المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الشهادات
هذا الكتاب يشتمل على أربعة وعشرين فصلاً:
1 * في تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك.
2 * في أقسام الشهادة وفي شهادة النساء.
3 * في بيان من تقبل شهادته، ومن لا تقبل.
4 * في الاستماع إلى الشهود وصفة أداء الشهادة.
5 * في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته.
6 * في شهادة الرجل على فعل من أفعال ابنه وشهادته لأبيه أو لأمه
7 * فيما يجوز من الشهادات، وما لا يجوز.
8 * في الشهادات في المواريث.
9 * في الشهادة على الشهادة.
10 * في شهادة الشهود بعضهم لبعض.
11 * في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم.
12 * في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به.
13 * في شهادة الوارث على الوصية والرجوع عنها.

14 * في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها، ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى.
15 * في الشهادة على الوكالة والوصاية.
16 * في شهادة ولد الملاعنة.
17 * في التهاتر بين الشهادات.
18 * في ترجيح أحد البينتين على الأخرى والعمل بالشيئين المتضادين.
19 * في شاهدي الزور.

(8/289)


20 * في الدعوى إذا خالف الشهادة.
21 * في الاختلاف الواقع بين الشاهدين.
22 * في التناقض في الدعوى والشهادة.
23 * في الشهادة على النسب.
24 * في المتفرقات.

(8/290)


الفصل الأول: في بيان تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك
في «فتاوي أهل سمرقند» ذكر أن الإشهاد على المداينة والبيع فرض على العباد؛ لأن بدونه يخاف تلف المال وفي تلف الأموال تلف الأبدان، وحرام على الآدمي إتلاف البدن، فيفرض عليه الإشهاد الذي هو طريق الصيانة، إلا إذا كان شيئاً حقيراً لا يخاف عليه التلف، وبعض المشايخ على أن الإشهاد مندوب، وليس بفرض، وهذا القائل يحمل الأمر المذكور في كتاب الله تعالى نحو قوله: {استشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) ونحو قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2) على الندب.
واختلف المشايخ في أنه هل يصح تحمل الشهادة على المرأة إذا كانت منتقبة؟ بعض مشايخنا وسعوا وقالوا: يصح عند التعريف، وقالوا: تعريف الواحد كاف، كما في المزكي والمترجم، والاثنان أحوط، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام خواهرزاده رحمه الله، وبعضهم قالوا لا يصح التحمل عليها بدون رؤية وجهها، وبه كان يفتي القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي والشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني.

ووجه ذلك: أن العلم شرط جواز الشهادة، قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (الزخرف: 86) وقال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» العلم لا يحصل إلا بالدليل القطعي، غير أن في كل موضع تعذر الوصول إلى الدليل القطعي يكتفى بالدليل الظاهر، وههنا الوصول إلى العلم وإلى معرفة وجهها ممكن بكشف وجهها، فلا ضرورة إلى إقامة التعريف من الواحد أو المثنى مقامه.
والدليل عليه: أنا أجمعنا على أنه يجوز النظر إلى وجهها للتحمل، والنظر إلى الأجنبية مع ما فيه من خوف الفتنة لا يجوز إلا لضرورة، لو صح تحمل الشهادة عليها بدون رؤية وجهها لتحمل الشهادة، فأما معرفة الاسم والنسب للشهادة حالة الغيبة والعلم بذلك لا يحصل بالمعاينة، فتجوز الشهادة على النسب والاسم بإخبار الغير، ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أخبره عدلان أنها فلانة فذلك يكفي، ألا ترى أنهما لو شهدا عند القاضي كان للقاضي أن يقضي بشهادتهما، والقضاء فوق الشهادة، فلأن يجوز الشهادة بإخبارهما أولى، وعلى قول أبي حنيفة: لا يحل له الشهادة على الاسم ما لم يسمع من جماعة لا يتصور تواطئهم على الكذب؛ لأنا قد ذكرنا أن الشهادة بناء على العلم، ولا يقع العلم إلا بالخبر المتواتر، فأما خبر المثنى ففيه احتمال، والفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله كان يفتى بقولهما في هذه المسألة، وهو اختيار نجم الدين النسفي رحمه الله، وعليه الفتوى.

فإن عرفها باسمها ونسبها عدلان فينبغي للعدلين أن يشهدا على شهادتهما، وهؤلاء

(8/291)


الشهود كما هو طريق الإشهاد على الشهادة حتى شهدوا عند القاضي على شهادتهما بالاسم والنسب، وشهدوا بأصل الحق بطريق الأصالة، فيجوز ذلك بلا خلاف.

وفي «الجامع الأصغر» قال أبو بكر الإسكاف رحمه الله: المرأة إذا ضرب وجهها، وقالت: أنا فلانة بنت فلان وقد (116أ4) وهبت زوجي مهري فإن الشهود لا يحتاجون إلى شهادة عدلين أنها فلانة بنت فلان ما دامت حية؛ لأنه يمكن للشاهدين أن يسرا لها، فإن ماتت حينئذٍ يحتاج الشهود إلى شهادة شاهدين أنها كانت فلانة بنت فلان.
قال نجم الدين النسفي: ويصلح تعريف من لا يصلح شاهداً لها كان الإشهاد لها أو عليها؛ لأن هذا خبر وليس بشهادة، ولهذا لم يشترط لفظة الشهادة، وفي الخبر الحاجة إلى موثق يوثق به، ومن المشايخ من قال: إذا كان الإشهاد لها لا يصلح تعريف من لا يصلح شاهداً لهما.
وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: إذا سمع الرجل صوت امرأة من وراء الحجاب، وشهد عنده اثنان أنه فلانة بنت فلان لا يجوز أن يشهد عليها أطلق الجواب إطلاقاً وكان الفقيه أبو الليث رحمه الله يقول: إذا أقرت المرأة من وراء حجاب وشهد عنده اثنان أنها فلانة لا يجوز لمن سمع إقرارها أن يشهد على إقرارها، إلا إذا رأى شخصها يعني حال ما أقرت فحينئذٍ يجوز له أن يشهد على إقرارها بشرط رؤية شخصها لا رؤية وجهها.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا أراد الرجل أن يعرف المرأة التي تريد أن يشهد لها بوكالة أو بأمر من الأمور ينبغي أن يدخل عليها وعندها جماعة من النساء ممن يوثق بهن ذلك الرجل، فيسألهن: أهذه فلانة بنت فلان؟ فإن قلن نعم يتركها أياماً، ثم نظر إليها بحضرة نسوة أخرى، فيصنع بها مثل ذلك، وكذلك يتردد إليها مراراً شهرين أو ثلاثة، فإذا وقع معرفتها في قلبه بقول نساء ورجال ومن أمكنه شهد عليها بذلك.

وفي «فتاوى النسفي» : إذا شهدا على امرأة سمياها ونسبا وكانت حاضرة وقال القاضي للمشهود: هل تعرفون المدعى عليها؟ فقالوا: لا فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو قالا: تحملنا الشهادة على امرأة اسمها ونسبها كذا، ولكن لا ندري أن هذه المرأة هل هي تلك المرأة بعينها أم لا؟ صحت شهادتهما على المسماة، فكان على المدعي إقامة البينة أن هذه هي التي سموها ونسبوها بخلاف الأول؛ لأن في الأول أقروا بالجهالة، فبطلت شهادتهم، ولا كذلك هذا الوجه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : سئل نصير رحمهما الله عن الشاهد إذا دعي إلى شهادة وهو في الرستاق، إن كان بحال لو حضر مجلس الحكم وشهد يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه يجب عليه الحضور؛ لأنه لا ضرر عليه في الحضور، وإن كان لا يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه لا يجب عليه الحضور، وإن كان الشاهد شيخاً كبيراً لا يقدر على المشي بالأقدام، وليس عنده ما يركب فكلف المشهود له بدابة يركب ويحضر فلا بأس به، وهذا من إكرام الشهود.

وعن أبي سليمان الجوزجاني: رجل أخرج شهوداً إلى ضيعة قد اشتراها، فاستأجر

(8/292)


دواباً لهم، فركبوا وذهبوا لم تقبل شهادتهم، ولو أكلوا طعامهم قبلت شهادتهم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا تقبل شهادتهم فيهما جميعاً.
وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أما في الركوب إذا كان للشهود قوة المشي أو قال: يستكرون به الدواب لا تقبل شهادتهم كما قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله.

وأما في الطعام، فإن اتخذها الطعام لأجلهم، فأكلوا تقبل شهادتهم، فإن كان الطعام مهيأ عنده، فقدم إليهم فأكلوا تقبل شهادتهم وفيه نظر، فالكبار من الأئمة يباشرون عقود النكاح في ديارنا، ويحضرون الناس للشهادة ويقدمون لهم ماء السكر، وجرت العادة في بعض البلدان أنهم يعطون الشهود السكر واللوز وغير ذلك، ويرون ذلك حسناً. وقال عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» وكذلك جرت العادة أن من أخرج الشاهد إلى الرستاق يعطيه دابته، خصوصاً إذا لم يكن للشاهد دابة، وإذا ذهب به لا يمكنه من الرجوع قبل أن يطعمه ورأوا ذلك فيما بينهم حسناً أيضاً.
سئل خلق عمن له شهادة وقعت الخصومة عند قاض وهو غير عدل، هل يسعه أن يكتم الشهادة حتى يشهد عند قاض عدل، قال: له ذلك، وسئل أبو بكر الإسكاف عمن له شهادة عند عدل، وهو مماطل في أدائها قال: إن كان يحفظ الشهادة على وجهها ولا يضطرب قلبه على شيء من أمر شهادته لا يسعه ذلك، وإن فعل فهو سيئ، وسئل الفقيه أبو بكر أيضاً: عمن امتنع عن ذلك لأن القاضي لا يعرفه، قال: إن علم أن القاضي لا يقبل شهادته أرجو أن يسعه أن لا يشهد.
في كراهية «العيون» : إذا امتنع الشاهد عن الشهادة، فإن كان في الصك جماعة ممن تقبل شهادتهم سواه وأجابوه يسعه أن يمتنع عن الشهادة، وإن لم يكن في الصك جماعة سواه أو كانوا لكن ممن لا يظهر الحق بشهادتهم عند القاضي، أو كان يظهر لكن شهادة هذا الشاهد أسرع قبولاً لم يسعه الامتناع؛ لأنه عسى يضيع حق المشهود له لو امتنع عن الشهادة.

وفي شرح سرقة شيخ الإسلام رحمه الله: أن في حقوق العباد إذا طلب المدعي الشاهد، فشهد له فاجر من غير عذر ظاهر، ثم أدى لا تقبل شهادته، وأشار إلى المعنى، فقال: لما ترك الأداء مع إمكان الأداء فقد احتمل أنه ترك الأداء بعذر بأن نسي أو كان به شغل مانع، واحتمل أنه ترك الأداء؛ لأنه أراد على الأداء أجراً، ولم يسلم له الأجر، فإذا أخذ الأجر بعد ذلك أدى، فتمكن في شهادته نوع تهمة، والتهمة مانعة قبول الشهادة.

وفي أول الوصايا من «أدب القاضي» : لا بأس للإنسان أن يحترز عن قبول الشهادة ويحملها.
وفي العين من كراهة «الواقعات» : رجل طلب منه أن يكتب شهادة أو يشهد على

(8/293)


عقد، فأبى ذلك، فإن كان الطالب يجد غيره، فللشاهد أن يمتنع، وإلا فلا يسعه الامتناع عنه، وعلى هذا أمر التعديل إذا سئل عن إنسان فإن كان هناك سواه من يعدله يسعه أن لا يجيب، وإلا لم يسعه أن لا يقول فيه الحق، حتى لا يكون مبطلاً للحق عسى.l
وفي وصايا «الفتاوي» : كتب صك وصيته وقال للشهود: اشهدوا بما فيه، ولم يقرأ عليهم قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا يجوز لهم أن يشهدوا حتى يعلموا ما فيه في قول علمائنا المتقدمين، وفي قول نصير رحمه الله: يجوز، وبه كان يأخذ علي بن أحمد رحمه الله.
وفي «أدب القاضي» للخصاف: رجل أشهد على صك أو كتاب وصية، ولم يقرأ عليه، فإن ذلك لا يجوز وفرق على قول أبي يوسف بين هذا وبين كتاب القاضي، فإن على قوله علم الشهود بما في الكتاب والختم، لا على ما فيه، وقد وجد الإشهاد على الكتاب والختم، أما في الصك والوصية الإشهاد يقع على البيع، أو على الحق الذي في الصك.
والإشهاد على ما في الصك بأحد أمور ثلاثة: بأن يقرأ الكتاب على الشهود حتى يكون ذلك إقراراً منه، أو بأن يقرأان الكتاب بين يدي الكاتب، وهو يقول: اشهدوا علي بما فيه، أو بأن يكتب بين يدي الشاهد، والشاهد يعلم ما كتب فيه.

وفي شهادات «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا كتب الرجل على نفسه لحق، وقال لقوم: اشهدوا عليّ بما في هذا الصك جاز لهم أن يشهدوا عليه، وإن كتب غيره وقال هو اشهدوا علي بما فيه، لم يجز حتى يقرأه عليهم، ثم يشهدهم.
وفي «الأقضية» عن أبي يوسف: إذا كتب الصك والوصية قدام الشاهد ودفعه إليه، وأثبت الشاهد شهادته فيه وبقي الصك في يد الشاهد إلى وقت الشهادة حل له أن يشهد على ذلك؛ لأن الصك إذا كان في يد الشاهد يؤمن على التغيير فيه، بخلاف ما إذا كان في يد غير الشاهد.
وفي «المنتقى» : رجل كتب كتاب رسالة إلى رجل، فكتب من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان سلام عليكم، أما بعد: فإنك قد كتبت إليّ تتقاضى بالألف التي كانت لك علي، وقد كنت قضيت منها خمسمائة وبقي لك علي خمسمائة، جاز لمن علمه أن يشهد عليه بذلك، وإن لم يشهده على نفسه بذلك، وهذا بخلاف ما لو أراه كتب على نفسه ذكر حقاً لرجل، ولم يشهده على نفسه لم يكن له أن يشهد عليه؛ لأن الرجل قد يكتب على نفسه كتاباً لحق قبل أن يلزمه المال، ولا يكتب الرسالة بذلك إلا بعد ما لزم المال.
وإذا رأى الرجل خطه على الصك، ولم يتذكر الحادثة ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب الرجل يرى اسمه وخطه: أنه لا يجوز له أن يشهد في قول أصحابنا، وذكر هناك أيضاً لو تذكر مجلس الكتابة، وأنه كتب وختم عليه ولم يتذكر أنه شهد على المال لا يشهد أيضاً، وذكر (116ب4) الفقيه أبو الليث والقاضي المنتسب إلى إسبيجاب، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا

(8/294)


يحل له أن يشهد ما لم يتذكر الحادثة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يحل، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وهكذا ذكر في «المنتقى» : والمذكور في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: لا ينبغي للشاهد أن يشهد وإن رأى في الصك خطه واسمه إذا لم يذكر الشهادة قال: وكذلك قال أبو حنيفة.
وإذا سمع الرجل إقرار رجل بحق، وطلب صاحب الحق منه أن يشهد له بالحق، جاز له أن يشهد بالحق، وإن لم يعاين سبب الحق، ويكفيه الإقرار، وكذا إذا سمع إقرار إنسان بحق حل له أن يشهد وإن لم يشهد عليه.
وسئل ابن مقاتل عن اثنين يحاسبا بين يدي جماعة، وقالا لهم: لا تشهدوا علينا بما تسمعون بيننا، ثم أقر أحدهما للآخر، قال: ينبغي للشاهد أن يشهد بما سمع من إقراره، وهو قول ابن سيرين قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه نأخذ.
وإذا دخل في البيت وعلم أنه ليس فيه غير الواحد، ثم خرج وقعد على الباب، وعلم أنه ليس للبيت مسلك آخر، فأقر من في البيت حل له أن يشهد على إقراره.

وفي «واقعات الناطفي» : إذا أشهدت المرأة شهوداً على نفسها لأبيها أو لأختها بمال تريد بذلك إضرار الزوج، أو أشهد الرجل شهوداً على نفسه لبعض الأولاد، ويريد به إضرار باقي الأولاد، والشهود يعلمون ذلك وسعهم أن يقبلوا الشهادة، ويشهدوا بذلك وفيه نظر، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا قال: «هذا جور فإنا لا نشهد على الجور» فالصحيح أنه لا ينبغي للمرء أن يتحمل هذه الشهادة، ولكن إذا تحمل، فله أن يؤدي.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله سئل أبو الهيثم الصفار رحمه الله عن رجل أجر سوق النحاسين مقاطعة من السلطان، وكتب بذلك كتاباً، وأشهد شهوداً، هل يحل للشهود أن يشهدوا بذلك؟ فقال: لو شهدوا حل بهم اللعن؛ لأنهم شهدوا بباطل، ولو شهدوا على إقراره ولكنهم عرفوا السبب، فهم ملعونون أيضاً، ويجب أن يتحروا تحمل هذه الشهادة، وكذا في كل إقرار هو بناء على الحرام، وهذا يؤيد ما ذكرنا في المسألة المتقدمة.

جاء رجل إلى رجلين مع أعوان السلطان، وأقر عندهما أن لفلان علي دين كذا،

(8/295)


وفلان من أناس السلطان، ثم طلب منهما الشهادة على إقرار هذا المقر، والمقر يزعم أنه أقر خوفاً من المقر له، فإن على الشاهدين أن يشهدا عن هذا الأمر، وإن وقفا على أمر فيه خوف أو إكراه امتنعا عن الشهادة لأن قوله تأيد بمؤيد وإن لم يع على ذلك يشهدان على إقراره ويخبران القاضي أنه أقر، ومعه عوان السلطان حتى يتأمل القاضي فيه.
رجل أقر بين يدي قوم إقراراً صحيحاً أن لفلان عليه كذا وكذا درهماً، فمضت على ذلك مدة ثم جاء عدلان أو ثلاثة إلى هؤلاء الشهود، وقال: شهدوا لفلان على فلان بالدين، فإنه قضاه كله، فالشهود بالخيار إن شاؤوا امتنعوا عن الشهادة، وإن شاؤوا شهدوا بذلك وأخبروا الحاكم بالقصة ثم لا يقضي القاضي بالمال حتى يتفحص، كذا ذكره في «فتاوي أبي الليث» عن الفقيه أبي جعفر وأبي نصر ابن سلام.

وفي «العيون» عن محمد: إذا شهد عدلان عند شاهد الدين أن صاحبه قد استوفاه، لا يسعه أن لا يشهد بالدين إذا طلب منه صاحبه، ولكن يشهد أيضاً بما أشهده بالشاهدين على شهادتهما بالاستيفاء، أراد به أنه يخبر القاضي بذلك، أما لا يشهد على شهادتهما لأنهما ما أشهداه على شهادتهما.
وفي «الواقعات» عن محمد أنهما يشهدان أنه كان عليه ذلك ولا يشهدان أن له عليه. وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله أنهما بالخيار إن شاءا شهدا، وإن شاءا لم يشهدا.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا شهد الرجل على حق لرجل ثم أخبره رجلان يثق بهما أنه قد قبض حقه، فليس له أن يمتنع عن أداء الشهادة إذا سأله الطالب أن يشهد بحقه؛ لأنه ليس إليه إن سمع من الشهود أن يحكم به، قال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك في النكاح إذا أشهد الرجل على نكاح امرأة ثم أخبره رجلان يثق بهما أنه طلقها والمرأة تجحد النكاح، فسأله الرجل أن يشهد له بالنكاح لم يكن له أن يمتنع عن الشهادة ولو كان الطالب أخبره بالطلاق أو القبض ثم دعاه إلى تلك الشهادة لم يشهد بها.

وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: إذا شهدت أقبل البيع أو النكاح أو قبل العمد أو الإقرار بشيء من ذلك، ثم شهد عندك عدلان على الزوج أنه طلقها ثلاثاً بحضرتنا، أو أن امرأة واحدة أرضعتهما وهما صغيران في الحول، أو أن المشتري أعتق الجارية أو أن البائع أعتقها قبل أن يبيعها من هذا المشتري، أو أن الميت قد عفى بنفسه قبل أن يموت، وقد أنكرت المرأة أن تكون امرأته وأنكرت الجارية أن تكون أمة المشتري لم يسعك أن تشهد على أصل القود وأشباه ذلك، ألا ترى أنهما لو شهدا عند الزوجة بالطلاق، أو شهدا عند الأمة بالعتق لم يسعهما أن يدعاهما بجامعاهما، فكذا لا يسع للشاهد أن يشهد وإن كان ذلك بحق قبله. وإن كان الشاهد بذلك واحداً عدلاً لم يسع للشاهدين أن يمتنعا عن أداء الشهادة الأولى، ولم يسع الزوجة والأمة منع الزوج والمولى الجماع.

قال: وما أقر به الرجل من مال أو ما أشير به بين يدي رجل لرجل آخر ثم أنكر

(8/296)


وطلب المقر له شهادة، وأخبر الشاهد عدلان بأن ذلك الذي أقر به المقر قد صار له ببيع أو هبة، قال: يشهد الشاهد بما كان يعلم من ذلك، ولا يلتفت إلى قول العدلين، وقيل: لو وقع في قلبه أن المخبرين صادقان لا يسعه أن يشهد بما كان يعلم من ذلك.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا شهد عند شاهد الدين عدلان أن الطالب أبرأ المطلوب لا يسعهما أن يمسكا عن الشهادة، إلا أن يكونا سمعا إقرار الطالب بالإبراء والاستيفاء.

وفي «الواقعات» : إذا علم الشاهدان أن الدار للمدعي، فشهد عندهما شاهدان عدلان أن المدعي باع الدار من الذي في يديه، قال محمد رحمه الله يشهدان بما علما، ولا يلتفتان إلى شاهدي البيع ولو شهد عند شاهدي النكاح أو شاهدي شراء العبد عدلان أنه طلقها ثلاثاً، أو بالعتق على البائع لا يشهدان في هاتين الخصلتين، وبعض مشايخ زماننا اختاروا في هذه المسائل كلها أنه إن شهد عند الشاهد بذلك عدلان ووقع في قلبه أنهما صادقان ليس له أن يشهد بما علم من أصل الحق، فإن شهد عنده شاهد واحد أو شاهدان إلا أنه لم يقع في قلبه صدقهما، فله أن يشهد بما علم من أصل الحق.
وإذا تزوج الرجل امرأة بشهادة شاهدين على مهر مسمى، ومضى على ذلك سنون، وولدت الأولاد أو مضى سنون ثم مات الزوج، ثم إنها استشهدت الشهود أن يشهدوا على ذلك المسمى وهم يتذكرون استحسن مشايخنا أنه لا يسعهم أن يشهدوا بعد اعتراض هذه العوارض، من ولادة الأولاد ومضيّ الزمان؛ لاحتمال سقوط كله أو بعضه، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، ثم أفتى كما هو جواب الكتاب أنه يسعهم أن يشهدوا، وعليه الفتوى.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجل باع واشترى وهو على حال فساد يستحق أن يحجر عليه، لم ينبغ للرجل إذا دعي للشهادة على مثل هذا أن يشهد؛ لأن من رأي الحاكم أن لا يجر ذلك، قال: قلت: فإن كان الذي يريد أن يشهدني على دفع المال إلى الوارث وهو على حال فساد، يجب أن يحكم الحاكم عليه، قال: وسعك أن تشهد عليه وسعك أن لا تجيب إلى الشهادة على ذلك، فكأنه خيره بين أن يجيب وبين أن لا يجيب.
وفي «المنتقى» : رجل في يديه عبد لا يقر عن نفسه، قال الذي في يديه (117أ4) هو عبدي وسمع ذلك منه رجل، ثم تكلم الغلام، وقال: أنا حر وسع لذلك الرجل أن يشهد أنه عبده وإن لم يكن سمع منه ذلك لم يسعه أن يشهد أنه عبده.

وفيه أيضاً عن محمد: رجل عنده شهادة لرجل، وهو محدود في قذف أو عبد وسعه أن يشهد ويكتم أنه عبد أو محدود في قذف حتى يقضي للشهود له بالألف الذي يدعيه.
إذا أشهد الرجل على ملك دار بعينها إلا أنه لا يعرف الحدود، يجوز أن يسأل الثقات عن حدودها للشهادة، لكن يشهد بالدار على إقراره، ولا يشهد بالحدود على إقراره حتى لا يكون كذباً، بل يفسر الحدود من ذات نفسه. ونحو ذلك: قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» :

(8/297)


رجل في يديه شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له، قد ذكرنا قبل هذا إن علم الشاهد بالمشهود به شرط جواز أداء الشهادة، وأقوى الأدلة التي يحصل بها العلم المعاينة فيجب اعتبارها الأداء إذا تعذر فحينئذٍ يعدل عنها، ويعدل إلى دليل آخر دونها والملك في الأشياء المعينة لأشخاص معنيين لا يعرف من طريق الإحاطة، وإنما يعرف بطريق الظاهر بدليله، واليد بلا منازعة دليل الملك بل لا دليل لمعرفة الملك في حق الشاهد سوى اليد؛ لأن أكثر ما في الباب أن يعاين أسباب الملك من الشراء والهبة أو ما أشبه ذلك، إلا أن الشراء والهبة ما يصل الملك إذا كان البائع أو الواهب مالكاً، وإنما يعرف كون الواهب مالكاً بيده بلا منازعة، وإذا كان اليد بلا منازعة دليلاً على الملك، كان للشاهد أن يعتمد عليه، ويشهد بالملك لصاحب اليد اعتباراً للظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة، ثم إن محمداً رحمه الله على رواية «الجامع» جعل اليد فيما سوى العبد والأمة دليل الملك، ولم يجعله في العبد والأمة دليل الملك، ولم يفصل بين الصغير والكبير، وروى ابن سماعة عنه: أنه فرق بينما إذا كان العبد صغيراً لا يعبر عنه نفسه، وبينما إذا كان كبيراً أو صغيراً يعبر عن نفسه، فجعل اليد على الصغير الذي لا يعبر عن نفسه دليل الملك، ولم يجعل اليد على الكبير وعلى الصغير الذي يعبر عن نفسه دليل الملك.

وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن العبد في يد نفسه حتى إذا ادعى أنه حر الأصل قبل قوله فلا يثبت لغيره عليه يدعى الحقيقة، حتى يعتبر لإطلاق الشهادة والاستخدام لا يصلح دليلاً على الملك أيضاً لأن الحر قد يستخدم الحر، وقد يخدمه طوعاً، إلا إذا كان العبد بحال لا يعبر عن نفسه، كما هو رواية ابن سماعة فحينئذٍ يجوز له أن يشهد بالملك؛ لأنه لا يد له على نفسه، فثبت يد المولى عليه حقيقة، وصار كالثياب والبهائم.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه سوى بين العبد والإماء، وبين سائر الأشياء، وجعل اليد في الكل كيد الملك، وهكذا روي عن محمد، وهكذا روى أبو يوسف في «الأمالي» عن أبي حنيفة رحمه الله.

وذكر بعض المشايخ في «شرح الجامع الصغير» : فصل العبد والأمة، وقال: إن كان الرائي يعرف أنه رقيق يسع له أن يشهد لذي اليد بالملك؛ لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، بل يكون في يد من هو مستولي عليه من حيث الظاهر، أما إذا لم يعرف أنه رقيق لا يسعه أن يشهد لذي اليد بالملك مجرد اليد؛ لأن الحر قد يخدم الحر طوعاً كأنه عبده، فلا يصح الاستدلال به على الملك.
ثم إن محمداً رحمه الله شرط في بعض الروايات مع اليد شيئاً آخر، وهو أن يقع في قلب الرائي أن العين لصاحب اليد، فقال: إذا رأيت في يدي رجل ثوباً أو متاعاً، فوقع في قلبك أنه له، ثم رأيته بعد ذلك في يدي غيره وسعك أن تشهد أنه للأول، فإن لم يقع في قلبك أنه له برؤيتك إياه في يده، لم يسعك أن تشهد أنه له، وهكذا روي عن أبي

(8/298)


يوسف، وهذا لأن الأصل اعتبار علم اليقين لجواز الشهادة، فلأن بقدر اعتبار علم اليقين أمكن اعتبار علم الفتوى.
وعن هذا قلنا: إذا رأى درة في يد كناس أو حجام، أو رأى كتاباً في يدي جاهل ليس في آبائه من هو أهل لذلك، لا يحل له أن يشهد بالملك له؛ لأن الذي يشير إلى قلب كل أحد أنه كاذب في دعواه، وأبو حنيفة لم يشترط ذلك في رواية، فإنه روي عنه أنه قال: إذا كانت الدار أو العبد أو الثوب في يدي رجل وسعك أن تشهد أن ذلك له ولم يقل: ووقع في قلبه أنه له، وذكر الصدر الشهيد حسام الدين في «شرح الجامع» في آخره: أنه لا يحل له الشهادة بمجرد اليد، وإنما يحل له إذا رآه في يده يتصرف فيه، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار يقول: إن كان الكوز في يده على ممر الزمان، وكانت الشبهة عنها مرتفعة، ولم يكن رأى هناك خصماً يخاصم فيها، فالشهادة جائزة.
وذكر القدوري في «شرحه» عن أبي حنيفة وأبي يوسف: إذا رأى الرجل في يدي رجل وعلم أنه له يعرفه بالقلب، ويكتب ذلك عنده زماناً، فليشهد له بالملك، قال القدوري رحمه الله: وإنما اعتبر أن يبقى في يده زماناً، فيحصل تصرفه تصرف المالكين، فيغلب على الظن أنه له، وشرط الخصاف شرائط آخر لم يشترط أحد تلك الشرائط، فقال: إنما يشهد على الملك إذا رآه في الدار يرمها ويبني فيها ويسكنها ويؤاجرها ويحدث فيها أشياء لا يضرب أحد على يده في ذلك، ويقال فيما بين الناس: إن هذا ملكه.
وبعض مشايخنا شرطوا شرطاً آخر، وهو أن يدعي ذو اليد الملك لنفسه بأن يقول حال ما رآه في يده: هذا ملكي، فأما إذا لم يعلم منه دعوى الملك حال ما رآه في يده، فإنه لا يشهد له بالملك وإن رآه يتصرف فيه.

وفي «المنتقى» : لم يشترط هذا الشرط في بعض هذه المسائل، وقال في مسألة منها ولم يقل هو لي، وصورة ذلك: إذا رأى ثوباً في يدي رجل، ولم يقل: هو ثوبي، ثم ادعاه رجل وسعه أن يشهد أنه ثوبه، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: لا بد لحل الشهادة من أن يقع في قلب الرائي أنه ملكه، وكان يقول وإن رآه يتصرف فيه والناس يقولون أنه ملكه، إلا أنه وقع في قلب الرائي أنه ملك غيره لا ملكه، وأنه يتصرف بأمر ذلك الغير لا يحل له أن يشهد بالملك وعليه فتوى كثير من مشايخنا.
ثم هذه المسالة على أربعة أوجه.
أحدها: أن يعاين الشاهد المالك والملك، بأن عرف المالك بوجهه واسمه ونسبه، وعرف الملك بحدوده وحقوقه، ورآه في يده يتصرف تصرف الملاك ويقع في قلبه أن له، حل له أن يشهد له بالملك؛ لأن هذه شهادة عن علم وبصيرة، وإن لم يعاين الملك ولا المالك، ولكن سمع من الناس قالوا: لفلان بن فلان في قرية كذا ضيعة، حدها كذا وكذا، لا يحل له أن يشهد له بالملك؛ لأنه مجازف في هذه الشهادة فإن عاين المالك

(8/299)


وعرفه معرفة تامة ولكن لم يعاين الملك، بأن سمع من الناس أن لهذا في قرية كذا ضيعة حدودها كذا، وهو لم يعرف تلك الضيعة، ولم يعاين يده عليها، لا يحل له أن يشهد له بالملك، وإن عاين الملك دون المالك بأن عاين ملكاً محدوداً وينسب هذا الملك إلى فلان بن فلان الفلاني وهو لم يعاين فلاناً بوجهه ولا يعرفه بنسبه، فالقياس: أن لا تحل له الشهادة، وفي الاستحسان تحل لأن الملك معلوم والنسبة تثبت بالشهرة والتسامع، فكانت هذه شهادة بمعلوم.
توضيحه: أن صاحب الملك ربما يكون امرأة لا تبرز ولا تخرج، فلو اعتبرنا تصرفها بنفسها لجواز الشهادة بالملك يبطل حقها فاكتفى فيه بالتسامع، فإذا سمع أن هذه الضيعة لفلانة وفي يدها، ووقع في قلبه أن الأمر كما سمع، حل له أن يشهد بالملك لها، هكذا ذكره الخصاف في «أدب القاضي» .

وفي «المنتقى» : إذا رأيت رجلاً على حمار يوماً لم أشهد أنه له، ولو رأيته على حمار خمسين يوماً أو أكثر، ووقع في قلبي أنه له شهدت أنه له، ولو وقع في قلبي أنه عارية لم أشهد له قال محمد رحمه الله في «المنتقى» : إذا رأيت ثوباً أو متاعاً في يدي رجل، ووقع في قلبك أنه له.
ثم رأيته بعد ذلك في يد غيره فشهد عندك شاهد عدل أنه للذي في يديه اليوم، كأن أودعه الأول بمحضر منها لم يسعك أن تشهد أنه للأول، قال: لأن هذا ينبغي أن يقع في قلبك إذا شهد العدلان بما وصفت لك أنه ليس للأول، فلا يسعك أن تشهد أنه للأول، وإن شهد بذلك عندك واحد وسعك أن تشهد أنه للأول ما لم يقع في قلبك أنه صادق، وإذا وقع في قلبك إنه صادق فلا تشهد به للأول؛ لأن الذي وسعك أن تشهد به للأول لكأنه قد زال عن قلبك بهذه الشهادة، فكأنه لم يقع في قلبك قط أنه للأول.

وفي «شرح شهادات الجامع» : أن من عاين دابة تتبع دابة، وترضع منها حل له أن يشهد بالدابة المرتضعة لصاحب الدابة الأخرى وبالنتاج، وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرح دعوى الأصل» (117ب4) .

نوع آخر من هذا الفصل
قال محمد رحمه الله: ولا تجوز الشهادة على الأملاك وعلى أسبابها، نحو: البيع والهبة والصدقة بالشهرة والتسامع.

وتجوز الشهادة بالشهرة والتسامع في أربعة أشياء: النسب والنكاح والقضاء والموت، والقياس في هذه الأشياء أيضاً أن لا تحل الشهادة بالتسامع؛ لأن شرط جواز الشهادة علم معاينة، قال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهدوا وإلا فدع» ، فقد شرط لحل الشهادة علم معاينة، ولم توجد، إلا أنا استحسنا وجوزنا الشهادة بالشهرة

(8/300)


والتسامع في هذه الأشياء الأربعة للتوارث والتعامل بين الناس، ولأنه يتعذر الوقوف على حقيقتها فاكتفى فيها بالدليل الظاهر، فهو الشهرة والتسامع فإنه اقترن بهذه الأشياء ما يوجب الشهرة والشهرة أقيمت مقام العيان في بعض الصور، كما في باب الأخبار، فإن الأخبار إذا اشتهرت من رسول الله عليه السلام كانت بمنزلة المسموع من النبي عليه السلام، حتى جاز التخصيص والنسخ بها.
ثم الشهرة التي تقوم مقام المعاينة الشهرة في الطرفين، فإن الأصل في هذا الباب أخبار رسول الله عليه السلام وإنما يثبت حد الشهرة بأخبار النبي عليه السلام، بوجود التواتر في الطرفين، أما في الطرف الأول والأوسط أو في طرف الأوسط والآخر، أو في الطرف الأول والآخر وفي هذه الأشياء وجد الاشتهار في طرفين أيضاً، في طرف الوقوع وفي طرف البقاء فتقام الشهرة مقام المعاينة.
جئنا إلى بيان صور هذه المسائل.

فأما النسب فصورته: إذا سمع الرجل من الناس أن فلان بن فلان الفلاني، وسعه أن يشهد بذلك وإن لم يعاين الولادة على فراشه للتوارث والتعامل، فإنا نشهد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابن قحافة، وعمر رضى الله عنه ابن الخطاب، وعثمان رضي الله عنه ابن عفان، وعلي رضي الله عنه ابن أبي طالب، ونحن ما رأينا أبا قحافة ولا الخطاب ولا أبا طالب، وما أدركناهم، وكذلك الغلام منا إذا أدرك فسمع الناس يقولون: فلان بن فلان ولم يدرك هذا الغلام أباه، فإنه يشهد أنه فلان بن فلان ولأن سبب النسب العلوق منه، وإنه لا يمكن الوقوف عليه حقيقة؛ لأنه أمر باطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وسبب العلوق وهو الوطء يكون سراً من الناس لا يعرفه إلا الواطئان، والولادة لا يعرفها غير القابلة، فتعذر الوقوف على حقيقته، فلم يكلف الشهود معرفته حقيقة، واكتفى فيه بالدليل الظاهر، وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالنسب مشتهر وقوعاً وبقاء، وقوعاً بأن الولادة تكون بين جماعة من النسوان غالباً، ثم يهيأ بعد ذلك لأجلها ويتخذ لذلك وليمة، وهو العقيقة.

وأما بقاء: فلأن بمضي الزمان يشتهر نسبه فيما بين الناس، فيقولون هذا ابن فلان، فيقوم مقام المعاينة.
وأما النكاح فصورته: إذا رأى رجلاً يدخل على امرأة وسمع من الناس أن فلانة زوجة فلان يسعه أن يشهد أنها زوجته وإن لم يعاين عقد النكاح للتوارث، وإنا نشهد أن عائشة رضي الله عنها كانت زوجة النبي عليه السلام، وفاطمة رضي الله عنها كانت زوجة علي رضي الله عنه، ولم نعاين نكاحهما ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأن جواز النكاح يبنى على المسألة بدليل أن نكاح المرتد لا يجوز، وإنه لأمر في باطنه؛ لأن اعتقاده لا يقف على حقيقته غير الله تعالى، فاعتبر الظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة والنفساء بالشهرة والتسامع فيه فالنكاح يشتهر وقوعاً وبقاء، أما وقوعاً: فلأنه يكون بمحضر من الشهود ويتخذ لذلك وليمة، وأما بقاء: فلأن الناس يرونه يدخل عليها كما

(8/301)


يفعل الأزواج، ويقولون فيما بينهم: هذا زوج هذه.
وأما القضاء فصورته: إذا رأى رجلاً قضى لرجل بحق من الحقوق، ويسمع من الناس أنه قاضي هذه البلدة وسعه أن يشهد أن قاضي بلدة كذا قضى لفلان، وإن لم يعاين تقليد الإمام إياه قضاء هذه البلدة للتوارث، فإنا نشهد أن شريحاً كان قاضياً، وعلياً رضى الله عنه كان قاضياً، ولم ندركهما، ولم نعاين تقليدهما، ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأن صورته قاضياً ينبني على المسألة، فإنه إذا كان مسلماً صلح قاضياً ونفذ قضاؤه بين المسلمين، وإلا فلا في اعتقاده لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فاعتبر الظاهر وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالقضاء يشتهر وقوعاً وبقاء، أما وقوعاً: فلأن التقليد غالباً يكون بين يدي جماعة، وبعد ذلك يكتب له منشور، ويقرأ على رؤوس الخلائق ويجتمع الناس إليه كل يوم لفصل الخصومات بينهم، وذلك يفيد من العلم مثل ما يفيد العيان، فجازت الشهادة عليه بالشهرة.

أما الموت فصورته: إذا سمع الناس يقولون: إن فلاناً مات، أو رآهم صنعوا به ما يصنع بالموتى، يسعه أن يشهد على موته وإن لم يعاين ذلك للتوارث، فإنا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وتوفي الصحابة ولم ندرك زمانهم ولم نعاين ذلك، ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأنك ترى إنساناً عليه زي الموتى وسيماهم وهو حي حقيقة، كالذي أخذته السكينة ونحوه، ونرى آخر في صورة الأحياء وهو ميت حقيقة، كما كان سليمان عليه السلام، مات ومضى عليه زمان طويل، ولا يعلم به أحد من أصحابه، فإذا تعذر الوقوف على حقيقته اكتفينا بالظاهر، وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالموت يكون بمحضر جماعة من الناس، وبعد ذلك يجتمع الناس للصلاة عليه، ولدفنه وتعزيته، فيكتفى بها لجواز الشهادة عليها بالتسامع، ولأن لهذه الأشياء أحكاماً تبقى بعد القضاء قروناً، فلو لم تجز الشهادة بالتسامع لتغلظت تلك الأحكام.

قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الموت: إذا أخبرك واحد عدل بالموت وسعك أن تشهد به، وأما في النسب فلا يسعك أن تشهد به حتى يشهد عندك عدلان، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قول أبي حنيفة رحمهم الله هذا على ما يقع في القلب، وهكذا روى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يحل له أن يشهد بالنسب حتى يسمع ذلك من العامة، والجواب في النكاح والقضاء نظير الجواب في النسب، وقد فرقوا جميعاً بين الموت وبين الأشياء الثلاثة، فاكتفوا بخبر الواحد في الموت دون الأشياء الثلاثة.

ووجه الفرق: أن الموت قد يتفق في موضع لا يكون ثمة إلا واحد، فلو قلنا إنه لا يسمع الشهادة على الموت بإخباره ضاعت الحقوق المتعلقة بالموت وبطلت بخلاف هذه الأشياء الثلاثة؛ لأن الغالب فيها أن تكون بين الجماعة، أما النكاح فلأنه لا ينعقد إلا بشهادة الاثنين، وتقليد الإمام القضاء يكون بين الجماعة في الغالب، وكذلك الولادة، فاشتراط العدد فيها لا يؤدي إلى تضييع الحقوق.

(8/302)


وكان الفقيه أبو جعفر البلخي رحمه الله: يفرق بين الموت والنسب من حيث أن الموت مما يعاين، فقد أخبر عن عيان، فكان فيه زيادة قوة، فلا يشترط العدد، فأما النسب فلا يتصور فيه المعاينة، فيمكن في خبره نوع شبهة، فلا يكتفي فيه بقول الواحد ومن المشايخ من قال: لا فرق بين الموت والنسب والقضاء والنكاح، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.
موضوع مسألة الموت أنه أخبره واحد عدل موثوق به، ولم يذكر العدل والموثوق به في الأشياء الثلاثة، ولو كان الواحد المخبر في الأشياء الثلاثة عدلاً موثوقاً به حل له أن يشهد، ومنهم من قال بالفرق والفرق ما ذكرنا.
ثم عند أبي يوسف ومحمد يجوز الشهادة بخبر المثنى في النسب والقضاء والنكاح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز الشهادة ما لم يسمع ذلك من العامة بحيث يقع في قلبه صدق الخبر.

وجه قولهما: أن خبر الاثنين للعدل حجة مطلقة لو شهدا به عند القاضي قضى بشهادتهما، فإذا شهدا عنده حل له أداء الشهادة أيضاً؛ لأن جواز الشهادة يبنى على العلم، كما أن جواز القضاء يبنى على العلم، فإذا جاز القضاء بهذا العلم لأن تجوز الشهادة به والقضاء أقوى؛ لأن فيه إلزاماً أول، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن جواز الشهادة يبنى على العلم، وبخبر المثنى لا يحصل العلم لبقاء شبهة الكذب في خبرهما وإن كانا عدلين، وأما بخبر الجماعة التي لا يتصور تواطؤهم على الكذب يحصل العلم، بحيث لا يشك السامع في وجود المخبر به، فإذا أخبره جماعة يحصل له العلم بخبرهم ويقع في قلبه صدقهم، حل له أداء الشهادة وإلا فلا يحل له، ثم في الأشياء الثلاثة إذا ثبت والشهرة والاستفاضة عندهما بخبر عدلين، بشرط أن يكون الإخبار بلفظة الشهادة، كذا ذكره الخصاف وشيخ الإسلام رحمهما الله، وبه أخذ الصدر الشهيد برهان الدين جدي رحمه الله لأنه إخبار بالشهادة يوجب زيادة علم شرعاً لا توجبه لفظة الخبر، ألا ترى أن القاضي لا يقضي ما لم يأت الشاهد بلفظة الشهادة، وفي فصل (118أ4) .

الموت لما ثبتت الشهرة بخبر الواحد بالإجماع لا يشترط فيه لفظية الشهادة، بل يكتفى فيه بمجرد الإخبار، إما لأن لفظ الشهادة من الواحد لا توجب زيادة العلم حتى لا يقضي القاضي بها، أو لأنه لما سقط اعتبار العدد وتأثير العدد في إفادة زيادة العلم أكثر من تأثير لفظة الشهادة، لأن يسقط اعتبار لفظة الشهادة أولى.

وأما الشهادة على الدخول بالشهرة والتسامع ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه يجوز؛ لأن هذا أمر يشتهر، ويتعلق به أحكام مشهورة من النسب والمهر والعدة وثبوت الإحصان، بخلاف الزنا، حيث لا تجوز الشهادة فيها بالتسامع، لأن الزنا فاحشة، والشهادة بالتسامع إنما جازت احتيالاً لإحياء حقوق الناس؛ لأن الذين عاينوا لو ماتوا ومضى عليه قرن بعد قرن لو لم تجز الشهادة بالتسامع أدى إلى إبطال حقوق الناس، والفاحشة لا يحتال لإثباتها.

(8/303)


وأما الشهادة على المهر بالشهرة والتسامع فقد ذكر في نكاح «المنتقى» أنه يجوز، وهكذا ذكر في شهادات «المنتقى» وصورة ما ذكر في الشهادات: قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول في قوم خرجوا من ملاك رجل وفي الخارج قوم يشهدوا الملاك، فأخبروهم أنها زوجت على كذا من المهر وسع الخارجين أن يشهدوا بالمهر، ويثبتون الشهادة أن المهر كذا، وكذا ولو قالوا: سمعنا الذين شهدوا الملاك يقولون: المهر كذا وكذا تقبل شهادتهم.
وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله: أن الشهادة على المهر بالشهرة لا تجوز، وأما الشهادة في الأملاك لا تحل بالشهرة والتسامع في قول علمائنا، إلا في فصل واحد ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، وقال الشافعي رحمه الله: يحل.
وأجمعوا على أن الشهادة بالشهرة والتسامع في أسباب ملك اليمين لا تحل، كالبيع والهبة والصدقة، وذهب في ذلك أن الشهرة والاستفاضة تتحقق في الأملاك كما تتحقق في الأشياء الأربعة، وإنا قول: غصباً كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دار أبي نعمان ود السامانية، كما في النسب نقول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والشهرة والاستفاضة أقيم مقام العيان، كما في الأشياء الأربعة، بخلاف الأسباب من البيع وغيره، لأنها لا تبقى في نفسها لتشتهر، لأنها كلام قد انقضى ومضى، ووقوعاً قد يشتهر وقد لا يشتهر، فإنه قد يقع بين جماعة وقد لا يقع، فلا تثبت الشهرة والاستفاضة في حق الأسباب، فأما الملك مما يبقى وما بقي اشتهر واستفاض.
وعلماؤنا ذهبوا في ذلك إلى أن الشهرة أقيم مقام العيان فيما يشتهر وقوعاً وبقاء، والاشتهار في الأملاك إن كان يوجد بقاء لا يوجد وقوعاً في الغالب قد يشتهر وقوعاً وبقاء في الغالب، فيثبت حد الشهرة في الأشياء الأربعة، والشهرة أقيمت مقام العيان كما في الأخبار.

وإذا شهد شاهدان أن فلاناً مات، وترك هذه الدار ميراثاً لابنه، وهذا لا يعلم له وارثاً آخر، إلا أنهما لم يدركا فلاناً الميت لا تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان بالملك للميت بالشهرة والتسامع.
بيانه: أن الوراثة خلافة، فما لم يثبت الملك للميت لا يتصور فيه الخلافة للوارث، والشهود إذا لم يدركوا الميت لم يعاينوا سبب الملك في حقه، ولا اليد المتصرفة، فتعين أن تكون الشهادة بالشهرة والتسامع، والشهادة على الملك بالشهرة والتسامع لا تجوز.

وأما الشهادة في الوقف هل تحل بالشهرة والتسامع؟ فلا رواية لهذا، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تحل بالشهرة والتسامع لأنه مما يشتهر وقوعاً في الغالب، وبقاء لا محالة، فصار كالأشياء الأربعة، وبعضهم قالوا: لا تحل، لأنه إن كان يشتهر بقاء

(8/304)


لأن ما بقي اشتهر لا يشتهر وقوعاً لا محالة قد يشتهر وقد لا يشتهر، لأن الوقف قربة يتقرب بها إلى الله تعالى والإخفاء بالقرب أكثر من الإعلان بها، فيصير بمنزلة الأملاك من هذا الوجه، ومن المشايخ من قال: تجوز الشهادة على أصل الوقف بالتسامع، أما على شرائط الوقف لا، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهو الأصح، لأن أصله يشتهر، أما شرائطه لا تشتهر، وأما الشهادة بالعتق بالشهرة والتسامع لا تحل عندنا، وعند الشافعي: تحل، لأنه مما يشتهر بقاء عنده يكفي لحل الشهادة، وعندنا لا يكفي، بل نشترط الشهرة بقاء ووقوعاً، والعتق إن كان يشتهر بقاء لا يشتهر وقوعاً لا محالة، لأن العتق قربة، وقد ذكرنا أن الإخفاء بالقرب أكثر من الإعلان بها.
فأما الشهادة بالولاء بالشهرة والتسامع لا تحل عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يعاين عتق المولى، وهو قول أبي يوسف الأول، وعلى قوله الآخر: تحل، وقول محمد مضطرب في بعض الروايات مع أبي حنيفة، وفي بعضها مع أبي يوسف، فأبو يوسف ذهب في ذلك إلى أن الولاء بمنزلة النسب، على ما قال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» .

والشهادة في الأنساب تحل بالشهرة والتسامع، وكذا فيما له حكم النسب، ألا ترى أنا نقول: نافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس، كما نقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو حنيفة رحمه الله قال: إنما تحل الشهادة بالشهرة والتسامع في النسب، لأنه يشتهر وقوعاً وبقاء في الغالب على ما بيّنا، فأما الولاء، فإن كان يشتهر بقاء، لأن ما بقي يشتهر لا محالة، لا يشتهر وقوعاً لا محالة في الغالب، لأن الولاء يثبت بالعتق، والعتق قد يوقع على سبيل الشهرة، وقد يقع على سبيل الخفية، لأنهما قربة، والإخفاء في القرب التي يتطوع بها أصل، وإذا كان يشتهر بقاء لا وقوعاً كان الولاء بمنزلة الأملاك من هذا الوجه.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرح أدب القاضي» للخصاف: أن الشهادة على العتق مختلف فيه بين أصحابنا رحمهم الله، كالشهادة على الولاء، قال في كتاب «الأقضية» : وأما الولاء، فلا أشهد به، وإن كان مشهوراً إذا كان بعض الورثة الذين أضافوا إليه الولاء يزعمون أنه رقيق لهم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإن لم يدّعوا رقه شهدت به، لأنهم إذا ادعوا رقه وهو يدعي الولاء، فقد أقر بملك أبيهم، حيث ادعى الولاء بسبب إعتاقه، فيثبت الملك عليه بإقراره، ولم يثبت الإعتاق مع إنكار الورثة، فحاجته بعد ذلك إلى زوال الملك الثابت لهم، ولا تحل الشهادة على ذلك إلا لمعاينة

(8/305)


فأما إذا لم يدعوا رقه لم يثبت لهم عليه ملك، ولا حق ملك، فبعد ذلك هو يدعي عليهم الانتساب إلى أبيهم بسبب الولاء وهم ينكرون، فتقبل الشهادة عليهم بالشهرة، كما في النسب.

وإذا شهد شاهدان على موت رجل، فهذا على وجهين: أما إن أطلقا الشهادة إطلاقاً ولم يثبتا شيئاً، أو قالا: لم نعاين موته، وإنما سمعنا من الناس، ففي الوجه الأول: تقبل شهادتهما، ويحمل على سبب يطلق لهما أداء الشهادة، وهو الشهرة أو المعاينة، وفي الوجه الثاني: إن لم يكن موت فلان مشهوراً لا تقبل الشهادة بلا خلاف؛ لأن المطلق الشهرة ولم توجد المعاينة، والشهرة لم تثبت بقولهما: سمعنا من الناس؛ لأن السماع قد يكون على وجه يثبت به الشهرة بأن سمعا من جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب أو سمعا من واحد عدل أو جماعة ليسوا بعدول، فلهذا لا تقبل الشهادة.
وإن كان موت فلان مشهوراً ذكر في «الأصل» وفي كتاب «الأقضية» : أنه لا تقبل الشهادة، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وقد قال بعض مشايخنا: لا تقبل شهادته، وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، فإن قالا: نشهد أن فلاناً مات، أخبرنا بذلك من شهد موته ممن يوثق به جازت شهادتهما، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأنهما بينا أنهما شهدا عند وجود ما يطلق لهما أداء الشهادة، فلا يكون قد جاؤوا طمعاً في شهادتهما، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ، بعضهم قالوا: لا تجوز هذه الشهادة؛ لأنهما ما أسندا هذه الشهادة إلى دليل يوجب العلم قطعاً، والعلم قطعاً شرط لجواز الشهادة لما تلونا من نص الكتاب، فإن اكتفى بهذا الدليل مع هذه الشبهة لإطلاق أداء الشهادة لا يدل على أنه إذا بين القاضي أن القاضي يكتفي فيه؛ لأن الضرورة تمكنت في حق الشاهد، لا في حق القاضي.
ونظيره: أن من رأى عيناً في يد إنسان يتصرف تصرف الملاك، حل له أن يشهد بالملك لذي اليد، ولو شهد عند القاضي، وقال: إن هذا العين ملكه، لأني رأيته في يده يتصرف فيه تصرف الملاك لا تقبل شهادته لما ذكرنا، كذا هنا.

وقد عثرنا على الرواية أنه تجوز الشهادة، وهي رواية كتاب «الأقضية» وكذلك إذا قالا: دفناه أو شهدنا جنازته، لأنه لا يدفن إلا الميت ولا يوضع على الجنازة إلا الميت، فكانت شهادة بالموت، فتقبل هذه الشهادة، ولا يقال عليه بأن هذه شهادة على فعل نفسه، فلا تقبل لأنا نقول: المشهود به في الحقيقة الموت، وأنه ليس من فعلهما، فلا يمنع قبول شهادتهما، وههنا مسألة عجيبة لا رواية لها: أنه إذا لم يعاين. (118ب4) الموت إلا واحد، ولو شهد عند القاضي لا يقضي بشهادته وحده، ماذا يصنع؟ قالوا: يخبر بذلك عدلاً مثله، فإذا سمع منه حل له أن يشهد على موته، فيشهد هو مع ذلك الشاهد، حتى يقضي القاضي بشهادتهما.
وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى، وصنع أهله ما يصنعون على الميت لم يسع أحداً أن يشهد على موته إلا من شهد موته أو سمع ذلك ممن شهد موته؛ لأن مثل هذا

(8/306)


الخبر قد يكون كذباً، وعند بعد المسافة يغلب مثل هذا، فلا يعتمد عليه حتى يخبره من يثق به عن معاينته فحينئذٍ يسعه أن يشهد.
وإذا رأى رجلاً وامرأة سكنا في بيت واحد (وينقط) كل واحد منهما على صاحبه، كما يكون من الأزواج وسعه أن يشهد لهما بالنكاح؛ لأن هذا القدر يكفي لتحمل الشهادَةِ بملك اليمين، فإنه إذا رأى شيئاً في يدي أحد يتصرف فيه تصرف الملاك وسعه أن يشهد بملك ذلك الشيء له، فهذا أولى، ألا ترى لو أن رجلاً يسكن مع امرأة في دار، وحدث بينهما أولاد، وخاصمته في النفقة أو طلقها وراجعها، وقضى القاضي بذلك، أو ظاهر منها وكفّر، ثم مات وجحد أولياؤه ميراثها وأنكروا النكاح لم يسع للجيران ومن معهم في الدار أن يشهدوا أنها امرأته وهذا؛ لأن بعد هذا النوع من الاشتهار الذي يسبق إلى قلب كل أحد قيام النكاح بينهما، لو لم تجز الشهادة على النكاح تعطلت الحقوق، وبطل ميراثها، وإنه أمر قبيح.

وإذا قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب إليه، وأقام معه دهراً لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يشهد له رجلان من أهل بلده عدلان أو يكون النسب مشهوراً، وذكر الخصاف هذه المسألة، وشرط لجواز الشهادة شرطين: أحدهما: أن يشتهر الخبر ويعم، الثاني: أن يمكث فيهم سنة، فإنه قال: لا يسعهم أن يشهدوا على نسبه حتى تقع معرفة ذلك في قلوبهم، وذلك بأن يقيم معهم سنة؛ لأن السنة مدة (معتبرة شرعاً) ، ألا ترى أنه قُدِّرَ به أجل العنّين وكثير من الأحكام، فالظاهر أنه لو كان الأمر على خلافه يظهر في هذه المدة، وإن وقع في قلبه معرفة ذلك قبل مضي السنة، لا يجوز له أن يشهد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدر ذلك بستة أشهر.

والصحيح: أنه إذا سمع من أهل بلده من رجلين عدلين حل له أداء الشهادة وإلا فلا، فإذا سمع ذلك ممن سمع من المدعي لا يحل له أن يشهد وإن اشتهر ذلك بين الناس؛ لأنه لما لم يحل له الشهادة بالسماع منه، فكيف يجوز بإخبار من سمع منه، لكن إنه شهد عنده جماعة حتى تقع الشهرة حقيقة وعرفاً، ووقع عنده أنه ثابت النسب من فلان، أو شهد عنده عدلان حتى يثبت الاشتهار شرعاً حتى له أن يشهد.

الفصل الثاني: في أقسَام الشهادة وفي شهادة النسَاء
أقل ما يجوز في حقوق الناس فيما بينهم من الطلاق والعتاق والنكاح، وكفالة النفس وكفالة الأموال والإبراء، وقضاء القاضي وكتاب القاضي إلى القاضي، والوكالات والرهون والوصايا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، والقياس في ذلك كله: أن يكتفى

(8/307)


بشهادة الواحد إذا كان عدلاً لظهور الصدق في شهادته لعدالته، والصدق واجب القبول، وبانضمام شاهد آخر لا يزداد دليل الصدق في خبر الأول، لكن عرفنا اشتراط العدد بالنصوص، منها قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) وقوله: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15) وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 20) وقوله عليه السلام: «ليس لك إلا شاهداك أو يمينه» وتقدير الشرع إما يكون لمنع الزيادة، كأكثر مدة الحيض، أو لمنع النقصان. كأقل مدة الحيض والسفر، وهذا التقدير ليس لمنع الزيادة، فيكون لمنع النقصان، ولأن طمأنينة القلب إلى قول العدد أبلغ منه إلى قول الواحد، فشرط العدد صيانة للحقوق المعصومة، لكثرة ما يكون في الخصومات من التلبيس والتزوير.
وإذا ثبت أن العدد شرط فنقول: الحوادث أقسام ثلاثة، في قسم منها يشترط الأربعة، وهو: الزنا الموجب للحد، عرف ذلك بقوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15) ولا يشترط ذلك في غيره، وفي قسم منها يشترط رجلين، وهو العقوبات التي تقدر بالشبهات، نحو: القصاص وسائر الحدود ما خلا حد الزنا، حتى لا تثبت هذه الأشياء بشهادة رجل وامرأتين، بدليل ما روي عن الزهري رحمه الله أنه قال: مضت السنّة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود.
u
وفي قسم منها يكتفى بشهادة رجل وامرأتين، وهو المال وما كان من توابع المال؛ لأن الله تعالى قال في آية المداينة {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (البقرة: 282) وإذا ثبت هذا الحكم في المال ثبت فيما هو تبع المال ضرورة، والحقوق المجردة كالنكاح والطلاق والعتاق والرجعة من هذا القسم، حتى يكتفى فيه بشهادة رجل وامرأتين، بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة النساء في النكاح» ، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما مثل ذلك، وكذلك ما يتوقف عليه كمال العقوبة، وهو الإحصان من هذا القسم، حتى يثبت الإحصان بشهادة رجل وامرأتين عندنا؛ لأن الإحصان عبارة عن خصال حميدة، بعضها مأمور به وبعضها مندوب إليه، فيثبت بشهادة النساء مع الرجال كسائر الحقوق، ولا تقبل شهادة النساء بانفرادهن فيما يطلع عليه الرجال بالإجماع، وفيما لا يطلع عليه الرجال: تقبل شهادتهن بانفرادهن بالإجماع.

والوجه في ذلك: أن القياس يأبى كون شهادة النساء حجة؛ لأنه تمكن في شهادتهن زيادة تهمة بسبب الغفلة أو النسيان يمكن الاحتراز عنها بالرجال، لكن جعلناها حجة فيما يطلع عليه الرجال إذا قامت مع الرجال بالنَصّ، والنص الوارد يجعل شهادتِهنّ حجة مع

(8/308)


الرجال، وقد تمكنت زيادة تهمة في شرط الشهادة لا يكون وارداً بجعلها حجة بانفرادهن، وقد تمكنت التهمة في كل الشهادة، وفيما لا يطلع عليه الرجال جعلنا شهادتهن حجة على الانفراد بالنص، وقد روى مجاهد، وسعيد بن المسّيب، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال النظر إليه» ، أي: فيما لا يحل للرجال النظر إليه، والمعنى فيه: أنه لو لم تجز شهادة النساء بانفرادهن فيما لا يطلع عليه الرجال أدى إلى إبطال حقوق تعلقت بهذه الأسباب، والعدد ليس بشرط عندنا في هذا الباب، حتى يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة، وإن كانت امرأتان أو ثلاث فذلك أحب.
وهل يشترط لفظة الشهادة؟ قال مشايخ بلخ، ومشايخ بخارى: يشترط، وقال مشايخ عراق: لا يشترط، وأجمعوا على أنه يشترط الحرية والبلوغ عن عقل والإسلام إن قامت على مسلم، وكذلك يشترط العدالة، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما لم يشترط العدد عندنا لما روينا من حديث مجاهد وسعيد بن المسيب.
ووجه الاستدلال به: أن النساء اسم جنس واسم الجنس يتناول الأدنى مع احتمال الكل، فصار تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة الواحد من النساء فيما لا يطلع عليه الرجال» ، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «أجاز شهادة القابلة على الولادة» .

والمعنى في ذلك: أنه إنما سقط اعتبار الذكورة في هذا الباب مع أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع؛ لأن نظر الجنس أخف، فإذا أمكن تحصيل المقصود بالأخف وهو شهادة النساء سقط اعتبار الأغلظ، وهو الذكورة، ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية والعدالة؛ لأن نظر المملوك وغير العدل ليس أخف من نظر الحر والعدل، وهذا المعنى يقتضي سقوط اعتبار العدد؛ لأن نظر الفرد أخف من نظر العدد، وكذا لم يسقط اعتبار الإسلام؛ لأن نظر الكافر ليس أخف من نظر المسلم.
جئنا إلى اشتراط لفظة الشهادة، وفيه اختلاف المشايخ على ما ذكرنا، وجه قول من قال: إن لفظة الشهادة ليست بشرط: أن هذا خبر وليس بشهادة، ألا ترى أنه لم يشترط فيه العدد، فلم تشترط لفظة الشهادة أيضاً، وجه قول من قال: إن لفظة الشهادة شرط: أن هذه شهادة على الحقيقة، وليست بخبر، ألا ترى أنه تقع ملزمة على الغير كان القياس فيه أن يشترط العدد، كما في سائر الشهادات، لكن تركنا القياس في اشتراط العدد، لحديث مجاهد وسعيد بن المسيب على نحو ما بينا، وأنه يقتضي إسقاط اعتبار العدد، أما لا يقتضي إسقاط اعتبار لفظة الشهادة، بل يقتضي اعتبارها؛ لأن تقدير الحديث شهادة

(8/309)


الواحدة من النساء فيما لا يحل للرجال النظر حجة، ولو (119أ4) نص على هذا لسقط اعتبار العدد، ولا يسقط اعتبار لفظة الشهادة، لأن النبي عليه السلام سماها شهادة، لما فيها من لفظة الشهادة، وعبارة بعض المشايخ في هذا: إن هذا أخذ شبهاً من أصلين من الشهادات لمعنى الإلزام ومن الإخبارات، حتى لم يشترط فيه صفة الذكورة، فلشبهها بالشهادات شرطنا لفظة الشهادة والحرية والبلوغ عن عقل، ولشبهها بالإخبارات لم يشترط فيه العدد عملاً بالشبهين بقدر الإمكان.

وإن كان مكان المرأة رجلاً واحداً والحادثة مما يطلع عليها الرجال، لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تقبل لأن شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة، فإذا قبلت شهادة المرأة الواحدة في هذا الباب، فشهادة الرجل الواحد أولى، وبعضهم قالوا: لا تقبل؛ لأن القياس أن لا تكون شهادة المرأة الواحدة حجة فيما لا يطلع عليه الرجال كما في سائر الشهادات، وإنما جعلناها حجة بالنص الذي روينا، والنص الوارد بجعل شهادة المرأة الواحدة حجة فيما لا يطلع عليه الرجال لا يكون وارداً بجعل شهادة الرجل الواحد حجة؛ لأن في حق الرجل نصّ بخلافه، وهو قوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتين} (البقرة: 282) ثم متى تجعل شهادة الرجل الواحد حجة في هذا الباب؟ من المشايخ اختلفوا فيما بينهم قال بعضهم: إنما تقبل شهادته إذا قال: فاجأتها واتفق نظري إليها، أما إذا قال: تعمدت النظر إليها لا تقبل شهادته؛ لأنه يصير فاسقاً بالنظر إليها متعمداً، وقال بعضهم: وإن تعمد النظر إليها تقبل شهادته كما في الزنا، وأما شهادة النساء بانفرادهن على استهلال الصبي، وهو: صياح الولد بعد الانفصال عن الأمّ، أو على تحرك عضو من أعضائه بعد الانفصال عن الأم مقبولة في حق الصلاة عليه بالإجماع؛ لأنه أمر من أمور الدين.
وأما في حق الميراث فقد اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقبل، ويشترط شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وقال أبو يوسف ومحمد: تقبل شهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلة، فهما يقولان: استهلال الصبي صياحه عند الولادة، وتلك حالة لا يحضرها الرجال، وفيما لا يطلع عليه الرجال شهادة المرأة الواحدة حجة، ألا ترى أنه تقبل شهادتها في حق الصلاة عليه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الاستهلال صوت مسموع، وفي السماع الرجال يشاركون النساء بانفرادهن ليست بحجة.

وإن وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كشهادة النساء على الجراحات في حمامات النساء، وأما شهادتهن على تحرك الولد قبل الانفصال عنها، وشهادة رجل وامرأتين أو رجلين على تحرك الولد قبل الانفصال أو على تحركه حالة الانفصال عند الكل لا تقبل؛ لأن تحرك الولد قبل الانفصال قد يكون بحياة نفسه وقد يكون بحياة الأم، إلا أنه ينفصل ميتاً، وكذلك حالة الانفصال قد يكون تحركه بحياة نفسه، وقد يكون بانتقاله من موضع إلى موضع، فلا يدل ذلك على حياته، أما بعد الانفصال فتحركه لا يكون إلا بحياة نفسه.

(8/310)


الفصل الثالث: في بيان من تقبل شهادته ومن لا تقبل
يجب أن يعلم أن العدالة شرط لتصير الشهادة واجبة القبول؛ لأنه ما لم يظهر الحق عند القاضي للمدعي لا يجوز له القضاء به، فضلاً عن الوجوب، وظهور الحق بالشهادة باعتبار صدق الشهود، ودليل صدق الشهود العدالة.
وتكلم العلماء في تفسير العدل، منهم من ضيّق فيه غاية التضييق، فشرط انزجار الشاهد عن جميع المحظورات، حتى قال: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته؛ لأنه مشترك بينه وبين غيره، فلا يجوز له أن يمشي عليه من غير رضى ذلك الغير، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: (من زادت) حسناته على سيئاته قبلت شهادته، وقال إبراهيم النخعي: العدل من المسلمين من لم يطعن عليه في بطن أو فرج، وأراد بعدم الطعن في البطن أن لا يقال: إنه أكل مال الربا أوأكل مال المغصوب، وما أشبهه، وأراد بعدم الطعن في الفرج أن لا يقال: أنه زانٍ، وما أشبه ذلك، فموضع الطعن فيهما ولهما توابع، فإذا سلم عنهما وعن توابعهما كان عدلاً مقبول الشهادة.
وقال الشعبي رحمه الله: العدل من لم يعلم منه خير في دينه أو فساد في دينه، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: العدل من كان منزهاً عن الكبائر، منزهاً عن الفواحش، متيقظاً، فغلب حسناته على سيئاته.

وحكي أن عبد الله (بن) سليمان وزير المعتضد بالله سأل القاضي أبا حازم عن العدل في الشهادة، فقال: أحسن ما قيل في هذا الباب ما نقل عن أبي يوسف فإن العدل في الشهادة أن يكون مجتنباً عن الكبائر، ولا يكون مصرّاً على الصغائر، ويكون صلاحه أكثر من فساده، وصوابه أكثر من خطئه، وأن يستعمل الصدق ديانة ومروءة، ويجتنب عن الكذب ديانة ومروءة.
والحاصل: أن ارتكاب الكبيرة يوجب زوال العدالة، وارتكاب الصغيرة لا يوجب زوال العدالة؛ لأن ارتكاب الكبيرة يدل على شهادة الزور؛ لأن حرمة ما ارتكب من الكبيرة كحرمة شهادة الزور أيضاً، قياساً واستدلالاً بها، فأما ارتكاب الصغيرة لا يدل على شهادة الزور، لأن شهادة الزور كبيرة، والإنسان قد يجتنب عن الصغائر، فارتكاب الصغائر لا يدل على شهادة الزور، فلا يوجب زوال العدالة، ولا يكون جرحاً إلا أن يصرَّ على ذلك؛ لأن الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار، على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار» وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: الناس لا تخلو عن ارتكاب الصغائر،

(8/311)


ولا تخلو عن إتيان ما هو مأذون به في الشرع، فيعتبر في ذلك الغالب يريد به في حق الصغائر، فإن كان غالب حاله أن يأتي بما هو مأذون به في الشرع، ويحترز عما لا يحل به في الشرع من الصغائر، كان جائز الشهادة بعد أن يحترز عن كل الكبائر، وإن كان غالب حاله لا يحترز عن الصغائر لا يكون جائز الشهادة، وإن كان يأتي بالمأذون به شرعاً.

ثم اختلفوا في تفسير الكبائر، قال بعضهم: هي السبع التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف، وهو الإشراك بالله تعالى، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، ونهب المؤمن، والزنا، وشرب الخمر، وهو قول أهل الحجاز وأهل الحديث، وزاد بعضهم على السبع التي ذكرها: أكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حق، وقال بعضهم: ما فيه حد أو قتل فهو كبيرة، وقال بعضهم: ما كان حراماً لعينه فهو كبيرة، وما كان حراماً لغيره فهو صغيرة.
وأصح ما قيل في هذا الباب: ما نقل عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: ما كان شنيعاً بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله تعالى والدين، فهو من جملة الكبائر، وكذلك الإعانة على المعاصي والفجور والحث عليها من جملة الكبائر يوجب سقوط العدالة، وإذا كان حدّ الكبائر هذه الأشياء كان ما عداها من جملة الصغائر.
قال الخصاف في «أدب القاضي» : إذا تَرك الرجل الصلاة بالجماعة استخفافاً بذلك أو مجانة أو فسقاً لا تجوز شهادته، لم يرد بهذا الاستخفاف بالدين؛ لأن المستخف بالدين كافر، بل أراد به أن لا يستعظم تفويت الجماعة كما يفعله العوام، وإنما تسقط به العدالة؛ لأن الصلاة بالجماعة ألحقت بالفرائض، ولهذا لو ترك أهل بلدة الصلاة بجماعة قوتلوا عليهم بالسلاح، كما لو تركوا فرضاً من الفرائض، وقد صح أن رجلاً سأل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم بالليل ولا يحضر الجماعات، فقال ابن عباس: هو في النار، فاختلف إليه ذلك الرجل شهراً، وكان سأله، فكان يقول: هو في النار.

وقال مكحول رحمه الله: السنة سنتان: سنة أخذها هدي وتركها لا بأس به، وسنة أخذها هدي وتركها ضلالة، وذكر من جملتها الصلاة بجماعة، فثبت أنها ملحقة بالفرائض، وتارك الفرض فاسق، فكذا هذا، هذا إذا تركها استخفافاً أو مجانة أو فسقاً، وإن تركها متأوّلاً بأن كان الإمام فاسقاً، فكره الاقتداء به، ولا يمكنه أن يصرفه، فصلى في بيته وحده، أو كان ممن يضلل الإمام، ولا يرى الاقتداء به جائزاً، فهذا مما لا يسقط العدالة، أما الأول: فلا شك، وأما الثاني: فلأنه صاحب هوى، وشهادة أهل الأهواء مقبولة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وكذلك شهادة تارك الصلوات في أوقاتها لا تقبل؛ لأن أداء الصّلاة في الوقت أداء الأمانة في وقتها؛ لأن الصلاة أمانة وأداء الأمانة (119ب4) في وقتها لازم، ولأن أداء الصّلاة في الوقت عهد له عِندَ اللهِ تعالى، قال صَلى الله عليه وسلم «من حافظ الصلوات

(8/312)


الخمس في مواقيتها كان له عند الله تعالى عهداً يؤديه إليه يوم القيامة وتلا قوله تعالى {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} (مريم: 87) » فإذا ظهرت منه الخيانة في هذه الأمانة بتفويتها عن الوقت، لا يؤمن به الخيانة في أمانة الشهادة.

وكذلك من ترك الجمعة لا تقبل شهادته لما روى قتادة عن عبد الملك بن يعلى أنه قال: لا أجيز شهادة من تقوم البينة عليه أنه ترك الجمعة ثلاث مرات، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله تعالى على قلبه» ، ولأن شهود الجمعة فرض لقوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (الجمعة: 9) فكان تاركاً الفرض، فصار مرتكباً الكبيرة، فلا تقبل شهادته، فهذا إذا تركها رغبة عنها، أما إذا تركها بعذر كالمرض أو بعده من المصر، أو بتأويل بأن كان يفسق الإمام أو ما أشبهه، لا ترد شهادته على ما ذكرنا في تارك الجماعة.

ثم إن الخصاف وضع المسألة في ترك الجمعة ثلاث مرات، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: التقدير بالثلاث شرط كما ذكر الخصاف، وقال شمس الأئمة الحلواني: هذا ليس بشرط لازم، بل إذا ترك مرة كفى لرد الشهادة، وإليه أشار الخصاف رحمه الله في بعض المواضع.
ولا تقبل شهادة آكل الربا المشهور بذلك المقيم عليه؛ لأن أكل الربا كبيرة، وإنه حرام بنص الكتاب، وورد النص بالوعيد فيه بنار جهنم، قال الله تعالى {يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} إلى قوله {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} (آل عمران: 130 * 131) وقال عليه السلام: «لعن الله آكل الربا وموكله» وارتكاب الكبيرة توجب سقوط العدالة، ثم شرط لرد الشهادة أن يكون مقيماً عليه مشهوراً بذلك، وكان ينبغي أن تزول العدالة بالأكل مرة، كأكل مال اليتيم؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء كبيرة، مع هذا شرط الإدمان.
واختلف المشايخ رحمهم الله في علته:
قال بعضهم: إنما شرط ذلك؛ لأن الإنسان عسى يبتلى بذلك؛ لأن البياعات الفاسدة كلها ربا، ولا يمكنه التحرز عن جميع الأسباب المفسدة للعقد، فقد لا يهتدي إلى ذلك، فلو ردت شهادته إذا ابتلي به مرّة لا يبقى في الدنيا مقبولة الشهادة، فلهذا شرط أن يكون مشهوراً بذلك مقيماً عليه.
وقال بعضهم: بأن الربا ليس بحرام محض؛ لأن الربا يفيد الملك عندنا بعد اتصال القبض، والملك مبيح للأكل في غير الخمر إن كانت حرمة السبب بمنع الأكل، فلم يكن

(8/313)


حراماً محضاً، فكان ناقضاً في كونها كبيرة، فصارت كالملحقة بالصغيرة من هذا الوجه، وهذا لأن حرمة ما ارتكب الشاهد في دينه من التعاطي يجب أن يكون مثل حرمة شهادة الزور حتى يستدل به على شهادة الزور، وشهادة الزور حرام محض؛ لأنه كذب والكذب حرام محض، فارتكاب ما لا يكون حراماً محضاً لا يدل عليه، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: آكل الربا إنما يسقط العدالة إذا أكله مع علمه بكونه ربا.

ولا تجوز شهادة مدمن الخمر، فحرمة الخمر ثابتة بالنص، وشرع عليه عقوبة في الدنيا، وهو الحد، فكان من جملة الكبائر، فتسقط العدالة، ثم شرط الإدمان ولم يرد به الإدمان في الشرب؛ لأنه لا يطيق، وإنما أراد به الإدمان في النية، يعني: يشرب ومن نيته أن يشرب بعد ذلك إذا وجده، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ويشترط مع الإدمان أن يظهر ذلك للناس أو يخرج سكراناً، فيسخر منه الصبيان، حتى إن شرب الخمر في السر لا يسقط العدالة، قال في «الأصل» : ولا تجوز شهادة مدمن السكر، وأراد به في سائر الأشربة السكر، فشرط الإدمان على السكر، والمحرم في الخمر نفس الشرب، فشرط الإدمان على الشرب.
وكذلك من يجلس مجالس الفجور والمجانة والشرب، لا تقبل شهادته، وإن لم يشرب؛ لأنه تشبه بهم، وقد قال عليه السلام: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، ولأنه رضي بصنيعهم ولم يحترز أن يظهر عليه ما يظهر عليهم، فلا يحترز عن شهادة الزور.
ولا تقبل شهادة المخنث؛ لأن التخنث معصية، قال عليه السلام: «لعن الله المؤنثين من الرجال، والمذكرات من النساء» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وهذا إذا كان تخنثه باختياره، أو كان يأتي بالأفعال الرديئة، فأما إذا كان في كلامه تكسر، وفي أعضائه لين بأصل الخلقة، ولا يأتي بشيء من الأفعال الرديئة فهو عدل مقبول الشهادة.

ولا تقبل شهادة من يلعب بالحمام ويطيرهن؛ لأنه يرتكب ما هو حرام؛ لأن اللعب حرام، قال عليه السلام: «ما أنا من ددٍ ولا الدد منّي» ولأنه يصعد العوالي من السطوح، فيطلع على العورات، وذلك منه فسق، ولأن قلبه مع ذلك في عامة أحواله ففسد به عقله، وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الكفالة» : في باب الشهادة في الدين: إن كان لا يطيرهن، ولكن يخليهن حتى يخرجن من بيته لا تقبل شهادته، وعلل فقال: لأنه يأتي بيت حمامته حمامات غيره، فيفرخ فيه ثم هو يبيع ذلك ويأكل، ولا يعرف

(8/314)


حمامته من حمامة غيره، فيصير حراماً ومرتكباً ما لا يحل، قال ثمة: وهذا كما قال مشايخنا رحمهم الله: إن شهادة صاحب الحمام لا تقبل؛ لأنه ينظر إلى عورات الناس، ويجمع قماسات الأعمار للآثار ولا يبالي بذلك، ومن المشايخ من قال: لا تسقط عدالته في هذه الصورة، ويستدل باتخاذ الناس بروج الحمامات من غير نكير منكر، وإن كان يمسكهن في بيته ولا يطيرهن ولا يخليهن لا تسقط عدالته بلا خلاف.
ولا تقبل شهادة المغنيِّ والمغنيّة إذا كان يجمع الناس ويؤنسهم، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ لأنه ملعون على لسان صاحب الشرع، قال عليه السلام: «لعن المغنيات» ومن يكون ملعوناً على لسان صاحب الشرع يكون ساقط شهادة لا محالة، قال: فأما إذا كان لا يسمع غيره ولكن يسمع نفسه لإزالة الوحشة قبلت شهادته، يجب أن يعلم بأن المغني لإجماع الغير وإيناسه مكروه عند عامة المشايخ، ومن الناس من جوز ذلك في العرس والوليمة، ألا ترى أنّه لا بأس بضرب الدف في العرس والوليمة وإن كان فيه نوع لهو، وإنما لم يكن به بأس؛ لأن فيه إظهار النكاح وإعلانه، وبه أمرنا صاحب الشرع، قال عليه السلام: «أعلنوا النكاح ولو بالدف» فكذا التغني، ومنهم من قال: إذا كان يتغنى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به.
وأما التغني لإسماع نفسه ودفع الوحشة عن نفسه، هل هو مكروه؟ فقد اختلف المشايخ، منهم من قال: لا يكره، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وهذا القائل يحتج بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو كان يتغنى، والبراء من زهاد الصحابة، ومن المشايخ من قال: جميع ذلك مكروه، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده، وهذا القائل يحمل حديث البراء على أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها ذكر الوعظ والحكمة، وهذا لأن اسم الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره، قال عليه السلام: «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» قلنا: وإنشادنا هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإذا كان في الشعر صفة المرأة إن كانت امرأة بعينها وكانت حية يكره، وإن كانت ميتة أو كانت امرأة مرسلة لا يكره.
وكذلك لا تقبل شهادة النائحات، ولم يرد به التي تنوح في مصيبتها، وإنما أراد التي تنوح في مصيبة غيرها، اتخذت ذلك مكسبة، وهذا لقوله عليه السلام: «لعن الله النائحات» ولأنها لما ارتكبت ما لا يحل في الشرع، وهو الغناء والنوح لطمعها في

(8/315)


المال، لا تؤمن من أن ترتكب شهادة الزور لأجل المال، فذلك أيسر عليها من الغناء والنوح في مدة طويلة.Y
وكذلك لا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج لكن شرط: بانضمام إحدى معاني ثلاثة: إذا قامر عليه، أو شغله عن الصلوات، أو أكثر الحلف عليها بالكذب والباطل؛ لأن القمار حرام وتفويت الصلاة من أعظم الكبائر، واليمين الكاذبة من جملة الكبائر، فأما بدون انضمام إحدى معاني ثلاثة إليه لا تسقط العدالة؛ لأن العلماء اختلفوا في حرمة اللعب بالشطرنج وإباحته عند انعدام هذه المعاني، قال مالك والشافعي: يحل وأبو زيد الحكيم كان يختار قولهما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله فخف حكمه، فمباشرته على الانفراد لا يصلح لسقوط العدالة.

ومن يلعب بالنرد فهو مردود الشهادة على كل حال، قال عليه السلام: «الملعون من لعب بالنرد» ومن كان ملعوناً كيف يكون عدلاً؟ وإذا كان الرجل يلعب بشيء من الملاهي وذلك لا يشغله عن الصّلاة، ولا عمّا (120أ4) يلزمه من الفرائض، ينظر: إن كانت يستشقيه بين الناس، كالمزامير والطنابير لم تجز شهادته؛ لأن أصحاب هذه الملاهي أهل فسق فيما بين الناس، وإن لم يكن يستشقيه نحو الحد أو ضرب القضيب جازت شهادتهم، والأصل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر والحادي يحدو بين يديه، فلم ينهه عن ذلك، فلما طلع الفجر قال عليه السلام: «أمسك، فإن هذه ساعة ذكر» وكذلك القضيب، فإن صوته مباح عند البعض، فلا يوجب سقوط العدالة، قال: إلا إن تفاحش بأن يرقصون به فيدخل في حد المعاصي والكبائر فحينئذٍ تسقط به العدالة.

وإذا كان الرجل معروفاً بالكذب الفاحش لم تقبل شهادته، يريد به إذا اعتاد الكذب؛ لأنه إذا اعتاد ذلك لا يصبر عنه فلا يؤمن من أن يكذب في هذه الشهادة، فأما إذا كان يقع فيه أحياناً قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذلك، وفي «الأقضية» : والذي اعتاد الكذب إذا تاب لا تقبل شهادته؛ لأن من اعتاد الكذب قلّ ما يصبر.
وكذلك لا تقبل شهادة الداعر، وهو الفاسق المتهتك الذي لا يبالي ما يصنع؛ لأنه لا يؤمن عليه أن لا يبالي من شهادة الزور، قال محمد رحمه اللهُ في «الأصل» : وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: شهادة أهل الهوى جائزة، قال: هو قول أصحابنا أجمعين.

قال شمس الأئمة السرخسي: ومنهم من يفصل بين من يكفر في هواه، وبين من لا يكفر، فكأنه أراد أبا يوسف، فقد روي عنه أنه قال: من كفر به لم أقبل شهادته، ومن أضللته قبلت شهادته، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : وشهادة أهل الهوى مقبولة عندنا

(8/316)


إذا كان هوى لا يكفر به صاحبه، ولا يكون ماجناً وَيكون عدلاً في تعاطيه، وهو الصحيح، وما ذكر في «الأصل» ؛ فهو محمول على هذا إلا الخطابية.
واستدل محمد رحمه الله في «الكتاب» لبيان ذلك فقال: أرأيت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ساعدوا معاوية مع مخالفة علي رضي الله عنه، ثم شدوا بين يدي علي رضي الله عنه، أكان يرد شهادتهم؟ ولا شك أن مخالفة عليّ رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بدعة وهوى، فكيف الخروج عليه بالمسايفة لكن لما كان عن تأويل وتدين، لم يمنع قبول الشهادة، فكذا هذا؛ ولأنه مسلم عدل في تعاطيه شهد لغيره من كل وجه، وهو من أهل الشهادة، فتقبل شهادته قياساً على غير صاحب الهوى، وإنما قلنا: مسلم؛ لأن الكلام في هوى لا يكفر به صاحبه، وإنما قلنا: عدل في تعاطيه؛ لأنه لم يرتكب ما هو محرم في دينه واعتقاده حرمته مثل حرمة شهادة الزور، حتى يستدل به ما في شهادة الزور ما وجد من فسق الاعتقاد لا يدل على شهادة الزور، لأنه اعتقده مباحاً، فلا يدل على شهادة الزور الذي يعتقده حراماً، وكان كشهادة الكافر مقبولة على كافر مثله إذا كان عدلاً في تعاطيه، وإن كان فاسقاً من حيث الاعتقاد وهو الكفر؛ لأن اعتقاد الكفر وهو يعتقده مباحاً، وإن كان رأس الفسوق لا يدل على شهادة الزور، وهو يعتقده حراماً في دينه، وكذلك هذا، وليس كالخطابية لأن الخطابية قوم من الروافضة يستجيزون أداء الشهادة بالحلف، ولو تحقق هذا من المسلم لا تقبل شهادته لكونه ماجناً.

وإن لم يكن صاحب هوى، فمن هو صاحب الهوى أولى، وليس كما لو كان ماجناً في هوى، فإنه لا تقبل شهادته لكونه ماجناً لا لهواه، فإن غير صاحب الهوى من المسلمين إذا كان ماجناً لا تقبل شهادته؛ لأن الماجن بين العاقل والمجنون، فإن الماجن من شابه بعض أقواله وأفعاله أقوال العقلاء وأفعالهم.
ولا تجوز شهادة الرجل على الرجل إذا كان بينهما عداوة؛ لأن طبع كل واحد داع إلى الانتقام من عدوه، فعسى يريد بهذه الشهادة الانتقام منه، فتمكنت الشبهة في هذه الشهادة، فلم تقبل. قالوا: هذا إذا كانت العداوة بينهما بسبب شيء من أمر الدنيا، فأما إذا كانت العداوة بسبب شيء من أمر الدين، فإنه تقبل شهادته عليه لانتفاء تهمة الكذب؛ لأن من تحتمله قوة دينه على أن يعادي غيره بمجاوزة حدّ الدين، لا يقدم على شهادة الزور مع ما علم من الوعيد لشاهد الزور.
وفي كتاب «الأقضية» : إذا أسلم الرجل وهو لا يقرأ القرآن، فشهادته جائزة، يريد بقوله: لا يقرأ القرآن لا يتعلم القرآن للحال، فإنما جازت شهادته، لأنه عدل مسلم، فإن لم يتعلّم القرآن للحال لا يصير فاسقاً.

(8/317)


وأمّا شهادة عمال السلطان، فهي مسألة «الجامع الصغير» ، وقد ذكر أنها جائزة، من العلماء من قال: أراد به الأُجراء؛ لأنه لا يختار للإمارة إلا عدل، وشهادة العدل مقبولة، ولأن نفس العمل ليس بجرح، إنما الجرح هو الظلم، فإن العامل إذا كان عدلاً يستحق به ثواباً عظيماً، على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله» ، وذكر فيه إماماً مقسطاً، وألا ترى أن الكبراء من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كانوا عمالاً، ولو كان نفس العمل جرحاً لتنزهوا عن ذلك.

ومنهم من قال: أراد به أعمال الصدقة، وتقبل شهادته إذا كان عدلاً لما بينا أن العمل ليس بجرح، الجرح هو الظلم أو الجور، وروي عن الحسن البصريّ أنه قال: لا تجوز شهادة العاشر؛ لأنه هو الذي يأخذ بغير حق، وزيادة على قدر الحق.
والحاصل: أن العمال إذا كانوا عدولاً ولا يأخذون من الناس بغير حق تقبل شهادتهم، وإن أخذوا بغير حق من الناس، ولم يكونوا عدولاً، فالصحيح من الجواب أنه لا تقبل شهادتهم، وإن كان قد قال بعض المشايخ بقبولها، وجه الصحيح من الجواب: ظاهر وجه من قبلها أن الفسق لا يمنع قبول الشهادة لعينه، بل لمكان تهمة الكذب، فالغالب منهم الترفع عن الكذب.
وذكر الصدر الشهيد حسام الدين في «واقعاته» : أن شهادة الرئيس والجاني في السكة أو في البلدة الذي يأخذ الدراهم في الجنايات، والصراف الذين يجمعون الدراهم إليه، ويأخذ طوعاً لا تقبل.

وتجوز شهادة شريك المفاوض لشريكه إذا لم يكن المشهود مشتركاً بينهما، كالحدود والقصاص والنكاح والوصية؛ لأنها شهادة عدل لغيره من كل وجه، وإن كان المشهود به مشتركاً بينهما لم تقبل؛ لأنه يصير شاهداً لنفسه في البعض، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وإذا لم تقبل شهادته لنفسه في نصيبه لا تقبل لشريكه أيضاً في نصيب شريكه؛ لأن هذه شهادة واحدة، فإذا بطل بعضها بطل كلها.

وشهادة أحد شريكي العنان لشريكه تقبل فيما ليس من شركتهما، وفيما كان من شركتهما لا تقبل، ذكر المسألة على هذا الوجه في كتاب «الأقضية» ، وفي «الأصل» يقول: شهادة أحد المتفاوضين لصاحبه لا تقبل إلا في الحدود والقصاص والنكاح؛ لأن ما عدا الحدود والقصاص مشتركة بينهما، فكان شاهداً لنفسه من وجه، وشهادة الإنسان لنفسه لا تفيد، وشهادة أحد شريكي العنان لصاحبه فيما كان من تجارتهما لا تقبل، وفيما لم يكن من تجارتهما مقبولة، ولم يذكر مثل هذا التفصيل في المفاوضة؛ لأن العنان قد يكون خاصاً وقد يكون عاماً، فأما المفاوضة لا تكون إلا في جميع الأموال، وقد عرف

(8/318)


ذلك في كتاب الشركة.
وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الشركة أن المفاوضة تجوز خاصة يجب أن يكون الجواب في المفاوضة على التفصيل الذي ذكرنا في العنان، وشهادة الأجير المشترك لأستاذه مقبولة، وشهادة أجير الوحد لأستاذه لا تقبل استحساناً، سواء كان أجير مناوبة أو مشاهرة أو مشابهة، وفي كفالة الأصل: لا يجوز شهادة الأجير لأستاذه، وفي كتاب الديات: تجوز شهادة الأجير لأستاذه، والمراد من المذكور في الديات الأجير المشترك.
والقياس: أن تقبل شهادة أجير الوحد أيضاً؛ لأنه عدل شهد لغيره من كل وجه، فتقبل قياساً على الأجير المشترك، وقياساً على شهادة الأستاذ لأجيره، فإنها تقبل، وإن كان أجيراً خاصاً له، ولا شك أنه شهد لغيره من كل وجه؛ لأنه ليس له فيما شهد لا ملك ولا حق ولا شبهة ملك، ولا شبهة اشتباه بسبب اتصال المنافع، ولهذا جاز للأستاذ وضع الزكاة فيه.

وجه الاستحسان: ما أشار إليه محمد رحمه الله فقال: لما بلغنا في ذلك عن شريح، وبحال الناس التي هم عليها اليوم، أشار إلى أنه إنما ترك القياس لقول شريح، والإجماع المنعقد من أهل زمانه على قول شريح، والإجماع المنعقد على قول واحد من السلف حجة، يترك (بها) القياس ويخص بها الأثر، فإنما ترك القياس في الأجير الوحد لهذا، وبنوع من المعنى: أن الأجير الوحد مملوك للأستاذ من وجه، أعني به منفعة، ألا ترى أنه لا يملك أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، فهذا مملوك من وجه شهد لمالكه فلا تقبل، ألا ترى أن شهادة المرأة لزوجها لا تقبل، لأنها مملوكة لزوجها من وجه ملك النكاح، بخلاف الأجير المشترك؛ لأنه غير مملوك للأستاذ منفعة، ألا ترى أن له أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، وبخلاف الأستاذ إذا شهد لأجيره؛ لأنه ليس بمملوك لأجيره أصلاً؛ فهذا هو (120ب4) الحرف المعتمد في المسألة.

ومن مشايخنا من يقول: الأجير الوحد يستحق الأجر بتسليم النفس في المدة لا بحقيقة العمل، وحال ما يشهد سلم نفسه إلى المستأجر، فيكون مستحقاً بعض الأجر بإزاء ذلك، فيصير شاهداً بأجر، فلا تقبل شهادته، بخلاف الأجير المشترك، إلا أن هذا الوجه لا يكاد يصح؛ لأن الأجير الوحد إنما يستحق الأجر بتسليم نفسه إلى المستأجر في مدة الإجارة إذا سلم نفسه للعمل الذي شرط عليه في العقد، أما إذا سلم نفسه في مدة الإجارة لعمل آخر لا يستحق الأجر، ألا ترى أنه إذا أستأجر إنساناً شهراً ليرعى غنماً له، ثم استخدم في الشهر لا يستحق الأجر، وإنما لا يستحق لما قلنا، كذا هاهنا.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا شهد أجير القاتل على المولى أنه عناد عن الدم، ذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز، وفي ديات «الأصل» :

(8/319)


أنه يجوز، فيجوز أن يكون المراد من المذكور في «المجرد» الأجير الخاص، ومن المذكور في «الديات» : الأجير المشترك أن لو كان أجيراً خاصاً مشاهرة، فلم يرد القاضي شهادته، ولم تظهر عدالته حتى مضى الشهر، ثم عدّل قال: أبطل شهادته كمن شهد لامرأته ثم طلقها قبل أن تعدل، ولو شهد ولم يكن أجيراً ثم صار أجيراً قبل أن أقضي أبطل شهادته، فإن لم أبطلها حتى بطلت الإجارة، ثم أعادها جاز، هكذا ذكر في «العيون» .
وشهادة أهل الصناعات جائزة إذا كانوا عدولالاً قال بعض العلماء: لا تجوز لكثرة خلافهم وكثرة ما يجري من الأيمان الفاجرة بينهم، وعامة العلماء يقولون: المجوز العدالة وقد وجدت.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : شهادة بائع الأكفان لا تقبل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: عندنا إنما لا تقبل شهادته إذا ابتكر لذلك وترصد لذلك العزل؛ لأنه حينئذٍ يتمنى الموت والطاعون، وأما إذا كان يبيع الثياب هكذا، ويشترى منه الأكفان تجوز شهادتهم، وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في شرح كتاب الشفعة في أوله: وقد قال بعض مشايخنا: إن شهادة الصكاكين لا تقبل؛ لأنهم يكتبون: هذا ما اشترى فلان من فلان، وقبض المشتري ما اشترى وسلم البائع ما باع، وضمن الدرك، وكذا يكتبون مثل هذه الألفاظ في الإجارة، وإن لم يكن شيء من ذلك منهما، فيكون هذا منهم كذباً محضاً، ولا فرق بين الكذب بالقول وبين الكذب بالكتابة، فيكونون فسقة، فلا تقبل شهادتهم، والصحيح أنه تقبل شهادتهم إذا كان غالب حالهم الصلاح.
وإذا كان الرجل يبيع الثياب المصورة، أو ينسج الثياب المصورة لا تقبل شهادته، هكذا ذكر في «الأقضية» .

وفيه أيضاً: ومن كثر لغوه لا تقبل شهادته: قال عليه السلام: «من كثر كلامه كثر سقطه» فكيف إذا كثر لغوه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لا تجوز شهادة أصحاب الحمير، وأراد به النخاسون، وإنما قال ذلك لكثرة ما يكذبون ولأيمانهم الفاجرة، وإن علم من واحد منهم أنه لا يجري منه الكذب واليمين الفاجرة وكان عدلاً قبلت شهادتهم.
وفي مناقب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادة البخيل لا تقبل؛ لأنه لبخله يستقضي فيما يقتص من الناس، فيأخذ زيادة على حقه، فلا يكون عدلاً.
قال أبو يوسف رحمه الله: وتجوز شهادة الأقلف إذا كان عدلاً، وهكذا روى الحسن البصري رحمه الله، وهذا لأن قبول الشهادة يعتمد العدالة، والعدالة لا تنعدم

(8/320)


بترك الختان إذا كان ترك الختان بعذر، وهذا لأن الختان وإن كان سنة عندنا إلا أن ترك السنة إنما توجب الفسق إذا كان الترك على وجه الإعراض عن السنة، وعندنا: لو ترك الختان على وجه الإعراض عن السنة لا تقبل شهادته، وإنما تقبل شهادته إذا تركه بعذر، قيل: العذر في ذلك الكبر وخوف الهلاك.
ثم لا بد من معرفة صفة الختان ووقته، فأما صفته: فقد اختلف العلماء فيه، بعضهم قالوا: إنه فريضة، وقال علماؤنا رحمهم الله: إنه سنة. قال عليه السلام: «الختان للرجال سنة وللنساء مكرمة» ، وأراد به سنة إبراهيم عليه السلام، لأنه أول من ختن واختتن.
وأما وقته: فلم يقدر فيه أبو حنيفة رحمه الله في ذلك تقديراً، لأنه لم ينزل فيه قرآن ولم يدر فيه سنة، ولم ينقل فيه إجماع الصحابة، وطريق معرفة المقادير السماع، فلهذا لم يقدر فيه تقديراً، والمتأخرون من مشايخنا اختلفوا فيه، بعضهم قالوا: من سبع سنين إلى عشر سنين، وبعضهم قالوا: اليوم السابع من ولادته أو بعد السابع، بعد أن يحتمل الصبي ولا يهلك، لما روي أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ختنا يوم السابع أو بعد السابع ولكنه شاذ.
وشهادة الخصي مقبولة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي على قدامة بن مظعون؛ ولأن الذي فات عضو من أعضائه، فصار كما لو فات يده أو عينه، وذلك لا يمنع قبول الشهادة، كذا ههنا.
قال أبو يوسف رحمه الله: وظاهر شهادة من يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقبل) لأنه لو شتم واحداً من الناس لا تجوز شهادته فههنا أولى، وكذلك لا تقبل شهادة قاذف المحصنات؛ لأنه محكوم عليه بالكذب، قال الله تعالى {فإذ لم يأتوا بالشهادة فأولئك عند الله هم الكاذبون} (النور: 13) ثم المتهم بالكذب لا تقبل شهادته، فالمحكوم عليه بالكذب أولى أن لا تقبل، وحكي عن نصر بن يحيى أنه سئل عمن يشتم أهله ومماليكه وأولاده لا تقبل شهادته، قال: إذا كان في كل يوم وكل ساعة، وإن كان أحياناً تقبل إن شاء الله، قال الفقيه أبو الليث: هذا في شتم دون القذف، فأما القذف فكبيرة فتسقط به العدالة.

وإن كان يتبرأ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هوى، وقد بينا حكم شهادة أهل الأهواء، وكان رجل يشتم الناس ويشتمونه، فهذا ماجن ولا شهادة لماجن، ومن سألت عنه، فقالوا: يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أقبل ذلك وأجيز شهادته، ولو قالوا: يتهمه بالفسق والفجور، ويظن ذلك به، ولم يره، قبلت ذلك، ولم أجز شهادته؛ لأنهم إذا اتهموا بالفسق مطلقاً فقد بينوا أنه عندهم غير عدل بوجه، فلم تظهر عدالته بوجهه من الوجوه، بخلاف ما إذا قالوا: يتهمه بشتم

(8/321)


أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك عدلوه فيما سواه، ولم يثبت هذا الجرح بمجرد التهمة، فبقي اعتبار العدالة، ذكر المسألة على هذا الوجه في «الأقضية» .

وتجوز شهادة المحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر إذا تابوا، بخلاف المحدود في القذف، فإنه لا تقبل شهادته وإن تاب، والفرق: أن رد شهادة المحدود في القذف من تمام الحد، عرف ذلك بالنص، وأصل الحد لا يرتفع بالتوبة، فكذا ما كان من تمام الحد، وأما رد شهادة هؤلاء ليس من تمام الحد؛ لأن النص لم يرد به، ولا يدخل القياس في الحدود، وإنما رد شهادة هؤلاء لفسقهم وقد زال الفسق بالتوبة.
ولا تجوز شهادة المتهم به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولا تجوز شهادة الفاسق عندنا، وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفاسق إن كان ذا مروءة وكان وجيهاً تقبل شهادته؛ لأنه لو جاء بيته لا يتجاسر أحد على استئجاره، ولمروءته لا يرتكب الكذب من غير منفعة له، إلا أن في ظاهر الرواية لم يفصل، بل أطلق الجواب إطلاقاً وهو الأصح؛ لأن في قبول الشهادة والعمل بها إكرام الشهود، والفاسق يستحق الإهانة، ولو قضى قاض بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه عندنا، والمسألة مرت في كتاب «أدب القاضي» .

ولا تقبل شهادة الأخرس عند علمائنا رحمهم الله، ولا تقبل شهادة الأعمى في شيء من الحقوق في المسموعات والمنقولات عند علمائنا رحمهم الله، وقد صح عن عليّ رضي الله عنه أنه رد شهادة الأعمى، فهذا قد روي عن علي رضي الله عنه، ولم يرو عن أقرانه خلافاً يحل محل الإجماع، ولأنه تحمل الشهادة من وراء الحجاب وأداها من وراء الحجاب، فلا تقبل شهادته قياساً على البصير إذا تحمل الشهادة وأداها من وراء الحجاب، وإنما لا تقبل ثمة؛ لأنه تتمكن فيها زيادة تهمة لا تتمكن متى عاين المشهود له وعليه؛ لأنه متى لم يعاين إنما يشير إلى المشهود له والمشهود عليه بالسماع والاسم والنسب، وإنه مما لا يقطع الشركة، ومتى عاين حالة التحمل وأشار حالة الأداء ينقطع الشركة، أو لما تمكن زيادة تهمة بالحجاب، وأمكن الاحتراز عنه بأن يتحمل ويؤدي من غير حجاب منع قبول الشهادة، فكذا مما تمكنت زيادة تهمة في شهادة الأعمى يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود وهم البصراء، فإن إشهاد البصراء على الحوادث ممكن من غير حرج.
هذا إذا تحمل الشهادة وهو أعمى وشهد وهو أعمى، فأما إذا تحمل الشهادة وهو بصير، ثم أدى وهو أعمى، هل تقبل شهادته عند علمائنا رحمهم الله؟ أجمعوا على أنه في المنقول لا تقبل؛ لأن الإشارة إلى المنقول شرط لصحة الشهادة، ولا يقوم الوصف مقام الإشارة في المنقول عندهم جميعاً، ولا عبرة لإشارة الأعمى؛ لأنه لا يعاين المشهود به، فصار وجود الإشارة منه والعدم بمنزلة وبدون الإشارة لا تقبل الشهادة في المنقول (121أ4) .

أما إذا كان المشهود به ديناً أو عقاراً اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما

(8/322)


الله: لا تقبل هذه الشهادة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقبل، فأبو يوسف جعل العمى مانعاً صحة التحمل، ولم يجعله مانعاً صحة الأداء، وإنما فعل كذلك؛ لأن الاحتراز عن عمى الشاهد ممكن لصاحب الحق حالة التحمل من غير حرج بإشهاد البصراء، فيكون العمى مانعاً صحة التحمل، وإنه حاجز بين المشهود له وبين المشهود عليه، فأما إذا صح التحمل من البصير، فالاحتراز عن العمى غير ممكن لصاحب الحق، فقام الاسم والنسبة حالة الأداء مقام الإشارة كما في الميت والغائب، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله احتجا بما روينا من حديث علي رضي الله عنه أنه رد شهادة الأعمى، ولم يفصل ولم يستفسر أنه تحمل وهو بصير أو عمي، فدل أن الحكم لا يختلف.
والمعنى في ذلك أن التحرز عن العمى حالة الأداء ممكن لصاحب الحق من غير حرج، بأن يشهد على حقه جماعة كثيرة من البصراء، حتى إذا عمي البعض يمكنه إثبات الحق بالبعض، ولما أمكنه الاحتراز عنه من غير حرج لم يسقط اعتبار الإشارة إلى المشهود والمشهود عليه، ولم يكتف بالاسم والنسب، كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب بالاسم والنسب والإشارة إلى نائب من عليه الحق مقام الإشارة إلى من عليه الحق.
ولو كان بصيراً وقت التحمل والأداء إلا أنه إذا عمي قبل القضاء، فكذلك الجواب على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: القاضي لا يقضي بشهادته، وعلى قول أبي يوسف: يقضي.
m
وأجمعوا على أن الشاهد إذا خرس أو ذهب عقله أو ارتد بعد الشهادة قبل القضاء أن القاضي لا يقضي بشهادته، والوجه في ذلك: أن المقصود من الشهادة القضاء بما يمنع الأداء يمنع القضاء، والخرس والردة وذهاب العقل يمنع الأداء بالإجماع، فيمنع القضاء، والعمى بعد التحمل يمنع الأداء عندهما، فيمنع القضاء أيضاً، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يمنع الأداء، فلا يمنع القضاء.

قال مشايخنا: وهذا كله فيما لا يجوز الشهادة عليه بالشهرة والتسامع، أما فيما يجوز الشهادة عليها بالشهرة والتسامع فشهادة الأعمى مقبولة بلا خلاف، واستشهد في كتاب «الأقضية» حجة لأبي حنيفة ومحمد على أبي يوسف بمسألة، فقال: ألا ترى أن الشاهدين لو قالا نشهد أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان هذا العبد وهذه الدار، وقد عرفناه يومئذ بوجهه واسمه ونسبه، إلا أنا لا نعرفه الساعة؛ لأنه شيخ أو لأنه قد نبتت لحيته، لم يجز القضاء بشهادتهما، ووجه الاحتجاج: أن في تلك المسألة لم يكتف بالمعرفة وقت التحمل، بل شرط المعرفة وقت الأداء، فكذا ههنا لا يكتفي بآلة التمييز وقت التحمل، ويشترط وجودها وقت الأداء.

ثم فرق بين شهادة الأعمى وبين شهادة الشهود على غائب لأجل كتاب القاضي، والفرق: أن ثمة الشهود يعرفون المدعى عليه، ويقولون: لو رأيناه عرفناه، ولا يكون ذلك شهادة على من لا يعلمون بوجوب الحق عليه، حتى لو قالوا: لا نعرفه اليوم لا تقبل

(8/323)


شهادتهم، فأما الأعمى لا يشهد على من علم بوجوب الحق على الحقيقة، فلا يصح منه أداء الشهادة. وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية: أن المدعي والمدعى عليه إذا كانا معروفين ليس على اسمهما ونسبهما غيرهما تقبل شهادة الأعمى عند بيان الاسم والنسب.
وإذا كان الرجل يجن ساعة ويفيق ساعة، فشهد في حال إفاقته تقبل شهادته، وقدّر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بيومين، وقال: إذا كان جنونه يومين أو أقل من ذلك ثم يفيق هكذا، فشهد في حال إفاقته تقبل شهادته، ذكر في «شرح أدب القاضي» في باب شهادة الأعمى.

نوع آخَرَ مِن هذا الفصْل

وتجوز شهادة الرجل لمن أرضعته امرأته؛ لأن الرضاع تأثيره في الحرمة خاصة دون ما سواه من الأحكام، ألا ترى أنه لا يستحق بها النفقة والإرث، وكذلك حكم الشهادة، وحقيقة النفقة في ذلك أنه ليس لأحدهما تأويل ملك، ولا بسوطة يد في مال صاحبه، فلم تكن التهمة في هذه الشهادة فقبلت، كما في شهادة الأجانب.
وكذلك تقبل شهادته لأخيه وأخته، وعمه وعمته، وخاله وخالته من الرضاع والنسب، أما من الرضاع: لأنه لما قبلت شهادته لهؤلاء من الرضاع أولى، وأما من النسب: فلما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا شهادة الولد لوالده، ولا شهادة الزوج لزوجته، ولا شهادة المرأة لزوجها، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: تمكنت التهمة في هذه الشهادات.
بيان تمكن التهمة في شهادة الوالد لولده. إن كان المشهود به مالاً، فلوجهين: أحدهما أن للأب شبهة الملك في مال الولد قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» فصار الأب كالشاهد لنفسه، والإنسان متهم فيما شهد لنفسه، وهذه تهمة يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود، بأن يشهد له غير الوالد. والثاني: أن الأب وافر الشفقة على ولده، فيتهم بالميل إليه. وإن كان المشهود به نكاحاً أو قصاصاً فالتهمة من وجه واحد، وهو الوجه الثاني.
بيان تمكن التهمة في شهادة الولد لوالده: إن كان المشهود به مالاً من وجهين: أحدهما: أن منافع الأملاك متصلة بينهما عرفاً وعادة، فصار الشاهد شاهداً لنفسه من وجه، والثاني: أن الولد وافر الشفقة على والديه، فيتهم بالميل إليه، فإن (كان) المشهود به نكاحاً أو قصاصاً، فالتهمة من وجه واحد، وهو الوجه الثاني.

بيان تمكن التهمة في شهادة الزوج لامرأته، وشهادة المرأة لزوجها من وجهين:

(8/324)


أحدهما: أن كل واحد من الزوجين شديد الشفقة على صاحبه، وإليه أشار عز وجل، فقال {وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21) فيتهم كل واحد منهما بالميل إلى صاحبه، كما في الوالدين والمولودين، وهذه تهمة يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود بأن يشهد لكل واحد منهما الأجنبي. والثاني: أن الأملاك بينهما متصلة عرفاً وشرعاً في حق المنافع بسبب الزوجية أيضاً؛ لأنه يمنع وضع كل واحد منهما زكاة ماله عند صاحبه عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: يمنع الزوج صرف زكاته إلى امرأته إن كان لا يمنع صرف زكاتها إلى الزوج، ويثبت بسبب هذا الاتصال للزوج شبهة الاشتباه في مال امرأته حتى لو وطئ جارية امرأته وقال: ظننت بأنها تحل لي، فإنه لا يحد، كالابن إذا وطئ جارية أبيه، ثبت أن الأملاك بينهما متصلة في حق المنافع نظير الاتصال فيما بين الوالدين والمولودين، لا نظير الاتصال فيما بين الأخوة والأخوات، فمتى قبلنا شهادة كل واحد منهما لصاحبه حصل لكل واحد منهما نوع منفعة في المشهود به مضافاً إلى الشهادة، وهذا يمنع قبول الشهادة.
والدليل عليه: أن يد كل واحد منهما ثابتة في مال صاحبه، فيصير كل واحد منهما شاهداً لنفسه باليد، ولا يلزم صاحب الدين إذا شهد لغريمه بحبس حقه تقبل شهادته، وإن كان يثبت لنفسه منفعة، فإنه يأخذ المشهود به فيصير ملكاً له؛ لأنا نقول: حصول المنفعة للشاهد فيما شهد به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان حصول المنفعة مضافاً إلى الشهادة، وإذا لم يكن مضافاً إلى الشهادةِ، بل كان مضافاً إلى سبب آخر يحدثه الشاهد بعد الشهادة باختياره، فإنه لا يمنع قبول الشهادة، وفي مسألة الغريم: لا يملك شيئاً من المشهود به بنفس الشهادة، وإنما يملكه أخذ يحدثه بعد الشهادة باختياره، فإن الأخذ في حبس حقه سبب ملك، كقبول الهبة والبيع، وفي مسألتنا: ما يحصل من المنفعة لأحد الزوجين يحصل بنفس الشهادة؛ لأنه يحصل بالزوجيّة والملك، والملك آخرهما وجوداً، فيكون مضافاً إلى الملك الثابت، كما في الوالدين والمولودين ما يحصل من المنفعة يحصل بالولاد والملك، إلا أن الملك آخرهما وجوداً، فكان حصول المنفعة إلى الملك الثابت بالشهادة.

وشهادة الأخ لأخيه مقبولة، والأصل قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) من غير فصل بين القريب والأجنبي، فهو على الكل إلا ما صار مخصوصاً عنه، ولما خص عنه شهادة الوالد والمولودين بالإجماع، وتخصيص الوالدين والمولودين لا يوجب تخصيص الأخ والأخت؛ لأن الظاهر فيما بين الأخوة والأخوات العداوة، دليله: قصة يوسف عليه السلام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا شهد لأخيه والأب مّيت، إنما يشكل فيما إذا شهد لأخيه والأب حيّ، وينبغي أن لا تقبل شهادته، لأن منافع الأملاك بين أبيه وأخيه متصلة، وإذا شهد لأخيه فكأنه شهد لأبيه، والجواب: شهادة الإنسان لأبيه إنما لا تقبل؛ لأن منافع الأملاك بين الأب وبين الابن متصلة، فكانت الشهادة للأب شهادة لنفسه من وجه، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وأما شهادته لأخيه ليست بشهادة لنفسه

(8/325)


أصلاً؛ لأن منافع الأملاك بين الأخوين متباينة لا ينتفع الأخ بمال أخيه لا ابتداءً ولا بواسطة الأب، فلم تكن هذه شهادة لنفسه (121ب4) بوجه ما فقبلت.
وإذا ثبت الكلام في الكلام في الأخ ثبت في الأخت؛ لأنهما سيان في القرابة، وثبت الكلام في سائر القرابات، نحو العمّ والخال والعمة والخالة؛ لأن الأخ أقرب من هؤلاء، فإذا قبلت شهادته للأخ، فلهؤلاء أولى.
ولا تجوز شهادة الرجل لولد ولده وإن سفل، ولا لجده وإن علا، وتجوز شهادته لأم امرأته وابنتها، ولزوج ابنته وامرأة أبيه وأخت امرأته؛ لأن الثابت بينه وبين هؤلاء حرمة المناكحة لا غير، وإنها لا تمنع قبول الشهادة كما في الرضاع، ومن لا تجوز شهادته له لا تجوز شهادته لعبده، ولا لمكاتبه ولا أم ولده ولا المدبّر، ولا تجوز شهادة العبد والمكاتب والمدبر وأم الولد في حقوق العباد عندنا، وكذلك شهادة معتق البعض عند أبي حنيفة؛ لأنه بمنزلة المكاتب ما دام يسعى.

نوع آخَر من هذا الفصل

العبد إذا شهد في حادثة، ورد القاضي شهادته، ثم أعتق وأعاد تلك الشهادة قبلت شهادته، وكذلك الصبي والكافر إذا شهدا على مسلم، فرد القاضي شهادتهما، ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي، ثم أعاد تلك الشهادة، فإنه تقبل شهادتهما.
فرق بين هذا وبين الفاسق إذا شهد في حادثة ورد القاضي شهادته، ثم زال الفسق بالتوبة، فأعاد تلك الشهادة، فإنه لا تقبل شهادته
وكذلك الزوج إذا شهد لزوجته وهو حر، والزوجة لزوجها وهي حرة، فرد القاضي شهادتهما، ثم ارتفعت الزوجية فأعاد تلكَ الشهادة لا تقبل شهادته.
ووجه الفرق بينهما: أن رد الشهادة في الفاسق والزوج والزوجة إذا كانا حرين محال على تهمة الكذب، غير محال على كونه غير أهل الشهادة؛ لأن الفاسق أهل للشهادة، والزوج والزوجة كذلك؛ لقيام ولاية كل واحد منهم على نفسه على الكمال، إلا أنه تمكنت في شهادتهم زيادة تهمة بسبب الفسق، أو بسبب وصلة الزوجية، فكان الرد محالاً على تهمة الكذب، وإذا كان الرد محالاً إلى تهمة الكذب صار الشاهد بِرَدِّ القاضي شهادته بتهمة الكذب مكذّباً من جهة الشرع فيما شهد به، وتكذيب الشرع ينزل منزلة التكذيب من حيث العيان، ولو ثبت الكذب من حيث العيان لا يكون لشهادته عبرة بعد ذلك، فكذلك هذا.
فأما في العبد إن كان عدلاً، فرد الشهادة غير محال له على تهمة الكذب؛ لأنه عدل فيكون محالاً على كونه غير أهل، فلم يصر مكذباً فيما أخبر من جهة الشرع، وقيل خبره إذا صار من أهل الشهادة بالعتق كما قبل الشهادة، وإن كان العبد فاسقاً فقد تمكن في شهادته عدم الأهلية وتهمة الكذب، فكان الرد محالاً على عدم الأهلية، لا على تهمة الكذب، حتى يتوقف الرد ولا يتأبد، فيكون تقليلاً للرد بقدر الإمكان.

(8/326)


وفي الصبي عدم الأهلية وتمكن تهمة الكذب أيضاً؛ لأنه لا يبالي من الكذب من حيث إنه لا يحرم عليه.

وفي الكافر تمكن تهمة الكذب؛ لأن عداوته مع المسلم أمر ظاهر وتمكن عدم الأهلية؛ لأنه لا ولاية له على المسلم، فأحيل بالرد على عدم الأهلية لا على تهمة الكذب، فلم يصر مكذباً فيما أخبر من جهة الشرع، فقبل خبرُه إذا صار أهلاً.
النصراني إذا حُدَّ حَد القذف ثم أسلم، فإن شهادته جائزة، والعبد إذا حُدَّ حَد القذف ثم عتق، فإن شهادته جائزة، والفرق: أن رد الشهادة موجب القذف، وإنه من تمام الحد، والنصراني حال ما قذف كانت له شهادة أخرى لم تكن، وأما العبد حال ما قذف لم تكن له شهادة، فتوقف كون القذف هو موجباً رد الشهادة على حدوث الشهادة.

وإذا تحمل العبد شهادة لمولاه، فلم يؤدها حتى عتق، ثم شهد بها جازت؛ لأن التحمل منه قد صح؛ لأن التحمل بالمعاينة والسماع والرق لا ينافي ذلك، وعند الأداء هو من أهل الشهادة، ولا تهمة في شهادته، فقلنا بقولها وكذلك إذا تحمل أحد الزوجين شهادة لصاحبه، ثم وقعت الفرقة بينهما، وأدى تلك الشهادة جاز لما قلنا.
ولو شهد لصاحبه حال قيام النكاح، فلم يقبل القاضي شهادته ولم يردها حتى وقعت الفرقة بينهما، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وعن أبي يوسف أن القاضي لا يقضي بتلك الشهادة إلا أن يعيدها.
وإذا شهد المولى لعبده بشيء أو شهد لمكاتبه، فرد القاضي شهادته ثم أعتقا وأعاد المولى تلك الشهادة لا تقبل شهادته؛ لأن رد الشهادة في هذه الصورة محال على تهمة الكذب، لا على عدم الأهلية، فالمولى أهل للشهادة، والتقريب ما ذكرنا. ولو شهد العبد أو المكاتب لمولاه، ورد القاضي شهادته، ثم عتقا، وأعاد تلك الشهادة تقبل شهادتهما، والمعنى ما ذكرنا.

وفي «المنتقى» : إذا أشهد الأعمى على شيء، فشهد به عند القاضي، ورد القاضي شهادته، ثم ذهب العمى، فأشهد المشهود عليه ثانياً، فشهد بها عند القاضي جاز؛ لأنه إنما رد الأولى؛ لأنه لم تكن شهادة. وإن أشهد على شهادة وهو بصير، فشهد عليها عند القاضي في حالة العمى، فردها القاضي ثم ذهب العمى، فشهد بها ثانية، فعلى قول أبي يوسف: لا تقبل؛ لأنها كانت شهادة قاطعة فردت.
وإذا شهد حران مسلمان بالغان في حق من الحقوق، وكانا يوم أشهدا صغيرين أو كافرين أو عبدين قبلت شهادتهما؛ لأن هؤلاء من أهل التحمل للشهادة؛ لأن مبناها وقت السماع والمعاينة، وهؤلاء من أهله لكنهم ليسوا من أهل الأداء بسبب الرق والكفر والصبا، فإذا زال الرق والكفر والصبا صاروا من أهل الأداء، فتحققت الشهادة عن تحمل صحيح ممن هو من أهل الأداء فقبلت الشهادة، والله أعلم.

(8/327)


الفَصْل الرابِع: في الاستماع إلىَ الشُهُود وَصِفَةِ أداء الشَّهَادَة
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل بمال، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما شهد عليهما رجلان أنهما رجعا عن شهادتهما، فإن كان الذي أخبر عن رجوعهما ممن يعرفه القاضي ويعدله وقف في أمرهما، ولم ينفذ شهادتهما، وإذا شهد شاهد على الحق مفسراً، وشهد الآخر على شهادته لا تقبل، وكذلك إذا شهد الآخر على مثل شهادته؛ لأن مثلها قد يكون صلة، فصَار هذا وما لو قال: أشهد على شهادته سواء، أما إذا قال الآخر: أشهد بمثل ما شهد به الأول، فعند الخصاف لا تقبل شهادة الشهادة؛ لأن قوله أشهد بمثل ما شهد به الأول محتمل: يحتمل أشهد بمثل ما شهد الأول كملاً، ويحتمل بمثل ما شهد به الأول نقصاً، وعند عامة المشايخ: تقبل هذه الشهادة، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: إن كان الشاهد الأخير فصيحاً يمكنه أداء الشهادة على وجهها إلا أنه دخله حصر بسبب هيبة مجلس القضاء، أو كان عجمياً غير فصيح، إلا أنه يمكنه بيان الشهادة بلسانه على وجهها لولا حشمة مجلس القضاء، لا يكلف تفسير الشهادة، وإذا شهد بمثل ما شهد به الأول يقبل.
وإن كان الشاهد عجمياً لا يمكنه بيان الشهادة بلسانه أصلاً لا يقبل منه الإجمال، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: إن أحس القاضي بخيانة من الشهود لا بد وأن يفسر الثاني الشهادة على الوجه الذي شهد به الأول، وإن لم يحس بخيانة لا يكلفه تفسير الشهادة، وإذا شهد بمثل ما شهد به الأول تقبل، قال الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح أدب القاضي» : وعليه الفتوى، وكان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: إنما يقبل الإجمال من الشاهد الآخر إذا قال في شهادته: لهذا المدعي على هذا المدعى عليه، هذه الجملة في «شرح أدب القاضي» للخصاف، في باب القاضي يقضي في المسجد.

وفي هذا الباب أيضاً: إذا كتب شهادة الشاهدين في بياض وقُرِئ عليه ذلك، فقال: أشهد أن لهذا المدعي جميع ما سمى ووصف في هذا الكتاب على هذا المدعى عليه الذي قرئ ووصف في هذا الكتاب في يد هذا المدعى عليه بغير حق وواجب عليه تسليمه إلى هذا المدعي، فهذه شهادة صحيحة، وهذا لأن الشهادة قد تكون طويلة على وجه لا يمكن للشاهد ضبطها وأداؤها على ظهر القلب، لو لم يجز أداؤها عن نسخة أو صك لتعطلت الحقوق، وحكى فتوى شيخ الإسلام شمس الأئمة السرخسي في رجل ادعى داراً من نسخة أو صك قرأها، فقال الشهود وهم آمنون ما هم جنين كواهي سيد هيم لهذا المدعي على هذا المدعى عليه: إن شهادتهم صحيحة، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عن الشهود إذا قالوا بالفارسية: ما كواهي وهيم كه أين عين مدعي به ملك أين مدعي است، هل تقبل شهادتهم؟ قال: نعم. وقيل: ينبغي أن لا تقبل؛ لأن قوله: ما كواهي

(8/328)


دهيم في العرف للاستقبال، وللحال ما كواهي سيد هيم.

وفي «فتاوى المنتقى» : سئل عن شهود كان في لفظ شهادة كل واحد منهم: ما كواهي سيد هيم كه فلان جبرآن فلانست، هل يكون هذا بمنزلة قوله: ملك فلا ينست، قال: نعم؛ لأن الناس اعتادوا استعمال كلا اللفظين استعمالاً واحداً، وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يستفسرهم أنهم أرادوا به الملك أو غيره، فإن فسروا أخذ بتفسيرهم، وإن لم يفسروا (122أ4) وغابوا أو ماتوا، فالقاضي يقضي بشهادتهم بالملك، وسيأتي بعد هذا من هذا الجنس إن شاء الله تعالى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا وقع البيع بين رجلين بالتعاطي، ووقعت الحاجة إلى الشهادة، فالشهود كيف يشهدون قيل: يشهدون على الأخذ والإعطاء ولا يشهدون على البيع؛ لأنّ التعاطي بيع حكمي، وليس ببيع حقيقي، وقيل: لو شهدوا على البيع يجوز.
شهد الشهود بعين في يد رجل أنه ملك هذا المدعي، ولم يشهدوا أنه في يد المدعى عليه بغير حق، حكي عن الشيخ شمس الأئمة الحلواني أنه قال: لا تقبل هذه الشهادة، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بقبول هذه الشهادة، وهكذا حكى فتوى جماعة من المشايخ، وبعض مشايخنا قالوا: تقبل هذه الشهادة في حق القضايا بالملك، ولا تقبل في حق إيجاب التسليم إلى المدعي، وهو الأشبه والأقرب إلى الصواب؛ لأن وجوب التسليم ينفك عن الملك في الجملة، وهذا القائل يقول: لو سأل القاضي الشاهد، أهو في يد هذا المدعى عليه بغير حق، فقال الشاهد: لا أدري، أنه تقبل الشهادة على الملك؛ لأن القضاء بالملك لا يستدعي كون المدعى عليه مبطلاً في يده لا محالة؛ لجواز أن تكون العين ملكاً لإنسان، وتكون في يد غيره بحق، بأن كان رهناً أو مستأجراً أو ما أشبه، وسَيَأتي بعد هذا من هذا الجنس إن شاء الله تعالى.
في «فتاوى النسفي» : أدعى على آخر عشرة دراهم، وشهد الشهود أن لهذا المدعي على هذا المدعى عليه مبلغ عشرة دراهم أو بمبلغ عشرة دراهم، لا تقبل الشهادة؛ لأن الشهود شهدوا بخلاف ما ادعاه المدعي؛ لأن المدعي أدعى عشرة دراهم، والشهود شهدوا بمبلغ عشرة دراهم، ومبلغ عشرة دراهم مال سوى الدراهم، يبلغ قيمته دراهم، وقيل: يقبل، وهو الأصح؛ لأن المبلغ عبارة عما ينتهي إليه العدد المذكور.
ولو ادعى بالفارسّية: ده درهم، وشهد الشهود بهذه العبارة أن لهذا المدعي على هذا المدعى عليه: ده دوازده درهم، لا تقبل لمكان الجهالة، وكذلك: إذا ذكر الشهود التاريخ في شهادتهم على هذا الوجه لا تقبل شهادتهم.

وفي فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي: إذا شهد الشهود أن هذا العين حق هذا المدعي، ولم يقولوا ملكه قبلت الشهادة؛ لأن الحق مع الملك يستعملان استعمالاً واحداً، وقيل: لا تقبل، وقيل: ينبغي للقاضي أن يستفسرهم عن الحق أرادوا به الملك أو ما هو حقيقة الحق، ويبنى الأمر على ما فسروا.

(8/329)


وعلى هذا الاختلاف دعوى الحق إذا ادعى أن هذه الدار حقي، ولم يقل: ملكي، هل تصح منه هذه الدعوى؟
وفي «الفتاوى» : سئل شداد عن ثلاثة نفر شهدوا في حادثة، ثم قال أحدهم قبل القضاء: أستغفر الله قد كذبت في شهادتي، فسمع القاضي ذلك ولم يعلم أيّهم قال ذلك، فسألهم القاضي بعد ذلك، فقالوا: كلنا على شهادتنا، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم، ويقيمهم من عنده حتى ينظر في ذلك، فإن جاء المدعي باثنين في اليوم الثاني يشهدان له بذلك قبلت شهادتهما.
إذا شهد في حادثة قبل الدعوى، ثم أعادها بعد الدعوى قبلت شهادته وإذا شهد الشهود على إقرار رجل بشراء محدود أو ما أشبه ذلك، لا بد وأن يذكروا في الشهادة أنه أقر على نفسه، أو يقولوا: أقر بشرائه لنفسه، أو ببيعه بنفسه؛ لأن إقراره كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، فلا بد من ذكره.

وإذا شهد الشهود أن هذا العين ملك هذا المدعي، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، ولم يقولوا: فواجب عليه قصر يده عنه، وتسليمه إلى هذا المدعي. حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغديّ أن فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال: لا بد وأن يقولوا ذلك، يعنى للقضاء بالتسليم؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشيء ملك إنسان، ولا يجب على صاحب اليد تسليمه إليه، ويكون معنى قوله: وفي يده بغير حقٍ حقُ الملك، ومنهم من قال: لا حاجة إلى ذكره، وتكون الشهادة مقبولة، ويجبر المدعى عليه على التسليم إذا طلب المدعي ذلك؛ لأن كون العين مملوكة لإنسان تقتضي وجوب التسليم إليه يقتضيه الأصل، إلا لعارض، ولم يثبت العارض كما قالوا، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، وإن كان التسليم واجباً يقضيه الملك، كان قولهم: فواجب عليه تسليمه إلى هذا المدعي بيان هذا الحكم، فلا حاجة إلى ذكره، وعليه أدركنا كثيراً من مشايخ زماننا، قال شيخ الإسلام: هذا، وأنا أفتي أن في تلك الشهادة قصوراً.
h
ادعى على آخر عشرة أقفزة حنطة ديناً، وذكر جميع شرائطه، وجاء بشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه أن هذا المدعي أرسل إليه عشرة أقفزة حنطة لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنه بمجرد الإرسال لا يثبت وصول العين إلى المدعي، ألا ترى أنه في العرف والعادة يقال: فلان أرسل إلي كذا، ولكن لم يصل إلي، وبعد أن يثبت الوصول إليه لا تثبت جهة الدينية.

وإذا قال المدعي للقاضي: لا بينة لي، وحلَّف القاضي المدعى عليه بطلب المدعي، ثم جاء المدعي ببينة، روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يقبل بينته، وعن محمد رحمه الله: لا يقبل بينته لمكان التناقض، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الجمع بين الكلامين ممكن؛ لجواز أنه لم تكن بينة له حال ما قال: لا بينة لي، ثم حدث له بعد ذلك بأن أقر المدعى عليه بعد ذلك بين يدي الشهود بما ادعاه المدعي، فلا يثبت التناقض.

ذكر الخصّاف هذه المسألة على هذا الوجه في «أدب القاضي» ، وذكر الطحاوي

(8/330)


رحمه الله في «مختصره» أن المدعي إذا قال لا بينة لي، أو قال الشهود: ما لنا شهادة، ثم جاء المدعي بشهود، أو شهد الذين قالوا: لا شهادة لنا، أي: على أصحابنا فيه روايتان، في رواية: لا تقبل لمكان التناقض، وفي رواية: تقبل.
وعلى هذا إذا قال المدعي: كل بينة آتي بها فهم شهود زور، ثم أتى ببينة.
وعلى هذا إذا قال: ليس لي عند فلان شهادة فيما ادعى على هذا، فلما حلفه القاضي جاء بفلان شهد.
وعلى هذا الخلاف إذا قال: ما لي عند فلان وفلان شهادة على هذا ثم ادعى بعد ذلك شهادتهما.
رجل له دعوى في عبد في يدي رجل، وله على ذلك شهود، فقال واحد من الشهود عند القاضي لعبد من عبيد المدعى عليه: هذا العبد ليس هو العبد الذي لفلان فيه الدعوى، ثم المدعي ادعى ذلك العبد بعينه لنفسه، وشهد له ذلك الذي قال تلك المقالة بين يدي القاضي، فقد قيل: يجب أن لا تقبل شهادته لمكان التناقض، وقيل: يجب أن تقبل في إحدى الروايتين على ما ذكره الطحاوي؛ لأنه ليس في كلام الشاهد أكثر من أنه لا شهادة لي في هذا العبد، ومن قال: لا شهادة له في هذه الحادثة، ثم شهد بعد ذلك، ففي قبولها روايتان على ما ذكره الطحاوي، وعلى ما ذكره الخصاف تقبل على قول أبي حنيفة رحمه الله، فههنا كذلك.
وفي «فتاوى النسفي» وينبغي للشاهد أن يقول في شهادته: أين عين تلك أين يدعي است وحق ويست، حتى لا يمكن أن يلحق به، وحق وي ني، وكان الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي يقول: إذا قال المدعي فلان جيبر ملك ينست، وحق من، لا يكتفى به، وينبغي أن يقول: وحق ينست، ويقول في قوله: وبدست فلان بنا حق است، وكذلك في نظائره، حتى لا يلتحق به كلمة النفي، قال: الاحتياط في هذا، ولكن هذا الاحتياط في موضع يطالب بالتسليم، وقد ذكرنا جنس هذا قبل هذا.

وفي «فتاوى الفقيه أبي الليث» رحمه الله: إذا ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام البينة على ذلك ينبغي أن يبين الشهود الذكر والأنثى وإن لم يثبتوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر: أخاف أن يبطل الشهادة، ولا يقضي للمدعي بشيء من دعواه، وإن بينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم.
ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأنَّ باختلاف اللون لا تختلف المنافع، فلا يصير المشهود به مجهولاً، ولا كذلك الذكورة والأنوثة، قيل اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم، خصوصاً على أصل أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناءٌ على القضاء بملك المستهلك، لما عرف أن حق المالك باق في العين بعد الاستهلاك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض القيمة أو بقضاء القاضي، وهذا القائل يقول: مع ذكر الأنوثة والذكورة لا بد من ذكر النوع بأن يقولوا فرس أو حمار ونحوه، ولا يكتفى بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللّون كما في الوكالة، ومن المشايخ من أبى ذكر الذكورة والأنوثة، وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلكة القيمة والمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة

(8/331)


مقبولة، فلا يشترط بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من أدعى على رجل مالاً مقدراً، وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضِي عن السبب، فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم، وطريقه ما قلنا.
وكذلك الرجلان إذا ادعيا نكاح امرأة معينة (122ب4) وأقاما البيّنة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذر، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث، فقضى بالميراث لهما لهذا، والأول أصح.

ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة النكاح: أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة، فلم يقض بالنكاح حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى أو الشهادة، أما بعد الموت: المقصود هو الميراث، والقضاء لهما بالميراث ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة، لأنهم شهدوا بملك المتلف، والمدعي ادعى ملك المتلف، والقاضي يقضي بذلك، ثم القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المتلف، والقضاء بالمجهول لا يصح، فلا يقضي، وفيما ادعي مقدراً وشهد الشهود بمال مقدر، وأثبتوا السبب استهلاك الدابة نقول: بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم، إنما يقضي إذا أثبتوا صفة الذكورة والأنوثة، وأثبتوا مع ذلك نوع الدابة.
رجل ادعى على غيره أنك أبرأتني عن جميع الدعاوى والخصومات، والمدعى عليه لم يخاصمه بعد، ولم يدع عليه شيئاً، وجاء المدعي بشاهدين شهدا على ما ادعاه، فقد قيل: لا تقبل هذه الشهادة وقد قيل: تقبل، وعلى قياس مسألة ذكرناها في «أدب القاضي» أن المطلوب إذا ادعى عند القاضي: أن الطالب أبرأني عن كل قليل وكثير، وهو اليوم في بلد كذا، وشهودي ههنا حضور، فاسمع من شهودي واكتب لي إلى قاضي تلك البلدة أن على قول أبي يوسف القاضي لا يسمع من شهوده، ولا يكتب له على ذلك، وعلى قول محمد يسمع ويكتب، يجب أن تكون هذه المسألة على ذلك الخلاف.

ولو قال المدعي في هذه المسألة: خاصمني وجحد الابراء مرة يجب أن تقبل شهادة شهوده بلا خلاف، كما في تلك المسألة.

رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنك بعتني هذا العبد، ونقدتك الثمن، وهو ألف درهم، فجحد البائع البيع وقبض الثمن، فشهد له شاهدان على إقراره بالبيع، وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد، ولكنه قال لنا: عبدي زيد، وشهد آخران (أن) هذا العبد اسمه زيد أو شهدا على إقرار البائع أن هذا العبد اسمه زيد، فالبيع لا يتم بهذه الشهادة ويحلف البائع، فإن حلف رد الثمن، وإن نكل لزمه البيع بنكوله، هكذا قال أبو يوسف رحمه الله، فإن شهد شاهدا البيع أنه أقر أنه باعه عبده زيداً المولود، نسبوه إلى شيء يعرف، من عمل أو صناعة أو حلية، فوافق ذلك هذا العبد، فهذا والأول سواء في

(8/332)


القياس، لكني أستحسن إذا نسبوه إلى أمر معروف أن أجيزه، وكذلك الأمة.
وفي «المنتقى» : شهد شاهدان أن لهذا في هذه الدار ألف ذراع، فإذا الدار خمسمائة ذراع أو شهدا أن له في هذا القراح عشرة أجربة، فإذا القراح خمسمائة أجربة، فالشهادة باطلة، ولو كان أقر بذلك أخذ المقر له كلها.
وفيه أيضاً: شاهدان شهدا أن شاة هذا دخل غنم هذا، ولم يعرف الشاة لا تقبل شهادتهما، ولو شهدا أنه غصب شاة وأدخلها في غنمه قضيت عليه بالقيمة، ولو شهدا أن داره في دار هذا، ولم يجدوا من أي موضع هي، فالشهادة باطلة. ولو شهدوا أنه غصب داره، وأدخلها في داره قضيت عليه بالقيمة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله في ثلاث نفر، لهم على رجل دين بألف درهم، فشهد اثنان منهم على الثالث أنه قد أبرأه من حصته لا يجوز؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما شركته إذا قبضا حصتهما، وهو بمنزلة ما لو قبضا نصيبهما، ثم شهدا أنه قد أبرأه عن نصيبه، وقال محمد رحمه الله: إن كانا قد قبضا نصيبهما، فشهادتهما باطلة، وإن كانا لم يقبضا، فشهادتهما جائزة.
إذا شهدا على رجل أنه أقر أن اسمه عارية في هذا الدين، وهو لفلان، وفلان يدعيه فهو جائز.

نوع آخر منه

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا شهد رجلان أن لهما ولفلان على هذا الرجل ألف درهم، فهذا على وجوه:
الأول: أن ينصا على الشركة، بأن شهدا أن لفلان ولهما على هذا الرجل ألف درهم مشترك بينهم، وفي هذا الوجه لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأن المشهود به مشترك بينهم، بحيث لا يمكن تمييز نصيب فلان عن نصيبهما، وقد تعذر قبول شهادتهما في نصيبهما، فيمنع قبولهما في نصيب فلان ضرورة.
الثاني: إذا نصا على قطع الشركة، بأن قالا: نشهد أن لفلان على هذا خمسمائة، وجبت بسبب على حدة، ولنا عليه خمسمائة وجبت بسبب على حدة، وفي هذا الوجه تقبل شهادتهما في حق فلان، فهذا ظاهر.
الثالث: إذا أطلقا الشهادة إطلاقاً، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة أصلاً؛ لأنه يحتمل أن المشهود مشترك بينهم، وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهما، فلا تقبل بالشك.
وإذا كان لرجل ألف درهم على ثلاثة نفر شهد اثنان منهم أن صاحب الدين أبرأهما وفلاناً عن الألف التي كانت له عليه وعليهما، فإن كان البعض كفلاً عن البعض لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما مغرماً؛ لأن براءة فلان عما عليه، وهو أصل في حقهما يوجب براءتهما، وإن لم يكن البعض كفلاً عن البعض، فإن شهدا أنه أبرأهما وفلاناً بكلمة واحدة لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأن الشهادة حصلت

(8/333)


بكلمة واحدة، وقد بطلت في البعض فيبطل في الباقي ضرورة.
وإن شهدا أنه أبرأهما على حدة، وفلاناً على حدة تقبل شهادتهما في حق فلان، ونظير هذا ما ذكر في كتاب الحدود إذا شهد رجلان أن فلاناً قذف....، وهذه بكلمة واحدة لا تقبل شهادتهما ولو شهدا أنه قذف.... على حدة، وهذا على حدة قبلت شهادتهما في حق هذه، وطريقه ما قلنا.
وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل وامرأتان أن زوج المرأتين قال لنسائه: أنتن طوالق لم تجز الشهادة على طلاقهما وعلى طلاق غيرهما.

ولو شهد شاهدان أنه أوصى بثلث ماله لفقراء بني تميم، وهما من بني تميم، وهما فقيران جازت الشهادة، ولا يعطيان شيئاً، لأنه لو قسم في بعضهم جاز.
ولو شهدا أنه أوصى بثلث ماله لفقراء أهل بيته وهما فقيران من أهل بيته، أو ولد لهما فقير من أهل بيته لم تجز الشهادة لهما ولا لغيرهما، وإن كانا غنيين ولا ولد لهما فقير جازت الشهادة.
وفي الوصايا لو أوصى بثلث ماله لفقراء جيرانه، فشهد على ذلك رجلان لهما أولاد يحتاجون في جوار الموصي، قال محمد: لا تقبل هذهِ الشهادة أصلالاً أما في حق أولاد الشهود فظاهر، وأما في حق الباقين فلأن الشهادة واحدة.
وفي «وقف هلال» : لو وقف على فقراء جيرانه، فشهد على ذلك شاهدان من فقراء جيرانه قبلت شهادتهما، وإذا شهد أهل مسجد على وقفية كراسة على مسجدهم أو على أهل مسجدهم وهم يحصون، حتى يجوز الوقف، هل تقبل شهادتهم؟ ينظر إن كان الشاهد ممن يقرأ أو له ولد يقرأ لا تقبل شهادته، وإن كان ممن لا يقرأ، وليس له ولد يقرأ تقبل شهادته، وهو نظير أهل مدرسة شهدوا على وقف تلك المدرسة، أو أهل محلة شهدوا على وقف تلك المحلة.

وهناك بعض المشايخ فصلوا الجواب تفصيلاً، فقالوا في شهادة أهل المدرسة إن كانوا يأخذون الوظيفة من ذلك الوقف لا تقبل شهادتهم، وإن كانوا لا يأخذون تقبل، وكذلك في أهل المحلة من شهد وهو ممن يأخذ شيئاً من ذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه حينئذٍ يكون هذا شهادة جار المغنم، وعلى هذا الشهادة على وقف المكتب وللشاهد صبي في المكتب، أو ليس له صبي في المكتب. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن تقبل الشهادة في هذه المسائل كيف ما كان، لأن كون الفقيه في المدرسة أو كون الداخل في المحلة أو كون الصبيّ في المكتب ليس بأمر لازم، بل ينتقل الفقيه من مدرسة إلى مدرسة، ومن محلة إلى محلة، وينتقل الصبي من مكتب إلى مكتب، ومثل هذا لا يمنع قبول الشهادة، بخلاف ما إذا كان أمراً لازماً، وهذا القائل يقول: ولأجل هذا المعنى وقع الفرق بينما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء جيرانه على ما ذكره هلال، وفيما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء

(8/334)


قرابته؛ لأن الجوار ليس بلازم، والقرابة لازمة، ولكن هذا الفرق لا يشكل بما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء بني تميم، وهم من فقراء بني تميم، حيث تقبل شهادتهما، وكونهما من بني تميم أمر لازم.
إذا شهدوا أن جميع ما في قرية فلان من الدور والأراضي وغيرهما، التي هي معروفة لفلان ميراث من جهته لفلان ابنه، هذا المدعي لا وارث له غيره، ذكر الصدر الشهيد في «فتاوى الصغرى» أن الشهود إن كانوا يعرفون حدود ذلك جاز، وإن كانوا لا يعرفون لا يجوز؛ لأنهم شهدوا بالمجهول، وقيل: إذا كان الشهود لا يعرفون حدود ذلك لا يحل لهم أداء الشهادة، وإن عرفوا إلا أنهم لم يشهدوا بها، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، وهو الأصوب.

إذا ادعى على رجل نقرة جيدة موروثة بوزن معلوم، وشهد الشهود بالنقرة بذلك الوزن، ولم يذكروا صفة الجودة في شهادتهم، ولا صفة الرداءة، فالقاضي يقبل (123آ4) شهادتهم، ويقضي بالنقرة الرديئة بذلك الوزن، هكذا كان يفتي بعض مشايخنا؛ لأنهم شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي، وعلى هذا القياس إذا ادعى مقداراً معلوماً من دقيق غير منخول، وشهد الشهود بالدقيق مطلقاً، وقيل: لا بل بينهما فرق؛ لأن الدقيق مع النخالة متفاوت، بخلاف النقرة الرديئة، ولو أدعى دقيقاً مع النخالة وشهد الشهود بدقيق منخول لا تقبل.

الفصل الخامس: في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته
يجب أن يعلم بأن شهادة الإنسان على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته أو نفي ذلك لا تقبل؛ لأنه شهادة لنفسه، والشهادة لنفسه دعوى، وبالدعوى لا يقطع الحكم، قال ابن سماعة عن محمد: كان أبو حنيفة رحمه الله يجيز شهادة القاسمين على قسمتهما، وكان أبو يوسف رحمه الله لا يجيز ذلك، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا تجوز شهادتهما، وذكر الخصاف قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما اللهُ، ولم يذكر فيه الاختلاف، قالوا: إن ما ذكره الخصاف آخر قول محمد، فقد رجع إلى قول أبي حنيفة، فأما في ظاهر الرواية، فقول محمد يخالف قولهما في هذه المسألة.
ووجه قول محمد أنهما شهدا على فعل أنفسهما، فلا تقبل شهادتهما، سواء كان فيه منفعة لهما أو لم تكن، كالوكيل بالنكاح إذا شهد بعقده، وكما إذا قال لرجلين: إن كلمهما عبدي فهو حر، فشهدا أنهما كلماه لا تقبل شهادتهما، وإن لم يكن فيه جر منفعة إليهما؛ لأن ما أتيا به دعوى لا شهادة على ما ذكرنا، كذا هذا. كيف وإن ههنا فيه جر منفعة إليهما؛ لأنه إذا ثبتت قسمتهما يستحقان أجر القاسمين، ولا تقبل شهادة من يجرّ إلى نفسه مغنماً.

(8/335)


وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا: إن هذه الشهادة قامت لإثبات الملك للغير؛ لأنه لا حق له في المقسوم ولا ملك، وقد خلت عن التهمة لانتفاء سبب التهمة من السبب أو اتصال الملكين، فوجب أن تقبل هذه الشهادة، ولأن الحاجة ماسة إلى قبول شهادتهما، لأنه لا يمكن للقاضي أن يبعث معهما شاهدين عدلين يشهدان على فعلهما، ولو فعل يلحق المؤنة على أصحاب القسمة، فلو لم تقبل شهادتهما لضاق الأمر على الناس، ولأن قاسم القاضي أمين القاضي ونائبه في القسمة، فكان فعله كفعل القاضي، والدليل على أن فعله كفعل القاضي أن القاضي وإن لم يكن مأذوناً في الاستخلاف يملك أن يفوض القسمة إلى غيره، فلولا أن فعله كفعل القاضي، وإلا لما ملك التفويض؛ لأنه ليس للقاضي أن يولي غيره الحكم بدون إذن الإمام، فثبت أن فعله منقول إليه حكماً، والدليل عليه أنه لا تلحقه العهدة، ولولا أن فعله منقول إلى القاضي حتى كان من القضاء وإلا للحقه العهدة والدليل على أنه من القضاء أن للقاسم أن يجبر الممتنع من القسمة، ولو لم يكن من القضاء لما كان له ولاية الجبر فإنه ليس لغير القاضي ولاية الجبر.
إذا ثبت هذا فنقول: تقريره من وجهين:

أحدهما: أنه لما كان فعله منقولاً إلى القاضي يعتبر فعله بفعل القاضي بنفسه، ثم القاضي إذا تذكر القضاء لرجل، والمقضي عليه ينكر، كان له أن يلزمه القضاء بقوله، فكذلك القاسم يملك أن يثبته بشهادته.
والثاني: أن فعله لما كان منقولاً إلى القاضي لم تكن هذه شهادة على نفسه من حيث التقدير، بل كان على فعل القاضي حكماً، وشهادتهما على فعل القاضي مسموعة، على أن هذه الشهادة في الحقيقة ما قامت على فعلهما، فإن فعلهما تعيين الأنصباء، فأما ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصيبه لقبوله وقبض نصيبه، وذلك فعل أصحاب الأملاك، وشهادة الإنسان على فعل غيره مقبولة.

وقوله إنهما يجران إلى أنفسهما مغنماً؛ لأنهما يستحقان الأجر بالقسمة، قلنا: إنما تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا كانا لا يطلبان الأجر، وأما إذا طلبا الأجر لا تقبل شهادتهما، هذا كما قلنا في شهادة الشفيعين على بيع الدار: إنهما إن طلبا الشفعة لا تقبل شهادتهما، وإن كانا لا يطلبان الشفعة تقبل شهادتهما إذا شهدا على القسمة لا غير، ثم قالا بعد ذلك: نحن قسمنا واشتغلا بالتفصيل، فأما إذا شهدا على أنفسهما من الابتداء لا تقبل شهادتهما، ولكن إطلاق ما ذكر في «الكتاب» يدل على أنه تقبل شهادتهما في الأحوال كلها، وأن الصحيح ما ذكر من جواز شهادتهما على الإطلاق على قسمة أنفسهما لما ذكرنا من المعاني.
قال: فإن فرزا الأرض وقوماها ثم عرضا ذلك على القاضي، ثم حضرت الورثة وأقروا بالتحديد والقيمة، فأقرع القاضي بينهم، ثم أجبر عن قسمته فذلك جائز؛ لأن هذه قسمة من القاضي، وإنه بمنزلة القضاء منه، والقاضي إذا قال: قضيت على فلان بكذا قبل قوله بالاتفاق كذا هذا، بخلاف شهادة قاسمي القاضي على قول محمد؛ لأنه ليس بقضاء

(8/336)


من القاضي، بل هي شهادة على فعلهما.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان أن فلاناً أمرنا أن نبلغ فلاناً أنه قد وكله ببيع عبده وقد أعلمناه، أو أمرنا أن نبلغ امرأته أنه جعل أمرهَا في يدها وبمعناها، وقد طلقت نفسها جازت شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل المرسل، فالرسول ينقل كلام المرسل فقد شهدا على فعل غيرهما، وقوله: فيقبل شهادتهما، وبمثله لو قالا: نشهد أنه قال لنا خيّرا امرأتي فخيرناها فاختارت نفسها، لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل أنفسهما، وهو التخيير، فلا تقبل منهما، لأنه دعوى لا شهادة، بخلاف الأول، فإنهما شهدا على فعل المرسل على ما ذكرنا. وفيه أيضاً: إذا شهدا على فعل المرسل على ما ذكرنا.

وفيه أيضاً: إذا شهدا على رجل بمال أنه قبضه من آخر وهو ينكر، فشهدا على قبضه، وقالا: نحن وزناها عليه، قال إن كانا زعما أن ربّ المال كان حاضراً جازت شهادتهما، وإن لم يكن حاضراً عند الوزن لم تقبل شهادتهما، لأنه إذا كان حاضراً ينقل فعل الوزن إليه، فكان شاهداً على فعل غيره، فأما إذا كان غائباً تعذر إضافته إليه، فبقي الفعل مقصوراً عليه، فكان شاهداً على فعل نفسه، فلا تقبل شهادتهما، فالحاصل أن شهادة الإنسان على فعل نفسه لا تقبل إذا لم يكن ذلك الفعل منتقلاً إلى غيره سواء كان له منفعة في المشهود به أو لم يكن، فإذا كان فعله منقولاً إلى غيره تقبل شهادته عليه.
قال في «المنتقى» على طريق الاستشهاد: ألا ترى أنه لو وزن له الغريم ألف درهم ووضعها، وقال: خذها لك قد وفيتك، فقال المقضي له لرجل: ناولني هذه الدراهم فناوله، ثم شهدا على المقضي له أنه هو الذي دفع الدراهم إليه إن شهادته جائزة، وذكر هلال البصري في «الشروط» أنه لا تقبل شهادة الذي كال في المكيل، وتقبل شهادة الذي ذرع في المذروع.
ووجهه: أن الكيل من القبض؛ لأن للكيل أثراً في التعيين؛ لأن قدر المبيع إنما يعرف بالكيل، حتى لا يجوز البيع فيما سواه، ألا ترى أنه إذا اشترى صبرة حنطة على أنها كرّ، فوجدها كرين إن الزيادة لا تكون له بل تكون للبائع، والقبض لا يصح ولا يتم بدون التعيين والتقدير، فكان الكيل من جملة القبض، فكانت الشهادة على التعيين شهادة على فعل نفسه، وهو الكيل فلا تقبل، وأما الذرع لا يفيد التعيين والتقدير، ألا ترى أنه إذا اشترى أرضاً على أنها مائة ذراع، فوجدها مائتي ذراع إن الزيادة للمشتري أيضاً، فلم يكن الذرع من القبض في شيء، فكانت هذه شهادة على فعل غيرهما فقبلت.
وفي «المنتقى» رواية بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن شهادة الكيالين باطلة.

ادعى على آخر أنه أقرضه كر حنطة، وشهد شاهدان بهذا اللفظ: أين كندم بخران ما آورد وماكد أكس بودنم، فقيل: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، وقيل: تقبل؛ لأنهما أضافا الفعل إلى المدعى عليه، حيث قالا: بخران ما آورد حتى لو قالا: ما آورديم بترديك دي بي دستوري دي، لا تقبل هذه الشهادة على قياس

(8/337)


مسألة الكيال، وقيل: ينبغي أن يقال: إن قالا: مدعى عليه باما بود تقبل شهادتهما، وإن قالا: بأماني بود لا تقبل على قياس مسألة الوزان.
قال ابن سماعة عن محمد في رجل اشترى من رجل عبدين شراءً صحيحاً أو فاسداً، فقبضهما المشتري وأعتقهما، ثم اختلف والمشتري في ثمن العبدين في البيع الصحيح، وفي قيمتهما في البيع الفاسد يوم قبضهما، فشهد هذان العبدان على ثمنهما أو على قيمتهما يوم قبضهما المشتري، فإنه لا تقبل شهادتهما.

أما إذا شهدا على قيمتهما، فلأن هذه شهادة على صفتهما؛ لأن القيمة تزداد بزيادة وصف مرغوب وتنقص بنقصانه، فكانت الشهادة على زيادة القيمة شهادة على زيادة وصف مرغوب، وعلى نقصان القيمة شهادة بنقصان الوصف، فكانت هذه الشهادة قائمة لإثبات وصف فيهما، فكانت الشهادة لأنفسهما من حيث الحقيقة، فلا تقبل.
وأما إذا شهدا على ثمنهما، فلأن الثمن تقدير لقيمة المبيع والمماثلة في ثمنه في جميع البياعات لتحقق المعادلة، وذلك (123ب4) بأن لا يزول ملكه عن المبيع إلا ببدل يَعْدِله، وهو قدر قيمته، فالمتعاقدان إذا قدرا شيئاً من الأثمان صار ذلك بمنزلة تسمية القيمة التي هي للعين، وقد ذكرنا أن شهادتهما على قيمتهما غير مقبولة.

وروي عن أبي يوسف أنه يقبل شهادتهما على زيادة الثمن أو نقصانه، ووجهه: أن الشهادة على الثمن شهادة على عقد جرى بين البائع والمشتري أوجب ذلك الثمن على المشتري، وذلك العقد وحكمه ليس بواقع للعبد، لتكون شهادته عليه شهادة على فعله، أو وصفه حتى يصير شاهداً لنفسه، يوضحه أن وجوبه وصحته يعتمد صحة القسمة في العقد، لا زيادة وصف ولا نقصانه، وقيام العقد بالعاقدين، فكانت شهادة على فعل غيرهما فتقبل.
قال: ولو شهد العبدان بعد العتق أن المشتري وفّى البائع الثمن وهو يجحد ذلك، قبلت شهادتهما لأن هذه الشهادة لغيرهما، وهو المشتري ببراءته عن الثمن بسبب الإيفاء، وليس بينهما ما يمنع قبول الشهادة، فقبلت شهادتهما، قال: أرأيت لو شهدا أن البائع أبرأه عن الثمن ألم يكن جائزاً؟ وهذا إشارة إلى ما قلنا: إن المشهود به برأه المشتري من حيث الحقيقة، والبراءة عسى تكون بالاستيفاء، وعسى تكون بالإبراء، وكيف ما كان فهذه شهادة لغيرهما، وقد استجمع شرائط الجواز، فقبلت.
قال: ولو أن رجلين شهدا أن فلاناً أمرهما أن يزوجا فلانة منه فزوجاها، أو شهدا أنه أمرهما أن يخلعا منه فلانة فخلعا، أو أمرهما أن يشتريا له عبداً فاشتريا فكل مسألة من هذه المسائل على ثلاثة أوجه: أن يجحد الموكل الأمر والعقد جميعاً، أو يقر بالأمر ويجحد العقد، أو يقر بهما، وكل وجه على وجهين: إما أن يكون الخصم يدعي العقد مع الوكيل في الفصول كلها أو يجحد.
فإن كان الموكل جحد الأمر والعقد جميعاً لا تقبل هذه الشهادة في الفصول كلها؛ لأنها إن كانت شهادة صورة، فهي دعوى معنى؛ لأن الشاهد من يثبت الحق لغيره وههنا

(8/338)


هما يثبتان الوكالة لأنفسهما، فكانا مدعيين لا شاهدين، فلا تقبل شهادتهما.

فإن كان الآمر يقر بهما، فإن كان الخصم مقراً بالعقد، فالقاضي يقضي بذلك لا بشهادتهما، بل بتصادقهم، البيع والنكاح والخلع في ذلك على السواء. وإن كان الخصم يجحد العقد، فالقاضي لا يقضي بالبيع والنكاح، ويقضي في الخلع بالطلاق بغير مال لا بشهادتهما، ولكن بإقرار الزوج، وإنما لا يقضي بسائر العقود بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان فعل أنفسهما، فكانا شاهدين لأنفسهما.
وإن كان الآمر يقر بالأمر ولكن يجحد العقد، فإن (كان) الخصم مقراً، فإنه يقضي لأنفسهما في العقود كلها، إلا في النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن التوكيل ثبت بتصادقهما، والوكيل في هذه العقود إذا قال: فعلت وساعده الخصم، فإنه يثبت العقد وإن جحد الموكل إلا في النكاح، فإنه لا ينفذ إقرار الوكيل على الموكل بالنكاح عند أبي حنيفة رحمه الله من غير تصديق الموكل، ويحتاج فيه إلى إثباته بالبينة، وإذا احتيج إلى البينة لا تقبل شهادة الوكيلين؛ لأنه يثبت فعل نفسه، فكان شاهداً لنفسه، وعندهما ينفذ إقرار الوكيل على الموكل، وإن كان الخصم جاحداً لا يقضى بشيء من العقد؛ لأنه إذا كان جاحداً يحتاج لإثباتهما إلى البينة، وشهادة الوكيلين لا تقبل؛ لأنهما يثبتان فعل أنفسهما.
وإذا شهد رجلان بالمهر لأختهما بسبب تزويجهما وقالا: نشهد أنا زوجنا هذا أختنا بألف درهم، والزوج يجحد النكاح، أو قال كان المهر خمسمائة، لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بالمهر لأختهما بسبب تزويجها، فكان السبب مشهوداً به كالمهر، والشهادة على السبب شهادة على فعل نفسه، فلا تقبل. ولو أقر الزوج بالمهر والنكاح وادعى البراءة أو الأداء، فشهدا بذلك للزوج قبلت شهادتهما، لأنه لا تعلق لهذه الأشياء بفعلهما.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا اشترى الرجل عبدين وقبضهما وأعتقهما، وأراد أن يرجع بنقصان عيب قد أنكره البائع، فشهد العبدان أن هذا العيب كان بهما لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة بإثبات وصف فيهما وهو العيب، أو زوال صفة السلامة، وكيف ما كان لا يثبت بهذه الشهادة؛ لأنهما يشهدان لأنفسهما.
وكذلك لو شهدا لرجل على المشتري أنه كان له نصفهما، فشهادتهما باطلة لوجهين: أحدهما: أنهما يشهدان لأنفسهما، فإنهما يثبتان انتقاض البيع في نصفهما لمكان الاستحقاق، والثاني: أن في قبول شهادتهما ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنا إذا قلنا: شهادتهما أبطلتا الإعتاق عن أنصافهما، فكانا معتقي البعض، ومعتق البعض بمنزلة المكاتب، ولا شهادة للمكاتب. وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده الإعتاق متجزئ.

وكذلك لو شهدا أن المشتري قد كان وهب نصف كل واحد منهما لرجل قبل أن يعتقهما لم أقبل شهادتهما، لأنا لو قبلنا شهادتهما بطل العتق عن أنصافهما، فكان بمنزلة

(8/339)


المكاتب ولا شهادة للمكاتب، فكان في تصحيحها في الابتداء إبطالها في الانتهاء، ولأنهما يريدان إبطال العتق عن بعضه بعد ما كان ثابتاً من طريق الحكم، وقد ذكرنا أن شهادة الإنسان على إثبات صفة لنفسه، أو على نفي صفة عن نفسه لا تقبل.

وكذلك أم ولد الرجل مات عنها أو أعتقها، فشهدت هي وامرأة ورجل أنها كانت بين الميت ورجل آخر لا أقبل شهادتها، ولا أقضي على المستولد بنصف قيمتها ونصف عقرها وهذه المسألة لا تخرّج على الطريقة الأولى في المسألة المتقدمة؛ لأنه ليس في تصحيح هذه الشهادة ابتداء إبطالها انتهاء، فإن أحد الشريكين إذا استولد الجارية المشتركة بينهما ملك نصيب صاحبه بالضمان، فنفذ الاستيلاد عليه حتى تعتق بموته، فلا يكون في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء، وإنما تخرج على الطريقة الثانية؛ لأنهما بهذه الشهادة ينفيان ملك المستولد عن نصفهما، والملك صفة، وقد ذكرنا أن شهادة الإنسان على نفي صفة عن نفسه لا تقبل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل قال لعبده إن دخلت دار هذين الرجلين أو قال: إن مسست ثوبهما فأنت حر، ففعل العبد ذلك، فجاء الرجلان يشهدان على ذلك، فشهادتهما جائزة، لكن هذه الشهادة قامت على فعل العبد، وهو الدخول والمس، ولا تهمة في شهادتهما للعبد فقبلت، بخلاف ما إذا قال: إن كلمتما عبدي أو مسستما ثوبه فهو حر، فشهدا أنهما فعلا ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما.
ولو قال لعبده: إن كلمت فلاناً وفلاناً فأنت حر، فشهدا أنه كلمهما لا تقبل شهادتهما، بخلاف ما لو قال له: إن دخلت دارهما، فشهدا على الدخول، حيث تقبل شهادتهما، والفرق: أن شهادتهما بكلامهما شهود بحضورهما؛ لأنه لا يتصور الكلام معهما إلا بحضورهما، ألا ترى أن من حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو غائب لا يحنث في يمينه، وحضورهما فعلهما، فكانا شاهدين بفعل أنفسهما، فأما شهادتهما بدخوله الدار شهادة بفعل غيرهما؛ لأنه لا تعلق لدخوله الدار بهما، فكانا شاهدين بفعل غيرهما من كل وجه.

وفي شهادات «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال: إن دخل داري هذه أحد، (فامرأتي طالق) ، فشهد ثلاثة نفر أو أربعة نفر أنهم دخلوا، فهذا على وجهين: إن قالوا دخلنا لا يقبل قولهم، ولا يحكم بحرية العبد؛ لأنهم شهدوا على فعل أنفسهم. وإن قال اثنان منهم: دخلنا ودخل هذا الثالث والرابع معنا قبل قولهم، وحكم بحرية العبد؛ لأن قول كل واحد منهم إخبار وشهادة، فيقبل قول كل واحد منهم في حق القضاء بالحرية من حيث إنه شهادة لا من حيث إنه خبر.
وروى الحسن بن زياد فيمن حلف بعتق مماليكه أن لا يستقرض أبداً شيئاً، فشهد رجلان أنهما أقرضاه لا تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، ولهما في هذه الشهادة منفعة، وكل ذلك مانع قبول الشهادة. ولو شهدا أنه طلب ذلك منهما، ولم

(8/340)


يقرضاه قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل غيرهما؛ لأن الاستقراض طلب القرض، وإنه فعل المستقرض، ولا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ لأنهما قالا: ما أقرضناه.
ولو كان حلف لا يقرض فلاناً وفلاناً شيئاً، فشهدا أنه أقرضهما حنث في يمينه؛ لأنهما يشهدان على فعل غيرهما وهو الإقراض ولا تهمة فيها، فقبلت.
وعن أبي يوسف رحمه الله في رجل ادعى داراً في يدي رجل وشهد له شاهدان بها، وأنه كان أستأجرهما على بنائه وغير ذلك قبلت شهادتهما. ولو قالا: استأجرنا على هدمها، فهدمناها لم تقبل شهادتهما، وضمن المدعى عليه قيمة البناء؛ لأن في الفصل الثاني يدفعان عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما؛ لأنهما يريدان بذلك إسقاط ضمان لزمهما بالهدم؛ لأن البناء للمدعى عليه، فظاهر اليد وهدم بناء الغير سبب للضمان، وشهادة دافع المغرم لا تقبل، فأما في الفصل الأول لا يدفعان عن أنفسهما مغرماً، ولا يجران إلى أنفسهما مغنماً، فقبلت شهادتهما، وعلى هذا يقاس نظائره.

الفصل السادس: في شهادة الرجل على فعل من أفعال (124أ4) ابنه، وشهادته لأبيه وأمّه
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا شهد ابنا القاضي على كتابه إلى قاض آخر من القضاة، أو على قضائه أو على شهادته وهو مدع أو ميت جاز ذلك.
وفي «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد أنه لا يجوز شهادة الابن على قضاء أبيه وعلى كتابه، كما لا يجوز شهادة الابن على شهادة أبيه. وفي «المنتقى» في باب من لا تجوز شهادته له: رواية الحسن بن مالك عن أبي حنيفة أنه قال: لا تجوز شهادة الولد على قضاء أبيه بأن شهدا أن أباه قضى لفلان بكذا، وتجوز شهادته على شهادة أبيه، قال: وهو قول أبي يوسف رحمه الله: وذكر بعد هذا في هذا الباب أيضاً: لو كان قاضياً يوم ما شهد الابن على قضائه أنه تجوز شهادته. وفي آخر هذا الباب عن أبي حنيفة أنه لا تجوز شهادة الابن على قضاء أبيه وإن كان الأب قاضياً يوم الشهادة.
والحاصل: أن شهادتهما على فعل أبيهما فعلاً ملزماً لا يقبل إذا كان للأب فيها منفعة بالاتفاق، يعني بها المنفعة المطلوبة من الشهادة، وإن لم يكن للأب فيه منفعة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تقبل شهادتهما، وعن محمد روايتان.
وجه رواية القبول عنه أن شهادة الابن لأبيه إنما تقبل لمكان تهمة الميل، وذلك إنما تحقق فيما للأب فيه منفعة، والمنفعة المطلوبة من الشهادة في هذه الصورة إنما تحصل للمدعي لا للأب، ومنفعة نفاذ القول على الغير وظهور صدقه عند الناس غير معتبرة في إفادة التهمة المانعة من قبول الشهادة، ألا ترى أن الأب إذا شهد مع ابنه في حادثة قبلت

(8/341)


شهادتهما، ولولا شهادة الابن لكان لا تقبل شهادة الأب، فالابن بهذه الشهادة يسعى إلى إظهار صدقة، وتنفيذ قوله على الخصم، ولم يمنع ذلك قبول شهادته كذا ههنا.

وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف قوله عليه السلام: «لا تقبل شهادة الولد لوالده» ، وإذا شهد على فعل والده فقد شهد له بإثبات فعله، ولأنه متهم في هذه الشهادة، لأن للأب فيه منفعة، وهو نفاذ قضائه وظهور صدقه إذا كان يدعى، ومنفعة ظهور الصدق فوق سائر المنافع، وأقوى في إيراث الشبهة وإيقاع التهمة.
ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف فرقا بين شهادتهما على شهادة أبيهما وبين شهادتهما على قضاء أبيهما، والفرق أن الشهادة ليست بملزمة والقضاء ملزم، وقد احتج أبو يوسف على محمد فقال: الابن جزء الأب، فشهادته على فعل أبيه كشهادة الأب على نفسه من حيث الحكم والاعتبار، وشهادة الأب على فعل نفسه لا تقبل، فكذا شهادة الابن على فعله.
ولو قال لعبده إن كلمك فلان فأنت حر، فادعى فلان أنه كلمه العبد، وشهد ابناه بذلك لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي إحدى الروايتين عن محمد تقبل.
وإذا قال لرجلين: إذا دخلتما هذه الدار فعبدي حر فماتا، فشهد ابناهما أن أبويهما قد دخلا الدار فهو على الخلاف الذي ذكرنا، قال: ولو أنكر الأبوان وهما حيان جازت شهادة الابنين على دخولهما بلا خلاف؛ لأنهما صارا مشهوداً عليهما بالدخول عند الجحود، وتلك المنفعة التي صورناها عند دعواهما، وهو ظهور صدقهما، وتنفيذ قولهما لا تتحقق ههنا، فكانت شهادة على الأب فقبلت، وهذا هو الحكم في كل شيء شهد الابن به يثبت بشهادته فعلاً من أبيه: من نكاح أو طلاق أو بيع أو غير ذلك إنه لا تجوز شهادته إذا كان الأب حياً يدعي أو ميتاً كان عندهما، وإن كان حياً وهو ينكر تقبل شهادتهما بلا خلاف؛ لأن مع جحوده لا يمكن أن يجعل هذا شهادة للأب، بل يكون شهادة على الأب.

وإذا شهد ابنا الوكيل على عقد الوكيل، فهو على ثلاثة أوجه، الأول: أن يقر الموكل والوكيل بالأمر والعقد جميعاً، وإنه على وجهين: إن كان الخصم يدعي ذلك كله، فالقاضي يقضي بالعقود كلها، ولكن بتصادقهم لا بالشهادة، وإن كان الخصم ينكر ذلك، فإن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا تقبل شهادتهما، ولا يقضي بشيء من هذه العقود إلا في الخلع، فإن هناك يقضى بالطلاق بغير مال لإقرار الزوج وهو الموكل.
وعلى قول محمد رحمه الله في إحدى الروايتين: يقضى بالعقود كلها إلا بعقد ترجع الحقوق فيه إلى العاقد، كالبيع وما أشبهه؛ لأن الحقوق إذا كانت ترجع إلى الأب كان للأب فيه منفعة، وكان الشهادة واقعة للأب، فأما كل عقد لا ترجع حقوقه إلى العاقد

(8/342)


لا يكون للأب فيه منفعة سوى تنفيذ القول، وهذه المنفعة عند محمد رحمه الله لا تصلح مانعة قبول الشهادة في إحدى الروايتين.
وإن كان الوكيل والموكل يجحدان ذلك كله، فإن كان الخصم يجحد أيضاً لا يلتفت إلى هذه الشهادة، لأنها خلت عن الدعوى. وإن كان الخصم يدعي تقبل شهادتهما عندهم جميعاً، لأنه لا منفعة للأب في هذه الشهادة، بل له فيه ضرر؛ لأنه ثبت كذبه، فكانت شهادة على الأب، والشهادة على الأب مقبولة.
وإن كان الوكيل يقر بكلا الأمرين والموكل يدعي الأمر ويجحد العقد، فإن كان الخصم يدعي ذلك، فإنه يقضي بالعقود كلها إلا في النكاح على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده إقرار الوكيل على موكله بالعقود كلها صحيح إلا بالنكاح، فتقع الحاجة إلى إثباته بالبينة، وشهادة ابن الوكيل على ذلك لا تقبل. وعندهما القاضي يقضي بالعقود كلها؛ لأن إقرار الوكيل على الموكل بالعقود كلها صحيح، ولا يحتاج فيه إلى البينة.

وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيد أبيها و (..........) أنه طلقها والآمر حي يدعي ذلك، أو ميت لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة (وأبي) يوسف رحمهما الله، يقول جعل أمر امرأته بيد أجنبي توكيل له بالطلاق، وقد بينا هذه المسألة، ثم جعل موت الموكل بمنزلة ادعائه حال حياته، وعن أبي يوسف أن غيبته بمنزلة موته، ووجه ذلك: أن المانع من القبول وقوع الشهادة للأب، فإذا كان الأب حياً يدعي، فالشهادة واقعة بإثبات فعله، وإذا كان حياً وهو يجحد، فالشهادة واقعة عليه. وإذا لم يعرف جحوده بأن مات أو غاب كانت الشهادة واقعة للأب باعتبار الأصل حيث إن فيها إثبات فعله فلا تقبل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان شهدا أن أباهما طلق أمهما، فإن كان الأب يدعي، فلا حاجة إلى الشهادة؛ لأنه أقر على نفسه بالطلاق، وإن كان الأب يجحد تقبل شهادتهما، لأن الطلاق في حق الأم دائر بين الضرر والنفع، من حيث إن به يحصل لها الخلاص عن حبالة الزوج، ويرتفع عنها قيد النكاح نفع، من حيث إن ثمرات النكاح ومقاصده وحقوقه مشتركة بين الزوجين، والطلاق يبطل ذلك عليها ضرر، وكل منفعة يشوبها ضرر تترجح المنفعة بالدعوى والضرر بالجحود؛ لأن أحداً لا يجحد ما ينفعه ولا يدعي ما يضره، فإن ادعت الأم الطلاق يرجح النفع فيها على الضرر، فكانت الشهادة واقعة للأم، وإن جحدت ذلك يرجح الضرر على النفع، فكانت الشهادة واقعة على الأم فقبلت.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» رحمه الله أن الأم إذا ادعت الطلاق تقبل شهادتهما، قال: وهو الأصح؛ لأن دعواها لغو، فإن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعواها، فصار دعواها لغواً، فجعل وجودها وعدمها بمنزلة، ولو عدم دعواها تقبل

(8/343)


شهادتهما فههنا كذلك. قال مولانا تغمده الله بالرحمة: وعندي أن ما ذكرنا في «الجامع» أصح.

ولو أن رجلين شهدا أن امرأة أبيهما ارتدت عن الإسلام، والمرأة تنكر ذلك، فإن كانت أمّهما حية وهي في نكاح أبيهما لا تقبل الشهادة ادعى الأب ذلك أو جحد، أما إذا ادعى فلأن هذه الشهادة وقعت للأب، بيانه: أن الأب لما ادعى الردّة عليها، فقد ادعى سقوط جميع الصداق إن لم يكن مدخولاً بها، وسقوط نفقة العدة إن كانت مدخولاً بها، إلا أنه لا يصدق على ذلك إذا لم تصدقه المرأة فهما بهذه الشهادة يثبتان ذلك. وأما إذا كان الأب يجحد، فلأن هذه الشهادة وقعت للأم لخلوص الفراش لها، وهذه منفعة لا يشوبها ضرر فمنعت قبول الشهادة ادعت الأم ذلك أو جحدت.

وإن كانت أمهما ميتة، فإن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن جحد تقبل؛ لأنه لا منفعة للأمّ في هذه الشهادة، فتعين جانب الأب، وفي جانب الأب يترجح النفع بالدعوى والضرر بالجحود.
وإن شهدا أن أباهما خالع أمهما على صداقها، فإِن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، لأن الطلاق قد وقع بإقرار الأب، بقيت هذه الشهادة لبراءة الأب عن الصداق كلاً أو بعضاً، فلا تقبل. وإن جحد الأب ذلك، فإِن كانت الأم تدعي ذلك لا تقبل شهادتهما، وإِن كانت تجحد تقبل شهادتهما لما ذكرنا.
وإن شهدا أن أباهما خالع امرأته وأنها ميتة، فإن كان الأب يدعي لا تقبل شهادتهما، وإن كان يجحد تقبل شهادتهما.
ولو أن رجلاً تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها، ثم تزوجها مرة أخرى، فشهد ابناه أنه كان طلقها ثلاثاً في (124ب4) النكاح الأول، وتزوجت ثانياً قبل أن تتزوج بزوج آخر، فهذه المسألة أيضاً لا تخلو من الوجوه التي ذكرناها من دعوى الأب أو إنكاره، ومن دعوى المرأة أو إنكارها، فإن صدقته المرأة ثبتت الفرقة وسقط جميع المهر بتصادقهما، فوقع الاستغناء عن الشهادة، وإن أنكرت المرأة لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه الشهادة واقعة للأب.

بيانه: أن الحرمة وإِن ثبتت بإقرار الزوج إلا أنه لزمه نصف المهر؛ لأن النكاح صحيح بظاهر الحال، فالفرقة فيه بالطلاق قبل الدخول توجب نصف المهر، فلو قبلنا شهادتهما سقط المهر كله؛ لأن النكاح في المطلقة ثلاثاً لا يوجب المهر، إلا إذا اتصل به الدخول، ولم يوجد الدخول، فكانت هذه شهادة للأب من هذا الوجه، فلم يقبل. وإن أنكر الأب تقبل شهادتهما ادعت المرأة بذلك أو أنكرت؛ لأنه إن كان في هذه الشهادة منفعة الأب لسقوط جميع الصداق، ففيه ضرر له أيضاً بزوال ملك النكاح، وقد بينا أن فيما يدور بين النفع والضرر تعتبر الدعوى والإنكار، وعند الإنكار يترجح جانب الضرر، فكانت شهادة على الأب، وسقط جميع الصداق عنه ضرورة قبول الشهادة على الطلاقات.
ثم في هذه المسائل إنما قلنا: (تقبل) شهادتهما وإن لم يسبق دعوى أحد ما شهدا به؛

(8/344)


لأنه شهادة على تحريم الفرج، وإنه حق الله تعالى، والشهادة في حقوق الله تعالى تقبل حسبة من غير دعوى.
ولو أن أمة لرجل شهد ابناها وهما حران مسلمان أن مولاها أعتقها على ألف درهم، فإن ادعى المولى ذلك، فالعتق واقع بإقراره، فتمحض هذا شهادة على أمهما بالمال فقبلت، وإن أنكر المولى، فإِن ادعت لا تقبل شهادتهما وإِن أنكرت تقبل شهادتهما؛ لأن العتق على مال دار بين الضرر والنفع في زوال الملك والرق عنها والضرر في لزوم المال عليها، فيعتبر جانب النفع عند الدعوى، فتكون الشهادة لها، ويعتبر جانب الضرر عند الإنكار، فتكون شهادة عليها فتقبل، أكثر ما فيه أن هذه الشهادة خلت عن الدعوى، إلا أن الشهادة على عتق الأمة تقبل من غير الدعوى، ومتى ثبت العتق وجب المال؛ لأنه بيع المعتق.

وإِن شهد ابنا المولى بذلك، فإن ادعى المولى لا تقبل؛ لأن العتق يقع بإقراره والشهادة بالمال شهادة لأبيهما، وإن أنكر المولى قبلت شهادتهما؛ لأن العتق دائر بين الضرر والنفع في حق المولى، فيترجح جانب الضرر بالإنكار في حقه، فكان شهادة على الأب.
ولو كان مكان الجارية غلاماً، وقد شهد ابنا المولى بذلك، وأنكر المولى والغلام ذلك لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هذه شهادة على عتق، وعنده الدعوى من العبد على شرط قبول الشهادة، وعندهما تقبل الشهادة؛ لأن دعوى العبد عندهما ليس بشرط.
ولو شهد رجلان أن أباهما باع هذه الجارية من هذا الرجل، أو قال هذا العبد، فأعتقه المشتري هذا، فإن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأن البيع دائر بين الضرر والنفع في حق المولى، لما فيه من زوال ملكه إلى خلف، فيعتبر النفع عند الدعوى، فكانت هذه شهادة لأبيهما، ولكن يعتق العبد؛ لأن البائع مالكه ظاهراً وقد أضاف المعتق بإقراره إلى من زعمه مالكاً، فنفذ إقراره عليه، والولاء موقوف؛ لأنه تعذر إثباته من جهة المشتري لإنكاره ومن البائع؛ لأنه أقر بالعتق على غيره، ويعتبر قبول الشهادة على الولاء على المشتري؛ لأنه لا بد لذلك من إثبات الشراء منه، وفي ذلك نفع للبائع، فلا تقبل شهادة ابنيه في ذلك.

وإِن أنكر الأب وادعت الجارية وأنكر المشتري أيضاً أو هو غائب، فشهادتهما جائزة؛ لأن عند الإنكار يترجح جانب الضرر، فكانت شهادة على أبيهما فقبلت، ولا يقال بأنه قضاء على الغائب بالشراء أو للغائب، أو قضاء بالشراء عند حضرة المشتري من غير دعوى، والبينة في الشراء لا تقبل من غير دعوى الخصم؛ لأنه من حقوق العباد؛ لأنا نقول هذه البينة قامت بعد دعوى صحيحة من خصم، وهي الجارية؛ لأنها ادعت العين من جهة المشتري، ولا يتوصل إلى إثبات العتق لنفسه، فكأن هذه البينة قائمة من خصم على خصم فقبلت وقضي بالشراء؛ لأنه يثبت بيعاً للعتق، ووجب للبائع الثمن على المشتري ضرورة إثبات الشراء.

(8/345)


وفي كتاب «الأقضية» : ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل ضمن لرجل ما باع فلاناً من شيء، فقال الطالب: قد بايعت فلاناً بيعاً بألف درهم، فجحد الضامن ذلك، فشهد عليه ابناه أنه قد بايعه بيعاً بألف درهم، فإن شهادتهما جائزة؛ لأن هذه شهادة على أبيهما فقبلت، وكذلك إذا جحد الضامن، فشهد ابناه أن فلاناً أمرك أن تضمن عنه وأنك ضمنت عنه لفلان ما باعه من شيء، وقد باعه بيعاً بألف درهم، قال: شهادتهما جائزة، ويؤخذ بالألف ويرجع بها على الذي أمره أن يضمن عليه، فقد جوزت شهادتهما على الضمان وعلى الأمر، حتى قال: يؤخذ بالألف ويرجع بها على الذي أمره أن يضمن عنه.
أما قبول الشهادة على الضمان فظاهر، وأما قبول الشهادة على الأمر ورجوع الأب على الأمر بالضمان مشكل، أما الشهادة على الأمر فوجهين: أحدهما: أن الشهادة في حقوق العبد لا تقبل إلا بعد سابقة الدعوى ولم يوجد؛ لأن الضامن يجحد الأمر والضمان جميعاً، ولا حق للطالب في الأمر ليدعيه، فكيف تقبل هذه الشهادة. والثاني: أن الشهادة على الأمر شهادة لأبيهما؛ لأن فيه منفعة خالصة من غير شوب مضرة، فإنه يرجع بما يؤدي على الأمر والشهادة لأبيهما لا يجوز أن تقبل.

وأما رجوع الأب على الذي عليه الأصل مشكل؛ لأن في زعمه أنه لا رجوع له على الذي عليه الأصل الجواب عنه: أما الأول فنقول هذه شهادة بعدَ دعوى صحيحة من الطالب، فإنه يدعي الضمان بأمر، وهو أحد نوعي الضمان، وقد أثبت ذلك بهذه البينة.
قوله: لا حق للطالب في الأمر، فكيف يعتبر دعواه، قلنا: ليس كذلك، بل للطالب فيه حق، فإنه لو ثبت الأمر بتساهل الكفيل في الأداء لأنه إنما يؤدي بعوض، وإذا لم يثبت الأمر يؤدي بغير عوض، فيتعاسر في المدا فثبت أن له حقاً في الكفالة والأمر جميعاً، فصحت دعواه وقبلت هذه البينة لما قلنا إنهما شهادة على أبيهما.
قوله: بأن الشهادة بالأمر شهادة لأبيهما، فإنه يرجع بما يؤدي على الأمر، قلنا: فيه روايتان، في رواية: لا يرجع به عند الأداء، ووجهه ما ذكرنا في الإشكال، وعلى هذه الرواية يرجع به، ووجه قبول هذه الشهادة أن هذه شهادة على الأب؛ لأن الكفالة بأمر دائر بين الضرر والنفع من حيث إنه يجب عليه الأداء من ماله فيه ضرر، ومن حيث إنه يستوجب الرجوع به على الأصيل فيه نفع، ولكن قد ذكرنا أن المنفعة المجحودة لا عبرة لها، وهي مجحودة ههنا، فلهذا اعتبرناها شهادة على أبيهما. وقوله: بأن من زعمه أنه ليس له حق الرجوع على الأصيل، فكيف يرجع إليه، قلنا: صار مكذباً في زعمه، حيث قضى القاضي بخلافه عليه، فلا يعتبر زعمه أصلاً.
قال في كتاب «الحوالة» : رجل كفل عن رجل بمال بأمره، فشهد على ذلك ابنا المطلوب الذي عليه الأصل، فهو جائز ويؤاخذ الكفيل بالمال، وإذا أدى يرجع على الذي عليه الأصل، أما جواز شهادتهما في حق الكفيل، فلأنهما أجنبيان عنه غير متهمين في حقه، فقبلت شهادتهما، وأما في حق الأصيل بالرجوع عليه؛ لأنها شهادة على أبيهما، فقبلت.

(8/346)


ولو كان الشهود أبناء الكفيل، فإِن ادعى الكفيل ذلك فقد ثبتت الكفالة بإقراره، فوقع الاستغناء عن الشهادة، وإنما يحتاج إلى الشهادة لإثبات الأمر، وإنه شهادة لأبيهما من حيث إنه يثبت له حق الرجوع على الذي عليه الأصل، فلم تقبل. وإن جحد الكفالة قبلت شهادتهما، لأنها شهادة على أبيهما، فإِن أدى رجع على الأصيل؛ لأن الثابت بشهادتهما أحد نوعي الكفالة، وهو الكفالة بأمر، وقد ثبتت شهادتهما؛ لأنها عليه؛ لأن هذه الكفالة وإن ترددت بين الضرر والنفع في حقه باعتبار حق الرجوع عند الأداء، ولكنها لما كانت مجحودة لم يعتبر النفع، فبقي شهادة على أبيهما فقبلت لهذا. وإذا ثبتت الكفالة والأمر استحق الرجوع لما ذكرنا من الأمثلة.
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل ادعى أن له على رجل ألف درهم، وضمنها عنه ثلاثة نفر، قال ابن سماعة: وكل واحد منهم كفيل ضامن عن صاحبه بأمره، فأخذ الطالب أحد الضمناء الثلاثة، فشهد عليه ابنا الضامنين الأخيرين أن لهذا الطالب على فلان ألف درهم، وأن أبوينا وهذا ضمنوا عنه لهذا بأمره، وكل واحد منهم ضامن عن صاحبه بأمره، وأبواهما غائبين، فإني أقضي الساعة على هذا الضامن الحاضر بألف درهم، وإذا (125أ4) أدى رجع بها على الذي عليه الأصل؛ لأنه لا تهمة في شهادتهما لا على الحاضر ولا على الأصيل؛ لأنهما أجنبيان عنه لا ينتفعان بشهادتهما بوجه ما، فلا يكونان متهمين فيها، فقبلت شهادتهما ثبت المشهود به، والمشهود به الكفالة بأمره، وإنه يقتضي الرجوع عند الأداء، فإذا أدى رجع بها على الأصيل، وأما شهادتهما على أبويهما بالضمان، فحكمها موقوف؛ لأن الكفالة بأمرهِ مترددة بين النفع والضرر، وإنما يترجح أحدهما على الآخر بالدعوى أو الإنكار، فيوقف إلى حضورهما حتى يُنظر أيقران بذلك أم ينكران؟ فإذا حضرا فإن جحدا ذلك قبلت شهادتهما؛ لأنه يرجح جانب الضرر، فكانت شهادة عليهما وإن ادعيا لم تقبل؛ لأنه ترجح جانب النفع في شهادتهما، فكانت شهادة لأبيهما فلا تقبل، ولكن بقيت الشهادة على الضامن الثالث مقبولة لخلوها عن التهمة، فإن أداها الثالث وأراد أن يرجع على أبوي الشاهدين بحصتهما كان له ذلك؛ لأنهما قد أقرا بالضمان والأمر، وإقرارهما حجة عليهما، فإن رجع عليهما لم يرجعا على الأصيل بشيء إذا جحد الأصيل أن يكونا ضمنا عنه بأمره؛ لأن إقرارهما بالضمان صح؛ لأنه إقرار على أنفسهما، فأما بالأمر فلأنه إقرار على الأصيل، ولا يجوز أن يكون الإقرار حجة على غير المقر، وكذلك إذا ضمنهما الطالب لم يرجعا على الأصيل، ولا على الضامن الثالث إذا جحد الأمر؛ لأن ضمانهما إنما ثبت بالإقرار، وإنه حجة قاصرة، فلا يعدوهما، فلا يثبت الأمر به، والرجوع من حكم

الأمر بالضمان.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله في رجل اشترى من رجل عبداً فأعتقه، فاشترى ذلك العبد عبداً فأعتقه، فاشترى ذلك العبد عبداً فأعتقه فمات المولى الأسفل، والأوسط والأعلى حيان، فأقام رجل البينة أن الميت عبده، وأراد أخذ تركته، فشهد ابنا المولى الأعلى أن الأوسط اشتراه من فلان وهو يملكه، فأعتقه جازت شهادتهما؛ لأن

(8/347)


هذه الشهادة إنما قامت من حيث الحقيقة لإثبات الولاء لمولى أبيهما دون أبيهما فقبلت، أقصى ما في الباب أنه يثبت نسبة الولاء إلى أبيهما إذا ثبت الولاء لمولى أبيهما، ولكن المعتبر في رد الشهادة وقبولها النظر إلى ما وقعت عليه الشهادة دون غيرهما، وباعتباره ما قامت هذه الشهادة لأبيهما فقبلت.

ألا ترى أنه إذا شهدا لأخيه بمال تقبل شهادته، والمشهود به إذا ثبت للأخ ثبت للأب فيه حق بملك، وشهادته لأبيه غير مقبولة، لكن لما كان نفس المشهود به حق الأخ دون الأب تقبل شهادته، وإن كان يفضي إلى إثبات الحق للأب، كذا هذا.
وإن كان المولى الأوسط مات أيضاً ولم يترك وارثاً إلا المولى الأعلى؛ لأن بموت الأوسط أنجز الولاء إلى الأعلى فقد شهدا لأبيهما بالميراث فلا تقبل، ولا تعتبر الدعوى والإنكار من المولى الأعلى؛ لأن هذه شهادة بما ينفعه من كل وجه، وإنما يعتبر الإنكار والدعوى فيما يدور بين الضرر والنفع.
ولو مات المولى الأوسط ثم مات المولى الأسفل، ولم يترك وارثاً إلا ابنتاً له والمولى الأعلى، فادعى رجل أن المولى الأسفل كان عبداً له، وأقام البينة وادعت الابنة أنه كان حراً، وأن المولى الأوسط اعتقه وهو يملكه، والمولى الأعلى ينكر ذلك، فشهد ابنا المولى الأعلى أن الأوسط اشتراه من فلان وهو يملكه ثم أعتقه، فإني أجيز شهادتهما وأجعله حراً من المولى الأوسط، ويكون الميراث بين ابنته والمولى الأعلى نصفان، وإنما شرط إنكار الأب لجواز شهادتهما؛ لأن عند إنكاره تمحض هذه الشهادة للأبنة فوجب قبولها. وإذا قضى بها ثبت الولاء للمولى الأعلى بواسطة الأوسط، فكان الميراث للابنة ونصفه للمولى الأعلى بالعصوبة من جهة الولاء.
واستشهد لهذا برجل شهد عليه ابناه أن هذا ابنه وهو ينكر ذلك، إني أجيز شهادتهما لأن شهادتهما؛ قامت على الأب، وإذا جازت شهادتهما ثبت نسبه منه، فإن مات هذا الابن ورثه منه وإن أنكر ثبوته؛ لأنه صار مكذباً بقضاء القاضي، فلا يبقى لزعمه عبرة.

وإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه ودفع الثمن، فادعى العبد أن البائع كان اعتقه قبل أن يبيعه منه، وشهد له بذلك ابنا البائع، فإني لا أعجل بعتق العبد حتى يقدم البائع وأسأله؛ لأن فيه منفعة للبائع، من حيث ثبوت الولاء له، ومضرة له، فإنه يسترد الثمن من يده لبطلان البيع، وقد ذكرنا أن شهادة الابن فيما يتردد بين الضرر والنفع يتوقف على إنكار الأب. وإِذا حضر وأنكر العتق قبلت شهادتهما وبطل البيع؛ لأنه ظهر أنه باع الحر، ووجب على البائع رد الثمن؛ لأنه قبضه على جهة الوجوب بحكم البيع، وقد ظهر أنه لم يكن فيرده عليه، وليس لأحد أن يقول: ينبغي أن يقضي القاضي بعتق العبد للحال؛ لأن الحال لا يخلو إما أن يكون البائع مقراً بالعتق أو كان جاحداً له، إن كان جاحداً له كانت البينة مقبولة عليه، فيقضي القاضي عليه بالعتق بالبينة، وإن كان مقراً فالقاضي يقضي عليه بإقراره، فجواز القضاء بالعتق عليه متيقن؛ لأنا نقول: حكم الإقرار يخالف حكم البينة، فيتوقف القاضي في القضاء بالعتق إلى حضرة البائع ليعلم أنه يقضي بالإقرار أو بالبينة.

(8/348)


قال في كتاب «الأقضية» رجل عليه مال لرجل شهد ابنا المطلوب أن الطالب أبرأ أبانا عنه، أو احتال به على فلان والطالب منكر، فنقول: لا شك أن شهادتهما بالإبراء لا تقبل؛ لأنهما يشهدان للأب، وأما الشهادة بالحوالة، فإن كانت الحوالة بغير أمر لا تقبل؛ لأنهما شهدا بإبراء الأب بغير عوض؛ لأن الحوالة إذا كانت بغير أمر حتى أدى المحتال عليه المال لا يرجع على الأصيل بشيء، وإن كانت الحوالة بأمر، فقد تردد بين أن تكون شهادة لأبيهما وبين (حيث) أن يرجع المحتال عليه عند الأداء إن لم يكن له على المحتال عليه دين، ويسقط دينه عن المحتال عليه إن كان له دين عليه كانت شهادة على أبيهما، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار للرد والقبول، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» : وعندي أن الشهادة لا تقبل في هذه الصورة ادعى الأب أو جحد، إن ادعى فلأن هذه شهادة للأب، وإن جحد فلأن هذه شهادة خلت عن الدعوى.
ولو كان المال على غير أبيهما، فشهدا أن الطالب احتال به على أبيهما والطالب ينكر، والمطلوب يدعي، إن كانت الحوالة بغير أمر تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة على أبيهما، فإنه لا رجوع له عند الأداء، وإن كانت الحوالة بأمر فقد تردد بين أن تكون شهادة لأبيهما أو على أبيهما، فإن ادعى لا تقبل شهادتهما، وإِن أنكر تقبل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع داراً ولم يقبضها المشتري حتى جاء شفيع الدار وخاصم فيها، فشهد ابنا البائع أن المشتري قد سلم الدار للشفيع بشفعته، ثم اشتراه منه بالثمن لا تقبل شهادتهما، أما على قول من لا يرى بيع العقار قبل القبض، فلأنهما بهذه الشهادة يدفعان خصومة الشفيع عن أبيهما؛ لأن الخصم في الشفعة قبل قبض البائع، ولهذا كانت العهدة عليه. وكذلك لو شهدا أن الشفيع سلم الشفعة في الدار لا تقبل شهادتهما لما ذكرنا، وهذا إذا دعي الأب ما شهدا به، فأما إذا جحد ما شهدا به تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان على الأب بوجوب تسليم الدار إلى المشتري، فكانت شهادة على أبيهما من هذا الوجه، ولو كان المشتري قبض الدار من البائع، ثم شهد ابنا البائع على تسليم المشتري الدار إلى الشفيع بشفعة لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة يريدان تنفيذ العهدة عن أبيهما، فكانا شاهدين لأبيهما، وسواء ادعى البائع ما شهدا به أو جحد ذلك، لأن تسليم المشتري للدار إلى الشفيع محض منفعة في حق البائع، لا يشوبه ضرر.
وإِن شهدا أن الشفيع سلم الشفعة في الدار للمشتري تقبل الشهادة؛ لأن هذه الشهادة على الأب بتقريب العهدة إليه.

قال في كتاب «الحوالة» : رجلان عليهما مال لرجل أحالا به على غريم لهما، وجحد الطالب الحوالة، فشهد على الطالب ابناه أو أبواه أو أمه أو امرأته قبلت شهادتهم؛ لأن هذه شهادة على الطالب بسقوط مطالبته عن الأولين، فلم تتمكن التهمة في شهادتهم فقبلت.

ولو شهد ابنا المطلوبين الأولين، فإن ادعى أبوهما ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن

(8/349)


جحدا ذلك تقبل شهادتهما؛ لأنها دائرة في حق أبيهما بين النفع، وهو براءتهما وبين الضرر وهو ثقل الدين لو كان لهما على المحتال عليه دين وثبوت حق الرجوع عليهما، ولو لم يكن لهما عليه دين، فتعتبر فيه الدعوى والإنكار. وأما شهادة ابني المحتال عليه إن ادعى ذلك أبوهما لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يدور بين النفع في حق أبيّهما وهو سقوط مطالبة المحتالين عنه، والضرر، فهو يوجه مطالبة المحتال له نحوه، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار.
وقال محمد رحمه الله في «الجامع» : جارية في يدي رجل ادعى رجل أنه اشترى هذه الجارية من فلان بمائة دينار، وأن فلاناً ذلك اشتراها منك بألف درهم، وقبضها قبل أن تبيعها مني، وأنكر الذي في يده الجارية، والمشتري الأول فشهد ابنا الذي في يديه الجارية بذلك قبلت شهادتهما؛ لأنهما شهدا بمعنى اشتمل على النفع والضرر والمنفعة مجحودة فقبلت (125ب4) .
شهادتهما على أبيهما وعلى المشتري الأول بالبيع، وإذا قبلت قضي لصاحب اليد على المشتري الأول بألف درهم، وقضى للمشتري الأول على المشتري الثاني بمائة دينار، وإن كان المولى والمشتري الأول ينكران ذلك بصيرورتهما مكذبين في إنكارهما بالبينة العادلة، وإن كان الذي في يديه الجارية مالك الجارية ظاهراً وقد أقر بكونها مملوكة للمشتري الأخير، فصح إقراره بذلك ولا يقضي للذي في يديه على المشتري الأول بشيء، لأن الشهادة إن لم تقبل خرجت من البين، بقي إقرار الذي في يديه، وإقرار الإنسان حجة عليه، وليس بحجة على غيره ولا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر حتى يستوفي الثمن منه سواء ادعى المشتري الآخر أنه قبض الجارية من المشتري الأول وصدقه صاحب اليد في ذلك، أو لم يدع ذلك؛ لأن حق حبس المبيع من حقوق العقد، فإنما يثبت للبائع، أو لمن قام مقام البائع، وذو اليد لم يبع الجارية من المشتري الآخر، وليس هو قائم مقام البائع فيه، فلهذا لا يكون له ذلك، ولا يكون لذي اليد أن يقبض المائة دينار من المشتري الآخر قضاء بدينه الذي وجب له على المشتري الأول في زعم المشتري الآخر ألف درهم، والواجب للمشتري الأول على المشتري الآخر في زعمه مائة دينار، وعند اختلاف الجنس لو وجد عينها عند من عليه الدين أو عند غيره لا يكون له حق الأخذ، فإذا وجد ديناً عند غيره أولى أن لا يكون له حق الأخذ، ولو كان المشتري الآخر ادعى أنه اشتراها بألف وخمسمائة حتى كان الثمنان من جنس واحد والمشتري الأول يجحد ذلك فالذي في يديه الجارية صدق المشتري الآخر فيما قال، فإن ادعى المشتري الآخر أنه قبض الجارية من المشتري الأول بإذنه وصدقه ذو اليد في ذلك، لا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر؛ لما قلنا، ولا يعطيه المشتري الآخر من الثمن شيئاً لما ذكرنا أن ذا اليد لم يبعها منه، ولكنَّ المشتري الآخر إن خلى بين المشتري الأول وبين الثمن حتى صار

الثمن ملكاً للمشتري الأول بتصادق ذي اليد والمشتري الآخر، كان لذي اليد أن يأخذه، لأنه ظفر بحبس حقه من مال المشتري الأول، وإن لم يكن خلى لا يؤمر المشتري الآخر بالتخلية؛ لأن الحق في ذلك للمشتري الأول وهو ينكر.

(8/350)


ولو أن المشتري الآخر أقر أنه لم يقبض الجارية من المشتري الأول، ففي القياس الجواب كذلك لا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر، وفي الاستحسان: يكون له حق حبس الجارية من المشتري الآخر حتى يستوفي منه ألفاً إن كان المشتري الآخر اشتراها بألف أو بألف وخمسمائة. وجه القياس ما مرّ أن الحبس بالثمن من حقوق العقد، فلا يثبت إلا للعاقد، أو لمن قام مقام العاقد ولم يوجد شيء من ذلك في حق ذي اليد، فلا يكون له حق الحبس كما في المسألة المتقدمة.
وجه الاستحسان: أن صاحب اليد بائع للجارية من المشتري الآخر من وجه، من حيث إن البيع من المشتري الآخر إنما ظهر بتصديق ذي اليد إياه، فيما إذا ادعياه ليس ببائع لها من وجه حيث إنه لم يجر بينهما بيع حقيقة، ولو كان بائعاً لها من كل وجه، ولم يكن المشتري الآخر قبضها منه كان له حبسها من المشتري الآخر حتى يستوفي الثمن منه سواء باعها بدراهم أو بدنانير، ولو لم يكن بائعاً لها منه من كل وجه لم يكن له حق الحبس من المشتري الآخر، سواء باعها بدراهم أو بدنانير، فإذا كان بائعاً لها من وجه دون وجه عملنا بهما، فمن حيث إنه ليس ببائع لها منه من وجه لا يثبت له حق الحبس إذا كان الثمنان من جنسين مختلفين ومن حيث إنه بائع لها من وجه كان له حق الحبس عند اتحاذ جنس الثمنين عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، ولو تصادق ذو اليد والمشتري الأول على شراء المشتري الأول وتسليم الجارية إليه إلا أنهما جحدا شراء المشتري الآخر، فأقام المشتري الآخر أننى ذي اليد، فشهدا له قبلت شهادتهما وثبت البيع الثاني، ثم ينظر: إن كان المشتري الآخر ادعى القبض يأخذ العبد، ولا يكون لذي اليد حق الحبس، وإن لم يدع القبض فإن كان الثمنان من جنسين مختلفين فكذلك الجواب وإن كانا من جنس واحد، ففي القياس الجواب كذلك، وفي الاستحسان: له حق الحبس.
b
وأصل هذه الجملة ما قال محمد رحمه الله في رجل اشترى جارية وقبضها ونقد الثمن، ثم جاء رجل وادعى على المشتري الأول أنه كان اشتراها بكذا قبل شرائه ولم يقبضها ولم ينقد ثمنها وكذبه البائع وصدقه المشتري المعروف: قضى القاضي بالجارية للذي ادعى الشراء أولاً، ثم إن كان الثمن من جنسين مختلفين لم يملك المشتري المعروف حبسها بالثمن، سواء ادعى المجهول أنه قبضها من البائع بإذنه إلا أنه لم ينقد الثمن فكذلك، وإن ادعى أنه لم يكن قبضها ففي القياس: ليس له حق الحبس، وفي الاستحسان: له ذلك والمعنى: ما مر كذا ههنا.

قال: وإذا شهدا أنه أباهما وكَّل هذا الرجل بقبض ديونه بالكوفة، لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما بشهادتهما ينصبان من يقوم بحقوق الأب واستيفائه، فكانا شاهدين لأبيهما فلا تقبل شهادتهما، ولكنَّ هذا إذا كان المطلوب يجحد الوكالة، فأما إذا أقر المطلوب بها جازت الشهادة.
فرق بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها في كتاب الوكالة: أن من وَكَّل رجلاً بالخصومة في دار بعينها وقبضها وغاب، فشهد ابنا الوكيل أن أباهما وَكَّل هذا الرجل

(8/351)


بالخصومة في هذه الدار وقبضها: لا يقبل شهادتهما، سواء جحد المطلوب الوكالة أو أقر بها.
ووجه الفرق أن في مسألة الدين المطلوب إذا كان مقراً بوكالته يجبر على دفع المال بإقراره بدون الشهادة، فإنما قامت الشهادة لإبراء المطلوب عند الدفع إلى الوكيل إذا حضر الطالب وأنكر الوكالة، فكانت هذه شهادة على أبيهما، وشهادة الانسان على أبيه مقبولة، أما في مسألة كتاب الوكالة: المطلوب وإن كان مقراً لا يجبر على دفع الدار إلى الوكيل بحكم إقراره، وإنما يجبر عليه بالشهادة، فكانت هذه الشهادة واقعة لأبيهما فلا يقبل.
أصل هذه المسألة: أن من جاء إلى مديون رجل وقال: أنا وكيل فلان بقبض الدين منك وصدقه المديون بذلك يؤمر بتسليم الدين إليه، وإن قال لآخر: أنا وكيلُ فلان بقبض الوديعة منك لا يجبر على الدفع إليه وإن صدقه في ذلك لأن المديون مقر على نفسه، لأنه مقرٌ بحق القبض له في ملكه، فكان إقراراً على نفسه فصح، وفي الوديعة إنما يقر بحق قبض ملك الغير وإقراره على غيره لا يصح.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أن في الوديعة أيضا يجبر المودع على الدفع إلى الوكيل؛ لأنه يقر على نفسه بأن الوكيل أولى منه بقبض العين، وأنه ضامن لهذا العين إذا منعه عن الوكيل، فكان مقراً على نفسه فيصح إقراره عليه، فعلى قياس هذه الرواية: يجب أن يكون الجواب في الوكالة بالخصومة في الدار وفي الدين سواء، هذا إذا كان الموكل هو الطالب، فإن كان الموكل هو المطلوب وقد ادعى الطالب في داره دعوى فشهد ابنا المطلوب أن أباهما وكل هذا الرجل بخصومة، فإن كان الوكيل يجحد الوكالة لا تقبل هذه الشهادة، لأن هذه شهادة خلت عن الدعوى، وبدون الدعوى لا تقبل الشهادة في حقوق العباد، وإن كان الوكيل يدعي الوكالة لا تقبل شهادتهما أيضا، أقر الطالب بالوكالة أو جحدها؛ لأن هذه بينة قامت على غير الخصم، لأن الطالب لا يكون مجبراً على الدعوى، وإن كان هو وكيلاً عن المطلوب كما لا يجبر عند حضرة المطلوب، فلم يكن خصماً في حق إثبات الوكالة، والبينة لا تقبلُ إلا على خصم، ولأنهما بهذه الشهادة ينصبان نائباً عن أبيهما، لأن بإقرار الطالب لا تثبت وكالة الوكيل، وإنما تثبت بالشهادة، فهما ينصبان بشهادتهما نائباً عن أبيهما ليخاصم عنه ويقيم حجة الدفع حتى يستقر ملك ابيهما فيما وقعت فيه الخصومة، فكانا شاهدين لأبيهما، فلا تقبل شهادتهما.

وإن شهد ابنا المطلوب على أن فلانا وكّل هذا الرجل بالخصومة مع أبيهما في هذه الدار والطالب غائب، فإن جحد الأب الوكالة قبلت هذه الشهادة، لأنه شهادة على أبيهما، لأنه يستحق الجواب عن الخصومة عليه بدعواه، والشهادة على أبيهما مقبولة. وإن أقر الأب بالوكالة لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة خلت عن الدعوى، فإن الوكيل لا يجبر على الدعوى كالموكل، فلا يدعي المطلوب بهذه الوكالة شيئا يلزم الوكيل فلم يصح الدعوى.

(8/352)


وذكر ابن سماعه في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رجلاً ادعى على غائب دعوى زعم أن هذا الرجل وكيله في الخصومة، فشهد ابنا الغائب أن أباهما وكل هذا الرجل بالخصومة مع المدعي إن كان الوكيل منكراً للوكالة فشهادتهما جائزة، لأن هذه شهادة على أبيهما، لأن الدعوى (126 أ4) وقعت على الأب.
بيانه: أن المدعي بإثبات وكالة الحاضر يريد إلزام الحق على الغائب؛ لأنه يتضرر به من حيث يلزمه الحق عند إقامة البينة على الوكيل في غير حضرته، والشهادة على أبيهما مقبولة، فهو معنى قولنا: إن الدعوى وقعت على الأب، فكانت الشهادة واقعة على الأب، وإن كان الوكيل يدعي الوكالة والطالب يجحد لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادةٌ قامت لأبيهما بإثبات من يخاصم عنه ويدفع عنه ويقيم حجة الدفع فلا تقبل.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا شهد شاهدان أن فلاناً وكّل أباهما ببيع هذا العبد، فباعه من رجل والمشتري يجحد والأب يدعي لم أقبل شهادتهما، وإن جحد الأب البيع وادعاه المشتري قبلت شهادتهما، لأن البيع دائر بين الضرر والنفع، لأنه يثبت حقوقاً له وحقوقاً عليه، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجلين شهدا أن الميت أوصى إلى أبينا وورثة الميت يقرون بذلك أو ينكرون، فإن كان أبوهما يدعي الوصاية لا تقبل شهادتهما، وإن جحد الوصاية قبلت شهادتهما؛ لأن الوصاية تتضمن أحكاماً على الوصي والموصى، لأنها تفيد ولاية التصرف في مال الميت وإنها للوصي وتفيد رجوع العهدة إليه ولزوم أمر المدعى عليه من يتعمد وصاياه وقضاء ديونه، ويوجه المطالبة بتلك الحقوق عليه ومن هذا الوجه عليه، فيعتبر قيمة الدعوى والإنكار.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا شهد ابنا الميت أو رجلان أوصى لهما الميت بوصية أو رجلان للميت عليهما دين أو رجلان لهما على الميت دين أن الميت أوصى إلى هذا الرجل، والموصى إليه يدعي الوصية، فالشهادة جائزة.
يجب أن تعلم جنس هذه المسائل خمسة أقسام: الغريمان اللذان للميت عليهما دين إذا شهدا بالوصاية أو الوصية أو الوارث إن كان الخصم جاحداً لا تقبل شهادتهما، إما لأن هذه الشهادة خلت عن الدعوى في حقوق العباد، وإما لأنهما يثبتان لأنفسهما من يحصل لهما البراءة لأداء الدين إليه، فكانا متهمين في هذه الشهادة، فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الخصم يدعي ذلك قبلت شهادتهما سواء كان الموت ظاهراً أو لم يكن، أما إذا كان الموت ظاهراً فلأنه زال ملك الموت بالموت وانتقل إلى الوارث، فقد أقر بهذه الشهادة أن حق القبض لهذا المدعي بحكم الوصاية أو الوراثة، فصح إقراره على نفسه، وأما إذا كان الموت غير ظاهر، فلأنهما يقولان: إن رب الدين قد مات، فإن الدين الذي علينا حقك وإن ولاية الاستيفاء لك، وهذا إقرار منهما على أنفسهما لأن الدين إنما يقضى من مال المديون، فصح إقراره بما عليه، فإذا استوفى منهما، فإن ظهر أنه ميت فقد

(8/353)


تم الاستيفاء، وإن ظهر أنه حي استرد ما دفع إليه.

وأما الغريمان اللذان لهما على الميت دين إذا شهدا بالوراثة والوصاية أو الوصية، فان كان الموت غير ظاهر لا تقبل شهادتهما لأنهما يريدان إثبات الموت ليحل الدين في التركة، وفي ذلك نفع لهما فلا تقبل شهادتهما، فإن كان الموت ظاهراً فإن كان المشهود له لا يدعي، فكذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأن الشهادة في حقوق العباد بدون سابقة الدعوى، ولأنهما يثبتان خليفة للميت يمكنهما مطالبته بإيفاء الدين، ولهما فيه منفعة ظاهرة، ولا تقبل شهادتهما لما ذكرنا من تمكن التهمة في شهادتهما؛ لأنهما ينصبان لأنفسهما بهذه الشهادة خصماً يطالبانه بإيفاء الدين.

وفي الاستحسان: تقبل شهادتهما؛ لأن الموت إذا كان ظاهراً كان للقاضي ولاية نصب الوصي ليقوم بما هو من حقوق الميت نحو قضاء الديون وتنفيذ الوصايا وما أشبه ذلك، إلا أن القاضي يحتاج إلى التعيين، فمتى شهدا بوصايته فقد كفياه مؤنة التعيين، فتقبل شهادتهما، وبه ظهر انتفاء التهمة عن شهادتهما من هذا الوجه، بخلاف ما إذا كان الموصى لا يدعي ذلك؛ لأنه ليس للقاضي ولاية نصب الإنسان وصياً على كره منه؛ فإذا كان لا يدعي الإيصاء لو قضى القاضي عليه إنما يقضي بشهادتهما، فيحصل المنفعة للشاهدين بشهادتهما على ما مر، وأما الوارثان إذا شهد للموصى إليه وكان الموت غير ظاهر لا يقبل شهادتهما سواء كان المشهود له طالباً بذلك أو كان جاحداً؛ لأنهما يثبتان لأنفسهما وجوب الميراث بالموت وينصبان لأنفسهما من يقوم بحقوقهما، وعلى التصرف لهما فقد جرّا إلى أنفسهما مغنماً فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الموت ظاهراً وكان المشهود له مخالفاً لذلك يقبل ذلك استحساناً لما مر: أن للقاضي ولاية نصب الوصي، لكنه يحتاج إلى التعيين فقد تحملا عنه مؤنة التعيين فيقبل شهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا بالوكالة حالة حياة الأب، إذ ليس للقاضي أن ينصب عنه وكيلاً في حياته، فلو نصبه نصبه بشهادتهما وهما يشهدان لأبيهما، وبخلاف ما إذا لم يكن ظاهراً، فليس للقاضي أن ينصب عنه وصياً، فلو نصبه، نصبه بشهادتهما، وهما يشهدان لأبيهما فلا تقبل شهادتهما، وأما الموصى إليهما إذا شهدا لوصي آخر معهما، فإن كان الموت غير ظاهر لا تقبل الشهادة؛ لأنهما يثبتان حلول الوصاية بالموت ويثبتان عوناً معهما فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الموت ظاهراً وكان المشهود له طالباً لذلك تقبل شهادتهما استحساناً، لأنهما يثبتان بشهادتهما، إلا ما كان للقاضي أن يفعله بدون شهادتهما، وهو نصب الوصي إذا أحس بخلل، وإذا ذكروا وصاية آخر فقد نسبوا أنفسهم إلى العجز، حيث لم يكتف الميت بهما وصياً، فيقبل شهادتهما.
وأما الموصى لهما إذا شهدا بالموصى إليه، فهو على الأقسام التي ذكرناها، فإن كان الموت ظاهراً، والمشهود له يطلب ذلك قبلت بشهادتهما، وإن كان الموت غير ظاهر لا تقبل شهادتهما، لأنهما شهدا بحلول حقهما بالموت وأثبتا للميت ما يمكنهما من

(8/354)


مطالبته بالوصية، فكانا متهمين فيه فلا يقبل. وإن كان المشهود له طالباً لذلك لا تقبل شهادتهما في الفصول كلها، لانعدام الشهادة فيما هو حقوق العباد.

الفصل السابع: فيما يجوز من الشهادات وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله: رجلان في أيديهما مال وديعة لرجل، فادعاه رجل فشهد المودعان بذلك جازت شهادتهما. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تجوز شهادتهما؛ لأن بقبول الوديعة صارا مقرَّين بالملك للمودع، فكانا متناقضين في أن هذا العين ملك المدعي، فيطلب شهادتهما لمكان التناقض. وجه ظاهر الرواية أن هذه شهادة خلت عن التهمة؛ لأنها شهادة للغير من كل وجه، وليس فيهما جرُّ منفعة إلى الشاهد، ولا دفع مغرم عنه، وشهادة العدل إذا خلت عن التهمة، فالأصل فيها القبول، وما يقول بأن بقبول الوديعة صار مقراً بالملك للمودع هذا ممنوع؛ فإن الإيداع كما يكون من المالك يكون من نائب المالك، فلم تنتف جهة النيابة ههنا إذ لم يمكن للمودعين أن يقولا: قبلنا الوديعة من فلان، إلا أنه كان نائبا عن هذا المدعي في الإيداع، ومهما أمكن التوفيق لا يحمل على وجه التناقض، ولئن سلمنا أن قبول الوديعة إقرارٌ بالملك للمودع لكن هذا ليس بإقرار مفصح به، بل هو إقرار في ضمن الوديعة، وقد يطلب الوديعة بهذه الشهادة، فيبطل ما ثبت في ضمنه، ولو أن المدعي أقام شاهدين سوى هذين المودعين، ثم شهد المودعان على إقرار المدعي أن هذا العين للمودع لا تقبل شهادتهما، سواء كانت الوديعة قائمة أو مستهلكة إن كانت قائمة؛ لأنهما بهذه الشهادة يجران إلى أنفسهما مغنماً وهو.... يدهما على هذا المال وإن كانت مستهلكة لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما مغرماً، لأنه ظهر أنهما كانا مودعا الغاصب والمودع الغاصب ضامن، فهما بهذه الشهادة يبرآن أنفسهما عن الضمان بخلاف المسألة الأولى، لأن هناك المودعان بشهادتهما يبطلان يد أنفسهما إن كانت الوديعة قائمة، ويوجبان الضمان على أنفسهما إن كانت الوديعة مستهلكةً، ولو أنهما كانا ردا الوديعة على المودع ثم شهدا على إقرار المودع أن الوديعة خرجت عن أيديهما بالرد ولا يبرآن ذمتهما عن الضمان لبراءتها عن الضمان بالرد، لأن مودع الغاصب يبرأ

بالرد على الغاصب.
وفي «المنتقى» وإذا شهد المودع أن الذي أودعه أقر أنه عبد جازت شهادته، وكذلك الجارية؛ لأنه لم يشهد على الوديعة والعارية بعينها، ولو شهدا أن الذي استودعها أو أعارها باعها من هذا المدعي لم تجز شهادتهما، لأنه يبطل سبيل رب الوديعة عليه، حتى لا يجوز دفعها إليه، وفيما إذا شهدا على إقرار المودع أنه عبد ما أبطلا سبيله: (126ب4) لأن العبد يأخذها ويبرأ بالدفع إليه، وإذا كان العبد وديعة في يدي الرجلين

(8/355)


شهدا أن المولى كاتبه أو دبّره أو أعتقه والعبد يدعي ذلك جاز، ولا يشبه هذا البيع؛ لأن العتق خروج عن ملك إلى غير ملك.

قال في «الجامع» : رجلان ارتهنا من رجل غلاماً بألف درهم لهما عليهما، ثم ادعى رجل أن الرهن له، وشهد له المرتهنان بذلك جازت شهادتهما؛ لأنهما لم يشهدا لأنفسهما، بل شهدا على أنفسهما بإبطال اليد والحبس، ولم يصيرا متناقضين أيضاً؛ لأن قبول الرهن لا يكون إقراراً بالملك للأمن، لأن الرهن كما يكون من المالك يكون من غير المالك، بأن يستعير رجل من آخر عيناً ليرهن بالدين.
ولو شهد المرتهنان على إقرار المدعي أن العبد للراهنين والعبد قائم في يده أو هلك، لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما مغرماً، وهو: الضمان إن كان قد هلك، ويجران إلى أنفسهما مغنماً وهو تقرير اليد التي هي حقهما، وإن كانا قد ردا الرهن إلى الراهن تقبل شهادتهما، ولو أنكر المرتهنان ما ادعاه المدعي وشهد به الراهنان لا تقبل شهادتهما على المرتهنين، لأنهما بعقد الرهن أوجبا حقاً للمرتهنين في المرهون، وإذا شهدا أنه ملك المدعي فقد سعيا في نقض ما تم بهما، فلا تقبل شهادتهما، بخلاف المرتهنين حيث تقبل شهادتهما وإن صارا ساعيين في نقض ما تم بالإنسان، إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان لا يملك البعض إلا بالشهادة، والمرتهن يملك النقض من غير رضا الراهن بالرد، إذ الرهن من جانب المرتهن غير لازم فلا يمنع قبول الشهادة، بخلاف جانب الراهن، وإذا لم تقبل شهادة الراهنين على المرتهن ضمن الراهنان قيمة العبد للمرعي؛ لأنهما لما شهدا للمدعي فقد صارا مقرين أنهما كانا غاصبين لهذا العبد وقد عجزا عن رده إلى المدعي لحق المرتهنين فيضمنان القيمة.

ولو ارتهن رجلان من رجل جارية قيمتها ألف درهم بألف درهم وقبضاها، فماتت في أيديهما ثم ادعاها رجل، فشهد المرتهنان أنها كانت لهذا المدعي لا تقبل شهادتهما، لأنهما بشهادتهما يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما صارا مستوفين دينهما بالهلاك، وبهذه الشهادة يعيدان الدين على الراهن بعدما سقط من حيث الظاهر، إلا أنهما يضمنان قيمتها للمدعي؛ لأنهما أقرا أنهما كانا غاصبين للجارية وقد عجزا عن رد الجارية، فكان عليهما قيمة الجارية، بخلاف ما لو شهد المرتهنان بذلك حال قيام الرهن، حيث تقبل شهادتهما؛ لأنهما بشهادتهما لا يعيدان ديناً على الراهن بعد السقوط؛ لأن الدين في ذمة الراهن قبل هلاك الرهن وإنما يسقط بالهلاك، ولا يحولان ضماناً وجب عليهما للراهن إلى المدعي، لأن الرهن مضمون عليهما بالدين لا بالقيمة، وبشهادتهما لا يتحول ضمان الدين إلى المدعي بل تجب عليهما القيمة للمدعي على اعتبار الهلاك، ويسقط ملك اليد الثابت لهما، فكانا جارَّين إلى أنفسهما مغرماً لا مغنماً.

رجلان غصبا من رجل عبداً وثبت ذلك عند القاضي بإقرارهما أو ببينة قامت عليهما، ثم ادعى رجل آخر العبد المغصوب، وشهد له الغاصبان بذلك، فإن شهدا بعدما رد المغصوب قبلت شهادتهما لخلو شهادتهما عن المناقضة والتهمة، أما المناقضة

(8/356)


مظاهر، وأما التهمة: فلأنه ليس فيها جر مغنم، ولا دفع مغرم لبراءة الشاهدين عن الضمان بالرد عن المغصوب منه.
ولو شهدا والعبد في أيديهما لا تقبل هذه الشهادة، لتمكن التهمة في هذه الشهادة؛ لما فيها من تحويل ضمان الرد إلى غير المغصوب منه، وللشاهدين في ذلك فائدة للتفاوت بين الناس في المطالبة والخصومة.

وكذلك لو شهدا بعد هلاك المغصوب في أيديهما لا تقبل شهادتهما، سواء قضى القاضي بالقيمة أو لم يقض، وسواء دفعا القيمة إلى المغصوب منه أو لم يدفعا، أما قبل القضاء فلتحويلهما ما وجب عليهما من الضمان للمغصوب منه إلى المدعي، ولهما فيه فائدة على ما مر، فكانت في هذه الشهادة نوع تهمة، وأما بعد القضاء قبل دفع القيمة، فلهذه العلة ولعلة أخرى: وهي أن الشاهدين عند قضاء القاضي ملكا العبد بمقابلة الضمان، فصار من حيث الحكم كأنهما اشتريا العبد، ولو صارا مشتريين للعبد حقيقة ثم شهدا بالعبد للمدعي لا تقبل شهادتهما، فكذا إذا ثبت بينهما بيع حكمي، وأما بعد دفع القيمة فللعلة الثانية.
ثم قال: وكذلك العرض وكل دين فشهادتهما في ذلك باطلة قضياه أو لم يقضيا، وصورته: إذا شهد المستقرضان أن ما أقرضهما المقرض كان للمدعي لا تقبل شهادتهما، أما قبل قضاء الدين فلوجهين، أحدهما: أنهما يحولان ما وجب عليهما من الضمان للمقرض إلى المدعي، والثاني: أن الاستقراض بدأ حقيقة إن كان استعاره حكماً، فكان المستقرض بمعنى المشتري، والمشتري إذا شهد بالمشترى لغيره لا تقبل شهادته لما قلنا، كذا ههنا، وأما بعد القضاء فللعلة الثانية.
رجلان اشتريا من رجل جارية شراء فاسداً بألف، وقبضاها ثم ادعاها الآخر، فشهد المشتريان أنها للمدعي، فهو على التفاصيل التي قلنا في الغصب، لأن المشترى شراء فاسداً مضمون على المشتري بنفسه لا بغيره فكان كالغاصب، إلا أن بين هذه المسألة وبين مسألة الغصب فرق من وجه أن في مسألة الشراء، المدعي يأخذ الجارية من المشتريين قبل نقض البيع، وفي الغصب لا يأخذ، لأن في الغاصب إنما أقر بالجارية للمدعي، وهي ملك غيره ظاهراً، فلم يصح إقراره، والمشترى شراء فاسداً أقر بالجارية للمدعي وهي ملكه في الظاهر فيؤمران بردها إلى المدعي، ثم يضمن المشتريان قيمة الجارية للبائع لعجزهما عن رد عين الجارية إليه.

قال محمد في «الأصل» : ولو كان المشتريان مع بائعهما نقضا البيع أو نقض القاضي البيع فلم يقبض البائع الجارية حتى شهدا للمدعي بالجارية يعني المشتريان، لم يلزمهما تسليم الجارية، لإقرارهما بالجارية للمدعي وهي ملك غيرهما.
رجل اشترى من رجل جارية شراء صحيحاً، وتقابضا وتقالا البيع أوردَّها المشتري بالعيب بغير قضاء وقبلها البائع، ثم جاء رجل وادعى أن الجارية له، فشهد المشتري ورجل آخر أن الجارية للمدعي، فشهادتهما باطلة، سواء كانت هي محبوسة بالثمن عند المشتري أو دفعا إلى البائع، لأن الرد بالعيب بعد القبض بتراضيهما، والإقالة بمنزلة بيع

(8/357)


جديد في حق غيرهما والمدعي غيرهما، فصار في حق المدعي كأن المشتري باعها من البائع ثانياً، ثم شهد بها بعد ذلك للمدعي، وعلى هذا الاعتبار كان في زعم المدعي أن شهادته باطلة، لكونها متضمنة السعي إلى نقض ما تم به، والمدعي متى زعم بطلان الشهادة القائمة له لا تقبل الشهادة.
ولو كان الرد بالعيب بعد القبض بقضاء أو قبل القبض بغير قضاء أو كان الرد بخيار رؤية أو بخيار شرط ثم شهد بها للمدعي مع غيره جازت شهادتهما؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه، ولهذا لا يتجدد للبيع حق الشفعة، فإذا انفسخ البيع من كل وجه صار كأن لم يكن، فلم يكن مبطلاً بشهادته ما أوجب قبل ذلك ولا محولاً ضمانه إلى المدعي، لأنه إذا ردها إلى البائع لم يبق مضموناً عليه وإذا حبسها بالثمن، فكذلك الجواب.
وإن كانت مضمونة عليه إلا أنها مضمونة عليه بغيرها وهو الثمن لا بنفسها، فكانت بمنزلة الرهن وشهادة المرتهن للمدعي بالجارية حال قيام الرهن يقبل كذا ههنا، فلو حبسها بالثمن فماتت الجارية في يدي المشتري ثم شهدا بالجارية للمدعي بطلت شهادتهما؛ لأنها لما (ما) تت في يدي المشتري بطل الفسخ، وعاد حكم البيع، فصار هذا الشاهد شاهداً بما اشتراه لغيره، فلا يصح لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
k

رجل اشترى من آخر جارية بعبد وتقابضا، فوجد مشتري الجارية بها عيباً فردها بالعيب، إلا أنه حبسها بالعبد، ثم جاء رجل وادعاها، فشهد المشتري بالجارية مع رجل آخر للمدعي لا تقبل شهادتهما، ولو شهدا بعدما دفعها إلى البائع تقبل؛ لأن الجارية مضمونة عليه بنفسها، حتى لو هلكت في يد المشتري ضمن المشتري قيمتها لبائع الجارية، فيأخذ العبد ولا تنتقض الإقالة، فكانت شبيهة المغصوب وشهادة المغصوب، وشهادة الغاصب بالمغصوب للمدعي قبل الرد لا تقبل، وبعد الرد تقبل كذا ههنا، بخلاف ما إذا كانت الجارية مشتراة بالدراهم والجارية محبوسة بالثمن، حيث تقبل شهادة المشتري، لأنها مضمونة عليه بالثمن لا بنفسها، فكانت شبيهة المرهون على ما مر.
فإن مات العبد في يد مشتريه قبل رد الجارية، ثم رد الجارية بالعيب بقضاء قاض صح الرد؛ لأن الرد لا يمتنع بهلاك أحد العوضين، عرف هذا في كتاب البيوع فإذا حبسها المشتري حتى يأخذ قيمة العبد ثم شهد بها مع غيره للمدعي صحت شهادتهما؛ لأنها مضمونة عليه بغيرها وهو قيمة العبد، ولهذا لو هلكت الجارية لا تضمن لبائعها قيمتها بل سقط عن بائعها قيمة العبد، فكانت شبيهة المرهون.

وفي «المنتقى» : رجلان استأجرا من رجل داراً شهراً بأجر معلوم وسكنا فيها الشهر كله، ثم جاء مدع يدعي الدار فشهد له المستأجران جازت شهادتهما، (127أ4) فإن قضى القاضي بالدار للمدعي ثم إن المدعي ادعى أنه كان أمر الذي أجر بإجارتها، وأراد أخذ الغلة، فإنه ينبغي للقاضي أن يبطل قضاءه بالدار للمدعي ويردها إلى الذي كانت الدار في يديه، وينبغي للقاضي أن يسأل المدعي في أول الأمر عن الإجارة: أكانت بأمرك أو بغير أمرك؟ فإن قال: كانت بأمري لا تقبل شهادة المستأجر، وإن قال: كانت

(8/358)


بغير أمري تقبل شهادة المستأجر، ولو لم يسكن المستأجر الشهر كله حتى ادعى المدعي الدار، فشهد به المستأجر ولم يدع المدعي أن الإجارة كانت بأمره لم تجز شهادة المستأجر.
وفيه أيضاً: رجل له دار وفيه سكان بغير أجر، فشهد السكان في الدار شهادة يثبتون الدار له، أو شهدوا بالدار عليه الأجر، فشهادتهم جائزة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وإن كان هؤلاء السكان بأجر معلوم لشهور معلومة بأجر رخيص، أو بأجر عال، فشهدوا للذي أجر لتحقيق الإجارة أو شهدوا لإنسان عليه ليفسخوا الإجارة، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: جازت شهادتهما في الموضعين جميعاً، وشهادتهم في هذا كإقرار رب الدار أنها لفلان، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تقبل شهادتهم لا فيما يثبتونها ولا فيما ينقضونها.
رجل اشترى من آخر جارية، ثم جاء رجل وادعى أنه اشترى هذه الجارية من هذا المشتري، والمشتري يجحد ذلك، فشهد البائع ورجل آخر للمشتري بالشراء من المشتري لا تقبل شهادته، وكذلك لو ادعى المشتري أنه باعه من فلان وفلان يجحد، فشهد له البائع لم تقبل.

ولو أن رجلاً اشترى من آخر عبداً وبرء البائع عن عيوبه، فباعه المشتري من رجل آخر، ودلس العيب الذي به، فخاصم المشتري الآخر المشتري الأول فيه، فشهد البائع الأول ورجل آخر أن هذا العيب كان به عند البائع، قال: أقبل شهادة البائع الأول في رده على البائع الثاني ولا أقبل في تبرئته منه.
رجل له على رجل ألف درهم، فشهد الذي عليه المال ورجل آخر أن الطالب أقر أن هذا الألف لهذا الرجل والرجل يدعي ذلك لا تقبل شهادة الذي عليه المال، ذكره في «المنتقى» في موضع، وذكر في موضع آخر منه أنه لا تقبل شهادته إذا كان لم يؤده، فإن كان أداه تقبل.

ولو مات رجل وترك مالاً على رجلين وترك أخاً، فشهد الرجلان لغلام يدعي أنه ابن الميت أنه ابنه لا يعلم له وارثاً آخر غيره، أجزت شهادتهما، ولا يشبه هذا الدّين في المسألة الأولى من قبل أن الدين لم يثبت عليهما للأخ، ولم يجعله القاضي وارث الميت.
ولو أن رجلين اشتريا ثوباً من رجل ونقدا الثمن أو لم ينقدا، فجاء رجل وادعى أن الثوب له فشهد المشتريان له بالثوب، أو شهدا على إقرار البائع أن الثوب له لم تجز شهادتهما.
أما قبل نقد الثمن: أما إذا أجاز البيع، فلأنهما يريدان تحويل ما وجب عليهما للبائع من حيث الظاهر إلى غيره، ولهما فيه منفعة؛ لأن الناس يتفاوتون في المطالبة، وأما إذا لم يجز البيع، فلأنهما سعيا في نقض ما تم بهما.
وأما بعد نقد الثمن: أما إذا لم يجز البيع فلما قلنا، وأما إذا أجاز وقال: باع بأمري، فلأن الثمن الذي نقداه صار ملكاً للبائع بتمليكهما، فهما بهذه الشهادة يريدان نقض ذلك التمليك.

(8/359)


وذكر في كتاب «الأقضية» لو أن رجلاً مات، وله على رجلين ألف درهم أو كان له في أيديهما عبد غصب أو وديعة، جاء رجل وادعى أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه لا وارث له غيره، وقضى القاضي بذلك بشهادة شهود شهدوا عليه، وجعله وارثاً له وقضى له بالمال العين والدين، فقضى الغريمان دينهما للأخ بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض، أو لم يكونا قضياه لو كانا صارفاه على دنانير أو كان الأخ وهب لهما المال على عوض، أو كانا اشتريا من الأخ جارية من تركة الميت أو تصدق عليهما بصدقة على عوض، ثم جاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت ووارثه، ولا وارث له غيره، وشهد الغريمان له بذلك فشهادتهما باطلة، أما قبل قضاء الدين فلأنهما يريدان تحويل المال الذي وجب عليهما للأخ إلى الابن، وقد ذكرنا أن الشهادة تبطل به، وأما بعد القضاء فلأنهما يريدان أن ينقضا أمراً تم بهما؛ لأن القضاء قد تم.
ولو ظهر أن الأخ ليس بوارث وأن الوارث هو الابن كان للغريم أن يسترد ما كان دفعه إلى الأخ، لأنه ظهر أنه قبض ما ليس له، ومن سعى في نقض ما تم به لم يقبل سعيه، وكذلك المصارفة لأن هذا العقد قد تم به، فلا يقبل منه نقضه، وكذلك أخذ العوض عنه لما قلنا. هذا هو الكلام في الدين.
جئنا إلى العين فنقول في الغصب: إذا شهد الغاصبان بالابن، وكان العبد قائماً بعينه في أيديهما لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يحولان الضمان من الابن إلى الأخ، وإن كانا دفعا العبد إلى الأخ ثم شهدا بذلك فإنه لا يخلو، إما إن دفعا بقضاء أو بغير قضاء، فإن كان بقضاء فشهادتهما جائزة، وإن كان بغير قضاء لا تقبل شهادتهما.

فرق بين هذا وبينما إذا دفعا المغصوب إلى المغصوب منه، ثم شهدا بالملك لغيره تقبل سواء كان الدفع والرد بقضاء أو بغير قضاء، وههنا فرق بين القضاء وغير القضاء. ووجه الفرق: أن في تلك المسألة الضمان إنما وجب باعتبار تفويت يد المغصوب منه، فإذا أعاده إلى يده انفسخ حكم فعله وانعدمت الجناية فارتفع الضمان، فلم يحولا بهذه الشهادة ضماناً وجب للمغصوب منه إلى المدعي.
وفي مسألتنا: الضمان وجب باعتبار تفويت يد الميت ولم توجد الإعادة إلى يد الميت حقيقة، وإنما ظاهر وكذا حكماً، لأنه إنما يتحقق الرد إليه حكماً بالرد إلى خليفته ونائبه، وليس من ضرورة القضاء بنسب الأخ ثبوت نيابته وخلافته عن الميت في الرد عليه لجواز أن يكون هناك من يحجب عن الميراث، أو يكون في التركة دين مستغرق، فاحتمل أن يكون خليفة عن الميت في الحكم واحتمل أن لا يكون، فلا يبطل الضمان الواجب عليه بالاحتمال، وإذا لم يبطل الضمان عنهما كانا بهذه الشهادة محولين ذلك إلى الابن.
فأما إذا كان الرد بقضاء القاضي وبأمره فقد تحقق الرد إلى الميت حكماً، لأن للقاضي ولاية في مال الميت بالحفظ وأن يضعه حيث أحب، فإذا أمره بالرد إليه صارا تعييناً من جهة القاضي، فخرج عن جهة الضمان بالرد إليه، فلم يحولا بهذه الشهادة الضمان من الأخ إلى الابن، وإن كان الغصب وديعة قبلت شهادتهما، سواء كان الدفع بأمر القاضي أو بغير أمره؛ لأن الضمان لم يكن واجباً وقع الشك في وجوب الضمان لاحتمال أنه خليفة الميت ووارثه، فلا يجب الضمان عليه بالاحتمال.

(8/360)


ولو أن رجلين شهدا أن فلاناً توفي وترك هذا الرجل أخاه لأبيه وأمه ووارثه، فقضى القاضي بشهادتهما، ثم شهد هذان الرجلان لآخر أنه ابنه ووارثه، لم تجز شهادتهما للابن؛ لأنهما شهدا أول مرة بأن الأخ وارثه، ثم شهدا بوراثة الابن، وبين كون الأخ وارثاً وكون الابن وارثاً تناف إن لم يكن بين كون الأول أخاً والثاني ابناً تناف، وقد اتصل القضاء بالشهادة الأول فتأيدت بها، فلا يمكن إبطالها بالثانية.
ونظير هذه: مسألة الملكية والكوفية أن القضاء لو اتصل بالأولى صحت الأولى وبطلت الثانية لما قلنا، وإن لم يتصل القضاء بالأولى بطلتا جميعاً فكذلك ههنا، ولكنهما يضمنان الابن ما قبض الأخ من الميراث؛ لأنهما زعما أن الميراث للابن دون الأخ، وأنهما أتلفا على الابن ذلك بشهادتهما، فقد أقرا بسبب الضمان على أنفسهما فيضمنان، فصار هذا كما لو رجعا عن شهادتهما، واعتبر في «الكتاب» الشهادة الثانية رجوعاً عن الأولى؛ لأن بينهما تناف، فكانت الثانية رجوعاً عن الأولى ضرورة ولو شهد بالابن غير الأولين وقد استهلك الأخ، فالابن بالخيار إن شاء ضمن الشاهدين الأولين ورجعا بذلك على الأخ، وإن شاء ضمن الأخ ولم يرجع على أحد، إما يقبل شهادتهم لأنه ليس بينهما مناقضة، فكل فريق اعتمد دليلاً مطلقاً لأداء الشهادة، فالشهادة على النسب: جواز أدائها بناء على الشهرة والتسامع، فقد علم الأولان بنسب الأخ بالشهرة، ولم يشتهر عندهما، ولم يبلغهما نسب الابن، فشهدا بوراثة الأخ، ثم الفريق الثاني علموا من طريق الشهرة نسب الابن، ولم يسبق منهم ما يناقض شهادتهم فقبلت شهادتهم، وقضي بنسب الابن، لأنه ليس بين الأخ والابن منافاة، وإذا ثبت نسب الابن كان أولى بالميراث من الأخ، فإن كان المال قائماً في يد الأخ يسترده منه، وإن كان قد استهلكه، فالابن بالخيار إن شاء ضمن الأخ، لأنه قبض ماله بغير حق، وإن شاء ضمن الشهود، لأنهم بشهادتهم أتلفوا ماله وظهر بطلان شهادتهم بشهادة الآخرين، فصار كما لو ظهرت ذلك برجوعهم، وصار هذا كما لو شهدوا بالقتل واقتصَّ منه بقضاء القاضي (127ب4) ثم جاء المشهود بقتله حياً إنهم يضمنون كما لو رجعوا بذلك على الأخ؛ لأنهم ملكوا المضمون بأداء الضمان، فصار الأخ غاصباً مالهم، فكان لهم حق تضمينه.

ولو كان الأولان أو غيرهما شهدا أن الثاني أخو الميت لأبيه وأمه ووارثه مع الأول قبلت شهادتهما سواء كان قبل القضاء الأول أو بعد القضاء، لأنه لا تناف بين الشهادتين لجواز أن يكون له أخوان، وكل واحد منهما يرث مع الآخر، ولا يضمنان لأنه لم يظهر كذبهما، لعدم التنافي بينهما، ولكن لو كان الأول قبض المال دفعا نصفه إلى الثاني: لأنه ظهر أن المستحق لهذا النصف هو الثاني، وقبلت شهادتهما؛ لعدم التنافي.
فإن قيل: إذا كان الشاهدان بالثاني هما اللذان شهدا بالأول ينبغي أن لا تقبل شهادتهما بالثاني، لأنهما شهدا للأول أنه وارثه لا وارث له غيره، وكما شهد بالوراثة للثاني كانا متناقضين، قلنا: قوله: لا وارث له غيره، ليس من صلب الشهادة؛ لأنه نفي والشهادة على النفي لا تقبل، ألا ترى أنهما لو لم يذكرا ذلك في الشهادة قبل القاضي

(8/361)


شهادتهما أيضاً، إنما هذا لإسقاط التلوم عن القاضي، فلا يوجب مناقضته بين الشهادة الأولى والثانية، فقلنا جميعاً ولا يضمنان لأحد لما ذكرنا.

إذا شهد الكفيلان بنفس المدعى عليه على المدعي أن المدعى عليه أوفاه الدين، فقد قيل: تقبل شهادتهما، وقد قيل: لا تقبل لأنهما يريدان إخراج أنفسهما عن عهدة الكفالة بالنفس بهذه الشهادة، والصحيح من الجواب: أنها إن شهدا بإيفاء الدين الذي حصلت الكفالة بالنفس لأجله لا تقبل، وإن شهدا بإيفاء دين آخر لم تحصل الكفالة بالنفس لأجله تقبل.
الوكيل شراء شيء بغير عينه إذا اشترى وقال: اشتريت لنفسي، وقال الموكل: لا بل اشتراه لي، فأقام الموكل البينة على إقرار الوكيل أنه اشتراه للموكل وأحد الشهود البائع، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة من البائع لأنه متهم فيها، لأنه يبعد العهدة عن نفسه، فإن الوكيل بالشراء إذا سلم المشترى إلى الموكل لا ينفرد بالرد بالعيب، بل يشترط رضا الموكل الشاهد إذا كتب شهادته على صك البيع أو على صك الشراء ثم إن رجلاً آخر ادعى العين المشترى لنفسه، وشهد له الذي كتب شهادته على الصك، فإن كتب الشهادة على وجه يمنع الكاتب عن دعوى الملك لنفسه في ذلك العين لا تقبل شهادته للمدعي، وإن كتب الشهادة على وجه لا يمنع الكاتب عن دعوى الملك لنفسه في ذلك العين تقبل شهادته للمدعي، ومسألة دعوى الشاهد على الصك تأتي في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.

عشرة وكَّلوا رجلا بشراء محدود معين، فذهب الوكيل واشترى فأنكر واحد من العشرة كونه وكيلاً من جهته، فشهد التسعة على العاشر أنك وكلته معنا بالشراء تقبل هذه الشهادة، ولو كان هذا وكيلاً بالبيع وباقي المسألة بحالها لا تقبل شهادة التسع؛ لأنهم يشهدون لأنفسهم لأنهم يريدون إثبات لزوم البيع في نصيبهم، وأما في الفصل الأول لا يشهدون لأنفسهم، وفي «فتاوى النسفى» سئل عن وكيل مجلس القضاء إذا ادعى بحضرة المدعي الذي وكله على آخر أن لهذا المدعي علي مثلاً كذا، فأجاب المدعى عليه: إنه قد قضاه ذلك، فأنكر المدعي، فشهد هذا الوكيل مع رجل آخر على القضاء لا تقبل شهادة هذا الوكيل؛ لأنه هو الذي ادعى عليه هذا المال في الحال، وذلك يمنعه عن الشهادة بالقضاء، فقيل له: أليس ثبت عن أصحابنا رحمهم الله أن من ادعى على آخر مالاً فقد أقرضه فشهد له شاهدان أنه أقرضه، وشهد آخر أنه أقرضه ثم قضاه ثبت القرض ولم يثبت القضاء ولم تصر شهادته بالقضاء مبطلة شهادته بالإقراض، قال: هناك شهد بالإقراض وشهد مرتباً عليه والقضاء مرتباً على الإقراض يقرر الإقراض ولا ينافيه، أما هذا شهد بقيام الدين عليه للحال وقيام الدين عليه ينافي القضاء قبله، فصار دعوى قيام الدين عليه للحال من هذا الوجه مبطلاً شهادته بالقضاء قبل هذا.

رجلان باعا عبداً من رجل ثم إن البائعين شهدا أن المشتري أعتق هذا العبد لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة يخرجان عن العهدة، فإن المشتري إذا أعتق العبد

(8/362)


المشترى ثم اطّلع على عيب به قد كان عند البائع لا يمكنه الرد على البائع.

شهادة أهل القرية بعضهم على بعضهم بزيادة الخراج على ضيعة المشهود عليه لا تقبل؛ لأن الشاهد بهذه الشهادة يريد إثبات نقصان خراجه حتى لو شهد من لا خراج عليه تقبل شهادته، وكذلك إذا كان لكل ضيعة خراج على حدة فشهد بعضهم على البعض بزيادة الخراج تقبل شهادتهم؛ لأن الشاهد بهذه الشهادة لا يثبت نقصان خراجه.
ولو أن أهل قرية شهدوا على بعض ضياع بجوار قريتهم أنه من ضياع قريتهم لا يجوز؛ لأنهم يريدون إثبات نقصان خراج ضيعتهم، ويجب أن يكون في هذا الفصل على التفصيل الذي ذكرنا في الفصل الأول.
وإذا شهد أهل السكة بشيء من مصالح السكة إن كانت السكة غير نافذة لا تقبل شهادتهم، وإن كانت نافذة تقبل شهادتهم؛ لأن السكة إذا كانت غير نافذة فهي كالمملوكة لأهل السكة، فهذه الشهادة راجعة الى مصلحة أملاكهم، وإذا كانت نافذة فهي حق العامة والشهادة على حق العامة مقبولة.
وإذا شهدا أن فلاناً غصب من أب هذا المدعي هذه القرية وهذه القرية في يد غير الغاصب، والغاصب غائب أو ميت، فهذه الشهادة ليست بشيء حتى شهدا أنها وصلت إلى هذا المدعى عليه من قبل الغاصب أو يشهد بذلك غيرهما.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل شهد عليه شاهدان أنه باع هذه الدار من هذا الرجل بألف درهم على أنهما ضمنا للمشتري الدرك يعني الشاهدين، قال: إن كان الضمان في أصل البيع لا تقبل شهادتهما؛ لأن البيع لا يتم إلا بضمانهما، فكأنهما شهدا على فعلهما، وإن لم يكن الضمان في أصل البيع جازت شهادتهما؛ لأن البيع ههنا تام بدون ضمانهما.

وفي «المنتقى» : ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها له اشتراها من فلان، وقبضها فشهد له شاهدان بذلك إلا أنهما لم يسميا ثمناً، فإني أسألهما قبضها بأمره أو بغير أمره؟ فإن قالا: لا نزيد على هذا، لا تقبل شهادتهما، وإنما وجب السؤال عن الشهود أنه قبضها بأمره أو بغير أمره؛ لأنه تعذر القضاء بالشراء بثمن معلوم؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك، فلا بد أن يقضي بالشراء بغير ثمن والشراء بغير ثمن شراء فاسدٌ والشراء الفاسد لا يفيد الملك بدون القبض، والقبض بغير إذن البائع في البيع الفاسد ليس بصحيح، فلهذا وجب السؤال عن الشهود، وأنه قبضها بأمره أو بغير أمره، وإذا قالا: لا نزيد على هذا إنما لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما لم يشهدا بما هو سبب الملك لما لم يشهدا بإذن البائع بالقبض، وإن ماتا قبل أن يسألهما، فهذا عندنا على أنه قبضها بإذن البائع وأمره؛ لأن الظاهر أنه إنما تمكن من قبضها بتسليم البائع، لولا ذلك لتعذر عليه القبض؛ لأن البائع يمنعه عن ذلك، وليس له ولاية القبض شرعاً حتى يقدر على قبضها بقوة القاضي والناس و ... ؟ على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه.

(8/363)


قال: ولا العرض له في الثمن يعني لا أقف التسليم على قبض الثمن؛ لأن القبض حصل بأمر البائع، والقبض متى كان بأمر البائع لا يتمكن من استرداد لأجل الثمن، فلا يتوقف القبض ههنا على أخذ الثمن، وكذلك لو أن الشاهدين قالا من الابتداء: إنه قبضها بأمر البائع؛ لأن هذا الشراء فاسد لما لم يشهدا بالثمن والشراء الفاسد يفيد الملك عند القبض فإن لم يسم الشاهدان الثمن ولا قبض المدعي الدار فالقاضي لا يقضي للمدعي؛ لأنه تعذر القضاء بالعقد لأنه فاسد، ولا يجوز القضاء بالعقد الفاسد وتعذر القضاء بالملك؛ لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك بدون القبض.

وفي «الأقضية» قال محمد رحمه الله: ولو أن رجلاً ادعى داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان وهو يملكها بألف درهم، فشهد الشهود له بذلك إلا أنهم لم يقولوا: إنه قبضها بأمره، قال: فإني لا آخذ الدار من صاحب اليد ولا أدفعها إليه حتى يدفع إلى صاحب اليد، ثم أدفع الدار إليه، وقد روي عنه رجوعه عن هذا القول، وقال: تؤخذ الدار من يده ولا تدفع إلى المدعي حتى يؤخذ الثمن من يده، فقد أشار إلى سماع دعوى المدعي في هذه المسألة، وذكر في «المنتقى» أنه لا تصح هذه الدعوى منه أصلاً حتى ينقد الثمن عند القاضي.
ووجه ذلك: أن صحة الدعوى في هذه الصورة تعتمد نقد الثمن، وهذا لأن المرافعة إلى القاضي غير محتاج إليها لإثبات الملك في العين؛ لأن الملك لا يثبت بقضاء القاضي وإنما ثبت بسببه، فإذا (128أ4) وجد سبب الملك ثبت الملك وجد القضاء أو لم يوجد وإنما يحتاج إلى المرافعة ليقصر القاضي يد المدعى عليه بولاية القضاء فإنما تصح الدعوى إذا كان له ولاية مطالبة القاضي بقصر يد المدعى عليه، وقبل نقد الثمن ليس للمشتري ولاية قبض المبيع فلا يكون له ولاية دعوى الملك.
ووجه ما ذكر في «الأقضية» : أن المدعي ادعى على ذي اليد حقاً لنفسه لا يمكنه إثبات ذلك الحق إلا بإثبات أمر على الغائب وهو الشراء منه؛ لأنه ادعى الملك بسبب الشراء منه، فانتصب ذو اليد خصماً عن الغائب، فكأنه حضر وأنكر الشراء، ولو كان كذلك تسمع دعوى المدعي كذا ههنا.
وإذا سمع دعواه وقبلت بينته لا تدفع الدار إليه حتى ينقد الثمن، كما لو كان حاضراً وقضي عليه بالشراء لا يدفع الدار إلى المدعي قبل نقد الثمن كذا ههنا، إلا أن على القول المرجوع إليه يقول: لمّا صح القضاء عليه بالملك ظهر أنه مبطل في إمساك المدعي له ظالم في منعه، فيخرجه القاضي عن يده إزالة لظلمه ثم إذا أخرجه من يده لا يدفعه إلى المدعي قبل نقد الثمن، إذ ليس للمشتري ولاية أخذ المبيع قبل نقد الثمن، وإن حضر الذي ادعى المدعي الشراء منه، وأنكر أن يكون باعه إياه أخذ القاضي الدار من المدعي، وسلمها إلى الذي حضر؛ لأن الذي حضر لم يصر مقضياً عليه بالشراء؛ لأن صاحب اليد لم ينتصب خصماً عنه في إثبات الشراء عليه؛ وهذا لأن القضاء لابد له من الدعوى والإنكار، وذو اليد لا يمكن أن يجعل منكراً بطريق الأصالة؛ لأن الأصل في الإنكار أن لا يتعدى ضرر إنكاره إلى غيره، وضرر إنكار

(8/364)


صاحب اليد ههنا يتعدى إلى الغائب بإثبات البيع عليه، ولا يمكن أن يجعل ذو اليد نائباً عن الغائب في الإنكار؛ لأن الحاضر إنما يجعل خصماً عن غيره في الإنكار إذا جرى بينهما سبب له اتصال بما وقع فيه الدعوى، ولم يجر بين الغائب وذو اليد ههنا سبب حتى يقام إنكار ذي اليد مقام إنكار الغائب، فظهر أن البينة على البيع قامت على غير خصم.n

فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان على رجل بمال فطعن المشهود عليه أنهما عبدان لفلان، وادعى الشاهدان أن فلاناً أعتقهما وأقاما البينة قبلت بينتهما وقضي بعتقهما على الغائب، ولم يجر بين المشهود عليه وبين الغائب سبب حتى يقام إنكاره مقام إنكار الغائب، ومع هذا قضى بعتقهما وظهر ذلك في حق الغائب، حتى لو حضر لا يحتاج إلى إعادة البينة.

والفرق: أن في مسألة العتق المشهود عليه أصل في إنكار العتق، وليس بنائب عن المولى؛ لأن دعوى العتق على المولى دعوى على كافة الناس، ألا ترى أن كل واحد من آحاد الناس يصير مقضياً عليه بالعتق، بالقضاء على واحد من الناس فكان دعوى العتق على المولى ودعوى العتق على المشهود عليه من حيث الاعتبار على السواء، وأما دعوى الملك على ذي اليد فدعوى عليه خاصة، ألا ترى أن غير ذي اليد لا يصير مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد في الملك المطلق، وإنما يتعدى القضاء من ذي اليد إلى الغائب، إذا كان ذو اليد نائباً عن الغائب، وإنما ثبتت النيابة إذا جرى بينهما سبب، ولم يجر بينهما سبب ههنا، فلم يصر الغائب مقضياً عليه، فكان للذي حضر أن يأخذها من يد المدعي لإقرار له بذلك.
وقد ذكر في «الجامع» وفي «الأصل» ما يدعي على أن الغائب يصير مقضياً عليه في مسألتنا حتى لا يكون له أن يأخذ الدار من يد المدعي، فقد ذكر في «الجامع» :
رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها له اشتراها من عبد الله بألف درهم ونقده الثمن، وقال ذو اليد: أودعنيها عبد الله، فإنه تندفع عنه الخصومة، ولكن للمدعي أن يحلفه بالله لقد أودعك عبد الله، فإن قال حين حلفه: ما أودعنيها عبد الله ولكن غصبتها منه وحلف على ذلك، فإن القاضي لا يلتفت إلى مقالته للتناقض بين كلاميه، ويجعله خصماً ويقضي بالدار للمدعي على ذي اليد، فإن قضى بذلك ثم قدم عبد الله وادعى أن الدار داره أودعها من ذي اليد، وأراد أن يأخذها من المدعي حتى يعيد المدعي البينة عليه ليس له ذلك؛ لأن القاضي لما جعل ذا اليد خصماً، وأنزله منكراً حكماً وقضى بالشراء عليه انتصب خصماً عن الغائب، فصار كما لو أقام البينة عليه حقيقة فنفذ القضاء عليه، فكذا ههنا ذو اليد خصم له حتى سمعت البينة عليه، وقضى بالملك والبيع عليهما، فانتصب خصماً عن الغائب ضرورة، فصار كما لو أقيم البينة عليه حقيقة.
وهكذا ذكر في دعوة «الأصل» إلا أن ثمة وضع المسألة فيما إذا شهدوا بقبض الثمن وذلك يصير رواية فيما إذا لم يشهدوا بقبض الثمن، إذ المعنى يجمعهما، فإن كان في المسألة اختلاف الروايتين ووجهه ما ذكرنا، وإن كان اختلاف الجواب لاختلاف

(8/365)


الموضوع فإن موضوع مسألة «الجامع» و «الأصل» : أن الشهود شهدوا بقبض الثمن، وموضوع مسألة الأقضية أن الشهود لم يشهدوا بقبض الثمن.

فوجه الفرق أن البيع قبل قبض المبيع وتسليم الثمن قائم حكماً لبقاء أحكامه، فلا بد من القضاء به، وذو اليد لا يصلح خصماً في العقد عن الغائب لما قلنا، فيتعذر القضاء بالبيع فلا يقضى به، فأما بعد قبض الثمن وتسليم المبيع البيع قد انتهى نهايته، فكان هذا دعوى الملك فحسب، وذو اليد خصم فيه، فصلح القضاء عليه بالملك من كل وجه، ومن ضرورته صيرورة الغائب مقضياً عليه؛ لأن المدعي يدعي الملك من جهته.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل تزوج امرأة على مهر مسمى ثم إن هذا الرجل شهد مع رجل آخر أنها أمة هذا الرجل والرجل يدعيها، فهذه المسألة على وجهين:

إما أن يقول المدعي أمرتها بالتزوج أو يقول: ما أمرتها بالتزوج، فإن قال: لم آمرها بالتزوج فالقاضي لا يقبل، أما إذا لم يكن دخل بها؛ فلأنه يشهد ببطلان نكاحها، وأن لا مهر لها عليه إن لم يدفع لها المهر، وبثبوت الرجوع لنفسه عليها إن دفع إليها المهر، أما إذا دخل بها؛ فلأنه يريد تحويل ما وجب عليه لها بحكم الدخول إلى غيرها، وهو المولى إن لم يكن دفع إليها ذلك، وإن كان دفع إليها ذلك فلأنه يثبت لنفسه حق الرجوع عليها بعد العتق بما قبضت، وإن قال: أمرتها بالتزوج لا أقبل شهادة الزوج أيضاً لما قلنا، وإن كان الرجل المشهود له قال: قد كنت أمرتها بالتزوج وأذنت لها في قبض المهر فإن كان الزوج لم يدفع إليها المهر لا تقبل شهادته، وإن كان الزوج قد دفع إليها المهر قبلت شهادتهما؛ لأنه إذا ثبت الإذن لها بقبض المهر فقد برء الزوج عن المهر بالدفع إليها ولم يبق لها عليه شيء حتى يحوله إلى غيرها، ولا يثبت لنفسه حق الرجوع عليها أيضاً؛ لأنه استفاد البراءة فالمولى لا يرجع عليه حتى يرجع هو عليها بما دفع إليها.
قالوا: وهذا إذا كان تزوجها على مهر مثلها أو أكثر، فإن خطب عن مهر مثلها بما يتغابن الناس فيه كانت مخالفة لأمره ولا يصلح النكاح، فينبغي أن لا تقبل الشهادة؛ لأنه بهذه الشهادة يريد إبطال عقد باشره وإسقاط المهر عن نفسه إن لم يدخل بها وتحويل ما وجب عليه بحكم الدخول بها إلى غيرها إن لم يكن دفع المهر إليها أو إثبات حق الرجوع لنفسه دفع إليها إن كان دفع المهر إليها، ثم هذا الذي ذكرنا يحتمل أنه قول أبي يوسف ومحمد لا قول أبي حنيفة بناء على مسألة الوكيل بالنكاح، فإن الوكيل بالنكاح عند أبي حنيفة رحمه الله يملك النكاح بأي مهر شاء، وعندهما تنفيذ التوكيل بمهر المثل.
وإن كان هذا قول الكل يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين أمر المولى عبده أو أمته بالتزوج وبين أمره أجنبياً.

والفرق: أن عند أبي حنيفة رحمه الله تصرف المأمور بغبن فاحش إنما ينفذ على الأمر إذا انتفت التهمة، أما إذا لم تنتفِ فلا، ألا ترى أن الوكيل بالشراء لا يتحمل منه الغبن الفاحش لما كان متهماً.
إذا ثبت هذا فقبول التهمة في حق الوكيل بالنكاح منتفية؛ لأنه لا يرجع إليه بشيء

(8/366)


من منافع العقد ليتحمل العين لتحصيل منفعة تعود إليه، أما العبد والأمة فهما متهمان في حق أنفسهما؛ لأن منافع النكاح تعود إليهما، فلعل أنهما تحملا العين لتحصيل نفع يعود إليهما، فلا يصح نكاح كل واحد منهما على هذا الوجه.
وفي «المنتقى» : رجل شهد مع آخر على امرأته أنها أقرت أنها آمة هذا المدعي وهي مجهولة النسب، والزوج يصدقها في إقرارها أو يكذبها وقد دخل بها أو لم يدخل بها، والمدعي يجز النكاح (128ب4) أو يقول لا آمره، فإن الشهادة في جميع ذلك جائزة كان الزوج نقد المهر أو لم ينقد، وليس للمولى أن يفرق بينهما إلا إذا صدق الزوج المرأة في الإقرار، وله أن ينقض النكاح في هذا الوجه، وله في هذا الوجه أن يضمن الزوج إن كان قد دخل بها، ولا يرجع على المرأة بما أعطاها.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في عبد مأذون له في التجارة، عليه دين شهد رجلان من غرماء العبد أن مولاه أعتقه والمولى ينكر، فالمسألة على وجهين: إما أن يختار الشاهدان اتباع المولى بتضمينهما القيمة إياها، أو يختاران استسعاء العبد، وهذا لأن قبل الإعتاق للغرماء حق بيع العبد في ديونهم أو حق استسعاء العبد، والمولى بالإعتاق أبطل محلية أحد الحقين، وهو البيع دون الاستسعاء فإن شاءا ضمنا المولى لإتلافه محلية وهو أخذ حقهم، وإن شاءا استسعى العبد لبقاء محلية الاستسعاء، فإن اختار التضمين فلا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شاهدان لأنفسهما بإثبات حق التضمين، فلا تقبل شهادتهما، وإن أبرأاه عن القيمة واختارا إتباع العبد المعتق بدينهما قبلت شهادتهما؛ لأن التهمة منتفية، فإنهما لا يستفيدان بهذه الشهادة ما لم يكن لهما قبل ذلك، فإن حق لاستسعاء قبل ذلك ثابت لهما كما هو ثابت بعد الإعتاق، فقبلت شهادتهما.
قال: ولو شهد رجلان أن هذا أعتق عبده فجنى العبد على أحدهما ففقأ عينه والمولى ينكر العتق، فلا شيء للمجني عليه فلا تقبل شهادتهما، أما لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن المجني عليه يريد إلزام القصص عليه بهذه الشهادة؛ لأن قبل العتق كان لا يجري القصاص؛ لأن القصاص لا يجري في أطراف العبد؛ لأنه يسلك بها مسلك الأموال، والقصاص لا يجري في المال، فكان شاهداً لنفسه من حيث إثبات القصاص لنفسه، فلا تقبل شهادته ولا يثبت العتق ولا شيء للمجني عليه، وإن كانت جناية العبد فيما دون النفس موجباً للمال على مولاه حتى خوطب بالدفع أو الفداء أو قد أقر المولى بلزوم هذا الحق على نفسه، ولكن لم يثبت حكم إقراره لتكذيب المجني عليه إياه؛ لأنه زعم أن الجاني جنى، وأن عليه القصاص ولا شيء على المولى بسبب هذه الجناية، والمقر له إذا أكذب المقر لا يبقى لإقراره غيره، فما ادعاه لم يثبت لعدم الحجة، وما أقر به المولى لم يثبت؛ لتكذيب المجني عليه، فلهذا لا شيء عليه.

وفي «نوادر ابن سماعة» قال: قلت لمحمد رحمه الله: أرأيت شركاء في أرض اقتسموها فصار في يد كل واحد منهم حق معلوم، وادعى رجل من غير أهل هذه الأرض قطعة منها وقعت في نصيب واحد منهم، فشهد أهل المقاسمة أن الذي وقعت تلك

(8/367)


الأرض في يده أقر بهذه الأرض للمدعي، قال: الشهادة باطلة؛ لأنه يجد بها إلى نفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً؛ لأنه يريد بهذه الشهادة سد طريق الرد عليه بأسباب الرد والفسخ كالعيب ونحوه، وصار هذا كرجل باع من آخر جارية بثمن معلوم وتقابضا، فادعى الجارية رجل فشهد البائع مع آخر أن المشتري أقر أن هذه الجارية لفلان المدعي هذا لا تقبل شهادة البائع؛ لأنه متهم في هذه الشهادة، لأنه يريد بشهادته أن يسد طريق الرد عليه حتى لا يملك ردها وإن وجد عيناً بهذا كذا ههنا.
وإنما قلنا: إنه يسد عليه طريق الرد؛ لأن الإقرار حجة على المقر خاصة دون من سواه، ففي حق البائع في المسألة الثانية وشركائه في المقاسمة في المسألة الأولى، كأنه ملكها من المدعي بسبب مبتدأ، ولو كان كذلك كان لا يقدر على الرد بالعيب، ولا الرجوع بنقصان العيب؛ لأن ذلك الملك الذي استفاده بالبيع قد زال فيثبت أنه يجر بشهادته مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً فلا تقبل شهادته.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: إن ادعى جار لهم حقاً في يد الأقضى، فشهد شركاء المدعي أن هذا حدهم الذين اقتسموا عليه، وأن ما وراءه للمدعي والمدعي يدعيه، أو قالوا: نشهد أن هذه الأرض للمدعي والمدعي يدعيه، والمدعى عليه ينكر ذلك ويقول: إنما شهدوا به لينقصوا من حقي، فإن الشهادة جائزة؛ لأنه لا تهمة فيها، إذ ليس فيه جر منفعة ولا دفع مضرة بوجه ما، وكذلك ليس فيها سعي إلى نقص ما تم بهم؛ لأنهم يقولون: إن المشهود به مما لم يدخل تحت القسمة، وإن ما قاسموه عليه وراء ذلك، فهم عدول شهدوا لغيرهم، ولا تهمة في شهادتهم فقبلت شهادتهم.

قال ابن سماعة: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال في خمسة نفر بينهم دار وطعام، فشهد أربعة منهم على الخامس أن فلاناً غصب حصته من الدار والطعام وذلك غير مقسوم، فالشهادة باطلة، لأنهم يجرون إلى أنفسهم بذلك منفعة، لأنهم يريدون قطع ولاية طلب شريكهم القسمة فيه، وفي ذلك منفعة لهم.
بيانه: أنه إلى الآن كان للمشهود عليه أن يأخذهم بالمقاسمة، ولو ثبت غصب الغاصب تعذرت القسمة معه حتى يستخلصه من الغاصب؛ لأن القسمة نوع بيع، وإنه لا يجوز في المغصوب، ولأنه يريد أن يشاركهم فيما في أيديهم من غير أن يكون لهم مما في يده شيء، وإنه خلاف طريق المعادلة فلا يجوز. وهذه المسألة دليل على أن غصب المشاع متصور، بخلاف ما يقول بعض المشايخ.

قال ابن سماعة: سمعت محمداً قال في قوم لهم أرضون على نهر بينهم، فباع رجل أرضه في أسفل الشرب بحقوقها وشربها، فشهد هذا البائع لبعض أهل النهر بزيادة في شرب بينهم وبين أهل أسفل الشرب. إنه لا يجوز شهادته؛ لأنه لما ذكر الشرب في البيع

(8/368)


صار مبيعاً حتى قابله الثمن، نص عليه في كتاب الشرب، فإنه ذكر فيه:
إذا شهد شاهدان على أنه باع منه هذه الأرض بألف درهم، وذكر أحدهما شربها ولم يذكر الآخر لا تجوز هذه الشهادة، لأنهما اختلفا في الثمن من حيث الحقيقة، لأن من شهد أنه باعه بشربها، فقد شهد أن بعض الألف بمقابلة الشرب، والباقي بالأرض، والآخر يشهد أن جميع الألف بمقابلة الأرض، والاختلاف بين الشاهدين في الثمن يمنع قبول شهادتهما على البيع، فثبت أن الشرب مبيع، فإذا شهد بزيادة شرب لهم فقد شهد لنفسه بشيء من ذلك أولاً ثم بمشربه بحكم الشراء منه، فلا تقبل شهادته.
ولا تقبل شهادة الصبيان على الجراحات وتمزيق الثياب بينهم في الملاعب، وكذلك شهادة النساء على الجراحات في الحمامات لا تقبل.

رجل في يديه شاة مر به رجل فقال الذي في يديه الشاة للمار: اذبح هذه الشاة فذبحها، فجاءه رجل وادعى أنها شاته اغتصبها منه الذي كانت في يديه، وأقام على ذلك شاهدين، أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح، علل فقال: لأنه دفع عن نفسه مغرماً، طعن عيسى في هذا فقال: يجب أن تقبل شهادته؛ لأنه جر إلى نفسه مغرماً؛ لأنه لما استحقها المدعي ظهر أن الآمر كان غاصباً، وأن الذابح ذبح شاة الغير بغير إذن ذلك الغير، وذبح شاة الغير بغير إذنه سبب الضمان، فعلم أنه جار إلى نفسه بهذه الشهادة مغرماً.
والجواب: لا بل هو دافع مغرماً عن نفسه بهذه الشهادة؛ لأنا لو لم نقبل شهادته يجب الضمان عليه خاصة؛ لأنه يجب بحكم إقراره أن الملك للمدعي، وأن الآمر كان غاصباً وإقراره حجة في حقه، وليس بحجة في حق غيره، وإذا قبلنا الشهادة يظهر ملك المدعي، وكون الآمر غاصباً في حق الكل، ويتخير المدعي بين تضمين الآمر وبين تضمين الذابح، وإذا ضمن الذابح كان له الرجوع على الآمر، فكان دافع مغرم من هذا الوجه، فلهذا لا تقبل شهادته.
وإذا شهد الوصي بالدين، إن شهد بالدين للميت على غيره لا يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه حق القبض والاستيفاء فيصير شاهداً لنفسه، وإن شهد على الميت بالدين تقبل لأنه يطالب به، فيصير شاهداً على نفسه لا لنفسه فيقبل، قال: إلا أن يكون قضى الدين أولاً من التركة ثم شهد بعد ذلك فحينئذ تقبل شهادته، لأنه يقصد به إسقاط الضمان عن نفسه، فيكون شاهداً لنفسه، وإن شهد لبعض ورثة الميت على الميت أو على أجنبي أو على بعض الورثة بدين، فإن كان المشهود له صغيراً لا تقبل، لأنه يثبت حق القبض والاستيفاء لنفسه، فيصير شاهداً لنفسه، وإن كان المشهود له كبيراً، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الشهادة مقبولة ولم يذكر فيه خلافاً، وذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل، وعلى قولهما: تقبل، وأحال المسألة إلى كتاب الوصايا.

(8/369)