المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثامن عشر: في ترجيح إحدى البينتين على الأخرى والعمل بالبينتين المضادتين
بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجلان شهدا على رجل أنه وكل فلاناً ببيع هذا الشيء وشهد آخران على الوكيل ببيعه ووقتوا أو لم يوقتوا، فالبيع باطل إلا أن يوقت بينة البيع وقتاً بعد وقت الوكالة، فلو أن الموكل أخرج الوكيل من الوكالة وهو حاضر بشهادة شهود، فشهد شاهدان عليه بالبيع، وقد وقت بينة العزل وبينة البيع أو لم يوقتوا، فالإخراج عن الوكالة أولى في جميع ذلك، والبيع باطل إلا أن يكون وقت البيع قبل وقت الإخراج من الوكالة (144ب4) وكذلك هذا في التوكيل بالطلاق والعتاق، وهذا كله قياس الشهادة على البراءة والشهادة على الدين، فإن الشهادة على الإبراء أولى ما لم يوقتا للدين وقتاً بعد البراءة.
ولو شهد شاهدان على النكاح وشاهدان على الطلاق فالطلاق لازم للزوج؛ لأنه إقرار من الزوج بالنكاح إلا أن يوقتوا للطلاق وقتاً قبل النكاح، فلا يجوز الطلاق، وكذلك العتاق في هذا مثل الطلاق، ما خلا خصلة واحدة: أن يكون بإقرار من المشتري

(8/455)


بعتاق الأصل فهذا يعتق، وإن كان قبل الشراء.
رجل مات فشهد شاهدان أن هذا كان أعتق أعبده، أو شهدا أنه كان طلق امرأته ثلاثاً، لا يدرى أنه كان ذلك في صحة أو مرض وقد وقتوا أو لم يوقتوا فهذا على المرض في جميع ذلك، حتى (ولو) شهدا أنه كان في الصحة.
شهد شاهدان على وكالة في بيع، وشهدا على البيع وأغفل القاضي أن يسألهما بعد الوكالة كان البيع أو قبلها حتى مات الشاهدان، أو شهدا على الوكالة بطلاق أو عتاق فشهدا بالطلاق والعتاق وماتا قبل السؤال، فهذا والباب الأول سواء في القياس، لكن أستحسن في هذا أن أجيز الطلاق والعتاق والبيع، ولو شهدا أنه جعل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها، وأغفل القاضي أن يسألهما في ذلك المجلس أو بعدما قامت من المجلس فإن هذا لا يجوز الطلاق فيه ولا نسبة الوكالة.

ابن سماعة: عن أبي يوسف امرأة ادعت بعد وفاة زوجها مهراً ألف درهم وذلك مهر مثلها وقالت الورثة: نحن علمنا أن أبانا تزوجها ولا ندري ما فرض لها، وحلفوا بالله ما يعلمون مهرها، فإني أجعل لها الصداق عشرة دراهم، وهذه الرواية تشهد لما قاله بعض مشايخنا من تفسير المستنكر حداً على قول أبي يوسف رحمه الله: إن المراد منه أن يدعي الزوج أو ورثته أقل من عشرة دراهم.
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل ادعى على رجل ألف درهم ومئة دينار، فكانت الألف بصك وقد كتب عليه وكتب أنه لا شيء عليه غيرها، وكانت المئة دينار بصك قد كتب عليه وكتب له لا شيء عليه غيرها، والوقت واحد أو لا وقت فيهما فالمال كله لازم، قال: ألا ترى أنه لو قال: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليك غير ذلك، ولي عليه مئة دينار ولا مال لي عليه غير ذلك، وجعل على ذلك بينة إني أقبل البينة وألزمه المال كذا ههنا.

وذكر عن المعلى قال: سألت محمداً عن رجل ادعى على رجل ألف درهم في صك، ومئة دينار في صك، وفي كل واحد من الصكين: فهو جميع مالي عليه، وأقام بينة على كل واحد من الصكين، قال: عليه أحد المالين يعطيه أيهما شاء، وروى هشام عنه: أنه لا يلزمه شيء من ذلك والله أعلم.

الفصل التاسع عشر: في شاهدي الزور
اتفق العلماء على أن شاهد الزور يعزر، لأنه ارتكب كبيرة، قال عليه السلام «عودلت شهادة الزور بالشرك بالله» ثم قرأ قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان

(8/456)


واجتنبوا قول الزور} (الحج: 30) وليس فيها حد مقدر شرعاً وهذا ظاهر فكل من ارتكب كبيرة ليس فيها حد مقدر يعزر، غير أن أصحابنا رحمهم الله اختلفوا في تعزيره.

قال أبو حنيفة رحمه الله في المشهور: يطاف به ويشهر ولا يضرب، فإن كان سوقياً يبعث به القاضي إلى أهل سوقه وقت الضحوة أجمع ما كانوا، وإن لم يكن سوقياً يبعث به إلى محلته أجمع ما كانوا، ويقول أمين القاضي: إن القاضي يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهداً للزور فاحذروه وحذروه الناس.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يعزر بالضرب ولا يبلغ به أربعين سوطاً، ثم رجع أبو يوسف وقال: يبلغ خمسة وسبعين، حجتهما في ذلك: أنا أجمعنا على أن التعزير في سائر المعاصي بالضرب فكذلك هذا.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إنما أقدم على الشهادة ليحصل له ماء الوجه عند الناس، وبالتشهير يذهب ماء وجهه، فكان هذا تعزيراً لائقاً لجريمته فكان أولى. وروى أبو يوسف ومحمد رحمهما الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضرب ثم يطاف به ويشهر.
وذكر الخصاف في كتابه: أنه يشهر على قولهما بعد الضرب أيضاً والكلام في مقدار الضرب في التعزير عرف في كتاب الحدود، ولا يسخم وجهه أي: لا يسود، يروى هذا اللفظ بالخاء والحاء جميعاً، فالذي روي عن عمر رضي الله عنه في «شاهد الزور يسخم وجهه» فتأويله عند شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: ذلك بطريق السياسة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، وتأويله عند شيخ الإسلام: أنه لم يرد به حقيقة التسويد إنما أراد به التخجيل بالتفضيح والتشهير، فإن الخجل سمي سوداً، قال الله تعالى: {إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} (النحل: 58) .

وإنما لم ير أصحابنا رحمهم الله تسخيم وجهه لأن المقصود من تعزيره شيئان: أحدهما: امتناعه عن شهادة الزور في المستقبل، والثاني: أن يعرفه الناس أنه شاهد زور فيحذروه، وإذا سخم وجهه لا يعرف فلا يحذروه فلا يحصل المقصود، قال صاحب «الأقضية» : وشاهد الزور عندنا المقر على نفسه بذلك، فيقول: كذبت فيما شهدت متعمداً، ويشهد بقتل رجل أو بموته، فيجيء المشهود بقتله وموته حياً، فأما من ردت شهادته لتهمة أو لدفع مضرة عن نفسه أو لجر منفعة إلى نفسه، أو لمخافة وقعت بين الشاهدين فليس شاهد زور.

ثم ذكر في الشاهدين إذا اختلفا في الموطن الذي شهدا بالفعل فيه أو اختلفا في الفعل نفسه أو في الإنسان والإقرار في الفعل، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تعزير عليه ولا ضرب؛ لأنه لا يعرف الصادق من الكاذب، ولا يجوز إيجاب العقوبة مع الاحتمال.
وإذا رجع شاهد الزور عن صنعه فتاب، هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ فلا ذكر لهذه

(8/457)


المسألة في شيء من الكتب، وحكي عن الفقيه أبي بكر محمد بن أحمد الحجراني رحمه الله أنه قال: إن كان فاسقاً يعلن الفسق لا تقبل شهادته بعد ذلك، وإن لم يكن معلناً تقبل شهادته. وفي «الحاوي» عن أبي يوسف رحمه الله مثل هذا، والمذكور في «الحاوي» شاهد هو عدل بين الناس ممن تجوز شهادته، فشهد بزور لا تقبل شهادته بعد ذلك؛ لأنه لا يعرف له توبة، وإن لم يكن عدلاً فشهد بزور تقبل شهادته والله أعلم.

الفصل العشرون: في الدعوى إذا خالف الشهادة
إذا ادعى على آخر مئة أقفزه حنطة بسبب سلم مستجمعاً شرائطه، وشهد الشهود أن المدعى عليه أقر أن له عليه مئة أقفزة حنطة ولم يزيدوا على هذا، فقد قيل: لا تقبل شهادتهم، لأن الشهود لم يذكروا إقراره بسبب السلم، ودين السلم بخلاف سائر الديون حتى لا يجوز الاستبدال بدين السلم قبل القبض، ويجوز الاستبدال بسائر الديون، وقيل: ينبغي أن تقبل شهادتهم، لأن هذا اختلاف في سبب الدين، إنما لا يمنع قبول الشهادة إذا لم يختلف الدين باختلاف السبب، ودين السلم مع دين آخر يختلفان إن كانت الدعوى بلفظ مرابحة والشهود شهدوا بلفظ التسبب.
حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله: أن الشهادة لا تقبل لأنهما غيرا فيما شهد به الشهود لم يدخل تحت الدعوى، وقيل: ينبغي أن يقبل في عرفنا وهو الأشبه والأظهر؛ لأن في عرفنا البيت والدار واحد، يقال: خانة فلان كما يقال: سراي فلان.
وإذا ادعى ملكاً بسبب حق الشراء من رجل آخر والإرث عن أبيه أو ما أشبه ذلك، وأقام البينة على الملك المطلق لا تقبل بينته لوجهين:
أحدهما: أن الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي، لأن المدعي ادعى الملك بسبب حادث يكون حادثاً ضرورة، والشهود شهدوا بملك قديم؛ لأنهم شهدوا بالملك المطلق والملك المطلق قديم، ولهذا قلنا: إن في دعوى الملك يستحق العين بالزوائد المتصلة والمنفصلة جميعاً، ويرجع الباعة بعضهم على البعض، ولا شك أن الملك القديم أكثر من الملك الحادث، والشهود إذا شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي لا تقبل شهادتهم، لأن المدعي يصير مكذباً شهوده في بعض ما شهدوا به وهو الزيادة على ما ادعى، وتكذيب المدعي شهوده في بعض ما شهدوا به يمنع قبول الشهادة.
الوجه الثاني: ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لما ادعى أنه

(8/458)


اشتراها من فلان وهو يملكها فقد أقر بالملك لفلان إما صريحاً أو بمقتضى الإقدام على الشراء، فإن كل مشتر مقر بالملك في المشترى للمشتري وقت البيع، ثم يدعي الانتقال إليه، ولم يثبت الشراء ههنا؛ لأن الشهود لم يشهدوا به، وهذا إذا ادعى الشراء من رجل معروف.
فأما إذا ادعى الشراء من رجل مجهول ثم أقام البينة على الملك المطلق تقبل شهادتهم؛ لأن أكثر ما فيه أنه صار مقراً بالملك لبائعه إلا أن هذا الإقرار منه لم يصح، لأنه أقر بالملك للمجهول والإقرار للمجهول باطل، فصار كأنه لم يقر له بالملك ولم يدع الشراء منه أصلاً، وهناك تقبل منه البينة على الكلام المطلق كذا ههنا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء من رجل معروف؛ لأن هناك الإقرار للبائع بالملك صح لكونه إقراراً للمعلوم، ثم ادعى الانتقال إلى نفسه بالشراء ولم يثبت بالشراء إذ الشهود لم يشهدوا به، فلو كان المدعي ادعى الملك لنفسه مطلقاً، وشهد الشهود له بالسبب فالقاضي يقبل شهادتهم.

أما على المعنى الأول: فلأن الشهود شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي؛ لأنهم شهدوا بملك حادث والمدعي ادعى ملكا قديماً، والشاهد إذا شهد (145أ4) بأقل ما ادعى المدعي تقبل شهادته.
يوضيح الفرق بينهما: أن الملك القديم يجوز أن يصير ملكاً حادثا؛ لأن المملوك أول من أمس يجوز أن يصير مملوكاً أمس ملكاً حادثاً بسبب حادث، بأن يبعيه ثم يشتريه، فالتوفيق بين الدعوى والشهادة ممكن فتقبل الشهادة، أما الملك الحادث فلا يجوز أن يصير ملكاً قديماً؛ لأن المملوك أمس لا يتصور أن يصير مملوكاً من أمس، فالتوفيق بين الدعوى والشهادة غير ممكن فلا تقبل الشهادة.

وأما المعنى الثاني: فلأنه ما أقر بالملك لغيره، إنما ادعى الملك لنفسه ملكاً مطلقاً، والشهود شهدوا له بالملك إلا أنهم زادوا في الشهادة سبب الملك، وزيادة سبب الملك في الشهادة لا توجب خللاً في الشهادة، لأنا نعلم أنه لابد للملك من سبب فقد بينوا ما هو معلوم من غير شهادتهم، فلا يوجب خللاً في شهادتهم.
ثم إذا ادعى الملك مطلقاً والشهود شهدوا بالملك بسبب، ينبغي للقاضي أن يسأل المدعي: أتدعى الملك بهذا السبب الذي شهد به الشهود أو تدعيه بسبب آخر؟ إن قال: أدعيه بهذا السبب فالقاضي يقبل شهادة شهوده ويقضي له بالملك.
ولو ادعى الشراء مع القبض وشهد له الشهود بالملك المطلق ففيه اختلاف المشايخ: بعضهم قالوا: تقبل الشهادة؛ لأن دعوى الشراء مع القبض ليس دعوى الشراء من حيث المعنى، بل هو دعوى الملك المطلق، ألا ترى أنه لو كان هذه الدعوى من جهة البائع كان دعوى الثمن لا دعوى البيع، حتى لا يشترط لصحة هذه الدعوى إعلام المبيع حتى إن من قال لغيره: بعت منك عبداً بكذا وسلمته إليك، صح دعواه وإن كان العبد مجهولاً، فكذا من جانب المشتري يكون دعوى الملك المطلق، ولما كان دعوى الشراء

(8/459)


مع القبض دعوى الملك المطلق صار كأنه ادعى ملكاً مطلقاً وشهد له الشهود كذلك.
وبعضهم قال: لا تقبل الشهادة؛ لأن دعوى الشراء معتبر في نفسه في هذه الصورة، ولم يصر بمنزلة دعوى الملك المطلق، ألا ترى أنه لا يقضى للمدعي في هذه الصورة بالزوائد.
ولو ادعى الملك بالنتاج وشهد له الشهود بالملك بسبب من جهة صاحب اليد أو من جهة غيره، لا تقبل الشهادة، بخلاف ما إذا ادعى الملك مطلقاً وشهد له الشهود بالسبب، حيث تقبل، والفرق أن دعوى النتاج على دعوى اليد لا يحتمل دعوى ملك حادث من جهته، أو من جهة غيره إذ لا يتصور التملك بالنتاج من جهة غيره، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذا ملكي بالنتاج من جهة ذي اليد أو من جهة فلان، ولما كان هكذا، فإذا شهد له الشهود بالملك بسبب من جهة ذي اليد أو من غيره فقد شهدوا بما لم يدخل تحت دعوى المدعي فلا تقبل شهادتهم، فأما دعوى الملك المطلق على ذي اليد فيحتمل دعوى ملك حادث من جهة ذي اليد أو من غيره، ألا ترى أنه لو قال هذا الشيء لي بالشراء من فلان أو من ذي اليد كان صحيحاً، ولهذا ترجح بينة الخارج على بينة ذي اليد، ولما كان هكذا، فإذا شهد له الشهود بالملك بسبب من جهة ذي اليد فقد شهدوا بما صلح داخلاً تحت دعوى الملك، فلا تثبت المخالفة بين الدعوى والشهادة.

وسئل شيخ الإسلام أبو الحسن السغدي رحمه الله: عمن ادعى عيناً في يدي إنسان ملكاً مطلقاً، وشهد له الشهود أنه ملكه بسبب أنه ورثه من أبيه، قال: لا تقبل الشهادة، فقيل له: إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» وفي «الجامع» أن من ادعى ملكاً مطلقاً وشهد الشهود له بالسبب أن الشهادة مقبولة، قال: هذا هكذا في موضع صحت الشهادة على السبب، والشهادة على السبب ههنا لم تصح، لأنهم شهدوا بالميراث ولم يجروا الميراث، ولكن هذا ليس بصواب، فإن قولهم: ورثه من أبيه، كاف لإثبات الملك بسبب الميراث كقولهم: اشتراه من فلان، وهو معنى جر الميراث، فكانت الشهادة على السبب صحيحة فيجب قبولها.

ولو ادعى ديناً بسبب نحو القرض أو ما أشبهه، وشهد له الشهود بالدين المطلق، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يقول: لا تقبل شهادته، كما في العين إذا ادعى الملك فيه بسبب، وشهد الشهود له بالملك مطلقاً، وفي كتاب «الأقضية» مسألتان تدلان على القبول.
وإذا ادعى على امرأة أنها منكوحة ولم يدع الزوج، فشهد له الشهود على أنه تزوجها، أو ادعى على امرأة أنه تزوجها، وشهد له الشهود أنها منكوحة قبلت الشهادة، لأن النكاح سبب متعين لصيرورة المرأة منكوحة، فكان ذكره وترك ذكره سواء.
وإذا ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكه، وأن صاحب اليد قبضه مني بغير حق منذ شهر، وشهد له الشهود بالقبض مطلقاً لا تقبل الشهادة، واختلفت عبارة المشايخ في ذلك، قال بعضهم: لأن شهادتهم على القبض مطلقاً من غير ذكر تاريخ محمولة على

(8/460)


الحال، فالمدعي ادعى الفعل في زمان ماض، والشهود شهدوا على الفعل في الحال، والفعل في الزمان الماضي غير الفعل في الحال، فهو نظير ما لو ادعى على غيره الفعل منذ شهر، وشهد الشهود له بالفعل في الحال، وقال بعضهم: المطلق أكبر وأقوى من المؤرخ، والشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي.
وكذلك إذا ادعى المدعي القبض مطلقاً وشهد له الشهود بالقبض منذ سنة، لأنه ادعى الفعل في الحال والشهود شهدوا له بالفعل في الماضي، فلا تقبل شهادتهم، إلا إذا وفق المدعي وقال: أردت بالمطلق القبض من ذلك الوقت الذي شهد به الشهود فحينئذ تقبل، وقيل: تقبل الشهادة في هذا الوجه من غير توفيق المدعي؛ لأن المطلق أكبر وأقوى من المؤرخ فقد شهد الشهود بأقل مما ادعاه المدعي فيقبل.
وإذا ادعى عيناً في يدي رجل وقال: هي لي منذ سنة، وشهد الشهود أنها له منذ عشر سنين، لا تقبل شهادتهم، ولو قال: هي لي منذ عشر سنين وشهد الشهود أنها له منذ سنة تقبل شهادتهم، لأن في الوجه الأول الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي، وفي الوجه الثاني شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي.
وإذا ادعى الملك بسبب الشراء منذ سنة وشهد الشهود له بالشراء من غير تاريخ، فقد قيل: لا تقبل لأن المطلق أقوى من المؤرخ، وقد قيل: تقبل لأن الشراء حادث فإذا لم يذكر الشهود له تاريخاً يحمل على الشراء للحال، فقد شهد الشهود بأقل مما ادعاه المدعي.
ولو كان المدعي ادعى الملك بسبب الشراء مطلقاً، ولم يذكر التاريخ في الشراء، والشهود شهدوا بتاريخ سنة أو ما أشبه ذل، فقد قيل: لا تقبل؛ لأن دعوى المدعي محمول على الحال إذا لم يذكر للشراء تاريخاً، وإذا حمل على الحال ظهر أن الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي وقيل: تقبل لأن المطلق أقوى من المؤرخ، فقد شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي فتقبل.
وفي «الجامع الكبير» قال محمد رحمه الله: رجل في يديه عبد ذكر أنه عبده ورثه من أبيه، فادعى رجل آخر أنه عبده، وجاء بشاهدين شهدا على إقرار صاحب اليد أنه عبد المدعي، قبلت الشهادة وقضي بالعبد للمدعي، اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً.
وإذا ادعى على رجل خمسمئة وشهد له الشهود بألف درهم، لا تقبل شهادتهم؛ لأنه صار مكذباً شهوده فيما زاد على الخمسمئة إلا أن يوفق فقال: كان له عليه ألف درهم كما شهد به الشهود إلا أنه قضى خمسمئة، أو قال: أبرأته عن خمسمئة ولم يعلم الشهود بذلك، فإذا وفق على هذا الوجه تقبل الشهادة ويقضي له بالخمسمئة لزوال التكذيب، ولا يحتاج إلى إقامة البينة على التوفيق؛ لأن التوفيق بدعوى الإبراء أو القضاء وكل ذلك يثبت بإقرار المدعي؛ لأنه إقرار على نفسه، فلا يحتاج إلى إقامة البينة عليه.

وإذا ادعى الغريم على صاحب المال أنه أبرأه أو حلله، وجاء شهود شهدوا على

(8/461)


إقرار صاحب المال بالاستيفاء، فإن القاضي يسأل الغريم عن البراءة والتحليل، أكانت بالإسقاط أو بالاستيفاء، فإن قال: كانت بالاستيفاء قبلت الشهادة لوجود الموافقة بين الدعوى والشهادة، وإن قال: كان بالإسقاط لا تقبل لتحقق المخالفة.

وإن سكت ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه لا يجبر على البيان؛ لأن الإنسان لا يجبر على تحصيل حق نفسه، ولكن لا تقبل شهادته ما لم يوفق، فقد رجع في هذه المسألة في البيان إلى المدعي وفيما إذا ادعى الغريم الإيفاء وشهد له شاهدان أنه أبرأه أو حلله ذكر أنه تقبل شهادتهما ولم يقل: رجع في البيان الى الشاهدين إن البراءة كانت بالإيفاء أو بالاستيفاء.
والفرق: أن الشهادة إنما شرعت لتحقيق دعوى المدعي، فإذا وقع الدعوى في شيء معين، فشهدت الشهود بشهادة محتملة حملت الشهادة على وجه الموافقة، إذ الظاهر أن الشهود بشهادتهم المحتملة يريدون الجهة التي تكون الشهادة بها مؤكدة للدعوى دون الجهة الأخرى فبقيت جهة الموافقة بدلالة الحال، فلا حاجة إلى الرجوع في البيان إلى الشاهد، فأما الدعوى إذا كانت محتملة، فالشهود لا يقدرون على إزالة ذلك الاحتمال، فيكون البيان إلى المدعي، فإن بيّن قبل قوله وما لا فلا، وههنا كلمات تأتي بعد إن شاء الله تعالى.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : شاهدان شهدا على رجل لرجل بقرض ألف (145ب4) درهم، فشهد أحدهما أنه قضاها، وقال المدعي: لم يقضها فالشهادة على القرض جائزة ويقضي القاضي بالقرض على المدعى عليه. وروى الطحاوي عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا يقضي القاضي بالقرض، لأن الذي شهد بالقضاء لم يشهد بمال واجب.
وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن القضاء لا يتصور إلا بعد سابقة، فهما اتفقا على القرض والوجوب فثبت القرض والوجوب، ثم تفرد أحدهما بالقضاء ولم يثبت.
وفي «الأصل» : إذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم، فشهد أحدهما أنه قضى خمسمئة درهم منها وأنكر الطالب القبض، فإن شهادتهما بالألف جائزة، لاتفاقهما على ذلك، وشهادة الواحد بالقبض لا تقبل لتفرده بذلك، فإن قيل: أليس أن المدعي لما أنكر القضاء فقد أكذب أحد الشاهدين فوجب أن لا يقضى له بالألف كما لو شهد له أحد الشاهدين بمئة، والآخر بمئة وخمسين والمدعي يدعي المئة لم يقض له بشيء؛ لأنه كذب أحد شاهديه فكذا ههنا؟ قلنا: تكذيب المدعي شهوده إنما وجد فيما كان مشهوداً عليه؛ لأنه كذب أحدهما في القبض، وإنه في القبض مشهود عليه، وتكذيب المشهود عليه الشاهد لا يمنع قبول الشهادة، لأنه لو منع ما قبلت شهادة في الدنيا؛ لأن كل مشهود عليه يكذب شهوده، فإن قيل: تكذيب المشهود عليه إنما لا يمنع قبول الشهادة إذا شهد عليه ولم يشهد له، والشاهد يقبض بخمسمئة كما شهد عليه يشهد له، فإذا كذبه وفسقه فيما شهد عليه يجب أن لا تقبل شهادته فيما شهد له؛ لأنه فاسق عنده إلا أن يكذبه ويفسقه

(8/462)


فيما شهد عليه لم يعمل فوجب أن يعمل فيما شهد له والجواب: أن التكذيب فيما شهد له لو ثبت إنما يثبت مقتضى التكذيب فيما شهد عليه، وقد كذب شرعاً في حق التكذيب على ما عليه، على معنى أنه لم يعتبر تكذيبه فيما شهد عليه والمتكلم متى كذب في كلامه سقط اعتبار كلامه والتحق كلامه بالعدم، وإذا سقط اعتبار هذا التكذيب في حق ما عليه فكذا فيما له، أو تقول بعبارة أخرى: لم يعتبر تكذيبه فيما شهد عليه شرعاً؛ لأن تكذيب المشهود عليه الشاهد غير معتبر شرعاً، فلا يعتبر تكذيبه فيما ثبت مقتضاه وهو التكذيب فيما شهد له.b

ولهذا قلنا: لو شهد شاهدان على رجل لرجل بألف درهم وشهدا للمشهود عليه بمئة دينار قبلت شهادتهما، وإن كذبهما وفسقهما؛ لأنه صار مكذباً في هذا التكذيب شرعاً لما قضي عليه بالدراهم، كذا ههنا بخلاف ما أقررتم من المسألة؛ لأن بدعوى المئة صار مكذباً أحد شاهديه، ولم يكذب في هذا التكذيب شرعاً فلم يسقط اعتبار تكذيبه أما ههنا فبخلافه.

وفي آخر شهادات «المنتقى» : شهدا أن لهذا على هذا ألف درهم وقد أقضى منها مئة والطالب يقول: لم أقبض منها شيئاً، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: يقضي بالألف ويجعل مقضياً للمئة.
وفي «العيون» : إذا شهدا لرجلان على آخر بألف درهم وشهدا أنه قد قضاه خمسمئة وقال للطالب: لي عليه ألف وما قضاني شيئاً وشهودي صدقوا في الشهادة على الألف، وأوهموا في الشهادة على القضاء تقبل شهادتهما إن عدلاً ولو قال: شهادتهم بالألف حق وبالقضاء باطل وزور لا تقبل شهادتهما؛ لأنه نسبهما إلى الفسق.

ولو شهدا على رجل بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك وشهدا أيضاً للمدعى عليه على المدعي بمئة دينار والمدعي ينكر ذلك، قبلت شهادتهما وهي المسألة التي مرت على سبيل الاستشهاد، ثم يكذب المشهود له الشهود وتفسيقه إياهم قبل القضاء يمنع القضاء، وتكذيبه وتفسيقه بعد القضاء يوجب بطلان القضاء على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع» وحكي عن القاضي أبي علي النسفي رحمه الله أنه لا يوجب بطلان القضاء، قال: لأن الفاسق ربما يكون صادقاً ولهذا يصلح شاهداً عندنا، فعلى اعتبار أنه كان صادقاً لا يجوز إبطال القضاء على اعتبار أنه كان كاذباً يجوز، فلا يجوز إبطال القضاء بالشك، فظن بعض مشايخنا أن ما ذكر القاضي الإمام مخالف لإشارات «الجامع» وليس كذلك؛ لأن المراد من إشارات «الجامع» بفسق تبني عن تكذيب المشهود له وإنه يوجب بطلان القضاء، كما يمنع جوازه، وما قاله القاضي الإمام محمول على نفس التفسيق، بأن يقول المشهود له: إنهم أكلوا ربا أو شربوا الخمر، لا تفسيق ينبني عن التكذيب، ونفس التفسيق يمنع القضاء، أما لا يبطل القضاء والله أعلم.
نوع آخر: وإذا ادعى رجل جارية في يدي رجل وقال: هذه الجارية كانت لي وشهد الشهود أنها له هل تقبل هذه الشهادة؟ لا ذكر لهذه المسألة في الكتب، وقد اختلف

(8/463)


المشايخ فيه بعضهم قالوا: تقبل؛ لأن هذا الاختلاف لو وقع بين المدعي وبين الشاهدين على العكس، بأن ادعى المدعي أنها له وشهد الشهود أنها كانت له تقبل الشهادة فكذا ههنا، وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بين الشاهدين، بأن ادعى أنها له وشهد أحد الشاهدين أنها له، وشهد الآخر أنها كانت له لم يمنع قبول الشهادة، فكذا إذا وقع بين المدعي والشاهدين. ومنهم من قال: لا تقبل وهو الأصح؛ لأن دعوة المدعي إنما كانت له إقرار منه دلالة أنه لا ملك له في الحال إذ لا فائدة للمدعي في الإسناد مع قيام الملك له في الحال سوى نفي الملك في الحال، وهذا لأنه كما لا يعلم ثبوت ملكه يقيناً يعلم بقاء ملكه يقيناً، فيكون دعواه الملك فيما مضى نفياً للملك في الحال حتى يكون الإسناد مفيداً، بخلاف الشاهد؛ لأن إسناده لا يدل على النفي للحال، لأن له فائدة سوى النفي في الحال، وهو أن يشهد بما عاين من سبب الملك بيقين، ولا يشهد ببقاء الملك في الحال؛ لأن بقاء الملك في حقه للحال ثابت باستصحاب الحال، والشاهد قد يحترز عن الشهادة بما ثبت عنده من استصحاب الحال، وعلى قياس ما قالوا يجب أن لا تقبل الشهادة، وإن شهدا أنها كانت للمدعي؛ لأن إسناد المدعي دليل على نفي الملك في الحال، فلو نفى المدعي الملك للحال، وشهد شاهدان أنها كانت له لا تقبل الشهادة كذا ههنا.

وإذا شهد الشهود أن هذا العين كانت ملك المدعي والمدعي يدعي الملك في الحال تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم تثبت الملك في زمان الماضي، وما عرف ثبوته في زمان يحكم ببقائه ما لم يوجد المزيل، ولا يقال بأن شهادة الشهود بالملك في الماضي دليل على نفي الملك في الحال لأنا نقول: هذا ممنوع.

وبيانه ما ذكرنا: أن للشاهد في الإسناد فائدة أخرى سوى نفي الملك في الحال، ذكر المسألة في «الأقضية» .
في «أدب القاضي» للخصاف في باب دعوة الرجلين، وعلى هذا إذا ادعى المدعي عيناً ملكاً مطلقاً فشهد الشهود له بسبب الملك، بأن شهدوا أن المدعي ورثها من أبيه، ولم يتعرضوا للحال بأن لم يقولوا: هو ملكه للحال، تقبل الشهادة ويقضى بالعين للمدعي.
وكذلك إذا ادعى رجل نكاح امرأة بأن قال: هذه امرأتي أو قال: هذه منكوحتي والشهود شهدوا أنه كان زوجها، ولم يتعرضوا للحال بأن لم يقولوا: إنها منكوحته في الحال فالقاضي يقبل الشهادة، ولكن ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود في مسألة الإرث، والشراء هل يعلمون أنها أخرجت عن ملكه؟
ومما يتصل بهذا النوع: إذا ادعى رجل داراً في يد رجل وجاء بشاهدين شهدا أن هذه الدار كانت في يد هذا المدعي لا تقبل هذه الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء في ظاهر الرواية، وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله: أن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي هذه الدار في يد المدعي، ثم رآه بعد ذلك في

(8/464)


يد المدعى عليه، أو أقر المدعى عليه أن الدار كانت في يد هذا المدعي، أمره القاضي بالتسليم إلى المدعي كذا هنا، ولأن الشهود شهدوا بأخذ المدعي الدار من المدعي؛ لأنهم شهدوا أنها كانت في يد المدعي، وما كان في يد الإنسان لا يصير في يد غيره إلا بالأخذ منه، فصار الأخذ من المدعي مشهوداً به اقتضاءً، فيعتبر بما لو كان الأخذ مشهوداً به نصاً بأن قالوا: هذه الدار كانت في يد المدعي أخذها هذا منه وهناك يقضي بالدار للمدعي كذا ههنا.
وجه «ظاهر الرواية» : أن يد المدعى عليه على العين الذي وقع فيه النزاع ثابتة بيقين ولم تثبت ببينة المدعي ما يوجب نقضها، وهو الأخذ من المدعي لا بنصّ الشهادة وهذا ظاهر؛ لأن الشهود لم يشهدوا أن المدعى عليه أخذها من المدعي، ولم يثبت ذلك أيضاً، مقتضى ما شهدوا به من كونها في يده أمس؛ لأنه لم يثبت كونها في يده أمس بهذه الشهادة؛ لأن المشهود به لا يثبت إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يمكنه القضاء بكونها في يد المدعي؛ لأن كونه في يده محتمل أن يكون بحق بأن تكون يد ملك، ويحتمل أن تكون بغير حق بأن كان يد غصب فعلى أحد الاحتمالين يجوز القضاء، وعلى الاحتمال الآخر لا يجوز القضاء، فلا يجوز القضاء بالشك، ولأن قبول الشهادة على أمر (146أ4) في الماضي، باعتبار ما عرف ثبوته في الحال، والحكم ببقائه باعتبار استصحاب الحال، وذلك فيما لم يتيقن بزواله، وقد تيقن القاضي بزوال اليد ههنا، فإذا لم يقض القاضي بكونها في يده لم يثبت كونها في يده، فلا يثبت الأخذ منه.

وقوله بأن الأخذ مشهود به على حسب ما قرر. قلنا: إنما يكون الأخذ مشهوداً به، إذا ثبتت اليد فيما مضى ولم (تثبت) بهذه الشهادة؛ لأن اليد محتملة، ولا يجوز القضاء بما هو محتمل على ما مر، وإذا لم تثبت اليد للمدعي بهذه الشهادة كيف يثبت الأخذ منه؟ بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه أنها كانت في يد المدعي، لأن الإقرار حجة تلزمه بنفسه لا تتوقف على قضاء القاضي، فتثبت يد المدعي بنفس الإقرار، ويثبت الأخذ من المدعي، أما البينة فلا تصير حجة إلا بالقضاء، والقضاء باليد فيما مضى مع الاحتمال، فلا يثبت الأخذ منه، أو نقول: إقرار ذي اليد صدق في حقه من كل وجه غير محتمل من الصدق والكذب، فوجب القضاء بالإقرار لا محالة، وما ثبت بالإقرار فهو كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي إقرار المدعى عليه أنها كانت في يده أمس، يثبت أخذه من المدعي لا محالة، كذا ههنا.

وبخلاف ما إذا عاين القاضي كونه في يد المدعي أمس هناك ثابت من غير قضاء، ومن ضرورته الأخذ منه، وبخلاف ما إذا شهدوا أنه أخذها من المدعي؛ لأن الأخذ هناك قد ثبت بنص الشهادة. أما هنا بخلافه وبخلاف ما إذا شهدوا أنه أخذها من المدعي؛ لأن الأخذ هناك قد ثبت بنص الشهادة. أما هاهنا بخلافه.
وبخلاف ما إذا تنازع رجلان في دار، كل واحد يدعي أنها له وفي يديه، وأقاما البينة على أنها كانت في أيديهما، فإن القاضي يقضي بكون الدار في أيديهما للحال، مع

(8/465)


الاحتمال الذي ذكرنا؛ لأن هناك القاضي لم يتيقن بزوال يدهما، بخلاف ما إذا كانت في يد ثالث.
وحقيقة الفقه في ذلك، وهو أن اليد إذا كانت ثابتة للغير بيقين، لا يجوز نقضها بحجة محتملة، فإذا كانت الدار في يد ثالث فاليد للمدعى عليه ثابتة بيقين، و (لا) حاجة إلى نقضها، ويد المدعي فيما مضى محتملة فلا يجوز نقض يد المدعى عليه الثابت بيد محتملة للمدعي فيما مضى، فأما إذا لم تكن الدار في يد ثالث، فليس في جعلها في أيدي المدعيين إبطال يد ثابتة بيقين، فكان القضاء بكونها في أيديهما، وقد قام لهما نوع دليل أولى من جعلها في يد الغير وليس عليه دليل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في أجمة أو غيضة تنازع فريقان، كل فريق يدعي أنها له وفي يده، فشهد الشهود لأحد الفريقين أنها في يده، أو شهدوا لهما أنها في أيديهما فإن لم يسألهم القاضي عن تفسير ذلك، ولم يزيدوا عليه فهو مستقيم، وإن سألهم عن تفسير ذلك فهو أوثق وأحسن، وهذا لأن اليد على الأجمة إنما تعرف بالدليل، وعسى يرى الشاهد شيئاً يظنه دليلاً على اليد، ولا يكون دليلاً، فإن سأله ليزول الاشتباه فهو أحسن، وإن لم يسأله واكتفى به فله ذلك، لأن السؤال عسى يفضي إلى بطلان الشهادة مع كون الشاهد محقاً، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا بالملك المطلق في العين أو الدين، وقضى القاضي بشهادتهم من غير أن يسألهم عن تفسير ذلك جاز، كذا ههنا.
ثم بيَّن ما تُعرف به اليد على الغيضة والأجمة فقال في الغيضة: إذا كان يقطعون الأشجار ويبيعونها، أو ينتفعون بها منفعة أقرب من هذا أو ما أشبهه، فهذا مما يستدل به على أنها في أيديهم، وقال في الأجمة: إذا كانوا يأخذون القصب ويقطعونها للصرف إلى حوائج أنفسهم أو للبيع أو ما أشبهه، فهذا مما يستدل به على أنها في أيديهم، وهذا لأن اليد في عرف لسان الفقهاء القدرة على التصرف من حيث الآلة واليد التي هي دليل الملك والقدرة على التصرفات التي تختص بالملك، يعني به: الانتفاع المطلوب من العين من غير منازع، فإذا شاهدنا قدرته على الانتفاع بالعين انتفاعاً بطلت من ذلك العين علمنا أن اليد الذي هو دليل الملك ثابت في حقه.
إذا ثبت هذا فنقول: الانتفاع المطلوب من الأجمة والغيضة الحطب والقصب لا الزراعة والسكنى، فإذا شاهدناهم يقطعون الشجر والقصب، ويصرفونه إلى حاجة أو يبيعونه أو ما أشبه ذلك من غير منازع، علمنا أن اليد الذي هو دليل الملك ثابت في حقهم.
قال محمد رحمه الله: وإذا تنازع الرجلان في دار، كل واحد منهما يدعي أنها في يده، فأقام أحدهما بيِّنة أنهم رأوا دابته في هذه الدار، ورأوا غلمانه يدخلونها ويخرجون منها، فالقاضي لا يقضي بيد الذي شهد له الشهود بما وصفنا حتى يقولوا: كانوا سكاناً فيها، وإذا قالوا ذلك قضيت بأنها في يد صاحب الغلمان والدواب، وهذا لما ذكرنا أن

(8/466)


العبرة في هذا الباب القدرة على الانتفاع بما هو المطلوب من العين، والدار لا تتخذ لدخول الغلمان وخروجهم منها ولربط الدواب فيها، وإنما تتخذ للسكنى فيها، فما لم يشهدوا بذلك لم يشهدوا باليد عليها والله اعلم.

الفصل الحادي والعشرون: في الاختلاف الواقع بين الشاهدين
قال محمد رحمه الله في كتاب الغَصْب: وإذا ادعى رجل جارية في يدي رجل، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنها جاريته غصبها منه هذا، وشهد الآخر أنها جاريته، ولم يقل غصبها منه هذا قبلت شهادتهما لأنهما شهدا جمعاً بمطلق الملك إلا أن أحدهما (شهد) أنها جاريته، وشهد الآخر أنها كانت جاريته تقبل هذه الشهادة أيضاً ويقضى بالجارية للمدعي؛ لأنهما اتفقا على الملك له في الحال، لأن أحدهما شهد أنها له وهذا اللفظ للحال، والآخر شهد أنها كانت له، وما ثبت للمشهود له من الملك يبقى إلى أن يوجد المزيل، فقد اتفقا على الحال من هذا الوجه فتقبل شهادتهما.
وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أنها كانت في يده، وشهد الآخر أنها في يده، فإنه لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقد شهدا له باليد في الحال.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يشهد له الشاهدان على رجل بمال فشهد أحدهما على ألف وخمسمئة، والمدعي يدعي الألف، فشهادة الذي شهد بالألف والخمسمئة باطلة، يجب أن يعلم بأن موافقة الشاهدين فيما شهدا به شرط جواز القضاء بشهادتهما، لأن القضاء إنما يجوز بالحجة، والحجة شهادة المثنى، فيما لم يتفقا على ما شهدا به لا توجد الحجة وهي شهادة المثنى، وبدون الحجة لا يقطع الحكم، وإذا ثبت أن الموافقة شرط كانت المخالفة مانعة للقبول.
فبعد ذلك نقول: إن كانت المخالفة بينهما في اللفظ دون المعنى تقبل الشهادة، وذلك نحو أن يشهد أحدهما على الهبة والآخر على العطية، وهذا لأن نفس اللفظ ليس بمقصود في الشهادة، بل المقصود ما تضمنه اللفظ، وهو ما صار اللفظ علماً عليه، فإذا وجدت الموافقة في ذلك لا تصير المخالفة فيما سواها.
جئنا إلى بيان حكم المسألة فنقول: لايخلو، إما أن يدعي المدعي أقل المالين ألف درهم أو يدعي أكثرهما ألفاً وخمسمئة، فإن ادعى أكثر المالين تقبل شهادتهما على الألف؛ لأنهما اتفقا على الألف لفظاً ومعنى، إلا أن أحدهما عطف عليه زيادة، فتقبل شهادتهما على ما اتفقا عليه وهو الألف، وانتفت الزيادة لتفرد أحد الشاهدين بها، وإن ادعى أقل المالين لا يقضى بشهادتهما أصلاً، لأن المدعي صار مكذِّباً أحد شاهديه، وهو الذي شهد بالأكثر، فلم يبق له إلا شاهد واحد فلا يقضى بهذه الشهادة إلا إذا وافق المدعي، فقال: كان لي على هذا المدعى عليه ألف وخمسمئة كما شهد به هذا الشاهد،

(8/467)


إلا أنه قضاني خمسمئة ولم يعلم هذا الشاهد به، فإذا وافق على هذا الوجه يزول التكذيب، ويقضى بشهادتهما.

وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل ادعى على رجل ألف درهم، فشهد له شاهد بألف درهم، وشهد آخر بألف وخمسمئة فالقاضي يسأل المدعي: أكان لك عليه في الابتداء ألف وخمسمئة واستوفيت خمسمئة، أو أبرأته عن خمسمئة أو لم يكن لك عليه من الابتداء ألف درهم؟ ويبنى الحكم على قوله، وعلى هذا إذا شهد أحدهما بمئة وخمسين، إن كان المدعي يدعي مئة لا تقبل الشهادة أصلاً، وإن كان يدعي مئة وخمسين تقبل الشهادة على مئة، وأما إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألفين، أو شهد أحدهما بمئة والآخر بمئتين، والمدعي يدعي أكثر المالين لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله أصلاً، وعندهما تقبل على الأول وهو الألف، وإذا شهد أحدهما بتطليقة والآخر بتطليقتين فهو على هذا الخلاف أيضاً.

فوجه قولهم: أنهما اتفقا على الأقل (146ب4) لأن الذي شهد بالألفين وبالمئتين وبالتطليقتين شاهد بالألف وبالمئة وبالطلقة، لأن في الألفين ألف وفي المئتين مئة وفي الطلقتين طلقة لا محالة، فهو معنى قولنا: اتفقا على الأقل فتقبل الشهادة على الأقل كما في المسائل المتقدمة، وكما في تطليقة ونصف تطليقة، أو تطليقة وتطليقة، ولأبي حنيفة أنهما اختلفا لفظاً ومعنى، أما لفظاً فظاهر؛ لأن لفظ الألفين غير لفظ الألف، فكذا لفظ المئتين غير لفظ المئة، وأما معنى؛ فإن ما يراد بالمثنى غير ما يراد بالواحد، وإذا ثبت الاختلاف لفظاً ومعنى لا يثبت واحد منهما، إذ ليس في كل واحد منهما إلا شاهد واحد، وقوله: بأن الألف في الألفين والمئة في المئتين قلنا: نعم إذا ثبت الألفان والمئتان ولم يثبت ههنا، لأنه لم يقم عليه إلا شاهد واحد، ولو شهد أحدهما بخمسة وعشرين وشهد الآخر بعشرين، والمدعي يدعي خمسة وعشرين، تقبل الشهادة على عشرين.
فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بخمسة عشر والآخر بعشرة والمدعي يدعي خمسة عشر، حيث لا تقبل الشهادة عنده أصلاً، والفرق أن خمسة عشر اسم واحد، وإنه غير العشرة لفظاً ومعنى، فلم يتفقا على أقل المالين لفظاً ومعنى، فأما الخمسة والعشرون فاسمان مختلفان، ألا ترى كيف عطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة، فاتفقا على أقل المالين، فجاز أن يقضي بشهادتهما بالأقل.

وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم إلا أن أحدهما قال: إنه سود، وقال الآخر: بيض، وللبيض فضل على السود، فإن كان المدعي يدعي السود لا تقبل شهادتهما أصلاً، لأنه ادعى أقل المالين فصار مكذباً الشاهد الذي شهد بالبيض، فلا تقبل شهادتهما إلا أن يوفق المدعي فيقول: كان لي عليه بيض كما شهد به هذا الشاهد إلا أني أبرأته عن صفة الجودة، وعلم به ذلك الشاهد ولم يعلم به هذا الشاهد، فإذا وفق على هذا الوجه تقبل شهادتهما على السود لأنه زال التكذيب، وإن كان يدعي البيض تقبل

(8/468)


شهادتهما على السود؛ لأنهما اتفقا على الأقل لفظاً ومعنى، ولم يصر المدعي مكذباً أحدهما، فلابد من قبول شهادتهما على ما اتفقا عليه.
وكذلك هذا الحكم في جميع المواضع في الجنس الواحد إذا اتفقا على قدر أو وصف، واختلفا فيما زاد على ذلك تقبل الشهادة فيما اتفقا عليه إن ادعى المدعي أفضلهما، وإن ادعى أقلهما لا تقبل شهادتهما إذا اختلفا، كيف ما اختلفا، بأن شهد أحدهما مثلاً على كر حنطة والآخر على كر شعير؛ لأن الشعير غير الحنطة، فلم يتفقا على شيء واحد، إنما على الحنطة شاهد واحد وعلى الشعير كذلك، ولا يقضى بشهادة الفرد في موضع ما.
وإذا شهد أحدهما بتطليقة بائنة، وشهد الآخر بثلاث تطليقات، فهي تطليقة واحدة يملك الرجعة عندهما، لأن الشاهدين اتفقا على تطليقة واحدة فيثبت ما اتفقا عليه، ثم اختلفا في صفة هذه التطليقة، شهد شاهد الثلاثة بهذه الطلقة خالية عن صفة البينونة؛ لأن صريح الطلاق لا يفيد البينونة للحال، وإذا أوجد الثلاث فالبينونة مضافة الى الطلقة الأخيرة، ولم يقض بالطلقة الأخيرة بعد، والشاهد الآخر شهد بكونها بائنة، فقد شهدا بأصل هذه الطلقة، وتفرد أحدهما بصفة البينونة فلم تثبت صفة البينونة، وصريح الطلاق العاري عن صفة البينونة يكون رجعياً.

ولو شهد ثلاثة، شهد أحدهم بتطليقة واحدة، وشهد آخر بتطليقتين، وشهد آخر بثلاث تطليقات، وقد دخل بها فهي طالق ثلاثاً، لأن الشاهد بالثلاث والشاهد بالطلقتين اتفقا على الطلقتين، فيقضى بوقوع ما اتفقا عليه، فيقع تطليقتان بقي الشاهد بالثلاث شاهداً بتطليقة أخرى، وقد انضم إلى شهادته شهادة الذي شهد أولاً بتطليقة، فتقع هذه الطلقة بشهادتهما أيضاً فتقع ثلاث تطليقات لهذا، وإن كان لم يدخل بها تقع تطليقتان، لأنا لمّا قضينا بوقوع التطليقتين فقد بانت منه، ولا يتصور وقوع تطليقة أخرى بعد ذلك، فلهذا قال: تقع تطليقتان.
قال في كتاب «الأقضية» : وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بدين أو قتل أو براءة من مال أو كفالة بمال أو بنفس، أو حوالة أو ما أشبه ذلك واختلفا في الساعات والأيام والشهور والسنين والبلدان، فالشهادة مقبولة فلا يضرهما هذا الاختلاف.

يجب أن يعلم بأن الشاهدين إذا اتفقا على المشهود به، لكنهما اختلفا في الزمان والمكان، فإن كان المشهود به فعلاً لا تقبل شهادتهما؛ لأن الفعل في زمان أو مكان غير الفعل في زمان ومكان آخر، فقد اختلف المشهود به، واختلافهما في المشهود به يمنع القضاء بشهادتهما، وإن كان المشهود به قولاً فإن كان قولاً يستغني صحته عن الفعل نحو الإقرار وما أشبهه فإن كان هذا القول مما كان صيغته الإنشاء والإقرار فيه واحد كالبيع والطلاق، فإنه يقول في الإنشاء: بعت وطلقت وكذلك في الإقرار تقول: طلقت وبعت فإذا اختلفا في الزمان والمكان فيه لا يمنع ذلك قبول شهادتهما؛ لأن الإقرار يعاد ويكرر وكان الثاني عين الأول فلم يختلف المشهود به باختلاف المكان أو الزمان، وكذلك في

(8/469)


البيع والطلاق وما أشبهه، لأن الثاني يكون إقراراً بما سبق منه من الإنشاء والمقرّ به ليس غير الأول فأمكن القضاء به بشهادتهما، فأما إذا كانت صيغة الإنشاء والإقرار به مختلفاً، نحو القذف فإنه يقول في إنشاء القذف: يا زاني، وفي الإقرار يقول: قذفت فلاناً بالزنا، فإذا اختلف الشاهدان في الزمان أو المكان فيه لا تقبل شهادتهما عند أبي يوسف ومحمد لما تبين.t

وإن كان المشهود به قولاً كان الفعل شرطاً لصحته كالنكاح، فإنه قول ولكن حضور الشاهدين شرط صحته، وإنه فعل، فإذا اختلف الشاهدان في الأوقات والأماكن فيه، لا يقضي بشهادتهما، لأنه لما لم يتصور وجود النكاح الصحيح إلا بوجود الفعل كان اختلافهما في الزمان والمكان فيه نظير اختلافهما في الزمان والمكان، فيما إذا كان المشهود به فعلاً؛ وقد ذكرنا ثمة أنه لا يجوز القضاء بشهادتهما كذا ههنا.
وإن كان المشهود به فعلاً واختلفا في آلة ذلك الفعل، بأن شهدا بالقتل، غير أن أحدهما شهد بالقتل بالعصا، وشهد الآخر بالقتل بالسيف لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف، فالقتل بالعصا غير القتل بالسيف حقيقةً وحكماً، واختلافهما في المشهود به يمنع القضاء بشهادتهما.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا شهد شاهدان على إقرار الرجل بدين أو قتل أو براءة من مال أو كفالة بمال أو بنفس وأمثالها، واختلفا في الساعات والأيام والشهور والسنين والبلدان، تقبل شهادتهما؛ لأن الإقرار مما يعاد ويكرر، ويكون الثاني عين الأول، فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهما، وكذلك إذا شهدا بالبيع واختلفا في الزمان والمكان، قبلت شهادتهما لما ذكرنا، وكذلك إذا شهد أحدهما بالبيع والآخر على الإقرار بالبيع تقبل؛ لأن لفظ الإقرار والإنشاء في البيع سواء، لأنه يقول في الإنشاء: بعت، وكذلك يقول في الإقرار: بعت فلم يختلف المشهود به، فلا يمنع ذلك صحة الشهادة والقضاء بها.
وفي «المنتقى» : إذا شهد شاهدان على الإقرار بالمال، واختلفا في المكان والأيام إنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله الشهادة مقبولة، قال أبو يوسف رحمه الله: (هذا) قياس، لكني أستحسن فأبطل الشهادة بالتهمة ولكثرة الشهادات بالزور، فإن قيل: أليس أن القرض فعل؛ لأنه إنما يتم الإقراض ويجب عليه ضمانه بالقبض، فصار كما لو شهد أحدهما على الفعل والآخر على الإقرار به، وثمة لا تقبل؟ قلنا: (147أ4) ليس كذلك بل القرض قول؛ لأن المستقرض إنما يصير مملوكاً للمستقرض، ويباح له التصرف بالقول وهو قوله: أقرضت، فإن المقرض وإن سلم إليه الدراهم وقبض لا يصير مضموناً عليه ولا يملك التصرف فيه ما لم يقل أقرضت، فعرفنا أن الإقراض قول، وصيغة الإنشاء والإقرار فيه سواء، لأنه يقول في الإقرار: استقرضت، كما يقول في الإنشاء، فلم يكن المشهود به مختلفاً فلا يمنع قبول الشهادة.

قال محمد رحمه الله في كتاب الرهن: وإذا شهد شاهدان على الرهن ومعاينة

(8/470)


القبض، واختلتفا في الزمان أو في المكان، فاعلم بأنه وقع في بعض رهن «الأصل» أن الشهادة مقبولة ولم يذكر فيه خلافاً ووقع في بعضها أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تقبل هذه الشهادة، وعلى قول محمد رحمه الله لا تقبل، وذكر في شهادات «الأصل» : أن هذه الشهادة لا تقبل عند محمد رحمه الله، وهو القياس وعلى هذا الاختلاف، الهبة والصدقة والقبض في البيع الفاسد.

وإن شهدا على الإقرار بالقبض واختلفا في الزمان والمكان، تقبل الشهادة بلا خلاف، حجة محمد رحمه الله ظاهر أن هذه شهادة قامت على الفعل وهو القبض، فاختلاف الشهود في المكان والزمان يمنع قبولها قياساً على القتل والغصب، بخلاف ما إذا شهدا على الإقرار بالقبض لأن هناك الشهادة قامت على القول وهو الإقرار ولهما طريقان، أحدهما: يخص مسألة الرهن، والثاني: يعم المسائل.
أما الذي يخص الرهن؛ لأن الشهادة قامت على ما يعاد ويكرر فاختلاف الشهود من حيث الزمان والمكان لا يمنع قبولها قياساً على ما لو قامت على القول، بيانه: أن القبض في باب الرهن مما يعاد ويكرر في زمن واحد، فإن المرتهن قد يعدّ الرهن من الراهن، أو يغصب منه الراهن، ويبقى الرهن على حاله، فيعيد المرتهن القبض مرة أخرى، ويكون القبض الثاني عين الأول من حيث الحكم؛ لأنه لا يعيد من الحكم، وهو الضمان إلا ما أوجبه القبض الأول حتى إذا كان بقيمة الرهن وفاء بالدين وقت القبض الثاني إذا هلك يهلك بالدين، وكذلك إذا لم يكن بقيمته وفاء وقت القبض الأول وصار بقيمتها وفاء وقت القبض الثاني، إذا هلك يعتبر قيمته يوم القبض الأول، فكان كالقول من هذا الوجه بخلاف القتل، فإنه لا يتكرر في شخص واحد والغصب إن كان يتكرر، إلا أن الثاني غير الأول حقيقة وحكماً؛ لأنه لا يفيد حكماً آخر غير الأول، ألا ترى أنه لو ازداد قيمته بعد الغصب الأول فإنه يضمن الزيادة بالغصب الثاني وههنا بخلافه، ولكن هذه الطريقة لا تخرج عليها الهبة والصدقة، فإن القبض الأول أفاد الملك، والثاني لا يفيد الملك.
والطريقة الثانية: أن القبض وإن كان فعلاً من حيث الحقيقة فهو قول حكماً؛ لأن القبض في هذه العقود إنما يفيد حكمه باعتبار العقد المتقدم، فإن العقد المتقدم إذا كان هبة أو صدقة أفاد القبض الملك وإذا كان رهناً صار مضموناً بأقل من قيمته ومن الدين، وإنما تثبت هذه الأحكام بالقبض بسبب العقد المتقدم، لولا العقد المتقدم لصار غاصباً بهذا القبض، فكان الفعل في هذه المسائل تبعاً للعقد؛ لأن ما يبنى على الشيء يكون تبعاً له، وحكم البيع حكم المبيوع فيصير في حكم القول من هذا الوجه، بخلاف القتل والغصب لأن ثبوت حكمهما ما كان باعتبار القول، حتى يجعل في حكم القول تبعاً للقول.

قال في كتاب الطلاق: إذا شهد أحد الشاهدين أنه طلقها يوم الخميس واحدة، وشهد الآخر أنه طلقها يوم الجمعة واحدة، أو شهد أحدهما أنه طلقها واحدة في

(8/471)


رمضان، وشهد آخر أنه طلقها في شوال، تقبل هذه الشهادة؛ لأن الطلاق قول، والقول مما يعاد ويكرر، وصيغة الإنشاء والإقرار فيه واحد، فيكون الثاني عين الأول، فلم يوجب اختلافهما في الزمان اختلاف المشهود به، فلا يمنع ذلك قبول شهادتهما.

ولو شهد أحدهما أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة، وشهد الآخر أنه طلقها في يوم النحر من ذلك العام بكوفة، لا تقبل شهادتهما لا لاختلاف المكان فقد ذكرنا أنه لا يمنع قبول الشهادة في الطلاق، ولكن لأن القاضي قد تيقن (كذب) أحد الفريقين، فإن الشخص الواحد لا يكون بمكة وكوفة في يوم واحد على مجرى العادة.
ولو شهدا على يومين متفرقين، وبينهما قدر سير الراكب من كوفة إلى مكة قبلت شهادتهما لجواز أن يكون في هذين اليومين في كلا الموضعين، فلم يبق إلا اختلاف الشهود في المكان، وإنه لا يمنع قبول الشهادة في الأقوال كما قررنا، وصار هذا كما إذا قال أحدهما: طلقها في يوم الجمعة في داره، وقال الآخر: طلقها في هذا اليوم في بيته فإنه يقبل هذه الشهادة لما ذكرنا، كذا هذا.
قال في «الأصل» : وإذا شهد أحد الشاهدين أنه تزوج فلانة يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الخميس لا تقبل هذه الشهادة، وكذلك إذا اختلفا في المكان أو في الإنشاء والإقرار، لأن النكاح وإن كان قولاً إلا أنه يتضمن فعلاً وهو إحضار الشهود، فكان بمنزلة الفعل من حيث إنه لا صحة له بالفعل، واختلاف الشهود في المكان والزمان والإنشاء والإقرار في الأفعال يمنع قبول الشهادة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف في شاهدين قال أحدهما: أشهدني هذا منذ عشرين سنة أنه زوجه أمته هذه، وشهد الآخر أنه أشهدني منذ أحد عشر سنة أنه زوجه أمته هذه، فالشهادة باطلة إذا لم يشهد على العقد رجلان.

وإن قال: أشهدني منذ عشرين سنة ومعي غيري، وقال الآخر: أشهدني منذ أحد عشر سنة ومعي غيري فالشهادة جائزة.
وقد ذكر في المسألة المتقدمة وهي مسألة «الأصل» : أن الشاهدين إذا اختلفا في النكاح في الأيام لا تقبل شهادتهما، ولم يفصل الجواب فيها على هذا التفصيل وههنا فصل، فإن كانت تلك الرواية محمولة على هذا التفصيل، فليس بينهما اختلاف، وإن كانت مطلقة من غير تفصيل كان فيه اختلاف الروايتين.
فوجه هذه الرواية: أنه إذا قال كل واحد منهما: ومعي غيري، فقد شهدا بنكاح صحيح عُلِمَ، إلا اختلافهما في الأزمان، والنكاح قول واختلاف الشهود في الزمان في الأقوال لا يمنع قبول الشهادة، كما إذا شهدا بالبيع واختلفا في الزمان، بخلاف ما إذا لم يقولا: كان معنا غيرنا؛ لأنه لما ثبت حضرة غيرهما فقد شهد كل واحد منهما على نكاح لم يحضره إلا واحد، وإنه فاسد، والقاضي لا يقضي بالنكاح الفاسد فلا يسمع البينة عليه، فلهذا لا تقبل شهادتهما.

وجه رواية «الأصل» : أن النكاح إن كان قولاً ولكن شرط صحته بالفعل، وهو حضرة الشهود، فمنع الاختلاف فيه قبول الشهادة، كما لو شهدا بالفعل كالغصب ونحوه،

(8/472)


واختلفا في الزمان، وهذا لأن اختلافهما في الزمان في الفعل إنما منع قبول الشهادة؛ لأنه يوجب اختلاف المشهود به؛ لأن الفعل لا يعاد ولا يكرر، فكان الموجود في الزمان الثاني غير الموجود في الزمان الأول، بخلاف القول فإنه يعاد ويكرر، فكان الموجود في الزمان الثاني غير الأول، فلم يختلف المشهود به، فإذا كان قولاً شرط صحته الفعل، ولا وجود له على صفة الصحة بدون ذلك الفعل يصير مختلفاً لاختلاف الفعل ضرورة، فاختلاف الزمان يوجب اختلاف الفعل، فوجب اختلاف هذا القول فاختلف المشهود به، فلا تقبل شهادتهما.
قال في كتاب الحدود: إذا شهد أحد الشاهدين على القذف، والآخر على الإقرار بالقذف لا تقبل الشهادة وهذا بلا خلاف.

ولو اتفقا على القذف واختلفا في الزمان أو المكان، قال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل هذه الشهادة ويقضي على القاذف بالحد، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تقبل هذه الشهادة، فوجه قولهما: أن المشهود به إن كان متَّحداً باعتبار الإعادة والتكرار لأن المشهود به كلام، والكلام مما يعاد ويكرر، ويكون الثاني غير الأول فهو مختلف من حيث الحقيقة، لأن تكلمه بالقذف يوم الجمعة غير تكلمه بالقذف يوم السبت حقيقة، فباعتبار الحقيقة تثبت شبهة البينة في المشهود به، والشبهة في باب الحد كالحقيقة.
والدليل عليه أنه لو شهد أحدهما بالقذف بالعربية، وشهد الآخر بالقذف بالفارسية لا تقبل الشهادة وإن اتحد المشهود به من حيث المعنى باعتبار الإعادة والتكرار في الكلام، لأن الكلام قد يكون بلغتين (147ب4) مختلفتين ويراد بالثاني عين الأول إلا أنهما اختلفا من حيث الحقيقة، فتثبت شبهة البينة باعتبار الحقيقة، والدليل عليه أنه إذا شهد أحدهما بالإقرار والآخر بالإنشاء لا تقبل الشهادة، وإن اتحد المشهود به باعتبار المعنى كذا ههنا، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن في حد القذف حق الله تعالى، وحق العبد، وشبهة البينة لا تمنع القضاء بما هو خالص حق العبد متى يثبت الاتحاد من حيث المعنى، كما في الطلاق والعتاق والبيع ويمنع القضاء بما هو خالص حق الله تعالى من الحدود، فيوفر على الشبهين حظهما، فنقول: متى ثبت الاتحاد في المشهود به من وجهين وثبتت البينة من وجه واحد، فإنه يجب القضاء عملاً بحق العبد، ومتى ثبتت البينة في المشهود به من وجهين، وثبت الاتحاد من وجه واحد، فإنه لا يجب القضاء عملاً بحق الله تعالى، وفيما تنازعنا فيه الاتحاد في المشهود به ثابت، من وجهين من حيث المعنى باعتبار الإعادة والتكرار باعتبار اللفظ والصيغة، وهو كلمة القذف، فانه قال في الوقتين جميعاً: يا زاني وإنها تثبت البينة من وجه واحد من حيث الحقيقة، فإن تكلمه يوم الجمعة بهذه الكلمة غير تكلمه بها يوم السبت، وبثبوت البينة من وجه لا يمنع القضاء لما فيه من حق العبد، فأما في الفارسية غير تكلمه بالعربية، فإنما ثبت الاتحاد من وجه واحد باعتبار الإعادة والتكرار، فيرجح جانب البينة فامتنع القضاء بحق الله تعالى؛ لأن معظم الحق في هذا الحد لله تعالى، فكذلك في الإنشاء والإقرار البينة تثبت من وجهين: من

(8/473)


حيث التكلم ومن حيث اللفظ، فإن كلمة الإنشاء في القذف غير كلمة الإقرار في الإنشاء، تقول: زنيت، أنت زان، وفي الإقرار تقول: قذفته بالزنا، ففيما قال أبو حنيفة في

حد القذف عمل بالشبهين لحق الله تعالى وحق العبد بقدر الإمكان، وهما أسقطا باعتبار حق العبد في باب القذف عند اختلاف الشاهدين في الشهادة أصلاً وألحقاه بالحدود الخالصة لله تعالى، ومهما أمكن العمل بالحجتين في المواضع لا يجوز تعطيل أحدهما، فكان ما قاله أبو حنيفة رحمه الله أولى من هذا الوجه.
وإذا شهد أحد الشاهدين على القتل، والآخر على إقرار القاتل بالقتل، لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن القتل فعل والإقرار قول، والقول غير الفعل فاختلف المشهود به، وكذلك لو اتفقا على القتل، واختلفا في المكان أو الزمان لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، لأن الفعل الثاني غير الفعل الأول حقيقةً وحكماً أما حقيقةً فظاهر؛ لأن الأول حركات مضت، والثاني حركات يحدثها الآن وأما حكماً؛ فلأنه لا يمكن أن يجعل الثاني إخباراً عن الأول حتى يصير تكراراً للأول وإعادة له؛ لأن الإخبار عن الفعل بالفعل لا يكون، فكان الثاني فعلاً آخر غير الأول حقيقةً وحكماً.

وكذلك كل ما يكون من باب الفعل نحو السحر وغير ذلك فاختلاف الشهود في الإنشاء والإقرار وفي الزمان أو في المكان يمنع قبول الشهادة.
وكذلك إذا اختلفا في الآلة التي كان بها القتل، بأن شهد أحدهما أنه قتله بحجر، وقال الآخر: قتله بعصا كبيرة، أو شهد أحدهما أنه قتله بحجر وقال الآخر: قتله بيده، لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، ولأن القتل الواحد لا يتصور بآلتين كما لا يتصور في زمانين أو في مكانين.
وكذلك إذا شهد أحدهما أنه قتله عمداً وشهد الآخر أنه قتله خطأً لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف؛ لأن العمد غير الخطأ وحكمهما مختلف، وإن قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال الآخر: لا أحفظ الذي كان به القتل لا تقبل شهادتهما؛ لأن الذي قال: لا أحفظ أقر على نفسه بالغفلة والنسيان، وإنه يبطل الشهادة، وفي كتاب الإجارة كل شهادة اختلف فيه الشاهدان في المكان، ويبنى على فعل فإنها لا تقبل إلا مسألة واحدة.
وذكرها داود بن رشيد عن محمد، صورتها: ذمي شهد عليه شاهد أنه رآه يصلي في مسجد بني راس شهراً، وشهد آخر أنه يصلي في مسجد بني عامر شهراً، أو شهد أحد أنه: رأيته يصلي بالكوفة، وقال الآخر: رأيته يصلي بالشام، فإني أجيز شهادتهما وأجبره على الإسلام ولكن لا أقتله.
قال محمد رحمه الله في «المأذون الكبير» : وإذا لحق العبد دين فقال المولى: عبدي محجور عليه، وقال الغريم: هو مأذون، فالقول قول المولى: فإن جاء الغريم بشاهدين، شهد أحدهما أن المولى أذن له في شراء البر، وقال الآخر: إنه أذن له في شراء الطعام فشهادتهما جائزة، وكذلك لو شهد أحدهما أن المولى قال له: اشتر البر

(8/474)


وبع، وشهد الآخر أن المولى قال له: اشتر الطعام وبع، تقبل الشهادة لأنهما اتفقا على ما يوجب الإذن وهو قول المولى: اشتر وبع، واختلفا فيما لا يحتاج إليه لصحة الإذن فيثبت بشهادتهما ما اتفقا عليه.

يوضحه: وهو أن قوله: اشتر البّر وبع، إذن في جميع التجارات، فكل واحد منهما كان شاهداً بالإذن في عموم التجارات معنى، فتثبت الموافقة بينهما، ولو شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البر، وشهد الآخر أنه رآه يبيع ويشتري فسكت لا تقبل شهادتهما؛ فلا يثبت الإذن؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين، شهد أحدهما على القول، وشهد الآخر على الفعل، ولو شهد أحدهما أن المولى رآه يشتري البر ويبيع ولم ينهه عن ذلك، وشهد الآخر أنه رآه يشتري الطعام ولم ينهه عن ذلك، لا تقبل الشهادة، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، فعبارة بعضهم أن كل واحد منهما شهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه، ولم يثبت كل واحد منهما لعدم الحجة فلا يثبت الإذن بخلاف ما إذا شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البر وشهد الآخر أنه أذن له في شراء الطعام؛ لأن هناك انعقد على شيء واحد وهو قول المولى: اشتر وبع، وعبارة بعضهم أن الإذن هنا إنما يثبت بالرؤية وترك النهي، والرؤية لا تتحقق بدون المرئي ولم يكن إثبات المرئي هنا؛ لأن المرئي شراء البر وشراء الطعام، وليس على كل واحد من الشرائين إلا شاهد واحد، وإذا لم يمكن إثبات المرئي وهو الشراء لم يثبت الإذن بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك الإذن يثبت بقول المولى: أذنت له أو بقوله: اشتر وبع وقد أمكن إثبات ذلك؛ لأن الشاهدين اتفقا عليه.

قال في كتاب السرقة: إذا شهد شاهدان على رجل بسرقة بقرة، واختلفا في لونها، فقال أحدهما: هي بيضاء وقال الآخر: هي سوداء، قال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل شهادتهما، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تقبل شهادتهما، وذكر الكرخي في كتابه هذا الاختلاف في لونين متشابهين كالحمرة والصفرة، وفي لونين لا يتشابهان، ذكر أن الشهادة لا تقبل إجماعاً، والأصح أن الخلاف في كل واحد.

فوجه قولهما: أن المشهود به قد اختلف من حيث الحقيقة على وجه لا يمكن التوفيق، فلاتقبل الشهادة، كما لو شهد أحدهما أنه سرق بقرة وشهد الآخر أنه سرق ثوراً أو شهد أنه سرق بقرة وشهد الآخر أنه سرق حماراً، والدليل عليه إذا شهدا بالغصب واختلفا في لون البقرة فإنه لا تقبل الشهادة، مع أن الدعوى هناك في الضمان، والضمان لا يندرئ بالشبهات؛ فلأن لا تقبل الشهادة على السرقة، وقد تعلق بها ما يندرئ بالشبهات أولى.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: اختلفا فيما لم يكلفا نقله؛ لأن بيان لون البقرة ههنا ليس من صلب الشهادة حتى لو سكتا عن بيانه فالقاضي لا يكلفهما ذلك ويقضي بشهادتهما، والتوفيق ممكن هنا بأن كان إحدى شقيها بيضاء والأخرى سوداء قلنا: والاختلاف فيما لم يكلف الشاهد نقله إذا أمكن التوفيق لا يمنع قبول الشهادة، فإن قيل:

(8/475)


التوفيق على هذا الوجه غير ممكن، لأن تلك البقرة تسمى بلقاء ولا تسمى سوداء ولا بيضاء، قلنا تلك البقرة إنما سمي في حق من يعرف قيام كلا اللونين، أما في حق من لم يعرف إلا قيام لون واحد فهو على ذلك اللون عنده، وتسميتها بذلك اللون، وشهود السرقة لا يمكنهم (148أ4) أن يقربوا من السارق ليتأملوا كل جانب من البقرة، إنما ينظرون من بعيد فلا يمكنهم الوقوف على قيام اللونين بخلاف الغصب، لأن الغصب يقع جهاراً، فيمكن للشاهد أن يقرب من الغاصب فيتأمل جميع ألوان المغصوب، فلا يشتغل بالتوفيق في حقه، وبخلاف ما إذا اختلفا في البقرة والحمار؛ لأن ذلك اختلاف فيما كلفا نقله، وبخلاف الاختلاف في صفة الذكورة والأنوثة، لأن التوفيق هناك غير ممكن لأن الحيوان لا يجتمع فيه صفة الذكورة والأنوثة، وشيء من صفات العين لا تدل على ذلك حتى يصح الاستدلال عليه من بعيد فلا يحل له البيان، فالاشتعال بالبيان يدل على أنه قرب من البقرة، وعند القرب لا يقع الاشتباه فلا يشتغل بالتوفيق.

فإن قيل: الاشتغال بالتوفيق بين كلام الشاهدين احتيال لإيجاب الحد وهو القطع، والحد مما يحتال لدرئه.

قلنا: الشهادة حجة من حجج الشرع والأصل في حجج الشرع قبولها لا ردها، فالاشتغال بالتوفيق لصيانة الحجة عن الإبطال لا لإيجاب الحد، ثم إذا وقعنا وقبلت الشهادة يجب الحد ضرورة لا قصداً.
ولو شهدا على رجل بسرقة ثوب وقال أحدهما: إنه هروي، وقال الآخر: إنه مَرَوي، ففيه اختلاف النسخ، ففي نسخ أبي سليمان ذكر هذه على الخلاف الذي ذكرنا في البقرة، وفي نسخ أبي حفص ذكر أن الشهادة لا تقبل عندهم، وأبو حنيفة يحتاج إلى الفرق بين المسألتين على ما ذكر في نسخ أبي حفص.
والفرق: وهو الهروي والمروي جنسان مختلفان، والشهود كلفوا قبل بيان الجنس، فقد اختلفوا فيما كلفوا نقله، فلا تقبل شهادتهم، فأما لم يكلفوا نقل لون البقرة فذاك اختلاف فيما لم يكلفوا نقله.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر أن لهذا المدعي عليه ألف درهم من قرض، وشهد الآخر أنه أقر أن هذا المدعي أودعه ألف درهم، قال: هذا جائز، ومعنى المسألة أن المدعي يدعي عليه ألف درهم ديناً مطلقاً من غير أن يتعرض بسبب، فأما إذا ادعى أحد السببين فقد كذب أحد شاهديه، فلا تقبل شهادتهما، ودلت هذه المسألة أن المدعي إذا ادعى الدين مطلقاً وشهد له الشهود بالسبب أن الشهادة تقبل، فرق بين هذه المسألة وبينما إذا لم يشهد الشهود على إقراره، ولكن شهد أحدهما أن لهذا المدعي عليه ألف درهم من قرض، وشهد الآخر أن لهذا المدعي عنده ألف درهم وديعة أنه لا تقبل شهادتهما.
t

ووجه الفرق: أن الشهادة على الإقرار إذا قبلت صار المشهود به كالمعاين، فصار كأنه أقر، ثم في الإقرار الاختلاف في السبب لا يمنع وجوب المال حتى إذا قال المقر:

(8/476)


إن له علي ألف درهم من قرض، وقال الطالب: لا، بل من بيع لا يكون هذا الاختلاف مانعاً من وجوب المال، ولم يكن ذلك تكذيباً للمقر، فأما اختلاف السبب في الشهادة مانع قبول الشهادة.
والفرق: أن الشهادة لا تكون ملزمة بنفسها فلا تكون لها صحة إلا عند اتصال القضاء بها، فلابد للقضاء بالمال من سبب، لأن الحكم لا يمكن إثباته إلا بسبب، ومع اختلافهما في السبب لا يمكن القضاء به، فأما الإقرار حجة ملزمة فلا حاجة فيه إلى إثبات السبب إنما الحاجة إلى إثبات الحكم، وقد ثبت الحكم بشهادتهما على الإقرار به فقد حصل المقصود فلا يلتفت إلى السبب بعد ذلك.
قال: ألا ترى أن أحدهما لو شهد أن الكساء الذي عليه للمدعي اغتصبه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه والمدعى عليه يجحد أن الكساء للمدعي يقضي به للمدعي؛ لأن المقصود إثبات ذلك الكساء للمدعي، وقد ثبت ذلك بشهادتهما فاختلافهما فيما سوى ذلك لا يضره.

قال في كتاب الإجارات: رجل ادعى على رجل أنه أجر عبده، وجحد رب العبد، فأقام المستأجر شاهدين شهد أحدهما أنه استأجره بخمسة، وهو يدعي أربعة أو خمسة، وشهد الآخر أنه استأجره بستة، فالشهادة باطلة إن ادعى أربعة، فلأنه كذب شاهديه، وإن ادعى خمسة فلأنه كذب أحد شاهديه، وهو الذي شهد بستة؛ ولأن حاجتهما إلى إثبات عقد الإجارة، وعقد الإجارة بخمسة غير عقد الإجارة بستة؛ لأن الأجر بدل عن المنفعة كالثمن في البياعات، وكما أن البيع يختلف باختلاف الثمن، فكذلك الإجارة تختلف باختلاف الأجر فاختلف المشهود به، وقد بينا أن اختلاف الشهود يمنع قبول الشهادة.

فإن ادعى المستأجر أنه يكاري دابة إلى بغداد بعشرة ليركبها ويحمل عليها، وأقام شاهدين شهد أحدهما: أنه تكاراها ليركبها بعشرة، وشهد الآخر أنه تكاراها ليركبها ويحمل عليها هذا المتاع المعروف بعشرة فالشهادة باطلة، لأن في شهادة أحدهما أن العشرة جميع بدل منفعة الركوب، وفي شهادة الآخر أن بعض العشرة بمقابلة منفعة الركوب؛ لأنه قابل العشرة بالركوب وحمل المتاع، فتوزع عليهما فاختلف شهادتهما في أجر الركوب، وقد ذكرنا أن اختلاف الشاهدين في الأجر يمنع قبول شهادتهما.
ولو شهد أحدهما أنه تكارى دابة بعينها بأجر مسمى إلى بغداد، وشهد الآخر أنه تكاراها ليحمل عليها حمولة معروفة إلى بغداد بعشرة دراهم، لا تقبل هذه الشهادة سواء ادعاها المستأجر أو رب الدابة، لأنه إذا لم يبين أحد الشاهدين أنه يركبها أو يحمل عليها، كانت هذه شهادة بإجارة فاسدة، لأنه إذا لم يبين جنس المعقود عليه فمنفعة الركوب غير منفعة الحمل، والضرر الذي يلحق الدابة يختلف، وجهالة المعقود عليه يوجب فساد الإجارة، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه تكاراها ليركبها، وشهد الآخر أنه تكاراها ليحمل عليها، لأنهما اختلفا في المعقود عليه، واختلاف المعقود عليه يوجب اختلافاً في العقد، فيكون هذا اختلافاً في المشهود به، فلو ادعى أنه سلم ثوباً إلى صباغ

(8/477)


والصباغ يجحد وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه دفعه ليصبغه أحمر، وشهد الآخر أنه دفعه ليصبغه أصفر، فالشهادة باطلة لأنه اختلف المعقود عليه باختلاف الصبغ، واختلاف المعقود عليه يوجب اختلاف العقد، فاختلف المشهود به.
وكذلك اذا جحد رب الثوب وادعاها الصباغ؛ لأنه لما اختلف المشهود به لابد وأن يدعي أحدهما، وعند ذلك يصير مكذباً شاهده الآخر فلا تقبل شهادة ذلك الشاهد للتكذيب، ولا يمكن القضاء بشهادة الفرد فلا يقضى لهما.

قال في كتاب الرهن: رجل ادعى رهناً فشهد له شاهدان، شهد أحدهما أنه رهنه بمئة وشهد الآخر أنه رهنه بمئتين لا تقبل شهادته عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تقبل شهادتهما، فقد جعل حكم الاختلاف في الرهن حكم الاختلاف في الدين، وفرق بين الرهن وبين البيع، فإنه إذا شهد أحد الشاهدين على البيع بمئة وشهد الآخر على البيع بمئتين لا تقبل الشهادة بالاتفاق؛ لأن البيع يختلف باختلاف الثمن، ولم يجعل الرهن مختلفاً باختلاف الدين بل جعله اختلافاً في نفس الدين، وإنما كان كذلك لأن حكم الرهن ثبوت يد الاستيفاء بقدر الدين، فكان هذا اختلافاً في قدر الدين وفي مقدار ما صار مستوفياً من الدين بالرهن، فيكون هذا على الاختلاف الذي ذكر، ولا كذلك فصل البيع.
وإن شهد أحدهما بكر حنطة والآخر بكر شعير فشهادتهما باطلة؛ لأن المشهود به مختلف، وإن شهد أحدهما أنه رهنه بمئة وخمسين، فإن ادعى المرتهن أقلهما لا تقبل الشهادة بالاتفاق، وإن ادعى أكثرهما قبلت شهادتهما على مئة لاتفاق الشاهدين على المئة، وكان العين رهناً بمئة، وإن كانت قيمة الرهن مئة وخمسين، وقال المرتهن بعدما شهد الشاهدان على نحو ما بينا من اختلافهما فيه: لي عليه مئة وخمسون وهذا رهن بمئة، فالقول قول المرتهن؛ لأنه ينكر ثبوت يد الاستيفاء فيما زاد على المئة، فإن أقام الراهن بينة أنه رهنه بمئة وخمسين، وأقام المرتهن بينة أنه رهنه المئة، فالبينة بينة الراهن؛ لأنها تثبت زيادة في الاستيفاء، وإن اختلفا في قيمة الرهن بعدما هلك كله أو بعضه، فالقول قول المرتهن في قيمة الهالك مع يمينه، والبينة بينة الراهن.

قال في كتاب الحوالة: إذا شهد رجلان على رجل أنه كفل بألف درهم لفلان عن فلان، فقال أحدهما: إلى شهر كذا، وقال الآخر: حالة، وادعى (148ب4) الطالب الحلول، وجحد الكفيل ذلك كله أو أقر بالكفالة وادعى الأجل، فالمال حالّ في الوجهين، أما إذا أقر بالكفالة وادعى الأجل فلأن الأصل في المال الحلول، والأجل عارض، وليس عليه إلا شاهد واحد، وأما إذا جحد الكفيل ذلك كله، فلأن الشاهدين اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالأجل فيثبت ما اتفقا عليه، ولا يثبت ما تفرد به أحدهما، وفي كتاب الحوالة أيضاً: إذا أقام شاهداً واحداً أن فلاناً أحاله على هذا بألف درهم، وأقام شاهداً آخر أنه بمئة دينار لا تقبل شهادتهما، وإن شهد أحدهما بألف درهم وشهد الآخر بألف ومئة دينار، تقبل شهادتهما على الألف؛ لأنهما اتفقا على الألف لفظاً

(8/478)


ومعنى وتفرد أحدهما بزيادة مئة دينار، وليس هذا نظير البيع؛ لأن البيع يختلف باختلاف الثمن، أما حوالة الدراهم لا تختلف بحوالة الدنانير لا نفسها ولا حكمها، فكان نظير الاختلاف في الدين المطلق، وتأويل المسألة إذا كان المدعي يدعي الدراهم والدنانير جملة، أما إذا كان يدعي الدراهم وحدها لا تقبل الشهادة، لأنه يصير مكذباً الذي شهد له بالدنانير.

قال في «أدب القاضي» إذا طلب الشفيع الشفعة وأقام شاهدين، شهد أحدهما أنه اشترى بألف، وشهد الآخر أنه اشترى بألفين، والمشتري يقول: اشتريتها بثلاثة آلاف لا تقبل شهادتهما؛ لأن عقد الشراء بألف غير عقد الشراء بألفين، وكذلك لو شهد أحدهما بالشراء بألف درهم وشهد الآخر بمئة دينار لا تقبل الشهادة، وكذلك لو شهد أحدهما أنه اشترى من فلان، وشهد الآخر أنه اشترى من فلان آخر لا تقبل شهادتهما لأن الشراء من عمرو غير الشراء من زيد، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر به أخذ هذا العبد من فلان، وشهد آخر أن هذا العبد لفلان لم يقض للمشهود له بشيء؛ لأنهما اختلفا.
بيانه: أن أحدهما شهد على الإقرار بالأخذ منه، وأنها شهادة على الإقرار بفعله، والآخر إنما شهد بالملك، وهو وصف في المحل وهما مختلفان، ولأن أحدهما شهد بالملك له والآخر لم يشهد بالملك له إنما شهد على أنه أخذه منه فكانت شهادة على قيام يده وأنها وصلت إليه من جهته، ولو ثبت ذلك يؤمر بالتسليم إليه من غير أن يقضى له بالملك، فلم يتفق الشاهدان لا على الملك ولا على الأخذ فلهذا لا يقضى للمشهود له بشيء.
ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه أخذه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه جازت شهادتهما، حتى يؤمر المدعى عليه برد العبد على المدعي؛ لأنهما أجمعا على إقراره أنه أخذه منه، لكن شهد أحدهما على إقراره بأخذ مفرد، وشهد الآخر على إقراره بالوديعة فوجب القضاء بما اتفقا عليه، وهو الأخذ من المدعي، وإذا ثبت يؤمر بالرد على المدعي ولكن لا يقضى له بالملك لعدم الحجة على الملك، وكذلك لو أن الذي شهد بالوديعة لم يشهد بالوديعة إنما شهد أنه أقر أنه دفعه إليه فلان، وفيما إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه أخذه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه.
نوع إشكال، لأن المشهود به في شهادة أحدهما الإقرار بالأخذ من المدعي، والمشهود به في شهادة الآخر الإقرار بالإيداع، والإقرار بالإيداع لا يكون إقراراً بالأخذ منه، ألا ترى أن من قال لغيره: أخذت منك هذا العين وديعة وقال المقر له: لا بل غصبته مني غصباً، إن القول قول المقر له، وهو ضامن للعبد إن هلك في يده؟ ولو قال: أودعتني هذا العبد، وقال المقر له: لا بل غصبته مني، فالقول قول المقر.

وما افترقا إلا باعتبار أنه في المسألة الأولى أقر بفعل نفسه، وهو الأخذ منه وادعى

(8/479)


الإذن، وأنكر المالك الإذن فلم يثبت الإذن، وبقي إقراره بالأخذ، والأخذ إذا خلي عن الإذن كان سبباً للضمان، وفي المسألة الثانية لم يقر بفعل نفسه، وهو الأخذ، إنما أقر بفعل المالك وهو الإيداع فلم يكن مقراً بسبب وجوب الضمان، فلا يجب عليه الضمان، فكذلك مسألتنا، الذي شهد على الإقرار بفعل المدعي وهو الإيداع لا بفعل ذي اليد، والذي شهد على الإقرار بالأخذ شهد على الإقرار بفعل ذي اليد وهو الأخذ، فينبغي أن لا يقضي بشهادتهما، وسيأتي بعد هذا مسألة أخرى بخلاف ما ذكر ههنا، وكذلك لو شهد أحدهما أن صاحب اليد أقر أنه اغتصبه من هذا المدعي، وشهد الآخر أنه أقر أن هذا المدعي أودعه إياه، أو شهد الآخر أنه أقر أنه أخذه من هذا المدعي قبلت شهادتهما، وأُمر المدعى عليه بالرد على المدعي؛ لأنهما اتفقا على يد المدعي فيما مضى من الزمان، وعلى وصوله إلى المدعى عليه من جهة المدعي، فيقضي بما اتفقا عليه وهو وصول العين إلى المدعى عليه من جهة المدعي، وعند ذلك يؤمر بالرد عليه، ولكن لا يقضى بالملك للمدعي؛ لأن الشهود لم يشهدوا له بالملك، وبقي المدعى عليه لم يصر مقضياً عليه بالملك إنما صار مقضياً عليه بالأخذ من المدعي، وليس من ضرورة الأخذ منه أن يكون المأخوذ ملكاً للمأخوذ منه.
وذكر في «المنتقى» عين مسألة العبد ووضعها في الثوب، وذكر أنه إذا شهد أحد الشاهدين على إقرار صاحب اليد أنه غصبه من المدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي أودعه إياه، فزاد ههنا زيادة على ما ذكر في مسألة العبد فقال: وقال المدعي: قد أقر بما قالا جميعاً ولكنه اغتصب مني، قال: قبلت الشهادة، وجعلت الذي في يديه الثوب مقراً بملكه للمدعي، ولم أقبل منه بعد ذلك بينة على الثوب، يعني من صاحب اليد، وإنه بخلاف ما ذكر في مسألة العبد.
ووجه ذلك: أن الغصب يقع من الملاك، والإيداع يكون من الملاك بحكم الغالب، فكان الإقرار بالإيداع والغصب إقراراً بملك المستودع والمغصوب منه من هذا الوجه، ثم قال: وإن شهد أحدهما على إقراره أنه اغتصبه من المدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه أخذه، قضيت به للمدعي، وجعلت المدعى عليه على حجته من قبل، أن الإقرار منه بالأخذ ليس بإقرار بالملك، ثم قال: ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أنه أخذه منه هذا الثوب وشهد الآخر على إقراره أنه أودعه إياه وقال المدعي: قد أقر هو بما قالا، لكني أودعته منه، قال: لا تقبل هذه الشهادة، وعلَّل وقال: لأن ههنا لم يجمعا على الإقرار بالملك ولا على الإقرار بالأخذ؛ لأن الذي شهد بالوديعة ما شهد بالأخذ، وما ذكر من الجواب والتعليل في مسألة العبد يخالف ما ذكر من الجواب والتعليل في مسألة الثوب؛ لأن في مسألة الثوب لم يجعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالأخذ، ولم تقبل هذه الشهادة، وفي مسألة العبد جعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالأخذ، وقبل الشهادة للرد على المدعي، فإن كان في المسألة روايتان فوجه الرواية التي قال فيها: لا تقبل هذه الشهادة، أن الشهادة على الإقرار بالإيداع ليست بشهادة على الإقرار بأخذه منه؛ لأن

(8/480)


الإيداع يتحقق بدون أخذه على ما مر، فلم يقع الاتفاق منهما على شيء فلا تقبل شهادتهما.

وجه الرواية التي قال فيها: تقبل هذه الشهادة على الرد أن الأخذ بهذه الشهادة إن لم يثبت، فقد ثبت وصول العين إلى المدعى عليه من يد المدعي، وهذا القدر كاف للقضاء بالرد على المدعي، وإن لم يكن في المسألة روايتان فوجه الفرق بينهما، وبيان جهة التوفيق: أن موضوع مسألة الثوب: أن المدعي ادعى الإيداع، ودعوى الإيداع دعوى فعل نفسه فليس فيه دعوى الأخذ على المدعى عليه، فلا يمكن القضاء بالأخذ على المدعى عليه، إذ لا دعوى فيه.

موضوع مسألة العبد، أن المدعي ادعى الأخذ على المدعى عليه فكان مدعياً الفعل عليه فليس في شهادة الإيداع ما ينافيه، وقد اتفقا على وصول العين إلى المدعى عليه من جهة المدعي فيمكن القضاء بها، يوضحه: أن الشهادة على الإيداع شهادة على وصول العين إلى يده فحسب من غير أن يكون منه فعل في العين يكون ذلك الفعل سبباً لوجوب الضمان عليه، ومتى ادعى الأخذ فقد ادعى وصوله الى يده بفعل ذلك الفعل سبباً لوجوب الضمان عليه، فكانت هذه شهادة بأقل مما ادعاه المدعي، فقبلت، فأما إذا ادعى الإيداع فهو لم يدع على المدعى عليه إلا مجرد وصول العبد إليه من غير أن يدعي عليه فعلاً، كان سبباً لوجوب الضمان، فإذا شهد على الإقرار بالأخذ، والأخذ سبب لوجوب الضمان، كانت هذه الشهادة بأفضل مما ادعاه المدعي، فلا تقبل، ولو شهد شاهد أن صاحب (149أ4) اليد أقر أنه لهذا المدعي، وشهد آخر أنه أقر أن المدعي أودعه منه تقبل هذه الشهادة، وقضى بالعين للمدعي، لما ذكرنا: أن الإقرار بالإيداع إقرار بالملك للمودع، فالشاهدان اتفقا على الإقرار بالملك للمدعي فتقبل شهادتهما.
ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قتل وليَّه عمداً وجاء بشاهدين، شهد أحدهما أنه قتله عمداً بالسيف، وشهد الآخر أنه قتله عمداً بالسكين لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنهما اختلفا في آلة القتل وقد مرت هذه المسألة من قبل، وإنما أعادها ليذكر الفرق بينه، وبينما إذا شهد أحدهما على إقراره أنه قتله عمداً بالسكين، فقال ولي القتيل: أنه أقر بما قال، ولكنه والله ما قتله إلا بالسيف، أو قال: صدقا جميعاً لكنه والله ما قتله إلا بالرمح فهذا كله سواء، ويقتص من القاتل.
والفرق من وجهين: أحدهما: أن في تلك المسألة: القاضي إنما يقضي بوجوب القصاص إذا ثبت القتل عنده، ولم يثبت القتل بهذه الشهادة لأن باختلاف الآلة يختلف القتل، فلا يقع الاتفاق على قتل واحد، فلا يمكن القضاء بشهادتهما، أما في هذه المسألة: القاضي إنما يقضي بوجوب القصاص بناء على إقراره بوجوب القصاص، والشاهدان مع اختلافهما في الآلة اتفقا على إقراره بوجوب القصاص عليه فلهذا اقتص منه، ولأن الدعوى في حقوق العباد شرط قبول البينة في تلك المسألة، لابد وأن يدعي المدعي القتل بإحدى الآلتين إذ لا يمكنه القتل بكلا الآلتين، لأن في دعواه ذلك تكذيب

(8/481)


لهما لتعذر وجود قتل واحد بكلا الآلتين، وإذا ادعى بإحدى الآلتين فقد كذب شاهده الآخر، وههنا أمكنه تصديق الشاهدين مع دعواه القتل بإحدى الآلتين وبآلة أخرى والقتل بكل واحدة من هاتين الآلتين يوجب القصاص، فيكون مقراً على نفسه بوجوب القصاص فلهذا افترقا.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل في يديه عبد ذكر أنه عبده ورثه من أبيه فادعى رجل آخر أنه عبده، وأقام البينة على إقرار صاحب العبد: أنه للمدعي قبلت بينته، وقضي بالعبد للمدعي اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة الثابتة عياناً، وقد مرت هذه المسألة من قبل، وكذلك إذا شهدا على إقراره أنه اشتراه من المدعي بألف درهم، وقال المدعي: قد أقر بما قال ولكنه لم يشتره مني، قبلت الشهادة وقضي بالعبد للمدعي؛ لأن إقراره بالشراء من المدعي إقرار بالملك للمدعي، وقد مرت هذه المسألة أيضاً، وإنما أوردناها ههنا لزيادة تفريع، وكذلك لو أقام شاهداً أن الذي في يديه العبد أقر أن العبد عبد المدعي، وأقام شاهداً آخر أن الذي في يديه العبد أقر أنه اشترى العبد من المدعي بألف درهم، وقال المدعي صاحب اليد: أُقِرُّ بما قال الشاهدان إلا أني لم أبع منه شيئاً، تقبل هذه الشهادة ويقضي بالعبد للمدعي، لأن الشاهدين اتفقا فيما هو المقصود من هذه الشهادة لأن المقصود من هذه الشهادة إقرار ذي اليد بأن العبد للمدعي دون إثبات الشراء بدليل أنهما لو شهدا على الشراء في هذه الصورة فالقاضي لا يقضي بالشراء؛ إذ لو قضى بالشراء حصل القضاء لذي اليد، وهما إنما شهدا عليه لا له فعلم أن المقصود من هذه الشهادة إقرار ذي اليد بأن العبد للمدعي دون إثبات الشراء وهما اتفقا في هذا المقصود أما الأول: فلا شك وأما الثاني: فلأنه شهد على إقراره بالشراء من المدعي والإقرار بالشراء من المدعي إقرار بالملك للمدعي، وهذا الجواب مستقيم على رواية «الجامع» : أن الشراء والاستيام إقرار بالملك للبائع، أما على رواية «الزيادات» : فليس بإقرار بالملك للبائع فيحمل أن تكون المسألة على روايتين، فإن لم تكن المسألة على روايتين فوجهه على رواية «الزيادات» : أن الشراء إقرار من المشتري أنه لا ملك له في المحل، فخرج من البين، فيأخذه المدعي لأنه يدعيه ولا مزاحمة له فيه، ثم شرط

القبول هذه الشهادة أن يقول المدعي: إن ذا اليد أقر بأمرين جميعاً إلا أني لم أبعه منه، حتى لو قال المدعي: إن صاحب اليد أقر بأحد هذين الأمرين دون الآخر لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنه يصير مكذباً أحد شاهديه، وكذلك إذا شهد أحد الشاهدين أن الذي في يديه العبد أقر أن المدعي وهب العبد له، وشهد الآخر أن ذا اليد أقر أن المدعي تصدق به عليه، وقال المدعي صاحب اليد: أقر بالأمرين إلا أني ما وهبته وما تصدقت به عليه، فإنه يقضي بالعبد للمدعي؛ لأن كل مستوهب ومتصدق عليه مقر بالملك للواهب والمتصدق.
وكذلك لو شهد أحد الشاهدين أن الذي في يديه العبد أقر أنه اشتراه من المدعي بألف درهم، وشهد الآخر أنه اشتراه بمئة دينار، أو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أنه قد استأجره من المدعي بعشرة دراهم، وشهد الآخر أنه أقر ذو اليد أنه اشتراه منه بألف

(8/482)


درهم أو شهد أحدهما أنه سمع ذا اليد يقول للمدعي: هب هذا العبد لي، وشهد الآخر أنه سمع ذا اليد يقول للمدعي: تصدق علي بهذا العبد، أو شهد أحد الشاهدين أن ذا اليد قال للمدعي: بعني بألف درهم، وشهد الآخر أن ذا اليد قال للمدعي: بعني بمئة دينار، وقال المدعي: أقر ذو اليد بذلك كله، إلا أني ما بعت منه ولا أجّرت، فالقاضي يقضي في هذه الوجوه كلها بالعبد للمدعي.
وكذلك إذا شهد أحدهما على إقرار الذي في يديه العبد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي أودعه إياه، قبلت شهادتهما، وقضي بالعبد للمدعي لأنهما اتفقا على إقرار ذي اليد أن العبد ملك المدعي؛ لأن الإقرار بالإيداع إقرار بالملك للمودع لأن الإيداع عقد شرعي لا يصح شرعاً إلا من المالك.

وكذلك إذا شهدا على الإقرار ذي اليد بالإيداع قضي للمودع؛ لأنهما شهدا على إقراره بالملك للمدعي، ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه عبد المدعي أودعه إياه، قضي به للمدعي؛ لأنهما اتفقا على إقرار ذي اليد، يكون العبد للمدعي، لكن زاد أحدهما الإقرار بالإيداع منه، ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي دفع العبد إليه لا يقضى بالعبد للمدعي.
وكذلك إذا شهد على إقراره أن المدعي دفع العبد إليه لا يقضى بالعبد للمدعي، فلم يجعل الإقرار بالدفع إقراراً بالملك للدافع وجعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالملك للمودع.
والفرق: أن الإيداع عقد شرعي يوجب ثبوت اليد للمودع وثبوت ولاية الحفظ وأنه لا يصح إلا من المالك باعتبار الأصل فكان إقراراً بالملك له، فأما الدفع ففعل حتى يؤخذ من المالك ومن غير المالك، وصحته بوجوده حياً فلم يكن مفتقراً إلى الملك، فلم يكن الإقرار بالدفع إقراراً بالملك للدافع، فلا يقضى بالعبد للمدعي ولكن يؤمر المدعى عليه بالدفع إلى المدعي، وقد ذكرنا هذا الفصل في المسألة التي حكينا عن ابن سماعة فيما تقدم.6
وكذلك لو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه غصبه من المدعي، فالقاضي يقضي بالعبد للمدعي؛ لأن الإنسان لا يغصب ملك نفسه، فكان الإقرار بالغصب إقراراً بالملك للمغصوب منه.

وكذلك إذا شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي وشهد الآخر على إقراره أنه رهنه منه أو استأجره منه، قضى بالعبد للمدعي؛ لأن الرهن والإجارة كل واحد منهما عقد شرعي لا صحة له إلا بقيام الملك للراهن والأجر على اعتبار الأصل، وكان الإقرار بهما إقراراً بالملك للمدعي، وهذا كله إذا قال المدعي: إنه أقر بما قال الشاهدان إلى آخر ما ذكرنا قبل هذا، ولو كان الذي في يديه العبد أقر أن العبد كان للمدعي، وادعى أن المدعي أعطاه صلة وجاء بشاهدين، شهد أحدهما أن المدعي أقر أنه تصدق بهذا العبد على المدعى عليه، والآخر شهد أن المدعي أقر أنه وهب هذا العبد من

(8/483)


المدعى عليه، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة إلا أن يأتي شاهد آخر يشهد على الهبة أو على الصدقة، بخلاف ما تقدم.
والفرق أن (149ب4) صاحب اليد ههنا أقر بالملك للمدعي في العبد، وادعى تلقي الملك فيه من المدعي فلابد لذلك من سبب، والسبب أحد العقدين إذ لا يجوز أن يتملك كل العبد من شخص واحد في حالة واحدة، كله بالهبة، وكله بالصدقة، فلابد من أن يدعي أحدهما، ومتى ادعى أحدهما يصير مكذباً شاهده الآخر، فلا يبقى له على ما ادعى إلا شاهد واحد.
أما فيما تقدم فالمدعي لا يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد حتى يحتاج إلى إثبات سبب الملك، وإنما ادعى أن العبد ملكه من الأصل، ولم يكن محتاجاً إلى إثبات سبب الملك، بل حاجته إلى إقرار ذي اليد أن العبد ملكه وقد ثبت ذلك من الوجه الذي بينا، وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أن المدعي أقر أنه وهبه للذي في يديه وقبضه؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بالهبة، وإنما اختلفا في اللفظ، وهذا لأن النحلى والعمرى والهبة من أسماء الهبة، يقال: نحله كذا وعمره كذا، ووهبه كذا، والاختلاف في اللفظ لا يمنع قبول الشهادة بعد الاتفاق على المعنى كما لو شهد أحدهما بالنكاح والآخر بالتزويج بخلاف الهبة والصدقة؛ لأنهما يختلفان لفظاً ومعنى، أما لفظاً: فلا شك؛ وأما معنى: فلأن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى ولا رجوع فيها، والهبة يراد بها وجه العبد وفيها رجوع، وكانا مختلفين لفظاً ومعنى وليس على أحدهما شهادة شاهدين.
وزعم بعض مشايخنا أن الاختلاف بين الهبة والصدقة من حيث أن في الهبة رجوع ولا رجوع في الصدقة وليس كما ظنوا، ألا ترى أنه لو شهد أحدهما بالهبة من فقير أو من ذي رحم محرم وشهد الآخر بالصدقة لا تقبل الشهادة ولا رجوع له، وإنما الاختلاف من حيث الذات، فذات الهبة غير ذات الصدقة.

وكذلك إذا شهد أحدهما أنه باعه من الذي هو في يديه وقبض الثمن، وشهد الآخر على أنه وهبه من الذي في يديه لا تقبل شهادتهما؛ لاختلاف ظاهر بين البيع والهبة.

وكذلك لو شهد أحدهما أنه باعه وشهد الآخر أنه باعه بمئة دينار وقبض الثمن لا تقبل شهادتهما، لأن البيع يختلف باختلاف الثمن فيختلف المشهود به وكذلك إن كانت الشهادة على الإقرار بالبيع كما وصفنا؛ لأنهما لم يجتمعا على بيع واحد، ولو كان صاحب اليد ادعى أنه اشتراه من المدعي بألف درهم وقبض الثمن وجاء بشاهدين شهدا على البيع وقبض الثمن، إلا أنهما لم يبينا مقدار الثمن، فالقاضي يقبل هذه الشهادة؛ لأنهما اتفقا على البيع وقبض الثمن كما ادعاه المدعي وسكوتهما عن بيان مقدار الثمن احتمل الموافقة، لجواز أنهما لو استفسرا هنا الثمن ألفاً كما ادعاه المدعي، ويحتمل أنهما هنا بخلاف ذلك، فلا تثبت المخالفة فيما اتفقا عليه لتوهم الخلاف.
وكذلك لو شهدا على إقرار المدعي بالبيع وقبض الثمن ولم يبينا مقدار الثمن وذو اليد يقول اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن، فالقاضي يقبل الشهادة، وهذا بخلاف ما لو

(8/484)


شهدا على قبض الثمن فإنه لا تقبل شهادتهما، لأن الثمن إذا كان مقبوضاً فلا حاجة إلى القضاء بالثمن، لأنه وقع الفراغ منه، إنما الحاجة إلى إثبات الملك في المبيع فحسب، وأمكن القضاء بالملك في المبيع، لاتفاق الشاهدين على ذلك، فأما إذا لم يكن الثمن مقبوضاً فكما مست الحاجة إلى القضاء بالملك مست الحاجة إلى القضاء بالثمن وتعذر القضاء بالثمن لجهالته.
يوضح ما ذكرنا أن الشهادة على البيع وقبض الثمن شهادة بالملك المطلق للمدعي، لا أنه شهادة بالعقد، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه باع عبده بخمسمئة درهم من فلان، وقبض الثمن فقضى القاضي بالملك للمدعي ثم رجعا عن شهادتهما، وقيمة العبد ألف درهم أنهما يضمنان قيمة العبد دون الثمن، ولو حصل القضاء بزوال الملك عن العبد بالثمن لضمنا الثمن فعرفت أن القضاء بزوال الملك غير مقابل بالثمن حتى يضمنا قيمة العبد الذي تلف بشهادتهما، وإذا كان هكذا لم يصر الثمن مشهوداً به عند الشهادة بقبض الثمن فلا يمتنع القبول بترك بيان الثمن، فأما الشهادة على البيع بدون قبض الثمن شهادة بالعقد بدليل عكس ما ذكرنا، وتعذر القضاء بالعقد لكون الثمن مجهولاً؛ ولأن الجهالة إنما تمنع جواز البيع باعتبار أنها مانعة من التسليم والتسلم، وإذا كان الثمن مقبوضاً فلا حاجة إلى التسليم والتسلم، لأنه وقع الفراغ عنه فلا يمتنع القاضي من القضاء به، وإن بين أحدهما الثمن وهو ألف كما ادعاه المدعي وسكت الآخر عن بيان الثمن، ولكن كل واحد منهما شهد بقبض الثمن قبلت شهادتهما، لأنهما اتفقا على البيع وقبض الثمن وسكوت من سكت عن بيان الثمن يحتمل الموافقة لجواز أنه لو استفسر لبين أن الثمن ألف واحتمل المخالفة فلا تثبت المخالفة فيما اتفقا عليه لتوهم الخلاف، وإن لم يبين المدعي مقدار الثمن، وإنما ادعى البيع وقبض البائع الثمن، وشهدا على الشراء بألف، وذكرا قبض الثمن قبل القاضي شهادتهما، لأن الثمن إذا كان مقبوضاً فالشهادة لا تقع بالثمن وكذا القضاء لا يقع بالثمن فكان ذكره والسكوت عنه سواء، فقد اتفقت الدعوى والشهادة والمخالفة موهوم، فإن المدعي لو استفسر ربما بين أن الثمن ألف كما شهد به الشهود، فلا تبطل شهادتهما بألف درهم، وإن بين أحدهما أن الثمن ألف درهم وبين الآخر أن الثمن مئة دينار لا تقبل شهادتهما، وإن شهدا بقبض الثمن؛ لأنه لابد وأن يدعي أحد العقدين،

وعند ذلك يصير مكذباً شاهده الآخر.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله في رجل ادعى داراً في يدي رجل وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنها دار المدعي وشهد الآخر على إقرار صاحب اليد إنها للمدعي فالشهادة مختلفة.
بيانه أن أحدهما شهد للمدعي بالملك وأنه ليس بقول، والآخر شهد على إقرار المدعى عليه بالملك للمدعي والإقرار قول، فاختلف المشهود به من حيث الصورة، وكذلك من حيث المعنى، لأن الإقرار حجة الملك على المدعى عليه وهو المقر لا أن يكون نفس الملك، ولم يقم على الإقرار حجة حتى صار كالمعاين، فيقضي به ولم يقم على الملك شاهدان حتى يمكن القضاء بالملك للمدعي بشهادتهما، فتعذر

(8/485)


القضاء بشهادتهما فلا يقض بهما، فرق بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما للمدعي على المدعى عليه بألف وشهد الآخر على إقرار المدعي عليه بالألف قال: هذا جائز لأنه إقرار كله، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله ذكر.
الناطفي رواية أبي يوسف في «واقعاته» فقد فرق بينهما وأشار إلى الفرق أن شهادة الشاهد بالملك المطلق يعتمد دليلاً يطلق له أداء الشهادة بالملك المطلق، ولا دليل عليه سوى اليد، فالذي شهد بالملك للمدعي شهد على يد المدعي من حيث الحقيقة، والآخر شهد على إقرار المدعى عليه بالملك فاختلف المشهود به، فلا يمكن القضاء بشهادتهما، وللشهادة على وجوب الدين على المدعى عليه مطلقاً من غير أن يعرف سبب وجوبه يعتمد دليلاً يطلق له ذلك، وذلك الدليل ليس إلا هو الإقرار، فهو الحجة لوجوب الدين عليه مطلقاً كما أقر به، فأما ما سواه من الأدلة فذلك يسير إلى سبب وجوب الدين فلم يكن ديناً مطلقاً خالياً عن السبب، فالذي شهد بالدين للمدعي مطلقاً شهد على إقرار المطلوب بهذا الدين معنى ولو شهد به صريحاً حصلت الموافقة بين الشاهدين في شهادتهما كذلك.
هذا وفي غصب «الأصل» : إذا شهد أحد الشاهدين أن قيمة الثوب المغصوب المستهلك كذا وشهد الآخر على إقرار الغاصب أن قيمته كذا لا تقبل شهادتهما.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : إذا ادعى الرجل داراً في يد غيره وأقام شاهدين شهد أحدهما أنها داره ورثها من أبيه، وشهد الآخر أنها داره ورثها من أمه فالشهادة باطلة، لأنهما اختلفا في سبب الملك، والأملاك تختلف (150أ4) باختلاف أسبابها، واختلاف المشهود به يمنع قبول الشهادة فرق بين هذا وبين الإقرار، فإنه إذا أقر أن هذه الدار له ورثها من أبيه فقال المقر له: لا بل ورثتها من أمي، كان للمقر له أن يأخذ الدار من المقر، وإن اختلفا في السبب والفرق أن الإقرار حجة تلزمه بنفسه، لو بطل حكمه إنما يبطل بتكذيب المقر له، وإنه لم يكذبه في أصل الملك فثبت أقصى ما في الباب أنه كذبه في السبب، ولكن لا حاجة إلى إثبات السبب بعد ثبوت الحكم، فأما في مسألتنا فالشهادة إنما تصير حجة بقضاء القاضي وكانت حالة القضاء حال ثبوت الحكم، وثبوت الحكم لابد له من سبب ولا يمكن إثبات السببين جميعاً؛ للتنافي ولعدم الحجة عليهما، ولا إثبات أحدهما؛ لأنه لم يقم عليه حجة كاملة وفي شهادة المثنى، ولأنه لابد من الدعوى لقبول الشهادة، ولا يمكنه دعوى السببين للتنافي، ولو ادعى أحدهما كان مكذباً لشاهده الآخر فبطلت شهادته لتكذيبه، فتعذر القضاء بها.

وكذلك إذا شهد أحدهما أنه اشتراها من فلان وهو يملكها، وشهد الآخر أن فلاناً آخر وهبها له وهو يملكها وقبضها منه، فإنه لا تقبل شهادتهما لما ذكرنا، ولأنه إنما تلقى الملك من جهة الواهب أو المشتري، ما لم يثبت الملك له لا ينتقل إليه ولم يثبت، لا ملك البائع ولا ملك الواهب؛ لأنه لم يشهد على كل واحد منهما إلا شاهد واحد، وهذه العلة تصلح علة في المسألة الأولى لمنع قبول الشهادة، ثم في هذه المسألة أنه يختلف الجواب مما إذا لم يوفق المدعي، وبينما إذا وفق فقال: كنت اشتريتها من فلان كما شهد

(8/486)


به هذا الشاهد وقبضتها ثم بعتها من فلان وسلمتها إليه ثم استوهبتها فوهبها لي وقبضتها منه، فإنه لا تقبل شهادتهما في الوجهين جميعاً، فرق بين هذا وبينما إذا ادعى أنه اشتراها من فلان، وشهد شاهدان أنه وهبها وقبضها منه فإنه لا تقبل شهادتهما قبل التوفيق، ولو وفق فقال: كنت اشتريتها من فلان ثم جحدني الشراء فاستوهبتها منه فوهبا لي وأعاد البينة، قبلت هذه الشهادة.
ووجه الفرق: أنه في تلك المسألة أقام على الهبة شاهدين، وقد زالت المخالفة بين الدعوى والشهادة بالتوفيق، فقبلت شهادتهما وقضي بالهبة لكمال الحجة عليها، أما ههنا إن زالت المخالفة بالتوفيق ولكن لم يشهد بالهبة إلا شاهد واحد فيعذر القضاء به، لأن القضاء بشهادة الفرد لا تجوز، حتى لو شهد معه شاهد آخر على الهبة قضي له بالهبة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فادعى الغريم أنه أوفاها صاحبها، وصاحب المال يجحد ذلك فشهد للغريم شاهدان، شهد أحدهما: أن صاحب الحق أبرأ الغريم من المال، وشهد الآخر أن صاحب المال أقر بالاستيفاء، لم تقبل شهادتهما لأنهما اختلفا لفظاً ومعنى، أما لفظاً فلا شك وكذلك معنى، لأن الذي شهد بالإبراء إن عنى به الإبراء بغير عوض، فهو إسقاط وليس في الاستيفاء معنى الإسقاط، فجاب المخالفة وإن عنى به الإبراء الذي هو حكم الاستيفاء صار هو شاهداً بمعاينة الاستيفاء، وإنه فعل، والآخر شاهد بالإقرار به وإنه قول، ومثل هذا مانع قبول الشهادة كما لو شهد أحد الشاهدين على الغصب، وشهد الآخر على الإقرار بالغصب ولو كان الذي شهد بالإبراء شهد أن صاحب الحق أقر أن الغريم برئ إليه قبلت الشهادة؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من الغريم وانتهاؤها بصاحب الدين تكون بطريق الإيفاء والاستيفاء، فكانت الشهادة بمثل هذه البراءة شهادة على الإقرار بالاستيفاء أيضاً، فقد اتفقا في المعنى وما شهد به داخل تحت دعوى المدعي أيضاً، فلهذا تقبل.

ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه استوفى الألف وشهد الآخر أنه حلله له، أو أجله أو وهبه له أو تصدق به عليه فالشهادة باطلة، لأن الاستيفاء أخذ الحق، وهذه الأشياء شيء تبنى عن التبرع فاختلف المشهود به، ولأن هذه الأشياء لا تصلح حكماً للاستيفاء ثم لما لم تقبل شهادة البراءة مع أنها تصلح حكماً للاستيفاء، لأَن لا تقبل هنا أولى وأنه لا يصلح حكماً له، ولو ادعى المطلوب الأداء فشهد له شاهدان أن صاحب الحق أبرأه من دينه أو أنه حلله فالشهادة جائزة، لأن المشهود به واحد وما شهد أنه داخل تحت دعوى المدعي من وجه، لأن المدعي وهو المطلوب بدعوى الاستيفاء ادعى براءة معيدة بالاستيفاء؛ لأن الإبراء من حكم الاستيفاء، فإنه يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء وهما شهدا ببراءة مطلقة للبراءة بالإبراء وللبراءة بالإيفاء، فكانت هذه شهادة ببعض ما ادعاه فقبلت وفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى فإنه اعتبر هذا مخالفة بين الشاهدين

(8/487)


حتى أبطل شهادتهما، كذلك ولم يعتبره مخالفة بين الدعوى والشهادة.
ووجه الفرق: أن في تلك المسألة المخالفة بين الإيفاء والإبراء ظاهرة صورة أو تثبت الموافقة، إنما تثبت باعتبار الضمن فإنما يمكن إثباتها ضمنا إذا ثبت المتَضمَّن ولم يثبت المتَضمَّن وهو الاستيفاء بشهادة أحدهما، لأن شهادة الفرد ليست بحجة، فلا يثبت ما في ضمنه، فلم تحصل الموافقة فأما ههنا كلام المدعي معتبر وأنه ثابت، ولكنه دعوى فثبت ما في ضمنه، وهو الإبراء فحصلت الموافقة بينه وبين الشهادة بالإبراء.
والثاني: أن امتناع القبول ثمة باعتبار أن أحدهما شهد بالفعل وهو الاستيفاء، والآخر بالقبول وهو الإبراء، واختلاف الشاهدين على هذا الوجه يمنع صحة شهادتهما وقبولها، ومثل هذا الاختلاف في الدعوى والشهادة لا يمنع القبول، ألا ترى أن أحد الشاهدين لو شهد بالغصب وشهد الآخر على الإقرار به لا تقبل.

ولو ادعى الغصب وشهد الشهود بالإقرار بالغصب قبلت شهادتهم، ولو شهدوا على الهبة أو الصدقة أو النحلى أو العطية أو الإحلال لا تقبل شهادتهم؛ لأن الغريم يدعي الاستيفاء، وهذه الأشياء ليست من أحكام الإيفاء؛ لأن الهبة تبنى على التبرع وكذا الصدقة والإحلال عبارة عما ينتفع به بتمكينه إياه، وبالإيفاء إنما ينتفع حكماً لملكه ما في ذمته لا بإحلاله فبطلت الشهادتان؛ لاختلاف بينهما بخلاف الإبراء، فإنه يصلح حكماً للإيفاء على ما ذكرنا.
قال ولو ادعى الغريم البراءة أي ادعى أن رب المال أبرأه فشهد أحد الشاهدين بذلك وشهد الآخر أنه وهب له الحق أو تصدق عليه أو نحله أو حلله منه أو أجله له قبلت الشهادة؛ لأنهما اتفقا معنى من كل وجه في بعض هذه الألفاظ، ومن وجه في بعض هذه الألفاظ، وما شهد أنه داخل تحت دعوى المدعي من كل وجه أو من وجه.
بيانه: أن المدعي ادعى براءة مطلقة، وأنها تحتمل البراءة بالإبراء، وقد اتفق الشاهدان على الإبراء معنى من كل وجه أو من وجه، لأنه شهد أحدهما بالإبراء والآخر بالتحليل، والتحليل مما يعبر به عن الإبراء أو يقام مقام الإبراء، فالذي شهد بالتحليل شهد بالإبراء معنى، فتثبت الموافقة بين الشاهدين معنى من كل وجه فتدخل تحت دعوى المدعي من كل وجه، وأما من وجه، فلأنه شهد أحدهما بالإبراء وأنه يحتمل الإبراء الذي ثبت حكماً للاستيفاء، ويحتمل الإبراء الذي هو إسقاط، وشهد الآخر بالهبة والصدقة والنحلى والإحلال، وهذه الألفاظ إنما تستعمل للبراءة بالإبراء لا للبراءة بالإيفاء، وشاهد الإبراء شهد ببراءة محتملة الأمرين فتثبت الموافقة بين الشاهدين من وجه فيدخل تحت الدعوى من وجه وهذا كاف للقبول؛ لأن الشهادات حجج الله تعالى يجب العمل بها ما أمكن.

فإن قيل: إذا شهد أحدهما بالإبراء والآخر بالهبة ينبغي أن لا تقبل، لأن الإبراء مع الهبة يختلفان لفظاً ومعنى؛ لأن الإبراء موضوع الإسقاط والهبة موضوع للتمليك، ولهذا صاحب الدين إذا أبرأ الكفيل فرد الكفيل لا يريد ولو وهب له فرد يريد، فإذا اختلفا لفظاً

(8/488)


ومعنى يجب أن لا تقبل وإن اتحد حكمهما شرعاً كما لو شهد أحدهما بالحلية والآخر بالبرية.
قلنا: الإبراء مع الهبة تختلفان معنى في حق الكفيل على (150ب4) الوجه الذي قلتم، إما يتفقان يعني في حق المطلوب فإن إبراء المطلوب والهبة منه كل واحد منهما إسقاط من وجه حتى يصح من غير قبول وتمليك من وجه حتى يرتد برده.
قال: ولو ادعى الغريم الهبة فشهد له شاهد بالهبة والآخر بالصدقة، لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الهبة مع الصدقة تختلفان لفظاً ومعنى، أما لفظا فظاهر وأما معنى، فلأن الهبة يقصد بها وجه الموهوب له ومكافأته، والصدقة يقصد بها رضى الله تعالى وثوابه، وطعن أبو حازم القاضي رحمه الله وقال: وجب أن يقال، لأن الصدقة مع الهبة لا يختلفان في هذا الباب، ألا ترى أن المدعي لو ادعى البراءة وشهد أحد الشاهدين بها، والآخر بالهبة أو بالصدقة تقبل الشهادة، وجعلت الشهادة بالصدقة في تلك المسألة كالشهادة بالهبة.
والجواب عن هذا الطعن أن يقال: إن الغريم إذا ادعى البراءة وشهد أحدهما بالبراءة، والآخر بالهبة أو بالصدقة إنما قبلت الشهادة باعتبار أن البراءة لفظة عامة تذكر، ويراد بها براءة يقصد بها وجه الغريم وطلب المكافأة منه، ويذكر ويراد بها براءة يقصد بها وجه الله تعالى وثوابه، والمدعي ادعى البراءة مطلقاً.

فإذا شهد أحدهما بالبراءة والآخر بالصدقة فقد شهدا بما دخل تحت الدعوى من وجه، ووُجِدت الموافقة بين الشاهدين معنى فيما دخل تحت الدعوى فتقبل، أما ههنا: فالغريم ادعى الهبة وهو اسم لبراءة مخصوصة يراد بها وجه الغريم، والشاهد بالصدقة شهد ببراءة يقصد بها وجه الله تعالى ورضاه، وهذا لم يدخل تحت الدعوى أصلاً، ولم تثبت الموافقة أيضاً بين الشاهدين لا لفظاً ولا معنى فلا تقبل، وكذلك إذا ادعى الغريم البراءة فشهد له شاهد بالهبة والآخر بالصدقة لا تقبل هذه الشهادة.
فإن قيل: وجب أن تقبل هذه الشهادة، لأن يشهد أن دخل تحت دعوى المدعي من وجه، لأن المدعي ادعى براءة مطلقة فيدخل تحتها براءة يقصد بها وجه الغريم، وبراءة يقصد بها وجه الله تعالى.
قلنا: بل الأمر كما قلتم إلا أنهما اختلفا لفظاً ومعنى، لما مر أن الهبة مع الصدقة تختلفان لفظاً ومعنى فكان الشهود به شيئين، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد فلهذا لا تقبل.
قال: ولو ادعى الغريم الهبة فشهد له شاهد بالبراءة وشاهد بالهبة أو بالنحلى أو العطية؛ فالشهادة جائزة، لأن الذي شهد له بالهبة وافقه فيما ادعى، وشاهد البراءة شهد ببعض ما ادعى؛ لما ذكرنا أن الهبة تتضمن الإبراء فحصلت الموافقة بين الشاهدين في

(8/489)


الأول فيقبل شهادتهما، ولو شهد أحدهما ببعض ما ذكرنا، وشهد الآخر بالصدقة لم تقبل شهادتهما، لأنهما شهدا بالتمليك والهبة والصدقة مختلفة على ما مر، فاختلفت شهادتهما وثبت الاختلاف بين الدعوى والشهادة أيضاً، لأن الشاهد على الصدقة يشهد على خلاف ما ادعاه المدعي من الهبة والمخالفة بين الدعوى والشهادة ولو ادعى العطية أو الهبة أو النحلى أو الصدقة، وشهد شاهدان على الإستيفاء لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الهبة ليست من حكم الاستيفاء، وكذلك الاستيفاء ليس من حكم الهبة فلا يمكن القبول بتحقيق الموافقة بينهما.

ولو ادعى أنه أحل له ماله عليه فشهدا بالاستيفاء قال: الشهادة باطلة ولم يذكر أن القاضي يسأل، وذكر فيما ادعى أنه أبرأه أو أحل، له وشهد شاهدان على إقرار صاحب الحق بالاستيفاء أن القاضي يسأل الغريم عن البراءة والتحليل أنه بالاستيفاء أو بغيرها، والسؤال في دعوى البراءة في تلك المسألة متفق عليه، أما في دعوى البراءة يسأل؛ لأن الإبراء عسى يكون بطريق الاستيفاء يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء، فإذا احتمل الموافقة وجب السؤال وأما في دعوى الإحلال فالسؤال مختلف فيه، فمن أصحابنا من قال بأن السؤال واجب فيه أيضاً؛ لأن الإحلال يتضمن معنى الاستيفاء، لأنه متى استوفى فقد أحله منه، لأنه باشر سببه وهو الاستيفاء فاحتمل الموافقة فوجب السؤال كما في دعوى الإبراء ومنهم من فرق بينهما فقال: الإقرار بالاستيفاء له حكم الإبراء من وجه وحكم الاستيفاء من وجه، حتى أن المريض إذا أقر باستيفاء الدين من وارثه لا يصح، ولو أقر بالاستيفاء من الأجنبي صح من جميع المال، فإذا احتمل الوجهان جميعاً وجب السؤال، فأما الشهادة على نفس الاستيفاء فلا يحتمل، لأن الاستيفاء يكون بقبض الحق معاينة وأنه يخالف الإبراء، وكذا الإحلال لأنه يكون بالإسقاط، فكانت المخالفة ظاهرة فلا معنى للسؤال بل وجب رد الشهادة للمخالفة، ثم في كل موضع وجب السؤال فإن سأله فقال بالاستيفاء أمضى الشهادة، لظهور الموافقة، وإن لم يجبره بشيء لم يجبره على شيء، لأنه لا يجوز جبر المدعي على الدعوى ولم تجز شهادتهما، لأن ظاهره المخالفة وإنما ثبتت الموافقة بإخباره أنه أراد به البراءة بجهة الاستيفاء ولم يوجد فلا تقبل شهادتهما.
h

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله في رجل له على رجل ألف درهم، فأقام المطلوب على الطالب شاهدين، شهد أحدهما أنه أقر أنه أبرأ فلاناً من جميع ماله عليه من حق، وشهد الآخر أنه قبض من فلان جميع ماله عليه من حق قال: لا أقبل ذلك لأنهما اختلفا؛ لأن الإبراء قول والقبض فعل، والإبراء إسقاط للحق والقبض يضاده فاختلف المشهود به ولو كان له على رجل ألف درهم وبها كفيل فجاء المطلوب بشاهدين شهد أحدهما على إقرار الطالب أنه قبضها من الكفيل لم أقبل ذلك؛ لأن القبض من الكفيل غير القبض من الأصيل فاختلف المشهود به.
ولو كان له على رجل ألف درهم، فادعى المطلوب أن الطالب أبرأه منها وجاء بشاهدين شهد أحدهما على الإبراء والآخر على إقرار الطالب أنه قبض منه جميع ماله

(8/490)


عليه، لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف؛ لأن الإبراء قول والقبض فعل، ولم يقل بأن القاضي يسأل شاهد الإبراء أن الإبراء أكان بالاستيفاء أو بالإسقاط، وقال في المديون إذا ادعى الإبراء على الطالب وشهد له شاهدان على إقرار الطالب بالاستيفاء أن القاضي يسأل المدعي عن البراءة أنها كانت بالاستيفاء أو بغيره.
والفرق وهو أن دعوى البراءة تحتمل دعوى الإيفاء على ما ذكرنا، وعلى اعتبار دعواه الإبراء ألا يتحقق الموافقة بين الدعوى وبين الشهادة ويجب قبول الشهادة، وعلى اعتبار دعواه الإبراء لا يتحقق الموافقة ولا يجب قبول الشهادة، فكان السؤال مقيداً، أما هنا فالسؤال لا يفيد لأنه لا قبول لهذه الشهادة على كل حال أراد شاهد البراءة البراءة بالإبراء أو بالاستيفاء إن أراد البراءة بالإبراء فظاهر وإن أراد البراءة بالاستيفاء؛ فلأن الاستيفاء فعل وأحدهما شهد بالفعل، والآخر شهد بالإقرار بالقبض، وإنه قول فيختلف المشهود به فلا قبول لهذه الشهادة على كل حال، فلم يكن السؤال مفيداً.

قال: ولو شهد أحدهما على إقرار الطالب أنه وهب له الألف، وشهد الآخر أنه أبرأه من جميع ماله عليه لا تقبل الشهادة، وفرق بين هذا وبين ما إذا ادعى المديون الإبراء على الطالب، فشهد له شاهد بالهبة، وشاهد بالإبراء، حيث تقبل شهادتهما.
والفرق أن هناك المشهود به نفس الإبراء والهبة، وهما متفقان في المعنى؛ لأن الهبة إذا أضيفت إلى الدين تفيد البراءة، وأحدهما شهد على الحكم وهو البراءة والآخر شهد على البراءة بسبب وهو الهبة، وقد ذكرنا غير مرة أن العبرة في مثل هذا لاتحاد المعنى لا لاختلاف اللفظ، أما في مسألتنا فالمشهود به الإقرار، وإنه حكاه عن لفظ الطالب، وقد اختلف اللفظ واختلف المشهود به، ألا ترى أنه لو شهد أحد الشاهدين بالتخلية والآخر بالتبرئة لا تقبل الشهادة، لأنه حكاية عن اللفظ المطلق، وقد اختلف اللفظ فقد اختلف المشهود به.

ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه اشترى منه بالألف عبداً وشهد الآخر أنه أبرأه من جميع ماله عليه والمطلوب يقول (151أ4) أقر عندهما كذلك، ويدعي البراءة لا تقبل شهادتهما، لأنهما اختلفا في سبب البراءة، فأحدهما يشهد بالبراءة بالمقاصة التي هي بمعنى الاستيفاء، والآخر يشهد بالبراءة بالإبراء الذي هو إسقاط.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد في رجلين شهدا على وصية رجل، فشهد أحدهما أنه قال: جميع مالي لفلان بعد موتي، وشهد الآخر أنه قال: جميع مالي صدقة على فلان بعد موتي، وذلك في مجلس أو في مجلسين فالشهادة جائزة، فرق بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بالهبة والآخر بالصدقة في حالة الحياة، حيث لا تقبل شهادتهما، واعتبر المشهود به مختلفاً لمكان الاختلاف الذي بين الهبة والصدقة، ولم يوجب هذا اختلاف المشهود به، وإن شهد أحدهما بالصدقة.

والفرق: أن في تلك المسألة اختلفا في سبب الملك لما ذكرنا من المغايرة بين الهبة والصدقة، فلابد من أن يصدق المدعي أحدهما لأنه لابد من دعوى سبب لإثبات

(8/491)


الملك بسبب، وفي تصديق أحدهما تكذيب الآخر فبطلت شهادتهما، أما ههنا لم يختلفا في سبب الملك لأن السبب هو الوصاية، وقد اتفقا على الوصاية، لكن تفرد أحدهما بزيادة لفظة الصدقة، وتفرد أحدهما بزيادة لفظ لا يمنع قبول الشهادة فيما اتفقا عليه.
وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمهما الله: رجل شهد على رجل أنه أعتق أمته هذه وتزوجها، وشهد آخر أنه أقر أنه اعتق أمته وتزوجها قال: تعتق الأمة ولا يثبت النكاح، وهذا بناء على أن الإعتاق قول لا تختلف فيه صيغة الإنشاء والإقرار، وفي مثل هذا اختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء لا يضر، والنكاح وإن كان قولاً إلا أنه ألحق بالأفعال من حيث إنه يتضمن فعلاً فاختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء والأفعال صائر، فلهذا قال: يثبت العتق ولا يثبت النكاح.
وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل لرجل أن زيداً أقر أنه اشترى هذه الدار له بأمره، وشهد آخر أن زيداً أقر أن هذه الدار له، فهذه الشهادة جائزة عندنا وقد ذكرنا قبل هذا رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله فيما إذا شهد أحد الشاهدين أن الدار المدعى (بها) لهذا المدعي، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه أن الدار المدعى بها لهذا المدعي، إن الشهادة لا تقبل.
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل ادعى على رجل ألف درهم فشهد شاهدان أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضاً وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن متاع اشتراه وقبضه، وقال الطالب: إنما مالي عليه قرض ولم يشهد لي إلا بالقرض، فقد أكذب الشاهد الذي شهد له أنها من ثمن متاع، ولو قال: قد أشهد على هاتين الشهادتين المختلفتين، لكن أصل مالي كان قرضاً، قضى له عليه ألف درهم، ولو قال: مالي من ثمن متاع بعته وقبضه مني، وقد أشهد هذين على ما شهدا به، لا يقضى له بشيء حتى يأتي بشاهد آخر يشهد له على مثل شهادة الذي يشهد له من ثمن المتاع إذا أقر الطالب أن ماله من ثمن متاع، فلابد من شاهدين على قبضه.

ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضا وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ضمان ضمن له عن فلان بأمره، فان قال الطالب: اشهد لي بهاتين الشهادتين على ما وصفنا وأن مالي عليه قرض، فإنه يقضي له بالمال، وإن قال: مالي من ضمان كما شهد به الآخر، لا يقضى عليه بشيء والضمان في هذا والبيع سواء، وأما في قياس قول أبي حنيفة: المال اللازم في الوجهين جميعاً.
ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن جارية اشتريتها منه وقبضتها، وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن بر اشتريته وقبضته، وقال الطالب: هذا شهد على هاتين الشهادتين لكن مالي عليه قرض فالقاضي يقضي بالمال، ولو ادعى أحد هذين الوجهين فالقاضي لا يقضي بشيء، وكذلك لو شهدا بالمال من ضمان مختلف فهو مثل البيع المختلف.

ولو ادعى المطلوب الدفع والبراءة وشهد له شاهد أن الطالب أقر أنه قبضها منه،

(8/492)


وشهد آخر أن الطالب أقر أن وكيلاً له قبضها منه، وقال المطلوب: لم يشهد لي على قبض الوكيل، فقد أكذب شاهد الوكالة، ولو قال: قد أشهد لي بهاتين الشهادتين إلا أني دفعتها إليه في يده، فإنه يقضي له بالبراءة منها، ولو لم يقل دفعتها إليه في يده ولكن قال: دفعتها إلى وكيله لم يقض له بالبراءة منها حتى يأتي بشاهد آخر على دفعها إلى الوكيل من قبل أنه أقر أنه دفعها إلى غيره، ولم يشهد على وكالته إلا واحداً.
وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أنه، له وشهد آخر أن فلاناً وهبه منه وهو يملكه فهو جائز، وكذلك الصدقة، وإن جاء فلان وأنكر ذلك قال: يجيء بشاهد آخر على الهبة والصدقة، ولو شهد واحد أنه له وشهد آخر أنه اشتراه من فلان وهو يملكه لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، هذه الجملة من «المنتقى» .
ولو شهد أحد الشاهدين على الشراء مع العيب، وشهد الآخر على الإقرار على الشراء مع العيب لا تقبل، وكذا لو شهد أحدهما على قيمة الثوب المغصوب الهالك أنها كذا وشهد الآخر على الإقرار بذلك لا تقبل.
وإذا ادعى على رجل ألف درهم وقال: خمسمئة منها ثمن عبد اشتراه مني وقبضه، وخمسمئة منها من ثمن متاع اشتراه مني وقبضه، وشهد الشهود له بالخمسمئة مطلقاً قبلت الشهادة على الخمسمئة؛ لأنهما اتفقا على هذا المقدار، وذكر السبب ليس بشرط، فهذه المسألة تنصيص على أن المدعي إذا ادعى الدين بسبب وشهد الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل ويقضى بالدين، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، والمسألة مرت من قبل والله أعلم.

الفصل الثاني والعشرون: في التناقض في الدعوى والشهادة
قال محمد في «الجامع» : رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها داره اشتراها من فلان، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً ذلك وهبها وقبضها منه وهو يملكها، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، لأنها خالفت الدعوى صورة ومعنى، أما صورة: فظاهر، وأما معنى: فلان الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، ويثبت في الشراء خيار الرؤية وخيار العيب ولا يثبت في الهبة، وإذا استحق المشترى من يد المشتري يرجع على البائع بالثمن، والموهوب له عند الاستحقاق لا يرجع على الواهب بشيء، فان وفق المدعي فقال: كنت اشتريته منه إلا أنه جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة، فتشفعت له حتى يهبها مني فوهبها مني بعد ذلك وقبضتها، وأعاد البينة قبلت بينته، وليس معنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : وأعاد البينة على ذلك أعاد البينة على أنه كان اشتراها من فلان وجحد فلان البيع، ثم وهبها منه كما ذهب إليه الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله؛ لأنه لو وجد بينة على الشراء لاستغنى عن إقامة البينة على الهبة،

(8/493)


وإنما معناه إقامة البينة على الهبة والقبض، وإنما قبلت هذه البينة بعد التوفيق على هذا الوجه؛ لأن التوفيق يزيل المخالفة، ويكون ذلك ابتداء الدعوى الهبة من حيث الحقيقة.
فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل البينة على الهبة؛ لأنه يدعي هبة فاسدة، فانه ادعى أنه وهبه ملكه، فإنه يملكه بالشراء، والشراء لا ينفسخ بجحود أحد المتبايعين، قلنا: البائع قد جحد البيع وجحود أحد المتبايعين فسخ للعقد، فكأن البائع قال: فسخت البيع، فيقف على قبول المشتري، فلما استوهبه منه المشتري فقد أجابه إلى الفسخ؛ لأنه لا صحة للهبة منه إلا على تقدير فسخ الشراء بمقتضي طلب الهبة من المشتري، فانفسخ الشراء فيما بينهما، وصار المدعى عليه واهباً ملك نفسه، فكانت الهبة صحيحة.

وقال في «الجامع الصغير» : رجل ادعى داراً في يدي رجل أنه وهبها له وسلمها إليه في وقت كذا، فسأله القاضي البينة قال: إنه جحدني الهبة، فاشتريتها منه في وقت كذا، ذكر وقتاً قبل الوقت الذي ادعى فيه الهبة وأقام على ذلك بينة قُبلت بينته؛ لأنه في (151ب4) الوجه الاول التوفيق بين الكلامين لا يمكن إذ لا يمكنه أن يقول وهبها لي في الوقت الذي ادعيت الهبة، ثم جحد لي الهبة فاشتريتها منه قبل ذلك الوقت، وإذا لم يكن التوفيق ظهر التناقض، والناقض مانع صحة الدعوى، فأما في الوجه الثاني فالتوفيق ممكن، فلا يظهر التناقض فتصح الدعوى.

فإن قيل: ينبغي أن لا تصح دعواه في الوجه الثاني، لأنه ادعى شراء باطلاً؛ لأنه ادعى شراء ما ملكه بالهبة، قلنا: الواهب لما جحد الهبة فقد فسخها؛ لأن جحود ما عدا النكاح من العقود فسخ له، فانفسخت الهبة في حقه وتوقف في حق الموهوب له على إجازته، فإذا طلب الشراء منه فقد أجاز ذلك الفسخ فانفسخت الهبة في حقهما وصار المشتري مشترياً ما ليس بملك له فصح.
فإن لم يذكر للشراء تاريخاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي كتاب «الأقضية» ذكر عين هذه المسألة في الصدقة وأجابه في هذا الفصل أنه تقبل بينته؛ لأن التوفيق ممكن؛ لأن الشراء حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد تاريخ الصدقة، فكأنه ادعى الشراء بعد تاريخ الصدقة وعند إمكان التوفيق لا يظهر التناقض، هذا أصل كبير لأصحابنا رحمهم الله.

وفي «الأصل» : وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أنها داره ورثها من أبيه منذ سنة، وأقام البينة أنه اشتراها من الذي في يديه منذ سنتين والمدعي يدعي ذلك، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا يقضى بالدار للمدعي، لأنه ادعى الملك في جميع هذه الدار منذ سنة بالشراء، وادعى الملك في جميعها منذ سنة بالميراث أيضاً، والإنسان لا يتصور أن يكون مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالشراء والإرث، وإنما يكون مالكاً له بأحد السببين، ولا يُدْرى ذلك فبطلا جميعاً، فتبقى الشهادة بدون الدعوى.
فإن وَفَّق المدعي فقال: كنت اشتريتها منذ سنتين من ذي اليد، كما شهد الشهود ثم بعتها من أبي، ثم ورثتها من أبي منذ سنة، متى وفق على هذا الوجه وشهد الشهود

(8/494)


بذلك، يعني بالبيع من الأب ثم بالإرث منه قبلت شهادته وقضي بالدار له، لأن بالتوفيق على هذا الوجه تزول المناقضة؛ لأن المناقضة في هذه الصورة من حيث إنه ادعى الملك في جميع الدار بالشراء وبالإرث في وقت واحد وهو منذ سنة.
فإذا قال: بعتها من أبي بعد الشراء منه ثم ورثتها من أبي منذ سنة، فإنما ادعى الملك بالشراء والإرث في وقتين، والملك بالشراء والميراث في وقتين متصور فزالت المناقضة، وإنما احتيج إلى إقامة البينة بعد التوفيق، لأن التوفيق إنما يثبت بالبيع من أبيه، وإنها دعوى على الأب وليس بإقرارٍ على نفسه، والدعوى على الغير لا تثبت إلا ببينة، وكذلك إذا ادعى هبة أو صدقة مكان الشراء كان الجواب فيه، كالجواب فيما إذا ادعى الشراء لأنه كما لا يتصور أن يكون الإنسان مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالهبة والميراث أو بالصدقة والميراث.

ولو ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها منه بعبده هذا منذ شهر، وجحد المدعى عليه البيع، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها منذ قام من عند القاضي بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك لم تقبل بينته، إلا أن يوفق، فيقول: اشتريتها بعبدي هذا فجحدني الشراء فاشتريتها منه ألف درهم، لأنه بالتوفيق تزول المناقضة وبدون التوفيق المناقضة ثابتة.
فإن قيل: المناقضة منهما منتفية بدون التوفيق؛ لأن الثابت أحد الشراءين وهو الشراء الأول؛ لأن الشراء الأول لا يخلو، إما إن كان ثابتاً أو لم يكن ثابتاً، إن لم يكن ثابتاً ثبت الثاني، وإن كان ثابتاً ينفسخ مقتضى ثبوت الثاني سابقاً عليه، بخلاف دعوى الميراث من أبيه، ودعوى الشراء من ذي اليد فإن أحد الأمرين هو الثابت لا يدري، فأما هنا فأحد الشراءين ثابت بيقين، والجواب أن الشراء الثاني غير ثابت بيقين، لجواز أن يكون الشراء الثاني بعد الأول بتراضيهما، فينفسخ الأول ويثبت الثاني، فيجوز أن يكون بغير رضا المشتري بأن جحده الشراء الأول، فاشترى ثانياً بألف، وعلى هذا التقدير لا ينفسخ الأول لكونه مضطراً في الثاني، فعلى هذا الاعتبار يكون الثابت الأول أو الثاني، لا الثاني بيقين، فكان الجواب فيه كالجواب في دعوى الشراء والميراث.
وإن كان الشهود شهدوا أنه اشترى منه منذ سنة بألف درهم لا تقبل منه، إلا أن يأتي بالتوفيق بأن يقول: اشتريتها منذ سنة بألف درهم كما شهد به الشهود، ثم بعتها منه ثم اشتريتها منه منذ شهر بهذا العبد.
وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أن صاحب اليد تصدق عليه (به) منذ سنة وأقام شهوداً شهدوا أنه اشترى من صاحب اليد منذ سنتين، والمدعي يدعي ذلك، لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق فيقول: اشتريته منه منذ سنتين، ثم بعته منه ثم تصدق به علي منذ سنة.
وكذلك إذا ادعى أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد منذ سنة، وشهد الشهود أنه تصدق به عليه منذ سنين لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق على نحو ما قلنا.

ولو ادعى أن صاحب اليد تصدق به عليه منذ سنة وشهد الشهود أنه اشتراه منه منذ

(8/495)


شهر لا تقبل هذه الشهادة، إلا أن يوفق فيقول: تصدق به علي منذ سنة كما ادعيت، ثم جحدني الشراء فاشتريته منه منذ شهر، هكذا ذكرها في «الأصل» أيضاً.
وكذلك إذا ادعى الشراء منه منذ سنة وشهد الشهود أنه تصدق به علي منذ شهر لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق وإنه يخالف مسألة «الجامع» أيضاً.
ولو ادعى أنه ورثه من أبيه وأقام البينة، وادعى أن معه وارثاً آخر لا تقبل بينته ولا يصير متناقضاً، وان ادعى الكل لنفسه أولاً ثم ادعى بعد ذلك أنه لغيره وأنه وكيله بالخصومة تصح دعواه ولا يصير متناقضاً وهي المسألة التي تلي هذه المسألة، فههنا أولى وقد ادعى النقض لغيره وادعى أنه وكيله وادعى النقض لنفسه.
ولو ادعى عيناً في يد إنسان أنه له وأقام بينة أنه لفلان وكله بالخصومة فيه، قبلت بينته ولا يصير متناقضاً، ولو ادعى أولاً أنه لفلان وكله بالخصومة فيه وأقام البينة بعد ذلك إنه لا تقبل بينته، ويكون متناقضاً إلا أن يوفق.

والفرق أن قوله لي في المسألة الأولى وإن كان حقيقة لملك الرقبة، إلا أنه يحتمل الإضافة إلى نفسه لحق الخصومة، فالوكيل بالخصومة يضيف العين إلى نفسه بحق الخصومة، فأمكن أن يجعل قوله في الكرة الثانية أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه بياناً لكلامة الأول، فلا يتحقق التناقض، أما في المسألة الثانية: لا يمكن أن يجعل الكلام الثاني وهو قوله لي بياناً للكلام الأول، وهو قوله: أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه؛ لأن الكلام الأول مفسر بنفسه، ولا يمكن أن يجعل الكلام الأول بياناً وتفسيراً للكلام الثاني، لأن التفسير لا يكون قبل المفسر، فكان كل كلام كلاماً على حده، وحقيقة الإضافة لملك الرقبة والكلام لحقيقته، حتى يقوم الدليل على مجازه، فكأنه نص في الكلام الثاني على أنه لي بملك الرقبة، ولو نص على هذا يصير متناقضاً كذا ههنا، إلا أن يوفق فيقول: كان لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم اشتريته منه بعد ذلك وأقام على ذلك بينة يعني على الشراء من فلان فحينئذ تقبل بينته. ولو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه لا تقبل بينته إلا أن يوفق.
قال: والدين في هذا نظير العين حتى لو ادعى على رجل دين ألف درهم في صك جاء به باسمه ثم جاء ببينة، روى أبو سليمان وابن سماعة أن من ساوم رجلاً بولد أمة أو بثمرة نخلة أو نخل في الأرض ثم أقام البينة أن النخلة والأمة والأرض له، قبلت بينته وقضي له بالأمة والنخلة والأرض دون الولد والثمر والنخل، لأن أقًى ما فيه (152أ4) أن المساومة إقرار بالملك لصاحبه أو إقرار أنه لا ملك للمساوم فيه على حسب ما اختلفت الروايات فيه إلا أن هذا الإقرار لا يكون فرقاً صريح الإقرار.

ولو أقر هو صريحاً بالولد لصاحب الولد أو أقر صريحاً أن الولد ليس له، ثم ادعى الأمة لنفسه، تسمع دعواه كذا ههنا. وهذا لأن الإقرار بالملك المطلق يحمل على الملك الحادث حتى أنه لو أقر بأمة لرجل ولها ولد كانت الأمة للمقر له دون ولدها، بخلاف البينة القائمة على الملك المطلق، حيث يحمل على الملك من الأصل.

(8/496)


وإذا ثبت أن الإقرار بالملك المطلق يحمل على حدوث الملك صار المساوم مقراً لمن ساوم إليه بحدوث الملك في الولد والثمر، وليس من ضرورته ثبوت الملك للمقر له في الأم، فلم توجد المخالفة بين الدعوى والإقرار.

وكذلك إذا ادعى الولد والثمرة مع الأم والنخلة؛ لأن دعواه في الثمرة والولد لم يصلح لمكان إقراره السابق، فتبقى دعوى الأمة والنخلة وحدها.
وكذلك لو كانت الأمة حاملاً فولدت في يده، فساوم بالولد بعد إقامة البينة قبل القضاء بالأمة؛ لأنه يحتمل أن يكون ملكاً للمقر له بتملك من جهته بعد الولادة، فلم تكن من ضرورة صحة هذا الإقرار بطلان دعواه في الأمة، فبقيت تلك الدعوى صحيحة.
وكذلك إذا قال الشاهدان: الولد للمدعى عليه، أو قالا: لا ندري لمن الولد؛ لأنهما بينا أنهما خصا بشهادتهما الأمة دون ولدها والولد منفصل عنها فيصح دخول الأم في الشهادة دونه، فيقضى له بالأم خاصة، وكذلك إذا لم يقم بينة للمدعي ولكن المدعى عليه أقر بأن الأم للمدعي يقضى له بالأم دون ولدها، لأن الثابت بالإقرار ملك حادث، لأنه حجة قاصرة لا الملك من الأصل، فلا يستند حكمه إلى حالة الولادة، فاقتصر حكم الإقرار على الأم خاصة.
f
ولو أن رجلاً في يديه دار مبنية جاء رجل وأقام البينة أنها داره وذكرا البناء في شهادتهما أو لم يذكرا ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي، أما إذا ذكروا البناء فلاشك فيه، وأما إذا لم يذكروا البناء، فلأن البناء مركب في الأرض تركيب قرار، فيدخل تحت ذكر الأرض خصوصاً في ذكر الدار، لأن في الغالب يستعمل اسم الدار في المبنى، ثم إذا قضى القاضي للمدعي بالدار ببنائها أقر للمدعي بعد ذلك وقال: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه ولم يزل ملكاً له أو قال: كان البناء له يوم شهد الشهود أو قال ذلك بعد الشهادة قبل القضاء، فإن هذا إكذاب للشاهد وبطلت الشهادة والقضاء في البناء والدار جميعاً، وإن قال: البناء للمدعى عليه فهذا ليس بإكذاب لشهوده، هكذا ذكر المسألة في «الأقضية» .
وذكر في آخر الشهادات في «الأصل» : أن الشهود إذا ذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، كان ذلك إكذاباً لشهوده، فبطلت الشهادة والقضاء. وإذا لم يذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر بالبناء للمدعى عليه لا يكون ذلك إكذاباً لشهوده.
وجه الفرق على رواية شهادات «الأصل» : أن البناء إذا لم يكن ملفوظاً في الشهادة، فالقضاء بالبناء ما كان لكونه مشهوداً، بل تبعاً للأرض؛ لأن حكم الأصل يثبت في البيع إلا إذا وجد دليل يوجب قطع التبعية، فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية وحجة أصالته في الملك إلا أن يكون إكذاباً بتلك الشهادة، فأما إذا كان البناء ملفوظاً به في الشهادة، فالقضاء بالبناء لكونه مشهوداً به،

(8/497)


فالإقرار بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يكون إكذاباً للشهود ضرورة، فيوجب بطلان الشهادة.

ووجه التسوية على رواية كتاب «الأقضية» : أنه يطلق اسم الدار في الغالب من كلام الناس وفي عاداتهم يستعمل بإزاء الأرض والبناء، والشرع شهد لذلك، حتى إن من حلف لا يدخل داراً، فدخل صحراء كانت داراً، وقد انهدم بناؤها لا يحنث والثابت باعتبار العادة وعليه الاستعمال كالثابت بمقتضى اللفظ حقيقة، فاستوى ذكر البناء وعدمه.
ثم على رواية كتاب «الأقضية» فرق بينما إذا قال المقضي له: ليس البناء لي، وإنما هو للمدعى عليه، وبينما إذا قال: كان البناء للمدعى عليه يوم الشهادة، أو قال: لم يزل ملكاً للمقضي عليه، فلم يجعل الأول تكذيباً للشهود، وجعل الثاني والثالث تكذيباً، وعلى رواية كتاب الشهادات لم يفصل وجعل مطلق الإقرار بالبناء للمدعى عليه تكذيباً للشاهد إذا كان البناء مذكوراً في الشهادة.
ووجه ما ذكر في الشهادات: أن مطلق الإقرار بالبناء للمقضي عليه يناقض شهادة الشهود بالبناء للمدعي، والإكذاب من حكم المناقضة.
وجه ما ذكر في «الأقضية» : أن قوله: البناء ليس لي، وإنما هو للمدعى عليه كلام محتمل يحتمل أنه للمقضي عليه، لأنه كان له يوم شهد الشهود، فيكون إكذاباً للشهود، فلا يكون إكذباً بالاحتمال، ولا كذلك قوله: كان البناء له يوم شهد الشهود لم يزل ملكاً له، هذا إذا أقر المقضي له بعد القضاء له أن البناء ليس له وأنه للمقضي عليه.
ولو أن المقضي له بعد القضاء له لم يقر بذلك لكن المقضي عليه ادعى البناء لنفسه، فعلى رواية كتاب «الأقضية» : لا تسمع دعواه ولا تسمع بينته، ذكر الشهود البناء في شهادتهم أو لم يذكروا، وعلى رواية شهادات «الأصل» : إن لم يذكروا البناء في شهادتهم تسمع دعوى المقضي عليه، وإن ذكروا لم تسمع دعواه.
وفي «المنتقى» وفي «الإملاء» : عن محمد رجل ادعى داراً في يدي رجل وأنكر الذي في يديه الدار حق المدعي، فشهد للمدعي شاهدان أن الدار داره، ولم يزيدوا على ذلك، فلما زكوا قال المدعى عليه: البناء بنائي أنا بنيته، وأراد أن يقيم البينة على ذلك، قال: إن كان شهود المدعي حضور فالقاضي يسألهم عن البناء، فإن قالوا: البناء للمدعي مع الدار فالقاضي لا يلتفت إلى قول المدعى عليه، وإن قالوا: لا ندري لمن البناء إلا أنا نشهد أن الأرض للمدعي، فليس ذلك بإكذاب منهم لشهادتهم ويقضي للمدعى عليه بالبناء إن أقام بينته على البناء، ويؤمر بالهدم وتسليم الأرض إلى المدعي، فإن لم يحضر المدعى عليه بينة على البناء، قضى عليه القاضي بالأرض بشهادة شهود المدعي وأتبع الأرض للبناء، فإن جاء المدعى عليه بعد ذلك بالبينة أن البناء بناؤه أخذه؛ لأن القاضي لم يقض على المدعى عليه بالبناء بشهادة الشهود، وهذه الرواية توافق رواية شهادات «الأصل» .

ولو أن شهود المدعي شهدوا أن الدار للمدعي ثم ماتوا أو غابوا فلم يقدر عليهم،

(8/498)


فلما أراد القاضي أن يقضي بالدار ببناءها للمدعي، قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أن البناء بنائي لم يقبل ذلك منه ويقضي بالدار للمدعي ببنائها؛ لأن الشهود حين شهدوا بالدار فقد شهدوا بالبناء إلا أن يبينوا أنهم لا يدرون لمن البناء، فيكون على ما وصفت لك في أول المسألة، قال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بالدار في هذا الوجه ببنائها للمدعي ثم حضر شهوده، وقالوا: إن البناء لم يكن للمدعي إنما كان للمدعى عليه، فإن قالوا للقاضي حين رجعوا عن البناء: ليس البناء للمدعي ولا ندري لمن البناء، لم يضمنوا من قيمة البناء شيئاً فكان البناء للمدعي، وقيل للمدعى عليه: أقم البينة أن البناء بناؤك على الشهود الذين شهدوا للمدعي، فإن أقام عليهم البينة ضمنهم قيمة البناء، ألا ترى أن البناء دخل فيما شهدوا به.

ولو شهد شهود المدعي أن الدار له ولم يزيدوا على هذا، ثم ماتوا أو غابوا ثم جاء رجل آخر وادعى بناء هذه الدار لنفسه، وشهد له شاهدان آخران بذلك، فإن القاضي يقضي بالأرض للمدعي الذي شهدت شهوده بالدار، ويقضي بالبناء بين المدعيين نصفين، فإن أقام المدعى عليه بينة أن البناء بناؤه لم أقبل ذلك منه.
ولو أن شهود المدعي للدار شهدوا أن الأرض للمدعي وقالوا: لا ندري لمن البناء، قضى بالأرض له وقضى بالبناء لمدعي البناء خاصة، قال: وكذلك في جميع ما وصفت لك.
الأرض يكون فيها النخيل والأشجار، فشهد شهود المدعي أن هذه (152ب4) الأرض له فهذا بمنزلة شهادتهم بالدار إذا لم يفسروا، فالقاضي يقضي لمدعي الأرض ويتبعها النخل والشجر.
وكذلك إذا شهدوا أن هذا الخاتم لفلان ولم يذكروا الفص أو شهدوا أن هذا السيف لفلان ولم يذكروا الحلقة، فالقاضي يقضي بالسيف والحلقة وبالخاتم والفص لفلان من غير أن يكون الفص والحلقة مشهوداً به، حتى لو أقام المشهود عليه بينة أن البناء والفص والحلقة له قبلت شهادته كان القاضي قضى بذلك للمدعي أو لم يقض.
وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود على رجل بجارية في يديه أنها لهذا المدعي وقضى القاضي له بها ثم غاب الشاهدان أو ماتا، وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود، أخذه المدعي.
وكذلك لو كان الولد ظاهراً، وشهد الشهود بالجارية للمدعي، ولم يتعرضوا للولد فالقاضي يقضي للمدعي بالجارية وبالولد، وإن قال الذي في يديه الجارية: أنا أقيم بينة على أن الولد لي لم يلتفت إلى بينته ويقضي بالجارية وولدها للمدعي، فإذا قضى القاضي بذلك ثم حضر الشهود وقالوا: لم يكن الولد للمدعى (عليه) ، فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وإن أقام البينة على الولد، ولو كان الشهود حضوراً وسألهم القاضي عن الولد قبل القضاء فقالوا: هو للمدعى عليه أو قالوا لا ندري لمن هو، فالقاضي لا يقضي في الولد بشيء ويقضي بالجارية للمدعي.
قال: ولا يشبه الولد في هذا الوجه البناء، وعلل فقال: لأن البناء موصول بالدار فقد أشار إلى أن شهود المدعي في مسألة الدار إذا قالوا وقت الشهادة بالدار: لا ندري

(8/499)


لمن البناء أنه يقضي بالبناء لمدعي الدار.
قوم ورثوا داراً من أبيهم واقتسموها برضاهم فادعى بعضهم أن أباه كان تصدق بطائفة منها معلومة عليه، أو ادعى ذلك لابن له صغير وقال: مات ابني فورثتها منه، وأقام على ذلك بينة، فدعواه باطلة وبينته مردودة.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن إقدام العاقل على عقد إقرار منه بصحة ذلك العقد؛ لأنه إنما أقدم عليه للالتزام بموجبه، وإنما يلزمه موجب العقد إذا صح العقد، فإذا ادعى فساده وبطلانه بعد ذلك، يصير متناقضاً، والمتناقض لا قول له.
إذا ثبت هذا فنقول: دعوى طائفة منها معلومة من بعض الورثة دعوى بطلان القسمة؛ لأنه ليس لهم قسمة مال الغير وقد أقر بصحتها حال ما أقدم عليها فتتحقق المناقضة، ولو كان ادعى ديناً على أبيه صح دعواه وقبلت بينته على ذلك؛ لأنه ليس بمتناقض؛ لأن القسمة مع الدين صحيحة حتى لو قضى الوارث دين الغريم من مال آخر أو أبرأ الغريم الميت عن الدين لا يحتاج إلى إعادتها ولكن يكون للغريم حق نقض القسمة إذا لم يصل إليه حقه من مال آخر.
قال في كتاب الإقرار: رجل أقر أن لفلان عليّ ألف درهم ثم قال بعد ذلك: قضيتها قبل أن أقر بها وأقام البينة على ذلك لم أقبل بينته، ولو ادعى أنه قضاه قبل الإقرار موصولاً بإقراره.
القياس: أن لا تقبل بينته؛ لأنه متناقض في الدعوى، لأن إقراره يوجب كون الألف عليه وقت الإقرار، ولولا ذلك لما صح الإقرار، فإذا ادعى القضاء قبل ذلك فإنه يوجب سقوط الدين عنه بالقضاء قبل إقراره كان متناقضاً في الدعوى، فلا يسمع ذلك منه كما لو ادعاه مفصولاً.

وفي الاستحسان: تقبل بينته لأن هذا اللفظ قد يذكر ويراد به كان له عليه ألف درهم، فإن الشيء يسمى باسم ما قد كان كما يسمى القاضي المعزول قاضياً ونظائره كثيرة، فمتى وصل هذا الكلام بإقراره، دلنا أنه أراد به هذا النوع من المجاز وإن كان هذا تغييراً لصدر الكلام ولكنه يصح إذا كان موصولاً، فأما إذا كان مفصولاً عن إقراره لا يصح هذا البيان المغير منه، فبقي التناقض باعتبار ظاهر كلامه، ولم يصح التناقض.
ولو قال: كانت له علي ألف درهم، ثم قال: قضيتها إياه قبل الإقرار موصولاً أو مفصولاً وأقام البينة عليه قبلت بينته، لأنه إخبار عن وجوب الألف عليه في زمان سابق فلا يبقى القضاء قبل الإقرار بخلاف المسألة الأولى فإنه إخبار عن وجوب الألف عليه للحال فإذا ادعى قبله كان متناقضاً فلم تسمع دعواه وبينته.

قال: رجل في يديه عبد قال لآخر: هو عبدك يا فلان، فقال فلان الآخر: بل هو عبدك، ثم قال المقر الأول: هو لي وأقام البينة لم تقبل بينته، لأن بين إقراره بملك العبد لآخر ودعواه ملكية العبد لنفسه تناقض، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإنما أورد هذه المسألة لإشكال وهو: أن المقر له الأول لما قال لغيره: بل هو عبدك، فقد أكذب المقر

(8/500)


الأول في إقراره له، فبطل إقراره لمكان التكذيب، فيجب أن لا يعتبر لإثبات التناقض، لكنا نقول: إن قول المقر له الآخر بل عبدك ليس بتكذيب للمقر الأول في إقراره، بدليل أنه يأخذ المقر له الثاني، ولو بطل الإقرار الأول لمكان أنه كذبه فيه لم يكن له أن يأخذ من يده، ولكن قيل: إن قوله لغيره: بل هو عبدك محتمل يحتمل أنه عبدك لم يزل لك ولم يكن لي، فيكون مكذباً له في إقراره، ويحتمل أنه عبدك لأني ملكته منك للحال، فلا يكون تكذيباً للمقر الأول فلا يثبت التكذيب بالاحتمال.
رجل ادعى أن هذه الدار له إلا بيت منها، وأقام البينة على الجميع أو كان ادعى على رجل ألف درهم وأقام عليه البينة بألفين، فقال المدعي للدار: كان البيت لي فبعته، وكان لي عليه ألفان فأبرأته عن الألف قبلت بينته، لأنه زال الخلاف والتناقض بما ذكر، فلعل الأمر كما ذكر ولم يعلم به الشهود، فشهدوا على جميع الدار والألفين، وإذا زال التناقض وجب قبول الشهادة.
وإن قال: لم يكن البيت لي قط ولا كان لي عليه قط إلا ألف أبطلت بينته، لأنه صرح بإكذاب الشهود في البيت والألف فبطلت الشهادة، وإن أبى أن يبين شيئاً من ذلك فالقياس: أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل.
وجه القياس في ذلك: أن امتناع قبول الشهادة لمكان المخالفة بين الدعوى والشهادة، فإذا كان التوفيق محتملاً لا يمكن القول بثبوت المخالفة، لأنها لو ثبتت تثبت مع الشك، ولأن التوفيق إذا (كان) محتملاً يجب الحمل عليه حملاً لأمر المدعي على الصلاح كما في مسألة الأكرار.
وجه الاستحسان: أن المخالفة بين الدعوى والشهادة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن مراداً لا يزول، فلا يزول الخلاف مع الاحتمال.
قوله: يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصلاح، قلنا: الحمل على الصلاح نوع ظاهر، والظاهر يصلح لإبقاء ما كان على ما كان ولا يصلح لإثبات أمر لم يكن، وحاجتنا منها إلى إثبات أمر لم يكن وهو البيع والقضاء بخلاف مسألة الأكرار؛ لأن مطلق المقابلة يحتمل بيع الجنس بخلاف الجنس، فإذا عيناه حملاً لأمرهما على الصلاح يتبين أنه هو الثابت بمطلق المقابلة، فكان هذا إبقاء ما هو ثابت بمطلق المقابلة لا إثبات أمر لم يكن أما ههنا فبخلافه، ثم استشهد في «الكتاب» وقال: ألا ترى أن المدعي لو قال بعد القضاء بالدار: لم يكن البيت لي قط يبطل القضاء، فإذا كان يبطل القضاء بهذا النوع من المخالفة لأن لا يجوز القضاء معها كان أولى.

دار في يدي رجل يزعم أنه اشتراها من رجل، فجاء رجل وادعى عند غير القاضي أنها داره تصدق بها على الذي باعها من ذي اليد، ثم رفع المدعي الذي في يديه الدار إلى القاضي بعد شهر أو سنة وادعى أنها داره اشتراها من الذي زعم ذو اليد أنه اشتراها منه، فهذه المسألة على وجهين:

(8/501)


الأول: أن يذكر للصدقة والشراء تاريخاً، وإنه على وجهين: إن ذكر تاريخ الشراء قبل تاريخ الصدقة لا تقبل شهادة شهوده، لأن ادعاءه الصدقة إقرار منه بكون الدار ملك المتصدق وقت الصدقة، وإنه ينافي كون الدار ملكاً له بالشراء عندها فيصير مكذباً شهوده فلا تقبل شهادتهم، وإن ذكر تاريخ الشراء بعد تاريخ الصدقة قبلت شهادتهم، هكذا ذكر في «الأقضية» ، وهذا إشارة إلى أن احتمال (153أ4) التوفيق يكفي. ووجه احتمال التوفيق أن يقول: جحدني بعدما تصدق بها علي فاشتريتها منه، وسيأتي الكلام بعد هذا في أن احتمال التوفيق هل يكفي؟.
الوجه الثاني: إذا لم يذكر التاريخ، وفي هذا الوجه تقبل شهادة شهوده، لأن الشراء حادث والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات، وذلك بعد تاريخ الشراء لا محالة لأنه ادعى الشراء بعد شهر أو سنة. فإن قيل: كيف تصح دعوى الشراء من فلان حال كون الدار في يد غيره وانه يدعي الملك لنفسه؟ قلنا: ذو اليد لما زعم أنه اشتراها من فلان فقد أقر بالملك لفلان، لأن كل مشتر يقر بالملك لبائعه، وبيع المغصوب منه المغصوب من غير الغصب والغاصب مقر بالملك للمغصوب منه صحيح، فقد ادعى شراء صحيحاً من هذا الوجه.
قال محمد رحمه الله: ولا أبالي، قال في الصدقة: قبضت أو لم أقبض؛ لأن ادعاءه الصدقة إنما أبطل دعوى الشراء قبل تاريخ الصدقة باعتبار إقراره بملك البائع بعد تاريخ الشراء حتى تثبت المناقضة، والإقرار بملك البائع بعد تاريخ الشراء يثبت بمجرد ادعائه الصدقة.
قال محمد رحمه الله: ولو كان ادعى الصدقة بعد تاريخ الشراء لا يرجع بالثمن على البائع، وعلل فقال: إنه هو الذي أبطل شهادة شهوده بادعائه الصدقة وأراد به أن امتناع قبول البينة على الشراء دعواه الصدقة، وإنه ليس بحجة في حق البائع فلا يمكنه الرجوع على البائع بهذه الحجة؛ لأن الرجوع على البائع باعتبار أنه لم يسلم له المشترى من جهته، وإنما لم يسلم له المشترى بما ليس بحجة في حق البائع، فلا يرجع بالثمن عليه.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو ادعى عبداً في يدي رجل أنه له اشتراه من فلان منذ سنة، ونقده الثمن وصدقه البائع بذلك، وذو اليد زعم أنه اشتراه من فلان بعينه منذ شهر، فلما أراد الحاكم أن يقضي به للمدعي قال المدعي: إني لم اشتره في ذلك اليوم، أو قال: ذو اليد أقدم شراءً مني، ثم أراد أن يرجع بالثمن على البائع، فقال البائع: كذبت أنت أقدم شراءً منه، وإنما لم يسلم لك العبد بإكذابك بينتك، فإنه لا سبيل له على الرجوع بالثمن، لأن المبيع إنما لم يسلم للمشتري بمعنى من جهته، وهو إكذابه بينته فلا يظهر ذلك في حق البائع.

قال في «أدب القاضي» : وإذا أقام الرجل بينة على رجل أنه باع هذه الدار منه، والبائع يقول: لم أبع وأقام البائع بينة أنه قد رد عليه الدار بالعيب قبلت بينته، وينقض

(8/502)


البيع وإن صار (كلام) البائع متناقضاً؛ لأن التناقض بين الكلامين إنما يثبت إذا لم يمكن التوفيق بين الكلامين وهنا يمكن التوفيق بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً بنفسي، إنما باع وكيلي ثم فسخت البيع إنهاء المشتري بعد ذلك معي فإذا أمكن التوفيق بينهما حمل عليه، وهذه المسألة إشارة إلى أنه يكتفى مجرد إمكان التوفيق، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» .

وذكر في «الجامع الكبير» وفي بعض نسخ دعوى الأصل أنه لا يكتفى مجرد إمكان التوفيق ولابد أن يوفق المدعي، قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» وفي «الأقضية» قياس، وما ذكر في «الجامع الكبير» وفي ا «لأصل» استحسان وأصله ما ذكرنا في دعوى الألف، وشهادة الشهود على الألفين القياس: أن يقبل لاحتمال التوفيق، وهذا لأن حمل أمر المسلمين على الصحة واجب ما أمكن، فإذا كان التوفيق ممكناً أمكن حمل دعوى المدعي على الصحة فيجب على القاضي ذلك، وإن لم يوجد من المدعي تنصيصاً عليه كما في مسألة الأكرار وفي الاستحسان لا تقبل، لأن المخالفة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن التوفيق مراداً لا يزول الخلاف فلا يزول الخلاف بالاحتمال، فأما إذا وفق فقد بين أن التوفيق مراد وصح منه هذا البيان، لأن احتمال التوفيق ثابت، وقوله يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصحة، فالجواب ما مر قبل هذا أن الحمل على الصحة بنوع ظاهر، وإنه لا يصلح لإثبات أمر لم يكن.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا ادعى رجل أنها داره ورثها من أبيه، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها من أبيه في حال حياته لا تقبل هذه الشهادة، وبمثله لو ادعى أولاً أنه اشتراها من أبيه في حياته، وجاء بشهود شهدوا أنه ورثها من أبيه قبلت هذه الشهادة، والفرق: أن في المسألة الثانية التوفيق ممكن بأن يقول: اشتريت من أبي كما ادعيت أول مرة ثم جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة وبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً وصارت بموته ميراثاً لي ظاهراً مع ما تقدم من صورة الشراء، فلا تبطل بينة الإرث بالاحتمال أما في المسألة الأولى التوفيق غير ممكن، فإنه لا يمكنه أن يقول: ورثتها عن أبي، فجحدني الأب فاشتريت منه في حياته.

وإذا ادعى عيناً في يد إنسان أنها له وأقام على ذلك بينة ثم إن المدعي قال: هذه العين لم تكن لي قط، بطلت بينته ولم تقبل ويبطل القضاء إن كان قد قضى له به، لأنه أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء وذلك حقه، وكذلك إذا لم يقل قط؛ لأن الإكذاب حصل بقوله: لم يكن لي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل أقر عند القاضي أن هذا العبد كان لفلان، ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، ولم يوقت الشهود وقتاً وفلان يجحد البيع فالشهادة جائزة، لأنه أقر بملك البائع في زمان ثم ادعى تلقي الملك من جهته، وملك البائع في الزمان الماضي مؤكد لملك المشتري، فالإقرار به لا يمنع قبول الشهادة

(8/503)


على الشراء أقصى ما في الباب، احتمل أن الشراء كان قبل ذلك الوقت ولكن بالاحتمال لا تثبت المناقضة كيف وأن الشراء حادث والحوادث يحال حدوثها على أقرب الأوقات بقضية الأصل وذلك ما بعد الإقرار، فلا يثبت به التناقض فلا يمنع قبول الشهادة.
فأما إذا قال: هذا العبد لفلان، ثم أقام البينة بعد ذلك أنه اشتراه منه قبل الإقرار لم تقبل بينته، لأن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء قبله فلم تقبل بينته لمكان التناقض، هذا إذا قال ذلك مفصولالاً فأما إذا قال موصولاً عند القاضي: هذا العبد لفلان اشتريته منه أمس، فالقياس أن لا تقبل بينته، وفي «الاستحسان» تقبل.
k
وجه القياس: أن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء منه أمس فلا تقبل بينته للتناقض.

وجه الاستحسان: أن العين قد تضاف إلى الإنسان باعتبار أنه كان مالكاً له، يقال دار فلان وعبد فلان وإن كان باعه، ألا ترى أنه يجوز إطلاق الاسم على الذات باعتبار ما كان، حتى يسمى القاضي بعد العزل قاضياً وعلى هذا الوجه لا يثبت التناقض أقصى ما في الباب أن هذه الإضافة بطريق المجاز، والحمل على المجاز يعتبر بمطلق الكلام، ولكن البيان المعبر يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء وقد مر جنس هذه المسألة قبل هذا.
فإن قال: هذا العبد لفلان ثم مكث شهراً، ثم ادعى أنه اشتراه من فلان أو أقام البينة وقالت الشهود: لا ندري أكان الشراء قبل الإقرار أو بعده، وقال المشتري: كان بعد الإقرار فإنه تقبل هذه الشهادة، ويقضى بالشراء لأنها لو لم تقبل إنما لم تقبل لمكان المناقضة وفيها احتمال لأنه يحتمل أن الشراء كان قبل الإقرار، فكان متناقضاً واحتمل أنه بعد الإقرار فلا يكون متناقضاً فلا تثبت المناقضة بالاحتمال، ولأن الشراء حادث والحوادث يحال بحدوثها إلى أقرب الأوقات وذلك ما بعد الإقرار.
وكذلك إذا قال عند القاضي: هذا العبد كان لفلان عام أول، ثم ادعى بعد ذلك أنه اشتراه منه وأقام البينة ولم يوقت الشهود وقتاً تقبل بينته؛ لأن إقراره بالملك في زمان سابق مؤكد لشراء المشتري بعده؛ لأن ملكه ينبني على ملك البائع، ودعواه الشراء للحال يؤكد الإقرار بالملك قبل الشراء؛ لأنه يستدعي قيام الملك للبائع عند الملك ليصح البيع فلم يكن متناقضاً.

وكذلك إذا قال: استوهبته (153ب4) منه عام أول فأبى أن يهبه لي، أو قال: ساومته عام أول، ثم ادعى الشراء منه لأن الاستيام والاستيهاب إقرار بالملك فكان هذا والأول سواء.

قال: ولا تبطل الشهادة إلا أن يوقتوا، وذكر في بعض الروايات إلا أن لا يوقتوا فإن كانت الرواية إلا أن يوقتوا، أراد به إلا أن يوقتوا وقتاً للشراء قبل الإقرار فإنه لا تسمع هذه الدعوى لأنه يكون متناقضاً بيقين، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإن كانت

(8/504)


الرواية إلا أن لا يوقتوا فكلمة إلا ساقطة، ومعناه: فلا تبطل الشهادة إن لا يوقتوا، فيكون بياناً أن ترك التوقيت لا يمنع سماع البينة، لأنه ليس فيه إلا السكوت، والسكوت وإن كان يحتمل التناقض، ولكن قد ذكرنا أن احتمال التناقض لا يمنع قبول البينة لاحتمال الشك فيه.
ولو أقر عند القاضي أن هذا العبد لفلان لا حق له فيه أو قال: كان العبد لفلان عام أول وأنه لم يكن له فيه حق يومئذ ولا دعوى، أو قال: كنت أقررت عام أول أن هذا العبد لفلان لا حق لي فيه، أو قال: لا حق لي فيه، ولم يقل: إنه لفلان ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، فإن القاضي يسأل الشهود متى كان الشراء؟ فإن وقتوا للشراء وقتاً بعد الإقرار قبلت شهادتهم، وإن وقتوا وقتاً قبل الإقرار أو قالوا: لا ندري متى كان الشراء لا تقبل شهادتهم، فرق بين هذا وبينما إذا قال: هذا العبد لفلان ولم يقل: لا حق لي فيه ثم أقام البينة بعد شهر على الشراء أنه تقبل البينة وإن لم يوقت الشهود للشراء وقتاً.
والفرق: أن قوله هذا العبد لفلان، إخبار عن ملك المقر له في الحال، وقوله: لا حق لي فيه، نفي الملك لنفسه أصلاً فكان محكماً في إسقاط حقه في الدعوى، فلا تسمع دعواه وبينته، إلا إذا وقت وقتاً بعد الإقرار حتى لا يؤدي إلى ارتفاع المضادة والتنافي بالاحتمال، وفي تلك المسألة ما نص على إسقاط حقه، والتناقض عارض، فلا يثبت بالاحتمال.

ولو أن رجلاً كتب لرجل: إني كنت ادعيت عليك ديوناً وبيوعاً وأشياء أخر ادعيتها عليك، وأقررت أنه لا حق لي قبلك ولا دعوى من شراء ولا غير ذلك، ثم أقام البينة على عبد المكتوب إليه أنه عبده اشتراه منه، أو أن له عليه ألف درهم قرض، أو أنه غصبه عبداً فإنه لا تقبل هذه البينة إلا إذا وقتوا وقتاً بعد البراءة لأنه لما نص على البراءة عام أول، فقد أسقط جميع حقه قبله في العين والدين جميعاً فيكون متناقضاً في دعواه قبله فلا تسمع دعواه ولا تقبل البينة منه حتى يزول التناقض بيقين، وذلك بأن يوقت بعد البراءة، فأما مع الاحتمال فلا يزول التناقض فلا يبطل حكم البراءة بالشك.

وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: من كتب لرجل براءة ثم أقام بينة على دين لم تقبل بينته، حتى يعلم أنه بعد البراءة لأن البراءة ثبتت بيقين، فلا يبطل حكمها إلا بيقين، وهو أن يكون سبب الوجوب بعد البراءة.
قال في كتاب «الأقضية» : رجل قال: جميع ما في يدي من قليل أو كثير من عبد أو غيره لفلان، ثم مكث أياماً ثم اختلفا في عبد في يده فقال المقر: لم يكن في يدي يوم أقررت، وقال المقر له: لا بل كان في يدك، فالقول قول المقر، وفرق بينه وبين البراءة فإن فصل البراءة إذا تنازعا في عبد بعينه يجعل داخلاً في البراءة حتى يثبت بالبينة أنه استفاده بعد البراءة، وهنا لم يجعله داخلاً تحت الإقرار.
والفرق: ما أشار إليه في «الكتاب» : أنه من كان في يده شيء فهو له حتى يعلم أنه

(8/505)


لغيره، وبيان هذا: أن في مسألة الإقرار المتنازع فيه في يد المقر حاجتنا إلى قطع يده فإن كان في يده يوم الإقرار يجوز قطع يده وإن لم يكن لا يجوز قطع يده واحتمل أنه لم يكن في يده يوم الإقرار فلا يجوز قطع يده بالشك، وفي مسألة البراءة: المال في يد المدعى عليه واحتمل حدوث الدين فيجوز قطع يده، واحتمل البقاء فلا يجوز قطع يده بالشك، فإذاً في الفصلين لم تبطل يد صاحب المال بالشك.

وذكر في بعض روايات «المبسوط» : لو أن رجلاً قال: ما في حانوتي لفلان، ثم مكث أياماً فادعى شيئاً مما في الحانوت أنه وضعه بعد الإقرار إنه يصدق، وهذه الرواية موافقة لرواية «الأقضية» . وفي بعض روايات كتاب «الإقرار» قال: لا يصدق وهذه الرواية مخالفة لرواية «الأقضية» ، وتأويل هذه الرواية: أنه ادعى بعد الإقرار في مدة لا يمكنه إدخال ذلك الشيء في الحانوت في تلك المدة بيقين، وفي هذا التأويل يثبت كون ذلك في الحانوت وقت الإقرار بيقين، وفي مسألة «الأقضية» : لو تيقنا بكون المدعى في يد المقر وقت القرار، كان الجواب فيه كما ذكر في بعض روايات «الإقرار» أنه لا يصدق المقر والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : دار في يدي رجل أقام رجل بينة أنها داره وقضى القاضي له بالدار، ثم أن المقضي له أقر أنها دار فلان لا حق لي فيها وصدقه فلان في ذلك فقال المقضي عليه للمقضي له: قد أكذبت شاهديك حين أقررت أنها لفلان لا حق لك فيها، وأقررت بخطأ القاضي في قضاءه فرد الدار عليّ أو قيمتها، فالقضاء ماض ولا سبيل للمقضي عليه، لا على الدار ولا على المقر ولا على المقر له، لأن قضاء القاضي قد نفذ من حيث الظاهر، وقوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها محتمل يحتمل لا حق لي فيها من الأصل وكنت مبطلاً في الدعوى، وعلى هذا التقدير يصير مقراً بخطأ القاضي ويجب نقض القضاء، ويحتمل لا حق لي فيها لأني ملكتها من المقر له بعد القضاء، وعلى هذا التقدير لا يصير مقراً بخطأ القاضي، ولا يجب نقض القضاء، فلا يجب النقض بالشك.

فإن قيل: هذا الاحتمال إن كان لا يتأتى فيما إذا أقر المقضي له بذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي، لا يتأتى فيما إذا أقر قبل الغيبة عن مجلس القاضي، والجواب فيهما واحد.

قلنا: لا بل يتأتى قبل الغيبة أيضاً، إذ يجوز أن المقضي له قد كان باع الدار من المقر له قبل القضاء له على أنه بالخيار ثلاثة أيام حتى لم تزل الدار عن ملكه لما أن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها منه، فأقام صاحب الدار بينة قبل مضي الخيار أن الدار له، ثم لما قضى القاضي له بالدار يقضي مدة الخيار عقيبه، وعلى هذا التقدير كان المقضي له محقاً في دعواه أن الدار له، وكان الشهود صادقين في شهادتهم أنها للمشهود له، فكان المقر صادقاً في إقراره أنها صارت لفلان المقر له من جهته بعد القضاء؛ لأنها صارت للمقر له من جهة المقر بعد

(8/506)


سقوط الخيار، وذلك بعد القضاء وإذا كان هذا الوجه محتملاً وبهذا الاحتمال لا ينقض القضاء، وقع الشك في نقض القضاء فلا ينقض بالشك.
ولو أن المقضي له قال: هذه الدار لفلان ما كانت لي قط، بدأ بالإقرار وهي بالنفي، أو قال: ما كانت لي قط إنما هي لفلان بدأ بالنفي، وهي بالإقرار وإنه على وجهين: إن صدقه المقر له في جميع ذلك، يرد الدار على المقضي عليه، ولا شيء للمقر له على المقر أما لا شيء للمقر له على المقر؛ لأن المقر ادعى ما يبطل إقراره لأنه يدعي أنها ما كانت له قط، وإقرار الإنسان لغيره بملك الغير لا يصح، والمقر له صدقه في ذلك فبطل إقراره، وأما يرد الدار على المقضي عليه لأن المقضي له أكذب شهوده من كل وجه، حيث أقر أن الدار لم تكن له قط، لأن قوله: ما كانت لي قط لا يحتمل ما كانت لي لأني ملكتها منه بعد القضاء، لأن ما لم يكن له لا يتصور تمليكه من غيره، فقد أكذب شهوده وأقر بخطأ القاضي من كل وجه والحق له فعمل إقراره وبطل القضاء.

ولو كان المقر له صدقه في الإقرار وكذبه في النفي عن نفسه بأن قال: الدار كانت للمقر له وهبها لي بعد القضاء، يقضى بالدار للمقر له، وعلى المقضي له للمقضي عليه قيمة الدار، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا بدأ بالإقرار ثم بالنفي، لأن إقراره صح ظاهراً؛ لأن القاضي قضى له بالدار، وصح القضاء ظاهراً فصح إقراره وصارت الدار مملوكة له ظاهراً فإنما هو أقر بما هو مملوك له ظاهراً وصارت الدار للمقر له، فإذا قال بعد ذلك: ما كانت لي قط، فقد أراد إبطال إقراره والرجوع عنه وقد كذبه المقر له في ذلك، فلم يبطل إقراره في حق المقر له، أما يشكل فيما إذا بدأ بالنفي، ثم بالإقرار وكان ينبغي أن (154أ4) لا يقضى بالدار للمقر له أول مرة ما كانت لي قط أكذب شهوده فيما شهدوا، لأنهم شهدوا له بالملك من الأصل وقد أقر أنها لم تكن له من الأصل، فقد أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء، وتكون الدار ملكاً للمقضي عليه، فإذا قال: ولكنها لفلان بعد ذلك، فقد أقر لفلان بملك الغير والإقرار بملك الغير إقرار باطل.
والجواب: قوله ما كانت لي قط، هذا نفي، وقوله: إنما هي لفلان، إثبات معطوف على النفي متصل به، والإثبات متى ذكر معطوفاً على النفي متصلاً به لا يقطع عنه، ألا ترى أن من أقر وقال: لفلان عليّ ألف درهم من ثمن جارية باعها مني، وقال المقر له: ليس لي عليك شيء من ثمن البيع، وإنما لي عليك ألف درهم من قرض، مقطوعاً عن صدر الكلام لما لزم المقر شيء كما لو سكت بين الكلامين سكتة، وإذا ثبت أن الإثبات غير منقطع عن النفي، كان الكل كلاماً واحداً، فلا يظهر تقدم البعض على البعض، فكما يصح النفي يصح الإقرار، أو نقول: قوله: ما كانت لي قط متصلاً بالإثبات لغيره، يستعمل لتأكيد الإثبات عرفاً وعادة، وما يذكر تأكيداً للشيء كان حكمه حكم ذلك الشيء، فلا يكون له حكم نفسه وصار من حيث المعنى كأنه قال: هذه الدار لفلان واقتصر عليه.

قالوا: ما ذكر محمد في «الكتاب» أن المقر له إذا صدق المقر في إقراره وكذبه في

(8/507)


النفي، وقال: هذه الدار كانت للمقر إلا أنه وهبها لي وقبضتها منه بعد القضاء بالدار، يقضى بالدار للمقر له، محمول على ما إذا قال ذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي حتى يمكن للقاضي تصديق المقر له في ذلك، فأما إذا قال ذلك في مجلس القضاء فقد علم القاضي بكذبه أنه علم أنه لم يجر بينهما هبة وقبض، والكذب لا حكم له، فينبغي أن لا يصح إقراره في هذه الصورة.
ثم إن محمداً رحمه الله يوجب على المقر قيمة الدار للمقضي عليه، إنما أوجب؛ لأن في زعم المقر أن الدار ملك المقضي عليه وأن القاضي أخطأ في قضائه بالدار لي، وصرت غاصباً لها وقد عجزت عن الرد بإقراري بالدار للمقر له، فصرت ضامناً قيمتها، من مشايخنا من قال: هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن غصب العقار عنده ينعقد موجباً للضمان، غير مستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله، لأن عنده غصب العقار لا ينعقد موجباً للضمان ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل؛ لأن المقر بإقراره للمقر له أتلف الملك على المقضي عليه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: العقار يضمن بإتلاف الملك، ألا ترى لو شهد شاهدان بدار لرجل وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار للمشهود عليه، وإنما يضمنان بإتلاف الملك كذا ههنا.
قال: ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي وإنما هي لفلان وصدقه المقر له في ذلك، فالدار للمقر له، ولا ضمان على المقر للمقضي عليه، لأن قوله: ليست (لي) نفي للملك للحال ويحتمل أنه إنما نفاها للحال عن نفسه؛ لأنه ملكها من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنما نفاها للحال، عن نفسه، لأن لم تكن له من الأصل، فلا يثبت إكذاب الشهود فلا ينقض القضاء بالشك، وصار الجواب في قوله: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، نظير الجواب في قوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها.
ولو أن القاضي لم يقض بالدار للمدعي حتى قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها، أو قال: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فالقاضي لا يقضي له بالدار؛ لأن كلامه محتمل يحتمل: لاحق لي فيها ليست لي؛ لأني ملكتها من فلان، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء ويحتمل: لا حق لي فيها ليست لي؛ لأنها لم تكن لي من الأصل، وعلى هذا التقدير لا يجوز له القضاء، فلا يجوز له القضاء بالشك قال: إلا أن يقول المقر في هذه الصورة: هي دار فلان، بعتها منه بعد شهادة الشهود أو يقول: وهبتها منه وقبضها مني بعدما غاب عن مجلس الشهادة، قال ذلك موصولاً بكلامه، فحينئذ القاضي يقضي له بالدار؛ لأن بهذا البيان انتفى احتمال أنه ليس له من الأصل وتعين الاحتمال الآخر، وهو صيرورتها لفلان بتمليك من جهته بعد شهادة الشهود، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء فلهذا يقضي له بالدار، ولكن يشترط أن يكون هذا البيان موصولاً بإقرار، لأن هذا بيان معبر، لأنه لو لم يتكلم بهذا البيان لكان لا يقضى له بالدار وبهذا

(8/508)


البيان يقضى، فكان هذا بيان تعبير، وبيان التعبير يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء.

قال في كتاب «الأقضية» : شاهدان شهدا لرجل بألف درهم من ثمن جارية، فقال المشهود له: إنه قد أشهدهما هذه الشهادة والذي لي عليه من ثمن متاع أجزت شهادتهما، قالوا: وتأويل المسألة: إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف من ثمن الجارية، فالمسألة محفوظة مذكورة في غير موضع من الكتب أنه إذا ادعى على آخر ألف درهم من ثمن مبيع، وشهد له الشهود بالألف من ضمان جارية غصبها إياه وقد هلكت، أنه لا يقبل شهادتهم وبمثله في الإقرار تقبل شهادتهم، واعتبر تكذيب المدعي الشاهد في السبب، ولم يعتبر تكذيب المقر له في السبب، والوجه في ذلك: أن المدعي بتكذيب الشاهد في السبب كذبه في بعض ما شهد به، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض الشهادة مانع قبول الشهادة لأنه تفسيق له وشهادة الفاسق لا تقبل، والمقر له بتكذيب المقر في السبب إن كذبه في بعض ما أقر به: ولكن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع صحة إقراره، فإقرار الفاسق صحيح مقبول بخلاف شهادة الفاسق، إذا ثبت هذا ظهر أن المراد به الشهادة على إقراره، والإقرار الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وقد ذكرنا في الإقرار المعاين أنه صحيح، يلزم مع اختلافهما في السبب كذا هذا.
والدليل على تأويل المسألة ما قلنا: إن محمداً رحمه الله قال في وضع المسألة: إن المشهود له قد أشهدهما هذه الشهادة، وهذا تنصيص على إقراره عندهما، فثبت أن تأويل المسألة ما قلنا من شهادتهما على الإقرار.

قال: وكذلك الكفالة لو شهدا أنه أقر أنه كفل بألف درهم عن فلان آخر، كان له أن يأخذه بالمال؛ لأنهما اتفقا فيما هو المقصود، فلا يضرهما الاختلاف في السبب. ولو قال الطالب: إنه لم يقر بها، وإنما أقر أنها كانت عن فلان الآخر فالشهادة باطلة، لأنه أكذب شاهده فيما شهد به من إقرار المطلوب، فبطلت شهادته بخلاف الأول لأنه لم يكذب شاهده، فثبت بشهادة إقرار المطلوب فصار كالمعاين، ثم هو كذب المطلوب في إقراره بسبب المال، وقد مر أن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع قبول إقراره فيما بقي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يدعي على رجل ألف درهم فيقول المدعى عليه: ما كان لك عليَّ شيء قط، أو قال: ليس لك عليَّ شيء، ثم أقام البينة على القضاء قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، أما في قوله: ليس لك عليَّ شيء فظاهر، فإنه يقول: ليس لك عليَّ شيء لأني قضيته، وأما في قوله: ما كان لك عليَّ شيء قط، لأنه يمكنه أن يقول: لم يكن لك عليَّ شيء قط، لكن أذيتني بخصومتك الباطلة، فدفعت أذى خصومتك الباطلة بما طلبت مني.
ودلت هذه المسألة على أن التوفيق بين الكلامين إذا كان ممكناً، فالقاضي يوفق ويقبل بينة المدعي من غير التوفيق، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» وقال: قبل ذلك منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.

(8/509)


وإن قال: ما كان لك عليّ شيء قط، ولم أعرفك، ولم أكلمك، ولم أخالطك ثم أقام البينة على القضاء لا تقبل بينته، هكذا ذكر المسألة ههنا، لأن التوفيق غير ممكن ههنا إذ لا يتصور أن يكون بين شخصين خصومة وقضاء، ولا يعرف أحدهما صاحبه. وذكر «القدوري» عن أصحابنا أنه تقبل البينة، لأن الرجل عسى يدعي على امرأة أو رجل وهو محتجب في داره، ويؤذيه بالسب على باب داره، فيأمر بعض وكلائه أن يدفع إليه ما ادعى فيدفعه إليه الوكيل فيكون قد قضاه وهو لا يعرفه ثم يعرف بعد ذلك، هذا (إذا) أقام البينة على الدفع والقضاء، فأما إذا أقام البينة على الإبراء، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل هنا، قال بعض مشايخنا في شرح هذا الكتاب: ولا شك أن تقبل بينته (154ب4) في الفصل الأول والثاني، لأن وجه التوفيق فيهما ظاهر، وكذلك في الفصل الثالث، قال: ويجب أن يكون قبول البينة في الفصل الثالث على اتفاق الروايات، لأن التوفيق ههنا ممكن، لأن الإبراء يتحقق من غير أن يعرف المدعى عليه صاحب الدين بأن كان لرجل على آخر دين، مات صاحب الدين وورث الدين ابنه ولم يعلم به المديون، ثم إن الابن أبرأه عن دينه أو أبرأ أهل بلد كذا عن دعاويه وديونه، والمدعى عليه من أهل ذلك البلد، فيكون داخلاً تحت الإبراء، وإن لم يعرفه ثم بعدما ادعى عليه وأنكر المدعى عليه المال، أخبر المدعى عليه شاهدان بما جرى من الأمر فعرف المدعي صاحب دينه، وأبرأه به إباه عن الدين، فأقام الشاهدان اللذان أخبراه بذلك فأما قضاء الدين ودفع المال إلى إنسان وهو لا يعرفه أصلاً لا يكون فيصير متناقضاً في دعوى الدفع.

وعن أبي يوسف أنه إن قال: لم يجر بيني وبينه معاملة ولكن أخبرني شهودي هؤلاء أنه ادعى علي حقاً، ثم أشهدهم أنه قد أبرأني منه ولم يجر بينه وبيني معاملة، قُبَل ذلك منه.

وذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل» : إذا قال المدعى عليه: لم يكن لك عليَّ شيء قط، أو قال: لم يكن لك علي دين قط، ثم أقام البينة على القضاء أو الإبراء سمعت بينته. قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الكفالة: إن وفق فقال: دفعت المال إليه افتداء عن اليمين قطعاً لدعواه لا قضاء عن الدين، قبلت بينته، لأنه زالت المناقضة ويكون هذا في الحاصل دعوى الصلح على الإنكار، وإن قال: دفعته قضاء عن الدين لا تقبل بينته لتحقق المناقضة، وإن لم يبين شيئاً بل ادعى القضاء مطلقاً فالقياس أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل كما في الشهادة على الألف والخمسمئة، قال: وكذلك في فصل الإبراء إن وفق وقال: لم يكن له علي دين، كما قلت إلا أنه أبرأني عن دعوى الدين، لا عن الدين تزول المناقضة، وتقبل بينته على الإبراء، وإن قال: أبرأني عن دعوى الدين لا تقبل بينته لمكان المناقضة، فإنه أقر أنه لم يكن عليه، ثم أقر أنه كان عليه دين لما ادعى الإبراء عن الدين، والمناقضة تمنع صحة الدعوى ولا تقبل البينة بدون الدعوى، وإن ذكر الإبراء مطلقاً ولم يبين أنه أبراه عن الدين أو عن دعوى الدين، فالقياس أن تقبل بينته.
h
وفي الاستحسان: لا تقبل.

(8/510)


قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل ادعى عليه عشرة آلاف درهم، فأنكرها فسأل الحاكم المدعي هل قبض من المال شيئاً، فأقر أنه قبض منه عشرة آلاف، فأبرأ الحاكم المدعى عليه من العشرة آلاف، فلما خرجا من عند الحاكم قال المطلوب: لا والله ما قبضتها مني، فجاء الطالب ببينته يشهدون على كلامه هذا، قال محمد رحمه الله: أقبل هذا من الطالب وأقضي بها عليه، وبمثله لو أقام الطالب البينة على المال لا تقبل ذلك منه؛ لأنه إنما لا تقبل البينة على المال للتناقض لمكان إقراره بالقبض، فإذا صدقه في ذلك وأقر أن القبض لم يكن انتفى التناقض، لأن التناقض يرتفع بتصديق الخصم، وبما أقام من البينة ثبت تصديقه فقبلت منه.
واستشهد لهذا الرجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف درهم، فقال الطالب: ليس لي عليك شيء، فقد برئ المطلوب، لأن الإقرار يبطل بتكذيب المقر له، فإن قال المطلوب بعد ذلك: بلى لك علي عشرة آلاف درهم، فإنه يقضي به للطالب إذا ادعاها؛ لأنه استأنف الإقرار بالمال له، فإن صدقه في هذا الإقرار كان له أن يأخذه، كذلك في المسألة الأولى أثبت بشهادته إقراره مستأنفاً منه لم يتصل به التكذيب، فملك إثباته بالبينة قال محمد رحمه الله: وإن قال المطلوب: إنما قلت: ما قبضتها مني، وأنا أقيم البينة أنك قبضتها من وكيلي، لم تقبل بينته، لأن القبض من وكيله قبض منه أيضاً، فإقراره الأول ينتظمهما جميعاً، فإذا ادعى القبض من وكيله، كان متناقضاً في دعواه، فلم يسمع منه.

قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال: والله ما قبض مني فلان من الألف التي له علي قليلاً ولا كثيراً، كان هذا القول على نفسه، وعلى وكيله ورسوله؛ لأن الإنسان يعد قابضاً بيد وكيله عادة وقاضياً على يد نفسه ووكيله، فكذلك ههنا.

قال ابن سماعة: قال محمد رحمه الله: ولو جاء المطلوب ببينة يشهدان أن رجلاً أجنبياً قضى هذا المال تطوعاً بها من ماله بغير أمر المطلوب، ولا وكلائه، فإني أقبل ذلك، وهذا يستقيم أن يقول: ما قبضتها مني، ولكن تطوع بأدائها عني، وهذا لأن فعل كل واحد يقتصر عليه بقضية الأصل، وإنما ينتقل إلى غيره بحكم الأمر، فإذا كان متطوعاً لم يوجد الأمر فبقي فعله مقصوراً عليه فلا يصير قابضاً من المطلوب، فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة.
ولو قال المطلوب: ما قبضها فلان، كان هذا على قبض نفس المطلوب ووكيله، وعلى كل أحد أجنبي وغيره، ولا أقبل البينة أنه قبضها من رجل أجنبي، لأنه أضاف القبض إلى الألف، وأنه يصير قابضاً لها بقضاء المطلوب، ويتبرع الأجنبي بالقضاء حتى سقط الدين، فانتظر قبضه منه ومن غيره، فإذا ادعى القبض من أجنبي، كان متناقضاً في دعواه فلا تقبل بينته بخلاف الأول، فإن ثمة أضاف قبض الألف إليه بكلمة من، وأنها إنما تستعمل إذا كان القبض بتسليم من فلان ليحصل معنى العرف الذي وضعت كلمة من له، وبالقبض من الأجنبي لا يتحقق هذا المعنى، فلم تدخل تحت صدر الكلام فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة، أما ههنا فبخلافه على ما ذكرنا.

(8/511)


الفصل الثالث والعشرون: في الشهادة على النسب
رجل مات وترك عبدين وأمتين صغيرتين ولدتا في ملكه، وابن عم له لا وارث له غيره، فأعتق ابن العم الغلامين، فشهدا بعد عتقهما أن إحدى الجاريتين بعينها بنت الميت أقر بها في حياته وصحته، لم تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنا لو قبلناها ابتداء أبطلناها انتهاء.
بيانه: أنه إذا ثبت نسبها من الميت ظهر أن الميراث كان بينها وبين ابن العم نصفين، فظهر أن العبدين كانا بينهما نصفين، فإن ابن العم لما أعتقهما لم يعتق منهما إلا نصيب ابن العم لما عرف من أصله أن الإعتاق يتجزأ، وكان معتق البعض عبده ومعتق البعض عبده بمنزلة المكاتب، وشهادة المكاتب باطلة وعندهما تقبل الشهادة، لأنا متى قبلنا شهادتهما في الابتداء لم نحتج إلى إبطالها في الانتهاء؛ لأنه ظهر أنهما شهدا وهما حرّان لا دين عليهما إن كان المعتق موسراً، أو حرّان وعليهما دين إن كان المعتق معسراً، وشهادة الحر مقبولة مديوناً كان أو غير مديون، فإن شهدا للجارية الأخرى بمثل ذلك بطلت الشهادة أيضاً عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه يصير لابن العم في هذا الوجه الثلث، فكان معتق البعض أيضاً، والتقريب ما مر.

وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن شهدا للجارية الأخرى بذلك قبل قضاء القاضي للجارية الأولى قبلت شهادتهما، ويجعلهما ابنتين للميت، سواء كان ابن العم موسراً أو معسراً، لأنهما حرّان عندهما لم يجران إلى أنفسهما مغنماً ولا دفعا عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما، بل أوجبا على أنفسهما ثلثي السعاية للابنتين إن كان ابن العم معسراً، ولم يحولا ضماناً وجب عليهما، أما إذا كان ابن العم موسراً؛ فلأن يسار المعتق عندهما يمنع استبقاء العبد، وأما إذا كان معسراً؛ فلأن القاضي لم يقض بالسعاية على العبد بعد، حيث لم يقض بكون الأولى بنتاً للميت، وتحويل الضمان قبل وجوب الضمان محال، فبعد ذلك إن كان المعتق معسراً سعى كل واحد من العبدين في ثلثي قيمته للابنتين، وإن كان موسراً ضمن ثلثي قيمة العبدين للابنتين نصفان، ولو كان ذلك بعد قضاء القاضي للبنت الأولى، فإن كان ابن العم موسراً تقبل شهادتهما؛ لأن المعتق إذا كان موسراً لم يجب للبنت الأولى عليهما السعاية، فهما بشهادتهما لم يحولا ضماناً وجب عليهما للأولى إلى الثانية، وإن كان معسراً فهذا على وجهين: أما إن أقرت الأولى للأخرى أو لم تقر، فإن لم تقر لم تقبل شهادتهما، لأنه وجب عليهما السعاية في نصف قيمتهما للأولى، فهما بشهادتهما يحولان سدس القيمة إلى الثانية، ولهما في هذا التحويل فائدة فلا تقبل شهادتهما وإن أقرت الأولى للأخرى تقبل شهادتهما، وإن حصل تحويل سدس القيمة من الأولى إلى الثانية، إلا أن هذا التحويل في الحاصل ما حصل بشهادتهما، إنما حصل (155أ4) بإقرار الأولى بدليل أنهما لو لم يشهدا بذلك كان

(8/512)


سدس القيمة مما وجب عليهما محولاً إلى الأخرى، فلا يكون ذلك مانعاً قبول شهادتهما.

فكذلك لو كانا دفعا نصف القيمة إلى الأولى بقضاء أو بغير قضاء ثم شهدا للأخرى لا تقبل شهادتهما، لأنهما بهذه الشهادة يريدان إبطال بعض ما ملكا من الأولى وهو السدس، وإذا لم تقبل شهادتهما بقيت الأخرى أمة للأولى وابن العم، ولا يضمن الشاهدان للأخرى شيئاً، وإن أقرا لهما بسدس القيمة إلا أنها لما بقيت أمة كان الإقرار لها إقراراً لمولاها ومولاها ابن العم والجارية الأولى وهما يكذبان الشاهدين في إقرارهما للأخرى بشيء، ومن أقر لمملوك إنسان بشيء وكذبه مولاه يبطل إقراره، فإن عتقت الأخرى يوماً من الدهر يضمن الشاهدان لها سدس قيمتها؛ لأنهما أقرا للأخرى بسدس قيمتها وهي تصدقهما في ذلك، فيضمنان لها ذلك، وهذا لا يشكل فيما إذا دفعا النصف إلى الأولى بقضاء قاض فلا يكون عليهما ضمانه، فكان عليهما ما بقي إلى ثلث قيمتهما، وذلك سدس قيمتهما لا غير إنما يشكل فيما إذا دفعا نصف قيمتها إلى الأولى بغير قضاء، وفي هذا الوجه يجب أن يضمنا للأخرى ثلث قيمتهما؛ لأنهما أقرا للأخرى بثلث قيمتهما ودفع السدس إلى الأولى كان بغير قضاء، فلا يبرآن منه، فكان عليهما ضمانه، وقد بقي عليهما سدس قيمتهما فيضمنان للأخرى ثلث قيمتهما لهذا.
وأجاب الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله عن هذا الإشكال، وقال: بأن القاضي لما قضى عليهما بالسعاية الأولى في نصف القيمة فقد قضى بدفع نصف القيمة إلى الأولى، فبعد ذلك إن وجد القضاء بدفع النصف إليها مرة أخرى فهو تأكيد لذلك القضاء، وإن لم يوجد كان القضاء الأول كافياً، والدفع متى حصل بقضاء يوجب براءة الدافع عن قدر المدفوع، ولو شهدا للأمة الأخرى أنها أخت الميت بعدما شهدا للأولى أنها ابنة الميت لا تقبل شهادتهما، قضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض، لأن في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنه يظهر أن الميت ترك ابنة وأختاً وابن عم، وفي هذه الحالة لا يكون لابن العم شيىء لكون الأخت عصبة في هذه الحالة، فظهر أن إعتاق ابن العم العبدين كان باطلاً، وأنهما بقيا عبدين وشهادة العبد لا تقبل، ولا يضمن العبدان للأخت شيئاً. وإن أقرا لهما بنصف قيمتهما لما قلنا: فإن عتقت يوماً من الدهر ضمنا نصف قيمتهما لما مر.

رجل مات فشهد قوم عند القاضي لرجل أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه، لا وارث له غيره فقضى القاضي بذلك وقد كان للميت على رجل ألف درهم، فوهبه الأخ له أو وهب لإنسان عيناً من التركة، ثم شهد هذا الموهوب له ورجل آخر لإنسان أنه ابن الميت، جازت شهادتهما، لأن هذه شهادة على الموهوب له، فإنه يبطل بهذه الشهادة ما حصل له بالهبة من العين والدين فكانت هي من أصدق الشهادات، وكان ينبغي أن لا تقبل شهادته فيما إذا كان الموهوب عيناً، لأن الموهوب إذا كان عيناً فالهبة لا تتم إلا بقبول الموهوب له، فكان هو بهذه الشهادة ساعياً في نقض ما تم به، وهذا مانع قبول الشهادة، والجواب عن هذا: أن يقال بأن السعي في نقض ما تم به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان هو لا

(8/513)


يملك النقض بدون الشهادة، والموهوب له يملك الرد على الواهب من غير شهادة؛ لأن الهبة في جانب الموهوب له غير لازمة، وكان كالمرتهن إذا شهد لغيره بالرهن حتى لو كانت الهبة بشرط العوض وتقابضا، ثم إن الموهوب له شهد مع رجل آخر أن هذا الرجل ابن الميت، كانت شهادتهما باطلة، لأنه ساع في نقض ما تم به، وهو لا يملك ذلك بدون الشهادة، لأن الهبة بشرط العوض لازمة من الجانبين.

وصار هذا نظير ما لو اشترى رجل من هذا الأخ شيئاً من الميراث، ثم شهد هذا المشتري مع رجل آخر بما قلنا، لم تقبل شهادته لما قلنا، وإذا لم تقبل هذه الشهادة كان للمشهود له بديونه؛ لأن يأخذ من الموهوب له ومن المشتري ذلك العين إن كانت قائمة وقيمتها إن كانت هالكة، لأن الموهوب له زعم أن الهبة لم تصح، وكذلك المشتري زعم أن الشراء لم يصح، وأن هذا العين ملك الابن فيؤمران بالدفع إليه إن كان قائماً وبرد القيمة إن كان هالكاً، والذي ذكرنا في الهبة كذلك الجواب في الصدقة، والله أعلم.

الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات
دابة في يدي رجل، يقال له محمد، فجاء رجل يقال له عمرو وقال: هذه الدابة التي في يد محمد كانت لزيد، أخذتها منه وديعة، ثم رددتها عليه، وقد مات زيد، فجاء وارثه لزيد وقال: هذه الدابة تصدق بها إلى زيد في حياته، وأنكر محمد ذلك، فجاء عمرو مع رجل آخر وشهدا بالدابة للمدعي، فإن كان الإيداع والرد معروفاً ظاهراً قبلت شهادتهما للمدعي، لأن عمراً بهذه الشهادة لم يدفع عن نفسه مغرماً، لأن عمراً إما إن كان مودع المالك بأن كان إيداع زيد إياه قبل التصدق بها على المدعي، أو كان مودعاً للغاصب بأن كان الإيداع من زيد بعد التصدق على المدعي والتسليم وأيهما كان فلا ضمان عليه إذا كان الرد ظاهراً، لأن المودع يبرأ بالرد على المودع، سواء كان المودع غاصباً أو مالكاً، فإذا برئ بالرد لم يدفع بهذه الشهادة عن نفسه مغرماً وإن كان الإيداع ظاهراً ولم يكن الرد ظاهراً، لا تقبل شهادة عمرو، علل محمد رحمه الله وقال: لأنه دافع عن نفسه مغرماً.
وطعن عيسى بن أبان فقال: ينبغي أن تقبل شهادته؛ لأنه ليس بدافع عن نفسه مغرماً، لأنه إنما يكون كذلك إذا كان يضمن للمدعي، لو لم تقبل شهادته بإقراره السابق بالأخذ وبإقراره اللاحق أن الملك للمدعي للحال الحاصل في ضمن الشهادة فلا يضمن، لأنه بهذه الشهادة أقر بالملك للمدعي للحال وملك زيد كان ثابتاً بتصادقهما، والإيداع منه كان ظاهراً، إلا أنه وقع الشك أن الإيداع منه كان قبل التصدق أو بعده، فإن كان قبل التصدق: كان مودع المالك حينئذ ويكون القول قوله في الرد، ولا يجب الضمان، وإن كان الإيداع بعد التصدق كان مودع الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان متى لم يكن الرد

(8/514)


ظاهراً، فلا يجب الضمان بالشك، ومتى لم يجب الضمان لم يكن هو بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً.
والجواب عن هذا الطعن: أنه إذا وقع الشك في كونه دافعاً عن نفسه مغرماً وقع الشك في قبول شهادته، فلا تقبل شهادته بالشك والاحتمال.

وجواب آخر وهو الصحيح: لا بل عمرو بشهادته دافع عن نفسه مغرماً متى لم يكن رده ظاهراً، لأنه ربما يجيء مستحق آخر لهذه الدابة ويقيم البينة أن الدابة ملكه مطلقاً، وتكون للمستحق، يضمن عمرو إذا لم يكن الرد على زيد ظاهراً، لأنه أقر أنها كانت في يده وديعة، وبالاستحقاق تبين أنه كان مودع الغاصب، ومودع الغاصب يضمن إذا هلكت الوديعة، ولم يكن الرد ظاهراً، فهو بهذه الشهادة للمدعي رفع هذا الضمان عن نفسه؛ لأنا متى قبلنا هذه الشهادة وقضينا بالدابة للمدعي، لا يكون للمستحق تضمين المودع، لأن الدابة وصلت إلى وارث الغاصب، ووصولها إلى وارث الغاصب بمنزلة وصولها إلى الغاصب، ولو وصلت إلى الغاصب يبرأ المودع عن الضمان فكذا ههنا، فكان دافعاً مغرماً من هذا الوجه.

وفي «فتاوى الفضلي» : رجل ادعى داراً أنه ورثها من أبيه، وادعى آخر أنه اشتراها من أبيه ذلك، وشهد شهود المدعي للشراء بمجرد البيع فقالوا: باعها منه الميت، ولم يقولوا: وهو يملكها، والدار في يد مدعي الميراث أو مدعي الشراء، فالشهادة مقبولة، ويقضى بالدار لمدعي الشراء، وإن لم يشهدوا بالملك للميت ولا بالتسليم، إنما يحتاج شهادتهم في البيع إلى ذكر الملك والتسليم مع البيع إذا كان المشهود عليه لا يدعي ملك المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه حياً كان أو ميتاً، بل يدعي المدعي لنفسه لا من جهة ذلك، أما إذا كان المشهود عليه يدعي ملك المدعي من جهة من ادعى المشهود له الشراء منه لا يحتاج إلى ذكر الملك أو التسليم مع ذكر البيع، لأن المشهود عليه لما ادعى المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه، فقد ثبت كون المدعى ملكاً لذلك باعترافه فاستغنى الشهود عن ذكر ملكه حينئذٍ قال في الكتاب: لأن شهادتهم على بيع الميت منه ليست بأقل من شهادتهم (155ب4) على إقرار الميت أن الدار لمدعي الشراء.

ولو شهدوا بهذا ومدعي الميراث يدعي أنها ميراث له عن الميت، لم يلتفت إلى دعواه، وقضى بالدار للمقر له، فكذا إذا شهدوا له بالشراء من غير ذكر ملك ولا تسليم، بخلاف ما إذا ادعى المشهود عليه ملك الدار لنفسه، لا من جهة أحد بعينه، حيث لا تقبل شهادتهم بمجرد البيع، لأن هنا لو شهد الشهود أن الذي ادعى المشهود له الشراء منه أقر أن الدار لمدعي الشراء، لم تقبل هذه الشهادة على المشهود عليه؛ لأنه يزعم الملك للمقر فالحاصل أنه اعتبر شهادتهم بمجرد البيع على الشهادة بالإقرار ففي كل موضع تقبل الشهادة على إقرار من يدعي المشهود له الشراء منه، لا تقبل الشهادة بمجرد البيع، والمسألة في شهادات «الأصل» وذكر ملك البائع وقت البيع ينظر في شهادات «الفتاوى الصغرى» .

(8/515)


وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل له تسعة أولاد أقر في صحته وجواز إقراره أن لخمسة من أولاده فلان وفلان وفلان سماهم في الصك عليه ألف درهم، ثم مات، وأنكر سائر الورثة ذلك، فشهد الشهود بذلك عند الحاكم، وقالوا: لا نعرف الأولاد المقر لهم، لأنهم لم يكونوا حضوراً وقت الإقرار، فإن أقر سائر الورثة بأسامي هؤلاء ثبت المال بشهادة الشهود، ولو جحدوا كلّف المدعون إقامة البينة على أنهم مسمّون بالأسامي التي ذكرها الشهود، فإن أقاموها يقضي لهم بذلك إذا لم يكن في سائر الأولاد مثلهم في الأسامي.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل في يديه دار، أقام رجل بينة أنها دار فلان ابن فلان الفلاني أودعنيها فالقاضي يدفع الدار إلى المدعي، لأن المودع ينتصب خصماً في الوديعة في إثبات الملك للمودع، لأنه مأمور بالحفظ ولا يتمكن من الحفظ إلا باسترداده من الغاصب، ولا يتمكن من ذلك إلا بإثبات الملك لمودعه، فكان خصماً في إثبات الملك للمودع فقبلت بينته، كما لو أقامهما المودع بنفسه فإن لم يشهد شهود المدعي على هذا الوجه، ولكن شهدت شهوده أن فلاناً أودعها من المدعي، ولم يشهدوا أنها كانت لفلان، لا تقبل هذه الشهادة، لأن المدعي بهذه البينة لم يثبت الملك في الدار لصاحب الوديعة، وإنما أثبت أنه أودعها منه، والإيداع كما يكون من المالك يكون من غير المالك، فلم تكن هذه شهادة بالملك، وإنما هذه شهادة أنها كانت في يد المودع، وقد عرف القاضي زوال ذلك اليد، فلا يجوز إثباتهما بالبينة، وكذلك لو شهدوا أنها كانت في يد المستودع أمس لم يقض القاضي بشيء؛ لأن المودع لو كان يدعي الملك لنفسه لم يستحق بهذه الشهادة شيئاً، فكذلك إذا كان يدعيه لغيره، ولو ادعى المدعي رقبتها فشهدت شهوده أن فلاناً وهبها له، وقبضها منه أو اشتراها منه وقبضها ولم يشهدوا بالملك للبائع ولا للواهب، قبلت الشهادة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تقبل، وإلى هذا أشار في «الكتاب» ، فإنه نسب الجواب فيه إلى أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأبو يوسف قاس هذا على الإيداع.

والفرق لهما: وهو أن الشهود هنا شهدوا باليد عند مباشرة سبب الملك، وهو البيع والهبة والشهادة على اليد عند مباشرة سبب الملك، كالشهادة على الملك حكماً، لأن الأملاك لا تعرف إلا بها، ولهذا إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيها تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له، فكانت هذه شهادة للمدعي، فقبلت بخلاف فصل الإيداع، لأن هناك الشهود ما شهدوا باليد عند مباشرة السبب؛ لأن الإيداع ليس من أسباب الملك بل هو نقل من يد إلى يد فلم تكن الشهادة على اليد عند الإيداع شهادة على الملك بخلاف البيع والهبة على ما مر.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فأنفذ القاضي شهادتهما، ثم ادعى أحد الشاهدين أنها امرأته تزوجها قبل الذي طلقها، وأتى على ذلك ببينة والمرأة تجحد فإنه لا يقبل ذلك منه، وكذلك لو لم يكونا شهدا أنها

(8/516)


امرأته، وإنما شهدوا أنه طلق هذه ثلاثاً، وكذلك هذا في العتق والبيع وغير ذلك إذا جحد البائع دعوى الشاهد، وقال: المتاع لي، وكذلك إذا قال الشاهدان: نحن أمرناه بالبيع، لأن ما نفذ من الحكم بشهادتهما بمنزلة الإقرار منهما أنه لاحق لهما فيه، ولا في ثمنه وسواء كان البائع جاحداً للبيع أو كان المشتري جاحداً للشراء، ولو شهدا ورد الحاكم شهادتهما، ثم ادعياه لأنفسهما، فليس لهما في ذلك دعوى، وإن لم يشهدا عليه عند الحاكم ولكن شهدا المبايعة وحتما على الشراء من غير إقرار بكلام، فإن هذين لا تقبل لهما دعوى.
وذكر عن محمد رحمه الله: رجل شهد على رجل أنه طلق هذه المرأة ولم يشهد أنها امرأته، وأجاز القاضي شهادته عليها، ثم ادعى الشاهد أنها امرأته، وقال: لم أعرفها ولم أكن دخلت بها قبلت بينته، وكذلك لو شهد على إقرار المرأة أنها امرأته ولم يشهد أنها امرأته، فأجاز القاضي عليها إقرارها وجعلها امرأته، ثم أقام الشاهد بينة أنه تزوجها منذ سنة، وإني لم أعرفها قبلت بينته، ويبطل قضاء القاضي، ويردها على الشاهد، فصارت مسألة الطلاق مختلفة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
في «أدب القاضي» : إذا شهد شاهدان لمدعى على رجلين أن أحدهما باع الدار من هذا المدعي وسلم الآخر، ولا يعرف الشهود البائع فشهادتهما باطلة، لأن المشهود عليه مجهول.
بيانه: أن الشهادة بالبيع شهادة على البائع وبزوال ملكه عن المبيع ببدل، وهما لم يعرفا البائع فكان المشهود عليه مجهولاً من هذا الوجه.
وكذلك إذا شهدا على رجل أنه باع هذه الدار من أحد هذين الرجلين، ولا يعرفان المشتري بعينه، لأن المشهود عليه مجهول وهو المشتري، قال: ألا ترى أن في الأول لو قلنا: هذه الشهادة فإذا استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟، وقال: ألا ترى أن في الفصل الثاني لو قبلنا هذه الشهادة فعلى من يلزم الثمن وينكره كل واحد منهما ويدفعه عن نفسه.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا على رجلين، فقالا: نشهد أن هذين ضربا فلاناً فقتلاه، ضربه أحدهما بالسيف، والأخر بالعصا، لا ندري أيهما صاحب السيف وأيهما صاحب العصا فالشهادة باطلة، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، فإذا جهلا أيه فعل كل واحد منهما، صار فعل كل واحد منهما مجهولاً وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة.

وكذلك إذا قالا: نشهد أنهما قطعا يديه فمات من ذلك، قطع أحدهما يمينه، والآخر يساره، عمداً، أحدهما بحديدة، والآخر بعصا، ولا ندري من صاحب العصا منهما، أو لا ندري من قطع منهما اليمين ومن قطع منهما اليسار، أو قالا: جرحاه هاتين الجراحتين، لا ندري من جرح هذه ومن جرح هذه، فالشهادة في هذا كله باطلة؛ لأن الفعل يختلف باختلاف المحل وباختلاف الآلة، فإذا أقرا أنهما جهلا ذلك، فقد ضيعا

(8/517)


شهادتهما حيث لم يمكنهما الشهادة على فعل معين معلوم، فلا تقبل شهادتهما.
ولو قالا: نشهد أنهما قطعا يده، قطع هذا يمينه والآخر يساره أو جرح هذا هذه، وهذا هذه ولا ندري بأي شيء جرحاه، فالقياس أن لا تجوز شهادتهما لما ذكرنا أنهما ضيعا شهادتهما بإقرارهما أنهما جهلا آلة القطع وآلة الجرح فبطلت شهادتهما، ولكنّا استحسنّا وجوزنا هذه الشهادة، لأنهما اتفقا على أصل الفعل وإن اختلفا في وصفه فقبلت شهادتهما فيما اتفقا عليه، ولأنهما إنما لم يذكرا آلة القتل والجرح على القاتل احتيالاً لدرء القصاص وابتداء بما ندما إليه في الشرع مع علمهما، فلا يقدح ذلك في الشهادة بخلاف المسألة المتقدمة، لأن ثمة قد ذكرا آلة الجرح والقتل، ولكنهما جهلا صاحب الآلة فلا يمكن حمله على السر، وإنما هذه شهادة على مجهول، لأنهما لم يشهدا بالقتل بالسيف ولا بالقضاء على أحدهما بعينه، فلا تقبل شهادتهما، ثم في هذه المسألة الأخيرة إذا قبلت الشهادة وجب المال، لأنه تعذر إيجاب القصاص، لأنه يعتمد القتل عمداً بحديدة ولم يثبت، فوجبت الدية، وإنما تجب في ماله ولا تجب على العاقلة، (156أ4) لمكان الشك فإنه كان خطأً تجب على العاقلة، وإن كان عمداً لا تجب على العاقلة، ويحتمل كلا الأمرين، فلا تجب على العاقلة بالشك، وإن قالا: قتله خطأً، الآن تجب الدية على العاقلة لاتفاقهما على وجوب الدية على العاقلة.
والقتل إذا كان خطأً بأي آلة كان، فإن موجبه على العاقلة، قال: وكل شيء من هذه الشهادة كنت أقضي بها لو برأ الرجل من الجراحة، وأجعل في ذلك دية، أو قصاصاً، فإني أقضي به إذا مات وأجعل (على) عاقلته الدية، وكل شيء كنت أبطله لو عاش الرجل وبرئ من الجراحة فإني أبطله إذا مات من ذلك، لأنه إنما يقضي بالدية والقصاص في حالة الحياة عند تمام الحجة على الجرح واستجماع شرائط قبول الشهادة، فإذا مات منهما أحد بموجب السراية وإذا لم يقض في حياته بشيء فإنما لم يقض لانعدام الحجة على فعله، أو لفقدان شرائط جواز الشهادة، فإذا مات منهما لا يمكن القضاء بموجب السراية أيضاً، ثم فسر ذلك فقال: ألا ترى أنهما لو قالا: نشهد أن كل واحد قطع إحدى يديه أحدهما بسيف والآخر بعصا لا ندري أيهما صاحب السيف، وقد برأ الرجل من الجراحتين إن هذا باطل لأنهما إذا أقرا أنهما حملا ذلك لم يشهدا على واحد بعينه بفعل بعينه، فلا يمكن القضاء بموجب أحد الفعلين على أحد الرجلين.
ألا ترى أن موجب أحد الفعلين قصاص وموجب الآخر الدية، ولا ندري على من يوجب القصاص، وعلى من تجعل الدية لأن المقضي عليه مجهول فيهما، فكذلك إذا مات منهما لا يمكن إيجاب القصاص والدية أيضاً، لأن الفعل الذي يدعيه على كل واحد منهما مجهول، وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة، حتى لو أثبتا كان على كل واحد منهما نصف الدية لثبوت القتل عليهما.

لو قالا: نشهد أنهما قتلاه بعصا أو بسيف، ثم مات الشاهدان أو غابا إني لا أبطل هذا، وأجعلهما ضاربين بالسيف وضاربين بالعصا، لأنهما شهدا بقتلهما، والقتل لابد وأن

(8/518)


يكون بآلة القتل ثم لما ذكر آلة القتل، عقيب فعلهما انصرف إليهما جميعاً فكان على كل واحد منهما نصف الدية، ربعاً في ماله وربعاً على العاقلة، لأنه لو قتله بالسيف عمداً وتعذر إيجاب القصاص كانت عليه الدية في ماله، ولو قتله بالعصا كانت الدية على العاقلة لأنه شبه العمد، فإذا جمع بينهما يوزع عليهما حكمه، ولو كانا قتلاه كان كل واحد منهما قاتلاً نصفه، نصف هذا النصف بسلاح، فيكون موجبه الدية في ماله، ونصف هذا النصف بعصا فيكون موجبه على العاقلة، كما لو تفرد به.
قال: ألا ترى أنهما لو قالا: قتلاه بسيف أن هذا على سيف واحد لأن القتل لما كان واحداً لابد من أن تكون الآلة متحدة فكذلك قولهما: بسيف وعصى، ولو كان القاتل واحداً فقالا: نشهد أن هذا قتله بسيف وعصا فإني أستحسن في هذا أن أجيزه وأجعل عليه نصف الدية في ماله، ونصفاً على عاقلته لأنه صار قاتلاً للنصف بالسيف، وحكمه وجوب الدية في ماله عند تعذر إيجاب القصاص، وقد تعذر إيجاب القصاص ههنا، وصار قاتلاً للنصف بالعصا وحكمه وجوب الدية على عاقلته، فلهذا أوجبنا على عاقلته نصف دية النفس.

ولو قالا: نشهد أن هذا قطع يديه جميعاً، إحداهما: بالسيف، والأخرى: بالعصا، لا ندري أيتهما قطعت بالسيف وأيتهما قطعت بالعصا فمات من ذلك كله، فعليه الدية نصفاً في ماله ونصفاً على عاقلته، لأنهما بينا في شهادتهما قاطع اليمين وقاطع اليسار، ولكنهما لم يبينا آلة القطع، وقد ذكرنا أن المشهود عليه إذا كان معلوماً وآلة الفعل غير معلومة أن الشهادة مقبولة استحساناً، وقد ذكرنا وجهه.

ولو قالا: نشهد أن هذا جرحه هذا الجرح إما بحديدة وإما بعصا، والمجروح قد برأ من ذلك، فإن هذا جائز وهو على الجاني في ماله إذا كان بعد ضربه، وهو مما لا يقدر فيه على القصاص لأنهما بينا الجارح فكان المشهود معلوماً، وأصل فعل الجرح معلوم ولكن الآلة غير معلومة، وقد ذكرنا: أن بيان آلة الجرح والقتل ليس بشرط لوجوب المال استحساناً، لأن حكم المال لا يختلف، بل أصل الجرح كاف لوجوب المال، وقد ثبت بشهادتهما، ولا يجب على العاقلة بالشك فيجب في ماله.
قال في كتاب الديات: إذا شهد شاهدان على أنه قتله، وقالا: لا ندري بأي شيء قتل، فالقياس في هذا أن يكون باطلاً، ولكني أستحسن أن أجيز هذا وأجعل الدية عليه في ماله، وجه القياس: أنهما ضيعا شهادتهما ونسبا أنفسهما إلى الغفلة، فلا تقبل شهادتهما، ولأن اتفاقهما على فعل واحد شرط قبول شهادتهما، وإنما يتحقق اتفاقهما على الفعل إذا اتفقا على آلة واحدة؛ لأنه إنما يتحقق الفعل بالآلة، ولا يثبت ذلك بدون التنصيص.
فأما إذا قالا: لا ندري لا يثبت الاتفاق منهما على آلة واحدة لجواز أنهما لو بينا، بيّن كل واحد منهما آلة أخرى، وذلك بأن يكون بياناً بكلامه لا أن يكون مخالفاً، فإذا احتمل كلامهما هذا النوع من البيان، لا يثبت الاتفاق بينهما بالدليل المحتمل.

(8/519)


وجه الاستحسان: أن الشرط اتفاقهما فيما صرحا به من الشهادة، وقد اتفقا عليه وذلك أصل الفعل وإنهما اتفقا عليه ولا احتمال فيه، وأصل القتل موجب الدية، فاتفاقهما عليه يكون على هذا الموجب، فأما القصاص إنما يجب باعتبار صفة العمدية، ولم يتعرض الشهود لذلك، وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص، فإنما يعتبر بوهم الاختلاف لمنع القصاص لا لمنع وجوب الدية، فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولأنهما انتدبا إلى ما ندبهما الشرع إليه، وهو الاحتيال لدرء القصاص، واكتفيا بالشهادة على أصل القتل فلا يكون ذلك مبطلاً لشهادتهما، ولكن يقضى بالدية في ماله كما هو موجب قتل العمد إذا وجب المال، ولأن الشك يقع على الوجوب على العاقلة، إن كان القتل عمداً لا يجب، وإن لم يكن يجب، ويحتمل كلا الأمرين فلا يجب على العاقلة بالشك والاحتمال.

وإذا غصب الرجل من آخر شيئاً فلا ينبغي للشهود أن يشهدوا أنه غصبه ولا أنها عليه، وينبغي لهم أن يقولوا: عايناه أخذ منه ألفاً، لأن الشاهد لا علم له بحقيقة الغصب، لجواز أنه أخذ منه ماله حق الأخذ بأن كانت هذه الألف ملكاً له ولا يعلم الشاهد، أو كان له قبل هذا المأخوذ منه ألف درهم دين بسبب من الأسباب، وقد ظفر بجنس حقه فأخذه، ومن ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه ولا يكون غاصباً بل يكون مستوفياً حقه. وهذه المعاني غيب عن الشاهد، فثبت أنه لا علم للشاهد بحقيقة الغصب، إنما علمه بأخذ الألف من يده لمعاينته ذلك، فينبغي أن يشهد بهذا القدر لا غير، وكذلك لا يشهد أنها عليه لأن بما شهد من الأخذ، لا يثبت له العلم بوجود الدين عليه، فلا يسعه أن يشهد بذلك.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا ادعى رجل على رجل خمسمئة درهم فأنكر المدعى عليه، فجاء المدعي بشاهدين، فشهد أحد الشاهدين أن هذا المدعى عليه أقر للمدعي بخمسمئة درهم، وشهد الآخر أن المدعى عليه أقر لي وللمدعي بألف، فشهادة هذا الشاهد باطلة؛ لأنه شهد بمال مشترك بينه وبين غيره، ولا يمكن تصحيح الشهادة كذلك، لأنه شاهد لنفسه ولا وجه إلى أن يصرف الشهادة إلى نصيب الشريك لما فيه من قسمة الدين قبل القبض وإنها باطلة، فإن قال هذا الذي شهد لنفسه وللمدعي: لم يكن لي عليه شيء، لكنه أقر بذلك عندي كاذباً، وقال المدعي: لم يكن لشاهدي هذا شركة في المال لكنه أقر بهذا بين يديه كاذباً، فالشهادة أيضاً باطلة في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: فالشهادة جائزة، أما عند أبي حنيفة: إنما لا تقبل لأن أحد الشاهدين شهد بخمسمئة والآخر بألف، وفي مثل هذا لا تقبل الشهادة عنده، ولأن الشهادة خرجت على وجه الفساد، فلا تنقلب جائزة بإنكار الشركة.
كالمريض مرض الموت إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين مشترك وأنكر الوارث شركة نفسه، لا يصح الإقراء للأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله، لخروجه على وجه الفساد فلا تنقلب جائزة بإنكار الوارث الشركة. وعند أبي يوسف: لا تقبل الشهادة قياساً على هذه

(8/520)


المسألة دون المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى قول أبي يوسف كقول محمد، وأما عند محمد: فتقبل الشهادة ههنا قياساً على المسألتين عنده، لكن عند محمد يقع الفرق بين مسألة «الكتاب» (156ب4) وبين مسألة إقرار المريض من وجه أن في مسألة الكتاب يشترط إنكار الشاهد الشركة مع إنكار المدعي الشركة، وهناك إنكار الأجنبي الشركة كاف عنده، والفرق: أن ههنا الشاهد لو ادعى الشركة فقد أقر للشاهد ببطلان شهادته، والشاهد متى أقر ببطلان شهادته تبطل الشهادة.

وإذا أنكر الشاهد الشركة وادعى المدعي الشركة فقد أقر المدعي ببطلان الشهادة وأقر المدعي ببطلان الشهادة فشرط إنكارهما الشركة لقبول الشهادة لهذا، أما في مسألة الإقرار: إذا كان الوارث مقراً بالشركة، وأنكر الأجنبي الشركة فالوارث وإن جعل مقراً ببطلان إقرار المريض لكن بهذا لا يبطل إقرار المريض للأجنبي، إذ ليس للوارث هذه الولاية فاكتفى بإنكار الأجنبي الشركة ثمة لهذا.
رجل ادعى على رجل مئة درهم أو مئة منّ من الحنطة أو ما أشبه ذلك، فقال المدعى عليه: قد قضيته، أو قال: قد أوصلته إليه، أو قال بالفارسية: كزارده أم رسانيده أم انجه دعوى ميكندباو، وجاء بشهود شهدوا أنه دفع إليه مئة درهم أعطاه مئة منّ من الحنطة ولكن لم يقل الشهود: أعطاه هذه المئة التي ادعاها المدعي قبل شهادتهم، لأنه أدى مثل ما وجب عليه وهذا هو الواجب في قضاء الدين، والبراءة متعلقة به على ما عرف، ولأنه بهذه الشهادة ثبت دفع المئة من الدافع إلى المدفوع إليه، والقول قول الدافع في بيان جهة الدفع، وفي «فتاوى النسفي» : أن هذه الشهادة لا تقبل ما لم يشهد الشهود أنه أعطاه المئة التي ادعاها هذا المدعي.
وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن مات فشهد شاهدان أن هذه المرأة كانت امرأته يوم مات، وشهد آخران أنه كان طلقها قبل الموت، قال: بينة النكاح أولى، ويجعل كأنه طلق ثم تزوج، وقال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: بينة الطلاق أولى، لأنهم أثبتوا زيادة أمر مع الإقرار بالنكاح، وهو الطلاق.

شهد لرجل أنه وارث فلان لا وارث له غيره، أو لا أعلم له وارثاً غيره، ثم شهد لرجل آخر بعد ذلك أنه لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره قبلت الشهادة، لأن قول الشاهد: لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره، ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد على ما عرف، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولأن التوفيق ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لا أعلم له وارثاً أخر حال ما شهدت ثم علمت، ولأن أكثر ما فيه أن في ضمن كلامه أن لا شهادة لي بوراثة شخص آخر.
ومن قال: لا شهادة لي في حادثة ثم شهد فيها تقبل شهادته؛ كذا ههنا.
وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بشراء محدود لا تقبل شهادتهما إذا لم يكن في شهادتهما. إقرار على نفسه لأن الإقرار كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، وما على نفسه يكون حجة، فلابد من بيانه.

(8/521)


وسئل الفقيه أبو بكر الأعمش عمن لا يحسن الدعوى إذا أمر الحاكم رجلاً حتى علمه كيف يدعي، ثم شهد هذا المعلم على ذلك الدعوى، قال: لا بأس على الحاكم فيما فعل، ولا يصير المعلم بهذا التعليم مطعوناً وشهادته جائزة إذا كان عدلاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل أشهدني أن لفلان عليه ألف درهم ثم قضاه خمسمئة، ثم جاء المشهود له يسألني الشهادة وله شاهد آخر يشهد على الألف، قال: لا يشهد له إلا بخمسمئة، وهذا لأنه لو شهد له بالألف مع الشاهد الآخر تثبت الألف بشهادتهما، وبقوله وحده لا يثبت قضاء الخمسمئة، فيكون هو بالشهادة بالألف مسلطاً القاضي على القضاء بالألف، مع علمه أنه ليس له عليه إلا خمسمئة وأنه لا يجوز، فإن كره المشهود له ذلك فليقر عند القاضي بما قبض، ثم يشهد عليه بألف، قضاه منه خمسمئة ليكون مؤدياً ما عليه من الشهادة، ولا يكون بشهادة مسلطاً القاضي على القضاء عليه بما ليس عليه؛ لأنه قد برئ عن الخمسمئة بإقرار الطالب فلا حاجة إلى إثباته بالبينة.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان * وقد عرفنا الابن يومئذ بعينه ونسبه * هذا العبد منه، والابن يومئذ في عياله وذلك منذ زمن طويل، ونحن لا نعرفه في هذه الساعة لم تجز شهادتهما، وكذلك لو شهدا أن لهذا الرجل على فلان بن فلان ألف درهم، ونحن عرفنا فلاناً يوم أشهدنا عليه بعينه ونسبه، ولكن لو رأيناه الساعة لا نعرفه لم تجز شهادتهما.
إذا شهد أحد الشاهدين على الكفالة بهذا اللفظ كوالي سيدهم كر فلان حنين كفت كم أكر فلان سرماه وأحال فلان يد مد من ضمان كروم من أين مال، أو شهد آخر: كم فلان حنين كنت كم من أين مال ضمان كردم أن فلان من فلان رأتا سرماه، لا تقبل هذه الشهادة لأن أحدهما شهد بضمان منجز، والآخر شهد بضمان معلق بينهما مغايرة فيمنع قبول الشهادة.
وإذا شهد رجل وامرأتان أنه قتل ابنه عمداً جازت شهادتهما.
ولو شهد رجل وامرأتان أن فلانة قتلت زوجها عمداً ولها منه ابن وله ورثة غير الابن لا يقبل الشهادة.
والفرق: أن قتل الأب ابنه لا يوجب القصاص بحال وإنما يوجب المال، وشهادة النساء مع الرجال حجة في باب المال، أما قتل المرأة زوجها يوجب القصاص، ثم يسقط بعد ذلك إذا صار ميراثاً لابنها، ألا ترى أنه يتصور استيفاء القصاص منها بحال بأن يموت الابن بعد الجراحة أولاً، ثم يموت الأب من الجراحة، فإن في تلك الصورة بقتل المرأة لزوجها، وإذا تصور استيفاء القصاص بهذا القتل بحال، كان هذا القتل موجباً القصاص من الابتداء، وشهادة النساء ليس بحجة في القصاص.
ولو شهدوا على رجلين أنهما اشتركا في قتل ابن أحدهما قبلت شهادتهم، لأن هذا القتل لا يوجب القصاص بحال، فكان موجباً الدية من الابتداء، فكانت شهادتهما على المال.

(8/522)


رجل في يديه شيء جاء رجل وادعى أنه اشتراه منه، وجحد ذو اليد فأقام المدعي شاهدين، فشهدا أنه باعه منه ولا يدري أهو للبائع تقبل الشهادة ويقضي بذلك الشيء للمدعي. في «الزيادات» في باب المساومة.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» في هذا الباب أيضاً: رجل في يديه طيلسان ساومه به رجل فلم يتفق بينهما بيع، أو باعه بشرط الخيار لأحدهما، ثم ادعى أن الطيلسان كان لوالده يوم المساومة أو الشراء، وأن أباه مات أمس وتركها ميراثا له لم تسمع دعواه، ولو أقام على ذلك بينة لا تقبل بينته لأنه بالإقدام على الشراء أو المساومة، صار مقراً بالملك للبائع على رواية «الجامع» ، وبولاية البيع له على رواية «الزيادات» ، وبصحة الشراء على الروايات كلها، فيصير بدعوى ملك الأب والإرث من جهته متناقضاً، وهذا الجواب مشكل في فصل المساومة على رواية «الزيادات» ، ولو كان الأب حياً وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة صحت دعواه وقبلت بينته لأنه لم يوجد من الأب ما يجعله متناقضاً في دعواه الطيلسان لنفسه، فإن مات الأب بعد ذلك وورث الابن الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل.
أما على رواية «الزيادات» فلأن المساوم أو المشتري لم يصر مقراً بالملك للبايع إنما أقر بولاء البيع وبصحة الشراء؛ إلا أن القاضي لما قضى للأب بالطيلسان تبين أنه لم يكن له ولاية البيع وأن الشراء لم يكن صحيحاً، فصار مكذباً له في إقراره فالتحق بالعدم.
وأما على رواية «الجامع» فلأنه وإن صار مقراً بالملك له ولكن في ضمن الشراء، وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب، فيبطل ما ثبت في ضمنه.
وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات كان الطيلسان ميراثاً للابن؛ لأن الملك قد تقرر للأب بقضاء القاضي فلا يبطل بموته.

ولو لم يقض القاضي للأب حتى مات الأب، بطلت البينة لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء بالبينة، وقد انقطعت خصومة الأب بالموت والابن لا يصلح خصماً لكونه متناقضاً فبطلت البينة (157أ4) ضرورة.
وذكر هشام عن محمد رحمه الله في زيادات «النوادر» : أن من ساوم رجلاً بشيء ثم يشتري ذلك الشيء من آخر وقبضه، فللأول أن يأخذه من يده؛ لأنه لما ساوم فقد أقر له به، وإنه يخالف رواية «الزيادات» لأن المساومة على رواية «الزيادات» ليست بإقرار بالملك، بل هي إقرار بولاية البيع لا غير، وكذلك يخالف رواية «الجامع» ، لأن المساومة على رواية «الجامع» وإن كان إقراراً بالملك ولكن ظاهراً لا قطعاً، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق، ولو أن المساوم بين عند المساومة أن هذا الطيلسان لوالده، وقد وكل هذا بالبيع وطلب منه البيع فلم يتفق بينهما بيع، ثم أقام المساوم بينة أنه كان لأبيه وأنه مات أمس وتركه ميراثاً له قبلت بينته لأنه لا مناقضة في هذا الفصل؛ لأنه صرح عند المساومة أنه ملك أبيه، ألا ترى أنه لو اشتراه ونقد ثمنه ثم أقام بينة أنه كان لأبيه يوم اشتراه، وأنه قد كان وكله ببيعه وأن لي ثمنه صحت دعواه، لأنه ساع في تقرير ما سبق

(8/523)


منه وتم به لا في نقضه، وإنما ادعى ملك الثمن بسبب جديد لا يناقض الأول، وكذلك إذا ساومه، ثم ادعى بعد ذلك.

رجل في يديه طيلسان جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع الطيلسان منه بمئة دينار ونقده الثمن، وأقام على ذلك شاهدين، فشهدا أن صاحب اليد باع هذا الطيلسان من هذا المدعي، وقضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض حتى أقام الشاهدان بينة أن هذا الطيلسان لأبيهما يوم شهدا وأنه مات وتركه ميراثاً لهما، فالقاضي لا يسمع ذلك منهما ولا يقبل شهادتهم؛ لأنهما حين شهدا بالبيع على صاحب اليد فقد أقرا بالملك له على رواية «الجامع» وبولاية البيع على رواية «الزيادات» ، فصارا بهذه الدعوى متناقضين ساعيين في نقض ما أوجبا وإتمام البيع، وكذلك لو ادعياه لغيرهما بالوكالة عنه لم تصح دعواهما، لأن المتناقض كما يصحح الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره، عرف ذلك في كتاب الدعوى ولو استحق الطيلسان يستحق غيرهما وقضى القاضي له به، ثم وصل إلى يديهما لم يؤمرا بالتسليم إلى ذلك البائع، أما على رواية «الزيادات» فلأن الشهادة على البيع ليست بإقرار بالملك للبائع، وعلى رواية «الجامع» وإن كان إقراراً ولكن في ضمن الشهادة، وقد بطلت شهادتهما حين قضى القاضي بالطيلسان للمستحق، فيبطل ما ثبت في ضمن الشهادة من الإقرار، ولا يؤمران بالتسليم إلى المشتري أيضاً، وإن كانت الشهادة بالبيع شهادة بالملك للمشتري ولكن في ضمن البيع وقد بطل البيع بقضاء القاضي بالطيلسان للمستحق، فبطل ما ثبت في ضمنه من الشهادة بالملك للمشتري.
p
ولو أن الشاهدين بينا للقاضي يوم الشهادة على البيع، فقالا: هذا الطيلسان لنا، أو قالا: لأبينا أو قالا: لفلان وقد باع هذا من هذا، ثم إنهما أقاما البينة أن الطيلسان لنا ورثناه من أبينا أو من فلان الذي أقرا له، وقالا: فلان وكلنا بالخصومة، صح ذلك منهما لأن معنى التناقض ههنا قد انعدم؛ لأنهما لما بينا ذلك عند الشهادة لم يشهدا بالملك للبائع ولا اعترفا بصحة البيع فصحت دعواهما وقبلت شهادتهما.
ولو أن الشاهدين لم يبينا للقاضي شيئاً ولم يشهدا عند القاضي بالبيع، ولكن قالا للقاضي قولاً من غير شهادة: إن هذا باع الطيلسان من هذا، ثم أقاما البينة على أن ذلك لهما وعلى شيء مما وصفا، سمع بينتهما بخلاف ما إذا شهدا عند القاضي.
والفرق: وهو أن الشهادة بالبيع مطلقاً تنصرف إلى بيع صحيح موجب الملك للمشتري، لأن الشهادة حجة موجبة للقضاء، والقاضي إنما يقضي ببيع صحيح موجب الملك للمشتري، والشهادة بصحة البيع وبالملك للمشتري يمنع الدعوى لنفسه لمكان التناقض عل ما مر، أما مجرد القول من غير أن يكون شهادة لا ينصرف إلى بيع صحيح لا محالة يحتمل أن يكون إخباراً عن البيع الصحيح، ويحتمل أن يكون لشكنا أن هذا الشخص باع مالنا أو مال أبينا وماله، وذلك وعلى هذا التقدير لا يثبت التناقض، فلا يمنع الدعوى بالشك والاحتمال.

والهبة والصدقة مع القبض بمنزلة البيع حتى لو شهدا على الهبة أو الصدقة مع

(8/524)


القبض، ثم ادعيا بعد ذلك لأنفسهما لا تسمع دعواهما، لأن المعنى يجمع الكل وهو التناقض وكذلك النكاح بمنزلة البيع حتى لو شهدا على النكاح على الطيلسان بأن شهدا أنه جعل الطيلسان مهراً، ثم ادعيا الدار لأنفسهما أو لأبيهما يوم شهدا لم يسمع ذلك منهما لمكان التناقض وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» ؛ لأن مطلق شهادتهما بالإجارة إقرار بالملك للآجر، وإنه يناقض دعوى الملك لأنفسهما، أما لا يوافق رواية «الزيادات» لأن شهادتهما بالإجارة ليست بإقرار بالملك للآجر بل هو إقرار بولاية الإجارة، وإنه لا يناقض دعوى الملك لنفسه، فينبغي أن تسمع دعواه فيما يرجع إلى رقبة الدار إن كانت لا تسمع فيما يرجع إلى استخراجها من يد المستأجر؛ وكذلك في هذه المسائل، لو ادعيا لغيرهما بوكالة ذلك الغير لم تصح دعواهما لما ذكرنا: أن التناقض كما يمنع الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره.

فإن كان الشاهدان قالا: كانت لنا يوم شهدنا بالإجارة وهذا الآجر كان وكيلنا في الإجارة، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالإجارة، وهذا الآجر كان وكيل أبينا، وأقاما البينة على ذلك قبلت شهادتهما على رقبة الدار لعدم التناقض؛ لأنهما أقرا أنه آجر له حق الإجارة، والآن يقولان هكذا فتسمع دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الزيادات» ، أما لا يوافق رواية «الجامع» لأن شهادتهما بمطلق الإجارة إقرار بالملك للآجر.
ولو أقاما البينة على أن الدار كانت لهما، أو كانت لأبيهما يوم شهدا بالإجارة إلا أن شهودها لم يشهدوا أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما في الإجارة لا تصح دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» لأن التوكيل لم يثبت لعدم البينة على التوكيل بقي الآجر آجراً مطلقاً، وإجارة الآجر مطلقاً تكون لنفسه على رواية «الجامع» وإنه يناقض دعوى الملك لنفسه.
ثم إذا قبلت الشهادة على رقبة الدار إذا شهد شهودهما أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما على نحو ما ذكرنا، ينظر بعد ذلك إن كان المستأجر معترفاً كانت الشهادة الأولى وهي الشهادة على الإجارة ماضية وكان الأجر لهما، لأنه تبين أنهما شهدا على أنفسهما أو على أبيهما، وشهادة الإنسان على نفسه وعلى أبيه مقبولة، غير أن في مسألة الأب يحكم ببطلان الإجارة من يوم موت الأب، لأن موت الموكل في باب الإجارة يبطل الإجارة بخلاف موت الوكيل في باب الإجارة، والفرق عرف في كتاب الإجارة.
ولو كان المستأجر جاحداً للإجارة كانت الشهادة الأولى باطلة، لأنه تبين أنهما بالشهادة الأولى شهدا لأنفسهما أو لأبيهما، وشهادة الإنسان لنفسه ولأبيه باطلة، حتى لو كانت الشهادة الأولى لأخيهما والباقي بحاله كانت الشهادة الأولى ماضية، لأنه تبين أنهما بالشهادة شهدا لأخيهما، وشهادة الإنسان لأخيه مقبولة، والذي ذكرنا في مسألة الإجارة كذلك فكذلك في مسالة الشراء حتى إن الشاهدين لو قالا: الدار كانت لنا، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالبيع، وإن البائع كان وكيلاً عنا أو عن أبينا في البيع، وأقاما البينة على ذلك كله، قبلت بينتهما، وهذا الجواب لا يوافق رواية «الجامع» أما يوافق

(8/525)


رواية «الزيادات» ، فبعد ذلك إن كان المشتري معترفاً بالشراء كانت الشهادة الأولى، وهي الشهادة على الشراء ماضية وكان الثمن لهما، وإن كان جاحداً للشراء كانت الشهادة الأولى باطلة على نحو ما بينا، ولو كانت الشهادة الأولى للأخ والباقي بحاله، فالشهادة الأولى ماضية على كل حال على نحو ما بينا.
الأخوان إذا زوجا أختهما وهي صغيرة ثم أدركت فشهدا أنها اختارت نفسها لا تقبل شهادتهم، ولو كانت أمة بين رجلين ولها زوج أعتقاها ثم شهدا أنها اختارت نفسها قبلت شهادتهما.
في كتاب «العيون» شهد اثنان أن زوج فلانة قد مات أو قتل، وشهد اثنان أنه حي فالشهادة على الموت والقتل أولى (157ب4) في «وصايا عصام» المشهود عليه إذا أقام أولئك الشهود لحق نفسه، فإن كان قال: إنهم كاذبون فيما شهدوا عليّ فقد فسقهم، لا تقبل شهادتهم له، وإن لم يرد على الإمكان قبلت شهادتهم له.

إذا غاب الشاهدان أو ماتا بعد القضاء قبل الإمضاء ففيما إذا قامت الشهادة على المال أو (على) ما هو نظير المال مما يثبت مع الشبهات كالنكاح والطلاق لا يمنع القضاء؛ وفيما إذا قامت الشهادة على الحد، إن كان الحد رجماً لا يستوفى عندنا، وإن كان قطعاً أو جلداً لا يقطع ولا يجلد عند أبي حنيفة أولاً، ثم رجع وقال: يقطع ويجلد وهو قولهما، وفيما إذا قامت الشهادة على القصاص، القياس على قول لأبي حنيفة الأول في الحدود: أن لا يستوفى، وفي الاستحسان: يستوفى.
وإن غابا أو ماتا قبل القضاء، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا غابا أو ماتا بعد القضاء قبل الاستيفاء، حتى إن في المال ونظائره القاضي يقضي وفي الحد إن كان رجماً لا يقضي وإن كان جلداً أو قطعاً، فكذلك عند أبي حنيفة أولاً، وفي قوله الآخر وهو قولهما: يقضي، وفي القصاص القياس على قوله الأول في الحدود أن لا يقضي، وفي الاستحسان: يقضي.

وإن فسقا أو عميا أو ارتدا أو ذهب عقولهما وكان ذلك بعد القضاء قبل الإمضاء، ففي المال ونظائره يقضي، وفي الحدود لا يقضي، وفي القصاص يقضي قياساً، وإن كان ذلك قبل القضاء، فالقاضي لا يقضي في الفصول كلها فيما عدا العمى بلا خلاف، وفي العمى عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقد مرّت مسألة الأعمى قبل هذا.
قد ذكرنا في كتاب «أدب القاضي» أن الجرح المفرد يثبت باختيار المزكين ولا يثبت بالشهادة حتى إن المشهود عليه إذا (جاء) بشهود يشهدون بالجرح المفرد عند القاضي، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو جاء المشهود عليه بالمزكين حتى شهدوا بالجرح المفرد عند القاضي، لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «العلل» أن القاضي لا يقبل شهادتهم؛ وعلل فقال: لأن لهم بد من إظهار هذه الفاحشة بأن يخبروا القاضي سراً، فإذا أظهروها صاروا فسقة، فلا تقبل شهادتهم لهذا تجوز الشهادة على الشهادة.

(8/526)


في شهادات «الجامع» في آخر باب الشهادة على القتل: ترك السنة لا يوجب سقوط العدالة، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «أدب القاضي» للخصاف في باب شهادة الأقلف، قال: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعت أن مولاها أقر به وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين، فشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر على إقرار المولى وإنه قول.
فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة بعلمه بطريقين: بالمعاينة بأن اتفق له ذلك في باب الزنا، أو بالشهرة والتسامع وكونها على فراشه يعلم بإقرار المولى إن كانت الوالدة أمة، وشرعاً إن كانت الوالدة منكوحة أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد.
فإن قيل: إذا كان طريق معرفة الشاهد ولادة ولد الأمة على فراش المولى إقرار المولى أنها ولدت، فينبغي أن تقبل الشهادة في مسألتنا، لأن شهادة كل واحد من الشاهدين قامت على القول.
قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش، فالفراش في الأمة إن كان لا يعلمه الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها الشاهد بالمعاينة من غير إقرار المولى، فشهادتهما في حق الفراش إن قامت على القول معنى فشهادتهما على الولادة ما قامت على القول، فلا تثبت الولادة وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي.
وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى بالولادة، أو اتفقا على نفس الولادة على فراشه قبلت لاتفاقهما على القول في الفصل الأول، وعلى الفعل في الفصل الثاني.

شهد شاهدان على رجل بدار، فسأل القاضي عن الشهود أين خانه كه كو أهي من دمنديكر شنبه است بادو شنبه؟ فقال الشهو: يك شنبه، فنظروا فإذا بعضها يك شنبه وبعضها دو شنبه فقد قيل: هذه الشهادة (غير جائزة) لجواز أنها كانت يك شنبه وقت تحمل الشهادة، ثم صار بعضها وبعد ذلك دو شنبه، وعلى قياس ما إذا شهدوا بدابة وقالوا: سه ساله است، فنظروا فإذا هي جهار مسألة أنه لا تقبل الشهادة، ولم يقل أحد بقبول الشهادة لجواز أنها كانت سه ساله وقت تحمل الشهادة، والآن صارت جهار ساله ينبغي أن لا تقبل شهادتهم في مسألة الدار.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» : امرأة ادعت أن مهرها ألف عطريفية، وشهد الشهود لها بألف عدلية مهرها، إن القاضي يقضي بشهادة الشهود يعني بالعدليات.
ولو ادعى على آخر أنه قبض منه مئة البعض عطريفي، والبعض عدلي، والشهود شهدوا بقبض مئة عطريفية، قال شمس الإسلام: إن شهدوا بالقبض لا تقبل شهادتهم، وإن شهدوا على إقراره بالقبض تقبل، وينبغي أن يقال: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن الدعوى وقعت في المجهول؛ لأن المدعي لم يبين قدر كل واحد منهما.
وفي هذا الموضع أيضاً لو كتب في المحضر: شهدوا على وفق الدعوى، لا يفتى

(8/527)


بصحة المحضر، لأن الشهادة على وفق الدعوى أن يقول الشاهد: هذا العين ملكي، كما قال المدعي: هذا العين ملكي.
ادعى على آخر ألف درهم، وقال: خمسمئة منها من ثمن عبد بعته منه وقبضه وخمسمئة من ثمن متاع بعته منه وقبضه وجاء بشاهدين، شهد أحدهما بخمسمئة من ثمن عبد، وشهد آخر بخمسمئة من ثمن متاع، فإنه يجوز من ذلك خمسمئة؛ لأنهما اتفقا على الخمسمئة، وذكر السبب ليس بشرط، فهذا يدل على أنه إذا ادعى ديناً بسبب، وشهد له الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل الشهادة.

ولو ادعى على رجل ألف درهم، وجاء بشاهدين أحدهما: أنه أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن نبات قبضها، وشهد آخر أنه أقر أن عليه ألف درهم من ثمن طعام قد قبضه، وقال المدعي: قد كان أقر بذلك كله لي، فإن القاضي يقضي له بالألف.
في «واقعات الناطفي» وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل تحته أمة أعتقت، فشهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً بعدما عتقت، وشهد الآخر أنه طلقها ثلاثاً قبل العتق فهي ثنتان، وله أن يراجعها؛ لأن الثلاث الذي شهد بها في حالة الرق واحدة منها ليست بشيء، فلم يجتمعا إلا على الثنتين، ولم يتفقا أيضاً على أن الطلاق كان قبل العتق، فلا تنقطع الرجعة بالشك.
إذا قال الشاهد: كل شهادة شهدتها لفلان في حادثة كذا فهي زور، ثم شهد في تلك الحادثة لفلان تقبل شهادته.

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وكذلك إذا قال: ليست لفلان عندي شهادة في أمر، ثم شهد له في حادثة تقبل شهادته في هذا الموضع.
ادعى شراء دار من رجل وجاء بشهود شهدوا على الشراء من وكيله لا تقبل الشهادة، وكذلك إذا شهدوا أن فلاناً باع، وهذا المدعى عليه أجاز بيعه، وإذا كانت الدار في يدي رجل ادعى أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام على ذلك بينة وأقام فلان بينة أن صاحب اليد وهبها له في شوال على أن عوضه منهما خمسمئة وقبضا جميعاً، فالقاضي يقضي بالبينة بشرط العوض، لأن الهبة بشرط العوض بعد اتصال القبض بالبدلين والبيع سواء، ولو أثبت المشتري بيعه منه بخمسمئة في شوال انفسخ الأول وبقي الشراء بخمسمئة، فكذا إذا أثبت الهبة بشرط العوض.
ولو أن المدعى عليه الشراء لم يقم البينة على الهبة بشرط العوض، وإنما أقام البينة أنه ارتهنها من صاحب اليد في شوال بخمسمئة، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: البيع أولى ويجب على المشتري أن يقضي البائع خمسمئة أخرى سوى ما أعطاه في شوال وقال محمد: الرهن أولى ويكون رهناً عند المشتري بخمسمئة.

من مشايخنا من قال: الخلاف في هذه المسالة راجع إلى أن الرهن إذا تأخر عن البيع هل يفسخ البيع؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يفسخ، فبقي البيع بألف درهم صحيحاً وصار البائع راهناً ملك المشتري من المشتري بخمسمئة فلم يصح إلا أن

(8/528)


المشتري ببينته أنه ارتهنها في شوال بخمسائة أثبت لنفسه على البائع خمسمئة درهم ديناً، وللبائع على المشتري ألف درهم فقدر خمسمئة يلتقيان قصاصاً، ويجب على المشتري رد خمسمئة أخرى على البائع وعند محمد يفسخ البيع بالرهن، كما لو كان مكانه (158أ4) بيعاً، ومن مشايخنا من قال: البيع لا ينفسخ بالرهن عند محمد، كما هو قولهما إلا أن محمداً لا يقضي بالبيع مع ذلك؛ لأن المشتري ببينته أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري في شوال، فلا تصح دعواه أنه باعه منه في رمضان.
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: هذا الكلام في حد التعارض؛ لأن المشتري ببينته كما أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري أنه اشترى منه في رمضان، فلا تصح دعواه أنه ارتهن منه في شوال، وعلم أن هذا الكلام في حد التعارض بقي ما قالا إن الرهن دون البيع، فلا ينفسخ به البيع.
وإذا كانت الدار في يدي رجل شراءً فاسداً ادعاها آخر، فإن المشتري ينتصب خصماً للمدعي.
لأن الشراء الفاسد يفيد الملك للمشتري بعد القبض، والمالك ينتصب خصماً للمدعي، وإذا كانت الدار بين شريكين شركة ميراث، أو غير ذلك غاب أحدهما جاء رجل وادعى على الحاضر أنه اشترى من الغائب نصيبه فإنه لا تقبل بينته؛ لأنه يقيم بينة على الغائب وليس عنه خصم حاضر أما إذا كانت الشركة لا بجهة الإرث فظاهر، وأما إذا كانت الشركة بجهة الإرث؛ لأن أحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يدعى على باقي الورثة؛ وإنما ينتصب خصماً عن الميت فيما يدعى على الميت، وهنا دعوى الشراء يوجه على الغائب لا على الميت، فلم ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فهذه بينة قامت لا على خصم فلا تقبل.
بخلاف ما لو كانت ميراثاً بينهم وادعى المدعي أنه اشترى نصفها، أو كلها من الميت الذي ورثوها عنه حيث يقضى بذلك على الحاضر والغائب، لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما يدعى على الميت، والدعوى ههنا وقعت على الميت، فإن المدعي ادعى الشراء على الميت، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب، كما لو ادعى رجل ديناً على الميت، وبعض الورثة حضور والبعض غيّب، فإنه ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب كذا ههنا.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ثوب في يدي رجل ادعاه رجل، فشهد شاهدان للمدعي على صاحب اليد أنه أقر أن هذا الثوب لهذا المدعي، وشهد آخران على المدعي أنه أقر أن هذا الثوب لصاحب اليد تهاترت البينتان، ويترك الثوب في يد صاحب اليد، لأنه لما جهل التاريخ بين الإقرارين جعل كأنهما وقعا معاً، فيبطل الإقراران ويترك الثوب في يد صاحب اليد، كما كان.
دار في يدي رجلين، أقام كل واحد منهما بينة على أن صاحبه أقر له بها ووقتا، وتاريخ أحدهما أسبق فإنه يقضى بالدار لصاحب الوقت الآخر.
فرق بين هذا وبينما إذا لم يوقتا فإن هناك تتهاتر البينتان؛ لأنهما إذا لم يوقتا يجعل

(8/529)


كأنهما وقعا معاً، ولو وقع الإقراران معاً بطلا، فكذا إذا جعلا كذلك، أما إذا وقتا وأثبتا ذلك بالبينة صار الوقت الثابت بالبينة كالوقت الثابت عياناً، ولو عاينا أن أحدهما أقر لصاحبه مثلاً منذ سنة ثم أقر صاحبه له بعد ذلك منذ شهر يقضى للمقر له آخراً؛ لأن الإقرار الآخر يفسخ الإقرار الأول؛ لأن الإقرار مما يرتد بالرد، فإذا أقر المقر له الأول بعد ذلك فهذا الإقرار منه إقرار لصاحبه، ورد الإقرار الأول، فبطل الإقرار الأول بالثاني لكون الثاني رداً له ولم يتصل الرد بالإقرار الثاني فبقي صحيحاً.

قال في «الكتاب» : ولا يشبه هذا البيع، فقد فرق بين البيع والإقرار، فمن المشايخ من طعن على محمد، وقال: لا فرق بينهما، فإن في البيع متى ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه ووقتا ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما أن صاحبه باع هذا العين منه منذ شهر يقضي لآخرهما وقتاً؛ لأن التاريخ بين الشراءين ثبت بالبينة، فيعتبر بما لو ثبت معاينة. ولو عاينا أن أحدهما اشترى هذا العين من صاحبه منذ سنة، ثم اشتراه صاحبه منه منذ شهر، يقضي لآخرهما وقتاً، فعلم أنه لا تفرقة بين الإقرار وبين البيع.
بعض مشايخنا أجابوا عن هذا الطعن، وقالوا: لم يرد محمد بهذه التفرقة في الحكم والجواب، فإن في الموضعين جميعاً يقضي لآخرهما تاريخاً، وإنما أراد به التفرقة في الكنه، فإن الكنه في مسألة الإقرار أنه يقضي لآخرهما تاريخاً؛ لأن إقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، وليس مسألة البيع أنه يقضي لآخرهما تاريخاً أن البيع الثاني ينسخ البيع الأول، بل يبقى البيع الأول على حاله ويصح البيع الثاني بعده فافترقا في الكنه، فلما أراد بهذه التفرقة التفرقة في الكنه، أما الجواب في الفصلين واحد.

من المشايخ من قال: أراد محمد رحمه الله بهذه التفرقة، التفرقة في الحكم والجواب، إلا أنه لم يرد بمسألة البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه البيع وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، كما هو موضوع مسألة الإقرار، وإنما أراد بمسألة البيع: ما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من ثالث وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق كان السابق أولى، وأراد بمسألة الإقرار ما إذا ادعى كل واحد منهما إقرار صاحبه وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضي لآخرهما تاريخاً؛ فالتفرقة بين المسألتين على هذا الوضع ثابت كما ذكر محمد رحمه الله.
ذكر بعد هذا إذا ادعى كل واحد منهما الشراء على صاحبه، فقال: إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنتين، وادعى صاحبه عليه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنة، فهي منذ سنتين ولا يشبه هذا الإقرار، فقد فسر مسألة الشراء بعده ما ذكره مجملاً، ويبين بهذا التفسير أن موضوع المسألة المتقدمة في البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه، كما أن موضوع مسألة الإقرار أن كل واحد منهما ادعى الإقرار على صاحبه، إلا أنه لم يرد بقوله في مسألة البيع: فهي منذ سنتين أنه يقضي لمن ادعى الشراء منذ سنتين، فإنه متى ادعى كل واحد منهما الشراء على هذا الوجه يقضي لآخرهما وقتاً، وإنما أراد به أن الشراء منذ سنتين ثابت كالشراء منذ سنة؛

(8/530)


لأن الشراء الثاني لا يفسخ الأول فيكون الأول ثابتاً، ثم يثبت الثاني بعد ذلك فيقضي للآخر ويكون الأول ثابتاً، حتى تقع المقاصة بين الثمنين إن كانا من جنس واحد، ولم ينفذا ولا يشبه البيع الإقرار، فإن الإقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، فعلى هذا التفرقة بين الإقرار والبيع ثابت من حيث الجواب والنكتة.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» مسألة لم يذكرها شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وصورتها: دار في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أن فلاناً أقر له بها، وأقاما البينة ووقتا، ادعيا الإقرار على رجل واحد بأن ادعى الإقرار على زيد مثلاً ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما الإقرار منذ سنة، وادعى الآخر الإقرار منذ شهر، فهي لصاحب الوقت الآخر، ولا يشبه هذا البيع، يريد به إذا ادعى كل واحد منهما أن زيد باعها منه ووقتا، ووقت أحدهما أسبق وأقاما البينة فإنه يقضى لأسبقهما تاريخاً.

والفرق: أن في مسألة الإقرار صاحب الوقت الأخير أثبت إقرار زيد بالدار له منذ شهر، وهذا يمنع دعوى زيد الملك لنفسه منذ سنة، فيمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه منذ سنة بإقرار زيد له بها، وصاحب الوقت الأول أثبت إقرار زيد بالدار لنفسه منذ سنة، وذلك لا يمنع دعوى زيد الملك فيها لنفسه منذ شهر فلا يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر، وفي البيع ثبوت الشراء من زيد منذ شهر لا يمنع زيداً من دعوى الملك لنفسه منذ سنة، فإذا وجب قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الآخر فيه، فإنما أثبت الآخر شراءه بعد ذلك من غير المالك.

وإذا ادعى ثوباً في يدي رجل، وقال: ذهب مني منذ عشرة أيام، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه ذهب منه منذ عشرة أيام، وشهد الآخر أنه ذهب منه منذ خمسة عشر يوماً لا تقبل هذه الشهادة، ووقع هذه المسألة في بعض النسخ بالذال: ذهب مني، وفي بعض النسخ بالواو: وهب مني وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» وإنما لم تقبل الشهادة؛ لأن المدعي أكذب شاهده الذي (شهد) بالهبة منذ خمسة عشر. قال في «المختصر» : ولو لم يوقت المدعي جازت الشهادة؛ لأنه غير كذب واحد منهما، والمشهود به قول أو ما هو كالقول حكماً، فاختلاف (158ب4) الشاهدين في الوقت لا يمنع قبول الشهادة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك ثلاث بنين وداراً، فغاب اثنان منهم وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له، فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وتركها ميراثاً لي ولأخوي فلان وفلان، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما، وصدقه المدعي فيما قال، وأقام المدعي البينة أن الدار داره، قبلت بينته وقضي بالدار للمدعي.
وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر؛ ويد المودع ليست يد خصومة، ولكن الوجه في ذلك: أن كون المودع غير خصم من وجه في حق المدعي لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً، ثم إن

(8/531)


المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك، ثم أقام البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته، وههنا وجد ما يجعل الابن الحاضر خصماً في كل الدار، لأن الدعوى في الحقيقة وقع على الميت والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت، بخلاف المسألة المخمسة؛ لأن هناك لم يوجد ما أوجب كونه خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لا يصبح خصماً.
فإذا قضى القاضي بالدار للمدعي ثم حضر الغائبان، فهذا على وجهين، فالأول: إذا صدقا الابن الحاضر فيما قال، وجحدا حق المدعي، وفي هذا الوجه القضاء عليهما نافذ؛ لأن الابن الحاضر انتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة، فكان القضاء عيه قضاء على الكل.

الوجه الثاني: إذا كذبا الابن الحاضر، وادعيا ثلثي الدار لأنفسهما من غير ميراث الأب لم يكن القضاء نافذاً عيهما ورد عليهما الثلثان، ويقال للمدعي: أعد بينتك وإلا فلا حق لك في الثلثين وإنما كان كذلك؛ لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة في تركة الميت لا في مال آخر؛ ولم يثبت كون نصيب الغائبين من الدار تركة الميت، وثبت كون الحاضر مودعاً في ذلك والمودع لا يصير خصماً للمدعي إلا إذا وجد ما يوجب كونه خصماً من جهة المودع، ولم يوجد ذلك ههنا، فكانت البينة في حق الثلثين اللذين هما نصيب الغائبين قائمة على غير الخصم، فلا تكون معتبرة، هذا (إذا) كانت جميع الدار في يد الابن الحاضر، فأما إذا كان نصيب الغائبين في يدي رجل آخر وديعة، فأقر المودع بمثل ما أقر به الابن الحاضر، وصدقه المدعي في ذلك، لم يقض للمدعي بنصيب الغائبين، ويقضي له بنصيب الحاضر لأنه ثبت كون ذي اليد لنصيب الغائبين مودعاً، ولم يثبت كونه خصماً من وجه آخر فبطلت الخصومة معه، ومع الابن الحاضر لا تقبل الخصومة إلا في القدر الذي في يديه، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما (في) يديه؛ لأن الوارث قائم مقام الميت لو كان حياً ولو كان الميت حياً لا يكون خصماً فيما ليس في يديه، وكذا الذي قام مقامه هذا الذي ذكرنا إذا كان الثلثان في يد غير الابن الحاضر.

فأما إذا كانت جميع الدار في يد غير الابن الحاضر، فأقر الذي في يديه الدار: أن الدار وديعة للغائبين وأنها وديعة للغائبين، وأنها ميراث من الميت، وصدقه الابن الحاضر المدعي في ذلك، فالمودع ليس بخصم للمدعي، وكذلك الابن الحاضر لا يكون خصماً للمدعي، أما المودع فظاهر، وأما الابن الحاضر؛ فلأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت فيما كان في يده لا فيما كان في يد غيره.

وفي كتاب الرجوع: شاهدان شهدا على شهادة شاهدين على رجل أنه أعتق عبده، ولم يقض القاضي بشهادتهما حتى حضر الأصلان وأنكرا أن يكونا أشهداهما على شيء بطلت شهادتهما؛ لأن حضره الأصول قبل اتصال القضاء بشهادة الفروع يمنع القضاء بشهادة الفروع لكون الفروع بدلاً عن الأصول، فإذا اشترى الفرعان ذلك العبد، أو اشتراه

(8/532)


أحدهما لم يعتق العبد وجاز الشراء، لأن الفرع ما أقر بحرية هذا العبد بل حكى إخبار الأصل أن المالك أعتقه، والخبر يحتمل الصدق والكذب، فلا يصيران مقرين بالحرية. وكذلك الأصلان لو اشتريا العبد لم يعتق عليهما؛ لأنهما أنكرا الإشهاد، فلم يصيرا مقرين بحرية العبد.
ولو اشترى هذا العبد واحد من الفرعين، وواحد من الأصلين عتق؛ لأن في زعم هذا الفرع المشتري أن شريكي في الشراء وهو أحد الأصلين أقر بعتقه، وقد دخل نصفه في ملكه، فنفذ إقراره عليه، فصار هذا الفرع مقراً بعتق نصيب شريكه، فيصير ههنا بمنزلة عبد بين رجلين شهد أحدهما على صاحبه أنه أقر بعتق نصيبه، فأنكر صاحبه ذلك، وهناك العبد يعتق ويسعى لكل واحد منهما في نصف قيمته، موسرين كانا أو معسرين، أو كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما العبد يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته على كل حال. وهل يسعى للشاهد؟ إن كان المشهود عليه معسراً يسعى، وإن كان موسراً لا يسعى فههنا كذلك.

ولو اشتراه الأصلان أو أحدهما، ثم اشتراه الفرعان أو أحدهما حكم بعتقه، لأن في زعم المشتري من الفرعين أنه حين دخل في ملك الأصلين أو أحدهما عتق عليه، فصار المشتري من الفرعين مقراً على بائعه بحرية العبد، وكل من اشترى عبداً أقر بحريته على بائعه عتق على المشتري بحكم إقراره، وقد عرف ذلك في موضعه، ولا سعاية على العبد لواحدٍ منهما؛ لأن في زعم البائع أن العبد لم يعتق علي، وأنا بعته عبداً، وفي زعم المشتري أنه عتق على البائع وأني اشتريته حراً، فكان كل واحد منهما مقراً ببراءة العبد عن السعاية، فلا تجب السعاية على واحد منهما، ويكون ولاؤه موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما يعني البائع والمشتري ينفيه عن نفسه.

ولو اشترى الفرعان أولالاً ثم اشتراه الأصلان لا يعتق؛ لأن الفرعين ما أقرا بحريته إنما حكيا إخبار الأصلين أن مالكه قد أعتقه، والأصلان أنكرا تلك الحكاية، فلم يثبت الإقرار بحريته ممن هو مالك في ملكه.
وإذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، وأقام على ذلك شاهدين، ثم أقام المشهود عليه بالألف شاهدين أنه قد أبرأه منها، وقد عدلوا جميعاً وقد اجتمعت البينتان جميعاً عند القاضي، فالقاضي يقضي بشهادة الذين شهدوا بالبراءة، ولا يقضي بشهادة الذين شهدوا بإيجاب الدين؛ لأن بينة المدعي قد بطلت بإقرار المدعى (لم يقر بالبراءة) ، فإذا بطلت بينة المدعي على إيجاب الدين صار كأن المدعى عليه تفرد بإقامة البينة. ولو تفرد بإقامة البينة قبلت بينته على البراءة فكذلك ههنا.
وصار هذا بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالبيع، وشهد آخران بالإقالة، فإنه يقضي بشهادة الذين شهدوا بالإقالة؛ لأن بينة مدعي البيع قد بطلت بإقرار المدعى عليه؛ ولأن القضاء بإيجاب الدين مع البراءة لا يفيد، لأن المقصود من الإيجاب الاستيفاء، ولا يمكن الاستيفاء مع وجود البراءة.

(8/533)


وقول من قال: بأن القضاء بهما متعذر لأنهما يثبتان معاً في وقت واحد، لأن القاضي يقضي بهما في وقت واحد. والقضاء بإيجاب الدين والبراءة في وقت واحد باطل، يشكل بمسألة ذكرها في باب الرجوع عن النكاح والطلاق: وصورتها: إذا شهد شاهدان على رجل بالنكاح والطلاق جميعاً بمهر ألف ومهر مثلها خمسمئة، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول بها، فالقاضي يقضي بالنكاح والطلاق جميعاً، وإنما يقضي بهما في وقت واحد ومع هذا جاز.
وطريقه: أن بقضاء القاضي لا يقع النكاح والطلاق معاً إذ لا يتصور وقوعهما معاً، وإنما يقعان مرتباً على الوجه الذي يتصور، فكذلك البراءة لا تتصور إلا بعد وجوب الدين فلا تقعان معاً لو قضى القاضي بهما وإنما يقعان مرتباً، علمنا أن بطلان بينة المدعي بسبب إقرار المدعى عليه.
فإن قيل: إذا ثبت إقرار المدعى عليه بدعواه البراءة كان يجب أن يقال: بأن شهود البراءة إذا رجعوا يضمنون للمدعي؛ لأن الدين وجب بإقرار المدعى عليه، ثم سقط بشهادتهما بالبراءة مع هذا لا يضمنون، والجواب أن يقال بأن الدين وجب على المدعى عليه بإقراره في حق صحة البراءة؛ لأن البراءة لا تكون إلا بعد وجوب الدين، ولكن لا يقضي بالإيجاب في حق الاستيفاء، لأن الاستيفاء يكون بعد الوجوب، لأن إثبات حق الاستيفاء مع البراءة لا يتصور، وإذا لم يثبت الدين في حق الاستيفاء (159أ4) لم يصر شاهدا البراءة متلغين على صاحب المال شيئاً، فلا يضمنون، إلا أن يقيم المدعي البينة ثانياً أن له على المدعى عليه ألف درهم بحضرة شهود الإبراء، فإذا شهدوا بذلك ضمن شاهدا البراءة الدين للمدعي، وذلك لأن القاضي يقضي بإيجاب الدين على المدعى عليه في حق شاهدي البراءة؛ لأن الشهادة بالبراءة قد بطلت في حق شاهدي البراءة بالرجوع؛ فيمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الشهود حتى يضمنان بالبراءة، ولكن لا يقضى بإيجاب الدين في حق المدعى عليه؛ لأن الشهادة بالبراءة قائم في حقه، لأن الرجوع عن البراءة في حقه لم يصح، وإذا أمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الضمان على شهود الإبراء وجب القضاء، وإذا وجب القضاء صار الدين واجباً في حق شهود الإبراء، ثم سقط بشهادتهما بغير عوض فيضمنان للمدعي إذا رجعا، ويشترط حضرة الشهود وهي شهود الإبراء في إقامة البينة على الدين، لا حضرة المدعى عليه؛ لأن الاستحقاق بهذه البينة على شهود الإبراء لا على المدعى عليه، فيشترط حضرة شهود الإبراء لا حضرة المدعى عليه من هذا الوجه.

قال في كتاب الرجوع: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وقد كان أوصى بعتقه، فشهد شاهدان من ورثة الميت لرجل آخر بدين خمسمئة على الميت؛ لم تقبل الشهادة ويعتق العبد ويسعى في الثلثين ويأخذ الغريم دينه من نصيب الوارثين.

ولو شهدا بدين ألف درهم حتى كان مستغرقاً للتركة، جازت الشهادة وبيع العبد في الدين.
والفرق بينهما: أن العدل متى جر إلى نفسه مغنماً كان لا يستحق ذلك إلا بشهادته،

(8/534)


لا تقبل الشهادة، فمتى كان أقل من قيمة العبد فالشاهدان يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما يثبتان بشهادتهما لأنفسهما حق بيع العبد، وهذا لم يكن ثابتاً بدون شهادتهما على ذلك.
فإن قبل: بثبوت الدين لا يتمكنان من بيعه لثبوت حق العتق للعبد في مقدار الثلث، ومتى ثبت الدين يتمكنان من بيعه بالدين، فهما بهذه الشهادة يثبتان هذا الحق لأنفسهما ولهما فيه منفعة، لأنه إذا بيع بالدين بطلت الوصية إذ لا يمكن تنفيذها مع بيع العبد، وإذا قضى دين الغريم خمسمئة تبقى لهما خمسمئة وقبل ثبوت هذا الدين كان يعتق ثلث العبد مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته للورثة، وإذا سعى يدخل الغريم في نصيبهم ويأخذ من ذلك خمسمئة ويبقى لهم أقل من خمسمئة فكانا جارين إلى أنفسهما مغنماً، فأما إذا كان الدين مثل قيمة العبد لم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما وإن أثبتا حق بيع العبد لأنفسهما؛ لأنه لا منفعة لهما في ذلك، لأنه متى بيع العبد قضي الدين من جميع الثمن، ولا يسلم لهما من بدل العبد شيء، فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً فقبلت شهادتهما.
و (لو) لم يكن الميت أوصى بعتقه ولكن أوصى به لرجل، وباقي المسألة بحاله: قبلت شهادتهما سواء شهدا بدين قليل أو كثير؛ لأنه لا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ إذ لا يعود إليهما شيء لم يكن لهما قبل ذلك، لأنه إذا ثبت دين خمسمئة يباع نصف العبد بالدين، فيكون للموصى له ثلث النصف الباقي، وللورثة الثلثان، وكان هذا ثابتاً قبل الشهادة فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما فتقبل شهادتهما، والله أعلم بالصواب.

(8/535)