذه دعوى
الملك في الثلث بسبب الإقرار، ودعوى الملك بسبب الإقرار غير صحيح، عليه
فتوى عامة المشايخ، والمسألة في الأقضية: من له الدين المؤجل إذا أراد
إثباته فله ذلك، وإن لم يكن له حق المطالبة بالأداء في الحال، إذا أرادت
إثبات بقية مهرها على الزوج فلها ذلك، وإن لم يكن لها حق المطالبة به في
الحال؛ وهذا لأن إثبات الحق لا يعتمد المطالبة لا محالة، ألا ترى أن إثبات
الدين على الميت من وارث لم يصل إليه شيء من التركة، وإن لم يكن لرب الدين
حق المطالبة من هذا الوارث (104ب4) إذا لم يصل إليه شيء من تركة الميت
وإنما يعتمد الفائدة، وفي إثبات الدين المؤجل في الحال فائدة، وكذلك في
إثبات بقية مهرها في الحال فائدة، فإن شهوده عسى يغيبون ولا يقدر على
إثباته عند محل الأجل، سأل القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزحندي رحمه الله:
عمن ادعى على آخر عيناً في يده، وقال: هذا كان ملك أبي مات وتركها ميراثاً
لي ولفلان، وسمى عدد الورثة ولم يبين حصة نفسه، قال: صح منه هذه الدعوى،
وإذا أقام البينة على دعواه، فالقاضي يسمع بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى
المطالبة بالتسليم لا بد وأن يبين حصته؛ لأنه لا يملك المطالبة بالتسليم
إلا بقدر حصته، فيبين حصته عند ذلك، ولو كان بين حصته ولم يبين عدد الورثة،
بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي وحصتي منه كذا،
وطالبه تسليم ذلك قال: لا تصح منه هذه الدعوى، ولا بد من بيان عدد الورثة
لجواز أنه لو بين كان نصيبه أنقص.
قال في «الأقضية» : وإذا وقع الدعوى في دار في يدي رجل بسبب الميراث عن
الأب وللميت ورثة سوى هذا المدعي وطلب من القاضي أن يكتب له يعني محضر
الدعوى، فالقاضي يكتب: حضر فلان وأحضر معه فلان يصف المدعي والمدعى عليه،
ثم يكتب: وذكر فلان الذي حضر أن أباه فلان، يذكر اسم أبيه وينسبه إلى أبيه
وجده؛ لأنه يريد إثبات الملك للأب ليمكنه النقل إلى نفسه بالإرث، فلا بد
وأن يصير الأب معلوماً ليمكن إثبات الملك له، والنقل منه بالدعوى وأنه غائب
والغائب لا يعلم إلا بذكر الاسم والنسب، ثم يكتب: أنه مات وخلف من الورثة
ابناً له وهو هذا الذي حضر، وزوجة له وهي فلانة بنت فلان بن فلان وبنت له
وهي فلانة لا وارث له سواه؛ وهذا لأنه يريد إثبات الوراثة لنفسه فلا بد من
بيان سببها لنفسه، والبنوة سبب، ولا بد من بيان عدد الورثة، ليعلم نصيبه
فيقع القضاء بما هو معلوم، ثم يكتب وترك من ماله الدار التي في بلدة كذا في
محلة كذا في سكة كذا، أحد حدودها كذا والثاني والثالث والرابع كذا، ثم يذكر
في الحد لزيق دار فلان، وإن شاء يذكر دار فلان، وقد مر هذا في فصل جلوس
(8/224)
القاضي، بعد ذلك ينظر إن كان في ذكر الحد
ذكر إلى دار فلان لا يكتب بحدودها؛ لأنه بين من جوز ذكر دار فلان في الحد
اختلافاً أنه إذا كتب بحدودها هل تجوز الدعوى؟ وهل يصح المكتوب؟ بعضهم
قالوا: لا يصح؛ لأن دار فلان تدخل في الدعوى، وقال علماؤنا: يصح ولا تدخل
دار فلان في الدعوى؛ لأن الناس في عرفهم وعاداتهم لا يريدون به أن يكون دار
فلان داخلاً في الدعوى، واعتبار العرف واجب وإن كان بين العلماء اختلاف على
نحو ما قلنا.
والكتابة للتوثيق يجب أن يكون على أحوط الوجوه ليقع الأمن عن إبطاله، وإن
كان في ذكر الحد لزيق دار فلان يكتب بحدودها إن شاء ويجوز بلا خلاف؛ لأنه
لا يؤدي إلى أن تدخل دار فلان في الدعوى، ثم إذا كتب في الحد الزيق لا فرق
بين أكثر جماعة من أهل الشروط أن يكتب لزيق دار فلان، وبين أن يكتب لزيق
دار تنسب إلى فلان، كل ذلك جائز وقال بعضهم: ينبغي أن يكتب لزيق دار تنسب
إلى فلان حتى أنها إذا لم تكن مملوكة لفلان لا يكون كاذباً فيه، وعامة
مشايخنا جوزوا ذلك، لأن الإضافة بحكم الظاهر جائزة.
ألا ترى أن في الشهادة جوزنا الإضافة بالظاهر، وأكثر أحكام الشرع مبنية على
الظواهر، ثم يكتب بحدودها كلها وحقوقها؛ لأن بدون ذكر الحدود والحقوق لا
يدخل المسيل والطريق، فلا يفيده استحقاق الدار؛ لأنها تتعطل عليه، ولا
يمكنه الانتفاع بها، ولا ينبغي أن يكتب وطريقها ومسيل مائها؛ لأنه لو كان
باب الدار على طريق العامة يصير مدعياً ملكية ذلك الموضع لنفسه، وأنه لا
يجوز، ثم يكتب ومرافقها التي هي لها من حقوقها، لأن الخلاف ظاهر في تفسير
المرافق، فعلي قول أبي يوسف المرافق غير الحقوق وإنها عبارة عن منافع
الدار، وفي ظاهر الرواية المرافق عبارة عن الحقوق، فكان الأحوط أن يكتب من
حقوقها ليكون ذكراً للحقوق بالاتفاق، ثم يكتب وكل قليل وكثير هو فيها
ومنها، هكذا ذكر محمد رحمه الله: في كتاب الشفعة، وذكر في موضع آخر: وكل
قليل وكثير هو فيها ومنها، وهكذا ذكر في كتاب الوقف.
قال أبو زيد الشروطي رحمه الله: لا ينبغي أن يكتب أو لها بها للتشكيك، فكان
المراد به أحد المذكورين، وباعتباره يصير المدعى به مجهولاً ولكن يقول كلمة
أو يراد بها في مثل هذا الموضع الجمع لا التشكيك عرفاً، ومعناه: أن جميع
الحقوق داخلة في الدعوى، قلت أو كثر يقال: وهبت لك ما في كيسي درهماً كان
أو ديناراً، ثم يكتب في آخره من حقوقها؛ لأنه لو لم يذكر ذلك، ففي ظاهر
الرواية إن كان هذا منصرفاً إلى ما كان من موانع الدار فعند أبي يوسف رحمه
الله: يدخل فيه كل ما في الدار، مما يحتمل التملك حتى أن عند أبي يوسف:
يدخل فيه جواري المدعى عليه اللاتي في الدار ومتاعه الموضوع فيها من حقوقها
لينتفي به ما توهمه أبو يوسف، ثم يكتب: وكل حق لها داخل فيها وخارج منها،
هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله، وينبغي أن يكتب أرضها وبنائها سفلها وعلوها
ولا يكتب سفله وعلوه، ثم العلو والسفل يدخلان في دعوى الدار من غير ذلك،
(8/225)
وفي دعوى المنزل لا يدخل العلو إلا بالذكر
أو يذكر الحقوق، وفي دعوى البيت لا يدخل بذكر الحقوق، ويشترط ذكره، والكشف
الشارع يدخل في دعوى الدار من غير ذلك، والظلة وهي الساباط الذي على الطريق
أحد جانبيه على هذه الدار، عند أبي حنيفة: لا يدخل من غير ذكر الحقوق، وعند
أبي يوسف ومحمد: يدخل إذا كان مفتحها إلى الدار، والمربط والمطبخ يدخلان في
دعوى الدار إذا ذكر الحقوق والمرافق، ثم يكتب ميزاباً عنه لورثته هؤلاء
المسمون على فرائض الله تعالى كذا بينهما نصيب المرأة كذا وكذا الابن كذا
ونصيب البنت كذا؛ وهذا لأنه يريد إثبات الاستحقاق لنفسه بالإرث ولا يمكنه
ذلك إلا من الميراث عند أبي حنيفة ومحمد على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء
الله تعالى.
وهو أن يقول تركها ميراثاً لورثته فلهذا يكتب ميراثاً عنه لورثته ثم يسمي
الفريضة وأنصباء الورثة من ذلك، ليعلم قدر ما نصيب المدعي من ذلك، فيكون
المدعي به معلوماً، ثم بعد ذلك لا يخلو إما أن يدعي لنفسه نصيبه من الدار،
أو يدعي جميع الدار بحكم القسمة مع الورثة، فإن ادعى نصيبه من الدار يكفيه
هذا المقدار الذي ذكر في الكتاب، وإن ادعى جميع الدار يكتب، وترك أيضاً مع
الدار سواها من العقار والعروض والأراضي والنقود، وقد جرت القسمة الصحيحة
بين هؤلاء الورثة بالتراضي، فوقعت هذه الدار في نصيب هذا الابن المدعي
وأنها اليوم ملك هذا الابن المدعي بهذين السهمين، ويذكر أيضاً: قبض باقي
الورثة حصصهم على ما مر قبل هذا، وأنها في يدي فلان بن فلان هذا المدعى
عليه الذي أحضره بغير حق وأنه يمنع جميع ذلك منه، إن كان يدعي جميعها وإن
كان يدعي نصيبه يذكر: وأنه يمنع نصيبه بغير حق، فواجب عليه قصر يده عما
ادعى، وتسليمه إلى هذا المدعي.
وإنما شرطنا أن يقول في الدعوى وأنها في يد هذا المدعى عليه الذي أحضره؛
لأن الذي أحضره إنما يكون خصماً باعتبار يده، فلا بد من أن يثبت يده عليها،
حتى ينتصب خصماً، فسمع القاضي الدعوى عليه، وإن شئت كتبت من وجه آخر.
فكتبت: حضر وأحضر فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه: أن جميع
الدار التي في محلة كذا في سكة كذا حدودها كذا بحدودها وحقوقها، أرضها،
وبنائها، سفلها وعلوها، وكل حق هو لها داخل فيها، وكل حق هو لها خارج منها،
كانت ملكاً لفلان ابن فلان والد هذا المدعي وحقه وملكه إلى أن توفي، وخلف
من الورثة أبناء له هذا المدعي وورثة أخرى من البنين فلان وفلان ومن
البنات: فلانة وفلانة لا وارث له سواهم، وصارت هذه الدار المحدودة الموصوفة
فيه ميراثاً عنه لورثته هؤلاء المسمون فيه، على فرائض الله تعالى على كذا
سهماً.
ثم يتم كتاب الدعوى على نحو ما بيننا، ثم إذا صح الدعوى سأل القاضي المدعى
عليه عن دعواه، فإن أجابه بالإقرار أثبت إقراره في محضر الدعوى بلفظه،
وألزمه الخروج عن دعواه، فإن أجابه بالإنكار لجميع ما ادعى، سأل المدعي
البينة، فإن زعم المدعي أن
(8/226)
له بينة أمره أن يحضرهم مجلس القاضي، ثم
على رسم القضاة اليوم في ديارنا يكتب أسامي الشهود وأنسابهم وحلاهم
ومساكنهم وما يعرفون به.
فيكتب: وأحضر من الشهود رجلاً ذكر أنه فلان وبحليته ويستقصي في تعريفه،
وهذا إذا كان لا يعرفه القاضي. وإن كان يعرفه يكتب فأحضر من الشهود فلان بن
فلان ينسبه إلى (105أ4) أبيه وجده، ويستغني عن التحلية ويجعل بين كل سهم
شاهدين، فرجة من البياض يمكنه كتابة لفظة الشهادة التي سمعها منه فيها، ثم
إن كان الشهود ممن لا يقدرون على أداء الشهادة عن ظهر القلب يحضرهم، أو
لهيبته مجلس القضاء يكتب الكاتب لفظة الشهادة على موافقة الدعوى كما ذكره
الشاهد للكاتب في بياض.
وإن كانوا ممن لا يعرفهم حضر ولا يهيبه مجلس القضاء، فالقاضي يتولى كتابة
الشهود في تلك الفرصة، ويسأل شهود المدعي واحداً بعد واحد عن شهادته بحضرة
المدعى عليه؛ لأنه يحتاج إلى تصحيح شهادته، والإشارة إلى المدعى عليه فلا
بد من حضرة المدعي ليمكنه الإشارة إليه، ثم إذا شهد شهود المدعي، فالقاضي
يسألهم هل كانوا يعرفون فلاناً والد المدعي؛ لأن المدعي يحتاج إلى إثبات
ثلاثة أشياء، موت المورث ووراثته منه، وانتقال الدار إليه منه بالإرث،
وإثبات الملك للمورث فيها يوم الموت.
وإنما تصح الشهادة على الموت ممن يعرف الميت، وكذلك الشهادة على وراثة
المدعي من الميت بالإرث، إنما تصح ممن يعرف الميت، فأما من لا يعرف كيف
يشهد على ذلك كله؟ فيسأله عن والد المدعي لهذا، فإن قالوا نعرفه: سألهم عن
الموت، فإن شهدوا بذلك كتب فشهدوا أن فلان بن فلان الفلاني المعروف بكذا من
التجارة من الصباغة توفي، وكأنه يعرفونه معرفة قديمة باسمه ونسبه، وإنهم
يشهدون عن معرفة قديمة ثم سأل عن وارثه، فإن شهدوا بذلك كتب وترك من البنين
فلاناً الذي حضر وهو هذا المدعي وفلان وفلان، ومن البنات فلانة وفلانة،
وامرأته فلانة بنت فلان بن فلان بن فلان، وهذا إذا كانوا يعرفون جميع
الورثة، فأما إذا كانوا يعرفون بعض الورثة كتب شهادتهم عمن يعرفون من
الورثة، ثم يكتب لا يعرفون له وارثاً غير هؤلاء، ويكون وارثه من سوى المدعي
الذي أقر له المدعي بالوراثة ثابتاً بإقرار المدعي؛ لأنه صار وارثاً
بالبينة، وإقرار الوارث بورثة أخر صحيح في حقه، فإذا شهدوا بذلك سألهم هل
تعرفون الدار التي ادعاها أنها كانت لوالده؟ فإن ذكروا معرفتها وشهدوا أنها
كانت لوالده إلى أن مات وتركها ميراثاً لورثته هؤلاء، وأتوا بالشهادة على
وجهها كتب ذلك على ما شهدوا به وأنها اليوم في يد المدعى عليه، ولا بد
لتصحيح الشهادة من حر الميراث عند أبي حنيفة ومحمد.
وكذلك لا بد لتصحيح الشهادة على ملكية الدار أن يذكر الشهود في شهادتهم
أنها في يد المدعى عليه، والإقرار لا يكفي، حجة لإثبات يده، حتى أن المدعي
والمدعى عليه إذا تصادقا أن الدار المدعى به في يد المدعى عليه لا تقبل
البينة على ملكية الدار إلا
(8/227)
بعد شهادة الشهود على يد المدعى عليه، بأن
شهدوا أنها في يده اليوم، هكذا ذكر الخصاف بخلاف المنقول.
فإنه إذا أقر المدعى عليه أنه في يده يكفي؛ لأن في المنقول لا يخلو إما أن
يكون العين قائماً أو مستهلكاً في يد المدعى عليه، فإن كان قائماً فلا بد
من الإحضار لتصحيح الدعوى والشهادة، وعند الإحضار يعرف القاضي معاينة أنه
في يد المدعى عليه، وإن كان مستهلكاً وقال المدعى عليه: استهلكتها، أو قال:
هلك عندي، فقد أقر على نفسه بوجوب الضمان، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح،
فلا حاجة إلى الشهادة على أنه في يده.
فأما في العقار يمكن تهمة المواضعة، ووجه ذلك أن المدعي ربما تواضع رجلاً
ويحضره مجلس القضاء، ويدعي عليه العقار، فيقر بأن العقار في يده فيقضي
القاضي عليه، والعقار في يد غيره، فيكون قضاء على الغائب؛ لأن العقار لم
يكن في يد المدعى عليه حقيقة، فلمكان هذه التهمة لا يكتفي القاضي بمجرد
الإقرار حتى يشهد الشهود على ذلك، فتنتفي هذه الرتبة بخلاف المنقول على ما
ذكرنا، فإن شهدوا أنها في يد المدعى عليه، هل يسألهم القاضي عن سماع يشهدون
أنها في يده أو عن معاينه؟
حكي عن القاضي الإمام الخليل بن أحمد أن القاضي يسألهم وهو الصحيح؛ لأنهم
ربما سمعوا إقراره أنها في يده فظنوا أن ذلك يطلق لهم أداء الشهادة على يده
عليها وإنه موضع الاشتباه، فقد اشتبه على كثير من الفقهاء اشتراط إقامة
البينة لإثبات يده، وما لم يعاينوا يد المدعى عليه لا يحل لهم أداء الشهادة
على أنها في يده، فلهذا أوجب السؤال، فإن ذكروا أنهم يشهدون عن معاينة
قبلها وإلا لم يقبل.
قال القاضي هذا رحمه الله: وهكذا إذا شهدوا على البيع والتسليم، فالقاضي
يسألهم أيشهدون على التسليم بإقرار البائع أو عن معاينة؛ لأن الحكم فيها
يختلف فإنهم إذا شهدوا عن معاينة البيع والتسليم كانت شهادته بملك البائع
يوم البيع، وإن شهدوا على إقراره لا تكون شهادة على ملك البائع فوجب السؤال
إزالة لهذه الشبهة.
ولو أن الشهود لم يشهدوا أن هذه الدار في يد المدعى عليه، وقال المدعي: أنا
آتي بشاهدين آخرين يشهدان أنها في يد المدعى عليه، فإن القاضي يقبل منه؛
لأن الحاجة إلى القضاء بالملك للمدعي بسبب الوراثة باليد للمدعى عليه
لينتصب لإثبات دعواه، ولا فرق بين أن يثبت كلا الأمرين بشهادة فريق واحد،
وبين أن يثبت كل أمر بشهادة فريق واحد، هذا كما ذكروا أن الشهود إذا شهدوا
بالملك في المحدود وشهد فريق آخر على الحدود أنه يقبل الشهادتان جميعاً.
وكذلك إذا شهد شاهدان على الاسم والنسب ولم يعرفا الرجل بعينه، وشهد آخران
أن هذا الرجل هو المسمى بذلك الاسم والنسب أنه يقبل ذلك، ويجعل كما لو ثبت
الإقراران بشهادة فريق واحد كذلك ها هنا، ولو قالت الشهود: نشهد أن الدار
التي بالكوفة في بني فلان ويذكر حدودها الأربعة ملك المدعي بهذا السبب
ولكنا لا نعرف
(8/228)
حدودها ولا نقف عليها. وقال المدعي: أنا
آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار المدعى بها على هذه الحدود ويعرفون
لذلك، هل يقبل القاضي ذلك منه؟ فهذه ثلاث مسائل.
إحداها هذه، وجوابها أنه ذكر في بعض الروايات أنه لا يقبل، وذكر في عامة
الروايات أنه يقبل وهو الأصح، وجه ذلك أن تحمل الشهادة على الأملاك غالباً
يكون على هذا الوجه؛ لأن الشاهد إنما يتحمل الشهادة على الملك إذا علم بسبب
الملك، والبائع يقر بين يدي الشاهد ببيع الدار التي في محلة كذا في سكة
كذا، ويذكر الحدود الأربعة، والشهود في الغائب لا يعرفون جميع ذلك، لو
اعتبرنا علمهم بالحدود يحتاجون إلى الذهاب إلى موضع الدار، وعسى لا يذهبون
فيؤدي ذلك إلى الجرح، فإذا قالوا للقاضي: تحملنا هذه الشهادة بهذه الحدود
ولكنا لا نقف على الحدود وما رأيناها، وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين
يشهدان أن هذه الدار المدعى بها بهذه الحدود، فالقاضي يقبل ذلك منه، وإن لم
يأت المدعي بشهود آخرين يشهدون أن هذه الدار المدعى به على هذه الحدود،
فطلب من القاضي أن يبعث أمينين من أمنائه إلى الدار حتى يتعرفا عن حدودها
وأسماء جيرانها، أجابه القاضي إلى ذلك، فإذا أقامهما القاضي وتعرفا عن حدود
الدار وأسماء جيرانها، فوافق ذكر الحدود التي ذكرها الشهود، قضى القاضي
بالدار للمدعي بشهادتهم، لأنهم شهدوا بملكية دار معلومة؛ لأن العقار إذا
كان غائباً فإعلامه بذكر الحدود وقد وجد، فبعد ذلك الحاجة إلى تعيين الدار
المحدودة للتسليم، فإذا علم القاضي بإخبار الأمينين أن هذه الدار المعينة
التي في يد المدعى عليه هي ما شهدت به الشهود فقد علم بوجوب تسليمها إلى
المدعي، فيقضي بها للمدعي، ويأمر المدعى عليه بتسليمها إلى المدعي.f
وإن خالف ذلك الحدود التي ذكرها الشهود وأخبر الأمينان القاضي بذلك لا يقضي
بشهادتهم؛ لأنهم شهدوا بما لم يعلموا؛ ولأن الدار التي في يد المدعى عليه
إذا لم تكن بتلك الحدود ظهر أن الشهود شهدوا بما ليس في يد المدعى عليه،
فكانت هذه شهادة على غير خصم، فلا يقبل.
والمسألة الثانية: لو قال الشهود: نحن نعرف الدار ونقف عليها، ونشير إلى
حدودها إذا قمنا ثمة ولكن لا ندري من جيرانها، فالروايات مضطربة في هذه
المسألة، ذكر في بعضها يبعث القاضي أمينين من أمنائه مع المدعي والمدعى
عليه إلى الدار حتى يشهد الشهود بحضرة الدار، ويشيروا إلى حدودها، ثم يتعرف
الأمينان أسماء الجيران ويخبران القاضي، فإن وافق ما قاله المدعي يحكم
القاضي بذلك، وذكر في بعضها أنه يبعث الأمينين مع الشهود حتى يسيروا إليهما
بالدار وحدودها، فيتعرفان أسماء جيرانها ثم يشهدوا جميعاً عند القاضي،
فيقضي بشهادتهم التي كانت عنده، وأظهر الجواب شهادة الشهود بحضرة الأمينين
والدار؛ لأن الأمين نائب القاضي فكانت الشهادة عنده كالشهادة عند القاضي،
ولو كانوا بحضرة العقار لا يحتاج إلى بيان الحدود؛ لأن الإشارة كافية
(8/229)
للتعريف كما في المنقول، إلا أن يتعرف
الأمينان لأسماء الجيران (105ب4) لكتابة السجل لا لتنفيذ القضاء، فالقضاء
بدونه ماض على المدعى عليه.
المسألة الثالثة: إذا قال الشهود نحن نعرف أن هذه الدار ميراث لهؤلاء
الورثة عن هذا المورث، ولكن لا نعلم أسماء الجيران إنما نعرف أن تلك الدار
في محلة كذا في سكة كذا بحضرة مسجد كذا يلاصق دار فلان في زيقه كذا، وجاء
المدعي بشاهدين يشهدان على الحدود، فإن القاضي لا يقضي بشيء؛ لأن الذين
شهدوا بالملك لم يشهدوا إلا بحد واحد، فاللذان شهدوا بالحدود لم يشهدوا
بالملك، فلا يمكن القضاء بها أصلاً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إنما شهدوا بملك
الدار عند معاينة الدار بالإشارة إليها، فوقع الاستغناء عن ذكر الحدود
للقضاء بالملك أما ها هنا بخلافه، ثم إذا شهد شهود المدعي عند القاضي، وكان
فيمن شهد رجلان عدلان يعرفهما القاضي بالعدالة والرضى، سأل القاضي المدعى
عليه عن حجة يدفع بها ما شهد به الشاهدان ويبين أنه عرفهما بالعدالة، وأنه
يريد القضاء عليه، حتى لو كانت له حجة يأتي بها أن القاضي إنما ينبغي له أن
يقضي بحجة المدعي إذا لم يأت المدعى عليه بحجة تعارضها، وإن لم يعرفهما
القاضي وعدلهما شاهدان في السر والعلانية تبين للخصم أنه سأل عنهما المزكين
فنسبوهما إلى العدالة، ثم يسأله الدفع إن كان له، فإن أحضر حجة صلحت دافعة
لدعوى المدعي قبلها، ودفع دعوى المدعي به وذلك مثلاً بأن كان المدعي يدعي
ملكاً مطلقاً ويقيم عليه البينة، فيدعي المدعى عليه أنه اشتراه منه، ويقيم
البينة عليه، وإن ذكر في ذلك كله أن له حجة يحضرها، يمهله بقدر ثلاثة أيام،
وما أشبهه مما لا يبطل به حق المدعي أنه إن أتى بدفع في هذه المدة قبل منه،
وأبطل دعوى المدعي.
وإن لم يأت بدفع حتى مضت هذه المدة وجه عليه القضاء؛ وهذا لأنه لا يمكنه
إقامة الحجة إلا بمدة؛ لأن الشهود ربما كانا غيباً، فيحتاج إلى مدة ليمكنه
إحضارهم، فيمهله ثلاثة أيام أو ما أشبهه، فإن مضى الوقت ولم يأت بحجة أمر
المدعي حتى يحضر المدعى عليه؛ لأنه جاء أوان الحكم ولا بد لصحة الحكم من
حضرتهما، ثم يكتب حضورهما في الكتاب لما ذكرنا أن حضرتهما شرط لصحة القضاء
ويكتب، فسأل فلان المدعي هذا المذكور اسمه ونسبه في هذا الكتاب هذا القاضي
إنفاذ القضاء بما يثبت عنده على فلان بن فلان؛ لأن القضاء حق المدعي وحق
الإنسان لا يوفى إلا بطلبه، ثم يكتب فأنفذ القاضي القضاء بوفاة فلان، وأنه
ترك من الورثة فلان وفلان وجعل الدار المحدودة المذكورة في هذا الكتاب
ميراثاً منه لورثته فلان بن فلان؛ لأن القضاء بالميراث يقع لهم، فلا بد من
ذكرهم لبيان المقضي له ثم يكتب، وكان ذلك مني بعدما استحلفت المدعي بالله
ما يعلم أن أباك قد باع هذه الدار، ولا وهبها، ولا خرجت عن ملكه، ولا شيء
منها بوجه من الوجوه، حتى توفي وفي هذا الاستحلاف إنما يتأتى على قول أبي
يوسف.
وإن كان المدعي ادعى ديناً دراهم أو دنانير كتب بعد سؤال المدعي إنفاذ
القضاء، فاستحلف القاضي فلان هذا المدعي الذي حضر أنه ما قبض من الألف
الدراهم أو
(8/230)
الدنانير التي ادعت على فلان بن فلان هذا
الذي أحضر معه قليلاً ولا كثيراً، ولكن هذا التفريع على قول أبي يوسف رحمه
الله، فإنه يستحلف المدعي من غير طلب المدعى عليه.
فأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يريان ذلك بدون طلب المدعى عليه،
وفرقا بين هذا وبينما إذا ادعى رجل على ميت ديناً، فإن القاضي يستحلف
المدعى عليه الإبراء والقبض على ما وصفناه، وإن لم يدعيه الوارث؛ لأن
الدعوى هناك في الحقيقة على الميت، والميت عاجز عن النظر لنفسه بنفسه،
فيمكنه أن يطلب من القاضي أن يحلف المدعى عليه فلا يحلفه القاضي بدون طلبه.
ولو كان إنما ادعى داراً أو ثوباً أو غير ذلك من العروض سوى الدور. كتب:
فسأل فلان الذي حضر يعني المدعي إنفاذ القضاء بما ثبت له على فلان بن فلان
المدعى عليه في الدار المحدودة في هذا الكتاب أو في الثوب، فاستحلف القاضي
فلان بن فلان المدعي بالله ما باع هذه الدار ولا وهبها ولا تصدق بها ولا
خرجت عن ملكه بوجه من الوجوه ولا شيء منها، وهذا الاستحلاف على قول أبي
يوسف أيضاً على ما مر.
وإن كان إنما يدعى ميراثاً إنما كتب: فأنفذ القاضي القضاء بوفاة فلان وأنه
ترك من الورثة جماعة وهم فلان المدعي هذا وفلان وفلان حتى يسمع جميع الورثة
ما شهد به الشهود، ثم يكتب واستحلف القاضي المدعي بالله ما يعلم أن أباه
فلان ما باع هذه الدار ولا وهبها ولا خرجت عن ملكه ولا شيء منها بوجه من
الوجوه حتى توفي، وهذا أيضاً على قول أبي يوسف رحمه الله في دعوى الدين إذا
كتب تحليف المدعي يكتب بعد ذلك: فأنفذ القاضي القضاء لفلان المدعي هذا على
فلان المدعى عليه هذا بألف درهم وزن سبعة وضحا؛ لأنه لا بد من إعلام ما صار
مقضياً به لتصحيح القضاء، وذلك بذكر الجنس وهو الدراهم، وبالقدر وهو الألف،
وبالنوع وهو وزن سبعة، والصفة وهو قوله وضحا، فالدين يصير معلوماً بهذه
الأشياء، ولا يصير معلوماً دونها، أصله: السلم والمراد من الوضح: الجيد
الصافي، فهذه إشارة إلى الجودة، والجودة صفة.
وقوله: وزن سبعة اختلفوا في تفسيره، قال بعضهم: ما كل مائة منها سبع
مثاقيل، والأصح أن المراد منه ما يزن كل عشرة منها سبع مثاقيل وهو وزن
الدراهم في ديارنا.
واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم:
أنها كانت على وزن سبعة، وقال أهل الحديث: أنها كانت على وزن ستة، والأصح
أنها كانت على وزن خمسة، وكذلك على عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه، ثم
صار وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه هو المشهور، وكذلك اختلفوا أن
الدرهم متى صارت مدورة على عهد عمر رضي الله عنه، وقبل ذلك كانت شبيه
النواة.
وإن كانت الدعوى في الميراث كتب وأنفذ القاضي القضاء لفلان بن فلان الميت
يعني أب المدعي على فلان بن فلان الذي أحضره يعني المدعى عليه بالدار
المحدود في هذا الكتاب؛ لأن المقضي له هو الميت والوارث يحلف الميت في
حقوقه، فيكون
(8/231)
القضاء للأصل لكن عند دعوى الحلف، ولهذا
المعنى يقضي منه ديون الميت وينفذ وصاياه، ثم يكتب: في ذلك على ما شهد به
الشهود؛ لأن القضاء بناء على الحجة وهي الشهادة، فينبغي أن يكتب: أن القضاء
حصل على موافقة الشهادة ليعلم أنه على نهج الحجة، ثم يكتب: وجعل فلان بن
فلان الذي أحضر يعني المدعى عليه على حجته إن كانت له حجة في ذلك، أو مخرج؛
لأن بينة الدفع بعد القضاء مشروعة، فتبين للخصم ذلك حتى أنه إذا كان جاهلاً
بذلك يصير معلوماً له تحقيقاً لمعنى العدل، ثم يكتب: وأنفذ ذلك كله وقضى به
على ما سمى ووصف في هذا الكتاب بمحضر من فلان وفلان، يعني المدعي والمدعى
عليه بالإشارة إليهما ليتحقق إعلامه المقضي والمقضي عليه، وإنما يمكنه
الإشارة إذا كانا حاضرين.
وإن كان ميراثاً يكتب بعد قوله: على ما شهد به الشاهدان عنده في ذلك
وجعلتها ميراثاً منه لورثته المسلمين في هذا الكتاب، لأنه إنما يقع القضاء
بالميراث لهم، فلا بد من ذكرهم لبيان المقضي له، ثم يكتب بعد ذلك: وجعل
فلاناً المدعى عليه على حجة ودفعه متى أتى به يوماً من الدهر أنفذ القاضي
ذلك، وقضى به بمحضر من فلان بن فلان يذكر المدعي والمدعى عليه ثم يذكر
وأمره يعني المدعي بقبض الدار؛ لأن تمام القضاء بملك الدار بتسليم إلى
المقضي له، فهو المقصود من دعوى الدار؛ وهذا لأن الملك لا يثبت للمدعي
بقضاء القاضي؛ لأن الملك ثابت له قبل القضاء فلا حاجة إلى الدعوى والقضاء
لأجله، وإنما الحاجة إليه لأجل التسليم؛ لأن يده قاصرة عن ردها فيرفع الأمر
إلى القاضي فيثبت حقه إلى الدار ليوصله القاضي إلى الدار، وإن كتب وأمر
فلاناً المدعى عليه بتسليم هذه الدار المحدودة في هذا الكتاب إلى فلان
المدعي هذا، فسلمها إليه بأمر القاضي كان أبلغ ليعلم تمام القضاء بإيصال
الحق إلى المدعي بالتسليم إليه، ثم يكتب في آخره وذلك كله في مجلس القضاء
بين الناس في كورة، يكتب الكورة لما ذكرنا أن المصر شرط صحة القضاء في ظاهر
الرواية، فكتب الكورة حتى لا يبقى للطاعن مجال الطعن.
ومن جنس هذه المسائل رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم دين، وأنه
مات قبل أن يؤديها إليه، وأن في يدك ألف درهم من ماله وطالبه بقضاء الدين
من ذلك المال، فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأن الدعوى إنما تسمع على الخصم
والمدعى عليه ليس بخصم له في هذه (106آ4) الصورة؛ لأنه لا يدعي عليه شيئاً
ولا في يده شيء، وإنما يدعي ديناً على الغير وأنه ليس يحلف عن ذلك الغير
ليسمع الدعوى عليه بطريق الخلافة فلا يسمع دعواه، وإذا لم يسمع دعواه لا
يحلف المدعى عليه، ولو أقام بينة لا تسمع بينته والله أعلم.
الفصل السابع والعشرون: في الحبس والملازمة
يجب أن يعلم بأن الحبس لأجل الدين مشروع ثبت شرعيته بقوله عليه السلام
(8/232)
«لصاحب الحق اليد واللسان» ، والمراد من
اليد الحبس وقال عليه السلام: «مطل الغني ظلم يحل عقوبته» ، والحبس نوع
عقوبة، والخلفاء الراشدون حبسوا من غير نكير منكر، والمعنى في ذلك أن
المديون تعدى على صاحب الحق بمنع ماله عنه، وحال بينه وبين منافع ماله،
فيحال بينه وبين منافع نفسه، ليكون حيلولة بإزاء حيلولة قال الله تعالى:
{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 149) .
وإذا جاء رجل برجل إلى القاضي وأثبت عليه ماله ببية أو أقر الرجل له،
فالقاضي لا يحبسه من غير سؤال المدعي هذا هو مذهبنا.
وقال شريح رضي الله عنه: يحبسه من غير سؤال المدعي، وإذا سأل المدعي عن
ذلك، ذكر في كتاب «الأقضية» إن القاضي لا يحبسه في أول الوهلة ولكن يقول له
قم فارضه، فإن عاد مرة أخرى حبسه، ولم يفصل بين الدين الثابت بالإقرار،
وبين الدين الثابت بالبينة وهو اختيار الخصاف رحمه الله؛ لأن الحبس جزاء
الظلم بمنع الحق، وذلك لا يظهر في أول الوهلة؛ لأن من حجة المديون أن يقول
في فصل الإقرار إنما لم أؤد الدين لظني أنك تمهلني، فإن أثبت أن يمهلني
أؤدي في الحال، وفي فصل البينة يقول ما كنت عالماً بالدين قبل هذا.
والمذهب عندنا أن في فصل البينة يحبس في أول الوهلة، وفي فصل الإقرار لا
يحبس في أول الوهلة؛ لأن الحبس جزاء الظلم ولم يظهر الظلم في فصل الإقرار
لما مر، وفي فصل البينة ظهر الظلم؛ لأنه ظهر المماطلة، حتى احتيج إلى
البينة.
ثم في فصل الإقرار إذا لم يحبسه في أول الوهلة هل يحبسه في المرة الثانية؟
ذكر في بعض الروايات أنه يحبسه، وذكر في بعضها أنه لا يحبسه إنما يحبسه في
المرة الثالثة.
وفي «نوادر هشام» قال سألت محمد رحمه الله عن الحاكم إذا تقدم إليه الرجل
وعليه دين أقر به، فأخبرني أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: لا أحبسه أول ما
قدم به، قال: وهو قول محمد رحمه الله، إلا أن محمداً رحمه الله قال: أقدم
وأقول: إن أعادك إليّ ولم تعطه حبستك، قلت: فإن أعاده إليك من يومه ولم
يعطه قال: هذا قريب قلت: قرب وقت ثلاثة أيام فكأنه لم يره إلا أنه قال: هو
حسن ثم إذا جاء أوان الحبس، فإن عرف القاضي يساره حبسه، وإن لم يعرف يساره
لا يسأله ألك مال هذا هو ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله.
وقال الخصاف رحمه الله: الصواب عندي أن القاضي يحبسه حتى يسأله ألك مال
ويستحلف على ذلك، فإن أقر أن له مالاً حبسه وإن قال: لا مال لي قال للطالب
أثبت أن
(8/233)
له مالاً حتى أحبسه وهو مذهب بعض القضاة،
وهكذا روي في «النوادر» : عن أصحابنا رحمهم الله أن القاضي يسأله ألك مال
وهل يسأل المدعي أله مال؟ فظاهر مذهب أصحابنا أنه لا يسأل إلا إذا طلب
المدعى عليه ذلك، فإن طلب المدعى عليه ذلك، وسأل القاضي المدعي، فإن قال:
لا مال له ثبتت عسرته بإقراره، والمعسر ينظر بإنظار الله تعالى.
وإن قال المدعي: إنه موسر وقال المطلوب: لا بل أنا معسر فقد اختلفت
الروايات فيه، واختلف فيه المشايخ أيضاً: فاختيار الخصاف وهو رواية عن
أصحابنا أن القول قول المديون؛ لأنه متمسك بالأصل؛ لأن الفقر أصل في
الآدمي، فإنه يولد ولا مال له وصاحب الدين يدعي أمراً عارضاً والتمسك
بالأصل واجب، حتى يظهر خلافه، وكان القول قول المديون مع اليمين وهو اختيار
أبي عبد الله البلخي.
وهكذا روي في بعض الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أن كل دين
أصله مالاً كثمن البياعات والعروض، فالقول قول المدعي في يساره وعسرته؛
لأنه عرف دخول شيء في ملكه وعرف قدرته على قضاء الدين بما دخل في ملكه
وزوال ذلك عن قضاء الدين بما دخل في ملكه، وزوال ذلك عن ملكه محتمل، فكان
القول فيه قول المدعي وكل دين لم يكن أصلاً مال كالمهر وبدل الخلع وما أشبه
ذلك، فالقول فيه قول المدعى عليه؛ لأنه لما لم يدخل شيء في ملكه لم يعرف
قدرته على قضاء الدين، فبقي متمسكاً بالأصل وهو العسار، فيكون القول قوله.
وذكر محمد رحمه الله في النكاح والعتاق ما يدل على هذا، فإنه قال في
النكاح: وإذا ادعت المرأة على زوجها أنه موسر، وادعت نفقة الموسرين، وزعم
الزوج أنه معسر، فالقول قول الزوج لأنه لم يدخل بسبب وجوب النفقة في ملكه
ما يثبت به يساره.
وقال في العتاق في أحد الشريكين إذا أعتق العبد المشترك وزعم أنه معسر
فالقول قوله؛ لأنه لم يدخل في ملكه شيء يثبت به قدرته على قضاء الدين بما
وجب عليه من الضمان، فكان متمسكاً بأصل العسرة، فيكون القول قوله، وقال
بعضهم: ما كان سبيله سبيل البر والصلة، فالقول فيه قوله أنه معسر كما في
نفقة المحارم وما أشبه ذلك، وفيما سوى ذلك القول قول المدعي.
وقال بعضهم: كل دين لزم بمعاقدته، فالقول فيه قول المدعي، وإن لزم حكماً لا
لمباشرته العقد، فالقول فيه قول المديون، والفرق أن فيما لزمه بمعاقدته وجد
ما يدل على قدرته على قضائه ظاهراً؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يشرع في أمر
لا يقدر على الخروج منه، ولا يلتزم ما لا يمكنه الوفاء به، فإذا ادعى أنه
عاجز، فقد ادعى أمر الخلاف الظاهر فلا يقبل ذلك منه، فأما فيما يلزمه حكماً
لا بمباشرته، فلم يوجد ما يدل على قدرته، ومسألة النفقة بالموت وكذلك ضمان
العتق صلة على قول أبي حنيفة.
وقال الفقيه أبو جعفر البلخي: يحكم فيه الزّي والهيئة إن كان عليه ثياب
رديئة، وأتى الحاكم حافياً على صفة تشهد أنه فقير كان القول قوله أنه فقير،
وإن رآه حسن
(8/234)
الثياب مرتفع السلب، فالقول قول المدعي في
أنه موسر إلا في أهل العلم والأشراف كالعلوية والعباسية، فإنهم يتكلفون
للباسهم مع حاجتهم حتى لا يذهب ماء وجههم فلا يكون الزيّ فيهم دليلاً على
اليسار.
وتحكيم الزي ممهد في أصول الشرع حتى حكم الزي في باب الزكاة في جواز الصرف
إلى من رأى عليه زي الفقر فكذلك هذا، فإن كان على المطلوب زي الفقر، فادعى
الطالب أنه قد كان عليه زي الأغنياء ولكن غير زيه حين حضر مجلس الحكم، فإن
القاضي يسأله البينة، فإن أقام البينة سمع منه وكان القول قوله، وإن لم يقم
يحكم زيه في الحال ويكون القول قول المديون.
قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة: ويحبس في الديون كلها كائناً من كان
من أم أو عم أو خال أو زوج أو زوجة أو امرأة، أو رجل مسلماً كان أو ذمياً
أو حربياً مستأمناً أو صحيحاً أو زمنا أو مقعداً أو أشل أو أقطع اليدين؛
لأن الدين على هؤلاء، وبهذه العوارض لا تسقط المطالبة، فكان الامتناع منهم
مع القدرة على الأداء ظلماً فاستوجب، قال إلا أن يكون أباً أو أماً فإنه لا
يحبس واحد من الأبوين بدين الابن، وكذلك لا يحبس الجد والجدة وإن علوا.
عن أبي يوسف رحمه الله أنه يحبس؛ لأن سبب الحبس الظلم لمنع الحق عن
المستحق، وقد وجد، وجه ظاهر الرواية أن الحبس هلاك معنى باعتبار انقطاع
منافع نفسه عنه. ولا يجوز للابن أن يسعى إلى إهلاك واحد من أبويه وأجداده،
قال: إلا أن تجب عليها نفقته فكل من أجبرته على النفقة، وإني حبسته أباً أو
أماً أو جداً أو جدة أو زوجاً؛ لأن في ترك الإنفاق عليهم سعي إلى إهلاكهم،
ويجوز أن يحبس الوالد لقصد إتلاف الولد، أو يعاقب لدفع التلف عن ولده،
يوضحه: أن النفقة إنما تجب عليه، لأولاده الصغار أو الإناث أو الرجال
الكبار الزمنى إذا كانوا معسرين؛ لأنهم عاجزون عن الكسب فبمنع الإنفاق
عليهم سعى إلى إهلاكهم، فلهذا يحبسون بذلك.
والمكاتب والعبد التاجر والصبي الحر المأذون له في الحبس بمنزلة ما وصفت
لك، أما المكاتب فلأنه هو بدأ فإذا كان عنده من الكسب ما يقدر على قضاء
الدين، ولم يقض صار ظالماً فيستحق العقوبة، وكذلك العبد التاجر؛ لأنه هو
المخاطب بقضاء من كسبه، وأما الصبي الحر فقد ذكر في بعض المواضع: الغلام
التاجر الذي لم يحتلم بمنزلة الرجل في الحبس.
وذكر في بعض المواضع لو أن غلاماً لم يراهق الحلم (106ب4) استهلك مالاً
لرجل وله دار وأرض ولا أب له ولا وصي لم يحبس لذلك، ولكن إن شاء القاضي جعل
له وكيلاً ببيع بعض ماله حتى يوفي الطالب دينه، وإن كان له أب أو وصي ممن
يجوز بيعه بأنه يحبس، وبعض مشايخنا رحمهم الله مالوا إلى الحبس مطلقاً
وجعلوه كالبائع؛ لأنه لزمه قضاء الدين، وبالامتناع صار ظالماً فيحبس؛ ولأنه
لو لم يحبس وعرف الناس منه ذلك لا يبايعونه حتى لا يمتنع من قضاء الدين،
فلا يمكنهم الوصول إلى حقهم، فشرع
(8/235)
الحبس تتميماً لمعنى الإذن كما جوزنا
الإعادة والضيافة اليسيرة منه، حتى لا تفسد عليه التجارة فها هنا أولى أو
يقول: يحبس تأديباً حتى ينزجر ولا يعود لمثله لا أن يكون عقوبة، فإنه ليس
من أهله هذا كما قلنا: إنه يضرب على ترك الصلاة تأديباً حتى يعتاد الصلاة
هكذا قاله بعض مشايخنا.
وكان شيخ الإسلام يقول: تحبس الصغير إذا كان له وصي تأديباً حتى لا يعود
لمثله، وينصح الوصي حتى يتسارع إلى قضاء الدين؛ (لأن الوصي يلازم على إيفاء
الوصي في الحبس، فيصح لأجله) ، فيعجل في قضاء الدين وحبس الصبي أولى من
حبسه؛ لأن الجناية إنما وجدت من الصبي لا منه، وإن لم يكن له أب أو وصي لا
يحبس لنا ثمة أن أحبس تأديباً وإضجاراً للأب أو الوصي وهنا لا يمكن تحقيق
معنى الإضجار والحبس في الصبي، فلم يشرع للتأديب وحده بدون الإضجار، فلم
يحبس لهذا.
فأما إذا كان محجوراً عليه واستهلك لرجل مالاً فإن كان له أب أو وصي يحبس
بدينه؛ لأن قضاء الدين الذي على الصغير على أبيه ووصيه فبالامتناع يصير
ظالماً فيحبس، وإن لم يكن له أب أو وصي نصب القاضي قيماً ليبيع ما له بقدر
الدين ويوفي الغرماء حقهم؛ لأن الحبس جزاء منع المال مع القدرة عليه عند
استحقاق القضاء، ولم يستحق عليه لمكان حجره فلا يعاقب بالحبس، ولكن القاضي
يوفي الغرماء حقوقهم بالطريق الذي قلنا.
والعبد لا يحبس لمولاه، لأن المولى لا يستوجب على عبده ديناً، وكذلك لا
يحبس المولى لعبده إذا لم يكن عليه، فكسبه ملك المولى، فكيف يستحق على
المولى قضاء الدين إياه، وإن كان مديوناً حبس فيه؛ لأن اكتسابه حق الغرماء
فإنما يحبس المولى بحق الغرماء حتى يصلوا إلى ديونهم مما عليه، ويجوز حبس
المولى لجانب الأجانب، ويحبس مولى المكاتب للمكاتب إذا لم يكن الدين من جنس
بدل الكتابة؛ لأنه إذا كان من جنس بدل الكتابة، فقد ظفر بحبس حقه فيلتقيان
قصاصاً، فلم يكن للمكاتب ولاية مطالبته بذلك الدين.v
فأما إذا كان من غير جنس بدل الكتابة فلا تقع المقاصة، والمكاتب في حق
اكتسابه بمنزلة الحر، فيكون له مطالبة المولى بذلك فيحبس له عند مطله.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ينبغي أن لا يحبس المولى فيه أصلاً؛ لأن
للمولى في مكاتبه حقاً، فلم يتحقق الظلم من كل وجه بالمنع، والأصح ما ذكرنا
أنه ليس للمولى استخلاص شيء من المكاتبة لنفسه، والمكاتب أحق من المولى
يطالبه متى شاء، فإذا منع حقه يحبس له ولا يحبس المكاتب لمولاه بدين
الكتابة؛ لأنه لا يصير ظالماً بالامتناع عن بدل الكتابة، فإن له أن لا يؤدي
ويرد نفسه في الرق والحبس جزاء الظلم ولم يوجد، وإن كان عليه دين غير بدل
الكتابة يحبس فيه؛ لأنه لا يتمكن من فسخ بسبب ذلك الدين.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: يجب أن يكون الجواب فيهما سواء، فإن في جميع
الأحكام لم يفرق بينهما في حق المولى، ألا ترى أن الكفالة ببدل الكتابة
للمولى كما لا تجوز الكفالة بدين آخر للمولى عليه، والجامع بينهما أنه
متمكن من إسقاط الدين
(8/236)
عن نفسه، فإن تعجزه نفسه يرد رقيقاً فيسقط
الدين عنه، ولكن في ظاهر الرواية لم يعتبر ديناً على الحقيقة، فإنه صلة من
وجه بخلاف سائر الديون، فلا يحبس فيه ويحبس في سائر الديون؛ ولأن القاضي
إنما يحبس المديون إذا عجز القاضي عن إيصال حق المدعي إليه بدون الحبس، حتى
إذا قدر لم يكن له أن يحبسه؛ لأنه لا حاجة إلى الحبس، وها هنا قدر على ذلك؛
لأنه متى امتنع عن أداء بدل الكتابة، فللقاضي أن يفسخ الكتابة فيصل إليه
الرقية ووصول الرقية كوصول بدل الكتابة بخلاف دين آخر؛ لأنه متى امتنع عن
أداء ذلك الدين ولم يمتنع عن أداء بدل الكتابة ليس للقاضي أن يفسخ الكتابة،
حتى تصل إليه الرقية، فتعين الحبس طريقاً للوصول إلى حقه.
فأما في الكفالة فالكفيل إنما يتحمل ما على الأصيل والأصيل مخير في جميع
الديون إن شاء أدى وإن شاء عجز، وأسقط عن ذمته ولا يمكن إيجابه على الكفيل
على هذا الوجه؛ لأنه لا يفيد فيطلب الكفالة وهذا المعنى يشتمل دين الكتابة
وسائر الديون، فلهذا سوي بينهما.
ويحبس في الحدود القصاص إذا قامت البينة حتى يسأل عن الشهود؛ لأنه صار
بهما، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبس رجلاً بالتهمة» ، فأما
قبل إقامة البينة فإنه لا يحبسه؛ لأن الحبس عقوبة، فلا يجوز أن يثبت بمجرد
الدعوى، فإن شهد شاهد واحد عدل بذلك حبسه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وعندهما لا يحبسه في حد القذف والقصاص؛ لأن عندهما في حد القذف والقصاص
يأخذ منه كفيلاً، فقد حصل التوثق فلا حاجة إلى الحبس، وعند أبي حنيفة لا
تجوز الكفالة في جميع الحدود، فيحتاج إلى التوثق فحبسه؛ لأنه صار متهماً
بارتكاب الكبيرة بشهادة هذا الشاهد؛ لأنه وجد أحد شطري الشهادة وهي العدالة
إن لم يوجد العدد دون العدالة، بأن شهد شاهدان مستوران وثمة يحبسه كذا
هاهنا، ولا يحبس العاقلة في الدية والأرش؛ لأنه وجب ليؤخذ من عطائهم وقد
أمكن إذا كانوا من أهل الديوان فلا معنى للحبس حتى إذا لم يكونوا من أهل
الديوان ولا عطاء لهم فيه يحبسون؛ لأن الدية في أموالهم فحبسون إذا امتنعوا
عن الأداء، لأنه تحقق ظلمهم يمنع الحق عن المستحق، فصار كسائر الديون،
فيحبسون.
وإن طلب المدعي اليمين في القصاص، فامتنع عنه المدعى عليه ونكل، فإنه يحبس
عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وقد مرت المسألة؛ لأنه يقضي عليه بالمال
بالنكول عن اليمين في القصاص بالنفس، فكان اليمين مستحقاً عليه، لعيبه
فيحبس عند الامتناع منه وكذلك في اليمين في القسامة ويحبس الدعار، والذين
هم مخوفون على المسلمين وأهل الفساد حتى يعرف منهم التوبة، والداعر من يقصد
إتلاف أموال الناس وأنفسهم أوكلاهما، فإذا كان يخاف على الناس منه في النفس
والمال حبس في السجن، حتى
(8/237)
تظهر منه التوبة؛ لأنه إنما يندفع شره عن
الناس بالحبس.
ألا ترى أن الله تعالى أمر في حق قطاع الطريق بالحبس الدائم، قوله تعالى:
{أو ينفوا من الأرض} (المائدة: 33) لما أنه يخاف الناس منهم على أموالهم في
الطريق، فكذا ها هنا يحبس أيضاً؛ لأنه يخاف منه وينبغي أن يكون للنساء محبس
على حدة تحرزاً عن الفتنة.
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن المرأة تحبس في مجلس النساء ولكن يحفظها
الرجال؛ لأن الرجال أقدر على الحفظ من النساء ولا تتحقق معنى الفتنة في
الحفظ.
وإذا حبس كفيل الرجل بأمره بالمال فللكفيل أن يحبس الذي عليه الأصل؛ لأن
الأصيل هو الذي أوقعه في هذه الورطة، فكان له أن يحبسه حتى يخلصه عنها.
ألا ترى أن الكفيل لو طولب بالمال كان له أن يطالب الأصيل، فإذا لوزم كان
له أن يلازم الأصيل، وإذا أخذ من الكفيل كان له أن يأخذ من الأصيل وطريقه
ما قلنا.
فإن حبس رجل في دين فجاء آخر يطالبه بالدين، فإن القاضي يخرج المطلوب حتى
يجمع بينه وبين المدعي، لأنه إنما يحبس بدين الأول نظراً للأول حتى يصل إلى
حقه، فلا ينظر له على وجه يضر بغيره؛ ولأنه لا ضرر على الأول في الإخراج من
السجن لسماع الدعوى عليه ثم يعاد فيه، فقلنا: بأنه يخرج من السجن ويجمع
بينه وبين المدعي، فإن قامت للمدعي بينة عادلة أو أقر أعاده إلى السجن،
وكتب في ديوانه أنه محبوس بحق هذا المدعي أيضاً مع الأول؛ لأنه ظهر أنه
ظلمه بمنع حقه عنه، فاستحق الحبس ليضجر فيسارع إلى قضاء دينه ولا تنافي بين
أن يكون محبوس الأول والثاني، فلهذا يحبسه لهما حتى يقضي دينهما جميعاً،
ولكن ينبغي أن يكتب في ديوانه أنه محبوس بدين فلان وفلان يسميهما حتى إذا
قضى دين أحدهما يبقى محبوساً بالآخر.
قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة: إذا حبس الرجل بالدين شهرين أو ثلاثة
سأل القاضي عنه في السر وإن شاء سأل عنه في السر أول ما يحبسه، ذكر في كتاب
الحوالة شهرين أو ثلاثة، وذكر في بعض المواضع أربعة أشهر، وفي رواية الحسن
عن أبي (107أ4) حنيفة رضي الله عنه ستة أشهر.
وفي رواية الطحاوي عن أبي حنيفة رضي الله عنه شهراً، وكثير من مشايخنا
أخذوا برواية الطحاوي، وبعض مشايخنا قالوا: القاضي ينظر إلى المحبوس إن رأى
عليه زي أهل الفقر وهو صاحب عيال، فشكوا عياله إلى القاضي البؤس وضيق
النفقة وكان ليناً عند جواب خصمه خلاه شهراً، ثم يسأل وإن رأى في عمل جواب
خصمه وعرف تمرده ورأى أن عليه علامة اليسار حبسه أربعة أشهر إلى ستة أشهر،
ثم يسأل وإن كان فيما بين ذلك حبسه شهرين إلى ثلاثة أشهر ثم يسأل وبه يفتي
الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرغنياني، وكثير من مشايخنا قالوا: ليس في
هذا التقدير تقدير لازم.
وفي رواية هشام عن محمد رحمه الله ما يدل على هذا القول، فقد روى هشام عن
محمد رحمه الله أن القاضي يسأل عن حال المحبوس ولا يعتبر في ذلك مدة؛ وهذا
لأن
(8/238)
الحبس للإضجار وذلك مما يختلف فيه أحوال
الناس، فيكون ذلك مفوضاً إلى رأي القاضي، فإن وقع في رأيه أن هذا الرجل
يضجر بهذه المدة ويظهر المال إن كان له مال ولم يظهر فيسأل عن حاله بعد
ذلك، فإن سأل عنه وقام البينة على عسرته أخرجه القاضي من السجن ولا يحتاج
إلى لفظة الشهادة، بل إذا أخبر بذلك كفى وإن أخبره بذلك ثقة عدل أخرجه
بقوله من السجن، لأن ما سبيله سبيل الأخيار يكتفي فيه بقول الواحد كالأخبار
بالتوكيل والعزل وأشباه ذلك، ثم إذا سأل القاضي عنه فإنما يسأل عنه أهل
الجيرة من جيرانه ومن يخالطهم في المعاملة؛ لأن الجيران أعرف بحاله؛ لأنهم
يعرفون أنه يتَصدق أو يتصدق عليه، ويعرفون مدخله ومخرجه، وكذلك من يخالطه
في المعاملة والتجارة؛ لأنه أعلم بيساره وعسرته، وكذلك أصدقاؤه وإنما يسأل
الثقاة منهم؛ لأنه لا يجوز الاعتماد على خبر الفساق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» : هذا السؤال بالنفي والشهادة، بالنفي
ليست بحجة، وكان للقاضي أن لا يسأل ويعمل برأيه، ولكن لو سأل مع هذا كان
أحوط وأنفى للتهمة عن القاضي، ثم إذا أخبر أنه معسر، وأخرجه القاضي من
السجن لا يحول بين الطالب وبين ملازمته عند بابه، ورد الأثر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يظهر له مال، فإذا لازمه أمكنه الوصول إلى
حقه، ثم تفسير الملازمة أن يدور معه حيث دار ويكون معه لا يفارقه، وليس له
أن يحبسه في موضع جلوسه؛ لأن ذلك حبس وليس له حق الحبس؛ هكذا ذكر في الأصل.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله أنه قال للمدعي: أن يحبسه
في مسجد حيه، وإن شاء في بيته؛ لأنه ربما يطوف به في الأسواق والسكك من غير
حاجة وفي ذلك ضرر للمدعي، وعن عمرو ابن أبي عمر عن محمد رحمه الله قال:
قالوا في المصر: لصاحب الحق أن يلزمه حيث أحب من المصر، فإن كان الملزوم لا
معيشة له إلا من كد يده لم يكن لصاحب الحق أن يمنعه من أن يسعى في مقدار
قوته يوماً فيوماً، فإذا اكتسب في ذلك القدر في يومه، فله أن يمنعه من
الذهاب في ذلك ويحبسه.
قال هشام: سألت محمد رحمه الله عن رجل أخرج من الحبس على تفلس، فرأى محمد
رحمه الله الملازمة مع التفليس، وأشار إلى المعنى فقال لعل عنده شيء لا علم
لنا به، ذكر الملازمة وأراد بها الحبس في موضع، بدليل تفريعات المسألة قال
هشام: قلت له: فإن كانت الملازمة تضير بعياله وهو ممن يكتسب في سقي الماء
في طوفه، قال: آمر صاحب الحق أن يوكل غلاماً له يكون معه ولا يمنعه عن طلب
قدر قوت يومه له ولعياله، وكذلك إن كان يعمل في سوقه قال: وإن شاء تركه
أياماً يعني هذا المفلس ثم لازمه على قدر ذلك، قلت: فإن كان عاملاً يعمل
بيده قال: إن كان عملاً يقدر أن يعمله حيث يحبس لازموه، ويعمل هو ثمة، وإن
كان عملاً لا يقدر إلا على الطلب خرج وطلب، فإن كان في ملازمته ذهاب قوته
وقوت عياله أمر به أن يقيم له كفيلاً بنفسه ثم يخلي سبيله فليسترزق الله
تعالى.
(8/239)
وفي كتاب «الأقضية» : إن كان العمل سقي
الماء ونحوه ليس لصاحب الحق أن يمنعه من ذلك، ولكن إما أن يلزمه أو يلزمه
نائبه أو أجيره أو غلامه إلا إذا كفاه نفقته ونفقة عياله، وأعطاه حينئذٍ
كان له أن يمنعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر على الملزوم في هذه الصورة، وفيه
أيضاً ليس لصاحب الحق أن يمنع الملزوم أن يدخل في بيته لغائط أو غداء إلا
إذا أعطاه الغداء وأعد موضعاً آخر له لأجل الغائط حينئذٍ أن يمنعه من ذلك
حتى لا يهرب.
وفي نوادر أبي يوسف رحمه الله إذا لازم الطالب المطلوب بغلامه، فأبى الغريم
أن يحبس مع الغلام وقال: لا أحبس إلا مع الطالب، فله ذلك، وفيه أيضاً إذا
كان المطلوب يطوف بالطالب من غير حاجة وعلم ذلك منه كان للطالب أن يهيئ له
بيتاً ويلزمه فيه، ولكن إذا أعطاه نفقته ونفقة عياله؛ لأنه لا ضرر على
المطلوب حينئذٍ.
وحكى عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله: أن الطالب لا يلازم المطلوب
بالليالي؛ لأن الملازمة بالليالي لا تفيد؛ لأن فائدة الملازمة أن المطلوب
إذا اكتسب شيئاً فالطالب يأخذ ذلك، والليالي ليست وقت الكسب، فلا يتوجه
وقوع المال في يده فيها، حتى لو كان الرجل ممن يكتسب في الليالي يلازمه
وسيأتي بعد هذا في حق المرأة الملازمة في الليالي من غير فصل.
وعن محمد رحمه الله أن للطالب أن يلازم الغريم، وإن لم يأمره القاضي
بملازمته، ولأفلته إذا كان مقراً بحقه، فإن قال الغريم: احبسني وأبى الطالب
إلا الملازمة قال: يلازمه، وعنه أنه سئل عن ملازمة المرأة، فقال: آمر
غريمها أن يأمر امرأة حتى تلازمها، فقيل إن لم يقدر الغريم على امرأة
تلازمها قال أقول لغريمها: اجعل معها امرأة تكون معها في بيتها وتكون أنت
على الباب أو تكون المرأة في بيت نفسها وحدها ويكون الغريم على الباب، قيل
له: إذا هربت المرأة وتذهب قال: ليس له إلا ذلك.
وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله أنه يلازم في موضع لا يخاف عليها الفتنة
كالمساجد والأسواق ونحو ذلك إن شاء برجال، وإن شاء بنساء، وهذا في النهار،
فأما في الليل فيلازمها بالنساء لا محالة والحاصل أنها تلازم على وجه يقع
الأمن عن الفتنة من كل وجه.
ذكر هلال في كتاب الوقف إذا شهد الشهود بعد مضي المدة أنه فقير، فالقاضي لا
يخلي سبيله حتى يسأل في السر وأنه حسن، فإن وافق خبر السر شهادة والشهود لا
يخلي سبيله أيضاً: حتى يستحلف المحبوس؛ لأنه لا يعرف مال المحبوس وغناه على
الحقيقة غيره إنما يعرفه هو فيستحلف، ثم يخلي سبيله، وإن خالف خبر السر
بشهادة الشهود أخذ بخبر العدل في السر؛ لأنه مثبت والشهادة باقية، فإن أقام
المحبوس بينة على عسرته، وأقام صاحب الحق بينة على يساره أخذ بينته؛ لأنه
يثبت أمراً أصلياً وهو الفقر، وكانت بينة صاحب الحق أكثر إثباتاً، فكانت
أولى بالقبول، ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب كيفية الشهادة على
الإفلاس.
(8/240)
وذكر الخصاف رحمه الله في «كتاب الوقف» أنه
ينبغي أن يشهدوا أنه فقير لا يعلم له مالاً ولا عرضاً من العروض يخرج بذلك
عن حالة الفقر.
وحكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يقولوا: إنه مفلس
معدم لا نعلم له مالاً سوى كسوته التي عليه وثياب ليله، وقد اختبرنا أمره
في السر والعلانية وهذا أتم وأبلغ، ثم إذا ثبت عسرته، فالقاضي لا يحبسه بعد
ذلك ما لم يعرف له مالاً؛ لأنه علم أنه ينظر بأنظار الله تعالى.
وإن قامت البينة على عسرته قبل الحبس هل يقبلها القاضي؟ فيه روايتان:
في رواية يقبل وهو اختيار الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه
الله.
وفي رواية أخرى لا يقبل وهو اختيار المشايخ؛ لأنها قامت على النفي، فلا
يقبل إلا إذا تأيدت بمؤيد، فإذا مضت في الحبس مدة لو كان قادراً على القضاء
لما تحمل مرارة الحبس إلى هذه المدة، ولتسارع إلى قضاء الدين ولم يقض،
فالظاهر أنه معسر فقد تأيدت هذه البينة بمؤيد فيقبل، وإن قامت البينة على
عسرته بعدما مضت مدة في الحبس، وكان الطالب غائباً فالقاضي لا ينتظر حضور
الغائب بل يخرجه من السجن؛ لأنه إذا ثبت عسرته كان استدامة حبسه ظلماً،
والقاضي نصب لدفع الظلم إلا لأسبابه فيخلي سبيله، ولكن يأخذ منه كفيلاً؛
لأنه لو لم يأخذ منه كفيلاً ربما يهرب (فبقي حضر) الغائب لا يتوصل إلى حقه
بالملازمة وغيرها.
وإذا كان الرجل محبوساً بدين رجلين، فأدى إلى أحدهما لم يخرج من السجن حتى
يؤدي حق الآخر حتى لو تفرد بالدعوى كان له أن يحبسه؛ لأنه ظلمه بمنع حقه
عنه، فكان له أن يديم الحبس لذلك.
وفي نوادر «ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله: إذا مات الرجل وفي الورثة صغير
وكبير وللميت على رجل دين، فحبسه الابن الكبير ثم أراد أن يطلقه لم يطلقه
القاضي حتى يستوثق للصغار؛ لأن للصغار فيه نصيباً (107ب4) .
والقاضي نصب ناظراً لهم، فيستوثق لهم لإحياء حقوقهم، ولا يسقط حقهم بإسقاط
الكبير؛ لأنه لا ولاية للكبير عليهم، ولا يخرج المحبوس في الدين لمجيء شهر
رمضان، ولا لفطر ولا لأضحى ولا لجمعة ولا لصلاة مكتوبة ولا لحجة مفروضة ولا
لحضور جنازة بعض أهله، وإن أعطى كفيلاً بنفسه؛ لأن الحبس إنما شرع ليضجر،
فيتسارع إلى قضاء الدين، وإنما يلحقه الضجر إذا منع عن الخروج أصلاً.
وذكر علي بن يزيد الطبري في «نوادره» ، فقال: سألت محمد بن الحسن رحمه الله
عن المحبوس إذا مات له والد أو ولد، هل يخرج من حبسه؟ قال: لا إلا أن لا
يجد من يكفنه ويغسله ولم يكن بحضرته أحد فليخرج حينئذٍ، وهذا صحيح؛ لأنه
لزم القياس بذلك
(8/241)
لحق الوالدين، وليس في هذا القدر من
الإخراج شيء كثير ضرر بالطالب فيخرج، أما إذا كان ثمة من يقوم بذلك لا معنى
لإخراجه من السجن، لأن من حقوق الميت تصير مقاماً بغيره وفي الخروج تفويت
حق الطالب في الحبس.
قال علي بن زيد: ولا يخرج لغير الوالدين والمولودين؛ لأنه لا حق لهم عليه
في ذلك، ألا ترى إذا مات للمسلم أب كافر يتولى غسله ويكفنه ويدفنه، ولا
يفعل لغيرهما، فكذلك لا يخرج. وحكي عن الشيخ أبي بكر الإسكاف أنه قال في
المحبوس في السجن إذا جن: لم يخرجه الحاكم من السجن، فقيل له: أليس قد رفع
القلم عنه قال: النائم قد رفع عنه القلم، ومع هذا لا يخرج، قيل له: المقضي
عليه بالقصاص إذا جن لا يمضي عليه القصاص، فإذا سقط عنه القصاص بحياته لم
لا يسقط عنه عقوبة الحبس بعذر الجنون، قال: لأن القصاص يندرئ بالشبهات،
ولعله لو كان مغيباً يدعي ما يوجب سقوط القصاص، فأوجب ذلك شبهة، فأما الحبس
بالدين بخلافه؛ لأنه لا يندرئ بالشبهات.
وذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : أن المحبوس في السجن إذا مرض
مرضاً أعياه إن كان له خادم يخدمه لا يخرج من السجن؛ لأن الحبس إنما شرع
ليضجر قلبه، فيتسارع إلى قضاء الدين وبالمرض يزداد الضجر فيزداد مسارعته
إلى قضاء الدين، فلا يخرج من السجن لهذا. ولا يخرج للمعالجة، فإن المعالجة
في السجن وفي منزله سواء.
وهكذا روي عن محمد حتى قيل له: وإن مات فيها، قال: وإن مات فيها، فقيل له:
وإن لم يكن له من يخدمه وإن أخرجوه احتسبوا عليه قال: أخرجوه إذاً، لأنه
إذا لم يكن ثمة من يمرضه ربما يموت بسببه، ولا يجوز إهلاكه لمكان الدين،
ألا ترى أنه إذا توجه الهلاك عليه بالمخمصة، كان له أن يدفع بمال الغير،
فكيف يجوز إهلاكه لأجل مال الغير، عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يخرجه من
السجن؛ لأن الهلاك لو كان، إنما يكون بسبب المرض، وهو في الحبس وغيره سواء،
فلا معنى للإخراج.
وذكر في «الكيسانيات» قال محمد رحمه الله: والمحبوس يبول في السجن ولا يخرج
إلى الحمّام؛ لأنه ليس في التبويل إبطال حق المدعي، وفيه إزالة التفت عنه
فأما لا يخرج إلى الحمام كما لا يخرج لسائر الحوائج ولو احتاج إلى الجماع،
لا بأس بأن يدخل زوجته وجاريته في السجن فيطأهما حيث لا يطلع عليه أحد؛
لأنه غير ممنوع عن اقتضاء شهوة البطن، فلذلك لا يمنع من اقتضاء شهوة الفرج.
وذكر ابن شجاع في «نوادره» عن الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
رضي الله عنهم، قال: يمنع المحبوس عن وطء الحرائر والإماء؛ لأنه ليس من
أصول الحوائج، ألا ترى أن بدون ذلك يعيش ويبقى، فيمنع ليضجر قلبه، فيتسارع
إلى قضاء الدين، بخلاف الأكل والشرب؛ لأنه لا حياة بدونهما، فلو منع منهما
كان سعياً إلى إهلاكه وإنه لا يجوز.
(8/242)
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ولا يترك
المحبوس حتى يأتي بوطاء فتلقى تحته في السجن حتى يكون ذلك أشق عليه، وأبلغ
في الضجر، فيحصل المقصود.
وهل يترك ليكتسب في السجن؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يمنع من
الاكتساب في السجن؛ لأن فيه نظراً من الجانبين من جانب المديون، لأنه ينفق
على نفسه وعياله، ولرب الدين فإنه إذا فضل منه يصرف ذلك إليه، وقال بعضهم:
يمنع عن ذلك، وهو الأصح وإليه أشار الخصاف رحمه الله؛ لأن المقصود من الحبس
أن يضجر فيتسارع إلى قضاء الدين. ولو ترك يكتسب في السجن لا يلحقه الضجر؛
لأن الحبس يصير بمنزلة الحانوت، فلا يضجر بالمقام فيه، فلا يحصل المقصود.
ولا يمنع المسجون من دخول أغلمه وجيرانه عليه؛ لأنه يحتاج إلى دخولهم عليه
ليشاورهم في قضاء الدين، ولا يتضرر الطالب بذلك فلا يمنع عنه، ولكن لا
يمكنون من أن يمكثوا فيه طويلاً ولا أن يسكنوا معه؛ لأنه يستأنس بهم ويزيل
الوحشة عن نفسه، فلا يلحقه الضجر في الحبس.
ولا ينبغي للقاضي أن يضرب محبوساً في دين، ولا يقيده ولا يقيمه، به ورد
الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وروي عن أبي حنيفة رضى الله عنه ما يدل
على أن للقاضي أن يقيده، والذي روي عنه: إذا حبس القاضي رجلاً في أمر قد
استوجب الحبس، فأقر بمال أوحد أو قصاص لزمه ذلك، وكذلك إن قيد مع ذلك.
ولو قال: لا أخرجك من السجن، أو قال: لا أحل القيد عنك أو تصدق، وقد قيده
وحبسه في حق مما أقر به لزمه، وإن كان حبسه في غير حق فهذا القول منه
تهديد، فلا يجوز ما أمر به في تلك الحالة. قال هشام: سمعت أبا يوسف رحمه
الله يقول: إذا قال المدعي: لا أقر ولا أنكر فإن حبسه من يرى حبسه إذا قال
لا أقر ولا أنكر حتى يقر أو ينكر، فأقر في الحبس ألزمته المال، قال: وكان
أبو يوسف رحمه الله قال قبل ذلك: لا ألزمه المال، ثم رجع عن قوله لا ألزمه،
قال: لأني حبسته ليقر أو لينكر، فإن شاء أنكر، قال: إنما يبطل إقراره إذا
حبسه ليقر، هذا لفظ أبي يوسف رحمه الله إشارة إلى أن الحبس إذا كان لأجل
الإقرار، كان المحبوس مجبراً على الإقرار؛ لأن له أن ينكر فيصح إقراره، فإن
كان هذا المحبوس لا يزال يهرب من السجن، يؤدّبه القاضي بأسواط؛ لأنه ظهر
منه هتك حرمة سجن القاضي وتمرده وعناده، فيؤدبه بأسواط حتى يمتنع عن ذلك،
ويكون عظة لغيره، هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وذكر الخصاف في
«أدب القاضي» : أن القاضي إذا خاف على المحبوس أن يفر من سجنه، حق له إلى
سجن اللصوص إذا كان لا يخاف عليه منهم؛ لأن القاضي يحتاج إلى حفظه وسجن
اللصوص أحصن، والرقباء ثمة أكثر فيحوله إليه، فإن كان يخاف عليه من جهة
اللصوص لما أن بينه وبين اللصوص عداوة وعرف أنه لو حوله إليهم، لقصدوه لا
يحوله؛ لأن فيه إهلاكه وما استحق عليه الهلاك.g
قال محمد رحمه الله عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل حبسه القاضي في دين
(8/243)
لرجل عليه ألف درهم وله دنانير، قال:
يبيعها القاضي ويوفي الغريم، ولو كان عرضاً لم يبعها، وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله: يبيع العروض والعقار حتى يوفي الغريم حقه.
اعلم بأن المحبوس في الدين إذا امتنع عن قضاء الدين وله أموال، فإن كان
ماله من جنس الدين بأن كان ماله دراهم والدين دراهم، فالقاضي يقضي من
دراهمه بلا خلاف؛ لأن صاحب الدين لو ظفر بهذه الدراهم له أن يأخذها قضاء من
دينه؛ لأنه ظفر بجنس حقه، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة
أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» فكان قضاء
القاضي دينه بهذه الدراهم إعانة له على حقه، وللقاضي ولاية إعانة صاحب الحق
على استيفاء حقه.
وإن كان ماله من خلاف جنس دينه بأن كان الدين دراهم، وماله عروض أو عقار أو
دنانير، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يبيع العروض والعقار، وفي بيع
الدنانير قياس واستحسان، ولكنه يستديم حبسه إلى أن يبيع بنفسه ويقضي الدين،
وعندها ببيع القاضي دنانيره وعروضه رواية واحدة، وفي العقار روايتان، ويكون
البيع على الترتيب يبيع الدنانير أولاً ثم العروض ثم وثم على ما يأتي
بيانه.
فالأصل عندها: أن كل من وجب عليه حق وامتنع من إيفاء ما صار مستحقاً عليه،
وذلك مما يجري فيه النيابة، فإن القاضي يقوم مقامه في إيفاء ذلك الحق
المستحق عليه كالذمي إذا أسلم عنده، فإن القاضي يجبره على البيع، فإن امتنع
عن ذلك، فإن القاضي يبيعه عليه، وكالعنين بعد مضي المدة يأمر القاضي
بالتفريق، فإن امتنع يفرق بينهما وكذلك امرأة الذمي إذا أسلمت، فإن القاضي
يعرض الإسلام على الزوج، فإن أبى أمره بالتفريق، فإن امتنع ناب منابه في
التفريق كذا هنا، ولكن أبا حنيفة يقول: المستحق عليه قضاء الدين، أما بيع
ماله فغير مستحق عليه؛ لأن القدرة على قضاء الدين يثبت بأسباب: منها
الاستفراش (108أ4) والاستيهاب وقبول الصدقة والبيع بالنسبة والاكتساب، فليس
للقاضي أن يعين عليه البيع؛ لأن في ذلك إضراراً بالمدعى عليه، ألا ترى أن
القاضي لا يزوج المديونة ليقضي الدين من مهرها، وإن كان يتوصل إلى قضاء
الدين بذلك؛ لأن النكاح عليها لم يتعين لقضاء الدين، وكذلك لا يؤاجر
المديون ليقضي الدين من الأجرة، وإن كان يتوصل إلى قضاء الدين منه؛ لأن
الإجارة لم يتعين طريقاً لقضاء الدين، كذا هنا. وهذا لأنه ما دام حياً
فالدين واجب في ذمته لا تعلق له بماله، فلا يثبت القاضي اليد عليه فلا يملك
البيع.
وإن كان الدين دراهم وماله دنانير، فالقياس أن لا يقضي منه دينه في قول أبي
(8/244)
حنيفة، وفي الاستحسان: يبيع الدنانير
بالدراهم، ويقضي دينه منها.
وجه القياس: أنهما جنسان مختلفان حقيقة وحكماً، فلا يكون له أن يبيعها بذلك
الدين كالعروض، ولا شك في اختلاف المجانسة بينهما حقيقة، وكذلك الحكم فإنه
لا تجري الربا منهما، وفي مسألتنا ليس لصاحب الدين أن يأخذ الدنانير مكان
الدراهم، ولو كانا جنساً واحداً لأخذها كما قلنا فيما إذا كان مال المديون
دراهم، فإذا ثبت اختلاف المجانسة بينهما ينبغي أن لا يكون للقاضي ولاية
البيع والمبادلة؛ لأنه تصرف في ملك المديون بغير رضاه، وإنه لا يجوز وصار
كالعروض والعقار.
وجه الاستحسان: أنهما جنسان مختلفان من حيث العين، ولهذا لا يجري الربا
بينهما، ولكنهما من حيث المالية جنس واحد، فإنهما خلقا للتقلب والتصرف،
ولهذا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، وكل حكم يرجع إلى العين فهما
جنسان وغيران فيه، وكل حكم يرجع إلى المالية جعلا فيه جنساً واحداً، وحق
صاحب الدين في العين ثابت، ولهذا لم يكن له ولاية المطالبة إلا لعين
الدراهم، وإن كان له حق في المالية من وجه، ولكن من حيث أن حقه في العين لا
يثبت له حق الأخذ، وباعتبار حقه في المالية يثبت له حق الأخذ، فلا يثبت له
الأخذ بالشك، فأما ولاية القاضي إنما تثبت من حيث المالية، وهما في المالية
كشيء واحد، فكان له ولاية المصارفة وقضاء الدين.
وقد ذكرنا في «الجامع» في باب المساومة ذكر في كتاب العين والدين: أن صاحب
الدنانير إذا ظفر بدراهم من عليه الدين أو على العكس، كان له أن يأخذ هذا
بيان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: القاضي يبيع مال المديون بدينه،
لكن هذا بدنانيره إذا كان الدين دراهم، فإن فضل الدين عن ذلك يبيع العروض
أولاً دون العقار؛ لأن العروض معدة للتقلب والتصرف والاسترباح عليه، فلا
يلحقه كسر ضرر في بيعه، فإن لم يف ثمنه بدينه وفضل عنه الدين حينئذٍ يبيع
العقار، أما بدون ذلك لا يبيع العقار لأن العقار أعد للاقتناء، فيلحقه ضرر
بين في بيعها، فلا يبيع العقار من غير ضرورة، فإذا فضل الدين عن ثمن العروض
تحققت الضرورة فيبيع العقار ويقضي الدين من ثمن العقار، وهذا على إحدى
الروايتين عنهما.
وفي رواية أخرى: لا يبيع العقار أصلاً؛ لأنه غير معدة للبيع، وإنه ما جرى
العادة باستحداث الملك في العقار في كل وقت، فأما العروض مال معد للبيع،
فإذا امتنع من بيعها ناب القاضي منابه في البيع. وقال بعضهم: يبدأ ببيع ما
يخشى عليه التوى والتلف من عروضه، ثم يبيع ما يخشى عليه التلف، ثم يبيع
العقار.
والحاصل: أن القاضي نصب ناظراً فينبغي أن ينظر للمديون، كما ينظر للغرماء
فيبيع ما كان انظر إليه، وبيع ما يخشى عليه التلف أنظر من بيع مالا يخشى
عليه فيبدأ به، فإن لم يف ثمنه بالديون يبيع مالا يخشى عليه التلف من
العروض؛ لأنه أنظر من بيع العقار، فإن لم يف ثمنه بالديون حينئذ يبيع
العقار.
(8/245)
وإذا كان للمديون ثياب يلبسها، ويمكنه أن
يجري بدون ذلك، فإنه يبيع ثيابه ويقضي الدين ببعض ثمنها، ويشتري بما بقي
ثوباً يلبسه؛ لأن لبس ذلك للتجمل، وقضاء الدين فرض عليه وعلى هذا القياس،
ويمكنه أن يجري بما دون ذلك المسكن يبيع ذلك المسكن، ويصرف بعض الثمن إلى
الغرماء ويشتري بالباقي سكناً لنفسه، وعن هذا قال مشايخنا: إنه يبيع ما لا
يحتاج إليه للحال حتى إنه يبيع اللبد في الصيف والنطع في الشتاء، وإذا كان
له كانوناً من حديد أو صفر يبيعه ويتخذ كانوناً من طين، وعن محمد رحمه
الله: أن المديون إذا وجد من يدينه إلى أجل، ولا يستدين ولا يقضي يدخل تحت
قوله عليه السلام: «لي الواجد يحل عرضه وماله» ، وهذا لأن الواجد ليس هو
الغني، بل الواجد من يمكنه قضاء الدين، وقد أمكنه قضاء الدين بهذا الطريق.
ثم أي قدر يترك للمديون من ماله ويباع ما سواه؟ لم يذكر محمد هذه المسألة
في شيء من الكتب، وقدروي عن عمر بن عبد العزيز ثلاث روايات: في رواية قال:
يترك ثيابه وسكنه وخادمه ومركبه؛ لأنه يحتاج إلى ذلك كله، وفي رواية أخرى
قال: يترك ثيابه ومسكنه وخادمه، وبهذه الرواية أخذ بعض القضاة، وفي رواية
قال: يباع جميع ماله ويؤاجر ويصرف غلته إلى غرمائه.
وفي ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله: لا يؤاجر إلا رواية روي عن أبي يوسف
رحمه الله وجه ظاهر الرواية أنه لم يتعلق حق الغرماء بمنافع يديه، فلا
يؤاجر ولكن إن أجر هو نفسه وأخذ الأجرة ترك له قوت يومه وعياله، ويصرف ما
سوى ذلك إلى رب الدين، ومن القضاة من قال: إن كان في موضع الحر يباع ما فوق
الإزار، لأن هناك الحاجة إلى ستر العورة لا غير وإنه يحصل بالإزار، وإن كان
في موضع البرد يترك له ما يدفع به من البرد حتى لا تباع جبته وعمامته ويباع
ما سوى ذلك، ومن المشايخ من قال: يترك له دستاً من الثياب، ويباع ما سوى
ذلك، وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ومنهم من قال يترك له دستين
من الثياب حتى إذا غسل أحدهما لبس الآخر، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي
رحمه الله.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل عليه دين وهو معسر وله دين
على رجل مليء، فإن الحاكم يحبس المعسر حتى يتقاضى ماله على غريمه الموسر،
فإن فعل وحبس غريمه الموسر، فإن الحاكم لا يحبس المعسر بما عليه؛ لأنه قضى
ما عليه في تقاضي دينه، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان للمعسر دين على
غريمه أخذ القاضي غريمه بدينه، وقضى دين غرمائه.
وفيه أيضاً: رجل حبس في الكفالة بنفس رجل، ثم علم أن المكفول بنفسه غائب
(8/246)
ببعض الأمصار، قال: آمره أن يأخذ كفيلاً
بنفسه ويخرجه من السجن حتى يجيء بالذي كفل به، وكذلك المحبوس بالدين إذا
علم أنه لا مال له في هذه البلدة وله مال ببلدة أخرى يؤمر رب الدين أن
يخرجه من السجن، ويأخذ منه كفيلاً بنفسه على قدر المسافة، ويأمر أن يبيع
ماله ويقضي دينه، ولم يذكر ههنا أن رب الدين لو كان غائباً، ورأيت في موضع
آخر أن القاضي يخرج المحبوس من السجن، ويأخذ منه كفيلاً.
الحسن عن أبي يوسف: إذا باع أمين القاضي عروض المديون في دينه وقبض الثمن،
وهلك، ثم استحق المبيع، رجع المشتري على الغريم، ويرجع الغريم على المطلوب،
ويجوز إقرار المحبوس بالدين لغيره بعد أن يحلف بالله ما أقر به على وجه
التلجئة، وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، وإذا أقر المحبوس بالبيع يحلف
المشتري بالله أنه اشترى منه شراء صحيحاً ودفع الثمن إليه، وما كان ذلك
تلجئة والله أعلم.
الفصل الثامن والعشرون: فيما يقضي به القاضي
ويرد قضاؤه، وما لا يرد
ما يجب اعتباره في هذا الفصل شيئان، أحدهما: أن قضاء القاضي متى اعتمد
سبباً صحيحاً ثم بطل السبب من بعد لا يبطل القضاء؛ لأن بقاء السبب ليس بشرط
لبقاء القضاء، ألا ترى أن بقاء السبب لم يشترط لبقاء الحكم، فكذا لا يشترط
لبقاء القضاء، وإذا ثبت عدم السبب من الأصل بعد وجوده من حيث الظاهر، فكذلك
عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر، وعند أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه
الله: يبطل القضاء، وهي مسألة قضاة القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور،
والمسألة معروفة.
والثاني: أن استحقاق المبيع على المشتري، يوجب توقف البيع السابق على إجازة
المستحق، ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه
أن الخصومة من المستحق، وطلب الحكم من القاضي ذلك النقض فينقض به البيع كما
ينتقض بصريح النقض، حتى لا يعمل إجازة المستحق بعد ذلك، عن أبي يوسف رحمه
الله أن أخذه العين بحكم القاضي دليل الفسخ والنقض، فينتقض به حتى لا يعمل
إجازته بعد ذلك، وفي ظاهر الرواية لا يكون شيء من ذلك دليل النقض أما
الخصومة وطلب (108ب4) الحكم، فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق
لو كان ثابتاً ظاهراً وقت البيع لا يمنع انعقاد البيع، فظهوره في الانتهاء،
لأن لا يوجب النقض والفسخ أولى، والأخذ بحكم القاضي أيضاً محتمل يحتمل
التلوم ويحتمل النقض والفسخ والعقد جائز بيقين، فلا يثبت النقض بالشك.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى من آخر جارية ولم يقبضها حتى
استحقها رجل بالبينة، والبائع والمشتري حاضران، وقضى القاضي بها للمستحق،
ثم ادعى البائع والمشتري أن المستحق باعها من هذا البائع وسلمها إليه، ثم
باعها البائع من
(8/247)
المشتري وأقام البينة قبلت بينته، فقد شرط
محمد رحمه الله في «الكتاب» للقضاء بالجارية للمستحق حضرة البائع والمشتري،
وأنه شرط لازم حتى لو حضر البائع دون المشتري، أو حضر المشتري دون البائع،
فالقاضي لا يقضي بها للمستحق وإنما كان كذلك لأن للبائع يداً وللمشتري
ملكاً، والقاضي بالقضاء يبطل الملك واليد، فيكون قضاء عليهما، والقضاء على
الغائب لا يجوز، فيشترط حضرتهما ثم إذا قضى القاضي بالجارية للمستحق، فأقام
البائع أو المشتري بينة على ما بينا قبلت بينته؛ لأن القضاء بالاستحقاق لم
ينقض ذلك البيع في ظاهر الرواية فيبقى البيع بين البائع والمشتري، فكانا
خصمين في إثبات هذا البيع، أما البائع فلأنه يؤكد يده في الجارية، وهو
محتاج إلى تأكيد يده لمقدرتها على التسليم، وليؤكد حقه في الثمن قبل
المشتري.
وأما المشتري فلأنه يؤكد ملكه في الجارية، فإنه يثبت الانتقال إلى بائعه،
فانتصب خصماً عن بائعه في حق إثبات الانتقال إليه، فهذه بينة صدرت عن خصم
على خصم، فقبلت وإذا قبلت هذه البينة تبين أن البائع باع ملك نفسه، وأنها
صارت مملوكة للمشتري، فيؤمر بتسليمها إلى المشتري، وإن لم يكن لهما بينة
على ما ادعيا، وطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد بينهما لعجز البائع عن
التسليم أجابه القاضي إلى ذلك؛ لأن عجز البائع عن التسليم مطلق للفسخ.
أصله: إذا أبق المبيع أو غصب قبل القبض، فإن فسخ القاضي العقد بينهما ثم
وجد البائع بينته، وأقامها على المستحق أنه كان اشتراها وقبضها من المستحق
قبل أن يبيعها من هذا المشتري قضى القاضي بالجارية للبائع فظاهر، وأما عدم
إلتزام المشتري باعتبار أن القاضي فسخ العقد بينهما بسبب قائم، وهو عجز
البائع عن التسليم فصح الفسخ ونفذ، وبثبوت الملك للبائع في الحال لا يستبين
أن العجز لم يكن، بل كان ثم ارتفع وارتفاع سبب القضاء بعد نفاذ القضاء
وصحته لا يوجب بطلان القضاء، كما لو قضى القاضي بفسخ البيع بسبب العيب ثم
زال العيب، أو قضى بالفرقة بسبب العنة ثم زالت العنة.
وقول محمد في الكتاب ثم وجد البائع البينة، وأقامها على المشتري. يشير إلى
أن شرط قبول هذه البينة إقامتها على المستحق، ولو كان المشتري قبض الجارية
من البائع واستحقها مستحق بالبينة قضى بها للمستحق، ويشترط ههنا حضرة
المشتري لا غير، لاجتماع ملك الرقبة واليد له، وينقض القاضي البيع بينهما
على ظاهر الرواية، وإذا طلب المشتري، ويرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن
المبيع استحق من يد المشتري بسبب سابق على الشراء فإن أقام البائع بعد ذلك
بينة على المستحق أنه كان اشتراها منه وقبضها قبل أن يبيعها قضى القاضي بها
للبائع، وبطل نقض القاضي حتى كان للبائع أن يلزم الجارية المشتري؛ لأن
الجارية إذا كانت مسلمة إلى المشتري لم يكن قضاء القاضي بالفسخ بسبب عجز
البائع عن التسليم، وإنما كان باستحقاق الملك على المشتري، وبإقامة البائع
البينة تبين أن الملك لم يكن مستحقاً عليه، فانعدم سبب الفسخ من الأصل،
(8/248)
فأوجب بطلان القضاء بالفسخ، وهذا قول أبي
يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله.
أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لا يبطل قضاء القاضي بالفسخ، ولا
يكون للبائع أن يلزم المشتري لما مر في أول الفصل، ثم عند محمد رحمه الله
لما كان للبائع أن يلزم المشتري الجارية وإن أبى، هل للمشتري أن يأخذها من
البائع إذا أبى البائع ذلك؟ لم يذكر هذا الفصل هنا. قال مشايخنا: وينبغي أن
لا يكون له ذلك، وإليه أشار بعد هذا؛ لأن المشتري لما طلب من القاضي أن
يفسخ العقد بينهما، فقد رضي بانفساخ البيع وانفسخ العقد في حقه إن لم ينفسخ
في حق البائع فلهذا كان للبائع أن يلزم المشتري ولا يكون للمشتري أن يلزم
البائع.
هذا إذا فسخ القاضي العقد بينهما، فلو أن القاضي لم يفسخ العقد بينهما،
ولكن البائع مع المشتري أجمعا على الفسخ حين استحقت الجارية من يد المشتري،
ثم أقام البائع بينة على المستحق على ما قلنا، وقضى القاضي له بالجارية لا
يكون له أن يلزم المشتري بلا خلاف؛ لأن الفسخ بالتراضي يثبت مطلقاً، فلا
يبطل بعد ذلك، وإن أراد المشتري أن ينقض البيع بعد الاستحقاق من غير قضاء
ولا رضى، ليس له ذلك، فالمذهب أنه لا بد لصحة النقض ههنا من قضاء أو تراض
منهما، وهذا لأن حق المشتري في العين بعد الاستحقاق على ظاهر الرواية إذ
العقد لم ينتقض بمجرد الاستحقاق على ظاهر الرواية، فالمشتري بالنقض يريد
نقض حقه من العين إلى الثمن، فلا يملك إلا بقضاء القاضي أو برضى خصمه، وهو
نظير ما قلنا في العبد المغصوب إذا أبق من يد الغاصب، وأراد المالك أن
يضمنه قيمته ليس له ذلك إلا بقضاء القاضي أو برضى الغاصب، وكذلك المغصوب
إذا كان شيئاً مثلياً وانقطع أوانه وأراد المالك أن يضمن الغاصب قيمته ليس
له ذلك إلا بقضاء أو رضى الغاصب، والمعنى في الكل ما بينا.
وإن كان المشتري لم يطلب من القاضي فسخ العقد بعد الاستحقاق، ولكن طلب من
البائع أن يرد الثمن عليه، ورده عليه ثم أقام البائع بينة على المستحق على
ما ذكرنا، وأخذ الجارية من المستحق ليس له أن يلزم المشتري إياها؛ لأن
الإلزام ينبني على البيع، والبيع قد انفسخ بينهما بتراضيهما؛ لأن المشتري
بطلب الثمن رضي بالفسخ، وكذلك باليد بإعطاء الثمن رضي بالفسخ، والفسخ ينفذ
بالتراضي ويصح بالتعاطي ظاهراً وباطناً فلا يبقى للبائع ولاية الإلزام بعد
ذلك.
ولو كان البائع لم يرد الثمن حتى خاصمه المشتري إلى القاضي ففسخ العقد
بينهما وألزم البائع الثمن للمشتري فيأخذه منه أو لم يأخذه حتى أقام بينة
على المستحق على ما قلنا، وأخذ الجارية، كان له أن يلزم المشتري عند محمد
وأبي يوسف الأول؛ لأن الفسخ ههنا لو ثبت ثبت بالقضاء، والقضاء حصل بناء على
سبب ظهر انعدامه من الأصل، فأوجب بطلان القضاء عند محمد وأبي يوسف الأول
على ما مر.
فرع محمد رحمه الله على الفصل الأخير، وهو ما إذا رجع المشتري بالثمن على
البائع بقضاء القاضي، فقال: لو أقر البائع أنه نوى الفسخ حين رجع المشتري
(8/249)
عليه وباقي المسألة بحاله لم يكن للبائع أن
يلزم المشتري بلا خلاف؛ لأنه حين نوى الفسخ فقد رضي بالفسخ، والعقد متى
انفسخ بالتراضي لا يعود أصلاً، فقد أثبت الفسخ من جهة البائع بمجرد النية.
وذكر في «الجامع الصغير» : في مشتري الجارية: إذا جحد الشري، وعزم البائع
على الفسخ، وهذا مشكل؛ لأن فسخ شيء من العقود لا يقع بمجرد النية، ألا ترى
أنه لو كان في البيع خيار شرط أو خيار رؤية، ونوى بقلبه فسخ العقد لا ينفسخ
بمجرد نيته، من مشايخنا من قال: لم يرد محمد نوى الفسخ أن يقصد بقلبه
الفسخ، وإنما أراد به أن يظهر منه أمارات الرضى بالفسخ بأن عرض الجارية على
البيع أو وطئها بعد ما استردها من يد المستحق بإقامة البينة على نحو ما
بينا، ولكن هذا بعيد فإنه وضع المسألة فيما إذا أقر البائع أنه نوى الفسخ
حين رجع المشتري عليه بالثمن والعرض على البيع والوطء، لا يتصور في تلك
الحالة؛ لأن في تلك الحالة الجارية ملك المستحق وفي يديه.
ومنهم من قال: تأويله أن البائع حين رد الثمن على المشتري نوى فسخ العقد،
وفي مسألة «الجامع الصغير» : عزم على ترك الخصومة بالوطء، فيكون الفسخ بفعل
اقترن به النية لا بمجرد النية، وقوله في «الكتاب» : نوى الفسخ حين رجع
عليه المشتري أراد به رجوعاً اتصل به الرد. ومنهم من قال الفسخ هنا وقع
بقضاء القاضي، إلا أن للبائع أن يبين بالبينة أن الفسخ لم يقع عند محمد
وأبي يوسف الأول على نحو ما بينا، وهذا حق له فله تركه وله استيفاؤه فإذا
عزم على الفسخ فقد ترك هذا الحق، فعملت بينته في هذا.
أما الفسخ بقضاء القاضي رجل اشترى من آخر عبداً بمائة دينار وقبضه وباعه من
آخره وقبضة المشتري الثاني، ثم (109أ4) استحقها رجل على المشتري الثاني،
فأقام المشتري بينة على المستحق أنه كان باعه من البائع الأول بكذا وسلمه
إليه، قبلت بينته في ظاهر الرواية، لأن بالاستحقاق لا تفسخ العقود، فبقيت
العقود موقوفة، فيحتاج المشتري الأخير إلى تقرير الملك للبائع الأول
والثاني ليتقرر ملكه، فينتصب خصماً فيه، فهذه بينة قامت من خصم على خصم،
وليس فيه تغيير القضاء الأول، بل فيه تقرير له وقد أقامها لا على الوجه
الذي استحق عليه، فقبلت بينته، وقضى بالغلام له بهذا، فإن لم يقم المشتري
بينة علىه ولكن خاصم بائعة، وهو المشتري الأول في الثمن وقضى عليه بذلك ثم
إن المشتري الأول أقام بينة على أن المستحق باعه من البائع الأول، وسلمه
إليه قبل أن يبيعه منه، وأخذ الغلام منه، هل له أن يلزم المشتري الثاني؟
على قول محمد وأبي يوسف الأول له ذلك، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر
(له) ذلك لما ذكرنا، فإن لم يجد المشتري الأول بينة على ذلك، ورجع على
البائع الأول بالثمن وقضي له به عليه، فأقام البائع الأول بينة على المستحق
على ما ذكرنا، ويأخذ العبد من المستحق كان له أن يلزم المشتري الثاني عند
محمد وأبي يوسف الأول لما مر.H
وهل للمشتري الأول أن يلزم المشتري الثاني؟ لما رجع على المشتري الأول فقد
رضى بانفساخ العقد بينه وبين المشتري الأول، فانفسخ العقد في حقه، لكن لم
يظهر الانفساخ في حق المشتري الأول
(8/250)
لعدم الرضى فيه، ولهذا احتيج إلى القضاء
عليه بالثمن فإذا رجع هو على البائع الأول فقد رضي بانفساخ العقد، فتم
الفسخ بينهما بتراضيهما، وقد ذكرنا أن الفسخ الحاصل بالتراضي يثبت مطلقاً
فلا يبطل بعد ذلك.
رجل اشترى من آخر غلاماً وقبضه ونقد الثمن، فجاء مستحق واستحقه من يد
المشتري بالبينة وقضى القاضي بالغلام للمستحق، ثم أقام المشتري بينة على
المستحق أنه كان أمر البائع ببيعه، فباعه بأمره قبلت بينته، لأنه خصم فيه؛
لأنه بهذه البينة تقرر ملكه؛ فإنه يثبت كون البائع وكيلاً من جهة المستحق،
وبيع الوكيل يوجب الملك للمشتري، وليس فيه تغيير القضاء الأول، بل هو تقرير
له؛ لأن بيع العبد بأمر المستحق إنما ينفذ باعتبار ملكه فقبلت لهذا، فإن لم
يقم المشتري بينة على ذلك، ورجع بائعة بالثمن وقضى به، ثم إن البائع أقام
بينة على المستحق أنه كان أمره ببيع هذا العبد قبل أن يبيعه ينظر إن كان ما
دفع المشتري عين ما قبضه منه أو أمسك المقبوض وردّ مثله، أو استهلك المقبوض
وضمن مثله لا تقبل بينته؛ لأنه لا فائدة في قبول هذه البينة؛ لأن فائدة
القبول في هذه الصورة، إما إلزام المشتري الغلام أو استرداد ما وقع إلى
المشتري، وكل ذلك ممتنع هنا، أما إلزام المشتري الغلام، فلأن البائع لما
أثبت الوكالة ظهر أن المستحق كان موكلاً، وقد فسخ العقد مع المشتري حين جحد
الشراء، والمشتري قد رضى بذلك الفسخ حين رجع بالثمن على البائع، والعقد متى
انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما، فالوكيل لا يتمكن من إلزام
المشتري ذلك العقد عرف ذلك في موضعه.
ولا وجه إلى الثاني؛ لأن العقد لما انفسخ فيما بين الموكل والمشتري
بتراضيهما عاد الثمن إلى ملك المشتري، فإن كان قائماً وجب على البائع وهو
الوكيل أن يرد عينه، وإن شاء أمسكه ورد مثله، وإن كان الوكيل قد استهلكه
ضمن مثله؛ لأن الوكيل يضمن بالاستهلاك فإنما دفع الوكيل للمشتري ما هو عين
حقه فلا يكون له ولاية الاسترداد، وإن كان الثمن قد هلك عند الوكيل وضمن
الوكيل للمشتري مثله من ماله قبلت بينته؛ لأن له في هذه البينة فائدة، وهو
استرداد ما دفع إلى المشتري؛ لأن بهذه البينة يثبت أنه كان وكيلاً، وهلاك
الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضماناً، فيظهر أن المشتري أخذ ما أخذ بغير
حق، فكان للوكيل ولاية الاسترداد، فلهذا قبلت بينته، وإذا قبلت بينته يسترد
من المشتري ما دفع إليه، فيأخذ الغلام من المستحق ويدفعه إلى المشتري عند
محمد وأبي يوسف الأول.
فإن قيل: ينبغي أن لا يكون للوكيل ولاية أخذ الغلام من المستحق لأن العقد
انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما، فلا يعود بعد ذلك فيقبل بينته
على استرداد ما دفع إلى المشتري لا على أخذ الغلام من المستحق، ويرجع
الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن ويدفعه إلى المشتري، لا على أخذ الغلام
من المستحق، ويرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن ويدفعه إلى المشتري؛
لأنه تبين أنه كان للقبض عاملاً للمستحق، فعند عدم سلامة الغلام للمشتري
يكون ضمان المقبوض على من وقع القبض له وهو المستحق.
(8/251)
قلنا: الموكل إنما رضي بالفسخ بشرط أن لا
يلحقه الغرم في الآخرة، فإذا آل الأمر إلى أن يلحقه غرم في الآخرة لا يكون
راضياً، والمشتري إنما رضي بالفسخ بشرط أن المقبوض له، فإذا آل الأمر إلى
أن لا يسلم له لا يكون راضياً، فلا ينفسخ العقد بتراضيهما، لو انفسخ إنما
ينفسخ بقضاء القاضي وقد ظهر أن قضاء القاضي وقع باطلاً من الأصل عند محمد
وأبى يوسف الآخر. وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول: قضاء القاضي
بالفسخ نفذ من كل وجه، فلا يعود العقد بعد ذلك فتقبل بينة الوكيل على
استرداد ما دفع إلى المشتري لا على أخذ الغلام من المستحق، ثم يرجع الوكيل
على المستحق بمثل ذلك الثمن، ويدفعه إلى المشتري لما ذكرنا.
وإن كان المشتري باع الغلام من آخر ثم استحق من يد المشتري الأخير بالبينة،
ويرجع المشتري الأخير على المشتري الأول بالثمن قضى له، فأقام المشتري
الأول بينة على أمر المستحق البائع بالبيع قبلت بينته لما ذكرنا، ويأخذ
العبد من يد المستحق ويلزمه المشتري الأخير عند محمد وأبي يوسف الآخر؛ لأن
قضاء القاضي بالفسخ اعتمد سبباً ظاهر وقد انعدم ما يوجب بطلان القضاء
وارتفاع الفسخ، ولو أن المشتري الأول لم يجد بينة على ذلك ولكن رجع على
بائعه بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي، وأقام البائع الأول بينة على أمر
المستحق، فهو على الوجوه التي ذكرنا في المسألة الأولى؛ لأن العقد الثاني
انفسخ بين المشتري الثاني وبين المشتري الأول بتراضيهما على وجه لا يحتمل
العود، فخرج هو من البين، بقي الكلام في العقد الأول وقد مر الوجه فيه.
رجل رهن من آخر جارية بألف درهم عليه للمرتهن، وقبضها المرتهن ثم أخذها
الراهن بغير إذن المرتهن وباعها من إنسان وسلمها إليه، ثم إن المرتهن أقام
بينة على الرهن قبلت بينته؛ لأن عقد الرهن باق، فكان خصماً فيه فقبلت
بينته، ويدفع العبد إليه فيكون رهناً عنده؛ لأنه أثبت فيها ملك اليد لنفسه
وحق الحبس، وبهذا كان أحق، من البائع فيكون أحق ممن يلقي الملك من جهته،
وهل يتمكن المرتهن من فسخ هذا البيع؟ روي عن محمد رحمه الله أنه تمكن.
ووجه ذلك: أن حق المرتهن بمنزلة الملك، فإن الثابت له ملك اليد والحبس ومن
باع ملك الغير فإن أجازه المالك يتم البيع، وإن فسخه ينفسخ، فهذا مثله
والصحيح أنه لا يتمكن؛ لأنه لاحق له حتى إذا أجازه كان المشتري متملكاً
العين على الراهن لا على المرتهن، وإنما الثابت للمرتهن حق دفع الضرر عن
نفسه بالحبس إلى أن يصل دينه إليه، وهذا المعنى يوجب توقيف العقد أما لا
يثبت حق الفسخ، والمشتري بالخيار إن شاء فسخ؛ لأن التسليم فات بسبب كان عند
البائع فجعل كأن لم يكن، وإن شاء صبر حتى يفكها الراهن فيأخذها؛ لأن فوات
التسليم بسبب يرجى زواله، فله أن ينتظر ذلك، كما لو أبق العبد المبيع قبل
القبض، فإن اختار المشتري فسخ العقد، وفسخ القاضي العقد وقضى له بالثمن على
البائع، ثم إن البائع قضى المرتهن المال واستردها ليس له أن يلزم
(8/252)
المشتري؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ اعتمد
سبباً ظاهراً، وهو كونها مرهونة، وهذا لم ينعدم من الأصل بل زال بعد تحققه،
فلا يوجب بطلان القضاء على ما مر.
ولو كان الراهن قد قضى الدين وقبض الجارية ثم باعها من هذا المشتري، ثم إن
المرتهن جحد القضاء، وقضى القاضي له بالعبد رهناً، وطلب المشتري من القاضي
أن يفسخ العقد، وفسخ ورد الثمن على المشتري، ثم أقام البائع بينة على قضاء
الدين واستردادها قبل البيع وبأخذها، وأراد أن يلزم المشتري هل له ذلك؟ وقع
في بعض نسخ محمد رحمه الله أن المسألة على التفصيل.
ولو كان المشتري (109ب4) لم يقبضها حتى استحقها المرتهن ليس له ذلك؛ لأن
قضاء القاضي بالفسخ كان باعتبار سبب قائم، وهو عجز البائع عن التسليم، وهذا
لم ينعدم من الأصل، بل ارتفع بعد تحققه، فلا يوجب بطلان القضاء، وإن كان
المشتري قبضها فله أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول، خلافاً لأبي
حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهم الله؛ لأن الجارية إذا كانت مسلمة إلى المشتري
لم يكن قضاء القاضي بالفسخ باعتبار العجز عن التسليم، بل لكونها مرهونة،
وهذا قد انعدم من الأصل، فيبطل قضاء القاضي عند محمد وأبي يوسف الأول على
ما مر.
ووقع في بعض النسخ أن له أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول مطلقاً
من غير تفصيل، وهكذا ذكر صاحب «الكتابٍ» فهذا الإطلاق يدل على ولاية
الإلزام عند محمد وأبي يوسف الأول، سواء كانت الجارية مسلمة إلى المشتري أو
لم تكن، وهو الصحيح، أما إذا كانت الجارية مسلمة فلما قلنا، وأما إذا لم
تكن مسلمة فلأن عجز البائع عن التسليم قد انعدم من الأصل؛ لأن عجز البائع
عن التسليم لكونها مرهونة، وقد انعدم ذلك من الأصل، والله أعلم.
الفصل التاسع والعشرون: في بيان ما يحدث بعد
إقامة البينة قبل القضاء
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد في يدي رجل جاء رجل وادعى أنه عبده،
وأنكر صاحب اليد دعواه، فذهب المدعي ليأتي بالشهود فباع صاحب اليد العبد من
رجل وسلمه إليه، ثم أودع المشتري العبد من البائع، وغاب ثم إن المدعي أعاد
صاحب اليد عند القاضي هذا ليقيم عليه البينة بحقه، فهذه المسألة على وجوه:
إما إن علم القاضي بما صنع ذو اليد أو لم يعلم، ولكن أقر المدعي بذلك، وفي
الوجهين جميعاً لا خصومة للمدعي مع صاحب اليد، وسيأتي جنس هذه المسائل في
كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي بذلك؛ لأن الثابت بالبينة
إذا صحت كالثابت عياناً، فكأن القاضي عاين إقرار المدعي بذلك؛ وإن لم يكن
شيء من
(8/253)
ذلك ولكن صاحب اليد أقام بينة على ما صنع،
وذكر أنه وديعة في يده لفلان بشراء كان بعد الخصومة، فإن القاضي لا يقبل
بينته ولا تندفع عنه الخصومة، وإذا لم تندفع عنه خصومة المدعي، وقضى القاضي
عليه بالعبد ببينة المدعي لو حضر المشتري بعد ذلك، وأقام البينة على الشراء
من صاحب اليد لا تسمع بينته، لا يدعي تلقياً من جهة ذي اليد، وذو اليد صار
مقضياً عليه بالملك المطلق، فكذا من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد، والذي
ذكرنا من دعوى البيع من الغائب، وإيداع الغائب منه كذلك في دعوى الهبة
والصدقة.
ولو كان القاضي لم يقض بشهادة شهود المدعي حتى حضر المشتري دفع ذو اليد
العبد إليه، ويجعل القاضي المشتري خصماً للمدعي، ولا يكلف المدعي إقامة
البينة؛ لأن إقامتها على ذي اليد صحت ظاهراً، فلا يبطل بإقرار ذي اليد،
ويجعل المشتري كالوكيل من ذي اليد، وإذا قضى القاضي بالعبد على المشتري
للمدعي يبطل البيع الذي جرى بينه وبين ذي اليد، ورجع عليه المشتري بالثمن
لاستحقاق المبيع من يده.
وكذلك لو شهد على صاحب اليد رجل واحد، ثم حضر المشتري ودفع العبد إليه
فأقام المدعي شاهداً آخر على المشتري قضى له بالعبد، ولا يكلفه إعادة
الشاهد الأول وكذلك لو أن ذا اليد باع العبد من غيره، ولم يسلمه إلى
المشتري حتى حضر المدعي، فأقام الذي في يده البينة أنه باع من فلان، ولم
يسلمه إليه لا يلتفت إلى بينة ذي اليد، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا
أقام البينة على البيع والقبض ثم الإيداع منه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة على أنه
عبده اشتراه من الذي في يده بألف درهم ونقده الثمن، وأقام ذو اليد بينة إنه
عبد فلان أودعه، فإن الخصومة لا تندفع عنه، وستأتي هذه المسألة مع أجناسها
في كتاب الدعوى، فلو لم يقض القاضي بالعبد حتى حضر المقر له وصدق ذو اليد
فيما أقر له به، فالقاضي يأمر ذا اليد بدفع العبد إلى المقر له؛ لأن
الإقرار من ذي اليد وجد في حال العبد مملوك له ظاهراً ثم يقضي القاضي لمدعي
الشراء بالعبد، ولا يكلفه إعادة البينة على المقر له، لأن بينته صحت ظاهراً
لكون ذي اليد خصماً له من حيث الظاهر، ولم يبطل بإقرار ذي اليد بالعبد
للمقر له؛ لأن إقراره حجة في حقه لا في حق غيره، ويصير الغائب إذا حضر كأنه
هو الوكيل بالخصومة عن ذي اليد؛ لأنه لما أقر له بالملك والخصومة يكون إلى
المالك فقد فوض الخصومة إليه، وصار حاصل مسألتنا في حق المدعي كأنه أقام
شاهدين على ذي اليد بالشري منه، فقبل: إن ترك بينته ويقضي له بالعبد، وكلَّ
ذي اليد رجلاً حتى تخاصم مع المدعي، ولو كان كذلك كان لا يكلف المدعي إعادة
البينة ثانياً كذا هنا.
فإن قال المدعي: أنا أعيد البينة على المقر له كان له ذلك، وكان المقضي
عليه في هذه الحالة المقر له إلا ذو اليد، بخلاف ما إذا قال المدعي: أنا لا
أعيد البينة، فإن المقضي عليه في هذه الصورة ذو اليد لا المقر له.
والفرق: أن المدعي إذا لم يرض بإعادة البينة لم ينفذ إقرار ذي اليد في حق
المدعي
(8/254)
كيلا يلزمه إعادة البينة، فكأن صاحب اليد
لم يقر بذلك، ولو لم يقر كان المدعى عليه ذو اليد، لأن البينة قامت عليه
وهو لم يكن وكيلاً عن المقر له، فأما إذا قال أنا أعيد البينة، فقد رضي
ببطلان ما أقام من البينة على ذي اليد، فنفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي،
فصار المقضي عليه في هذه الصورة المقر له، فلو أن القاضي لم يقض بالعبد
للمدعي على الذي حضر حتى أقام للذي حضر بينته ويطلب بينته ويطلب بينة مدعي
الشراء؛ لأن ببينته بين أن المدعي أقام البينة على غير الخصم، وهذه البينة
من رب العبد ما قبلت لإثبات الملك لرب العبد؛ لأن العبد في يده والملك ثابت
له بظاهر اليد، فلا حاجة له إلى البينة لإثبات الملك لنفسه في العبد، وإنما
قبل لإبطال بينة المدعي، فإن رب العبد بما أقام من البينة أثبت أن المدعي
أقام البينة على غير خصم، والبينة من صاحب اليد على إبطال بينة المدعي
مقبولة، كما لو أقام البينة أن شهود المدعي كفار أو عبيد أو محدودون في
قذف، فإن أقام رب العبد بينة على ما قلنا، ثم أعاد مدعي الشراء البينة على
رب العبد أن العبد كان للذي في يديه، وأنه اشتراه منه بألف درهم، ونقده
الثمن، فهذا على وجهين.
إما أن أعاد البينة على رب العبد بعدما قضى القاضي لرب العبد ببنيته وفي
هذا الوجه لا تقبل بينته؛ لأن مدعي الشراء صار مقضياً عليه من جهة رب
العبد؛ لأن رب العبد إنما أقام البينة على مدعي الشراء، والمقضي عليه إذا
أقام البينة في عين ما قضى عليه لا تقبل بينته إلا أن يدعي تلقي الملك من
جهة المقضي له، ولم يوجد كذا ههنا. وإن كان قبل القضاء تقبل بينة مدعي
الشراء متى أعادها على المقر له، ثم هنا ثلاث مسائل.
أحدها: ما ذكرنا أن مدعي الشراء أقام شاهدين فقبل القضاء له أقر صاحب اليد
بالعبد لإنسان، وصدقه المقر له.
المسألة الثانية: إذا أقام المدعي شاهداً واحداً على الشراء من ذي اليد،
وأقر ذو اليد بالعبد لفلان الغائب، ثم حضر فلان وصدق المقر في إقراره، فإنه
يؤمر بدفع العبد إلى المقر له لما مر في المسألة الأولى، فإن أقام مدعي
الشراء شاهداً آخر على الشراء قضى بالعبد له، ولا يكلفه القاضي إعادة
الشاهد الأول على المقر له لما قلنا في الشاهدين في المسألة الأولى، ويكون
المقضي عليه ذو اليد دون المقر له؛ لأن الشاهد الأول قام على ذي اليد،
والشاهد الثاني قام على المقر له، وأمكن جعل المقر له تابعاً لذي اليد؛
لأنه رضي بتفويض الخصومة إليه، فجعل الشاهد القائم على المقر له قائماً على
ذي اليد كالقائم على المقر له؛ لأن المقر له لم يرض بكون ذي اليد نائباً
عنه في الخصومة، فلهذا جعلنا المقضي عليه ذو اليد دون المقر له، وما ذكر
محمد رحمه الله في «الكتاب» أن القاضي يقضي بشهادة شاهدين على رب العبد
أراد بذلك القضاء في حق الأخذ والانتزاع من يده، لا في حق القضاء بالملك،
بدليل أنه ذكر أن المقر له لو أقام بينة أن العبد عبده قبلت بينته، ولو صار
مقضياً عليه لما قبلت بينته.
(8/255)
المسألة الثالثة: مدعي الشراء إذا لم يقم
البينة على ذي اليد حتى أقر ذو اليد أن العبد لفلان الغائب أودعه إياه، ثم
حضر المقر له وصدقه ودفع العبد إليه، ثم أقام مدعي الشراء البينة على المقر
له، وقضى القاضي بذلك، كان المقضي عليه في هذه الصورة المقر له (110أ4) لأن
إقرار ذي اليد قبل إقامة مدعي الشراء البينة أصلاً صحيح في حق المدعي، إذ
ليس فيه إضرار بالمدعي، فصح وصار الثابت بالإقرار كالثابت بالبينة.
ولو ثبت بالبينة أن الملك له ثم ادعى أن العبد كان لفلان اشتراه منه يقضى
به له، ويصير المقر له مقضياً عليه دون ذي اليد كذا هنا، بخلاف المسألة
الأولى والثانية؛ لأن ثمة إقرار ذي اليد لم يصح في حق المدعي، لأنه لو صح
بطل ما أقام المدعي من البينة، فيتضرر به المدعي بإعادة البينة، هذه الجملة
في الباب الثاني من دعوى «الجامع» .
وفي آخر دعوى الجامع رجل في يده دار، جاء رجل ادعى أنها داره، فطلب القاضي
من المدعي البينة، فقاما من عند القاضي وباع المدعي عليه الدار من رجل
فبيعه صحيح، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي وجاء المدع بشهود يشهدون على
الدار له، وقد علم القاضي ببيع المدعي عليه، أو أقر المدعي بذلك فلا خصومة
بينهما، وإن كانت الدار في يد المدعي عليه.
ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، ثم قاما من عند القاضي فباع المدعى عليه
الدار من رجل فبيعه صحيح، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي، وجاء المدعي
بالشاهد الآخر، فالقاضي لا يسمع خصومة المدعي إذا علم القاضي بالبيع أو أقر
المدعي بذلك.
ولو كان المدعي أقام شاهدين فعدلا، فلم يقض القاضي بشهادتهما، ثم قاما من
عند القاضي، وباع المدعي عليه الدار من المدعي لا يصح بيعه، حتى لو تقدما
بعد ذلك إلى القاضي، فالقاضي يقضي عليه بتلك البينة، وإن أقر المدعي ببيعه
أو علم القاضي بذلك فرق بين الشاهد وبين الشاهدين.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: أنه سوى بين الشاهد الواحد وبين
الشاهدين، وأبطل بيع المدعى عليه وبينته في الفصلين جميعاً، ووجه الفرق على
ظاهر الرواية: أن بإقامة الشاهدين إن لم يثبت حقيقة الملك للمدعي في المدعى
به يثبت حق الملك لوجود الحجة بكمالها، ولا حق الملك للمدعي في المدعى به
بمنع صحة بيع المدعى عليه صيانة لحق المدعي، فالمدعي إنما أقر ببيع باطل،
والقاضي علم بيعاً باطلاً، فلا يصلح ذلك دافعاً خصومة المدعي لها بإقامة
الشاهد الواحد، كما لم يثبت حقيقة الملك للمدعي لم يثبت حق الملك لنقصان في
الحجة، فكان تصرف المدعى عليه حاصلاً في خالص ملكه فصح، فالمدعي أقر ببيع
صحيح، والقاضي علم بيعاً صحيحاً فصلح دافعاً خصومة المدعي.
وقد فرق في هذه المسألة بين الشاهد الواحد وبين الشاهدين وفي مسألة الإقرار
التي تقدم ذكرها، وهو ما إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل وأقام المدعي
بالدار لرجل آخر، ثم جاء المدعي بالشاهد الآخر أو ظهرت عدالة الشاهدين
والدار في يد المقر بعد،
(8/256)
فالقاضي يقضي على المقر، وسوى بين الشاهدين
وبين الشاهد الواحد، والفرق أن الإقرار إخبار، وفي الإخبار الأصل أنه إذا
تضمن إلحاق الضرر بالغير أن يعتبر كذباً في حق ذلك الغير، والإقرار بعد
الشاهد الواحد يضمن إلحاق الضرر بالمدعي، فإنه متى صح الإقرار يلزم المدعي
إعادة ما أقام من الشاهد الواحد على المقر له، عسى يمكنه ذلك وعسى لا
يمكنه، فاعتبر كذباً في حق المدعي فلم يصح، فأما البيع وما أشبهه أشياء
تصرف، وتهمة الكذب لا تتأتى في الأنساب، فلا يمكننا رد بيعه من هذا الوجه،
وطلبنا للرد وجهاً آخر، فقلنا: إذا تضمن تصرف المدعى عليه إبطال ملك أو حق
ملك أو يد استحقه على الغير يرد ومالا فلا، وبعد إقامة الشاهد الواحد لم
يضمن تصرفه إبطال شيء من ذلك فلم يصح.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله رجل: ادعى داراً في يدي رجل وجحد
المدعى عليه، فسئل الطالب البينة فذهب في طلب البينة وباع المدعى عليه
الدار فالبيع جائز، وإن كان قد أقام المدعي البينة، ثم باعها المدعى عليه،
قال محمد رحمه الله: إن قدرت على المشتري أبطلت البيع، وإن لم أقدر عليه
وعدلت البينة خيرت المدعي، فإن شاء أخذ من البائع قيمتها، وإن شاء وقف
الأمر حتى يقدم المشتري به.
قال: رجل في يديه عبد ادعاه رجلان، كل واحد منهما يقيم البينة أنه عبده،
أودعه الذي هو في يديه، وذو اليد يجحد ذلك أولا يجحد، ولا يقر بل يسكت، فلم
يقض القاضي بشهادة الشهود، لعدم ظهور عدالتهم، حتى أقر ذو اليد لأحدهما
بعينه أنه عبده أودعنيه، فإن القاضي يدفع العبد إلى المقر له لما مر.
فإذا عدلت الشهود قضى بالعبد بينهما نصفين، وكان ينبغي أن يقضي بجميع العبد
للذي لم يقر له ذو اليد؛ لأن المقر له لما صدق ذا اليد فيما أقر وأخذ العبد
صار العبد ملكاً له رقبة ويداً، فصار المقر له مع صاحبه بمنزلة الخارج مع
ذي اليد إذا أقاما البينة على الملك المطلق، فيقضى بكل العبد للخارج.f
واعتبره بما لو أقر ذو اليد لأحدهما قبل أن يقيما البينة، ثم أقام كل واحد
منهما بينة على ما ادعى كان العبد كله للذي لم يقر له ذو اليد، لما قلنا
فههنا كذلك.
والجواب: وهو الفرق بينما قبل إقامة البينة وبينما بعدها أن التزكية لا
تجعل البينة حجة، بل يظهر من ذلك الوقت أن كونها حجة مبنية للاستحقاق من
ذلك الوقت، فمتى كان الإقرار بعد إقامة البينة، فعند ظهور العدالة يظهر
الاستحقاق قبل الإقرار، فيظهر أن الإقرار كان باطلاً لصدوره عن شخص ظهر أنه
ليس بمالك، ومتى بطل الإقرار بطل التصديق ضرورة؛ لأنه مبني عليه، فصار وجود
الإقرار وعدمه بمنزلة، فأما إذا كانت الشهادة بعد الإقرار فبظهور العدالة
لا يظهر الاستحقاق قبل الإقرار، فلا يتبين بطلان الإقرار، وإذا لم يبطل
الإقرار صار المقر له صاحب يد، وغير المقر له خارجاً، فيقضي ببينة الخارج.
ولو أقام كل واحد من المدعيين شاهداً واحداً على ما ادعاه، ثم أقر ذو اليد
بالعبد لأحدهما يدفع العبد إليه، ولا يبطل ما أقام كل واحد منهما من الشاهد
الواحد، فإن أقام
(8/257)
غير المقر له شاهداً آخر قضى بالعبد له؛
لأن الشاهد الثاني يضاف إلى الشاهد الأول، فصار كأنه أقام شاهدين، ولم يقم
الآخر إلا شاهداً واحداً، فإن لم يقض له حتى جاء المقر له بشاهد آخر قضى
بالعبد بينهما نصفان؛ لأن إقرار المقر يلحق بالعدم فيما يرجع إلى إبطال ما
أدى من الشهادة، ولو انعدم حقيقة، وأضاف كل واحد منهما إلى شهادة شاهد آخر
قضى بينهما كذا هنا، إلا أن يقول الذي لم يقر له ذو اليد قبل أن يقضي
القاضي بالعبد نصفان: أنا أعيد شاهدي الأول وأقيمها مع الشاهد الآخر على
المقر له قبل أن يقضي القاضي بالعبد بينهما فحينئذٍ يقضي بكل العبد له؛
لأنه حينئذٍ إيراد اليد عن الخصومة، وأبطل ما أقام عليه من الشهادة، وعدم
نفاذ إقرار ذي اليد في حق غير المقر له، إنما كان نظراً له كيلا يبطل ما
أقام من الشهادة، فإذا رضي به نفذ ووقع الدعوى بين المقر له وهو ذو اليد
وبين غير المقر له وهو الخارج، فعند إقامتهما البينة يقضى للخارج.
ولو قال غير المقر له قد مات شاهدي الأول أو غاب، يقال له: هات بشاهد آخر
على المقر له يقضى لك بكل العبد؛ لأن شهادة الأول لم يبطل بالموت والغيبة،
فكان موته وغيبته وبقاؤه حياً على السواء، فإذا أقام شاهداً آخر مع شهادة
الأول أو يقيم شاهدين مستقلين، فيكون بينهما فرق، بينما لو أقام غير المقر
له شاهدين مستقلين على المقر له وبينما لو أقام المقر له، شاهدين مستقلين
يقضى بكل العبد له، وقال: إذا أقام المقر له شاهدين مستقلين يقضى بالبينة
بينهما، والفرق بينهما: وهو أن لغير المقر له أن يستأنف الخصومة مع المقر
له ويبرئ المقر عن الخصومة؛ لأن ما يدعيه غير المقر له، في يد المقر له
فإذا أقام شاهدين مستقلين فقد أبرأ المقر، وخاصم المقر له، فصار المقر له
خصماً، وهو ذو اليد، وغير المقر له خارج، فيقضى بالعبد للخارج، فأما المقر
له لا يمكنه أن يجعل للذي ليس بمقر له خصماً، فيستأنف الخصومة معه لأنه لا
يد لغير المقر له، فاعتبر إقامة الشاهدين على الخصومة الأولى فبقيا خارجين
فيقضي بالعبد بينهما.
لهذا فإن قيل: إن لم يمكن أن يجعل إقامة شاهدين مستقلين من المقر له على
سبيل استئناف الخصومة مع المدعي لاستحقاق العبد عليه، يمكن أن يجعل هذا منه
إبطالاً لما أقام غير المقر له من الشاهد الأول الذي أقامها على المقر، كما
جعل فيما تقدم.
وهو ما إذا ادعى رجل على ذي اليد الشراء منه وأقام البينة على ذلك وادعى ذو
اليد أنه لفلان أودعه، فقبل أن يقضي القاضي ببينة مدعي الشراء، حضر فلان
وأقام البينة أنه له أودعه (110ب4) من ذي اليد حيث يبطل به بينة مدعي
الشراء فهاهنا كذلك، والجواب ثمة أمكن، فيقول بينته على إبطال بينة مدعي
الشراء؛ لأن المقر له بينته تثبت أن مدعي الشراء أقام البينة على مودعه وهو
غائب، وبينة المدعي على المودع حال غيبة المودع باطلة، فأمكن قبول بينته
لإبطال بينة المدعي، أما في مسألتنا لا يمكن قبول بينة المقر له على إبطال
ما أقام على المقر له من الشاهد؛ لأن أكثر ما في الباب أنه يثبت أن غير
المقر له أقام البينة على المودع، لكن المقر له حاضر، وبينة المدعي على
المودع حال حضرة المودع مقبولة، ولهذا افترقا.
(8/258)
عبد في يدي رجل أقام رجلان كل واحد منهما
البينة على أنه عبده، أودعه إياه وذو اليد جاحد أو ساكت، فقضى بالعبد
بينهما نصفان، ثم إن أحدهما أقام على صاحبه تلك البينة أو غيرهما أن العبد
عبده لم ينتفع بتلك البينة، ولا يقضي له على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد منهما
صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه، لأنه ببينته استحق الكل،
ولولا بينة صاحبه لقضي له بكل العبد، فإنما حرم كل واحد عن النصف بينة
صاحبه، فصار هو مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً له في غير ذلك الشيء.
فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي صار
لصاحبه، ولم يكن له في ذلك النصف ملك قبل القضاء لصاحبه؟
قلنا: إن لم يكن فيه ملك كان له حق الملك؛ لأنه أقام البينة أن الكل له،
وإنها توجب حقيقة الملك عند اتصال القضاء بها يوجب حق الملك، وحق الملك
معتبر بحقيقة الملك، ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه، فكذا هنا ولو عدلت
بينة أحدهما ولم تعدل بينة الآخر، أو لم يقم الآخر شاهداً أصلاً أو أقام
شاهداً واحداً، فقضى به لمن عدل بينته، ثم جاء الآخر ببينة عادلة قضى له به
لأنه لم يصر مقضياً عليه به من جهة صاحبه؛ لأنه لم يكن له في المقضي به لا
حقيقة الملك ولا حق الملك لعدم الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان
بإزالة الاستحقاق الثابت له، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له كيف يتصور إزالته؟
فعلم أنه لم يصر مقضياً عليه، فيسمع دعواه وبينته بعد ذلك، فلو أقام أحدهما
البينة، فلم تزكَ بينته حتى أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه
إياه، ودفع القاضي العبد إلى المقر له، ثم زكيت بينة الذي أقامها وأخذ صاحب
البينة العبد من المقر له، ثم إن المقر له أتى ببينته أنه عبده أودعه إياه
ذو اليد، قبلت بينته وقضى له بالعبد؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن
بينة غير المقر له، قامت على ذي اليد وجعل المقر له كالوكيل له لما مر.
فإن قيل: الملك يثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وتصديق المقر له إياه، ثم
استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي، فيجعل المقر له مقضياً عليه، قلنا: إقرار
ذي اليد كان بعد إقامة المدعي البينة على ذي اليد، وعند ظهور عدالة الشهود
يثبت الاستحقاق من وقت الشهادة، فيظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً؛ لأنه
ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقراره بطل تصديق المقر له لكونه
بناء عليه، وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجوده والعدم بمنزلة.
ولو عدما وباقي المسألة بحاله كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده، دون
المقر له كذا هنا.
وكذا لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحبه ببينته، يقضي
للمقر له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن بينة صاحبه قامت على
مودع المقر له، وهو ليس بخصم، والبينة متى قامت على غير خصم كان باطلاً.
فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على مودع المقر له إنما يبطل إذا كان المقر
له
(8/259)
غائباً وقت إقامة البينة على مودعه، أما
إذا كان حاضراً كانت مقبولة فيما تقدم كإقامة البينة على المقر له، وهنا
المقر له كان حاضراً وقت إقامة المدعي البينة.
قلنا: المقر له وإن كان حاضراً وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يده
حقيقة هنا لكنه غائب حكماً، لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة؛ لأنه
لم يكن للمقر له في العبد لا ملك ولا حق، ولم يثبت له زيادة خصوصية بهذا
العبد من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يقضى له،
فصار غائباً حكماً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إن لم يكن للمقر له حقيقة الملك
ولا حق الملك بإقامة الشاهد الواحد، لكن له زيادة خصوصية في هذا العبد من
سائر الأجانب، لأنه صار بحال يستحق هذا العبد بإقامة شاهد واحد، وكانت
خصومته معتبرة وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فكان حاضراً حقيقة
واعتباراً بخلاف ما نحن فيه على ما مر.
فإن قال المدعي فهو غير المقر له أنا أعيد شهودي على المقر له، هل يقبل
بينته؟ فهذا على وجهين:
إن كان ذلك قبل القضاء بينة المقر له قبلت بينة المدعي؛ لأنه لم يصر مقضياً
عليه، ثم يقضي له بجميع العبد؛ لأنه لما أعاد البينة فقد أراد اليد عن
الخصومة، ورضي بنفاذ إقراره واستأنف الخصومة، مع المقر له على ما مر،
فتقررت يد المقر له واجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد، فكانت بينة الخارج
أولى بالقبول.
الفصل الثلاثون: في بيان من يشترط حضرته لسماع
الخصومةوالبينة وحكم القاضي وما يتصل بذلك
إذا استحق العبد من يد مشتريه بالملك المطلق، وقضى القاضي بالعبد للمستحق،
وقصر يد المشتري عن العبد، ورجع المشتري على بائعه بالثمن، فأقام البائع
البينة أن هذا العبد نتج في ملكي من أمتي، وإن القضاء للمستحق وقع باطلاً،
وليس لك حق الرجوع علي بالثمن، قبلت بينته إذا أقامها بحضرة المستحق.
إليه أشار في «السير الكبير» في آخر باب صاحب الساق وإنما قبلت بينته؛ لأنه
بهذه البينة يدفع استحقاق الثمن، فكان خصماً في إقامتها فقبلت بينته.
وكذلك إذا أقام البائع البينة على أن هذا العبد نتج في ملك بائعي من أبيه
قبلت بينته إذا أقامها بحضرة المستحق لما قلنا.
فإن قيل: كيف يقبل بينة البائع في هاتين الصورتين وإن البائع صار مقضياً
عليه بالقضاء على المشتري لما مر أن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء
عليه، وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته.
قلنا: نعم، البائع صار مقضياً عليه ولكن بالملك المطلق لا بالنتاج، والبائع
هنا لا يقيم البينة على الملك المطلق، وإنما يقيم البينة على النتاج،
والمقضي عليه بجهة إنما لا يقبل بينته في الجهة التي صار مقضياً عليه، لا
في جهة أخرى، ألا ترى أن من ادعى دابة
(8/260)
في يد إنسان ملكاً مطلقاً، وصاحب اليد يدعي
النتاج، فلم يجد بينة على النتاج، حتى قضى القاضي بالدابة للمستحق، ثم وجد
صاحب اليد بينة على النتاج، وأقامها قبل بينته وقضى بالدابة له، وإن صار ذو
اليد مقضياً عليه؛ لأنه صار مقضياً عليه بالملك لا بالنتاج، فقبلت بينته
على النتاج لهذا.
ثم إن محمداً رحمه الله شرط حضرة المستحق لقبول هذه البينة من البائع.
وبعض مشايخنا أبو ذلك، وقالوا: ينبغي أن لا يشترط حضرة المستحق، وهكذا حكى
شمس الأئمة السرخسي رحمه الله نوعان وهذا لأن هذه البينة من البائع لدفع
استحقاق المشتري الثمن عن نفسه، وهذا معنى يخص المشتري، فلا حاجة إلى إشراط
حضرة المستحق، وبعض مشايخنا قالوا: لا بل حضرة المستحق شرط، كما أشار محمد
رحمه الله؛ لأن هذه البينة تتعدى إلى المستحق، فإن هذه البينة متى قبلت
بأخذ المشتري العبد من المستحق، فلا بد من حضرته وقيل على قياس قول محمد
وأبي يوسف الآخر: حضرة المستحق شرط، وعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف
الأول رحمهما الله: لا يشترط حضرته، وهذا القول أشبه وأظهر.
ووجه ذلك أن قضاء القاضي بالعبد للمستحق في هذه الصورة نفذ ظاهراً لا
باطناً، وانفسخ العقد ظاهراً لا باطناً، فكان للمشتري أن يأخذ العبد من
المستحق، فهذه البينة تتعدى إلى المستحق، فيشترط حضرته، فأما على قول أبي
حنيفة وأبي يوسف الأول فقضاء القاضي نفذ ظاهراً وباطناً وانفسخ العقد
ظاهراً وباطناً، فلا يتمكن المشتري من أخذ العبد من المستحق، فهذه البينة
لا تتعدى إلى المستحق، فلا يشترط حضرته.
قال في الزيادات: وإذا اشترى الرجل من أخر جارية، ولم يقبضها حتى استحقها
رجل بالبينة، فالقاضي لا يسمع بينة المستحق، ولا يقضي له بالجارية، ما لم
يحضر البائع المشتري، وقد مرت هذه المسألة في الفصل المتقدم.
ولو كان الاستحقاق (111أ4) بعد القبض لا يشترط حضرة البائع، وفي دعوى
المستأجر يشترط حضرة الآجر والمستأجر؛ لأن الملك للآجر، واليد للمستأجر،
وكذلك في دعوى الرهن يشترط حضرة الراهن والمرتهن؛ لأن الملك للراهن واليد
للمرتهن، وإذا أراد الشفيع الأخذ بالشفعة، وكان ذلك قبل قبض المشتري
المشترى يشترط حضرة البائع والمشتري للقضاء بالشفعة؛ لأن الملك للمشتري
واليد للبائع، وإذا استحق المستعار رجل بالبينة يشترط للقضاء له حضرة
المعير والمستعير جميعاً.
وفي دعوى الضياع هل يشترط حضرة الزارعين؟ اختلف المشايخ فيه.
بعضهم شرطوا وبعضهم لم يشترطوا، وبعضهم قالوا: إن كان البذر من قبلهم يشترط
حضرتهم؛ لأنهم مستأجرون للأراضي، وإن كان البذر من قبل رب الأرض لا يشترط
حضرتهم؛ لأنهم أجروا رب الأرض، وكذلك اختلف المشايخ في اشتراط حضرة غلة
(داد در) دعوى بقمحها.
(8/261)
وإذا ادعى رجل نكاح امرأة ولها زوج ظاهر
يشترط حضرة الزوج الظاهر لسماع الدعوى والبينة، وإذا مات الرجل وترك أشياء
يمكن نقلها وعليه دين مستغرق لتركته، وليس له وارث ولا وصي، فالقاضي ينصب
له وصياً ليبيع تركته، ولا يشترط إحضار التركة لنصب الوصي، وهل يشترط
إحضارها لإثبات التركة؟ فقد قيل: يشترط، وقد قيل: لا يشترط وإذا قامت
البينة على إفلاس المحبوس لا يشترط لسماعها حضرة رب الدين، ولكن إن كان رب
الدين حاضراً أو وكيله حاضراً، فالقاضي يطلقه بكفيل.
ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : رجل قدم رجلاً إلى القاضي، وقال
إني زوجت أمتي هذا على صداق كذا بأمرها وهي بكر، وأنا أريد صداقها، فإن أقر
الزوج بالنكاح والمهر ولم يدع الدخول بها، فالقاضي يأمر الزوج أن يدفع
المهر إلى الأب، ولا يشترط إحضار المرأة عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي
يوسف الأول. وقال زفر: يشترط حضرتها، وهو قول أبي يوسف آخراً، والصحيح قول
أبي حنيفة ومحمد؛ لأن العادة الظاهرة فيما بين الناس أن الزوج يسلم الصداق
أولاً، ويجهز الولي المرأة بذلك، ثم يسلمها مع جهازها إلى الزوج، فصار
الزوج راضياً بتأخير تسليم المرأة، فلا معنى لاشتراط إحضارها.
ولو ادعى رجل على صغير شيئاً وله وصي حاضر يريد به الصغير المحجور عليه، لا
يشترط حضرة الصغير، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب القسمة، ولم يفصل
بينما، إذا كان المدعى به ديناً أو عيناً وجب الدين بمباشرة هذا الوصي، أو
وجب لا بمباشرته، وذكر الناطفي في «أجناسه» : إذا كان الدين واجباً بمباشرة
هذا الوصي لا يشترط إحضار الصغير.
وفي «أدب القاضي» للخصاف: إذا وقع الدعوى على الصبي المحجور إن لم يكن
للمدعي بينة لا يكون له حق إحضار الصغير، وإن كان للمدعي بينة، والمدعي
يدعى الاستهلاك فله حق إحضاره؛ لأن الصبي مؤاخذ بأفعاله، والشهود يحتاجون
إلى الإشارة إليه، فكان له حق إحضاره، ولكن يحضر معه أبوه حتى إذا لزم
الصبي شيء يؤدي عنه أبوه من ماله. وفي كتاب «الأقضية» : أن إحضار الصبي في
الدعاوى شرط، وبعض المتأخرين من مشايخنا من شرط ذلك، سواء كان الصغير
مدعياً أو مدعى عليه، ومنهم من أبى ذلك.
وإذا لم يكن للصبي وصي يطلب المدعي من القاضي أن ينصب عنه وصياً، أجابه
القاضي إلى ذلك، ويشترط حضرة الصغير عند نصب الوصي للإشارة إليه هكذا ذكر
في «الفتاوى» وفي كتاب «الأقضية» : ومن مشايخ زماننا من أبى ذلك وقال: أو
كان الصبي في المهد اشترط إحضار المهد لا شك أن اشتراط بعيد، وقال: ألا ترى
أنه لو وقع الدعوى على امرأة مخدرة أو على مريض لا يشترط إحضارهما، والصبي
أعذر، والأول أقرب إلى الصواب وأشبه بالفقه؛ لأن المعنى الذي لأجله شرط
حضرة البائع إذا كان مدعياً أو مدعى عليه، وهو قطع الشبهة والتهمة
بالإشارة، وذلك المعنى موجود في حق
(8/262)
الصبي، ولا يبعد إحضار المهد إذا وقعت
الحاجة إليه.
وفيما إذا وقع الدعوى على مريض أو امرأة مخدرة، فقد ذكرنا قبل هذا أن
القاضي يبعث أميناً من أمنائه مع شاهدين، يشهدان على إقرارهما ونكولهما،
فإذا أقرا أو نكلا أمرهما الأمين أن يوكلا وكيلاً، ويكون توكيلهما بمحضر من
الأمين بمنزلة توكيلهما بمحضر من القاضي، فتنقطع الشبهة والتهمة على أن ثمة
ضرورة، وهو إيفاء الستر على المرأة، وصيانة المريض عن ضرر زائد يلحقه بسبب
الحضور بمجلس الحكم، ولا ضرورة في الصبي، حتى لو انعدمت الضرورة ثمة أيضاً
بأن كانت بزرة تخالط الرجال، ولا يلحق المريض ضرر زائد بالحضور مجلس الحكم،
يشترط إحضارهما أيضاً.
وفي «المأذون الكبير:» العبد المأذون إذا لحقه دين التجارة، وطلب الغرماء
من القاضي بيع العبد، فالقاضي لا يبيع العبد إلا بحضرة المولى، فرق بين
رقبة العبد وبين كسبه، فإن كسب العبد يباع وإن لم يكن المولى حاضراً،
والفرق أن الخصم في رقبة العبد المأذون المولى دون العبد، ألا ترى أنه لو
ادعى إنسان حقاً في رقبة العبد كان الخصم هو المولى، فيشترط حضرة المولى أو
حضرة نائبه لبيع العبد لهذا، فأما الخصم في كسب العبد هو العبد دون المولى،
ألا ترى أنه لو ادعى إنسان في كسبه حقاً كان الخصم في ذلك هو العبد، ولما
كان الخصم في أكساب العبد هو العبد يشترط حضرة العبد.
وفيه أيضاً: إذا شهد شاهدان على العبد المأذون بغصب اغتصبه أو بوديعة
استهلكها أو جحدها، أو شهدوا عليه ببيع أو شراء أو بإجارة، وأنكر العبد ذلك
ومولاه غائب قبلت شهادتهما، ولا يشترط حضور المولى؛ لأنهم شهدوا على
المأذون بضمان التجارة، لأن ما يجب بالأسباب التي شهد بها الشهود ضمان
التجارة، والخصم في ضمان التجارة المأذون.
ولو كان مكان العبد المأذون عبد محجور عليه إذا شهد عليه شاهدان باستهلاك
مال أو غصب اغتصبه، وجحد العبد ذلك لا تقبل هذه الشهادة، إلا بحضرة المولى؛
لأن العبد المحجور فيما يدعى عليه من استهلاك المال ليس بخصم، وقول محمد في
هذه المسألة: إن الشهادة لا تقبل.
معناه: أنها لا تقبل على المولى، حتى لا يخاطب المولى ببيع العبد، أما تقبل
الشهادة على العبد، ويقضي القاضي عليه حتى يؤاخذ به بعد العتق، هكذا ذكر
شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح المأذون» ، وهذا لأن المدعي ادعى على العبد
الاستهلاك ووجوب الدين في ذمته، وادعى على المولى بيع العبد بالدين، فلئن
تعذر القضاء على المولى لغيبته أمكن القضاء على العبد، فيقضي القاضي على
العبد، حتى إذا عتق يؤاخذ به.
وإن كان المولى حاضراً مع العبد فإن كان المدعي ادعى استهلاك الوديعة أو
استهلاك بضاعة على العبد المحجور، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
القاضي لا يسمع هذه البينة على المولى؛ لأن المدعي لا يدعى شيئاً على
المولى في هذه
(8/263)
الصورة، فإن العبد المحجور إذا استهلك
وديعة عنده، أو بضاعة عنده لا يجب على المولى شيء، ولكن يؤاخذ به بعد
العتق، وعند أبي يوسف رحمه الله تسمع البينة على المولى؛ لأن المدعي يدعي
على المولى بيع العبد في الدين، أو قضاء الدين من ماله، ألا ترى أنه لو ثبت
ذلك من العبد معاينة يؤاخذ المولى عبده ببيع العبد، وإن شهد الشهود على
إقرار العبد بذلك لا يقضي على المولى بهذه البينة، سواء كان حاضراً أو
غائباً، ألا ترى أنه لو ثبت إقرار العبد بذلك معاينة لا يؤاخذ المولى بشيء،
فكذلك إذا ثبت بالبينة، والصبي الذي أذن له أبوه أو وصي أبيه في التجارة
بمنزلة العبد المأذون له في التجارة، إذا شهد الشهود عليه بما هو من ضمان
التجارات قبلت شهادتهم عليه، وإن كان الذي أذن له غائباً.
وإذا شهد الشهود على العبد المأذون بقتل عمد أو قذف امرأة أو زنى أو بشرب
خمر والعبد ينكر، فإن كان المولى حاضراً قضى بذلك على العبد بلا خلاف، وإن
كان العبد حاضراً والمولى غائباً، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
القاضي لا يقضي عليه بشيء، لأن المستحق بعض هذه الأشياء دم العبد ومال
المولى، وبعضها نفس العبد ومال المولى، فكان الخصم العبد والمولى جميعاً
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يقضي عليه بالحد والقصاص، كما لو أقام
البينة عليه بالحد أو القصاص قبل الإذن، وإن كان الشهود شهدوا على إقرار
العبد، وإن شهدوا على إقراره بالحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا، وشرب
الخمر، لا تقبل هذه الشهادة بالإجماع، لأنهم شهدوا على إقرار مرجوع عنه،
وإن شهدوا على إقراره بالقذف أو بالقتل العمد تقبل البينة حال حضرة المولى،
ويقضي بالقصاص، وحد القذف وإن كان المولى غائباً فالمسألة على الخلاف، وإن
قامت البينة على إقرار العبد؛ لأن إقرار الذي هو سبب لثبوت القصاص على.g
....... ثبت بالبينة فيعتبر كما لو قامت البينة على (111ب4) القتل والقذف،
وهناك يشترط حضرة المولى عندهما، خلافاً لأبي يوسف كذا هنا.
ولو شهد الشهود على صبي مأذون له، أو معتوه مأذون له بقتل عمد أو قذف أو
شرب خمر أو زنى، ففيما عدا القتل لا تقبل الشهادة، سواء كان الآذن حاضراً
أو غائباً، وفيما إذا شهدوا بالقتل إن كان الآذن حاضراً تقبل الشهادة،
ويقضى بالدية على العاقلة، وإن كان الآذن غائباً لا تقبل الشهادة؛ لأن
القتل غير داخل تحت الآذن؛ لأن الداخل تحت الإذن التجارة والقتل ليس
بتجارة، وما لم يدخل تحت الإذن، فالحال فيه بعد الإذن والحال فيه قبله
سواء، وقبل الآذن قامت البينة وقضى بالدية على العاقلة، وإن كان غائباً لا
تقبل، فكذا بعد الآذن.
وإن شهدوا على إقرار الصبي والمعتوه بعض ما ذكرنا لا تقبل الشهادة، سواء
كان الآذن حاضراً أو غائباً، وإن شهدوا على عبد مأذون له بسرقة عشرة دراهم
أو أكثر وهو
(8/264)
يجحد، فإن كان مولاه حاضراً قطع عندهم
جميعاً، وهل يضمن السرقة إن كان استهلكها؟ لا يضمن، وإن كانت قائمة ردها
على المسروق منه، وإن كان المولى غائباً لا يقطع العبد عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله، ويضمن السرقة الخصم في القطع المولى والعبد، والخصم في مال
العبد، وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي بالقطع؛ لأن الخصم في حق القطع العبد
لا غير والعبد حاضر وإن كان الشهود شهدوا بسرقة أقل من عشرة دارهم قضى
القاضي بالمال، ولا يقضي بالقطع سواء كان المولى حاضراً أو غائباً.
وإن كان الشهود شهدوا على إقرار المأذون بسرقة عشرة دراهم والمولى غائب،
فالقاضي يقضي بالمال على العبد، ولا يقضي بالقطع في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه بالله: يقضي بالقطع ولو شهدوا على عبد
محجور بسرقة عشرة دراهم أو أكثر، فإن كان المولى غائباً، فالقاضي لا يقضي
عليه بشيء لا بالقطع ولا بالمال عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله؛ لأن الخصم
في حق القطع العبد لا غير، والعبد حاضر وإن كان الشهود شهدوا على إقرار
العبد المحجور بالسرقة، فالقاضي لا يقبل هذه البينة أصلاً، إن كان المولى
غائباً وإن كان حاضراً لا يسمع البينة على المولى حتى لا يقطع العبد، ولا
يؤاخذ المولى ببيعه لأجل المال، ولكن يؤاخذ العبد به بعد العتق.
وإذا وهب الرجل لعبد رجل جارية، ثم أراد الدخول فيها، واختصموا إلى القاضي،
ومولى العبد غائب فإن كان العبد مأذوناً فالقاضي يقضي له بالرجوع، وإن كان
محجوراً لا يقضي له بالرجوع ما لم يحضر المولى.
أما الأول فلأن الواهب يدعي حقاً فيما في يد المأذون من كسبه، ويده يد
معتبرة على ما في يده، ولهذا لو باع ما في يده يجوز، فكان رجوع الواهب
إبطال يد العبد فكان هو الخصم في ذلك، فلا يشترط حضرة المولى.
وأما الثاني فلأن يد المحجور على ما في يده ليست بيد معتبرة، ألا ترى أنه
لو باع ما في يده لا يجوز، بل يده يد المولى حكماً، فكان رجوع الواهب إبطال
يد المولى حكماً، فيشترط حضرة المولى، فإن قال العبد: أنا محجور، وقال
الواهب: أنت مأذون، ولي أن أرجع فيها قبل حضور مولاك، فالقول قول الواهب مع
يمينه استحساناً؛ لأن الهبة حين وقعت وقعت موجبة للرجوع، فالعبد بقوله: أنا
محجور يدعي تأخير حق الواهب في الرجوع إلى أن يحضر المولى، والتأخير نوع
إبطال، فكان القول قول الواهب، وإن أقام العبد البينة أنه محجور لا تقبل
بينته، هذا إذا كان المولى غائباً والعبد حاضر، فإن كان المولى حاضراً
والعبد غائب، فإن كان الموهوب في يد العبد لم يكن المولى خصماً، لأن الواهب
لا يدعي على المولى عيناً في يده، ولا حقاً في عين في يده ولا ديناً في
ذمته، والإنسان إنما ينتصب خصماً لغيره، يأخذ هذه الوجوه، وإن كانت الهبة
في يد المولى، فهو خصم، لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه؛ لأن الموهوب من
العبد ملك المولى إذا لم يكن على العبد دين، ولم يعرف دين هنا.
(8/265)
ومن ادعى حقاً في عين في يد إنسان، وذو
اليد يدعى أنه ملك له ينتصب خصماً للمدعي وإن قال المولى: أودعني هذه
الجارية عبدي فلان، ولا أدري أوهبتها له أم لا، فأقام المدعي بينة على
الهبة، فالمولى خصم؛ لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه، فينتصب خصماً لمن
يدعي أنه ملكه، والله أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون: في نصب الوصي والقيم
وإثبات الوصاية عند القاضي
وإذا ترك الرجل مالاً في البلدة التي فيها، وورثته في بلدة أخرى، فادعى
عليه قوم حقوقاً وأموالاً، هل ينصب القاضي عن الميت وصياً ليثبت الغرماء
الديون والحقوق على الميت؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» أن هذه البلدة إن
كانت منقطعة عن تلك البلدة، ولا يذهب الغير من ههنا إلى ثمة، ولا يأتي
كتاب، للقاضي أن ينصب وصياً.
وذكر الخصاف في «نفقاته» في باب نفقة المرأة إذا مات الرجل، ولم يوصي إلى
أحد، وله أولاد صغار وكبار، فالقاضي ينصب وصياً في ما له.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وللقاضي أن ينصب الوصي في مال الميت في
ثلاث مواضع.
أحدها: أن يكون على الميت دين، أو يكون الورثة صغار، أو يكون الميت أوصى
بوصايا، فينصب وصياً لينفذ وصاياه، فإنما ينصب الوصي في هذه المواضع، وفيما
عداها فلا. وما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لا يخالف ما ذكره شمس الأئمة
الحلواني رحمه الله؛ لأن المراد مما ذكره شمس الأئمة نصب الوصي لقضاء
الدين، والمراد مما ذكر الخصاف ونصب الوصي لإثبات الدين.
وإذا هلك الرجل وترك عروضاً وعقاراً، وعليه ديون وله ورثة كبار، فامتنعت
الورثة عن قضاء الدين وعن بيع التركة، وقالوا لرب الدين سلمها التركة إليك
وأعلم به فالقاضي هل ينصب وصياً للميت؟ فقد قيل: ينصب، وقد قيل: لا ينصب،
ويأمر الورثة بالبيع، فإن أبوا حبسهم حتى يبيعوا، وهذا القائل يقيس هذا على
العدل في باب الرهن إذا كان سلطان على البيع وأبى البيع فالقاضي يجبره على
البيع بالحبس؛ لأنه امتنع عن إيفاء ما هو مستحق عليه كذا هنا، فإذا حبسه
القاضي ولم يبع الآن يبيع بنفسه أو ينصب وصياً للميت ليبيع الوصي إيفاء
صاحب الدين بقدر الممكن، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن مات ولم
يترك شيئاً، وعليه دين وأراد الغريم إثبات دينه فله ذلك، يقيم البينة على
الورثة إن كان له ورثة وكانوا حضوراً، وإن لم يكن له ورثة إذا كانوا غيباً،
فالقاضي ينصب له وصياً حتى يثبت الدين عليه، وهذا الجواب يخالف ما ذكره
الخصاف رحمه الله في المسألة المتقدمة.
وإذا انصب القاضي وصياً في تركة الأيتام والأيتام في ولايته، ولم تكن
التركة في ولايته أو كانت التركة في ولايته، حكي عن الشيخ الإمام شمس
الأئمة الحلواني رحمه
(8/266)
الله إنه قال: يصح النصب على كل حال،
ويعتبر التظالم والاستعداء، ويصير الوصي وصياً في جميع التركة، أينما كانت
التركة. وقال القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله: ما كان من التركة في
ولايته يصير وصياً فيه ومالا فلا، وقيل أيضاً: شرط صحة النصب كون اليتيم في
ولايته، ولا يشترط كون التركة في ولايته.
وإذا نصب القاضي متولياً في وقف ولم يكن الوقف والموقوف عليه في ولايته،
قال شمس الأئمة هذا إذا وقعت المطالبة في مجلسه صح النصب، وقال ركن الإسلام
رحمه الله: لا يصح، وإن كان الموقوف عليهم في ولايته بأن كانوا طلبة العلم
أو أهل قرية أو أهل بلدة أو...... معدودين أو كان رباطاً أو مسجداً، ولم
تكن الضيعة الموقوفة في ولايته قال شمس الأئمة رحمه الله: تعتبر المرافعة
والتظالم، وقال ركن الإسلام: إن كان المقضي عليه حاضراً يجوز عما قدمه
تقدموا إلى القاضي، وقالوا: إن فلاناً مات ولم يوص إلى أحد، والحاكم لا
يعلم بذلك، فيقول لهم إن كنتم صادقين فقد جعلت هذا وصياً، فإنه يصير وصياً
إن كان يعرف هو بالعدالة.
في «فتاوى أبي الليث» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل جاء إلى قاض من القضاة،
وقال: إن أبي فلانا مات وعليه ديون وترك عروضاً وعقاراً ولم يوص إلى أحد،
وأنا لا أستطيع بيع ما ترك لأقضي دينه، لأن أهل الناحية لا يعرفونه، لا بأس
للقاضي أن يقول: إن كنت صادقاً فبع المال، واقض الدين، إن كان صادقاً وقع
ترفعه، وإن كان كاذباً لا يعمل أمر القاضي، وإذا مات الرجل وقد كان أوصى
إلى رجل، أي: جعله وصياً وقبل الوصي الوصاية في حياته أو بعد وفاته، وجاء
إلى القاضي يريد إثبات وصايته، فالقاضي ينظر فيه (112أ4) إن كان أهلاً
للوصاية تسمع دعواه إذا أحضر مع نفسه من يصلح خصماً، حتى إن المدعي إذا كان
عبداً أو صبياً، فالقاضي لا يسمع دعواهما؛ لأنهما ليسا من أهل الوصاية، أما
العبد فلأنه مشغول بخدمة المولى، وأما الصبي فلأنه لا يهتدي إلى التجارات،
وهل ينفذ تصرفهما اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا ينفذ؛ لأنه لو نفذ
تصرفهما: إما أن ترجع العهدة إلى الميت ولا وجه إليه وإنه ظاهر، وإما أن
ترجع إليهما، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأنهما ليسا من أهل لزوم العهدة، فإن عتق
العبد، فالقاضي يسمع دعواه بعد ذلك، ويقضي بوصايته.
وإن كبر الصبي فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يسمع دعواه وعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله: لا يسمع، وهنا كلمات كثيرة تأتي في كتاب الوصايا إن
شاء الله تعالى، والخصم في ذلك وارث أو موصى له، أو رجل للميت عليه دين، أو
رجل له على الميت دين، أما الوارث فلأن الوصي يدعي أن يده فوق يد الوارث في
مال الميت رأياً وتدبيراً وتصرفاً، والوارث ينكر ذلك، فيكون خصماً له، وأما
الموصى له فلأنه بمنزلة الوارث، وأما الغريم الذي للميت عليه دين فلأنه
يدعي حق استيفاء ما عليه من الدين
(8/267)
وهو ينكر، وأما الغريم الذي له على الميت
دين، فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: إنه لا يكون خصماً له، وقال الخصاف:
يكون خصماً؛ لأنه يريد أن يدفع خصومته في الدين، وإنما يكون له ذلك بعد
إثبات الوصاية. هذه الجملة من كتاب «الأقضية» .
وفي «المنتقى» رواية إبراهيم: رجل مات وعليه دين وأوصى بثلث ماله أو بدراهم
مسماة لرجل، وأخذه الموصى له ثم جاء الغريم، والورثة شهوداً وغيب وقدم
الموصى له إلى القاضي، فالموصى له لا يكون خصماً له وأشار إلى أن الوصية
متى حصلت بقدر الثلث فالموصى له لا يعتبر بالوارث، وإذا حصلت الوصية بما
زاد على الثلث وصحت الوصية بأن لم يكن ثمة وارث فالموصى له خصم الغريم في
هذه الحالة، ويعتبر الموصى له في هذه الحالة بالوارث؛ لأن استحقاق ما زاد
على الثلاث من خصائص الوارث، والوارث ينتصب خصماً للغريم، ففي حق الوصي يجب
أن يكون الجواب كذلك، وصاحب «الأقضية» ذكر الموصى له مطلقاً من غير فصل،
بينما إذا كان موصى له بالثلث أو بالزيادة على الثلاث، فيحتمل أن يكون
المراد منه ما إذا كان موصى له بالزيادة على الثلث.
ثم إذا أقام بينة على بعض هؤلاء أن الميت قد أوصى إليه، وأنه قد قبل
وصايته، نظر فيه القاضي: فإن كان عدلاً مرضي السيرة مهتدياً في التجارة
جعله القاضي وصياً، وقضى بوصايته، وإن عرفه بالفسق والخيانة لا يمضي
إيصاءه. وإن عرف منه ضعف رأي وقلة هداية في التصرف يمضي وصايته، ولكن يضم
إليه أميناً مهتدياً في التجارة حتى يتظاهر في التجارة، فلا يتلف مال
الصبي. وإن لم يظهر منه فسق، ولم يعرف بذلك لكن يتهم به، فالقاضي يسد بمسرف
أو يضم إليه وصياً آخر، حتى لا ينفرد أحدهما بالتصرف، فيظهر النظر لليتيم،
ثم إذا أثبت وصايته بالبينة.
وفي كتاب «الوصاية» : إن أقر الميت بالديون، وأوصى بأنواع البر وحضر غريم،
وقضى له بحقه، ثم حضر آخر هل يقضى له بتلك البينة؟ قال أبو حنيفة رضي الله:
عنه لا يقضى، وقال أبو يوسف: يقضي، ولم يذكر قول محمد في الكتاب، فأما في
الوصايا بأنواع البر يكتفي بهذه البينة بالإجماع، وقال أبو يوسف رحمه الله
ليس هذا على الوصية بأنواع البر، ووجهه أن ثمة إنما اكتفى بتلك الوصية؛ لأن
الوصي انتصب خصماً في إثبات كتاب الوصية، فإذا ثبت ذلك ينتصب جميع ما في
«الكتاب» ، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول بأن الغريم الآخر لم يكن حاضراً
وقت إثبات كتاب الوصية ولا حضر نائبة، فلا يصح ذلك أما هنا بخلافه.
قال في كتاب «الأقضية» : ولو أن رجلاً حضر عند القاضي وادعى أن أخاه فلان
بن فلان مات وترك من الورثة أباه فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلانة، ومن
البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة، وامرأته فلانة بنت فلان،
لا وارث له غيرهم، وأنه أوصى إلي في صحة عقله وجواز أموره في جميع تركته،
وأني قبلت منه هذه الوصية، وتوليت القيام بذلك، وأنه كان لأخي هذا على هذا
الرجل الذي حضر كذا من الدين،
(8/268)
وإن أخي هذا مات قبل قبضه شيئاً من هذا
الدين، وإنّ على هذا الذي حضر قضاء هذا الدين إلي لأصرفه إلى ورثته، وإلى
امرأته، فالقاضي يسمع دعواه ويسأل الخصم أولاً عن الموت؛ لأنه لا يصير
وصياً قبل الموت، فإن أقر بالموت توجهت عليه المطالبة من جهة الوصي؛ لأن حق
المطالبة كان ثابتاً للميت، وبالموت يحول إلى الوصي، ثم يسأله عن الدين؛
لأنه إنما يصير خصماً له في إثبات الوصاية لكونه غريم الميت، فإن أقر
بالدين حينئذٍ يسأله عن الوصاية، فإن أقر بها أيضاً لا يؤمر بدفع المال
إليه حتى يثبت وصايته بالبينة.
وذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : رجل ادعى أن فلاناً مات وأنه كان
أوصى إليه بقبض دينه الذي له على هذا الرجل، والعين الذي في يديه وصدقه
المدعى عليه في جميع ذلك، أمر بتسليم الدين والعين إليه، وفرق بين الوصي
والوكيل على ظاهر الرواية، والفرق أن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الميت،
وأمر المديون والمودع بقضاء الدين وتسليم الوديعة إليه من غير إقرارهما،
فلا يكون الأمر بالتسليم في هذه الصورة بحكم إقرارهما ليقال بأن إقراره في
حق العين صادف ملك الغير، أما ليس للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب، وأمر
المودع والمديون بقضاء الدين، وتسليم الوديعة إليه فكان الأمر بالتسليم
بحكم إقرار المدعى عليه، وإقراره في حق العين صادف ملك الغير فلهذا افترقا.
وفي «الجامع الكبير» أن على قول محمد رحمه الله أولاً: يؤمر المدعى عليه
بتسليم الدين التي أوصى، ولا يؤمر بتسليم العين، فما ذكر في «الأقضية»
يوافق قول محمد رحمه الله آخراً على ما ذكر في «الجامع» ، فعلى هذا القول
يحتاج إلى الفرق بين الوكالة وبين الوصاية في الدين، والفرق وهو: أن
الوصاية لا تثبت إلا بعد موت الوصي، فلو قضينا بإقراره وأمرناه بتسليم
الدين إليه، فقد حكمنا بموت الوصي متعدية إلى الميت من عتق أمهات أولاده
وغير ذلك، فيؤدي إلى إثبات تلك الأحكام وإقرار رجوع الموكل على المديون إذا
حضر وجحد الوكالة، وهذا الحكم غير ثابت، فإن صاحب الدين إذا حضر وجحد
الوكالة كان له أن يرجع على المديون، فالعمل بإقراره لا يؤدي إلى إثبات
أحكام متعدية إلى الغير، فلهذا افترقا.
ولو كان الغريم أقر بالموت وأنكر الوصاية والمال، كلف المدعي إقامة البينة
على الوصاية أولاً؛ لأن دعوى المال إنما تسمع من الخصم، وإنما ينتصب هذا
المدعي خصماً بإثبات الوصاية، فإذا ثبت الوصاية بالبينة حينئذٍ يقيم البينة
على المال، وكذلك إذا أنكر جميع ذلك كلف الوصي إقامة البينة على الوصاية
والموت جميعاً، فينتصب خصماً، فإذا أقامها حينئذٍ يسمع البينة منه على
المال ولو أقام البينة أولاً على المال، ثم أقام البينة على الوصاية لا
تقبل بينته على المال لما مر، ويؤمر بإعادتها، لأنها قامت من غير خصم؛ لأنه
لم يثبت كونه خصماً في تلك الحالة، وإن كان الشهود على الوصاية والموت
والمال فريقاً واحداً، فأقام بينة على ذلك كله جملة، قال أبو حنيفة رضى
الله: عنه لا
(8/269)
تقبل بينته على المال ويؤمر بإعادتها، وقال
أبو يوسف رحمه الله: تقبل بينته عليهما، ولا يؤمر بالإعادة، ولكن إذا آل
الأمر إلى القضاء، فالقاضي يقضي بالوصاية أولاً ثم بالمال، هكذا ذكر
الخصاف، وفي موضع آخر أن القاضي لا يقبل البينة على المال عند أبي حنيفة
رضي الله عنه وعند محمد يقبل، قال: ثمة، وقول أبي يوسف رحمه الله مضطرب على
نحو ما ذكرنا في الوصاية.
وإن أقر بالوصاية والموت فأنكر المال ولم يكن للمدعي بينة، وطلب من القاضي
أن يحلفه على المال أجابه القاضي إليه، وإن أقر بالمال والموت وأنكر
الوصاية، كان للقاضي أن ينصب وصياً، ولو لم ينصب ليس له أن يستحلفه لأنه لم
يصر خصماً بعد، وإن أقر بالوصاية والمال، وأنكر الموت هل يستحلف عليه؟
فالجواب فيه: نظير الجواب في الوارث قبل هذا، ولو كان المدعى عليه أقر
بالمال وأنكر الوصاية والموت، وأقام المدعي البينة عليهما وقضى القاضي
بالوصاية وبالموت بالشرائط التي ذكرنا؛ وأراد أن يكتب بذلك كتاباً يكتب:
هذا كتاب أشهد عليه القاضي فلان بن فلان إلى قولك حضر في يوم كذا من شهر
كذا في سنة كذا فلان بن فلان، ويثبت (112ب4) معرفته عنده باسمه ونسبه ووجهه
وذكر: وحضر معه فلان، أثبت معرفة المدعى عليه بالاسم والنسب؛ لأن المدعى
عليه حاضر مشار إليه يلزمه ما أقر به المدعي، هذا الذي حضر أن أخاه فلان بن
فلان ينسبه إلى أبيه وجده.
عند أبي حنيفة رضي الله عنه توفي وترك من الورثة أباه فلان وأمه فلانة، ومن
البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة لا وارث غيرهم إنما يذكر
الورثة؛ لأن التركة بعد الموت صارت حقاً وملكاً للورثة، فهو يدعي ديناً على
غيره لهم، فلا بد من بيان مستحقيه، ثم ذكر فإنه أوصى إليه في صحة عقله
وبدنه وجواز أمره، لا بد من ذكر صحة العقل وجواز الأمر، لأن الإيصاء تصرف
قولي، والتصرفات القولية لا تتحقق إلا ممن له عقل، ولا يعتبر شرعاً إلا ممن
هو جائز الأمر، فأما ذكر صحة البدن غير محتاج إليه؛ لأن الإيصاء يصح في
المرض كما يصح في الصحة.
ثم ذكر في جميع تركته وما يخلف بعده من قليل وكثير إنما قال: في جميع تركته
احترازاً عن قول محمد، فإن عنده الوصاية لا تقبل التخصيص.
ثم ذكر وقبل وصيته إليه وتولى القيام بذلك؛ لأن الوصاية تمامها بالقبول فلا
بد من القبول ليعلم أنها تممت، ثم ذكر وإن لأخيه فلان الميت هذا على فلان
بن فلان، هذا الذي أحضره معه كذا درهماً وزن سبعة حالاً إنما يذكر حلول
الدين؛ لأنه إنما ينتصب خصماً باعتبار حق المطالبة إياه وذلك إذا كان الدين
حالاً، أما إذا كان مؤجلاً لا يثبت له حق المطالبة، فلا تسمع دعواه ولا
بينته على الوصاية.
ثم ذكر: وإن البينة على ما ادعى ولم يبدأ الجواب المدعى عليه؛ لأنه وإن أقر
بالوصاية فإنها لا تثبت بإقراره على أدائه كتاب «الأقضية» ، وهو قول محمد
رحمه الله حتى لا يبرأ عن الدين بالدفع إليه، ولأن الجواب إنما يستحق بعد
دعوى الخصم، وإنما
(8/270)
يعرف كونه خصماً بإثبات الوصاية.
ثم ذكر وأحضر من الشهود رجلين، فشهدا أن فلان بن فلان أخا فلان بن فلان
الوصي حضر وقد عرفاه معرفة قديمة باسمه ونسبه ووجهه إنما ذكرا لمعرفة ليعلم
أنهم إنما شهدوا لمعلوم معروف عندهم، فالقضاء بالدين والوصاية نفع للميت،
فلا بد من معرفتهم ليمكنهم الشهادة بذلك الاسم والنسب بعد الموت.
ثم ذكر توفي وترك من الورثة أباه فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلان
وابنتين يقال لهما: فلانة وفلانة، وابنين يقال لهما فلان وفلان وامرأة
اسمها فلانة بنت فلان ولم يحضروا لا يعرفان له وارثاً غيرهم، فعرف القاضي
هذين الشاهدين بالعدالة والرضى فقبل شهادتهما فيما شهدا به، وشهد أحد هذين
الشاهدين وشاهد آخر، فشهدوا جميعاً أن فلان ابن فلان أشهدهم في صحة عقله
وبدنه وجواز أمره أنه جعل أخاه فلان بن فلان الذي حضر وهو حاضر في مجلس
الإشهاد ووصيه بعد وفاته، في جميع ما يخلف، فقيل فلأن الذي حضر وصيته إليه،
وإنما ذكر وصيته بعد وفاته، وإن كان ينصرف مطلق لفظ الإيصاء إلى ما بعد
الموت، ولكن لو قيده بحال حياته بأن قال: وصيي في حياتي كان توكيلالاً فذكر
بعد وفاته ليعلم أنه لم يرد به الوكيل بل أراد به كونه وصياً بعد الموت.
ثم ذكر فعرف هذا القاضي هذين الشاهدين بالعدالة والرضى في الشهادة وإنما
قيد الرضى في الشهادة؛ لأنه يجوز أن يكون مرضياً ولا تقبل شهادته لمكان
عقلية قال الحسن البصري رحمه الله: من الناس من أرجو شفاعته ولا أقبل
شهادته.x
ثم ذكر فسأل القاضي فلان بن فلان يعني المدعى عليه عما ادعى عليه فلان بن
فلان لأخيه فلان من الدراهم الموصوفة فيه، أما سؤال المدعى عليه عما ادعى
عليه فلان؛ لأنه لما ثبت الوصاية وثبت موت الموصي بهاتين الشهادتين توجهت
الخصومة عليه؛ لأنه ظهر أن الدعوى صدرت عن الخصم، فيلزمه الجواب فيسأله عن
ذلك، وأما لأخيه لأنه قد ثبت الموت والوصاية وعدة ورثته بهاتين، فلا حاجة
إلى السؤال عن ذلك إنما الحاجة إلى السؤال عن الدين الذي يطالب بها المدعى،
وإنما يطالب لأجل الميت، فلهذا قال لأخيه فلان بن فلان.
ثم ذكر: فأقر عنده يعني المدعى عليه أن لفلان بن فلان أخي هذا الذي حضر
عليه كذا وكذا درهماً وزن سعة نفذ كذا حاله، فيسأل فلان الذي حضر يعني
المدعي القاضي إنفاذ القضاء بما ثبت عنده من وفاة أخيه وعدة ورثته ووصيته
إليه، وإلزام فلان يعني المدعى عليه، ما أقر به عنده لفلان بن فلان من
الدراهم الموصوفة فيه والقضاء بذلك كله عليه ويأمره بدفعها إليه، وإنما خصم
وثبت وصايته بالبينة وصار القضاء بالمال مستحقاً عليه إلا أن القاضي إنما
يقضي ويلزم المدعى عليه ما أقر به عنده بطلب الخصم، فذكر سؤال المدعي لهذا.
ثم ذكر وأنفذ القاضي فلان بن فلان إلى أخيه فلان في جميع تركته وقبوله هذه
الوصاية بما اجتمع عليه الشاهدان اللذان شهدا بذلك عنده في شهادتهم، وهذا
لأن شهود
(8/271)
الوصاية لما كان غير شهود الوفاة، وعدة
الورثة والقضاء بناء على الشهادة بذكر القاضي القضاء بما اجتمع عليه كل
فريق على حدة ليعلم أن القضاء واقع بأي شهادة، ثم قال: وذلك بعد أن انتهت
إليه عدالته وأمانته وإنه موضع لذلك؛ لأن القاضي لو عرف فسقه أو خيانته لا
يقضي بوصايته، فيذكر ذلك ليعلم أن قضاءه وقع في محله.
ثم ذكر وأنه أمره أن يقوم في جميع تركة أخيه فلان بن فلان مقام الوصي فيما
يجب في ذلك ثبت عليه، وألزام القاضي فلان بن فلان الذي حضر يعني المدعى
عليه ما أقر به عنده لفلان من الدراهم الموصوفة فيه، وقضى بذلك كله عليه،
وأمره بدفعها إلى فلان بن فلان الذي حضر وصي أخيه فلان، وهذا لأن المال قبل
القسمة مبقاة على حكم ملك الميت، فيكون الدين للميت، فلهذا أضاف الدين
إليه، ولكن إذا آل الأمر إلى الآمر بالدفع، يأمر القاضي بدفعها إلى الوصي
لأنه قائم مقام الميت في قبض حقوقه.
ثم يذكر وأنفذ ذلك كله وقضى به على ما سمى، ووصف في هذا الكتاب بمحضر من
فلان وفلان، وهو يومئذ قاضي عبد الله فلان أمير المؤمنين على مدينة كذا،
إنما ذكر ذلك لأن الإشهاد على الحكم إنما يصح من القاضي، والقضاء لا ينفذ
إلا من القاضي، فشرط أن يذكر أنه قاض يوم الحكم ليعلم أن القضاء وقع صحيحاً
ثم يكتب التاريخ والله أعلم.
وليس للقاضي ولاية نصب الأوصياء، ولا ولاية نصب قيّم الأوقاف إذا لم يكن في
منشوره ذلك إذا قال القاضي لرجل جعلتك وكيلاً في تركة فلان فهو وكيل بالحفظ
خاصة، إلا أن يكون به ما يدل على الوكالة بأن يقول: تبيع ونشتري فحينئذٍ
يكون وكيلاً تاماً، ولو قال جعلتك وصياً في تركة فلان فهو وصي تام، وهذا
لأن القاضي بمنزلة المالك ولو قال المالك لرجل أنت وكيل في مالي فهو وكيل
بالحفظ، ولو قال أنت وصي في مالي فهو وصي تام له بعد الموت، فكذا إذا قال
القاضي ذلك.
القاضي إذا خرج إلى القرية ونصب فيما في أمور الصبي أو في وقف أو في نكاح
أيتام، حكى فتوى ظهير الدين رحمه الله أنه يجوز لأنه ليس بقضاء ولا هو من
عمل القضاء، فلا يشترط له المصر وإنه مشكل عندنا لأن القاضي إنما يفعل ذلك
بولاية القضاء، ألا ترى أنه لو لم يؤذن له في ذلك لا يملك فكان من جملة
القضاء والله أعلم.
الفصل الثاني والثلاثون: في القضاء على الغائب
والقضاء الذي ينفذ به إلى غير المقضي عليه، وقيام بعض أهل الحق عن البعض في
إقامة البينة
قال: القضاء على الغائب وللغائب لا يجوز إلا إذا كان عنه خصم حاضر، أما
قصدي في ذلك بتوكيل الغائب أما هو إما حكمي، وذلك بأن يكون المدعي على
الغائب سبباً لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة أو شرطاً له على ما ذكره
فخر الإسلام رحمه الله، وعند عامة المشايخ أن يكون المدعي على الغائب سبباً
لثبوت المدعى عليه على
(8/272)
الحاضر لا محالة، وإليه أشار محمد رحمه
الله في الكتب في مواضع، وقد ذكرنا هذا الأصل بتمامه في كتاب النكاح من
«الفتاوي» وبعض المتأخرين من مشايخنا وافقوا فخر الإسلام في انتصاب الحاضر
خصماً عن الغائب إذا كان المدعي على الغائب شرطاً لثبوت المدعي على الحاضر،
وبه كان يفتى شمس الإسلام محمود الأوزجندي.
حكى عنه ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وذكر في طلاق «الجامع الأصغر»
رجل قال لامرأته إن طلق فلان امرأته فأنت طالق، ثم إن امرأة الحالف ادعت
على الحالف أن فلاناً طلق امرأته وفلان غائب وأقامت البينة لا تقبل بينتها
هذه، ولا يحكم بوقوع الطلاق عليها، وقد أفتى بعض المتأخرين بقبول هذه
البينة وبوقوع الطلاق.
فإن قيل أليس إنه لو قال لامرأته إن دخل فلان الدار، فأنت طالق ثم إن
المرأة أقامت البينة أن فلاناً دخل ليس بقضاء على الغائب إذ ليس فيه إبطال
حق على الغائب، بخلاف مسألة «الجامع الأصغر» ، لأن ذلك قضاء على الغائب،
لأن فيه إبطال نكاح الغائب والحاصل أن الإنسان إذا أقام البينة على شرط حقه
بإثبات فعل على الغائب، فإن لم يكن فيه إبطال حق على الغائب أفتى بعض
المتأخرين أنه تقبل البينة، ويقضي على الحاضر والغائب جميعاً والأصح أنه لا
تقبل (113أ4) هذه البينة ولا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب وبه كان يفتى
ظهير الدين المرغيناني، ومسألة «الجامع الأصغر» تدل على صحة هذا القول.
وما يفعله الوكلاء على باب القضاة اليوم من إثبات البيع أو الوقف أو الطلاق
على الغائب يجعله شرطاً لوكالة الحاضر، وصورته: أن يقول زيد مثلاً لجعفر:
إن كان عمرو مثلاً باع داره أو طلق امرأته أو وقف ضياعه على سبيل كذا فأنت
وكيلي في إثبات حقوقي على الناس، والخصومة فيها وقبضها، ثم إن جعفراً يحضر
رجلاً لزيد عليه مال ويدعي أن زيداً قد وكله بقبض حقوقه على الناس وإثباتها
والخصومة وكالة معلقة بشرط كامن، وهو بيع عمرو ضياعه من فلان أو طلاق عمرو
امرأته، وإن عمراً قد كان باع ضياعه أو طلق امرأته قبل توكيل زيد إياي، وقد
صرت وكيلاً من زيد بالخصومة في حقوقه وقبضها، وإن لزيد عليك كذا وكذا فيقول
المدعى عليه نعم، إن زيداً قد وكلك على الوجه الذي قلت، إلا أني لا أعلم أن
هذا الشرط هل كان؟ وهل صرت أنت وكيلاً؟ فيقيم جعفر البينة على بيع عمرو
داره أو على طلاق امرأته، فيقضي القاضي بالبيع على عمرو وبوكالة الحاضر،
فهذا فتوى بعض المتأخرين.
وذكر في كتاب الحوالة والكفالة: إذا كفل رجل عن رجل بألف درهم وغاب المكفول
عنه، فادعى الكفيل على الطالب أن الألف التي كفلت بها دين فلان من ثمن
الخمر، وقال الطالب: لا بل كان من ثمن عبد، فالقول قول الطالب. فإن أراد
الكفيل أن يقيم بينة على الطالب بذلك لا تقبل بينته، ولا ينصب الطالب خصماً
له في ذلك بخلاف ما لو كان المطلوب حاضراً، وأقام البينة على الطالب على أن
الألف التي يدعي عليَّ من
(8/273)
ثمن خمر، حيث تقبل بينته؛ لأن المطلوب
عاقد، فإن المدامة جرت بين الطالب والمطلوب وأحد المتعاقدين إذا ادعى فساد
العقد وأقر صاحبه، كان له الإثبات على صاحبه بالبينة، وأما الكفيل أجنبيٌّ
عن العقد الذي جرى بين الطالب والمطلوب، والأجنبي إذا ادعى فساد عقد الغير
وأراد إثباته بالبينة لا يسمع منه، لأنه ليس يدعي لنفسه حقاً بدعوى هذا
الفساد، فأما الكفيل بدعوى الفساد يدعى لنفسه حقاً، وهو براءة نفسه عن ضمان
الكفالة، فإنه يقول الألف التي كفلت بها عن الأصيل كان من ثمن خمر وثمن
الخمر لا يصير ديناً للمسلم على المسلم، ومتى لم يكن الدين واجباً على
الأصيل لا يصح الكفالة، فالكفيل بما يدعى من فساد عقد الغير يدعي براءة
نفسه عن الكفالة فكان دعوى الفساد سبباً لثبوت ما يدعيه على الطالب من
براءته عن ضمان الكفالة.
والأصل: أن من ادعى حقاً على حاضر بسبب على الغائب، فإنه ينتصب الحاضر
خصماً عن الغائب ويقوم إنكار الحاضر مقام إنكار الغائب، كما لو ادعى عيناً
في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب وأنكر ذو اليد وأقام البينة على
الشراء والملك للغائب، فإنه يقبل بينته وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في
إثبات الشراء، حتى لو حضر الغائب وأنكر الشراء لا يكلف إقامة البينة؛ لأنه
ادعى حقاً على الحاضر، وهو استحقاق يده بسبب ادعاه على الغائب إذا كان ما
يدعى من سبب حقه على الغائب دعوى على الغائب، فأما إذا كان ما يدعي من سبب
حقه دعوى للغائب من كل وجه، فأما ما كان يدعي من سبب حقه دعوى على الغائب
يمكنه الإثبات بإنكار الغائب متى حضر، فأمكنه الإثبات بإنكار الحاضر الذي
قام مقامه.
والدليل على الأصل الأول مسألة الشراء، فإن الحاضر انتصب خصماً في دعوى
الشراء على الغائب؛ لأن الشراء من الغائب سبب لثبوت حقه على الحاضر، وإنه
دعوى على الغائب، لأنه بالشراء يدعي عليه استحقاق، ويمكنه الإثبات على
الغائب بإنكاره متى حضر، فكذا بإنكار ذي اليد الذي قام مقامه.
والدليل على الأصل الثاني: ما قالوا فيمن اشترى عبداً من إنسان شراء
فاسداً، فجاء البائع يريد أن يسترده من المشتري فقال المشتري أقررت به
لفلان الغائب، وانقطع حقك في الاسترداد، وأنكر البائع ذلك فأراد إقامة
البينة على إقراره للغائب لم تسمع بينته ولا ينتصب الحاضر * وهو البائع *
خصماً عن الغائب، لأن ما يدعى من سبب الحق وهو الإقرار للغائب دعوى للغائب
من كل وجه لا عليه بوجه ما، ولهذا لا يمكنه إثبات ما ادعى على الغائب متى
حضر وأنكر بالبينة، وإن كان لو ثبت ذلك للغائب كان سبباً لثبوت ما يدعي من
الحق على الحاضر وهو انقطاع حقه في الاسترداد.
إذا ثبت هذا فنقول: ما يدعي الكفيل من فساد العقد الذي بين الطالب والمطلوب
وإن كان سبباً لثبوت ما يدعيه على الطالب من براءته عن ضمان الكفالة، إلا
أنه ليس
(8/274)
بدعوى على الغائب بل له، فإنه يقر له
ببراءته عن اليمين وإنه دعوى له من كل وجه ألا ترى أنه لو حضر المطلوب،
وأنكر أن يكون عليه من ثمن خمر، وإنما كان من ثمن عبد لا يمكن للكفيل إثبات
ذلك عليه بالبينة، وإذا لم يمكنه إثبات ما ادعى من سبب الحق على الغائب لو
حضر وأنكر، فبإنكار الطالب الذي يقوم إنكاره مقام إنكاره أولى، وإذا لم تصح
دعوى الكفيل؛ لأن الطالب لم ينتصب خصماً له، فصار دعوى الكفيل فساد العقد،
ودعوى أجنبي آخر سواء.
قال في «الأقضية» وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل ادعى على رجل ألف
درهم لنفسه ولغائب من ثمن عبد أو ثوب باعاه وأقام البينة. قال أبو حنيفة
رضي الله عنه: يقضى بنصيب الحاضر دون الغائب، حتى لو حضر الغائب كلف إعادة
البينة، وقال أبو يوسف يقضى بنصيب الحاضر والغائب جميعاً، حتى لا يحتاج
الغائب إلى إعادة البينة إذا حضر قال صاحب «شرح الأقضية» وذكر بعد هذا ما
يدل على رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة ومحمد في الظاهر، وعلى ما عليه
عامة الروايات مع أبي حنيفة، وذكر في «المنتقى» قول محمد مع أبي يوسف قال
في «المنتقى» : وإن كان الألف ميراثاً بينه وبين الغائب لا يكلف الغائب
إعادة البينة إذا حضر بلا خلاف.
قال في «المنتقى» : والحاصل أن الدين إذا كان مشتركاً بين رجلين لا بجهة
الوراثة بل بجهة أخرى، فأحد الشريكين لا ينتصب خصماً عن الآخر عند أبي
حنيفة رضي الله عنه. وإن كان مشتركاً بجهة الإرث ينتصب خصماً، وعند أبي
يوسف ينتصب خصماً على كل حال.
قال محمد رحمه الله في «المنتقى» : ما قال أبو حنيفة قياس، وما قاله أبو
يوسف استحسان، ومحمد رحمه الله أخذ بالاستحسان كأبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكر في «المنتقى» : أن الحاضر
لا يتمكن من إثبات حقه إلا بإثبات حق الغائب، لأن البينة قامت على إثبات
دين مشترك بينه وبين الغائب، ولا يتمكن من إثبات حقه في ذلك الدين إلا
بإثبات حق الغائب فيه ليكون الدين مشتركاً، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً
عن الغائب.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن البينة إنما تقبل على الخصم من الخصم، وهنا لا
خصم في حق نصيب الغائب، لأن الخصم على طريق الأصالة من الغائب لم بوجد
وبطريق النيابة كذلك؛ لأنه لم توجد الإنابة من جهته، ولا ينتصب خصماً
باعتبار إيصال حقه بحق الغائب؛ لأن حقه يمتاز عن حق الغائب في الجملة، فلم
يكن من ضرورة الحكم له الحكم للغائب، فيقتصر القضاء له.
ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكر في «المنتقى» إذا حضر
الغائب وصدق الحاضر فيما ادعى كان بالخيار: إن شاء شارك المدعي فيما قبض ثم
يتبعان المطلوب، وإن شاء اتبع المطلوب ويأخذ نصيبه منه.
وإن لم يحضر الغائب حتى رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن على قول أبي حنيفة
(8/275)
رضي الله عنه: يبطل حق الغائب ولا يقضى له
بشيء لأن القضاء لم ينفذ في حق الغائب، ورجوع الشاهد قبل القضاء يمنع
القضاء، ولا يعمل هذا الرجوع في حق الحاضر، لأنه بعد تمام القضاء له. ثم
يشارك الغائب إذا حضر فيما قبض؛ لأنهما تصادقا على الشركة بينهما، وأحد
الشريكين إذا قبض نصيبه من الدين المشترك كان للآخر حق المشاركة معه، ثم
إذا شاركه فالحاضر لا يرجع على المطلوب بشيء؛ لأن حق المشاركة إنما ثبت
بإقرار الحاضر. وإنه ليس بحجة في حق المطلوب.
قال في «إملاء بشر بن الوليد» : قال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار الشاهدان
بحال لا يجوز القضاء بشهادتهما بأن عمي أو خرس قبل قدوم الغائب، ثم قدم
(113ب4) الغائب لم يقض له بشيء، وهذا يدل على رجوع أبي يوسف إلى قول أبي
حنيفة لأنه لو نفذ القضاء له قبل حضرته لم يبطل باعتراض هذه العوارض في
الشهود.
وإذا ادعى رجل أني وفلان الغائب اشترينا هذه الدار من هذا الرجل بألف درهم
ونقدنا له الثمن، وأقام البينة على ذلك، فعلى قياس قول أبي حنيفة رضي الله
عنه: يقضي للحاضر بنصف الدار، فإذا قدم الغائب كلف إعادة البينة، وعلى قول
أبي يوسف: يقضي بالدار كلها للحاضر والغائب، ويدفع إلى الحاضر نصف الدار
ويوضع النصف الباقي على يدي رجل ثقة. قال أبو يوسف ولا أقسمها حتى يحضر
الغائب، قال في «المنتقى» : فإن قدم الغائب وجحد الشراء بطل نصيبه من ذلك،
وجاز نصيب الحاضر، وهذا بلا خلاف وذكر أصل المسألة في «المنتقى» على
الخلاف، وذكر هذه المسألة في «المبسوط» : وقال: يقبل هذه البينة في حق
الحاضر، ولا يقبل في حق الغائب، ولم يذكر فيها خلافاً، وذكر الجصاص المسألة
على الخلاف على حسب ما ذكرنا، وذكرنا في «المنتقى» على قول أبي يوسف: ينزع
نصيب الغائب من يد المدعى عليه، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا وصل الثمن إلى
البائع، أما إذا لم يصل لا ينزع؛ لأنه لو كان حاضراً، وأراد قبض نصيبه قبل
إعطاء الثمن لم يكن له ذلك، فحال غيبته أولى، وبعضهم قالوا: نقد الثمن
يحتاج إليه للدفع إلى المشتري، ونحن لا ندفعه إلى المشتري، بل نضعه على يدي
العدل، ويد العدل في الحبس نظير يد البائع، كما أن يد العدل في يد الرهن
نظير يد المرتهن في الحبس.
قال في كتاب «الأقضية» : وإذا ادعى رجل على رجل أنه كان لأبي على هذا الرجل
ألف درهم، وقد مات أبي قبل استيفاء شيء منها وترك من الورثة أباً وابناً
آخر هو غائب، وأقام البينة وطلب نصيبه منه فالقاضي يقضي بنصيب الحاضر
والغائب حتى إذا حضر الغائب لا يكلف إعادة البينة ولم يحك خلافاً، وذكر في
كتاب «المبسوط» أن أحد الورثة إذا أقام البينة على القصاص على رجل يثبت ذلك
في حق جميع الورثة، حتى لا يكلف بقية الورثة على إقامة البينة إذا حضروا
عند أبي يوسف ومحمد. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يثبت حق الحاضر بهذه
البينة، ولا يثبت حق الغائب حتى يكلف الغائب إذا حضر إعادة البينة.
وذكر في دعوى «المبسوط» : دار في يدي رجل، أقام رجل البينة أن أباه مات
وترك
(8/276)
هذه الدار ميراثاً له ولأخيه فلان، لا وارث
له غيرهما وأخوه غائب، فإن القاضي يقضي بحصة الحاضر وينزع نصيبه من يده
ويسلمه إليه، وأما نصيب الغائب، فيترك في يد ذي اليد حتى يحضر الغائب في
قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن كان صاحب اليد
منكراً كما هو موضوع المسألة حتى احتيج إلى إقامة البينة يخرج نصيب الغائب
من يده، ويضعه على يدي عدل. وإن كان مقراً يترك نصيب الغائب في يده، قالا:
وهذا استحسان.
فإن ترك نصيب الغائب في يد ذي اليد ثم حضر الغائب، هل يكلف إعادة البينة؟
لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في كتاب الدعوى، واختلف المشايخ فيه على
قول أبي حنيفة رحمه الله، منهم من قال: يكلفه إعادة البينة كما في مسألة
القصاص، ومنهم من قال: لا يكلفه إعادة البينة، وجعل هذه المسألة على
الوفاق، وهو الصحيح. وقيل مسألة دعوى الدين بالإرث يحتمل أن تكون على
الاختلاف أيضاً كمسألة القصاص، وصاحب «الأقضية» ذكرها مطلقة من غير ذكر
خلاف، ولكن هذا ليس بصحيح، فقد حكينا آنفا عن «المنتقى» أنها على الوفاق،
فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق (بين مسألة القصاص و) بين الدين
الموروث، ويحتاج أيضاً إلى الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين
المشترك لا بجهة الإرث.
أما الفرق بين الدين الموروث وبين القصاص أن في فصل الدين الوارث يثبت
الدين لمورثه؛ لأن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت على ما عرف
في موضعه، فالدعوى تقع للمورث، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع
ما يدعي للميت أو يدعى عليه، فيثبت بدعواه وبينته جميع الدين للورثة، فلا
يحتاج الغائب إلى إعادة البينة، ولأجل هذا المعنى قلنا: إن الصحيح في مسألة
الدار أن الغائب لا يكلف إعادة البينة على قول أبي حنيفة.
فأما في فصل القصاص، فالوارث لا يثبت القصاص للمورث؛ لأن ملك القصاص ملك
استيفاء، فيستحيل ثبوته لمن لا يقدر على الاستيفاء، وإنما يثبت القصاص
للورثة ابتداء، وأحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يثبت لهم
ابتداء.
وأما الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث
أن في الدين المشترك بجهة الإرث الوارث يثبت الدين للمورث، وهو خصم عن
المورث في جميع ما يثبته له، فأما في الدين المشترك لا بجهة الإرث يثبت
الملك لهما ابتداء، وأحد الشريكين ليس بخصم عن الآخر في إثبات ذلك له.
ومن جنس هذه المسائل مسألة الهبة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه وهب له
ولفلان هذا وسلمه إليهما، فإن كان الموهوب شيئاً لا يحتمل القسمة صحت هذه
الدعوى وقبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى
قول أبي يوسف رحمه الله تقبل بينته في حق الحاضر دون الغائب أيضاً، كما في
الشراء، وإن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة بأن كانت داراً لم تصح هذه
الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن عنده هبة الدار من رجلين فاسدة،
وعندها هبة الدار من رجلين صحيحة، فتصح هذه الدعوى.
(8/277)
ومن جنس هذا: مسألة الرهن، وصورتها: رجل
(ادعى) أني وفلان الغائب ارتهنا من هذا الرجل الدار التي في يديه بدين لهما
عليه، ثم إنه استولى عليها وأقام على ذلك بينة، فعلى قول أبي حنيفة رضي
الله عنه: لا تقبل هذه البينة؛ لأن عنده إنما تقبل البينة في نصيب الحاضر
لا غير، وذلك متعذر ههنا؛ لأنه يصير رهن المشاع، ورهن المشاع لا يجوز، ما
يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة فيه على السواء.
ومن هذا الجنس مسألة الوصية: رجل مات وأوصى بوصايا بشيء لأناس مختلفين في
كتاب وصيته، فحضر واحد منهم، وقدم بعض الورثة، وأقام البينة على الوصية،
فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يقضى بنصيب الحاضر دون الغائب، وعلى قول
أبي يوسف: يقضى بجميع الوصية، حتى إذا حضر الغائب لا يكلف إعادة البينة
ثانياً.t
ذكر في كتاب «الأقضية» عن أبي يوسف: لو أن رجلاً ادعى على رجلين مالاً في
صك، أحدهما حاضر فجحد والآخر غائب، وأقام على ذلك بينة، فإن أبا حنيفة رضي
الله عنه قال: أقضي بالمال على الشاهد والغائب جميعاً، قال الشيخ أبو بكر
الرازي الكبير رحمه الله: هذا الجواب على أصل أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأن
الحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب عنده في جنس هذه المسائل.
قال المصنف: ورأيت في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: أقضي على
الحاضر بنصف المال، وقال أبو يوسف: أقضي على الحاضر والغائب بجميع المال،
واعلم بأن محمداً رحمه الله ذكر هذه المسائل في «المبسوط» وأجاب في الكل
على نمط واحد أن عند أبي حنيفة رضي الله عنه القضاء على الحاضر وللحاضر
يقتصر عليه، وصاحب «الأقضية» ذكر في بعض هذه المسائل أن على قول أبي حنيفة:
القضاء على الحاضر، وذكر في بعضها أنه يتعدى القضاء إلى الغائب وتارة ذكر
قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة، وتارة ذكر قول محمد مع أبي يوسف بخلاف قول
أبي حنيفة فكان عن أبي حنيفة فيه روايتان.
وأما الفرق فلا وجه له، قال: وكذلك عن أبي يوسف روايتان، وأما الفرق فلا
وجه له، قال: وكذلك لو كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه، أو كان الحاضر
كفيلاً عن الغائب، أو كان الأصل على الحاضر والغائب كفيل عنه، فهذا كله
سواء وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، هكذا ذكر في «الأقضية» .
قال الشيخ أبو بكر الرازي رحمه الله: إن كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه
بأمره، فالجواب كما ذكر في «الكتاب» ، وينتصب الحاضر عن الغائب؛ لأن المال
الذي (114أ4) يدعيه على الكفيل عين ما يثبت على المكفول عنه؛ لأنه يثبت حق
الرجوع بذلك، فيكون خصماً عن الغائب في إثبات الدين عليه، ألا ترى أن من
ادعى عبداً في يد رجل أنه اشتراه من فلان الغائب، فإن الحاضر خصم عنه؛ لأن
ما يدعيه على الغائب عين ما يدعيه على الحاضر، فكذلك ههنا فتقبل بينته على
الحاضر، ويقضى عليه بالألف،
(8/278)
النصف عليه بالأصالة، والنصف بما على صاحبه
بحكم الكفالة بأمره، ولأن هذه الكفالة ما كانت موجبة حق الرجوع على الغائب.
وأما إذا كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه بغير أمر صاحبه، فالحاضر لا
ينتصب خصماً عن الغائب، لأن ما يدعي على الكفيل الحاضر ليس بسبب لما يدعي
على الغائب، ألا ترى أنه لا يرجع به على الغائب، فلم ينتصب الحاضر خصماً
عنه، وقوله: أو كان الأصل على الحاضر والغائب كفيلٌ عنه فيه نظر؛ لأنه يجوز
أن يكون المال على الأصيل دون الكفيل، كما قبل الكفالة، بخلاف ما إذا كان
الأصل على الغائب والحاضر كفيل عنه؛ لأنه لا يجوز أن يكون المال على الكفيل
دون الأصيل، فكان من ضرورة وجوب المال على الكفيل وجوبه على الأصيل، فانتصب
الحاضر خصماً عن الغائب.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله من هذا الجنس مسألة، وصورتها: رجل
باع عبداً من رجلين بألف درهم على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، ثم إن
البائع لقي أحد الرجلين وأقام عليه البينة أن له على هذا وعلى فلان الغائب
ألف درهم، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بأمره، فإنه يقضي له على الحاضر
بألف درهم، فإن حضر الغائب قبل أن يأخذ البائع من الحاضر شيئاً لا يكون
للبائع أن يأخذ الذي حضر إلا بالخمسمائة، وهي الأصلية عليه؛ لأن القضاء على
كفيله له بها قضاء عليه، والقضاء على المكفول عنه لا يكون قضاء على الكفيل.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم، وبها كفيل بأمر الطالب، والطالب لقي الأصيل
قبل أن يلقى الكفيل، وأقام عليه بينة أن لي عليك ألفاً وفلان كفيل بها
بأمرك، فإنه يقضى عليه بألف درهم ولا يكون هذا قضاء على الكفيل، حتى لو لقي
الكفيل ليس له أن يأخذ منه شيء قبل أن يعيد البينة عليه. قال ابن سماعة
رحمه الله: وقد يلزم الذي عليه الأصيل، ولا يلزم الكفيل، ألا ترى أنه إذا
أبرأ الكفيل لا يبرأ الكفيل، أمالا يجوز أن يلزم الكفيل بحكم الكفالة، ولا
يلزم الأصيل، ألا ترى أنه إذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل، وإذا لم يكن من
ضرورة القضاء بالمال على الأصيل وجوبه على الكفيل لا ينتصب الأصيل خصماً عن
الكفيل في إثبات الكفالة عنه وإذا كان من ضرورة وجوب المال على الكفيل بحكم
الكفالة وجوبه على الأصيل ينتصب الكفيل خصماً عن الأصيل.
ولو ادعى رجل على رجل أنك كفلت لي وفلان الغائب عن رجل بألف درهم، وكل واحد
منهما كفيل عن صاحبه وأقام على ذلك بينة وقضى له عليه بألف درهم ثم حضر
الغائب، فله أن يأخذ الغائب بجميع الألف؛ لأنه حين قضى بها على الحاضر قضى
بها على أنه كفيل عن المطلوب وعن الكفيل، ألا ترى أني لو لم أجعله كفيلاً
عن كل واحد منهما لم يكن له إذا أدى أن يرجع بها كلها على الذي عليه
الأصيل.
وفي «نوادر بشربن الوليد» عن أبي يوسف في رجل ادعى شراء دار من نفر هي في
أيديهم، وبعضهم حضور وبعضهم غيب، والحاضر مقر للغائب بنصيبه جاحد للبيع،
فأقام المدعي بينة على دعواه، فالقاضي لا يقضي إلا على الحاضر في حصته عند
أبي حنيفة
(8/279)
رضي الله عنه، وهو قول أبي يوسف أيضاً فأبو
حنيفة رضي الله عنه مر على أصله، فإن من أصله أن الحاضر لا ينتصب خصماً عن
الغائب في مثل هذا، فلا يكون القضاء على الحاضر قضاء على الغائب، ألا ترى
أن البائع لو كان واحداً، والمشتري اثنان حاضر وغائب، فالحاضر لا ينتصب
خصماً عن الغائب.
وأبو يوسف رحمه الله فرق بينما إذا كان المشتري واحداً، والبائع اثنان،
وبينما إذا كان البائع واحداً والمشتري اثنان، فقال فيما إذا كان المشتري
واحداً والبائع اثنان: إن القضاء لا يتعدى إلى الغائب، والفرق أن البائع
إذا كان اثنين فحق الغائب غير متصل بحق الحاضر؛ لأن الصفقة متفرقة، فلا
ينتصب الحاضر خصماً عن ذلك، فأما إذا كان المشتري اثنين فحق الحاضر متصل
بحق الغائب، ألا ترى أنه لو خاطب اثنين بالبيع، فقبل أحدهما لم يصح، فجاز
أن ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
هذا إذا كان الحاضر مقراً بنصيب الغائب، وإن كان جاحداً نصيب الغائب،
فالقاضي يقضي بالدار كلها للمدعي، أما في نصيب الحاضر فلا يشكل، وأما في
نصيب الغائب، فلأن ذا اليد انتصب خصماً في نصيب الغائب في إثبات الملك له
في نصيبه؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ملكه على الحاضر في نصيب الغائب إلا
بإثبات الملك للغائب ثم بإثبات الشراء عليه.
وإذا ادعى هبة أو صدقة أو رهناً من رجلين، وأحد الرجلين حاضر، والدار في يد
الحاضر، فأقام بينة على الهبة والقبض، أو على الصدقة والقبض، فإن على قول
أبي حنيفة رضي الله عنه: لا تقبل هذه البينة في فصل الرهن؛ لأن عنده القضاء
يقتصر على نصيب الحاضر، ورهن المشاع باطل. فأما في الهبة، فإن كان مما لا
يحتمل القسمة قبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب؛ لأن القضاء بنصيب الحاضر
ههنا ممكن؛ لأن الشيوع فيه لا يمنع جواز الهبة.
وأما على قول أبي يوسف رحمه الله ففي فصل الرهن: القاضي لا يقبل هذه البينة
أصلاً، وفي الهبة والصدقة إن كانت الهبة والصدقة مما لا يقسم يقضي على
الحاضر والغائب جميعاً، حتى إذا حضر الغائب لا يكلف المدعي إعادة البينة
عليه، ويقضي عليه بتلك البينة، وإن كانت الهبة والصدقة مما يقسم، فالقاضي
يقضي بهبة الملك، ولكن ينفذ في النصف في الحال، وفي النصف الآخر يتوقف حتى
يحضر الغائب، فينفذ عليه.
والفرق له بين الرهن والهبة: أن إثبات الملك في الشائع بالهبة ممكن في
الجملة، ألا ترى أنه إذا وهب داره من رجلين، وسلم إليهما صح على قولهما،
وثبت لكل واحد منهما الملك في النصف بالهبة شائعاً، وإذا أجاز هذا في
الجملة جاز القبول في القضاء بالهبة بجميعها ولكنه لا ينفذ على الغائب حتى
يحضر فإذا حضر نفذ عليه، فأما الرهن فلا يجوز بيع الشيوع بحال ما فلا يجوز
القول بنفاذ القضاء وثبوته في البعض دون البعض، فلهذا يبطل في الكل.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل مالاً، فقضى
(8/280)
القاضي له على المدعى عليه ببينة أقامها،
ثم غاب المقضي عليه أو مات، وله ورثة وله مال في المصر في يد أقوام وهم
مقرون به للمقضي عليه، قال: لا أدفع إلى المدعي من ذلك شيئاً، حتى يحضر هو
إن كان غائباً أو ورثته إن كان ميتاً؛ لأن القاضي نصب ناظراً، وليس من
النظر في حق الغائب دفع ماله إلى المقضي له، فلعل أنه قضى هذا الدين أو
وارثه فوقفنا الأمر لهذا، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، حيث
قال: لأني لا أدري لعل الذي قضيت عليه قضاه إياه أو وارثه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً: وإذا غاب المدعى عليه أو مات بعد
إقامة البينة عليه قبل قضاء القاضي عليه وقد زكيت البينة في السر
والعلانية، فالقاضي لا يقضي بتلك البينة حتى يحضر الغائب أو نائبه أو يحضر
وارث الميت، فإذا حضر واحد من هؤلاء، فالقاضي يقضي عليه بتلك البينة، ولا
يحتاج إلى إعادة البينة للقضاء.
ولو كان المدعى عليه أقر بما ادعاه المدعي ثم غاب، فالقاضي يقضي عليه
بإقراره في حال غيبته، بعد هذا ينظر إن كان المقر له عيناً، فالقاضي يأمر
من في يديه بالتسليم إذا كان الذي في يديه مقراً أنه ملك المقر، وفي الدين
إذا ظفر بجنس حقه يأمره بالأخذ، ولا يبيع في ذلك العروض والعقار، وهذا قول
أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمه الله، قال محمد رحمه الله: وقال أبو يوسف: لا
يقضي القاضي حتى يحضر الغائب في البينة والإقرار جميعاً، ذكر قول أبي يوسف
رحمه الله هكذا، والمحفوظ عن قول أبي يوسف رحمه الله المذكور عنه في عامة
الكتب غير هذا، فالمذكور عنه في عامة الكتب أنه كان يقول أولاً: إن القاضي
(114ب4) لا يقضي في فصل البينة حتى يحضر الغائب، وفي فصل الإقرار يقضي، ثم
رجع حين ابتلي بالقضاء وقال: يقضي فيها جميعاً استحسن ذلك حفظاً لأموال
الناس وصيانة لحقوقهم.
وجه ما ذكر من قول أبي يوسف رحمه الله في «نوادر ابن سماعة» : أن القضاء
احتمل الولاية، ولا ولاية للقاضي على الغائب فلا ينفذ قضاؤه عليه، ألا ترى
أنه لو قضى عليه في المصر الذي هو فيه، وإنه ليس بقاضي ذلك المصر لا ينفذ
قضاؤه عليه لعدم الولاية، كذا هنا.
وجه ما ذكر من قول أبي يوسف في عامة الكتب: أن القاضي يقضي على الغائب في
البينة والإقرار جميعاً إن حضره المدعى عليه، إنما كان شرطاً ليسمع القاضي
كلام الخصمين، فيقضي عن علم أو ليعلم إنكاره الذي هو شرط سماع البينة وقد
وجد، فلا معنى لتوقيف القضاء.
يوضحه: أن كل مدعى عليه لا يعجز من أن يخفي نفسه متى توجه عليه الحكم، لو
لم يجز القضاء حال غيبته تضيع حقوق الناس.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه في الفرق بين الإقرار والبينة: أن للمدعى عليه حق
الطعن في الشهود والقضاء عليه حال غيبته لا يبطل عليه حقاً، فلهذا افترقا.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : أمة في يدي رجل يقال له عبد الله، فقال
(8/281)
رجل يقال له: إبراهيم لرجل يقال له محمد:
يا محمد، الأمة التي في يد عبد الله كانت أمتي بعتها منك بألف درهم،
وسلمتها إليك، إلا أن عبد الله قد غصبها منك، وصدقه محمد في ذلك كله، وعبد
الله ينكر ذلك كله، ويقول: الجارية جاريتي، فالقول في الجارية قول عبد
الله؛ لأن اليد عليها لعبد الله، ويقضى بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأنهما
تصادقا على البيع والتسليم وتصادقهما حجة في حقهما، فلو استحق رجل الأمة من
يد عبد الله بعدما أخذ إبراهيم الثمن من محمد، فأراد محمد أن يرجع بالثمن
على إبراهيم، وقال: الجارية التي اشتريتها منك ورد عليها الاستحقاق لا
يلتفت إلى ذلك؛ لأن القضاء بالاستحقاق على عبد الله اقتصر على عبد الله،
ولم يتعد إلى محمد.
والأصل: أن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد، قضاء على ذي اليد، وعلى من
تلقى ذو اليد الملك من جهته، ولا يكون قضاء على الناس كافة لما يتبين بعد
هذا، وذو اليد وهو عبد الله لا يدعي تلقي الملك من جهة محمد، فلم يصر محمد
مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، وما لم يصر محمد مقضياً عليه، لا يرجع
بالثمن على إبراهيم.
والدليل على أن محمداً لم يصر مقضياً عليه في هذه الصورة: أن محمداً لو
أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، وهو يملكها
قبلت بينته ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته، وكذلك لو أن الذي استحقها
على عبد الله استحقها بالنتاج بأن أقام بينة على أنها جاريته، ولدت في
ملكه، وقضى القاضي بها للمستحق لم يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، وإن ظهر
بينة المستحق أن إبراهيم باع جارية الغير؛ لأن القضاء بالاستحقاق اقتصر على
عبد الله، ولم يصر محمد مقضياً عليه.
بيانه: وهو دعوى النتاج هنا غير محتاج إليه؛ لأن المستحق خارج ألا ترى أنه
لو أقام البينة على الملك المطلق قبلت بينته، فسقط اعتبار دعوى النتاج ونفى
دعوى الملك المطلق، وفي دعوى الملك المطلق لا يصير محمد مقضياً عليه
بالقضاء على عبد الله، فكذا هنا، قال في «الكتاب» ألا ترى أن محمداً لو
أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم بكذا، وهو
يملكها أن يقضي بها لمحمد، ولو صار محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله
لما قضى له.
فرّع على مسألة الاستشهاد، فقال: لو أعاد المستحق البينة على محمد أنها
أمته ولدت في ملكة، قضى بها للمستحق، وترجحت بينته على بينة محمد؛ لأن بينة
النتاج لا تعارضها بينة الملك المطلق؛ لأن بينة النتاج أكثر إثباتاً فيما
يرجع إلى إثبات أولوية الملك، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم في هذه
الصورة؛ لأن محمداً صار مقضياً عليه بهذا القضاء.
قال: ولو لم يستحق الجارية أحد، ولكن أقامت الجارية البينة على عبد الله
أنها حرة الأصل، وقضى القاضي بحريتها رجع محمد بالثمن على إبراهيم، لأن
محمداً صار مقضياً عليه في هذه الصورة، والقضاء بالحرية وما ألحق بها قضاء
على الناس كافة، ولهذا لو أقام محمد البينة على الملك والشراء من إبراهيم
لا تقبل بينته، ولو لم يثبت عليه
(8/282)
بالاستحقاق لقبلت بينته، واستحقاق المشتري
على المشترى بسبب سابق على الشراء، يوجب الرجوع على البائع بالثمن.
ثم إنما وقع الفرق بين القضاء بالملك المطلق على ذي اليد وبين القضاء
بالحرية وما لحق بها، حتى اقتصر القضاء بالملك المطلق على ذي اليد، وتعدى
القضاء بالحرية وما لحق بها إلى الناس كافة؛ لأن الحرية تعلق بها أحكام
متعدية إلى الناس من أهلية الشهادة والقضاء والولاية وغير ذلك، فانتصب ذو
اليد خصماً عن الناس كافة، فكان القضاء على ذي اليد قضاء على الناس كافة
أما الملك المطلق فلم يتعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة، فلم ينتصب ذو
اليد خصماً عن الناس كافة.
وكذلك لو أقامت بالبينة على عبد الله أنها كانت أمته أعتقها، وقضى القاضي
بذلك رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن دعوى الملك هنا ليست بمقصود، إنما
المقصود دعوى العتق ودعوى الملك لكونه وسيلة إلى دعوى العتق، ولما كان
المقصود دعوى العتق، وليس بعض الأوقات للقضاء فيه بالعتق بأولى من البعض
لما أنه لم يعين وقتاً في الدعوى، فكان هذا والقضاء بحرية الأصل سواء.
وأما القضاء بالوقفية على ذي اليد، هل يكون قضاء على الناس كافة؟ وصورتها:
رجل (ادعى أرضاً) في يدي رجل أنها وقف على جهة كذا وقفها فلان، وأنا متولي
أوقافها، وأثبت الوقفية بالبينة وقضى القاضي بها على ذي اليد هل يكون قضاء
على الناس كافة؟ حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والقاضي الإمام
ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أنه يكون قضاء على الناس كافة، حتى لو
ادعى رجل بعد ذلك هذه الأرض لنفسه لا يسمع دعواه وإلحاقه بالقضاء بحرية
الأصل. وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أنه لا يكون قضاء على الناس
كافة، حتى لو ادعاه رجل بعد ذلك هذه الأرض لنفسه ملكاً مطلقاً يسمع دعواه
وألحقه بالقضاء بالملك المطلق، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله، وذكر في
شهادات «الجامع» : أن في دعوى العين أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت
للمدعي في عين في يد ذلك الوارث، لا في عين ليس في يده، حتى إن من ادعى
عيناً من التركة وأحضر وارثاً ليس ذلك العين في يد هذا الوارث الذي أحضره،
لا تسمع دعواه عليه، وفي دعوى الدين أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وإن
لم يصل إليه شيء من التركة.
عبد مأذون ادعى داراً في يدي رجل، واستحقها ببينة أقامها، فأقام المدعى
عليه بينة على إقرار العبد أنه لاحق له في الدار ليبطل بينة العبد وحقه،
فإن جاء مولاه بعد ذلك، وقال: عبدي استحق الدار بالبينة ولست أجيز إقراره،
لأنه كان محجوراً عليه، فإنه يقال له أعد البينة على المدعى عليه، فإن
أعادها (و) استحقها وما لا فلا.
رجل ادعى داراً في يدي رجل أن أباه مات وتركها ميراثاً له ولأخيه فلان،
وأخوه منكر دعواه، ويزعم أنه لا شيء له من الدار، فأقام المدعي البينة على
دعواه وقضى له بنصف الدار، ثم رجع أخوه إلى تصديقه، لم يقض له بشيء، فإن
جاء غريم للميت بعد
(8/283)
ذلك، وأثبت دينه بمحضر من الوارث ببينته،
وسأل القضاء للميت بالدار، فإن القاضي يستقبل القضاء، فيقضي للميت بالدار
كلها بالشهادة الأولى، فتباع الدار ويقضى الغريم حقه من ثمنها، فإن فضل شيء
من ثمنها يجعل نصفه للابن المدعي، ويرد الباقي على المقضي عليه بالدار، ولا
أجعل للابن المنكر من الفضل شيئاً.
رجل ادعى داراً في يدي رجل أن أب هذا الذي في يديه غصبها إياه، وقال الذي
في يديه: الدار داري وله أخوة غيب فأقام المدعي بينة على ما ادعى، وقضى له
بالدار، ثم حضر إخوة الذي كان الدار في يديه، لا يكلف المقضي له إعادة
البينة عليهم، ولكن يقال لهم: أنتم على حجتكم.
إبراهيم عن محمد: رجلان ورثا داراً عن أبيهما، باع أحدهما نصفها من رجل، ثم
أقام رجل بينة أنها داره ورثها من أبيه قال: القضاء على المشتري قضاء على
البائع، والقضاء على الأخ قضاء على المشتري إلا أن يقول المشتري: لم يرث
هذا عن أبيه.
رجل ادعى أن ميتاً غصب منه شيء وأحضر بعض ورثته وأقام عليه (115أ4) البينة
بذلك، وبعض هذا الشيء في يد هذا الذي حضر، وبعضه في يد وكيل الغائب، ولو
كان ذلك في يد هذا الذي حضر قضيت عليه بذلك كله، ودفعته إلى المدعي، فإن
قدم الغائب، فقال: كان هذا في يد أخ لنا من غير الوالد لم يقبل قوله، وهذه
المسألة إشارة إلى أن في دعوى العين من التركة أحد الورثة إنما ينتصب خصماً
عن الميت إذا كان العين في يديه.
هشام قال سألت محمداً رحمه الله عن قناة في يد قوم كثير، فيهم الشاهد
والغائب والصغير والكبير، فأقام رجل البينة على بعضهم أنهم احتفروا هذه
القناة في أرضه غصباً، وهم قوم كثير لا يقدر على أن يجمعهم، قال: جعلت لهم
وكيلاً وقضيت على وكيلهم.
ابن سماعة عن محمد: رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم، وقبض المشتري العبد،
ثم أخذ البائع العبد بالثمن، فأقام المشتري بينة أنه قد أحاله بالثمن على
فلان بن فلان الفلاني وفلان المحتال عليه غائب فحضر، فإن المال لازم له
بالبينة التي قامت على الحوالة والله أعلم.
الفصل الثالث والثلاثون: في المتفرقات
شفعوي المذهب إذا جاء إلى القاضي، وادعى الشفعة بالجوار، فالقاضي هل يقضي
له بالشفعة؟ لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وقد اختلف المشايخ فيها،
قال: بعضهم لا يقضي؛ لأن المدعي يزعم أنه لاحق له فيما يدعي، فيتعامل
القاضي معه بزعمه واعتقاده، ومنهم من قال: يقضي؛ لأنه لما طلب الشفعة
بالجوار فقد ركن إلى مذهبنا في هذه المسألة، فتقبل دعواه ويقضي له.
(8/284)
هذا كما قلنا في أحد الزوجين من أهل الذمة
إذا رفع إلى القاضي أنه محرم صاحبه، فالقاضي يفرق بينهما عند أبي يوسف؛
لأنه ركن إلى ديننا، وإن رفعا الأمر إلى القاضي، فالقاضي يفرق بينهما بلا
خلاف، والمعنى ما قلنا، ومنهم من قال: إذا تقدم إلى القاضي، فالقاضي يقول
له: هل تعتقد الشفعة بالجوار، (فإن) قال: نعم يقضي له بها، وإن قال لا،
أقامه من ذلك الموضع ولم يسمع كلامه قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني:
هذا أوجه الأقاويل وأحسنها.h
وفي «المنتقى» : قضاة ثلاثة ببغداد كل قاض على موضع معلوم، فادعى رجل على
رجل دعوى واختلفا فيمن يتخاصمان إليه منهم، فإن كان منزل المدعي والمدعى
عليه في موضع واحد يختصمان إلى القاضي الذي هو في موضعهما، وإن كان منزلهما
مختلفاً، أحدهما من هذا الجانب، والآخر من ذلك الجانب، قال أبو يوسف رحمه
الله: ذلك إلى المدعى عليه.
القاضي يقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه،
خلافاً لهما، ويقبل البينة على عتق الأمة وطلاق المرأة حسبة من غير الدعوى.
ولا يحلف على عتق العبد حسبة بدون الدعوى بالاتفاق، وهل يحلف على عتق الأمة
وطلاق المرأة حسبة بدون الدعوى؟ أشار محمد رحمه الله في آخر كتاب التحري
إلى أنه يحلف، فإنه قال: إذا طلق الرجل واحدة من نسائه بعينها ثلاثاً
ونسيها، فتبين كلهن إلا واحدة، فالقاضي يمنعه عنها حتى يخبر أنها ليست
بمطلقة، فالقاضي يحلفه البتة بالله أنها ليست بمطلقة، ولم يشترط دعواها،
وهكذا ذكر في «شرح القدوري» : وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي
في مقدمة باب السلسلة أنه لا يحلف، فيتأمل عند الفتوى.
وإذا قضى القاضي بحضرة وكيل الغائب أو بحضرة وصي الميت؛ يقضى على الغائب
وعلى الميت، ولا يقضي على الوكيل والوصي ويكتب في السجل أنه قضى على الميت
وعلى الغائب ولكن بحضرة وصيه وبحضره وكيله.
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : في باب العدوى: إذا أمر القاضي رجلاً بملازمة
المدعى عليه، لاستخراج المال، ويسمى بالفارسية موكل فمؤنته على المدعى
عليه، كذا ذكره القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله، وعليه بعض القضاة،
وبعض مشايخ زماننا قالوا: هي على المدعي وهو الأصح؛ لأن منفعته تعود إلى
المدعي المديون إذا كان له عقار يحبس لبيعه، ويقضى الدين، وإن كان لا يشترى
إلا بثمن قليل، كذا ذكره الخصاف في باب الحبس.
وإن امتنع المديون عن البيع بنفسه، فالقاضي هل يبيعه؟ ذكر في «الجامع
الصغير» وفي كتاب «الأقضية» : أن القاضي لا يبيع مال المديون المحبوس لا
العروض ولا العقار عند أبي حنيفة رضي الله عنه، لكن يحبسه ويأمره بالبيع،
ويستديم الحبس ليبيع بنفسه، وعندهما يبيع العروض رواية واحدة، وفي بيع
العقار روايتان، ذكر الروايتين في شرح كتاب «الأقضية» .
(8/285)
وإذا أقر رجل لإنسان بمال ومات المقر، فقال
ورثته بعد موته: إن أبانا قد أقر بما أقر كاذباً، فلم يصح إقراره، وأنت
أيها المقر له عالم بذلك، وأرادوا تحليفه على ذلك لم يكن لهم أن يحلفوه؛
لأن وقت الإقرار حق الورثة لم يكن متعلقاً بمال المقر، فصح الإقرار وحيث
تعلق حقهم لم يتعلق بما صار حقاً للمقر له، فلا يكون لهم ولاية تحليفه.
وإذا حبست المرأة زوجها بدين المهر أو بدين آخر، فقال الزوج للقاضي: احبسها
معي في السجن، فإن لي موضعاً في المحبس، فتكون معي، فالقاضي لا يحبسها،
ولكنها تصير إلى منزل الزوج، ذكره الخصاف في مطالبة المهر، وقيل: ينبغي
للقاضي أن يحبسها؛ لأنها إذا حبست زوجها فلم تحبس هي تذهب حيث تريد، وقيل:
القاضي يقول لها: إذا أردت حبس الزوج لو حبست زوجك بحقك (و) لحبستك معه
وإلا لا أحبس الزوج، وعلى التقديرين جميعاً يقع الأمن عن ذهابها إلى ما
تريد.
وإذا قال المديون: أبيع عبدي هذا وأقضي حقه، ذكر صاحب «شرح مختصر العصام» :
في أول مكاتبه أن القاضي لا يحبسه، بل يؤجله يومين أو ثلاثة.
ادعى على آخر مالاً وأنكر المدعى عليه ذلك ثم ادعى عليه ذلك في مجلس آخر
أنك استمهلت مني هذا المال، وصرت مقراً بالمال، والمدعى عليه ينكر المال
والاستمهال جميعاً، فالقاضي يحلفه على المال أو على الاستمهال، وقد قيل:
يحلفه على المال؛ لأنه بالاستمهال يصير مقراً، والإقرار حجة المدعي،
والمدعى عليه لا يحلف على حجر المدعي، فإنه لا يحلف بالله ما للمدعي بينة،
وألا ترى أنه لو ادعى عليه الاستام أو الإقرار أو ادعى عليه حقاً بسبب
الخط، وأنكر المدعى عليه أن يكون هذا خطه، فإنه لا يحلف على ذلك، والمعنى
ما ذكرنا.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله: رجل قال لآخر: لي عليك ألف درهم،
فقال ذلك الرجل: إن حلفت أنها لك علي أديتها، فحلف الرجل فأداها إليه، إن
أداها على الشرط الذي شرط كان له أن يرجع فيما دفع إليه.
في «واقعات الناطفي» في كتاب الدعوى: ولو أن السلطان أو الخليفة قلد رجلاً
القضاء ورد القاضي ذلك هل له أن يقبل بعد ذلك، لا رواية لهذه المسألة في
الكتب. وينبغي أن يكون الجواب على التفصيل: إن قلده مشافهة مواجهة ورد لا
يمكنه قبول ذلك الأمر وذلك التقليد بعد ذلك، ولو قلده بطريق المعاينة إن
بعث إليه فرده، ثم قبل: كان له ذلك استدلالاً بما ذكر في كتاب النكاح أن
امرأة لو كتبت إلى رجل أني زوجت نفسي منك، فلم يقبل الزوج في ذلك المجلس،
وقبل في مجلس آخر كان له ذلك؛ لأن الخطاب بالكتاب، والكتاب باق معه، فيكون
الخطاب باقياً، فكان له أن يقبل، فكذا في حق المنشور للقاضي، ولو كان بطريق
المعاينة ولكن بالرسالة لا بالكتابة فكذلك أيضاً: استدلالاً بالموكَّل
والموصى إليه إذا ردّا في غير وجه الموكل والموصي كان لهما أن يقبلا بعد
ذلك ما لم يعلم الموكل برده والموصي بالرد؛ لأن الرد من غير علم الموكل
والموصي لم يصح، وإذا لم يصح الرد كان حكم التوكيل والإيصاء باقياً، فيعمل
قبولهما،
(8/286)
فكذا أيضاً ههنا يجب أن يكون كذلك.
رجل أخرج صكاً بإقرار رجل، فقال المقر: قد أقررت لك بهذا المال، إلا أنك
رددت إقراري، يحلف المقر له، كمن ادعى البيع على إنسان، فقال البائع: بعته
منك إلا أنك أقلتني، فإنه يحلف مدعي الشراء.
التحليف بالطلاق والأيمان المغلظة لم يجوزه أكثر مشايخنا رحمهم الله، وإن
بالغ المستفتي في ذلك نفتي بأن الرأي فيه للقاضي.
رجل تزوج امرأة وابنتها في عقدين، وقال: لا يدري أيتهما أولى؛ يحلف لكل
واحدة منهما بالله ما تزوجتها قبل صاحبتها، فالقاضي في التحليف يبدأ
(115ب4) بأيتهما شاء، فإذا حلّف لأحدهما وحلف ثبت نكاح الأخرى، وإن نكل
لزمه نكاح هذه وبطل نكاح الأخرى، وهذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة
رضي الله عنه: لا (يحترف) الاستحلاف في النكاح، فلا يتأتى هذا الفصل على
قوله.
المدعى عليه الدار إذا قال: أنا بنيت بناء هذه الدار، والمدعي يعلم بذلك،
وطلب يمين المدعي لا يحلف المدعي، لجواز أن يكون المدعى عليه هو الباني،
ويكون البناء للمدعي، فإن بنى المدعى عليه بأمر المدعي حتى لو قال المدعى
عليه: بنيت الدار لنفسي بغير أمر المدعي يحلف المدعي الحاكم.
المحكم إذا حلف المدعى عليه وحلف ثم ترافعا إلى قاض متولى، فالقاضي المولى
لا يحلفه ثانياً.
دار في يد رجل ادعاها رجل أنه غصبها منه، وقال المدعى عليه: هذه الدار كانت
لي وقفتها على كذا وكذا، وأراد المدعي تحليفه يحلف عند محمد رحمه الله،
خلافاً لهما بناء على أن غصب الدار يتحقق عند محمد رحمه الله، فكان في
التحليف فائدة، حتى لو نكل يقضي عليه بالقيمة. ولو أراد أن يحلفه ليأخذ
العين لا يأخذ بالاتفاق؛ لأن الدار صارت مستهلكة لصيرورتها وقفاً، والفتوى
على قول محمد رحمه الله دفعاً للحيلة، وهذا كرجل في يديه عبد قال: هذا
العبد لفلان اغتصبه من فلان، ويصدق في حق نفسه حتى يضمن قيمته للثاني.
رجل في يديه ضيعة يزعم أنها وقف جده، ووقفه على ابنه وأولاد ابنه خاصة فجاء
رجل وادعاها، وقال: إن الواقف هذا وقفها على جميع أولاده، وأنا من جملة
أولاده وأراد تحليف صاحب اليد لا يحلف، فإن كان في يد صاحب اليد شيء من غلة
هذه الضيعة فحينئذٍ يحلف على نصيب المدعي؛ لأنه يدعي ملك ذلك القدر لنفسه،
وذو اليد ينكر، فيحلف على ذلك، ولا كذلك الوجه الأول، وهذا الجواب مستقيم
على قول من يقول: ليس له حق الخصومة ينبغي أن تكون الدعوى من المتولي حتى
يحلف المدعى عليه في الوجه الثاني، والقاضي إذا حلف المدعى عليه على العلم
في موضع وجب التحليف على الثبات يبقى للمدعي حق التحليف على الثبات، ولا
يحتسب بما حلف.
ولو نكل عن اليمين في هذه الصورة وقضى القاضي عليه بنكوله لا ينفذ قضاؤه،
(8/287)
وبمثله لو حلفه القاضي على الثبات في موضع
وجب التحليف على العلم يحتسب بما حلف لا أوفى المستحق عليه، وزيادة طلب
المدعي يمين المدعى عليه أخرج كراسة حسابك لأنظر فيه، والتمس من القاضي أن
يأمره بذلك أجابه القاضي إليه، ولكن لو أبى لا يجبر عليه، وهو نظير ما لو
طلب المدعى عليه من القاضي أن يأمر المدعي ببيان السبب.
قاضي العسكر لا ولاية له على غير أهل العسكر، ولا ينفذ قضاؤه على غير أهل
العسكر إلا إذا شرط ذلك عند التقليد، وإذا كان الرجل من أهل العسكر وهو
يعمل في السوق ويحترف فهو من أهل العسكر.
سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن وقف ضيعة على علماء خواقند، وسلم
إلى المتولي، ثم ادعى على المتولي فساد الوقفية بسبب الشيوع بين يدي قاضي
خواقند، فحكم بصحة الوقفية على قول من يرى ذلك وقاضي خواقند من علماء
خواقند، هل ينفذ قضاؤه؟ قال ينفذ قضاؤه؛ لأنه يصلح شاهداً في هذا، فيصلح
قاضياً، وإنما يصلح شاهداً في هذا استدلالاً بما ذكر هلال في «وقفه» إذا
وقف الرجل على فقراء جيرانه، ثم شهد بعض فقراء جيرانه على الوقف قبلت
شهادتهم؛ لأن الجوار ليس بلا زم.
القاضي لا يملك تزويج الصغار إلا إذا كتب في منشوره ذلك.
إذا مات القاضي قبل استيفاء الرزق من بيت المال يسقط رزقه، ذكره شمس الأئمة
الحلواني رحمه الله في أول النفقات من «أدب القاضي» .
قاضي كرخ وقاضي حسر إذا ألتقيا وقال أحدهما للآخر: إن فلاناً أقر لفلان
بكذا لا يقضي به حتى يبعث إليه الرقعة اتباعاً للسنة في كتاب القاضي إلى
القاضي، قالوا: هذا إذا لم يكن كل واحد منهما زمان الإخبار في مكان هو قاض
فيه، أما إذا كان كل واحد منهما في مكان هو قاض فيه ينبغي أن يقضي به؛ لأن
القول أقوى من الرقعة، والله أعلم.
(8/288)
|