المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثامن: في الشهادات في المواريث
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا شهد شاهدان عند القاضي أن هذا الرجل وارث هذا الميت لا وارث له غيره ولم يخبرا بسبب الميراث، ثم إنهما ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن السبب، فالقاضي لا يقضي بشهادتهما؛ لأنهما شهدا (129أ4) بالمجهول؛ لأن الوارث مجهول غاية الجهالة؛ لأن أسباب الإرث كثيرة؛ أحكامها مختلفة، فكانت الجهالة ساحة لا يمكن تداركها، فيعجز القاضي عن القضاء؛ لأنه لا يدري بأي سبب يقضي، ألا ترى أنه لو جاء آخر وادعى أنه ابن الميت أو أبوه، فالقاضي لا يدري أنه يشاركه في الميراث أو لا يشاركه، فكيف يشاركه، وهذا بخلاف ما لو شهدا بالدين أو بملك الغير، فإنه تقبل شهادتهما، وإن لم يبينا سبب ذلك؛ لأن الدين لا يختلف باختلاف سببه، وكذلك ملك الغير لا يختلف باختلاف سببه، فلا يكون المشهود به مجهولاً بخلاف الإرث؛ لأنه يختلف باختلاف أسبابه، فلا بد من بيان السبب، فإن قالا: هو ابنه ووارثه لا يعلم له وارثاً آخر صار المشهود به معلوماً للقاضي فيقضي بشهادتهما، فقد شرط مع بيان السبب أن يقول هو وارثه لا نعلم له وارثاً سواه، ولا شك أن قولهما: ووارثه شرط فيمن يحتمل الحجب والسقوط بحال، فأما من لا يحتمل الحجب والسقوط بحال نحو الأب والأم والابن والبنت هل هو شرط؟ فقد اختلف المشايخ فيه.
وإشارات محمد رحمه الله في «الكتاب» : متعارضة، فوجه قول من قال: إنه شرط هؤلاء قد لا يرثون بعارض القتل والكفر والرق؛ ولأنهم قد يكونون بجهة الرضاع، فيشرط ذكره ليزول الاحتمال، وجه قول من قال بأنه ليس بشرط وهو الصحيح: أن هذه العوارض ليست بظاهرة، فلا يلتفت إليها، والنسبة المطلقة بهذه الأشياء هي بجهة الرضاع غير ثابتة عادة فلا تورث شبهة، وقول الشاهدين: لا نعلم وارثاً آخر ليس من صلب الشهادة، وإنما هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي، فإنه يدونه القاضي يتلوم زماناً، ولو شهدوا أنه عم الميت لابد وأن ينسبا الميت والوارث حتى يلتقيا إلى أب واحد؛ ليعلم أنه عمه، ويتسامع ذلك أنه عمه لأبيه وأمه، أو لأبيه أو لأمه، حتى إذا جاء آخر وادعى ميراث الميت يعلم أن الأول حاجب للعالي أو ليس بحاجب له، وبعد أن لا يكون حاجباً له في أي قدر يشاركه الثاني، وينبغي أن يتسامع ذلك أنه وارثه لا يعلم له وارثاً غيره؛ لأن العمل يحتمل الحجب والسقوط بغيره، والذي ذكرنا من الجواب فيما إذا شهدوا أنه عم الميت وكذلك إذا شهد أنه أخ الميت، لا بد وأن يبينا أنه أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه لأن الأخّوة في نفسها مختلفة، وقد يتعلق بها العصوبة، وهو ما إذا كان لأب وأم أو لأب، وقد تتعلق بها الفرضية، وهو ما إذا كانت لأم وأحكامها مختلفة، فلا بد من بيان ذلك ليصير المشهود به معلوماً للقاضي، ويشترط مع ذلك أن يقولا ووارثه: لا نعلم له

(8/370)


وارثاً غيره، لما قلنا في العم، ولو شهدوا أنه مولاه ووارثه لا يقبل القاضي هذه الشهادة حتى يشهد أنه مولاه أعتقه؛ لأن المولى اسم مشترك يتناول الأعلى وهو المعِتق، ويتناول الأسفل وهو المعَتق، ومن الناس من يورث الأسفل.

وعندنا: لا ميراث للأسفل ولعل الشاهدين أرادا الأسفل، فلو قضى القاضي بهذه الشهادة قبل البيان يقع القضاء لغير الوارث وإنه لا يجوز، ولو شهدا أن هذا ابن ابن الميت أو هذه بنت ابن الميت لا بد أن يقولا: وهو وارثه، لأنهما يسقطان بحال، فلا بد منه لينقطع الاحتمال، ولو شهدا أنه جد الميت لابد وأن يبينا أنه جده من قبل الأب أو من قبل الأم؛ لأن كل واحد منهما جد على الحقيقة وأحدهما صحيح، والآخر فاسد ويتسامع ذلك أيضاً أنه وارثه؛ لأنه يحتمل السقوط والحجب لغيره، وكذلك إذا شهدوا أن هذه جدته لابد وأن يبينا أنها أم أم الميت أو أم أبيه؛ لأن الجدة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ويبينا مع ذلك أنها وارثته لما قلنا في الجد.
ولو شهدا أنه جده أب أبيه ووارثه لا نعلم له وارثاً سواه، وقضى القاضي بذلك ثم جاء رجل وادعى أنه أب الميت، وأقام على ذلك بينة قضى القاضي به؛ لأنه لا تنافي بين كون الأول جد الميت، وبين كون الثاني أباً له، ويجعل الميراث للأب وينقض القضاء بالمال للجد؛ لوقوعه خطأً أو الجد محجوب بالأب، ويجعل الجد أباً لهذا الذي ادعى الأبوة، فإن قال الأب للقاضي: إن هذا الذي أقام البينة أنه جد الميت ليس بأب لي فمره بإعادة البينة، فالقاضي لا يكلفه ذلك؛ لأن نسب الجد ثابت بقضاء القاضي بالبينة القائمة على النسب، عند وجود شرطها، وهو دعوى الميراث ولم يوجد ما يوجب النقض في حق النسب فبقي نسبه كما كان.
فإن قيل: القضاء بالنسب ثبت في ضمن القضاء بالوراثة، وقد تبين بطلان القضاء بالوراثة فتبين بطلان القضاء بالنسب أيضاً.

قلنا: القضاء بالوراثة، لم يبطل إنما بطل القضاء بدفع المال إليه، وهذا لأن الجد وارث مع الأب لوجود سبب الوراثة في حقه إلا أن الأب أقرب، والميراث يدفع إلى أقرب الوارثين مع كون الأبعد وارثاً، فإنما يبطل القضاء بدفع المال، أما لا يبطل القضاء بالوراثة، وإذا لم يبطل القضاء بالوراثة كيف يبطل ما ثبت في ضمنه من القضاء بالنسب، نظيره الجار مع الشريك، فإن الشريك مقدم على الجار، وإن اجتمعا عند القاضي فالقاضي يقضي بالشفعة للشريك مع كون الجار شفيعاً في نفسه حتى لو سلم الجار الشفعة يصح تسليمه كذا ههنا.
واستشهد في «الكتاب» لإيضاح ما قلنا بمثله فقال: ألا ترى أن الأول لو أقام بينة أنه أخو الميت لأب وأم، وقضى القاضي بذلك وجعل الميراث له، ثم جاء آخر وأقام البينة أنه ابن الميت، جعل القاضي الميراث للابن، ويجعل الأول عماً لهذا الابن فإن قال الابن: إنه ليس بعمي، فمره بإعادة البينة، لا يكلفه القاضي ذلك. [

والمعنى ما ذكرنا، وكتاب القاضي إلى القاضي في نقل الشهادة في هذا الباب

(8/371)


مقبول؛ لأنه ثبت مع الشبهات، فيقبل فيه كتاب القاضي كما في سائر الحقوق التي تثبت مع الشبهات.

وإذا مات الرجل فأقام رجل البينة أنه فلان ابن فلان الفلاني، وأن الميت فلان بن فلان الفلاني حتى التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة، وهو عصبة الميت ووارثه، لا نعلم له وارثاً غيره قضى له بالميراث؛ لأنه أثبت بالبينة أنه ابن عم الميت لأبيه وأمه، أو لأبيه؛ لأنهما التقيا إلى أب واحد وإنما يلتقيان إلى أب واحد إذا كان المدعي ابن عم الميت من جهة الأب والأم أو من جهة الأب، فأما إذا كان ابن عمه لأم لا يلتقيان إلى أب واحد، وهو معنى قولنا: إنه أثبت بالبينة أنه ابن عم الميت لأبيه وأمه أو لأبيه وقد شهدوا أنه وارثه لا نعلم له وارثاً غيره له فوجب القضاء له بالميراث، فإن جاء آخر بعد ذلك وأقام بينة أنه عصبة الميت، فإن أثبت الثاني مثل ما أثبته الأول بأن أثبت أنه فلان بن فلان الفلاني، والميت فلان بن فلان الفلاني حتى التقيا إلى أب واحد قبلت بينة الثاني، إذا التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة وإن كانا من قبيلتين بأن ادعى الأول أنه من العرب، وادعى الثاني أنه من العجم لا تقبل بينة الثاني؛ لأن العمل بالبينة متعذر، إذ يستحيل أن يكون للرجل ابنا عم من قبيلتين، فترجحت البينة الأولى بالقضاء، وإن أثبت الثاني نسباً أبعد عن الأول بأن أثبت الثاني أنه ابن ابن عمه، فالقاضي لا يلتفت إلى بينته التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة، أو من قبيلتين؛ لأنه لا يستحق شيئاً من الميراث مع الأقرب.
وإن أثبت الثاني نسباً فوق الأول، بأن ادعى الثاني أن الميت ابنه ولد على فراشه، وأنه أبوه لا وارث له غيره.

فهذا على وجهين: إن ادعى الأب نسبه من القبيلة التي ادعاها ابن العم تقبل بينة الأب، وينقض القضاء الأول في حق الميراث دون النسب حتى لا يبقى الأول ابن عم له حتى لو مات هذا الأب يرث الأول منه إذا لم يكن له وارث أقرب منه؛ لأن العمل بالبينتين في حق ثبات النسب ممكن، إذ يجوز أن يكون للإنسان أب وابن عم من قبيلة واحدة، وإذا أمكن العمل في حق ثبات النسب لم ينقض القضاء الأول في حق النسب، وينقضه في حق الميراث؛ لأن ابن العم لا يرث مع الأب.
وإن ادعى الأب نسبه من قبيلة أخرى قبلت بينة الأب وينقض القضاء الأول في حق الميراث والنسب جميعاً؛ لأن العمل بالبينتين في حق النسب متعذر ههنا، لأن.... دعواهما أن للميت أبوان، هذا المدعي وأخ أب ابن العم، ولا يتصور من حيث الحقيقة أن يكون للشخص الواحد أبوان، وإذا تعذر العمل بهما في حق النسب وجب العمل ببينة الأب، لأن في بينة (129ب4) الأب زيادة إثبات؛ لأن الأب أقرب.
فإن قيل: لا بل العمل بالبينتين في حق النسب ممكن بأن كان بين رجلين جارية جاءت بولد فادعياه، فينبغي أن لا ينقض القضاء الأول في حق النسب، فلا يجوز أن

(8/372)


يكون للولد الواحد أبوان من حيث الحكم كما قلتم، إلا أن من شرط ثبوت أبوتهما للواحد أن يدعيا معاً، أما إذا سبق أحدهم الآخر في الدعوة لا يصح دعوة الثاني، وههنا مدعي الأبوة صار سابقاً معنى وإن كان ابن العم سابقاً في الدعوة صورة؛ لأن الأب ادعى لنفسه زيادة قرب لم يدعيه ابن العم، فصار الأب منفرداً بهذه الزيادة ولم يزاحمه ابن العم في ذلك، فصار سابقاً معنى، فيعتبر بما لو كان سابقاً حقيقة لا تصح دعوى ابن العم في ذلك كذا ههنا، فإن قيل: إذا تعذر العمل بها من حيث الحقيقة والحكم كان يجب أن تترجح البينة التي اتصل بها القضاء كما ادعى الثاني أنه ابن عمه من قبيلة أخرى.

قلنا: إنما تترجح البينة التي اتصل بها القضاء حالة التنافي إذا لم يكن في البينة الثانية زيادة إثبات كما في ابني العم، فعند الاستواء في الإثبات تترجح الأولى بحكم اتصال القضاء بها، وههنا في البينة الثانية زيادة إثبات، وفي مثل هذا، الترجيح بزيادة الإثبات لا باتصال القضاء؛ لأن الترجيح من حيث زيادة الإثبات ترجيح في نفس الشهادة، والترجيح من حيث القضاء ترجيح من حيث الحكم.
وخرج على المعنى الذي قلنا الولد إذا تنازع فيه رجلان، فأقام أحدهما البينة وقضى القاضي بالولد، ثم أقام الآخر بينة بعد ذلك لم تقبل بينته، وترجح الأول بالقضاء؛ لأنه ليس في البينة الثانية زيادة إثبات، والجمع بينهما غير ممكن، فرجحنا الأول باتصال القضاء بها.
وإذا شهد شاهدان أن فلاناً أعتق هذا الميت وأن الرجل عصبة الذي أعتق، وأنه عصبة المعتق لذلك لا تقبل شهادتهما ما لم يبينا سبب العصوبة (من) أنه ابن الذي أعتق أو أبوه أو أخوه أو ما أشبه ذلك، وهذا لأن أسباب العصوبة كثيرة، ومن العصبات من لا يصير محجوباً بغيره، ومنهم من يصير محجوبا بغيره، فلا بد من أن يعلم القاضي سبب عصوبته حتى إذا جاء آخر فادعى عصوبته، فالقاضي يعلم أن الثاني محجوب بالأول وهو حاجب له، وصارت الشهادة على الميراث، ودعوى الميراث دعوى تلقي الملك من جهة الميت، نظير الشهادة على دعوى تلقي الملك من جهة حالة الحياة.
ومن ادعى تلقي الملك من جهة الحيوة وشهد الشهود بذلك ولم يبينوا سببه، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم؛ لأن في أسباب الملك كثيرة وأحكامها مختلفة، فالبيع لا يوجب ملكاً لأنه جاء بعوض، والهبة توجب ملكاً غير لازم بغير عوض، فكذا في دعوى الميراث.

وإذا شهد الشهود بوراثة رجل وبينوا سببه ولم يزيدوا عليه، فاعلم بأن ههنا فصول:

أحدها: هذا، والحكم فيه أن الشهادة مقبولة إلا أن القاضي لا يدفع المال إلى المشهود له للحال بل يتلوم زماناً لجواز أن يظهر وارث آخر للميت هو مزاحم للمشهود له، أو هو مقدم عليه.

(8/373)


الثاني: إذا شهدوا بوراثته وبينوا سببه وقالوا: لا نعلم له وارثاً آخر، وهذه الشهادة مقبولة، ويدفع القاضي المال إليه للحال من غير تلوم، وقوله: لا نعلم له وارثاً سوى هذا ليس من صلب الشهادة، بل هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي؛ لأن بدون ذكر هذه الزيادة القاضي يتلوم، وبعد ذكر هذه الزيادة لا يتلوم.
الثالث: إذا شهد أنه وارثه لا وارث له غيره، وهذه الشهادة مردودة قياساً مقبولة استحساناً، وجه القياس: أن هذه شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم بمعاينة الحكم، أما من حيث الحقيقة فظاهر، وأما من حيث الحكم بمعاينة السبب؛ لأنه لا يوجد في النفي سبب موضوع يوجب النفي بخلاف الشهادة على الإثبات؛ لأن من الإثبات ما يعلم حقيقة، كالأفعال نحو الغصب والقتل، ومنها ما يعلم من حيث الظاهر بمعاينة الأسباب كالأملاك، فلم تكن الشهادة على الإثبات شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به وبخلاف قوله: لا نعلم له وارثاً غيره لأن قوله لا نعلم له وارثاً غيره إخبار عن عدم علمه بوارث آخر، وهو يعلم عدم علمه بوارث آخر، فلم تكن هذه شهادة بعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به، وأما قوله: لا وارث له غيره إخبار عن نفي وارث آخر في نفسه، ولا علم له بذلك لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظاهر بمعاينة السبب على ما ذكرنا.
وجه الاستحسان: أن العمل بحقيقة هذه الشهادة إن تعذر من الوجه الذي قلتم أمكن العمل بمجازها بأن يجعل قولهما: لا وارث له غيره، كناية عن قولهما: لا نعلم وارثاً غيره، لأن عدم وارث آخر غير هذا المدعي متى ثبت على الحقيقة ثبت عدم العلم بوارث آخر غيره، فيمكن أن يجعل نفسه على الحقيقة كناية عن نفي علم.

الرابع: إذا قالا: لا نعلم له وارثاً آخر بأرض كذا غير فلان، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه الشهادة جائزة ويقضي له بالميراث، وقالا: لا تجوز هذه الشهادة ولا يقضى له بالميراث، وجه قولهما، أن وجود وارث في مكان آخر إن لم يثبت بشهادتهما نصاً فقد ثبت مقتضى تخصيصهما هذا المكان بنفي وارث آخر فيه، لأنه لو لم يكن له وارث آخر في مكان آخر لم يكن لتخصيص هذا المكان بالنفي فائدة والثابت اقتضاءً والثابت نصاً سواء، ولو ثبت وجود وارث آخر في مكان آخر نصاً بأن قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في مكان كذا وله وارث آخر في مكان كذا، أليس إن القاضي لا يدفع المال إليه؟ كذا ههنا، ألا ترى أنهما لو قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في هذا المجلس لا يقضى بالميراث له وطريقه ما قلنا، ولأبي حنيفة رحمه الله أن وجود آخر في مكان آخر لم يثبت بشهادتهما لا نصاً، ولا يقتضي تخصيصهما هذا المكان بالنفي فيه؛ لأن بهذا التخصيص فائدة أخرى.

ووجه ذلك: أنما لما لم يكن له وارث آخر في هذا المكان مع أنه مسقط رأسه، أولى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر، ثم يقول: إن في هذا الكلام تقديم وتأخير يمكن تصحيح الشهادة لو حمل عليه، فيحمل عليه إذ يحتال بتصحيح الشهادة بقدر

(8/374)


الممكن، ووجه التقديم والتأخير أنا لا نعلم له وارثاً آخر غير فلان بأرض كذا، فيكون ذكر الأرض لكون فلان فيها، ونفي غيره على العموم، أما أن يكون ذكر الأرض لتخصيصه بالنفي فيه فلا، ثم الشهود إذا شهدوا على وراثة شخص وبينوا سببها، وهذا الشخص ممن يستحق جميع المال، ولا يصير محجوباً بغيره، كالابن والبنت والأب إن قالوا: لا نعلم له وارثاً آخر غيره، فالقاضي يدفع جميع المال إليه من غير تلوم؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت بعلم القاضي، ولو علم القاضي بذلك كان يدفع المال إليه كذا ههنا.

فإن قيل: نفي وارث آخر ثابت بعضه بالأصل، فإن الأصل هو العدم، فلماذا يشترط نفيه بالشهادة؟.
قلنا: نعم الأصل هو العدم، إلا أن العدم ثابت باستصحاب الحال لا بدليله، والثابت باستصحاب الحال يصلح للدفع لا للاستحقاق، فلهذا شرطنا ثبوت النفي بدليله حتى يصلح لاثبات استحقاق ما لم يكن ثابتاً، فأما إذا شهدوا أنه ابنه ولم يزيدوا على هذا، فالقاضي لا يدفع جميع المال إليه بل يتلوم زماناً يقع في غالب رأي القاضي أنه لو كان معه وارث آخر لظهر في هذه المدة، ولم يقدر محمد رحمه الله في «الأصل» لذلك مقداراً، ولكن فوض ذلك إلى رأي القاضي، وهكذا ذكر في «الجامع» فالمذكور في «الجامع الكبير» : أن القاضي يتأنى ويتلوم في ذلك زماناً قدر ما يقع في غالب رأيه أنه لو كان له وارث آخر لظهر في مثل هذه المدة، وذكر الطحاوي رحمه الله في مختصره وقدر لذلك حولاً؛ لأن الغيبة قد تمتد إلى حول، قالوا: ما ذكر الطحاوي قولهما؛ لأنهما يثبتان المقدار فيما لا نص فيه ولا إجماع بالاجتهاد، وما ذكر في «الأصل» وفي «الجامع» قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يثبت المقدار فيما لا نص فيه ولا إجماع بالاجتهاد، بل يفوضه إلى رأي من ابتلي به، فإنه إذا تلوم حولاً أو مقداراً وقع في قلبه أنه لو كان له وارث آخر لظهر دفع المال إليه؛ لأن نفي وارث آخر ثبت بنوع دليل وهو التلوم، فصار كما لو ثبت بالشهادة، فأما قبل التلوم لا يدفع المال إليه؛ لأن نفي وارث آخر قبل التلوم ثابت باستصحاب الحال (130أ4) وإنه لا يصح لإثبات استحقاق ما لم يكن ثابتا فرق بين هذا وبينما إذا شهدوا أنه جد الميت أب أبيه أو أخوه لأبيه وأمه ولم يزيدوا على هذا فإن القاضي لا يدفع المال إليه بالتلوم ما لم يشهد الشهود بالنفي، وفي الابن قال: يدفع المال اليه بالتلوم والفرق أن في مسألة الابن وقع الشك في دفع بعض المال لا في دفع الكل لأنه مستحق للبعض على كل حال، وفي مسألة الجد والأخ الشك وقع في الكل لأنهما

يحجبان بوارث آخر ولا شك أن الشك للتمكن في دفع الكل فوق الشك المتمكن في دفع البعض، والنفي الثابت بالتلوم دون النفي الثابت بالشهادة من حيث الحقيقة؛ فاكتفى بالتلوم للنفي متى وقع الشك في دفع البعض، ولم يكتف متى وقع الشك في دفع الكل ليظهر نقصان ريبة التلوم عن ريبة الشهادة وصار وزان مسألة الجد والأخ مسألة الابن: أن لو شهد أنه جده أب أبيه ووارثه، أو شهدا أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه حتى

(8/375)


ثبت له استحقاق البعض ووقع الشك في الباقي، ولو كان كذلك كان يدفع المال إليه بالتلوم، وإذا عرفت الجواب في الابن فهو الجواب في الابنة والأبوين؛ لأن الشك في حقهم يمكن في البعض؛ لأنهم لا يحجبون بحال، والجواب في ابن الابن وفي ابن الأخ والعم وابن العم، كالجواب في الجد والأخ؛ لأن في حق هؤلاء وقع الشك في دفع الكل؛ لأنهم يحجبون بغيرهم هذا الذي ذكرنا إذا كان المدعي استحق جميع المال، وهو ممن لا يحجب بغيره كالابن والابنة أو ممن يحجب بغيره كالأخ والعم وابن الأب وأشباههم، وأما إذا كان المدعي وارثاً لا يستحق جميع المال ولكن لا يصير محجوباً بغيره.

كالزوج والزوجة إن شهدا أنه زوجها أو أنها زوجته لا يعلم له وارثاً غيره دفع إلى الزوج النصف وإلى المرأة الربع، لأن نفي وارث آخر ثبت بالشهادة فصار كالثابت بعلم القاضي، وأما إذا شهدوا أنه زوجها أو شهدوا أنها زوجته ولم يزيدوا على هذا؛ أجمعوا على أن قبل التلوم لا يدفع إليه أكثر النصيبين؛ لأن استحقاق أكثر النصيبين معلق بعدم الولد وأنه لم يثبت بدليله، والعدم الثابت باستصحاب الحال لا يكفي، وأما إذا تلوم زماناً ولم يظهر وارث آخر.
قال محمد رحمه الله في دعوى «الأصل» : إن القاضي يدفع إليه أكثر النصيبين، إن كان زوجاً يدفع إليه النصف، وإن كان زوجة يدفع إليها الربع، وقال أبو يوسف رحمه الله: يدفع إليه أقل النصيبين؛ إن كان زوجاً الربع وإن كان زوجة الثمن، ولم يذكر قول أبي حنيفة مع أبي يوسف في «المبسوط» و «الطحاوي» : في مختصره ذكر قول أبي حنيفة مع أبي يوسف والخصاف ذكر قوله مع قول محمد.
وإذا ادعى داراً في يدي إنسان أنها له ورثها عن أبيه وجاء شهود وشهدوا أنها كانت لأبيه إلى أن مات وتركها ميراثاً له لا يعلم له وارثاً غيره، فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي وهذا ظاهر، وكذلك إذا شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت، فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي، وإن لم يشهدوا أنه تركها ميراثاً له؛ لأنهم إن لم يشهدوا بذلك صريحاً فقد شهدوا بذلك دلالة، لأن ما كان للإنسان يوم الموت يصير ميراثا لورثته لا محالة، وكذلك إذا شهدوا أنها كانت في يد أبيه إلى أن مات، أو شهدوا أنها كانت في يد أبيه يوم الموت فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي؛ لأن الشهادة باليد يوم الموت شهادة بالملك له يوم الموت، لأن اليد المجهولة تنقلب يد ملك عند الموت؛ لأن الظاهر من حال من حضره الموت أن يسوي أسبابه، ويبين ما كان عنده من الودائع أو الغصوب، فإذا لم يبين فالظاهر أن ما في يده ملكه فجعلنا اليد عند الموت ملك من هذا الوجه، وروى الحسن بن زياد وعلي بن يزيد الطبري صاحب محمد بن الحسن رحمهم الله، أنه لا تقبل الشهادة في هذه الصورة؛ لأنهم شهدوا بيد عَرَف القاضي زوالها، ولم يشهدوا بالملك للمورث، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح لما ذكرنا أن الأيدي المجهولة تنقلب عند الموت يد ملك، فكانت

(8/376)


هذه شهادة بالملك من حيث المعنى، ولو شهدوا أنها كانت لأبيه ولم يجروا الميراث الى المدعي، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف

رحمه الله أولاً، رجع أبو يوسف عن هذا القول وقال: تقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي.

وجه قول أبي يوسف آخر: أن كون هذه الدار ملكاً للميت يوم الموت إن لم يثبت بنص الشهادة ثبت بمقتضى الشهادة أنها كانت لأبيه؛ لأن ما كان للانسان يبقى له إلى أن يوجد ما يزيله فيبقى إلى يوم الموت، فصار هذا وما لو شهد بكونه له يوم الموت سواء، والدليل عليه أن الأب لو كان حياً وادعى الدار لنفسه، وجاء المدعي بشهود وشهدوا أنها كانت للمدعي، فالقاضي يقبل هذه الشهادة؛ لأن الشهادة بأنها كانت للمدعي شهادة بأنها للمدعي في الحال.
والدليل عليه ما لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت للميت فإنه تقبل هذه الشهادة، وجعل هذا بمنزلة إقراره أنها كانت للميت يوم الموت بالطريق الذي قلنا.
والدليل عليه: من ادعى عيناً في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان الغائب وجاء بشهود ولا بد للشهود أن يذكروا في شهادتهم ملك البائع، فلو شهد شهوده أنه كان للبائع فإنه يقضي للمشتري وإن لم يشهدوا بكونه ملكاً للبائع يوم البيع ما كان الطريق إلا ما قلنا.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن كون هذه الدار ملكاً للميت يوم الموت باستصحاب الحال لا بالبينة، فإنهم لم يشهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت، وإنما شهدوا أنها كانت لأبيه لا غير، إلا أن ما ثبت للأب فإنه يبقى إلى يوم الموت ما لم يوجد دليل الزوال باستصحاب الحال لا بدليل يوجب قيام.
قلنا: والثابت باستصحاب الحال يصلح لإبقاء ما هو ثابت ولا يصلح لإثبات ما هو غير ثابت على ما عرف، فاعتبرنا كون الثابت يوم الموت باستصحاب الحال لا بالبينة لإبقاء ما كان ثابتاً وهو الملك للميت، فإنه لا يثبت الوارث بالموت ملك جديد بل يبقي عين ما كان للميت حتى يرد بالعيب، ويرد عليه ولم يصر في حق مالكية الوارث؛ لأن اعتباره في حق مالكية الوارث لم يكن ثابتاً، وإنما ثبت للحال فيأخذ الاعتبارين إن وجب القضاء بهذه البينة، فباعتبار الآخر لا يجب فلا يجب بالشك والاحتمال، وليس كما شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت للميت ثابت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً، أما في مسألتنا هذه فتكون هذه الدار للميت يوم الموت غير ثابت بالبينة والتقريب ما مر، وبخلاف ما إذا شهدوا أنه كان في يده يوم الموت، لأن الشهادة باليد للميت يوم الموت شهادة بالملك له على ما بينا.
وإذا كانت شهادة بالملك له فيكون هذا الشيء ملكاً للميت يوم الموت ثبت بنص البينة، وليس كما لو ادعى الملك لنفسه، وشهدوا أنها كانت للمدعي، فإنه يقضي بها للمدعي، وإن ثبت كونها ملكاً للمدعي للحال باستصحاب الحال لا بالبينة، لأن هناك لا

(8/377)


يعتبر الكون الثابت للحال باستصحاب الحال لإثبات ما لم يكن ثابتاً، بل يعيده لإبقاء ما كان ثابتا له من الملك والمالكية جميعاً، بخلاف ما نحن فيه.

وليس كمسألة الشراء لأن ملك المشتري مضاف الى الشراء الثابت بالبينة لا إلى بقاء ملك البائع في البيع الثابت له وقت الشراء باستصحاب الحال، وإن كان لابد لإثبات ملك المشتري من بقاء ملك البائع إلى يوم الشراء أحدهما: وجود، أو أنه لا يوجد حكماً لبقاء ملك البائع يوم الشراء، وإنما يوجد بالمباشرة عن اختيار، وإنه للملك فإنه موضوع كذلك، ألا ترى أنه لا يتحقق من غير إيجاب الملك فيكون الملك الثابت للمشتري مضافا إلى الشراء الذي ثبت بالبينة، لا إلى بقاء ملك البائع الثابت باستصحاب الحال، وما ثبت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً.
وأما معنى ثبوت الملك للوارث مضاف إلى كون المال ملكاً للميت وقت الموت، لا إلى الموت الثابت معاينة، لأن الموت ليس بسبب للملك، فإنه موضوع لإبطال الحياة لا لإيجاب الملك حتى يتحقق من غير إيجاب ملك لأحد، وبقاء ملك الميت إلى يوم الموت فيما نحن فيه ثابت باستصحاب الحال لأن الشهود لم يشهدوا بذلك (130ب4) والثابت باستصحاب الحال لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً إن صلح، لإبقاء ما كان ثابتاً.
وأما مسألة الإقرار قلنا: الملك الثابت للوارث هناك مضاف إلى إقرار ذي اليد الثابت بالبينة لا إلى بقاء ملك أبيه يوم الموت الثابت باستصحاب الحال، وإن كان لابد للميراث من الأمرين جميعاً كما في الشراء إلا أن الإقرار أحدهما: وجود أو أنه يصلح سبب ملك من وجه لأنه تمليك من جهة المقر إن كان إخباراً من وجه، ولهذا لا يصلح إذا لم يعد للمقر له ملكاً والإقرار ثابت بالبينة والثابت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن تاماً، فأما ما ملك الوارث مضاف إلى كون هذه الدار ملكاً للأب يوم الموت لا إلى الموت الثابت معاينة، وكون هذا المال لأبيه يوم الموت ثابت باستصحاب الحال، وأنه لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً فهذا هو الفرق بين هذا وبين الإقرار.

فإذا شهد أنها لأبيه لا تقبل هذه الشهادة، ذكر محمد رحمه الله المسألة في كتاب «الدعوى» من غير ذكر خلاف، وقد اختلف المشايخ فيه، من قال: المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: تقبل لأنهم شهدوا بالملك للميت والثابت للوارث عين ما كان ثابتاً للمورث.
g
والحاصل: أن أبا يوسف اعتبر جانب الملك ولا استحالة في جانب الملك، وهما اعتبرا جانب المالكية فقالا: أثبتنا المالكية للميت في الحال ولا مالكية للميت في الحال فكانت هذه شهادة بالمستحيل، ومنهم من قال: لا تقبل هذه الشهادة بلا خلاف وإليه ذهب الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله فكان يقول بأن محمداً رحمه الله ذكر كلا الفصلين في «الكتاب» ثم خص رجوع أبي يوسف في مسألة الكون للميت، ولو كان الخلاف فيهما واحداً لذكر رجوعه فيهما، فعلى هذا: أبو يوسف يحتاج إلى الفرق

(8/378)


بين هذه المسألة وبين تلك المسألة، ووجه الفرق له أن يقال: بأن الاستحالة في هذه المسألة إن لم تتحقق في جانب الملك؛ لأن الملك لم يتجدد للوارث بل قام مقام الميت كأنه وكيله فتحقق الاستحالة في إثبات المالكية للميت للحال يمنع قبول الشهادة واعتبار إثبات الملك للورثة للحال، وأنه غير مستحيل للحال يوجب قبوله، فلا يجب القبول بالشك، بخلاف ما لو شهدا أنه كان لأبيه لأنها غير مستحيلة باعتبار الملك والمالكية جميعاً؛ لأنهم أثبتوا كلا الأمرين في حالة الحياة فوجب القبول، فإذا وجب القبول نفى الملك إلى يوم الميت باستصحاب الحال، ثم ثبت مالكية الوارث حكماً ثم هذا الاختلاف فيما إذا لم يجروا الميراث، فأما إذا جروا وقالوا: هذا لأبيه مات وتركها ميراثاً له، تقبل هذه الشهادة بلا خلاف، وذكر محمد رحمه الله مثل هذا في مسألة الحد في «الأصل» على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله: إذا شهد الشهود بالوراثة وقالوا: أين محدود ملك فلان يود وحق وي وريدست وي تا أول ترك بمرد وميراث ما ندخر وندان بشر رأ فلان وفلان رأى أنه ليس بتام ولا بد من أن يقول: ميراث ما نداين محدود رأى ويقول: ميراث ما ندش حتى يتم حكم الميراث في المحدود المدعى.
قال الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: وكتبت الفتوى في حد الميراث وبالغت في شرائط الحد غير أني تركت الهاء عند قوله: وتركه ميراثاً، وكتبت: وترك ميراثاً فقال لي السيد الإمام: ألحق بالهاء واجعل وتركه ميراثاً حتى أفتي بالصحة.
وينبغي أن يقال إذا شهدوا: أنه ملكه يوم موته أو شهدوا أنه كان في يده يوم مات أن لا يحتاج فيه إلى؟ الميراث، وإنما يحتاج إليه إذا شهدوا أنه كان ملكه ولم يتعرضوا ليوم الموت، بدليل المسائل التي تقدم ذكرها.

قال: وإذا شهد شاهدان أن فلاناً (مات) وترك هذه الدار ميراثاً لفلان ابنه هذا، لا يعلمون له وارثاً غيره، ولم يدركا فلاناً الميت لا تقبل شهادتهما لا تحلل في جر الميراث؛ لأنهم جروا الميراث إليه على وجهه، حيث قالوا: وتركها ميراثاً له، ولا يحلل في الشهادة بالنسب والموت من حيث أنهم شهدوا بالشهرة والتسامع؛ لأن الشهادة بالنسب والموت بالشهرة جائزة، ولكن إنما لم تقبل شهادتهما لخلل في شهادتهما بالملك؛ لأنهم شهدوا بالملك للميت بالشهرة والتسامع فإن ما لا يكون مملوكاً للميت لا يصير ميراثاً لورثته، وإذا لم يدركوا الميت، لم يعاينوا سبب الملك منه في الدار، ولا كون الدار في يده يتصرف فيه تصرف الملاك، فعلم أن شهادتهما بالملك للميت بحكم الشهرة والتسامع لا تجوز هذا إذا كان نسب المدعي معروفاً من الميت، وإن لم يكن نسبه معروفاً من الميت فشهدا أنه فلان بن فلان الميت، وأن فلان الميت ترك هذه الدار ميراثاً له ولم يدركا الميت لم يذكر هذا الفصل ههنا، وذكر في «المنتقى» أجرى شهادتهما في النسب، وأبطلها في الميراث.

(8/379)


ولو شهدوا على دار في يدي رجل أنها لفلان جد هذا الرجل المدعي وخطيه وقد أدركوا الجد، والمدعي يدعي أنها كانت لأمه فاعلم بأن ههنا فصلان:
أحدهما: إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي، وأنه على وجهين، الأول: إذا جروا الميراث بأن شهدوا أنها كانت لجد هذا المدعي فلان، مات الجد وتركها ميراثاً لهذا المدعي، وفي هذا الوجه تقبل الشهادة، ويقضي بالدار للمدعي.
الوجه الثاني: إذا لم يجروا الميراث بأن شهدوا أنها كانت لجد المدعي ولم يزيدوا على هذا، وفي هذا الوجه إن لم يعلم تقدم موت الجد على موت الأب لا يقضى بالدار للمدعي بالإجماع، وإن علم فكذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف رحمهم الله أولاً، ثم رجع أبو يوسف وقال: يقضى بالدار للمدعي.

والاختلاف في هذا نظير الاختلاف فيما إذا شهدوا أنها كانت لأبيه، ولو شهدوا على إقرار ذي اليد أن هذه الدار كانت لجد المدعي ولم يجروا الميراث، فإن القاضي يقضي بالدار للمدعي إذا لم يكن له وارث آخر، كما لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت لأبيه وبعض مشايخنا قالوا في مسألة الجد: لا تقبل الشهادة بلا خلاف.
الفصل الثاني: إذا شهدوا أن هذه الدار لجد هذا المدعي ولم يقولوا كانت لجده، فإن جروا الميراث تقبل الشهادة ويقضى بالدار للمدعي؛ لأن تفسير الجر أن يقولوا: هذه الدار لجده، مات الجد وتركها ميراثاً لأبيه، ثم مات أبوه وتركها ميراثاً لهذا المدعي، ومتى قالوا: مات الجد وتركها ميراثاً لأبيه فقد شهدوا بالملك لأبيه حال حياته، وصار من حيث المعنى كأنه قال: كانت لأبيه وجروا الميراث، فأما إذا لم يجروا الميراث فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة ومحمد فههنا أولى، وأما على قول أبي يوسف الآخر رحمه الله: فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تقبل هذه الشهادة؛ لأن معنى قول الشاهد: إنها لجده عرفاً وعادة أنها كانت لجده، ولو شهدوا أنها كانت لجده أليس أنه يقضى بها للمدعي عنده كذا ههنا، ومنهم من قال: لا تقبل الشهادة ولا يقضى بالدار للمدعي عنده أيضا.
والفرق: لأبي يوسف: بينما إذا شهدا أنها كانت لجد المدعي وبينما إذا شهدا أنها لجد المدعي، والفرق: أنهم إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي فقد أثبتوا الملك لجده حال حياته وهو من أهل الملك في حياته، فيثبت الملك للجد في حياته بهذه الشهادة، وما ثبت للجد ينتقل إلى المدعي ما لم يثبت الزوال من الجد قبل موته إلى غيره، وأما في هذه المسألة أثبتوا الملك للجد بعد الموت لأن قولهم: له عبارة عن الحال، وهو ميت في الحال، والميت ليس من أهل الملك فلم يثبت الملك للجد، فكيف ينتقل إلى المدعي؟.

وإن شهدوا أن الدار كانت لجد هذا المدعي مات الجد، وقد ترك أب هذا المدعي

(8/380)


وارثاً لا وارث له غيره، ولم يزيدوا على هذا يعني: لم يشهدوا أن أب هذا المدعي مات وتركها ميراثاً له، فالمسألة على الخلاف الذي ذكرنا؛ لأنهم شهدوا بملك الجد والانتقال إلى ابنه فكأنهم شهدوا أنها كانت لأبيه، كلفتهم البينة على عدد الورثة، ثم نفذت القضاء لأنهم ما لم يشهدوا على عدد الورثة لا يصير نصيب المدعي معلوماً والقضاء بالمجهول لا يجوز؛ وكذلك إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي، كلفتهم البينة على عدد الورثة ثم نفذت القضية (131أ4) بحصة هذا المدعي، وهذا لأن الشهادة على أنها كانت لأبيه أو على أنها كانت لجده شهادة معتبرة عند أبي يوسف رحمه الله، وبها يثبت كون الدار مملوكاً للأب أو للجد عند الموت، وما كان للمورث عند الموت يصير ميراثاً لورثته، إلا أنا نعلم كم نصيب هذا المدعي من الميراث، فشرط بيان عدد الورثة ليعلم مقدار نصيب المدعي.
قال في كتاب «الأقضية» : دار في يدي رجل، أقام أحد البينة أن أبي اشتراها منه بألف درهم، وقد مات أبي والبائع يجحد ذلك، فإني لا أكلفه البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له ولكن أسأله البينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره، فإن أقامها أمرته بدفع الدار إليه.
وإنما لم يكلفه إقامة البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له لأنه لما أقام البينة على الشراء منه، ومعلوم أن كل مانع مقر بالملك لمورثه وقد ذكرنا أن صاحب الدين إذا أقام البينة على إقرار ذي اليد بالملك لمورثه، كفى ذلك حجة للقضاء ولا يحتاج إلى جر الميراث كذا ههنا، وإنما سأله البينة على أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره لدفع شبهة التلوم عن نفسه، وإلا هذا القدر كاف لتوجه القضاء به.

وإن كانت الدار في يد غير البائع سألته البينة أن أباه مات وترك هذه الدار ميراثاً له، لأن المدعي على ذي اليد ههنا نفس الملك للمورث والانتقال إلى نفسه بسبب الإرث، لا إقرار ذي اليد بالملك للمورث وهذا لأن دعوى القرار على ذي اليد في المسألة الأولى في ضمن دعوى البيع عليه، والمدعي ههنا لا يدعي البيع على ذي اليد فكان هذا في حق ذي اليد دعوى نفس الملك للمورث فلا بد من جر الميراث. وفي «الكتاب» يقول على وجه التعليل للمسألة الأولى: أن البائع بمنزلة المرتهن، ولو أقام البينة أن أباه رهن العبد عنده وجاء بالمال لينقده ويقبض الرهن، كلف إقامة البينة على عدد الورثة ولا يكلف جر الميراث كذا ههنا، فقد أشار إلى أن البيع في يد البائع محبوس لينقد الثمن، كالرهن محبوس في يد المرتهن لينقد الدين، وحكم الرهن ما ذكرنا. وحقيقة المعنى: أن المرتهن مقر بالملك للراهن أيضاً، لأنه مقر بصحة الرهن وذلك ملك الراهن فيعتبر بما لو أقر به صريحاً، ولو ادعى إقراره صريحاً قبلت البينة من غير جر الميراث كذا ههنا. فكذا في مسألة البيع: البائع مقر بصحة البيع، فيكون مقراً بملك المشتري ضرورة.

قال في «الأصل» : دار في يدي رجل جاء ابن أخ صاحب اليد وأقام بينة أن هذه الدار كانت لجده، مات وتركها ميراثاً بين أبيه وبين عمه هذا الذي الدار في يده نصفان،

(8/381)


ثم مات أبوه وترك نصيبه ميراثاً له، فالقاضي يقبل هذه البينة ويقضي بالدار بين المدعي وبين عمه نصفان.
وإن لم يقض القاضي ببينة ابن الأخ، حتى أقام العم بينة أن أخاه وهو أب هذا المدعي مات قبل موت الجد وورث الجد منه السدس، ثم مات الجد وصار جميع الدار ميراثاً لي فهذه المسألة على وجهين:

الأول: أن لا يكون في يد ابن الأخ شيء من تركة أبيه، وفي هذا الوجه بينة ابن الأخ أولى، لأن العمل بالبينتين جميعاً متعذر، لأن ابن الأخ ببينته يثبت موت الجد لاحتماله، فلا يتصور أن يكون موت الجد سابقاً على أب المدعي ولاحتماله، فلا بد من العمل بالراجح منها فنقول: بينة ابن الأخ راجح لوجهين أحدهما: ما أشار إليه في «الكتاب» فقال: لأن ابن الأخ هو المدعي، ومعنى هذا الكلام أن ابن الأخ يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينة ابن العم والعم لا يثبت لنفسه شيئاً على ابن الأخ ببينته، وإنما بقي بينة ما أثبت هو لنفسه من نصف الدار، والبينات شرعت للإثبات لا للنفي. الثاني: إن كانت بينة العم مثبتة أيضاً، إلا أن بينة ابن الأخ أكثر إثباتاً لأنها تثبت الملك لأبيه في نصف الدار أولاً، ثم يثبت الملك له في نصف الدار من جهة الإرث، وبينة العم تثبت الملك للعم أما لا تثبت الملك لأبيه والجد لأن الملك ثابت للجد باتفاقهما، والبينات شُرعت للإثبات فما كانت أكثر إثباتاً، كان أولى بالقبول فإن قيل: إن كانت لبينة ابن الأخ رجحاناً من هذا الوجه فلبينة العم رجحاناً من وجه آخر، فإن للعم مع البينة اليد واليد مما يقع بها الترجيح إذا كان الدعوى في تلقي الملك من جهة الثالث.
كما في دعوى الشراء من ثالث، فإن الرجلين إذا ادعيا شراء عين من ثالث، وأقاما البينة والعين في يد أحدهما فإنه يقضي بالعين لصاحب اليد. والجواب عن هذا أن يقال: بأن الملك فوق اليد، ألا ترى أن الشهود إذا شهدوا أن هذه الدار كانت لهذا المدعي، تقبل الشهادة ويقضي بالدار للمدعي، ولو شهدوا أن هذه الدار كانت في يد المدعي كانت المسألة على الاختلاف، وإذا كان الملك فوق اليد كان الترجيح بالملك أولى من الترجيح باليد.
بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من ثالث لأن هناك استوى المدعيان في إثبات الملك ولأحدهما يد فكان هو أولى، كما في دعوى الأخ أما ههنا بخلافه.

الوجه الثاني: إذا كان في يد ابن الأخ بشيء من ميراث أبيه، وباقي المسألة بحالها وفي هذا الوجه ميراث الجد كلها للعم وميراث الأخ كلها لابن الأخ، ويجعل كأنهما ماتا معاً، وهذا لأن البينتين استويا في الإثبات من كل وجه؛ لأن بينة ابن الأخ أثبتت موت الجد سابقاً على موت أبيه وأثبت لأبيه ميراثاً من الجد وهو: نصف الدار التي في يد العم وأثبت ذلك لنفسه من جهة أبيه، وبينة العم تثبت بموت الأخ سابقاً على موت الجد وأثبت الجد ميراثاً من أخيه وهو سدس ما في يد ابن الأخ، ثم أثبت ذلك لنفسه من الجد. وهو معنى قولنا: البينتان استويا في الإثبات من كل وجه، والمدعيان استويا في اليد أيضاً فلا ترجيح لأحد البينتين على الأخرى، ولا لأحد المدعيين على صاحبه، فلا يعمل بينة كل

(8/382)


واحد منهما فخرجت البينتان من البين، وموت كل واحد منهما قد ظهر والتاريخ بينهما ليس بمعلوم، فيجعل كأنهما ماتا معاً في الغرقى والحرقى، ولو ماتا معاً لا يرث أحدهما من صاحبه، ويجعل مال كل واحد منهما لورثته كذا ههنا، بخلاف ما إذا لم يكن في يد ابن الأخ شيء من تركة أبيه، لأن هناك ترجحت بينة ابن الأخ بكثرة الإثبات أما ههنا بخلافه.

قال في «الأصل» أيضاً: لو أقام رجل البينة على ميراث رجل أنه مات سنة خمسين وأنه ابنه ووارثه لا وارث له غيره وقضى القاضي بذلك، ثم أقامت امرأة البينة أنه زوجها سنة إحدى وخمسين، ومات بعد ذلك ذكر أنه تقبل بينة المرأة وتشارك الابن في الميراث ويقضي لها بالمهر هكذا ذكر، ويجب أن لا تقبل بينة المرأة؛ لأن العمل بالبينتين جميعاً متعذر لأن الابن أثبت موت أبيه سنة خمسين وقضى القاضي بذلك، وإذا صار موته مقضياً به في سنة خمسين، لا يتصور أن يكون مقضياً به في سنة إحدى وخمسين، لأن الموت مما لا يتكرر، وكل واحدة منهما في الإثبات مثل صاحبتها؛ لأن كل واحد من البينتين أثبت موت مورثه وسبب وراثته من الميت، وهو النسب والنكاح فكان يجب أن تترجح الأولى بإيصال القضاء بها، لما تعذر العمل بها قياساً على ما إذا أقامت امرأة بينة أنه تزوجها يوم النحر بمكة وقضى القاضي بذلك، ثم أقامت امرأة أخرى بينة أنه تزوجها يوم النحر بخراسان، قال: لا تقبل البينة الثانية وتترجح الأولى باتصال القضاء بها؛ لأن كل واحدة منهما في الإثبات مثل صاحبتها والعمل بها متعذر لأن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة وخراسان، فترجحت الأولى باتصال القضاء بها فكذا هذا.
والدليل عليه: ما لو كان مكان الموت قتلاً لو أقام الابن البينة أن فلاناً قتل أباه سنة خمسين وأنه ابنه ووارثه وقضى القاضي بذلك، ثم جاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها سنة إحدى وخمسين ثم قتله فلان بعد ذلك؛ فإنه لا تقبل بينة المرأة وتترجح الأولى باتصال القضاء بها لأن كل واحدة منهما في الإثبات مثل الأخرى والعمل بهما متعذر، فترجحت الأولى باتصال القضاء بها.

إلا أن الجواب عنه، وهو الفرق بين مسألة الموت والقتل، وبين مسألة مكة وخراسان، أن يقال: بأن البينة الأولى إنما ترجحت بالقضاء في مسألة القتل؛ لأن القتل صار مقضي به بالبينة الأولى لأن القاضي قضى بالضمان على القاتل فلا بد للقضاء بضمان القتل من القضاء بالقتل لأنه سببه، كما لا بد للقضاء بالملك بالشراء من القضاء بالشراء؛ لأن الشراء مسببه.
وإذا صار القتل مقضياً به ضرورة القضاء بضمان القتل صار التاريخ معه مقضياً به لأن القتل لابد وأن يكون في الزمان كما في الشراء، وإذا صار القتل مقضياً به في سنة (131ب4) خمسين لم يتصور ثانياً في سنة إحدى وخمسين؛ لأنه لا يتكرر فترجحت الأولى بالقضاء لهذا، وكذلك كون المتزوج بمكة في مسألة مكة وخراسان صار مقضياً به مع النكاح وإن لم يكن كونه بمكة سبباً للاستحقاق، بل سبب الاستحقاق هو النكاح لأنه

(8/383)


لا يمكن القضاء بالنكاح بدون المكان، فإنه لابد للنكاح من كون الناكح في مكان، وإذا لم يكن للنكاح بد من المكان صار المكان الذي ذكره الشهود أولى بالقضاء من غيرها من الأمكنة، وإذا صار كونه بمكة مقضياً به يوم النحر، لم يتصور أن يصير كونه بخراسان مقضياً به في ذلك اليوم مرة أخرى فترجحت الأولى بالقضاء. وأما في مسألة الموت: فالموت لم يصر مقضيا به لضرورة القضاء بالنسب فإنه يتصور القضاء بالنسب من غير موت أصلاً، كما لو أقام البينة أنه ابنه في حال حياة أبيه، وأما ضرورة القضاء بالميراث لأن استحقاق الميراث مضافاً إلى النسب خاصة، لا إلى الموت والنسب؛ لأن النسب يكفي لإضافة استحقاق الميراث إليه فإن النسب إذا تأخر عن الموت بأن كان الموت ظاهراً والنسب غير ظاهر.

فإذا ثبت النسب بشهادة الشهود بعد الموت، كان الاستحقاق مضافاً إلى النسب حتى لو رجع الشهود ضمنوا، وإذا كان النسب كافياً لاستحقاق الميراث لم يصر الموت مقضياً به ضرورة القضاء بالنسب لم يصر التاريخ مقضياً به بالبينة أيضاً، لأن التاريخ صفته، وإذا لم يصر التاريخ مقضيا به بالبينة الأولى صار وجود التاريخ وعدمه بمنزلة، فكأن الابن أقام البينة على الموت والنسب من غير تاريخ، وقضى القاضي له بذلك ثم أقامت المرأة البينة على النكاح والموت، ولو كان كذلك قضى بالأمرين جميعاً لأنه لا تنافي بينهما وكذلك هذا.
فإن قيل: كما يضاف استحقاق الميراث إلى النسب وحده إذا تأخر فكذا يضاف إلى الميت إذا تأخر، فإن النسب إذا كان ثابتاً ثم ثبت الموت بالبينة بعد ذلك فإن الاستحقاق يضاف إلى الموت، حتى لو رجع الشهود ضمنوا فإذا كان كل واحد منهما مما يضاف الاستحقاق إليه إذا انفرد فحالة الاجتماع يكون الاستحقاق مضافاً إليهما لا إلى النسب خاصة، وإذا أضيف إليهما صار الموت مقضياً به مع التاريخ فوجب أن لا تقبل بينة المرأة بعد ذلك.

والجواب عنه أن يقال: بل الموت يصلح لإضافة استحقاق الميراث إليه إذا تأخر عن النسب إلا أن عند اجتماع النسب أولى بإضافة الاستحقاق إليه من الموت؛ لأن النسب في الأصل مشروع للاستحقاق، استحقاق ضره ونفعه وكثير من الأمور لا يخلو إثبات النسب عن استحقاق شيء من الحقوق التي ذكرنا، فأما الموت غير مشروع للاستحقاق لا محالة، بل مشروع لإبطال الحياة حتى يتحقق من غير إيجاب حق أصلاً لأحد، فيكون الإضافة إلى النسب أولى إذا ثبتا معاً، وقد يجوز أن يضاف الحكم إلى الشيء حالة الانفراد، ثم مع غيره لا يضاف إليه بل يضاف إلى ذلك الغير، كالخر يصلح سبباً لإضافة التلف إليه فكذلك مسألتنا: إذا اجتمع الموت والنسب، يضاف الاستحقاق إلى النسب وإن كان يضاف إلى الموت إذا انفرد وتأخر عن النسب.

(8/384)


وإذا أضيف استحقاق الميراث ولا في حق إمكان القضاء بالنسب لأن الإمكان يثبت بدون الموت أصلاً، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» فإنه قال في مسألة الموت: لأني لم أوجب بموته يعني لم أقض به. قالوا: وقال في مسألة مكة وخراسان: لأني جعلته في ذلك اليوم بمكة أي نصبت بكونه بمكة ضرورة إمكان القضاء بالنكاح، بهذا فرق محمد رحمه الله. وكذلك لو أقامت امرأة أخرى البينة بعدما قضيت بموته في توريث امرأته وأنه تزوجها بعد ذلك الوقت، فإنه تقبل بينتها لما ذكرنا أن الموت لم يصر مقضياً به لا في حق إضافة الاستحقاق ولا في حق إمكان القضاء بالنكاح؛ لأن القضاء بالنكاح ممكن بدون الموت وإذا لم يصر الموت مقضياً به لم يصر التاريخ مقضياً به فكأن الأول أثبت العقد والموت والثانية كذلك، ولم يؤرخا ولو كان كذلك قضى بالأمرين لأنه لا تنافي بينهما، فكذلك هذا. ولهذه المسألة بطل ما يقول بعض مشايخنا في الفرق بين مسألة الموت ومكة وخراسان: أن بنية المرأة إنما قبلت لأن فيها زيادة إثبات، وهو إيجاب المهر ليس ذلك في بينة الابن، والأولى إنما يترجح بالقضاء حال تعذر العمل بهما إذا لم يكن في الثانية زيادة إثبات بخلاف مسألة مكة وخراسان؛ لأنهما استويا في الإثبات وبين الأمرين تنافي، فترجحت الأولى بالقضاء لأن هذا يشكل ما لو أقامت المرأة الأخرى بينة أنه تزوجها بعد الوقت ثم مات، فإنه لم يقبل بينة المرأة الثانية، والمرأتان قد استويا في الإثبات.

ويشكل بمسألة القتل فإنه لم يقبل بينة المرأة وإن كانت في بينتها زيادة إثبات ولأن الثانية متى ترجحت بسبب الزيادة تبطل الأولى وإن اتصل بها القضاء متى كان بين الأمرين منافاة كما في مسألة العم والأب من قبيلين مختلفين، وههنا القضاء للابن لا يبطل علمنا أن الصحيح من الطريقة ما أشار إليها محمد رحمه الله، وفي «المنتقى» : إذا شهد الشهود على رجل أنه قتل أب هذا عمداً ولا وارث له غيره، وأن القتل كان في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومائة، وأقام المدعى عليه بينة أن أباه كان حياً وأنه أقرضه في محرم سنة ست وثمانين ومئة، مئة درهم وأنها دين عليه، فالبينة بينة الابن؛ لأنهما أمران لا يستقيم أن يكونا فيؤخذ بالوقت الأول إلا أن أبا حنيفة رحمه الله استحسن في هذا الباب شيئاً واحداً فقال: إذا أقام الابن البينة أن هذا قتل أباه عمداً بالسيف منذ عشر سنين، وأنه لا وارث له غيره.
w

وجاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها منذ خمس عشر، وأن هذا ولده منها وأن هذا وارثه مع أبيه هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أجر بينة المرأة وأبطل بينة الابن على القتل، ولو أقامت المرأة البينة على النكاح ولم تأت بولد فالبينة بينة الابن والميراث للابن دون المرأة ويقتل القاتل إنما استحسن في النسب خاصة وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولو شهدوا أن أباه مات في هذه الدار لا تقبل الشهادة.

والأصل في حبس هذه المسائل أن الشهود شهدوا على فعل من المورث في العين عند موته فهذا على وجهين: إما إن شهدوا بفعل هو دليل اليد أو بفعل ليس هو دليل اليد فعل يوجد من المالك في الغالب كالسكنى في الدور، فهذا النوع من الفعل إذا قامت البينة على وجوده من المورث في العين عند موته يقضي بالمدعي للمدعى؛ لأن هذه الأفعال لما كانت دليل اليد صارت الشهادة عليها عند الموت، والشهادة على اليد سواء والدين ليس بدليل اليد في التقلبات فعل يتأتى بدون الفعل، ولا يحصل في الغالب للنقل كالجلوس على البساط وفي جر التقلبات الذي ليس بدليل اليد، فعل يوجد من غير الملاك في الغالب كالجلوس والنوم في الدار فهذا النوع من الفعل إذا قامت

(8/385)


الشهادة على وجوده من المورث في العين عند موته، لا يقضي بالعين للمدعي، لعدم دليل الملك، وعدم دليل اليد التي هي دلالة الملك إذا ثبت هذا.
جئنا إلى المسائل فنقول: إذا شهد الشهود أن أباه مات، وهو لابس هذا القميص أو لابس هذا الخاتم، تقبل الشهادة لأنهما فعلان لا يتهيأ ثبوتها إلا بالنقل وهو دليل اليد، وكذلك لو شهدوا أنه مات وهو حامل لهذا الثوب، تقبل الشهادة لأن الحمل لا يتهيأ بدون النقل.

أطلق محمد رحمه الله الجواب في الخاتم، وحكى عن القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله أنهم كانوا يفصلون الجواب في ذلك ويقولون: إن شهدوا أن الخاتم كان في خنصره أو بنصره يوم الموت، تقبل الشهادة وإن شهدوا أنه كان في السبابة أو في الوسطى أو في الإبهام لا تقبل الشهادة، ولكن الصحيح أن يجري في إطلاقه كما ذكره محمد رحمه الله؛ لأن الفعل الذي لا يتهيأ إلا بالنقل والتحويل في النقليات أقيم مقام اليد على ما قر، ولبس الخاتم في أي موضع كان لا يتهيأ إلا بالنقل والتحويل، ولو شهدوا أن أباه مات وهو راكب على هذه الدابة قضي بالدابة للوارث، وإن كان الركوب يتحقق بدون النقل إلا أنه لا يحصل في الغالب إلا بالنقل، ولو شهدوا أن أباه مات وهو ساكن في هذه الدار تقبل الشهادة لأن السكنى إنما تكون من المالك غالباً لأن الساكن في الدار من إليه إسكان غيره (132أ4) وإزعاجه، وفتح الباب وإغلاقه، وهذا عادة لا يكون إلا من الملك، وعن أبي يوسف برواية «المعلى» رحمه الله: إذا شهد شاهدان أن فلاناً مات وهو ساكن في هذه الدار، لا يقضي بالدار لورثته، ولو شهدوا أن أباه مات في هذه الدار، لا تقبل الشهادة لأنه ليس بفعل يفعله الملاك غالباً؛ لأن الدار قد يموت فيها الملاك، وقد يموت فيها الضيفان فلا يكون دليلاً على اليد، بخلاف السكنى على ما هو.

ولو شهدوا أن أباه مات وهو قاعد على هذا الفرس أو على هذا البساط أو نائم عليه، لا تقبل هذه الشهادة لأن هذه الأفعال تتصور بدون النقل فلا يكون دليلاً على اليد.

ولو شهدوا أن أباه مات وهذا الثوب موضوع على رأسه، ولم يشهدوا أنه كان حاملاً له، لا تقبل هذه الشهادة ولا يقضى للوارث، لأن الوضع قد يكون منه فثبت منه النقل والتحويل فيكون ذلك دليل يده، وقد يكون من غيره فلا يثبت منه النقل والتحويل فيكون ذلك دليل يده، فقد وقع الشك في يده فلا تثبت يده بالشك حتى لو قالوا: لو شهدوا أنه كان هو الواضع على رأسه تقبل شهادتهم؛ لأن الوضع من فعل لا يتأتى إلا بالنقل فكان دليلاً على اليد. هكذا حكي عن القاضي أبي الهيثم.

(8/386)


ثم قال محمد رحمه الله عقيب هذه المسائل: أرأيت لو أن رجلاً في يديه دار قال لآخر: كنت أمس ساكن هذه الدار فقال الآخر: صدقت وهي لي، فقال المقر: ليست لك، كان للمقر له بالسكنى أن يأخذها أشار ما قلنا: أن السكنى دليل الملك، فكان الإقرار بالسكنى إقرار له بالملك.
قال في دعوى الأصل: إذا كانت الدار في يدي رجل وابن أخيه، فادعى العم أن أباه مات وتركها ميراثاً له، لا وارث له غيره، وادعى ابن الأخ أن أباه مات وتركها لا وارث له غيره قضي بالدار بينهما نصفان؛ لأن كل واحد منهما أثبت الملك لأبيه في الدار، ثم أثبت الانتقال إلى نفسه فكأن الأبوين حيان حضرا وادعى كل واحد الدار لنفسه والدار في أيديهما، وهناك يقضي لكل واحد منهما بنصف الدار بالقضاء لأب كل واحد منهما تصير ميراثاً لولده، فإن قال العم: هذه الدار كانت بين أبي وبين أخي نصفان، وصدقه ابن الأخ في ذلك إلا أن العم قال لابن الأخ: مات أخي قبل موت الجد، وصار النصف الذي كان لأخي ميراثاً بين الجد وبينك أسداساً، ثم مات الجد فورثت ذلك السدس منه، وقال ابن الأخ: مات الجد أولاً وصار النصف الذي للجد ميراثاً بينك وبين أبي نصفان، ثم مات أبي فورثت ذلك منه.
فنقول: حاصل المسألة: أن العم يدعي لنفسه سدس ما في يد ابن الأخ، وابن الأخ يدعي لنفسه نصف ما في يد العم، فحصل كل واحد منهما مدعياً ومدعى عليه، فإن لم تقم لهما بينة ولا لأحدهما، حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه فإن حلفا برئا، وصار الحال بعد الحلف كالحال قبل الحلف، وقبل الحلف كانت الدار بينهما نصفان لكونها في أيديهما، فكذا ههنا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر يقضي للحالف بما نكل له صاحبه، وإن أقام أحدهما بينة قضى بما شهد له ببينته، وإن أقاما جميعا البينة قضي بالدار بينهما نصفان؛ لأنه قد ظهر الموتان ولم يعرف سبق أحدهما، فيجعل كأنهما وقعا معاً فلا يرث ميت من ميت، وإنما يرث من كل ميت ورثته الأحياء، ووارث الجد العم فنصيبه من الدار يصير له، وذلك النصف يصير له أيضاً.

قال: وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أن أباه مات، وترك هذه الدار ميراثاً له ولأخوته فلان وفلان وفلان، لا يعلمون له وارثاً غيرهم وإخوته كلهم غيب، أجمعوا على أن هذه البينة في حق استحقاق جميع الدار للميت مقبولة، لأن آخذ الورثة ينتصب خصماً عن الميت فيما يستحق أو عليه، ألا ترى أنه لو ادعى على ميت ديناً بحضرة أحدهم وأقيم عليه البينة ثبت الدين في حق الكل، وكذلك لو ادعى أحد الورثة ديناً على إنسان للميت وأقام على ذلك بينة، ثبت الدين في حق الكل، وأجمعوا على أنه يدفع إلى الحاضر نصيب الحاضر، وأجمعوا على أنه لا يدفع إلى الحاضر نصيب الغائب.

بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يؤخذ نصيب الغائب ويوضع على يدي عدل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يؤخذ. وأجمعوا على أن صاحب اليد لو كان

(8/387)


مقراً لا يؤخذ نصيب الغائب من يده هذا هو الكلام في العقار. وأما المنقول: فلا شك أن على قولهما يؤخذ نصيب الحاضر من يده، وأما على قول أبي حنيفة: اختلف المشايخ فيه، وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة أبي حنيفة في فصل العقار، فمن قال: بأن طريق أبي حنيفة في فصل العقار أن هذا مال غائب، لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، فلا يأخذه القاضي من يد صاحب اليد لأن الأخذ لا يؤرخ، وبهذا الطريق لا يؤخذ إذا كان صاحب اليد مقراً بيان أنه لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، لأن الدعوى بعد قضاء القاضي بإنكار ذي اليد إنما يكون بموت القاضي، أو بموت الشهود الذين عاينوا القضاء، أو بنسيان القاضي القضاء.
وضياع الكتاب وكل ذلك نادر ولا عبرة للنادر في الشرع، فهذا القائل يقول: لا ينزع المنقول من يد صاحب اليد عنده، لأنه لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، من قال بأن طريق أبي حنيفة في العقار: أن القاضي لا يملك حفظ هذا المال على الغائب بالبيع، فلا يملك حفظه بالنقل من يد إلى يد يقول: بأن المنقول ينزع من يد صاحب اليد، لأن القاضي يملك حفظ المنقول على الغايب بالبيع، فيملك الحفظ بالنقل من يد إلى يد.
ثم في فصل العقار إذا حضر الغائب هل يحتاج إلى إعادة البينة؟ قال بعض مشايخنا: يحتاج، والأصح لا يحتاج لما ذكرنا أن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت، والحاضر أثبت كل الدار للميت بما أقام من البينة، فلا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان أقام كل واحد منهما بينة على دار في يدي رجل أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، وأحد هذين الرجلين ابن أخ ذي اليد ووارثه لا وارث له غيره، فلم يترك البينتان حتى مات المدعى عليه، فصار الدار في يد ابن أخيه، ولم يوص إلى أحد ثم إن البينتين جميعاً زكيتا، فالقاضي يقضي بالدار بين الأخ وبين الرجل الأجنبي نصفين، وإن صار ابن الأخ ذو اليد والآخر خارج، لأن ابن الأخ ملك الدار بحكم الإرث مع هذا قال: يقضى بالدار بينهما لوجهين:
أحدهما: أنه لما زكيت البينتان، ظهر أن الأجنبي أقام البينة العادلة، وهي سبب للاستحقاق فثبت له بإقامة البينة العادلة حق الملك، وكون التركة مشغولة بحق الأجنبي يمنع الإرث فلم تصر الدار ميراثاً لابن الأخ، فيثبت الدار على حكم ملك الميت، وجعل يد ابن الأخ كيد الميت، فصار ابن الأخ في حق نفسه خارجاً.
والثاني: إن ثبت الملك لابن الأخ في الدار بالإرث إلا أن هذا الملك غير الملك الذي يدعيه وله في الملك الذي يدعي فائدة، وهو أن يتعلق بالدار دين عمه ولا وصية، فاعتبر خارجاً إذ الخارج من يحتاج إلى إثبات ما يدعي بالبينة، وذو اليد من يحتاج إلى إثبات ذلك بالبينة، لقيام ظاهر يده على ما يدعي، فإذا اعتبر ابن الأخ خارجاً قضي بالدار بينهما نصفان لو أقام الأجنبي البينة على ابن الأخ أن الدار داره ورثها من أبيه، لم تسمع بينته لأن القاضي لما قضى بالدار نصفان صار كل واحد منهما مقضياً عليه في النصف من

(8/388)


جهة صاحبه لأن كل واحد منهما أقام البينة على كل الدار، ولولا بينة صاحبه لما حرم من النصف فثبت أن كل واحد منهم صار مقضيا عليه في النصف من جهة صاحبه، وقد عرف أن من صار مقضياً عليه في شيء لا يسمع دعواه في عين ذلك الشيء، إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له ولم يوجد.

ولو أن القاضي زكى شهود الأجنبي بعد موت العم ولم يزك شهود ابن الأخ فقضى بالدار كلها للأجنبي، ثم زكيت بينة ابن الأخ لم يقض له بشيء وقد بطلت بينته؛ لأنه لما قضى بالدار كلها للأجنبي ولا يجوز القضاء بالدار كلها للأجنبي مع قيام ما يوجب القضاء بالنصف لابن الأخ فضمن القضاء بكل الدار للأجنبي إبطال شهود ابن الأخ، وللقاضي ولاية إبطال الشهادة إذا وجد دليل الإبطال، والقاضي متى رد شهادة إنسان في حادثة فإنه يتأيد الرد في تلك الحادثة فإن أعاد ابن الأخ شهوده على الأجنبي، فشهدوا أن الدار داره بسبب الإرث على ما ادعى، قضى بجميع الدار لابن الأخ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينه الأجنبي (132ب4) لأن تلك البينة قامت على العم دون ابن الأخ، وهذا لا يشكل فيما إذا أقام ابن العم شهوداً آخرين، إنما يشكل فيما إذا أعاد تلك الشهود وإنما كان هكذا، وذلك لأن القاضي ما رد شهادتهم لتهمة الكذب، بل لضرورة القضاء للأجنبي، وما ثبت بطريق الضرورة لا يعمل وموضع الضرورة، فلم يصر محكومه يكذبها، ولأن المشهود عليه في المرة الثانية غير المشهود عليه في المرة الأولى في هذا لا يتأيد الرد، كفاسقين إذا شهدا وردت شهادتهم ثم تابا، وشهدا للمشهود له الأول في حادثة أخرى قبلت شهادتهما كذا ههنا، وإن أقام الأجنبي بعد هذا بينة أن الدار داره لم تقبل؛ لأنه صار مقضياً عليه ببينة الأخ فلا يقضى له فيما قضي به عليه، ولو زكى شهود ابن الأخ ولم يزك شهود الأجنبي فقضى بالدار لابن الأخ ثم زكى شهود الأجنبي بعد ذلك لم يلتفت إلى ذلك لما مر، ولو أعاد الأجنبي شهوده على ابن الأخ قضى بجميع الدار لما مر، فإن قال ابن الأخ: أنا أعيد شهودي، لم يلتفت إلى ذلك لأنه صار مقضياً عليه لما مر، ولو كان الأجنبي أقام البينة في حياة العم ولم يقم ابن الأخ حتى مات العم قبل تزكيته شهود الأجنبي، ثم أقام ابن الأخ البينة أنها دار ورثها من أبيه وزكيت البينتان جميعاً قضى بالدار

بينهما نصفان لما مر من الوجهين، ولو أن ابن الأخ لم يقم البينة على شيء حتى قضى بالدار للأجنبي، ثم ابن الأخ أقام على الأجنبي بينة أنها داره ورثها من أبيه قضى بالدار لابن الأخ؛ لأن ابن الأخ لم يصر مقضياً ببينة الأجنبي؛ لأن تلك البينة قامت على العم لا على ابن الأخ، ولو كان ابن الأخ هو الذي أقام البينة في حياة العم، ومات العم ثم أقام الأجنبي البينة فزكيت البينتان يقضى بالدار للأجنبي، فرق بين هذا وبينما إذا أقام الأجنبي البينة في حياة العم وأقام ابن الأخ البينة بعد موت العم حيث يقضى بالدار بينهما نصفان.
والفرق بينهما: إما على المعنى الأول فلأن إقامة الأجنبي البينة العادلة أو حيث شغل الدار بحق الأجنبي، وهذا يمنع جريان الإرث، فبقي ابن الأخ خارجاً كالأجنبي

(8/389)


فقضى بالدار بينهما وإقامة ابن الأخ البينة وإن أوجبت شغلاً في الدار بحق ابن الأخ، ولكن حقه لا يمنع ثبوت حقه بالإرث فصار ابن الأخ ذا يد والأجنبي خارج فيقضى بها للخارج، وإما على المعنى الثاني: فلأن الإرث وإن جرى إلا أن ابن الأخ إنما اعتبر خارجاً تحقيقاً لعرضه بشرط قيام المنازع، وعند إقامة الأجنبي البينة وجد له المنازع فاعتبر ابن الأخ خارجاً، فأما عند عدم إقامة الأجنبي البينة لم يوجد المنازع إذ الأجنبي لا يعتبر منازعاً لعدم ثبوت الخصوصية له من بين سائر الناس بمجرد الدعوى، فاعتبر ابن الأخ ذا يد فقضي بالدار للأجنبي لهذا، ولو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً على العم، فمات العم فورثه ابن الأخ ثم أحضر كل واحد منهما شاهداً آخر فزكيت البينتان يقضى بالدار بينهما نصفان، وهذا لا يشكل على الوجه الثاني؛ لأن ابن الأخ اعتبر خارجاً على الوجه الثاني، وإن ملك الدار بالإرث على ما مر، إنما يشكل على الوجه الأول لأن إقامة الأجنبي شاهداً واحداً لا يوجب شغلا في الدار لحق الأجنبي فيملك ابن الأخ الدار بالإرث فيصير هو ذا اليد، والوجه في هذا أن يقال: بأن إقامة الأجنبي شاهداً واحداً وإن لم تصر الدار مشغولاً لحق الأجنبي مع هذا ابن الأخ لا يرث الدار من عمه؛ لأنه لو ورثها أدى إلى أمر محال.

بيانه: أن شهادة الشاهد الواحد انعقدت معتبرة في الجملة فلو ورث ابن الأخ الدار وصار ذا اليد لا بد وأن يجعل القول قوله في أنه ورثها عن أبيه لأن قول الإنسان فيما في يده مقبول ومتى جعلنا القول قوله في أنه ورثها من أبيه وإبطال الشهادة المنعقدة بقول يحتمل الصدق والكذب محال فإن قال أحدهما: بعد ما قضى بالدار بينهما نصفان: أنا أقيم البينة على صاحبي لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن كل واحد منهما صار مقضياً عليه فيما قضي به لصاحبه على ما مر، ولو كان كل واحد منهما أقام شاهداً واحداً على العم فلما مات العم أقام الأجنبي شاهداً آخر، فزكيت شاهده وقضى له بشهادتهما ثم جاء الابن بشاهد آخر لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه لو أقام شاهدين على العم بطلب القضاء للأجنبي فإذا أقام شاهداً واحداً أولى، فإن أعاد ابن الأخ شاهدين على الأجنبي قضي بها لابن الأخ؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينة الأجنبي؛ لأنها قامت على العم لا عليه.

وفي «المنتقى» : رجل توفي فادعى رجلان ميراثه، يدعي كل واحد منهما أن الميت مولاه أعتقه ولا وارث له غيره وأقام اليينة على ما ادعى ولم يؤقتوا للعتق وقتاً فالميراث بينهما، ولو وقتوا للعتق وقتاً فصاحب الوقت الأول أولى.

وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله رجلان أخوان لأب وأم في أيديهما دار، أقام أحدهما بينة أن هذه الدار كانت لأمي مات وتركتها ميراثاً بيني وبين أبي أرباعاً ثم مات الأب وترك ذلك الربع بيني وبينك، وأقام الآخر بينة أن هذه الدار كانت لأبي وتركها ميراثاً بين وبينك قال: آخذ ببينته الذي ادعى ثلاثة أرباع الدار له، ولا أقبل بينة الآخر؛ لأن الآخر يدعي النصف لنفسه وهي في يده ولا يدعي شيئاً مما في يد مدعي ثلاثة الأرباع فلا يسمع بينته، ومدعي ثلاثة الأرباع مدعي لنفسه بعض ما في يد الآخر

(8/390)


فتقبل بينته فيكون له ثلاثة أرباع الدار من قبل أمه ونصف الربع الآخر له من قبل أبيه ونصف الربع الآخر للآخر؛ لأنه مدعي ذلك لنفسه ولا يتنازع له فيه.
المعلى عن أبي يوسف رحمه الله رجل أقام بينة على ميت أنه أخوه لأبيه وأمه، لا يعلمون له وارثاً غيره وأقامت امرأة البينة أنها ابنة الميت جعلت الميراث بينهما نصفان، ولا أسألهما بينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيرهما، فكل أحد أقام بينة على نسبه أشركته في الميراث، ولا أسأله بينة على عدد جميع الورثة.
قال: وإذا ادعى رجل داراً ميراثاً من أبيه أو أمه ولم يذكر اسم المورث ونسبه، حكي عن شيخ الاسلام الأوزجندي: أنه لا يسمع دعواه.
في «فتاوى أبي الليث» : رجل زوج ابنة امرأة وسمى لها منزلاً وباعه منها بيعاً صحيحاً، ثم إن هذا الرجل مات وادعى ورثته أن أباهم باع هذا المنزل من فلان قبل أن يسميه لها، يعني قبل أن يبيعها من امرأة الابن فإنهم لا يصدقون على ذلك والمنزل لها، وعلى فلان أن يقيم البينة على شرائه قبل تاريخ شراء المرأة ولا تقبل شهادة الثانية في ذلك؛ لأنهم يريدون بشهادتهم إبراء أنفسهم عن عهدة شراء المرأة، فإن المرأة لو وجدت بالمنزل عيباً ردته عليهم وحاصصتهم.

قال: رجل ادعى داراً في يدي إنسان وقال في دعواه: هذه الدار كانت لأبي فلان مات وتركها ميراثاً لي ولأختي فلانة لا وارث له غيرنا ترك ثياباً ودواباً فقسمنا الميراث، ووقعت هذه الدار في نصيبي بالقسمة واليوم جميع هذه الدار ملكي، بهذا السبب وفي يد هذا بغير حق فدعواه صحيحة؛ لأنه ادعى جميع الدار لنفسه ثلثاها بسبب الإرث وثلثها بسبب القسمة، ولكن لابد وأن يقول: وأخذت أختي نصيبها من تلك الأموال حتى يصح منه مطالبة المدعي بتسليم كل الدار إليه، ولو كان قال في دعواه: مات أبي وتركها ميراثاً لي ولأختي، ثم إن أختي أقرت بجميعه لي وصدقتها في إقرارها، حكي عن شيخ الإسلام الأول الأوزجندي رحمه الله أنه قال: دعواه صحيحة، والصحيح أن لا يصح دعواه في الثلث؛ لأن هذا دعوى الملك في الثلث بسبب الإقرار ودعوى الملك بسبب القرار غير صحيح، عليه عامة المشايخ، والمسألة في «الأقضية» : سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن ادعى عيناً في يده وقال: هذا كان ملك أبي وتركه ميراثاً لي ولفلان وفلان سمى الورثة ولم يبين حصة نفسه صح منه هذه الدعوى، وإذا أقام البينة على هذا الوجه قبلت بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لابد وأن يبين حصته، ولكن لم يبين عدد الورثة بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي، وحصتي منه كذا وطالبه بتسليم ذلك لا يصح منه الدعوى ولابد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بين كان نصيبه أنقص مما سمى، وإذا شهد الرجل بوراثة رجل فقال: لا وارث لهذا الميت غيره لا يعلم له وارثاً غيره ثم شهد بعد ذلك بوراثة رجل آخر عن هذا الميت قبلت هذه الشهادة؛ لأن (133أ4) قوله لا وارث له غيره ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد؛ لأن الشهادة مقبولة بدونه على ما مر، فصار ذكره ولا ذكر سواء؛ ولأن التوفيق ممكن فإنه

(8/391)


يمكنه أن يقول: ما علمت له وارثاً آخر حال ما شهدت، ثم علمت بعد ذلك.

ذكر في «دعوى المنتقى» : دار في يدي رجل ادعى رجل أنها بينه وبين الذي في يديه نصفان ميراثاً عن أبيه وجحد ذلك الذي هو في يده وادعى أن كلها له فجاء المدعي بشهود شهدوا أن هذه الدار كانت لأب المدعي فلان، مات وتركها ميراثاً له خاصة لا وارث له غيره قال: إن لم يدع المدعي أن النصف خرج إلى الذي الدار في يده بسبب من قبله فشهادة شهوده باطلة، وإن قال: كنت بعت نصيبها بألف درهم لم يصدقه القاضي على البيع ولم يجعله مكذباً لشهوده وقضى له بنصف الدار ميراثاً عن أبيه وإن أحضر بينة على أنه باع النصف من المدعى عليه بألف درهم، أو أنه صالحه من الدار على أن يسلم له النصف منها قبلت بينته على ذلك، وقضى بالدار كلها ميراثاً للمدعي من الوالد وقضى بنصف الدار بيعاً من المدعى عليه إن كان ادعى البيع، وكان للمدعي على المدعى الثمن، وإن كان أقام البينة على الصلح أبطلت الصلح أو ردت الدار كلها إلى المدعي، لأنه لم يأخذ للنصف عوضاً والله أعلم.

الفصل التاسع: في الشهادة على الشهادة
الأصل إن كل ما يثبت بشهادة النساء مع الرجال يثبت بالشهادة على الشهادة؛ لأن الشهادة على الشهادة نظير شهادة النساء مع الرجال؛ لأن المتمكن في الشهادة على الشهادة تهمتان تهمة الكذب في الأصول وتهمة الكذب في الفروع، والمتمكن في شهادة النساء مع الرجال تهمتان أيضاً، تهمة الكذب بسبب عدم الصحة وتهمة الضلال والنسيان، فكانا نظيرين إلا أن الشهادة على الشهادة إنما تقبل حالة العجز عن شهادة الأصول وشهادة النساء مع الرجال تقبل مع القدرة على شهادة الرجال؛ لأن شهادة الفروع بدل من كل وجه لأن الفرع لا يعاين سبب الحق إنما عاينه الأصل، وأما شهادة النساء نظير شهادة الرجال من حيث معاينة سبب الحق وإنما البدلية من حيث الصورة فلهذا افترقا.

وإنما يقع العجز عن شهادة الأصول بأحد أسباب ثلاث: أما بمرض الأصول مرضاً لا تستطيع الحضور معه مجلس الحكم، أو بغيبة الأصول غيبة سفر هكذا، قال صاحب «الأقضية» والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أن الأصل إذا كان في موضع لو حضر مجلس الحكم وشهد لا يمكنه البيتوتة في أهله أجازت الشهادة على شهادته، وإن أمكنه البيتونة في منزله لا يجوز الشهادة على شهادته؛ لأن الشاهد في هذه الصورة لايكلف بالحضور مجلس

(8/392)


الحكم لأداء الشهادة؛ لأنه يخرج بالبيتوتة في غير أهله والشاهد محتسب في أداء الشهادة، والمحتسب لا يكلف بما فيه حرج، لو لم يجز الشهادة على شهادته في هذه الصورة لتعطلت الحقوق وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة يجوز كيف ما كان حتى روي عنه: إذا كان الأصل في زاوية المسجد فشهد الفرع على شهادته في زاوية أخرى من ذلك المجلس المسجد تقبل شهادتهم.

وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف: إذا شهد الفرع على شهادة الأصول والأصول في المصر يجب أن تجوز على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز بناء على أن التوكيل بغير رضى الخصم عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز وعندهما يجوز، ووجه البناء على تلك المسألة أن الجواب في تلك المسألة مستحق على المدعى عليه بلسانه فاستحق عليه الحضور مجلس الحكم للجواب، كما أن في هذه المسألة استحق على الشاهد أداء الشهادة، فاستحق عليه الحضور مجلس الحكم لأداء الشهادة، ثم إن عند أبي حنيفة رحمه الله: لما لم يملك المدعى عليه أنابه غيره مناب نفسه في الجواب إلا بعذر، فكذا لا يملك الأصل إنابة غيره مناب نفسه في الشهادة إلا بعذر وعندهما لما ملك المدعى عليه أنابه غيره مناب نفسه، وفي الجواب من غير عذر فكذا يملك الأصل إقامة الفرع مقام نفسه في أداء الشهادة من غير عذر.

وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً رحمه الله عن رجل خرج وتبعه قوم وهو يريد مكة أو سفراً آخر سماه، ثم ودعه القوم وانصرفوا ثم شهد قوم آخر على شهادته، وادعى المشهود عليه أنه حاضر وقد شهدت البينة على ما سمينا، ولم يزيدوا على ذلك هل تقبل الشهادة على شهادته في قول من لا يقبل الشهادة على حاضر؟ قال: بلى؛ لأن الغيبة تكون هكذا، فإن كان ودعهم وهو في منزله لم يرده حين خرج لا أقبل شهادتهم؛ لأنه كان في منزل، هذا هو الكلام في طرف الأداء.
جئنا إلى طرف الإشهاد فنقول الإشهاد على الشهادة صحيح، وإن كان الأصل في المصر بلا خلاف حتى إذا غاب الأصل بعد ذلك أو مات فالفرع يشهد على شهادته وتقبل شهادته؛ لأن العبرة لحالة الأداء لأن الحكم يقطع عند الأداء فيشترط غيبة الأصل حالة الأداء، وإن كان الأصل محبوساً في المصر فأشهد على شهادته هل يجوز للفرع أن يشهد على شهادته؟ وإذا شهد عند القاضي فالقاضي هل يعمل بشهادته؟ لا، ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، فقد اختلف مشايخ زماننا بعضهم قالوا: إن كان محبوساً في سجن هذا القاضي لا يجوز؛ لأن القاضي يخرجه من سجنه حتى يشهد ثم يعيد إلى السجن، وإن كان محبوساً في سجن الوالي ولا يمكنه من الإخراج من الحبس للخصومة يجوز، لأن عجزه بسبب الحبس أبلغ من عجزه بسبب المرض وإذا جازت الشهادة على الشهادة بعذر المرض، فكذلك بعذر الحبس ويستدل هذا القائل بمسألة التوكيل بغير رضى الخصم على

(8/393)


مذهبه لا يجوز إلا بعذره، وجعل الحبس في السجن الوالي عذراً كالمرض حتى قال بجواز التوكيل من غير رضى الخصم إذا كان المطلوب محبوساً في سجن الوالي كما قال بجوازه إذا كان المطلوب مريضاً، وقيل: ينبغي أن لا يجوز ويستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل» : إذا كان المكفول بالنفس محبوساً بالدين في سجن هذا القاضي الذي تخاصما إليه، لا يؤاخذ الكفيل به، وإن كان محبوساً في سجن قاض آخر في المصر الذي وقعت فيه الكفالة أو كان محبوساً في سجن والي هذا المصر، فالقياس أن يؤاخذ الكفيل بتسليم النفس؛ لأن المكفول بالنفس ليس في يد هذا القاضي لا حقيقة، وهذا ظاهر ولا حكماً لأن سجن الوالي وسجن قاض آخر ليس في يد هذا القاضي حتى يجعل من في السجن كأنه في يده، فيطالب الكفيل بالتسليم إذا كان قادراً عليه وهو قادر على تسليمه بأن يؤدي ما عليه.

وفي الاستحسان لا يطلب الكفيل بتسليمه، لأن سجن أمير البلد وسجن قاضي آخر في هذا المنزل بمنزلة سجنه؛ لأن له ولاية على أهل المصر كلهم، إلا أنه نصب قاض آخر من جانب آخر إذا كانت البلدة عظيمة؛ لأنه ربما لا يمكنه القيام بأمور جميع أهل البلدة أو يتعذر على الناس الذهاب من جانب إلى جانب لبعد المسافة لا لقصور ولاية هذا القاضي عن بعض أهل المصر، وإذا كان كذلك صار سجن القاضي الآخر في هذا المصر وسجن الوالي بمنزلة سجن هذا القاضي أفلا ترى أن سجن الوالي جعل كسجن هذا القاضي في أن لا نطالب الكفيل بتسليم المكفول له، فكذا في حق الشهادة على الشهادة يجعل سجن الوالي كسجن هذا القاضي، ولو كان الأصل في سجن هذا القاضي، لم يجز الشهادة على الشهادة، فكذا إذا كان في سجن هذا الوالي، ثم جواز الشهادة على الشهادة استحساناً أخذ به علماؤنا رحمهم الله، والقياس يأبى جوازها؛ لأنه لا يمكن تجويزها بطريق نيابة الفروع عن الأصول؛ لأن الشهادة فرض يتأدى بالبدن وفي مثله لا تجري النيابة كما في الصوم والصلاة ولا يمكن تجويزها باعتبار أنه يقع العلم للفروع بشهادة الأصول، لأن شهادة الأصول وجدت في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء لا يفيد علماً يوجب العمل ولا يمكن تجويزها من حيث أن الفروع بشهادتهم يثبتون شهادة الأصول؛ لأن الشهادة ليست من قبيل الحقوق التي يمكن إثباتها بالشهادة عند القاضي، ألا ترى أن الشاهد إذا أنكر أن يكون له شهادة لفلان فأراد المشهود له أن يثبت ذلك بالبينة لا يقدر عليه؟ إلا أنا استحسنا وقلنا بجوازها لتعامل الناس، والناس إنما تعاملوا ذلك لإحياء الحقوق؛ لأن الأصل قد نجز عن أداء الشهادة إما بموت أو سفر، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة لتعطلت الحقوق، وطريق الجواز أن ينقل الفرع بشهادته شهادة الأصول عند القاضي ويقطع القاضي بشهادة الأصول (133ب4) القائمة في مجلس القاضي بنقل الفروع إياها في مجلس القاضي، ومن جملة
ما عملوا فيها بالقياس القصاص والحدود حتى قلنا: لا تجوز الشهادة على الشهادة في القصاص والحدود، قال محمد: رحمه الله والمعني فيه أن في الشهادة على الشهادة زيادة شبهة،

(8/394)


إما لأن الخبر إذا تداولته الألسنة تمكن فيها زيادة أو نقصان، أو لأنه تمكن في الشهادة على الشهادة تهمة الكذب في موضعين، والحدود والقصاص لا تجب مع الشبهات، وفي «شهادات الأصل» : لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلاناً حداً في قذف فهو جائز، وذكر في «زيادات الأصل» : أنه لا يجوز وجه ما ذكر في الشهادات أن الشهادة على الشهادة قامت على استيفاء الحد لا على إيجابه، واستيفاء الحد يثبت بالشهادة على الشهادة إنما لا يثبت الإيجاب وإنما قلنا: أنها قامت على استيفاء الحد لأنهم شهدوا أنه حده حد القذف، وحد القذف يثبت بالجلد ورد الشهادة والجلد قد استوفي، ورد الشهادة استوفي فيما مضى إذا لم يستوف في المستقبل، فكان المستوفي أكثر، وعلى رواية الديات اعتبر ما يستقبل من المدة وفيما يستقبل من المدة رد الشهادة لم يستوف بعد فتكون شهادة على إيجاب الحد بهذا القدر، والشهادة على الشهادة لا تقبل في إيجاب الحد قل أو كثر ولا تثبت شهادة الأصلين عند القاضي ما لم يشهد على شهادة كل واحد منهما اثنان من الفروع.

وقال مالك: إذا شهد على شهادة كل أصل فرع واحد كفاه، والكلام بيننا وبينه في هذه المسألة فرع لمسألة أخرى بيننا وبينه: أن الفرعين إذا سمعا شهادة الأصلين بحق من الحقوق وهما عدلان هل لكلا الفرعين أن يشهدا بأصل الحق فيقولان: نشهد أن لفلان على فلان كذا ولا ينقلان شهادة الأصل وعلى قول علمائنا رحمهم الله: لا يحل لهما ذلك بل ينقلان شهادة الأصلين وعلى قول مالك يحل لهما أن يشهدا بأصل الحق ويقضي القاضي بشهادتهما، فإذا كان على قوله يقضي بشهادة الفرعين بأصل المال، فلأن يقضي بشهادتهما وقد شهد كل واحد بشهادة الأصل أولى.

وعندنا الفرع لا يشهد على أصل الحق ولكن ينقل شهادة الأصل إلى مجلس القاضي، ونقل الشهادة إلى مجلس القاضي لا يثبت إلا بشهادة المثنى كنقل الإقرار، وكنقل البيع وسائر التصرفات، وجه قوله في تلك المسألة: أن شهادة العدلين في إفادة العلم بمنزلة معاينة سبب أصل الحق أو الإقرار به ألا ترى إلى ما ذكر في كتاب الاستحسان: إذا شهد عند المرأة عدلان أن زوجها طلقها ثلاثاً فإنه لا يحل لها أن تمكن نفسها من زوجها، كما لو سمعت الطلاق من زوجها أو أقر الزوج أنه طلقها ثلاثاً، ولو عاين الفرعان سبب الحق أو إقرار من عليه حل لهما الشهادة بأصل الحق فكذا هذا، وعلماؤنا احتجوا في هذه المسألة بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا تجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين» ولم ينقل عن غيره خلافه، واحتجوا في تلك وقالوا: القياس أن لا تكون الشهادة حجة وإنما جعلت حجة شرعاً إذا اتصل بها قضاء القاضي، فبدون اتصال القضاء لا تكون حجة فلا تفيد العلم بأصل الحق، فلا يحل له الشهادة بأصل الحق وليس كمسألة الطلاق؛ لأن في الطلاق حق لله تعالى لما فيه من تحريم الفرج، ولهذا قبلت الشهادة عليه من غير دعوى، وحق الله تعالى يثبت بقول الشاهد الواحد إذا كان عدلاً بلفظ الخبر من غير قضاء قاض، كما في حرمة الأكل، فإنها تثبت

(8/395)


بقول الواحد العدل حتى إن عدلاً لو أخبر: أن هذا اللحم متروك التسمية، أو ذبيحة مجوسي يحرم تناوله؛ لأن حرمة الأكل من حق الله تعالى، إلا أن في الطلاق حق العبد أيضاً وهو إزالة ملك النكاح، فأثبتنا ما هو حق الله تعالى وهو الحرمة بنفس الشهادة قبل القضاء، ولم نثبت ما هو حق العبد ما لم يتصل القضاء بالشهادة.
ولو شهد فرعان على شهادة أصلين جاز؛ لأن شهادة كل أصل تثبت شهادة المثنى، ولو شهد رجل بأصل الحق، ثم شهد هو مع فرع آخر بشهادة أصل آخر فالقياس أن يقضي بهذه الشهادة لأن شهادة الأصل الغائب قد ثبت بشهادة الفرعين فكان الأصل الغائب حضر بنفسه وشهدا مع هذا الأصل الآخر، وفي الاستحسان لا يقضي بهذه الشهادة؛ لأن شهادة الأصل الغائب لم يثبت عند القاضي، فكأنه شهد عنده أصل واحد ولو كان كذلك لا يقضي بالمال فكذلك هذا، وإنما قلنا ذلك لأن شهادة الأصل الحاضر على شهادة الأصل الغائب غير مقبولة؛ لأنه لو قبل أدى إلى أن يثبت بشهادته ثلاثة أرباع الحق، نصف الحق بشهادته، وربع الحق بشهادته مع آخر على شهادة الغائب، ولا يجوز أن يثبت بشهادة الواحد ثلاثة أرباع الحق، كما لا يجوز أن يثبت به أصل الحق، وإذا لم تقبل شهادته على شهادة الأصل الغائب بقي على شهادة الأصل الغائب شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا تثبت شهادة الأصل.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : لو أن رجلين سمعا من رجلين يقولان: نشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يسعهما أن يشهدا على شهادة الرجلين حتى يقول لهما الرجلان: اشهدا على شهادتنا، ولو سمعا قاضيا يقول لرجل: قضيت عليك لهذا الرجل بكذا، وسعهما أن يشهدا على قضائه وإن لم يقل لهما القاضي: اشهدا على قضائي بذلك، فقد شرط لصحة تحمل الشهادة على الشهادة الأمر بالشهادة، ولم يشترط لصحة تحمل الشهادة على القضاء الأمر بالشهادة.

واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: قضاء القاضي وقوله حجة تلزمه المال على المدعي بمنزلة الإقرار وسائر الأفاعيل والأقاويل الملزمة، وقد عاين ذلك بيقين ومن عاين حجة أو سمعها وسعه أن يشهد ذلك بيقين عليها بدون إشهاده وأما الشهادة غير حجة إلا في مجلس القاضي فلا يحصل العلم للفرع بقيام الحق بمجرد شهادة الأصل في غير مجلس القاضي حتى يشهد الفرع على أصل الحق فتعذر كونه شهادة الفرع على أصل الحق فتتعين جهة نقل شهادة الأصل إلى مجلس القاضي لجواز الشهادة على الشهادة، فصار شاهد الفرع بمنزلة الوكيل عن الأصل والوكالة لابد لها من التوكيل وزان مسئلتنا من مسألة القضاء ما إذا عاين قضاء القاضي في غير المصر الذي هو قاض (فيه) وهناك لا يجوز له أن يشهد على قضائه كذا ههنا، وبعضهم قالوا: الأصل له منفعة في نقل الفرع شهادته من وجه ومضرة من وجه منفعة؛ لأن الشهادة حق على الأصل يلزمه الأداء متى وجد الطلب من صاحب الحق، كما لو كان عليه دين، فمن هذا الوجه يكون قاضياً ما عليه فيكون الأصل منفعة، كما لو قضى عليه ديناً وجب عليه لغيره، فبهذا

(8/396)


الاعتبار لا يحتاج إلى الأمر، ولكن له مضرة من حيث زوال ولائه في تنفيذ قوله على المشهود عليه؛ لأنه لما عاين سبب وجوب الحق فقد ثبت له ولاية على المشهود عليه، فإذا نقله الفرع من غير أمره، لو صح النقل زال ما ثبت له من الولاية على المشهود عليه، وإزالة الولاية الثانية للغير ضرر عليه، فبهذا الاعتبار لا يصح إلا بالأمر.
كما قالوا في الأجنبي: إذا زوج وليه إنسان بغير أمره؛ فإنه لا يجوز وإن قضى حقاً عليه وله في ذلك منفعة؛ لأنه مضرة من وجه فإنه أزال ولايته عن وليته نفذ عقده، وفي هذا ضرر عليه؛ لأنه إبطال حق عليه فاحتيج إلى الأمر من جهته فكذا هذا احتيج إلى الأمر من جهته ليصح التحمل هذا المعنى لا يتأتى في فصل القضاء، فلا يحتاج فيه إلى الأمر.

ولو قال رجلان لرجلين: نشهد أن لفلان على فلان ألف درهم فاشهدا على شهادتنا ذلك، فسمع هذه المقالة رجلان آخران لم يسعهما أن يشهدا على شهادتهما، لما ذكرنا أن الفرع بمنزلة الوكيل، ولا وكالة له بدون التوكيل، ولا توكيل في حق الآخرين.
قد ذكرنا أن من سمع قاضياً يقول لرجل: قضيت عليك لهذا الرجل ألف درهم وسعه أن يشهد على قضائه وإن لم يشهده على قضائه ولو بينا للقاضي فقالا: سمعنا قاضي كذا قال: قضيت على هذا الرجل لهذا الرجل بكذا، ولكن لم يشهدنا على قضائه لا يوجب ذلك خللاً في شهادتهما، فرق بين هذا وبينما إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له بظاهر يده، فلو بينا ذلك للقاضي أنهما شهدا بالملك له لأنهما (134أ4) رأياه في يده لا تقبل شهادتهما.

والفرق: أن قضاء القاضي حجة بيقين وقد أخبر عن معاينته فقد أخبر عن معاينة ما هو حجة، فلا يوجب خللاً في الشهادة، كما أخبر عن معاينة الإقرار أو البيع، وأما اليد فليس بدليل على الملك يقيناً، إنما كان دليلاً بنوع ظاهر مع الاحتمال، ولكن مع هذا كان للشاهد أن يعتمد على ذلك الظاهر للشهادة عند عدم المنازع ضرورة أنه لا دليل للشهادة سوى ذلك، ولا ضرورة في حق القاضي أن يعتمد على هذا الظاهر؛ لأن في حقه دليل آخر أقوى، وهو الشهادة بالملك مطلقاً كيف وإن القاضي لو اعتمد على هذا الظاهر فإنما اعتمد عليه عند وجود المنازع؟ لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وجود المنازع، واليد ليس بحجة عند وجود المنازع، فلا يقضي بشهادتهما لهذا، وإن بينا أنهما سمعا منه في غير البلد الذي هو فيه قاض، لا تقبل شهادتهما ولا ينبغي لهما أن يشهدا؛ لأنه في غير بلده بمنزلة سائر الرعايا فلم يقبل منه إقراره بالقضاء؛ لأن كلامه ليس بحجة وقوله ليس بقضاء، ثم إن كثيراً من مشايخنا كالخصاف وغيره طولوا لفظ الشهادة على الشهادة ولفظ أداء الشهادة وبالغوا فيه قالوا في الإشهاد: يقول شاهد الأصل بين يدي شاهد الفرع: اشهد أن لفلان على فلان كذا، وأنا أشهدك على شهادتي أنت على شهادتي بذلك فيحتاج إلى خمس شينات.

(8/397)


وقالوا في أداء الشهادة على الشهادة: أن الفرع يقول بين يدي القاضي: أشهد أن فلاناً عندي شهد أن لفلان على فلان كذا من المال، وأشهدني على شهادته وأمرني أن أشهد على شهادته، وأنا أشهد على شهادته بذلك الآن فيحتاج إلى ثماني شينات.

قال الخصاف وجماعة من المحققين من مشايخنا كالفقيه أبي جعفر الهندواني وغيرهم: تكلف وما دونه يكفي وهو أن يقول الأصل في الإشهاد: اشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد أنت على شهادتي بذلك فيكون ثلاث شينات، وفي الأداء يقول شاهد الفرع بين يدي القاضي: اشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته بذلك فيكفيه ست شينات.

واختار الشيخ الإمام الأجَلّ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله على لفظ آخر، وهو أن يقول في الأداء: أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا، أشهدنا على شهادته وأمرنا أن نشهد بها، فيكفيه ذكر خمس شينات، أو يقول: أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا فأشهدني على شهادته بذلك وأنا أشهد بذلك كله.
وفي «الفتاوى» : للفقيه أبي الليث عن الفقيه أبي جعفر إذا قال الفرع: أشهد على شهادة فلان بكذا جاز، ولا يحتاج إلى زيادة شيء، وهكذا حكى فتوى شمس الأئمة السرخسي فلو اعتمدا أحد على هذا كان في سعة من ذلك وهو أسهل وأيسر، وعن أبي القاسم الصفار أنه قال: لابد للفرع أنه يقول: أمرني فلان أن أشهد على شهادته، وإذا قال رجلان: نشهد أنا سمعنا فلاناً يقر لفلان بألف درهم فاشهدا بذلك كان باطلاً؛ لأنه إما أن يجعل المشهود به المال وقوله: ذلك إشارة إلى المال وإنه باطل؛ لأنه قبل نقل الشهادة إلى مجلس القضاء لم يكن شهادة الأصول وقوله: ذلك إشارة إلى شهادة الأصول وأنه باطل أيضاً؛ لأن شهادة الأصول لا تصلح مشهوداً بها لما مر، فتعين جهة البطلان فيه، وكذلك إذا قال: فاشهدا علينا بذلك؛ لأنه تنصيص على أن الأصل مشهود عليه وقوله بذلك إن كان إشارة إلى المال فيكون هذا أمراً بالشهادة بالمال على الأصل وأنه لا يجوز، وإن كان إشارة إلى شهادة الأصل، فهي لا تصلح مشهوداً بها فكان باطلاً، وكذلك إذا قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان؛ لأنهما جعلا أنفسهما مشهوداً عليه بشهادة الفرع، وأنه باطل؛ لأنه يخالف اللفظ المنصوص، وهذا لما ذكرنا أن القياس إلى جواز الشهادة على الشهادة، لكن تركنا القياس بالأثر وتعامل الناس، فيراعى فيه اللفظ الذي ورد به الأثر وجرى به التعامل وهو لفظ الشهادة على الشهادة وكذلك إذا قالا: فاشهدا بما شهدنا به؛ لأنه إن جعل المشهود به المال فهو باطل لما قلنا، وكذلك إن جعل المشهود به الشهادة؛ لأنها لا تصلح مشهوداً بها، وكذلك إذا قالا: فاشهدا علينا بما شهدنا به أو بما أشهدناكما به؛ لأنه تنصيص على أن الأصل مشهود عليه وقوله: بذلك إن كان إشارة إلى المال يكون هذا أمراً بالشهادة بالمال على الأصل وأنه لا يجوز، وإن كان إشارة إلى شهادة الأصل عليه وأنه باطل وكذلك إذا قالا: فاشهدا أن شهادتنا عليه بذلك لأنه غير

تام فيحتمل أن يكون تأويله شهادتنا عليه بذلك

(8/398)


الحق، ويحتمل باطل وعلى كلا الوجهين لا يجوز؛ لأنه لم يوجد إشهادهما وتحميلهما شهادة بالمال، وكذلك إذا قال الأصلان: نشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهدا أنا نشهد بذلك، أو قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان كذا فاشهدا أنا نشهد بذلك، أو قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان، كان ذلك باطلاً؛ لأن قول الأصلين: فاشهدا أنا نشهد بذلك عليه، يحتمل الاستقبال يعني اشهدا أنا نشهد في الزمان الثاني بذلك، فيكون هذا أمراً بالشهادة أنه وعد أن يشهد، لا أن يكون هذا إشهاداً على الشهادة.v

وقال أبو يوسف رحمه الله في «الأملاك» : أقبل ذلك.
ووجهه: أن المقصود من هذه الشهادة على الشهادة فلو اعتبرنا المقصود يصح تصرفهما، ولو اعتبرنا الحقيقة يبطل تصرفهما وكلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن وإن قال الأصلان للفرعين: نشهد أن فلاناً أشهدنا أن لفلان عليه ألف فاشهدا على شهادتنا بذلك، فشهد الفرعان بما وصفت لك، وقد غاب الأصلان فشهادة الفرعين جائزة؛ لأنه موافق للفظ المنصوص الوارد في باب الشهادة على الشهادة، لأن قوله على شهادتنا لبناء الشهادة عليه، كما تقول شهد على إقراره وما أشبه ذلك، وصورة الشهادة على الشهادة وتفسيرها ليس إلا هذا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال الفرع: أشهد أن فلاناً أشهدني أنه يشهد بكذا، أو قال: أشهدني فلان أنه يشهد بكذا، فهو باطل لانعدام اللفظ المنصوص الوارد في باب الشهادة على الشهادة.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإذا شهد الرجلان عند القاضي على شهادة رجل وصححا الشهادة، فينبغي للقاضي أن يسألهما عن عدالة الذي شهدا على شهادته، ولم يشترط محمد رحمه الله في «المبسوط» هذا، فهو أن يسألهما القاضي عن عدالة الأصول، وإنما عرف هذا من جهة الخصاف، وهذا لأن القاضي إنما يقضي بشهادة الفروع إذا كان الأصل عدلا، أما إذا لم يكن فلا ينبغي للقاضي أن يسأل عن ذلك حتى يعرف أيجوز له القضاء بشهادة الفروع فيلتفت إليها أو لا يجوز، فلا يلتفت إليها؟ فإن قالا: هم عدول، أثبت ذلك في موضع شهادتهما في المحضر، فإن كان القاضي لا يعرفهما بالعدالة يعني الفرعين سأل عنهما فإن عدلا تثبت عدالة الأصل أيضاً، هكذا ذكر في ظاهر الرواية.

وروي عن محمد: أن تعديلهما الأصل لا يكون صحيحاً، وهكذا روي عن أبي يوسف لأن الفرع نائب عن الأصل فتعديله الأصل يكون بمنزلة تعديل الأصل نفسه، والأصل لو عدل نفسه لا يكون هذا التعديل صحيحاً، فكذلك الفرع إذا عدله لا يعتبر، وجه ظاهر الرواية وذلك لأن الفرع نائب عن الأصل في نقل عبارته إلى مجلس القاضي فكما نقل عبارته إلى مجلس القاضي فقد انتهى حكم الأمانة، وصار هو بمنزلة سائر الأجانب، فكما أن التعديل من سائر الأجانب يكون صحيحاً، فكذلك التعديل من الفروع ينبغي أن يكون معتبراً، وهذا لأن الشهادة على الشهادة إنما تعرف بقول الفروع، فأما

(8/399)


القاضي لا يعرف الأصول وربما لا يظفر بمن يعرف الأصول لأن الشهادة على الشهادة غالباً إنما تكون من بلدة إلى بلدة فلو لم يعتبر تعديل الفروع يؤدي إلى تعطيل الحقوق، وإنما جعل الشهادة على الشهادة حجة صيانة لحقوق الناس (134ب4) عن التعطيل وهذا المعنى يقتضي اعتبار تعديل الفروع فإن قالوا: هم ليسوا بعدول، فالقاضي لا يقضي بشهادتهما، وإن قالا: لا نعرفه، ذكر الخصاف: أن القاضي لا يقضي بشهادتهما، وكذلك إذا قالا: لا نخبرك، لأنهما حملا شهادتهما ولم يعدّلا الأصول، فكأنهما لم يصدقاهم فيما شهدوا به؛ لأن دليل الصدق العدالة فصار كأنهما قالا: إنا نتهمها في الشهادة، ولو قالا هكذا فالقاضي لا يقبل شهادتهم فكذلك هذا.

وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: أن القاضي يقبل شهادتهما ويسأل الأصل، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، وهو الصحيح لأن الأصل بقي مستوراً وينبغي أن يذكر الفرع اسم الشاهد الأصل واسم أبيه وجده، ذكر القاضي أبو علي النسفي رحمه الله في «شرحه» : وإذا قضى القاضي بشهادة الفروع يجب أن يكتب في السجل أسماء الأصول ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، وفي «الأصل» .

وتجوز الشهادة على الشهادة في كتب القضاء وصورتها: أن يكتب القاضي كتاباً إلى قاض آخر لحقٍ من الحقوق، وأشهد على كتابه شاهدين ثم بدا للشاهدين عذر، فأشهدا على شهادتهما شاهدين.
وإذا أراد الرجل أن يشهد غيره على شهادته ينبغي أن يحضر الطالب والمطلوب ويشير إليهما، وإن أراد أن يشهد عند غيبتهما ينبغي أن يذكر اسمهما ونسبهما؛ وهذا لأن الشهادة عند الشاهد ليتحمل الشهادة بمنزلة أداء الشهادة عند القاضي ليقضي به، وكما أن في الشهادة عند القاضي يعتبر الإعلام بأقصى ما يمكن، فكذلك يشترط هذا المعنى عند الشاهد ليتحمل عنه الشهادة إلا أنه إذا كان المشهود عليه غائباً فذكر الاسم والنسب يجوز الإشهاد ولا يكفي هذا القدر للقضاء؛ لأن القضاء للإلزام والإلزام على الغائب لا يتحقق، فلا بد من الخصم للإلزام عليه بالبينة، والقضاء بخلاف الإشهاد على الشهادة؛ لأن الشهادة ليست بموجبة شيئاً ما لم يتصل بها قضاء القاضي فلا يتحقق فيه معنى الإلزام على الغائب.
فقلنا: بأنه إذا نفي الاسم والنسب فإنه يجوز، وفي «المنتقى» : إذا قال الشاهد لغيره: اشهد ولم يقل على شهادتي لم يجز، وقال أبو يوسف رحمه الله: يجوز؛ لأن معناه اشهد على شهادتي، وكذلك لو قال: فاشهد بذلك، ومعنى المسألة أن يحكي الرجل لغيره شهادة نفسه في حادثة لرجل على رجل فقال له: اشهد أو قال: فاشهد بذلك.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين فقالا: نشهد أن فلاناً أشهدنا أنه يشهد أن لفلان على فلان كذا، ولم يقولا: أشهدنا على شهادته، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا أقبل ذلك حتى يقولا: أشهدنا على شهادته، وقال

(8/400)


أبو يوسف: أنا أقبل ذلك. قال في كتاب «الأقضية» : وإذا أشهد الرجل رجلاً على شهادته ثم صار بحال لا تجوز شهادته يعني الأصل، ثم صار بحال تجوز شهادته بأن فسق ثم تاب، ثم إن الفرع شهد على شهادة الأصل جازت شهادته، لأنا إن نظرنا إلى حالة التحمل فالأصل أهل للشهادة والإشهاد، فصح منه التحمل وإن نظرنا إلى حالة الأداء فالأصل أهل للشهادة فتقبل شهادته، وكذلك إن أشهد على شهادته رجلاً بعد ما تاب جازت لصحة الإشهاد باعتبار أهلية الأداء للأصل حالة الإشهاد، وإن أشهد رجلان على شهادتهما وهما عدلان * يعني الفرعان * ثم صارا عدلين، فشهدا أو أشهدا على شهادتهما فهو جائز؛ لأن تأثير الفسق في رد الشهادة مع صحتها لا في بطلان الشهادة، وإن شهد الفرعان عند القاضي شهادتهما لتهمة في الأولين لا نقبلهما بعد ذلك، لا من الأولين ولا ممن يشهد على شهادتهما؛ لأن الفرعين ينقلان شهادة الأصلين فصار كما لو حضرا وشهدا، ورد القاضي شهادتهما لتهمة الفسق، وهناك لا تقبل منهما تلك الشهادة بعد ذلك وإن تابا كذا ههنا، وإن كان رد شهادة الآخرين لتهمة فيهما فشهادة الأولين جائزة إذا كانا عدلين، وكذلك إن أشهدا رجلين عدلين آخرين بخلاف المسألة الأولى.

والفرق: أن في هذه المسألة القاضي أبطل نقل الفرعين لأجل فسقهما، أما ما أبطل شهادة الأصلين؛ لأن شهادة الأصلين لم تصر منقولة إلى مجلسه بنقل الفاسقين، فجازت شهادة الأصل بنفسه، وكذلك جاز له أن يشهد غيره على شهادة نفسه، أما في المسألة الأولى: النقل ثبت بشهادة الفرعين؛ لأنهما عدلان من أجل الشهادة، وقد أبطل القاضي المنقول لفسق الأصلين، فلا يقبلهما بعد ذلك أصلاً.
قال في كتاب الوكالة: إذا أشهد الفاسقان على شهادتهما لم يجز؛ لأن أداء الشهادة عند الفرعين كأدائهما عند القاضي، ثم فسق الشاهد يمنع القاضي عن العمل بشهادته، فكذا فسق الأصلين يمنع الفرعين عن نقل شهادتهما، وإن تابا وأصلحا وشهدا بأنفسهما جاز، وكذلك لو أشهدا على شهادتهما ذلك الشاهدين أو غيرهما جاز.
ولو أن شاهدي الأصل ارتدا ثم أسلما لم تجز شهادة الفرعين على شهادتهما، ولو شهد الأصلان بأنفسهما بعدما أسلما تقبل شهادتهما.
والفرق: أن بالردة لا تبطل أصل شهادة الأصلين؛ لأن سببها المعاينة، وذلك لا ينعدم بالردة، ألا ترى أن اقتران الردة بالتحمل لا يمنع صحة التحمل فلا يمنع البقاء من الطريق الأولى، ولكن بالردة يبطل الأداء، ألا ترى أن اقتران الردة بالأداء يمنع صحة الأداء، فاعتراضها على الأداء قبل حصول المقصود يبطل الأداء أيضاً، وبالإسلام يحدث له أهلية الأداء فيجوز له الأداء، فأما الفرع مأمور من جهة الأصل بنقل شهادته، ولهذا يشترط لصحة الإشهاد الأمر بالنقل من الأصل، قلنا: ولبقاء الأمر حكم الإبتداء إذا كان غير لازم وهذا الأمر غير لازم؛ لأن نهي الأصل عامل، وإذا كان لبقاء هذا الأمر حكم الإبتداء صار كأنه وجد الأمر بالنقل في حالة الإرتداد، والأمر بالنقل بعد الإرتداد لا يصح، وإذا لم يصح صار وجوده والعدم بمنزلة.

(8/401)


وبدون الأمر بالنقل من الأصل لا تصح شهادة الفرع، وهذا الفرق مشكل عندي ثم في هذا الفرق يشير إلى أن نهي الأصل الفرع يعمل.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يعمل وإليه مال الشيخ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ذكر في «شرح الجامع» الذي علقه على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على شهادة عبدين أو مكاتبين أو كافرين على مسلم فردها القاضي بذلك ثم عتق العبدان والمكاتبان وأسلم الكافران وشهدا بذلك أو أشهداهما أو غيرهما على شهادتهما جاز؛ لأن المنقول شهادة الفرعين شهادة الأصلين، ولا شهادة للعبدين ولا للمكاتبين ولا للكافرين على المسلم فلا يكون المردود شهادة، وقد حدث لهما بالإسلام والعتق أهلية أداء الشهادة، فجاز لهما الأداء والإشهاد على شهادتهما.

قال في «الجامع» : إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على القتل خطأ، وقضى القاضي بالدية على العاقلة ثم جاء المشهود بقتله حياً فلا ضمان على الفروع؛ لأنه لم يثبت كذبهما إذ ليس من ضرورة حياته عدم إشهاد الأصول الفروع على شهادتهم، ولكن يرد الوالي الدية على العاقلة؛ لأنه ظهر أنه أخذها منهم بغير حق، ولو جاء الشاهدان الأصلان وأنكرا الشهادة لم يصح إقرارهما في حق الفرعين، حتى لا يجب عليهما الضمان، ولا ضمان على الأصلين أيضاً، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الأصلين لو رجعا عن شهادتهما بأن أقرا أنهما أشهداهما بباطل لا ضمان عليهما عندهما فههنا أحق، وإنما يشكل على قول محمد رحمه الله؛ لأن عنده لو رجع الأصلان عن شهادتهما ضمنا عنده؛ لأن شهادة الأصلين صارت منقولة إلى مجلس القضاء بشهادة الفرعين، فكأنهما شهدا بأنفسهما ثم رجعا حتى ظن بعض مشايخنا أن قول محمد رحمه الله محمول على ما إذا أنكر الأصلان الشهادة، ولم يظهر المشهود بقتله حياً، وبعضهم قالوا: لا بل قول محمد في الكل واحد، والعذر لمحمد أن شهادة الأصلين إنما تصير منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة لأنها موجودة في غير مجلس القضاء (135أ4) حقيقة، والشهادة في غير مجلس القضاء لا يكون سبباً للضمان وأن ظهر كذب الشهود في الشهادة فاعتبر الحكم حال رجوع الأصلين فاعتبرنا الحقيقة متى أنكر الأصلان الشهادة ولم يرجعا عن شهادتهما عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، وإن قال: الأصول قد أشهدناهما بباطل ونحن نعلم يومئذ أنا كاذبين، لم يضمنا شيئاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد العاقلة بالخيار إن شاؤوا ضمنوا الأصول، وإن شاؤوا ضمنوا الولي فإن ضمنوا الأصلين رجعا على الولي، وإن ضمنوا الولي لم يرجع على الأصلين، وجه قول محمد رحمه الله: أن شهادة الأصلين منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة فعملنا بالحقيقة والحكم على الوجه الذي مر وأبو حنيفة

وأبو يوسف قالا: القياس يأبى قبول الشهادة على الشهادة؛ لأن المنقول إلى مجلس القضاء شهادة الأصلين في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء ليست بحجة، والقضاء

(8/402)


بما ليس بحجة لا يجوز، لكن تركنا قصة هذا القياس وجوزنا القضاء بها وجعلنا شهادة الأصلين كالموجود في مجلس القضاء، وفي حق إيجاب الضمان بعد الرجوع يبقى على أصل القياس.
في «المنتقى» : إذا قال الفروع: لا نعرف المشهود عليه بالحق، قبلت شهادتهم نريد به إذا قال الفروع: أشهدنا الأصول على شهادتهم لفلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا، إلا أنا لا نعرف فلان بن فلان المشهود عليه بكذا وكذا، فالقاضي يقبل الشهادة ويأمر المدعي أن يقيم بينة أن الذي أحضره فلان بن فلان هذا هو الكلام في الشهادة على الشهادة وأما الشهادة على الشهادة، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على أنها مقبولة.
وصورة تلك المسألة: رجل ادعى على رجل ألف درهم وجاء بشهود ثلاثة شهد واحد منهم على شهادة شاهدين، على شهادة ثلاثة نفر أنهم شهدوا على إقرار المدعى عليه بألف درهم وشهد من الثلاثة على شهادة أحد الشاهدين بعينه على شهادة الثلاثة الذين هم شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف وشهدوا وشهد واحد آخر من الثلاثة الذين هم أصول بعينه، فالقاضي يقطع بهذه الشهادة حقاً، واعلم بأن هذه المسألة من المسائل التي ظهرت الرواية فيها ظهرت الثلاثة، وإنما تظهر الرواية فيها لو سمينا الأصول الثلاثة على أصل الحق وسمينا الفرعين الذي يشهدان على شهادة الأصول الثلاثة على أصل الحق، فنقول أسماء الأصول الثلاثة: عبد الله ومحمد وصالح، واسم الفرعين اللذين يشهدان على شهادة الأصول الثلاثة زيد وعمرو، وحضر مجلس الحكم ثلاثة، شهد واحد من الذين حضروا مجلس الحكم على شهادة زيد بعينه على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فثبت بشهادتهما شهادة زيد، فكأن زيداً وهو أحد الفرعين حضر نفسه وشهد على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فإذا شهد واحد من الثلاثة الذين حضروا مجلس الحكم على شهادة واحد من الأصول بعينه وهو صالح مثلاً، فقد ثبت شهادة صالح؛ لأنه شهد على شهادته اثنان زيد والذي يشهد على شهادته من الذين حضروا مجلس الحكم أما لم يثبت شهادة محمد وعبد الله؛ لأنه لم يشهد على شهادتهما شاهد واحد وهو أحد الفرعين زيد، فلم يثبت بهذه الشهادة من شهادة الأصول إلا شهادة واحد وهو صالح، وبشهادة الواحد لا يقطع الحكم، فلا يقضي القاضي للمدعي بشيء ما لم يحضر محمد وعبد الله مجلس الحكم، وشهد بنفسه أو شهد شاهد آخر على شهادة عمرو وهو أحد الفرعين على شهادة الأصول الثلاثة لتثبت شهادة عمرو بشهادة شاهدين ويصير كأن عمراً بنفسه حضر مجلس الحكم وشهد على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فتثبت شهادة محمد وعبد الله وصالح بشهادة شاهدين وهما زيد وعمرو، فهذه الثلاثة تدل على أن الشهادة على

الشهادة مقبولة والله أعلم.

(8/403)


الفصل العاشر: في شهادة الشهود بعضهم لبعض
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجل مات ولا يعرف له، فجاء أربعة نفر فشهد كل اثنين منهم للآخرين أن الميت أوصى لهما بثلث ماله، أو شهد كل اثنين منهم للآخرين أنهما ابنا الميت والمشهود لهما يصدقهما في الوصية وفي أنهما ابنا الميت، أو يكذبهما لا تقبل شهادتهما، أما شهادة كل فريق للفريق الآخر بالوصية بالثلث فلأنهما يثبتان الشركة؛ لأن الوصية محل التركة حتى أن الوارث لو أراد أن يعطي الوصية من غير التركة ويستخلص التركة لنفسه لا يملك، وإذا كان من حكم الوصيتين اشتراكهما كانت شهادة كل فريق شهادة لنفسه من وجه، وأما شهادة كل فريق للفريق الآخر بالوراثة يشتركون في التركة، فكانت هذه شهادة لنفسه أيضاً.
وفيه أيضاً: عن محمد رحمه الله في شاهدين شهدا على رجل لرجلين بألف درهم وشهد المشهود لهما للشاهدين على هذا الرجل بدين ألف درهم والمشهود عليه حي فشهادتهما جائزة، لأن الدين يجب في ذمة الحي غير متعلق بماله، فلم تتحقق الشركة بينهما، ولهذا لا يشارك بعضهم بعضاً فيما قبض، فانعدم معنى التهمة فقبلت شهادتهما، ولو كان المشهود عليه ميتاً لا تقبل هذه الشهادة، وقال محمد رحمه الله: هي عندي جائزة، هكذا ذكر ابن سماعة فقد ذكر محمد أولاً أن شهادة الفريقين على الميت غير مقبولة، وقال بعد ذلك: وهي عندي جائزة، أشار إلى أن ما ذكرنا أولاً قول غيره، ولم يذكر أنه قول من، وقد ذكر الخصاص: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل هذه الشهادة، وهكذا ذكر في «الأمالي» وذكر في «الجامع الصغير» أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تقبل هذه الشهادة وهكذا ذكر في وصايا «المبسوط» .
وجه الرواية التي قال: إن الشهادة باطلة ما ذكرنا أن الدين بعد الموت على التركة، وتصير التركة مشتركة بين الغرماء معنى، ألا ترى أن الدين إذا كان مستغرقاً إذا قبض أحد الغرماء شيئاً كان للباقين حق المشاركة، فقد شهدا بما لهما فيه شركة.
وجه رواية الجواز: أن الدين حالة الحياة يجب في الذمة، وبعد الموت يتحول إلى التركة يعني أن التركة تصير مستحقة به، ألا ترى أن الوارث لو أراد أن يقضي الدين من ماله ويستخلص التركة لنفسه كان له ذلك فكانت هذه شهادة بما لا شركة لهما فيه فتقبل.
وروى الخصاف عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنهم إذا جاءوا معاً لا تقبل شهادتهم وإن جاءوا متفرقين تقبل؛ لأنهم إذا جاءوا مجتمعين فقد تمكنت تهمة المواضعة، يصير كأن كل فريق يقول للفريق الآخر: اشهدوا لنا على أن نشهد لكم، فتتفاحش التهمة فيمنع قبول الشهادة، فأما إذا جاءوا متفرقين تقل التهمة ولا تتفاحش، فلا

(8/404)


يمنع قبول الشهادة ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه.

ولكن ادعى رجلان داراً أو عبداً أو عرضاً من العروض في يدي ورثة الميت أن الميت غصبه ذلك، وشهد لهما شاهدان بذلك، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين ألف درهم فإن الشهادة كلها جائزة، كذا ذكره الخصاف رحمه الله، وهذا يجب أن يكون على الروايات كلها؛ لأن تهمة الشركة لا تتأتى ههنا، وكذلك لو لم يدعيا الغصب ولكن ادعيا الشراء من الميت ونقد الثمن، كان الجواب كما قلنا في دعوى الغصب؛ لأن ما باعه الميت في حياته لا يكون تركة له، فلا يتعلق حق الغرماء بذلك العين فلا تتأتى تهمة الشركة، وهذا يجب أن يكون على الروايات كلها، وكذلك إذا ادعى أحد الفريقين عيناً وادعى الفريق الآخر عيناً آخر تقبل شهادتهم، وهذا أيضاً يجب أن يكون على الروايات كلها، وكذلك إذا ادعى أحد الفريقين الوصية بعد تعيينه، وادعى الفريق الآخر الوصية بعين آخر قبلت شهادتهم بالاتفاق، ولو ادعى أحدهما الوصية بالثلث وادعى الآخر الوصية بعد بعينه أو بعين آخر لا تقبل شهادة الفريقين؛ لأن صاحب الثلث يشارك الآخر في العبد فيتمكن تهمة الشركة وفي المسألة إشكال، وكذلك لو ادعى أحدهما الوصية بالثلث وادعى الآخر الوصية بالسدس لا تقبل شهادة الفريقين؛ لان تهمة الشركة تتأتى ههنا، وفي كل موضع لا تقبل شهادة الفريقين لا تقبل شهادة ابنيهما وأبويهما ونسوتهما مع رجل آخر، وفي كل موضع تقبل شهادتهما تقبل شهادة ابنيهما وأبويهما وامرأتيهما مع رجل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وقعت الشركة في المشهود به لا تقبل شهادتهما، وإذا لم يقع في المشهود به شركة، فإن كان القاضي يعرفهما بالعدالة قبلت شهادتهما (135ب4) .

وإن لم يعرفهما بالعدالة أو شك في أمرهما، لا تقبل شهادتهما، لأن كل فريق يجر النفع إلى الآخر فيتمكن تهمة المواضعة، فيتفحص القاضي من حالهما ولا تقبل شهادتهما حتى يظهر عنده عدالتهما، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن ادعى عيناً في يدي إنسان فقال ذو اليد: إنه لفلان أودعنيه، وأقام البينة على ذلك لا تندفع عنه الخصومة إن كان معروفاً بالحيل والأباطيل، وإن كان معروفاً، بالعدالة والأمانة، تندفع عنه الخصومة، فما روي عنه هاهنا مستقيم على أصله، ولو شهد أحد الفريقين لصاحبه بالدراهم، وشهد الآخر بالدنانير، تقبل شهادة الفريقين، ذكره في «البقالي» .
وفي «المنتقى» رجل في يديه دار مات فجاء أربعة رجال وادعى رجلان منهم نصف الدار شائعاً أنهما اشترياه من الميت، وشهد لهما الآخران بذلك ثم ادعى الآخران أنهما اشتريا النصف الباقي من الميت، وشهد لهما المدعيان الأوليان، فإن شهادتهم باطلة؛ لأنهم يصيرون شريك في الدار، وكذلك إذا كان القاضي قد قضى للأولين ثم ادعى الآخران وشهد لهما الأولان، فإني أبطل القضاء كله، وإن كانت الشهادة على نصف دار مقسومة لهذين، وعلى نصف دار مقسومة لهذين فإن كان لكل نصف باب على حده وطريق على حده فالشهادتان جائزتان، وإن كان بابهم واحداً وطريقهم واحداً أبطلت

(8/405)


شهادتهم، وإن أشهدا أبناء الميت أو غيرهما لرجلين على الميت بدين، ثم شهد هذان المشهود لهما لرجلين آخرين على الميت بدين جازت شهادتهم، لأنه لا تهمة في هذه الشهادة؛ لأنه عسى يلحقهما ضرر بنقصان حقهما إذا لم تف التركة بحقهما ولا تعلق لدين الغير بدينهما فقبلت شهادتهما لهذا.5

وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا شهد رجلان لرجلين أنهما ابنا الميت، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين، لا تقبل شهادتهما؛ لأن حق الغريم يثبت في التركة كما أن حق الوارث يثبت في التركة، فيتمكن تهمة الشركة في هذه الشهادة.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل له على ميت دين فقضى القاضي له بدينه، وقد ترك الميت وفاء مما عليه من الدين، ثم إن المقضي له شهد لورثة الميت بحق للميت لا تجوز شهادته؛ لأن ذمة الميت إذا حرمت بالموت يتعلق الدين بتركته، فإذا شهد الغريم بحق للميت فقد شهد بما هو متعلق حقه، فكانت هذه شهادة لنفسه فتقبل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجلين لهما على رجل ألف درهم بينهما نصفان، فشهد أحدهما على صاحبه ورجل آخر أنه أقر أن اسمه في الصك عارية وأن حصته من ذلك المال لفلان، قال: شهادة الشريك جائزة؛ لأن هذه شهادة استجمعت شرائطها ولا تهمة فيها، لأن الشريك بهذه الشهادة لا يجّر إلى نفسه مغنماً، ولا يدفع عن نفسه مغرماً، أقصى ما في الباب أنه يتوهم له نوع منفعة هاهنا بإبطال حق الرجوع على المشهود عليه في الثاني إذا قبض الشاهد نصيبه من الألف، إلا أن هذا وهم عسى أن لا يكون بأن يقبضا جميعاً أو يبرئا الأجراء فهو عن نصيبه، ولا يجوز رد شهادة استجمعت شرائطها بالوهم ولو كان قبض من المال نصفه أو شيئاً منه ثم شهدا لهذا لم أقبل شهادتهما، لأنه ثبت لشريكه حق مشاركته فيما قبض، فهو بهذه الشهادة يريد إبطال ذلك الحق.
قال: وإنما هذا بمنزلة ثلاثة نفر لهم على رجل ألف درهم، فشهد اثنان منهم على الثالث أنه أبرأ الغريم عن حصته، إن شهدا قبل أن يقبضا شيئاً من المال، قبلت شهادتهما وإن شهدا بعدما قبضا شيئاً من المال، لا تقبل شهادتهما؛ لأن بعد القبض بشهادتهما يريدان إبطال حق المشاركة على الشريك فيما قبضا، ولا كذلك قبل القبض فكذا هاهنا.

الفصل الحادي عشر: في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة، اتفقت مللهم أو اختلفت وكذلك شهادة أهل الذمة على المستأمنين مقبولة، وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض مقبولة، إذا كانوا من أهل دار واحدة، وإن كانوا من أهل دارين مختلفين، كالروم والترك لا تقبل

(8/406)


وأما شهادة المرتد والمرتدة فلا ذكر لها في شيء من الكتب، وقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تقبل على الكفار، وقال بعضهم: تقبل على مرتد مثله، والأصح أنها لا تقبل على كل حال، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا أجيز شهادة اليهودي والنصراني وغيرهما من أهل الذمة إذا سكروا؛ لأن السكر حرام في الأديان كلها، فيوجب سقوط العدالة، وإذا شهد شاهدان من أهل الكفر على شهادة شاهدين من أهل الإسلام على كافر لا تقبل شهادتهما؛ لأنها شهادة على كافر قامت على إثبات أمر على المسلم؛ لأنها قامت على إثبات شهادة المسلم، فلا تقبل قياساً على ما لو شهدا على المسلم بمال، وكذلك إذا شهدا على قضاء قاض من قضاة المسلمين لكافر على كافر، لا تقبل شهادتهما لأنها قامت على إثبات أمر على المسلم، لأنها قامت على القاضي بإثبات قضائه، وهذا بخلاف ما لو شهدا على كافر بمال، فإنه تقبل شهادتهما وإن كان فيه إيجاب القضاء على القاضي المسلم، وذلك لأن إيجاب القضاء على القاضي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً ولا اقتضاءً.

أما نصاً: فلا شك، وأما اقتضاء: فلأن المقتضي ما يثبت ضرورة المنصوص عليه ولا ضرورة للمنصوص عليه وهو الوجوب على المشهود عليه، إلى وجوب القضاء بذلك على هذا القاضي المعين؛ لأنه مما ينفك عنه في الجملة بأن لا يكون قاضياً، والمقضي إنما يثبت ضرورة المنصوص عليه إذا كان لا ينفك عنه بحال، فهو معنى قولنا: إن وجوب القضاء على القاضي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً ولا اقتضاءً فلا يمنع قبول شهادتهما؛ ولا هاهنا شهدا على إثبات أمر على المسلم نصاً ومثل هذه الشهادة لا تقبل، ونظير هذا ما قال محمد رحمه الله في كافر مات وأوصى إلى مسلم، فشهد كافران بدين على الميت، فإن القاضي يقبل شهادتهما وإن كان لو قبل هذه الشهادة يجب قضاء الدين على الوصي وهو مسلم؛ لأن وجوب قضاء الدين على هذا الوصي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً وهذا ظاهر، ولا يقتضي وجوب الدين على الميت؛ لأنه ليس من ضرورة وجوب الدين على الميت وجوب القضاء على هذا الوصي، فإنه لو لم يكن هو وصياً لا يجب عليه قضاء الدين، فلم يمتنع قبول شهادتهما كذا هاهنا.

قال: أمة في يدي رجل كافر اشتراها من مسلم، أو وهبها من مسلم، أو تصدق بها عليه مسلم، ثم جاء كافر وادعى لنفسه ملكاً مطلقاً، وأقام على ذلك شاهدين كافرين، فشهدا له بالملك المطلق، قال أبو حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أولاً: لا تقبل هذه الشهادة أصلاً، وقال أبو يوسف آخراً: تقبل هذه الشهادة ويقضى لها على المشتري خاصة، ولا يقضي بها على غيره حتى لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن.
وجه قول أبي يوسف آخراً: أن هذه شهادة كافر قامت على كافر وهو المشتري باستحقاق الملك عليه، وقامت على مسلم وهو البائع بالرجوع عليه بالثمن، وأمكن القضاء بها في حق الكافر فيقضى بها للكافر، قياساً على ما لو شهد كافران على كافر ومسلم بدين ألف درهم، فإنه تقبل شهادتهما على الكافر، ولا تقبل شهادتهما على

(8/407)


المسلم، بيان إمكان القضاء في حق الكافر: أن يقضي بالملك للمدعي بسبب جديد من جهة المدعى عليه، وهذا لأن الشهود وإن شهدوا بالملك المطلق إلا أن الملك المطلق يحتمل الملك الحادث، فيحتمل أن الشهود عاينوا بسبب الملك فيما بينهما، لكن لم يذكر السبب في شهادتهما، فيحمل على هذا الوجه، تصحيحاً للشهادة بقدر الممكن، ولهما أن هذه شهادة كافر قامت على كافر ومسلم، وتعذر القضاء بها في حق الكافر، فلا تقبل أصلاً قياساً على ما لو شهد كافران لكافر على كافر، أن القاضي قضى لهذا على هذا بكذا، فإنه لا تقبل هذه الشهادة أصلاً، وإنها لا تقبل لما قلنا. وبيان تعذر القضاء بها في حق الكافر: أن الشهود شهدوا بالملك المطلق للمدعي والشهادة بالملك المطلق شهادة بالملك من الأصل؛ ألا ترى أنه يستحق العين بزوائده المتصلة والمنفصلة جميعاً، ولا يمكن القضاء بالملك في حق المشتري من الأصل إلا بالقضاء بالملك من الأصل في حق البائع؛ لأنه ما بقي الملك للبائع لا يكون الملك لهذا المدعي من الأصل فإن قيل الشهادة بالملك المطلق إنما تكون شهادة بالملك من الأصل إذا كانت الشهادة (136أ4) حجة للقضاء بالملك من الأصل، كشهادة المسلمين أما إذا لم يكن حجة للقضاء بالملك من الأصل يجعل شهادة بالملك الحادث بسبب حادث من جهة المدعى عليه، ألا ترى أن الإقرار بالملك المطلق جعل إقراراً بملك حادث، وإن كان الإقرار إخباراً في موضوعه حتى صح بالحق.

والجواب: أن الإقرار يخالف الشهادة، لأن الإقرار بالملك المطلق فيما يقبل النقل من ملك إلى ملك جعل إقراراً بملك جديد من حيث الحكم كأن المقر قال: هذا لفلان؛ لأني ممكنه منه، ولهذا لا يستحق المقر له المقر به بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ولا يكون للمقر الرجوع على بائعه، ولو أن المقر نصّ على ملك جديد للمقر له بسبب جديد من جهة يتعذر القضاء بالملك من الأصل من حيث الحكم كأن الشهود قالوا: هذا ملك هذا المدعي من الأصل حتى يستحق العين بالزوائد المتصلة والمنفصلة ويرجع المستحق عليه على بائعه بالثمن، ولو نص الشهود على هذا يتعذر القضاء بالملك الجديد بالسبب الجديد من جهة المستحق عليه، فكذا إذا جعل في الحكم هكذا إذا مات الكافر وترك اثنين وترك ألفي درهم فاقتسماهما بينهما، ثم أسلم أحدهما ثم جاء كافر وادعى لنفسه ديناً على الميت، وأقام على ذلك شاهدين كافرين، قال في «الكتاب» : أجزت ذلك في حصة الكافر خاصة؛ لأن شهادة الكافر حجة في حق الكافر دون المسلم، فثبت الدين بهذه الشهادة في حق استحقاق نصيب الكافر وإبطال يده عليه، لا في حق استحقاق نصيب المسلم وإبطال يده عليه، إذا مات الكافر وجاء مسلم وكافر وادعى كل واحد منهما ديناً، وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر، قال في «الكتاب» أجزت بينة المسلم وأعطيت حقه فإن بقي شيء كان للكافر، وروى الحسن بن زياد وعن أبي حنيفة أن التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما؛ لأن كل واحد منهما يثبت دينه على الميت، وما أقام كل واحد منهما حجة على الميت، وجه ظاهر الرواية: أن دين الكافر ثبت في حق

(8/408)


الميت وفي حق الغريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت أما لم يثبت في حق الغريم المسلم؛ لأن حجة المسلم حجة على الميت والكافر؛ وحجة الكافر حجة على الميت وليس بحجة على المسلم، أو المزاحمة إنما تثبت عند المساواة وإنما تثبت المساواة إذا ثبت دين كل واحد من الغريمين في حق صاحبه، فهو بمنزلة الدين

المقر به في حالة الصحة مع الدين المقر به في حالة المرض.
مسلم له عبد كافر أذن له بالبيع والشراء، فشهد عليه شاهدان كافران بشراء أو بيع جازت شهادتهما عليه؛ لأن هذه شهادة كافر قامت على إثبات أمر على الكافر.
فإن قيل: هذه الشهادة كما قامت على العبد قامت على المولى، فإنه يستحق مالية المولى متى ثبت الدين على العبد المأذون والمولى مسلم.
قلنا: استحقاق مالية العبد غير مضاف إلى الشهادة لا نصاً وهذا الظاهر ولا اقتضاء؛ لأنه ليس من ضرورة وجوب الدين على العبد بسبب البيع والشراء استحقاق مالية المولى، وألا ترى أن العبد لو كان محجوراً، واشترى لا يستحق به مالية المولى مع أن الثمن وجب عليه بالشراء حتى يؤاخذ به بعد العتق، إذا لم يكن استحقاق مالية المولى مضافاً إلى شهادة الكافر لا تمنع بسببه قبول شهادة الكافر، ولو كان الكافر كافراً والعبد المأذون مسلم لا تقبل شهادة الكافر؛ لأن هذه شهادة كافر قامت على إثبات أمر على المسلم نصاً.

ولو كان كافر وكل مسلماً بشراء أو بيع لم أجز على الوكيل الشهود إلا مسلمين، ولو أن مسلماً وكل كافراً بذلك أجزت على الوكيل الشهود من أهل الكفر، وهو يخرج على ما ذكرنا من المعنى في فصل العبد.
وفي «النوادر» : وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا وكل النصراني مسلماً يبيع له ثوباً، أو اشترى له ثوباً، فشهد عليه نصرانيان بالبيع وهو يجحد أن ذلك جائز وكذا الشراء.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : نصراني مات وترك مئة درهم لا غير، فأقام مسلم شاهدين نصرانيين عليه بمئة درهم بينهما يقضي للمسلم المتفرد بثلثي المئة، ويقضي بثلث المئة بين الشريكين نصفان؛ لأن النصراني الشريك أقام ما ليس بحجة على المسلم المنفرد؛ لأنه يتضرر به فيطلب بينة النصراني للشريك، فإذا بطلت بينة النصراني للشريك، بقي المسلم الشريك والمسلم المنفرد وكل واحد منهما أقام ما هو حجة على الميت دون صاحبه فاستويا، فنصرت المسلم المنفرد بحقه وذلك مئة، والمسلم الشريك بحقه وذلك خمسون، فقسمت المئة بينهما أثلاثاً، ثم النصراني الشريك يأخذ من شريكه المسلم نصف ما أخذ لتصادقهما أن الدين مشترك بينهما.
فإن قيل: أليس إن كل واحد من المسلمين يتضرر بشهادة شهود صاحبه وهم كفار، فينبغي أن لا تقبل؟.
قلنا: الضرر عليهما في امتناع القبول فوق الضرر عليهما في القبول، فإن عند قبول

(8/409)


الشهادتين يصل إلى كل واحد من المسلمين بعض حقه، وعند عدم القبول لا يصل إلى كل واحد من المسلمين شيء، وعند التعارض يتحمل الأدنى لدفع الأعلى، ولو كان مكان المسلم المنفرد نصرانياً منفرداً وباقي المسألة بحاله فالمئة تقسم بينهم أثلاثاً لكل واحد الثلث، لأن بينة النصراني المنفرد غير مقبولة على المسلم الشريك لما مر، وبينة المسلم الشريك حجة في حق النصراني المنفرد، فيأخذ المسلم الشريك حقه وذلك خمسون، بقي من التركة خمسون وقد تنازع فيهما نصرانيان، وأقام كل واحد ما هو حجة على صاحبه إلا أن حق النصراني المنفرد في المئة، وحق النصراني الشريك في خمسين فيقسم للنصراني الشريك، وذلك ستة عشر وثلثان، ثم ما في يد النصراني الشريك يضم إلى ما في يد شريكه المسلم فيصير ستة وستون وثلثاً، تقسم بينهما نصفين لتصادقهما على التركة فنصيب كل واحد في الحاصل ثلث المئة فلهذا قال: تقسم المئة بينهم أثلاثاً ولو كان شهود الشريكين مسلمين، وشهود النصراني المنفرد نصراني، وباقي المسألة بحاله كان هذا والأول سواء؛ لأن المسلم الشريك أقام ما هو حجة في حق النصراني المنفرد؛ والنصراني المنفرد أقام ما ليس بحجة في حق المسلم الشريك، فيطلب بينة النصراني المنفرد في حق المسلم فيأخذ المسلم حقه وذلك خمسون بقي من التركة خمسون، وقد تنازع فيه نصرانيان وأقام كل واحد ما هو حجة على صاحبه فيقسم بينهما على قدر حقوقهما أثلاثاً، ثم الباقي إلى آخر ما مر قبل هذا، فإن كان شهود النصراني المنفرد مسلمين وشهود الشريكين نصارى، وباقي المسألة بحالها يقضي للنصراني المنفرد بنصف المئة ويقضي بالنصف الآخر للشريكين؛ لأن المنفرد أقام ما هو حجة على الشريكين، وهما أقاما ما هو حجة على المنفرد فلهذا قسمت المئة نصفين.

قال: نصراني مات وترك مئتي درهم وترك ابنين نصرانيين فأسلم أحدهما، ثم جاء رجل وادعى على الميت مئة درهم فأقام شاهدين نصرانيين، فإن القاضي يقضي بذلك في نصيب الكافر؛ لأن ما أقام المدعي حجة على الابن النصراني دون الابن المسلم لما فيها من الضرر للمسلم، فلم تصح على المسلم وصحت على الكافر فيستوفي الدين من نصيب من صحت البينة عليه، كما لو أقر أحد الابنين بذلك ولا يدخل الابن النصراني على أخيه المسلم في نصيبه، قال محمد في الكتاب: ولا يشبه هذا الدين وأراد به المسألة الأولى، فإن هناك المسلم الشريك إذا أخذ شيئاً من المئة يدخل عليه الشريك النصراني، وهاهنا الابن النصراني لا يدخل على أخيه المسلم في نصيبه.
والفرق بينهما: أن النصراني الشريك إنما يزاحم المسلم الشريك بسبب الدين، ودين النصراني ثابت في ذمة الميت، لم يرد عليه الاستحقاق، إنما ورد الاستحقاق على المال الذي نفع به القضاء، فيبقى دينه في ذمة الميت، ويجعل ما أخذه المسلم كالهالك، وإذا بقي دين النصراني الشريك وجبت الشركة في باقي المال، فأما الميراث إنما يجب بعد الدين، فإذا ثبت الدين في حق الابن الكافر بطل به ميراثه والشركة بناء عليه، فإذا بطل الميراث بطلت الشركة، وفي مسألة الدين إذا بقي تثبت الشركة في محل الحق فلهذا

(8/410)


(136ب4) افترقا وذكر عين هذه المسألة في «المنتقى» .
وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله: إني أقضي بنصف الدين في حصة النصراني وأبطل النصف، وذكر عن أبي يوسف رحمه الله أني أقضي بذلك في حصة النصراني، ولا أقضي على المسلم بشيء وتبين بما ذكر في «المنتقى» أن المذكور في قول أبي يوسف ومحمد وستأتي هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مسلم ادعى أن فلاناً النصراني مات، وأوصى إليه وأقام شهوداً من نصارى فإن أحضر غريماً نصرانياً قبلت الشهادة عليه قياساً واستحساناً، وعدى إلى غيره لما نبين بعد هذا في الوكالة، وأما إذا أحضر غريماً مسلماً، القياس: أن لا تقبل شهادتهم عليه، وهو قول محمد رحمه الله أولاً وفي الاستحسان تقبل.
وجه القياس: أن هذه شهادة الكافر على المسلم مقصوداً فلا تقبل، وجه الاستحسان: ما أشار إليه محمد في «الكتاب» : أن موت النصارى لا يحضره المسلمون، ومعنى هذا الكلام أن الإيصاء غالباً إنما يكون حالة الموت في دورهم، والمسلمون لا يحضرون دورهم عند موتهم غالباً، فلو لم تقبل شهادتهم على المسلم في إثبات الموت والإيصاء أدى إلى ضياع حقوقهم المتعلقة بالموت والإيصاء فتقبل إحياءً لحقوقهم، وإن كان الإحياء قد يحصل بحضرة المسلمين اعتباراً للغالب، ألا ترى أن شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال صارت حجة للضرورة، وإن كان الحادثة بحال يجوز للرجال حضور تلك الحادثة لتحمل الشهادة اعتباراً للغالب، كذا هاهنا والذي بينا من الجواب في الوصاية فهو الجواب في النسب، حتى لو أقام نصراني بينة من النصارى، أن فلاناً مات وأنه ابنه ووارثه لا يعلمون وارثاً غيره وأحضر غريماً للميت كافراً، تقبل شهادتهم قياساً واستحساناً، فإن أحضر غريماً مسلماً، القياس: أن لا تقبل لما مر، وفي الاستحسان تقبل؛ لأن النسب إنما يثبت بالفراش والفراش إنما يثبت بالنكاح ونكاح أهل الذمة إنما تكون في دورهم غالباً ولا يحضره المسلمون في الغالب فلو لم تقبل شهادتهم أدى إلى تضييع حقوقهم المتعلقة بالنسب.

ولو أن مسلماً أدى وكالة من نصراني بكل حق له بالكوفة وأحضر غريماً مسلماً وأقام عليه شهوداً نصرانياً لا تقبل؛ لأن هذه (شهادة) نصراني قامت على المسلم مقصوداً فلا تقبل، فرق بين الوصاية والوكالة، والفرق ما ذكرنا: أن الإيصاء غالباً يكون حالة الموت في دورهم والمسلمون لا يحضرون دورهم عند موتهم غالباً، فقبلنا شهادتهم صيانة لحقهم عن البطلان، أما الوكالة فتقع خارج دورهم غالباً، والمسلمون يخالطوهم خارج دورهم، فأمكن إشهاد المسلمين عليها، فلا ضرورة إلى قبول شهادة أهل الذمة، فإن أحضر نصرانياً قبلت شهادتهم لكونها حجة على النصراني، وإذا قبل القاضي هذه الشهادة وقضى له بالوكالة كان ذلك قضاءً على جميع الغرماء من المسلمين وغيرهم، حتى لو أحضر غريماً مسلماً بعد ذلك، وهو يجحد وكالته، لم يكلفه القاضي إقامة البينة على

(8/411)


الوكالة في حق جميع من كان بالكوفة لما مر قبل هذا، وقد يثبت الشيء ضرورة غيره، وإن كان لا يثبت مقصوداً بينته، كعزل الوكيل لا يثبت حال غيبة الوكيل مقصوداً، ويثبت ضرورة نفاذ بيع ما يوكل ببيعه كذا هاهنا.
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل مات وترك ابنين، أحدهما مسلم والآخر نصراني، فقال المسلم منهما: أسلم أبي قبل موته وأنا وارثه، وقال النصراني: إنه لم يسلم وأنا وارثه، فالقول قول النصراني منهما؛ لأنه عرف كونه كافراً، فالنصراني تمسك بالأصل وهو بقاء الكفر، والمسلم يدعي زواله بالإسلام، فكان القول قول من يدعي البقاء، ولأن اختلاف الدينين مانع من جريان الإرث وقد عرف وجود، فإذا ادعى الابن المسلم الإسلام فقد ادعى زوال المانع، والابن ينكر، والقول قول المنكر ولكنه يصلي على الميت بإخبار الابن المسلم أنه أسلم لأنه أخبر بخبر ديني وهو وجوب الصلاة عليه، وخبر المسلم الواحد في أمور الدين مقبول، فيصلي عليه وليس من ضرورة الصلاة عليه ثبوت استحقاق الميراث للابن المسلم، لأنه ينفصل أمر الصلاة عن الميراث في الجملة فلم يكن من ضرورة استحقاق الميراث للابن المسلم، ولو أقام المسلم نصرانيين أنه مات مسلماً وأقام النصراني مسلمين أو نصرانيين أنه مات نصرانياً قضيت بالميراث للمسلم منهما، أما إذا أقام النصراني نصرانيين؛ لأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على النصراني، والابن النصراني أقام ما ليس بحجة على الابن المسلم، وأما إذا أقام النصراني مسلمين؛ فلأنه وإن أقام ما هو حجة على المسلم ولكن مع هذا ترجحت بينة المسلم لوجهين.

أحدهما: أن البينات للإثبات وبينة المسلم تثبت أمراً حادثاً وهو الإسلام ويثبت استحقاق الميراث للابن المسلم وبينة النصراني تنفي ذلك، فلهذا جعلنا القول قول الابن النصراني، لأنه ينفي استحقاق الابن المسلم، فتكون البينة بينة المسلم؛ لأنه يثبت الاستحقاق لنفسه.

الوجه الثاني: أن الإسلام أقوى قال عليه السلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» فكان الترجيح لبينة المسلم من هذه الوجوه، ولهذا قلنا: إن المولود بين مسلم وكافر يكون مسلماً تبعاً للمسلم بهما لقوة الإسلام، كذا بهذا، وأما حكم الصلاة فإنه يصلى عليه لا بالشهادة فإن الشهود نصارى فلا تقبل شهادتهم في الأمور الدينية، والصلاة أمر ديني، ولكن لإخبار الابن المسلم بإسلامه، وخبره حجة في حق الصلاة عليه كما ذكرنا، فإن كان للميت بنون صغار ورثتهم عن الميت مع ابنه المسلم، وجعلتهم مسلمين؛ لأنه لما قضى بالميراث للابن المسلم بالبينة فقد قضى بإسلام الأب لا محالة ليمكن توريث

(8/412)


المسلم منه، فإذا جعلناه مسلماً لابد من الحكم بإسلام أولاده الصغار تبعاً له؛ لأنهم يتبعون خير الأبوين في الدين، قال في «المنتقى» : فلو لم يقم الابن المسلم بينة على إسلام أبيه قبل موته حتى ادعى رجل على الميت ديناً، وأقام بينة من النصارى على إسلام الأب قبل موته قال محمد رحمه الله: إن كان الغريم مسلماً لم أبطل دينه بشهادة أهل الذمة ولم أرد القضاء، وإن كان ذمياً رددت القضاء وأنفدت للابن المسلم جميع الميراث، أما إذا كان الغريم ذمياً؛ فلأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على الابن النصراني وعلى الغريم فثبت وراثته واستحقاقه التركة، ولم يثبت استحقاق الغريم بما أقام من الحجة؛ لأن ما أقام من الحجة، ليست بحجة لا في حق الابن المسلم ولا في حق الميت لأنا حكمنا بإسلامه ضرورة الحكم بميراثه للابن المسلم، وأما إذا كان الغريم مسلما فلأن ما أقام الابن المسلم من الحجة ليست حجة في حق الغريم، فلم تثبت وراثة الابن المسلم في حق الغريم، فلا يحتاج الغريم إلى إقامة البينة على الابن المسلم، وإنما يحتاج إلى إقامتها على الابن النصراني، وما أقام الغريم حجة في حق الابن النصراني.a

قال: ولو لم يكن يترك الميت مالاً وأقام الابن المسلم شهادة من النصارى على أنه مات مسلماً، وأراد أحد أخويه الصغار لم تقبل بينته عل ذلك، بخلاف ما إذا ترك مالاً.
والفرق: أنه إذا ترك مالاً فبينة الابن المسلم من أهل الذمة إنما تقبل على المال وعلى الميراث، ومن ضرورة قبولها على الميراث القضاء بإسلام الميت، فيتعدى ذلك إلى أولاده الصغار، فأما إذا لم يترك مالاً لا يمكن قبول بينة أهل الذمة على المال لانعدامه، ولا يمكن قبولها على إسلام الميت وحده، لأنه أمر ديني، وشهادة أهل الذمة لا تقبل في الأمور الدينية، وهذا الحكم لا يختص بهذا الموضع بل في كل موضع يشهد قوم من أهل الذمة على إسلام ميت، إن كان الميت لم يترك مالاً تقام البينة لأجله لا تقبل شهادتهم ولا يحكم بإسلامه، وروى «المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا أقبل شهادة أهل الذمة على إسلام الكافر في حالة الحياة وأقبلها بعد الموت، وإن لم يكن له ميراث يجب لأحد بشهادتهم، وروى عمرو عن محمد رحمه الله في «الإملاء» رجل من أهل الذمة مات فشهد مسلم عدل أو مسلمة أنه أسلم قبل موته (137أ4) وأنكر أولياؤه من أهل الذمة ذلك، فميراثه لأوليائه من أهل الذمة بحاله وإنه ظاهر، قال: وينبغي للمسلمين أن يغسلوه ويكفنوه ويصلون عليه، وكذلك إن كان محدوداً في قذف يعني المخبر بعد أن يكون عدلاً، قال: وشهادة الفساق من المسلمين على إسلامه لا تقبل ولا يصلى عليه بشهادتهم، قال: ولو شهد على إسلام النصراني رجل وامرأتان من المسلمين، وهو يجحد أجبر على الإسلام ولا تقبل.

ولو شهد عليه رجلان من أهل دينه وهو يجحد فشهادتهما باطلة، قال: لأن في زعمهم أنه مرتد ولا شهادة لأهل الذمة على المرتد، ولو قال الابن المسلم: لم يزل كان مسلمااً وقال النصراني: لم يزل كان نصرانياً، فالقول قول المسلم، لأن كل واحد منهما يدعي ما هو أصل من وجه حادث من وجه، أما الابن المسلم فلأنه يدعي الإسلام

(8/413)


والإسلام أصل في بني آدم من وجه من حيث إنهم أولاد آدم وحواء وهما كانا مسلمين وحادث من وجه، من حيث إنه علم بالله تعالى ورسله وكتبه والعلم حادث، وأما الابن النصراني فلأنه يدعي الكفر، والكفر أصل من وجه من حيث إنه جهل والجهل أصل في الأدمي حادث من وجه من حيث إن الأصل في الأدمي الإسلام تبعاً لآدم وحواء، فهو معنى قولنا: إن كل واحد منهما يدعي ما هو الأصل من وجه، وما هو حادث من وجه، فاستويا من هذا الوجه وترجح دعوى الابن المسلم لقوة الإسلام وعلوه، فجعلنا القول قول الابن المسلم، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الابن المسلم أيضاً، لأنها تثبت أمرا حادثاً وهو العلم.
ولو أن الابن المسلم، أقام بينة على إسلام الأب قبل موته من المسلمين، لم أقبل ذلك حتى يصفوا الإسلام.

وكذلك إذا أشهد شاهداً ادعى على نصراني حي أنه أسلم لا تقبل شهادتهما حتى يصفوا الإسلام، وهذا لأن الشاهدين عسى لا يعرفان ما يصير الكافر به مسلماً وما يحتاج إليه لدخوله في الإسلام، فإن لذلك شرائط وبعضها خفية، ويحمل ما عندهما غير ما هو عند القاضي، فلا بد من الوصف حتى ينظر القاضي فيه إن كان ذلك يوجب دخوله في الإسلام، يجعله مسلماً ومالا فلا، ألا ترى أنا شرطنا لقبول الشهادة على الزنا أن يفسر الشهود الزنا، لأنهم عسى يعرفون من أنواع الزنا أنه يوجب الحد، ولا يكون كذلك كذا هاهنا.

وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله في آخر «شرح السير» أن الشاهد إذا كان فقيهاً تقبل شهادته من غير أن يصف الإسلام، وإذا كان جاهلاً لا تقبل شهادته ما لم يصف الإسلام.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: فإن كان الشهود غريم المسلم من المسلمين وقضيت بشهادتهم بحضرة الابن النصراني، ثم جاء الابن المسلم ببينة من أهل الذمة أن الأب مات مسلماً؟ قال محمد رحمه الله: هو الوارث فيما كان للنصراني الميت من المال، ولا يقضي على الغريم بشيء، لأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على الابن النصراني دون الغريم المسلم، والقضاء بحسب الحجة، فيقتصر القضاء على الابن النصراني، واستشهد بما إذا كان البنون ثلاثة: أحدهم مسلم والآخران نصرانيان، فاقتسم النصرانيان الميراث نصفين، ثم أسلم أحد الابنين النصرانيين، ثم أقام الابن المسلم بينة من أهل الذمة أن الأب مات مسلماً، فإني أقضي له على الوارث الذي لم يسلم ولا أقضي له على الذي أسلم، وطريقه ما قلنا.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: فإذا كان الغريم والابن المسلم أقام كل واحد منهما شاهدين ذميين، قال: إذا جاؤوا معاً فالخصم هو المسلم، لأنه يثبت وارثه بما أقام من البينة، وإنما تقبل بينة الغريم على الوارث، فإذا كان الوارث مسلماً فشهادة أهل الذمة ليست بحجة عليه، فلا يستحق الغريم بها شيئاً.

(8/414)


قال ابن سماعة: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال في نصراني مات وترك ألف درهم، فأقام مسلم شهوداً من النصارى على ألف درهم له على الميت، وأقام نصراني شاهدين من النصارى على ألف درهم له على الميت، وأقام نصراني شاهدين من النصارى على ألف درهم على الميت، فإنه يدفع الألف المتروك إلى المسلم، ولا يتحاصان فيها عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحاصان في الألف، وقول محمد كقول أبي حنيفة، وحاصل الخلاف راجع إلى أن بينة الغريم النصراني هل هي مقبولة في هذه الصورة؟ على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: هي غير مقبولة وعلى قول أبي يوسف هي مقبولة، فأبو يوسف يقول: إن هذه شهادة قامت على الميت؛ لأنهم شهدوا بدين على الميت، والميت ذمي فتقبل شهادة أهل الذمة عليه، اقصى ما في الباب أنه إذا قبلت بينته وثبت دينه على الميت بشهادتهم، تضرر به الغريم المسلم، فإنه بخاصة في الألف المتروكة فينتقص حقه حيث لا يصل إليه تمام الأصل، ولكن لا يجوز أن يمتنع قبول الشهادة لأجلها، لأنه إنما يعتبر من قامت عليه الشهادة لا من يتعدى إليه في الجملة، ألا ترى أن شهادة أهل الذمة على الذمي بإعتاق عبده المسلم جائزة، وإن كان يتوهم تعدي الضرر إلى المسلم؟ فإنه تقبل شهادته بعد ذلك على سائر المسلمين، ولم يعتبر ذلك شهادة على المسلم فكذا هذا، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا بأن هذه شهادة قامت على الميت من وجه، وعلى الغريم المسلم من وجه، فتقبل في حق الميت الكافر، ولا تقبل في حق المسلم الغريم، وهذا لأن هذه الشهادة من حيث إنما قامت على أصل الدين، فهي شهادة على الميت، ومن حيث إن الدين بعد الموت إنما يتعلق بالتركة، والتركة مشغولة بدين الغريم المسلم، كانت هذه شهادة على المسلم، فهذه الشهادة حجة على الكافر دون المسلم، فقلنا: بأنه تقبل هذه الشهادة على الميت بثبوت الدين، ولم يظهر ذلك في حق المسلم، حتى لا يزاحمه في التركة، فإذا قضي دين الغريم
المسلم، فإن فضل شيء كان ذلك لأن دينه ثبت على الميت، وليس في ظهوره في حق التركة بعد فراغها عن دين المسلم إبطال حق المسلم، فقبلت بخلاف ما قبل فراغ التركة عن دين المسلم، لأن هناك في إظهاره في التركة إبطال حق المسلم عن التركة بشهادة الكفار، وإنه لا يجوز، قال ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: في نصراني مات وترك ابنين فأسلم أحدهما بعد موت أبيه، ثم إن رجلاً نصرانياً أقام بينته من النصارى أنه ابن الميت النصراني، قال: فإني أقبل بينته على النسب، فأجعله شريك النصراني منهما، ولا أجعله شريك المسلم فيما في يديه، لأن هذه الشهادة تضمنت إثبات النسب من الميت، وإنه مختص بالميت الذمي، فتقبل شهادتهم لإثبات هذا الحكم، وتضمنت استحقاق بعض ما في يد الاثنين؛ لأنه ظهر لهما شريك ثالث، فيكون له حق مشاركتهما وإنه حجة في حق الذي لم يسلم، فيثبت له حق مشاركته، وليست بحجة في حق الذي أسلم، فلا يثبت له حق مشاركته أيّاً ولعذر الحجة في حقه.

وكذلك لو ترك ابنا واحداً نصرانياً، فأسلم بعد موت أبيه، ثم جاء نصراني وادعى أنه ابن الميت وأقام بينة من النصارى، فإني أقضي بنسبه من الميت، لأن النسب أمر يختص الميت، وهذه الشهادة حجة في حقه ولا أعطيه شيئاً مما في يد الابن المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، فلا يجوز استحقاق شيء مما في يد المسلم بشهادتهم.
استشهد بمسألة الغريمين، أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة بدين لهما على ميت ذمي من أهل الذمة، أنه يقبل بينتهما في حق المديون الميت وأما في حق المزاحمة فلا تقبل بينة الذمي على المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، وإن خرج للميت النصراني مال فضل على دين المسلم، كان للغريم الذمي، لأن مزاحمة المسلم انقطعت فبقي هذا المال للذمي وهذه البينة حجة في حقه.

وكذلك أمر الابنين الوارثين أحدهما ذمي والآخر مسلم بعد موت المورث إذا لم تكن بينة الذمي حجة على المسلم، وأنهما حجة في حق الميت الذمي الذي ثبت بسبب الذمي من الميت بهذه البينة؛ لأنها حجة في حقه، ولكن لما لم تكن حجة في حق المسلم لم يكن له حق مشاركته.

وكذلك لو ترك ابنا واحداً نصرانياً، فأسلم بعد موت أبيه، ثم جاء نصراني وادعى أنه ابن الميت وأقام بينة من النصارى، فإني أقضي بنسبه من الميت، لأن النسب أمر

(8/415)


يختص الميت، وهذه الشهادة حجة في حقه ولا أعطيه شيئاً مما في يد الابن المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، فلا يجوز استحقاق شيء مما في يد المسلم بشهادتهم.
استشهد بمسألة الغريمين، أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة بدين لهما على ميت ذمي من أهل الذمة، أنه يقبل بينتهما في حق المديون الميت وأما في حق المزاحمة فلا تقبل بينة الذمي على المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، وإن خرج للميت النصراني مال فضل على دين المسلم، كان للغريم الذمي، لأن مزاحمة المسلم انقطعت فبقي هذا المال للذمي وهذه البينة حجة في حقه.
وكذلك أمر الابنين الوارثين أحدهما ذمي والآخر مسلم بعد موت المورث إذا لم تكن بينة الذمي حجة على المسلم، وأنهما حجة في حق الميت الذمي الذي ثبت بسبب الذمي من الميت بهذه البينة؛ لأنها حجة في حقه، ولكن لما لم تكن حجة في حق المسلم لم يكن له حق مشاركته.

فرع على ما إذا كان الابن واحدا
قال: وإن خرج للميت مال كان ذلك كله للمسلم؛ لأن وراثته ثابتة (137ب4) مطلقاً ووراثة الذمي غير ثابتة في حق الابن المسلم، فلا يكون له أن يشاركه فيه، قال: فإن مات المسلم ورث أخاه يريد به أن بعدما مات الابن المسلم فميراث الميت الذمي للابن الذمي؛ لأن نسبه لما ثبت من الميت ثبتت وراثته، إلا أنها لم تظهر في حق المسلم لمزاحمته إياه، فإذا مات انقطعت مزاحمته فورث هذا الابن. قال ابن سماعة: إنما لا يكون للابن الذمي حق المزاحمة مع الابن المسلم في هذه المسألة إذا أسلم قبل أن يثبت نسب الابن الذمي، أما لو ثبت نسبه قبل إسلامه بهذه البينة كان له مزاحمة الابن المسلم؛ لأنه حال ما أقام البينة هو في مثل حال ذمي فيقبل بينة أهل الذمة عليه فكان له أن يشاركه، فأما بعدما أسلم لم يثبت حق المشاركة بهذه البينة؛ لأنها ليست بحجة في حقه.

ولو مات مولى النصراني الميت ولم يمت الابن، فإني أجعل ميراثه من المسلم والنصراني. قال ابن سماعة: يعني إذا كان أسلم بعد موته، قال: لأن هذا مال حدث الساعة وليس بمنزلة مال تركه النصراني ميراثاً، أشار إلى ما ذكرنا أن بينة النصراني مقبولة في حق الميت حتى يثبت نسبه منه، وإنما لم يشاركه الابن المسلم فيما قبض؛ لأن هذه البينة ليست بحجة عليه، فبقي ما أخذه الابن المسلم لا يظهر وراثته في حقه حتى لا يكون قضاء على المسلم بشهادة النصراني، فأما فيما سواه فالتركة مبقاة على حكم ملك الميت قبل القسمة على ما عرف في موضعه، فكانت هذه شهادة على الميت وإنما يستحق بها مال الميت، وشهادة أهل الذمة حجة في حقه، وكذلك إنما يرث من مولى النصراني بحكم الولاد أنه ثابت له بهذه البينة، فهذه الشهادة حجة في حقه؛ لأنه ذمي مثله فصلح أن يكون مستحقاً لميراثه بهذه البينة، وهذا استحقاق عليه لا على الابن المسلم لما قلنا، فلهذا كان ميراثه بينهما، وإنما فسره ابن سماعة بأنه أسلم بعد موته؛ لأنه لو كان أسلم قبل موته لا يرث منه لاختلاف دينهما.

(8/416)


قال في «المنتقى» : وإذا شهد رجل على امرأته مع آخر أنها ارتدت والعياذ بالله، وهي تجحد وتقر بالإسلام فرقت بينهما وجعلت عليه نصف المهر إن لم يكن دخل بها، قال: أقبل شهادة الزوج في الردة، ولا أبرئه عن المهر وأجعل جحودها للردة وإقرارها بالإسلام توبة، ولو شهدا عليه أنها أسلمت وهي تجحد، وأصل دينها كان النصرانية قبلت شهادتهما على الإسلام وأجعل جحودها وبيانها على النصرانية ردة ولا يبرأ من نصف المهر.

وفيه أيضاً: مسلم قال: إن دخل عبدي هذه الدار فهو حر، وقال نصراني: إن دخل هذا العبد هذه الدار فامرأته طالق، فشهد نصرانيين أنه دخلها بعد اليمينين، فإن كان العبد مسلماً لا تقبل هذه الشهادة، لأنهما شهدا على فعل مسلم، وإن كان العبد نصرانياً قبلت الشهادة على طلاق المرأة، ولا تقبل على عتق العبد، وهذا بناء على ما مر أن شهادة النصراني حجة في حق النصارى، وليست بحجة في حق المسلمين.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله في النصرانيين شهدا على مسلم ونصراني أنهما قتلا مسلماً عمداً، قال: لا أجوز شهادتهما على المسلم وأدرأ عن النصراني القتل، وأجعل عليه الدية في ماله، أما لا تقبل شهادتهما على المسلم فظاهر، وأما درء القتل عن النصراني؛ لأن القتل واحد ولم يثبت في حق المسلم لقصور الحجة، فتورث الشبهة في حق الكافر والقصاص لا يستوفى مع الشبهات، قال: وأجعل عليه الدية في ماله، لأن الشهادة على قتلهما ليست بشهادة على اشتراكهما في جرح واحد، لكن هذه شهادة على جرح موجود من الكافر، وجرح من المسلم، فإذا شاهدا ظهور الموت عقيب الجرحين كان لهما أن يشهدا عليهما بالقتل، فأقصى ما في الباب: أن الجرح من المسلم لم يثبت لقصور الحجة، ولكنه قد تكاملت الحجة على الكافر، فيثبت جرحه، وظهور الموت عقيبه وتعذر إيجاب القصاص به للشبهة فوجبت الدية، ثم تجب الدية في ماله، لأن المشهود به القتل العمد، والعاقلة لا تعقل العمد.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في مسلم ادعى على مسلم ونصراني ألف درهم من ثمن متاع باعه منهما، وأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه وأقام شاهدين من النصارى عليهما بذلك، قبلت بينته على النصارى ويأخذ منه جميع الألف، ولا يرجع النصراني بذلك على المسلم، وإنما تقبل بينته على النصراني؛ لأن بينته حجة في حقه، ويأخذ منه جميع الألف، النصف بحكم الأصالة لقيام الحجة عليه، والنصف بحكم الكفالة؛ لأن هذه البينة تقتضي ثبوت الألف كلها عليهما، إلا أنها إن لم تعمل في حق المسلم؛ لأنها ليست بحجة عليه، أما هي حجة على الكفيل، فيعمل في حق الكفيل فيثبت المال عل المسلم فيما يرجع إلى استحقاق المطالبة والأخذ من يد الكفيل، وإن كان لا يثبت فيما يرجع إلى استحقاق مطالبة المسلم الأصيل والأخذ من يده.
واستشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو ضمن مالاً على رجل، والمدعى عليه ينكر المال، ولم تقم عليه بينة أن الضمان جائز؟ لأن شرط صحة الضمان

(8/417)


وجوب المضمون على الأصيل في حق الكفيل وقد وجد؛ لأنه أقر بذلك وإقراره حجة عليه، إن لم (يكن) حجة على الأصيل، فكذا في مسألتنا ظهر وجوب الدين على المسلم في حق النصراني، وإن لم يظهر في حق المسلم لقيام ما هو حجة في حق الكفيل إن لم يكن حجة في حق المسلم الأصيل، فجاز أن يؤاخذ الكفيل بذلك، ثم لا يرجع الكفيل على المسلم، لأن الرجوع عليه من حكم ظهور الاستحقاق في حقه ولم يظهر؛ لأن هذه البينة ليست بحجة عليه.

قال ابن سماعة: عن محمد رحمهما الله: في نصراني اشترى من مسلم عبدا وقبضه وباعه من نصراني آخر، ثم إن المشتري الثاني وجد به عيباً بعدما قبضه، وأقام بينة من النصارى، أن هذا العيب كان به عند المسلم قبل أن يبيعه من النصراني المشترى، كان له أن يرده على بائعه النصراني، وإن كان بائعه لا يقدر على رده على بائعه المسلم بهذه البينة، وبهذه المسألة يحتج أبو يوسف رحمه الله في مسألة الاستحقاق التي مرت في أول هذا الفصل، وقال: الشهادة في هذه المسألة لما تضمنت حكمين: الرد على النصراني، وولاية الرد لذلك النصراني على المسلم، وهذه البينة حجة في حق النصراني ليست بحجة في حق المسلم، ثبت حكمه في حق النصراني لقيام الحجة في حق النصراني، وإن امتنع ثبوت حكمه في حق المسلم فكذلك في المسألة المختلفة، ولكن الجواب عنه وهو الفرق أن في هذه المسألة المشهود به العيب وإذا كان مما يحدث مثله لم تكن البينة عليه مقتضية كون العيب ثابتاً من الأصل، ولكنه يليق بقدر ما يحتاج إليه الرد، فلم تكن هذه البينة مستمعة حكماً على البائع المسلم ليمتنع قبولها.

يوضحه: أن هذه البينة لا تثبت حق (الرد) إلا للمشتري الآخر؛ لأن المشتري الأول لا يقدر على رده إلا بعد عود قد تم ملكه إليه ولم يعد إليه بعد، وإذا لم تكن هذه البينة مثبتة حق الرد للمشتري الأول للحال، لم تكن هذه البينة قائمة على البائع المسلم بل هي قائمة على هذا البائع النصراني، وإنها حجة في حقه، فسمعت عليه وأما في المسألة المختلفة، فالمشهود به الملك المطلق، وهو الملك من الأصل، فإذا ظهر بالبينة أن الملك من الأصل للمستحق، ظهر بطلان ملك الباعة كلهم، فكانت قائمة على الباعة جميعاً، فيكون القضاء بها قضاء على جميع الباعة، فيكون قضاء على البائع المسلم، ولهذا لا تقبل بينة واحد من الباعة على الملك المطلق لنفسه، لأنه صار مقضياً عليه، ولهذا كان لكل واحد أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد.
والدليل عليه أنه انفسخ البياعات الواقعة عندهما على ما روى الخصاف رحمه الله، فثبت أنه قضاء على المسلم البائع، ولا يجوز القضاء على المسلم ببينة أهل الكفر.
ثم استشهد لإيضاح الفرق فقال: ألا ترى أن رجلاً اشترى عبداً فباعه من آخر فاستحقه رجل من يد المشتري، فرجع المشتري بالثمن على بائعه إن لبائعه أن يرجع على بائعه من غير إعادة البينة، وبمثله لو رده المشتري على بائعه بالعيب بالبينة لم يكن لبائعه أن يرده على

(8/418)


من اشتراه منه حتى يعيد البينة عليه، وهذا إشارة إلى أن ما ذكرنا من الفرق، أن القضاء بالملك المطلق للمستحق قضاء على جميع الباعة، فاستغنى عن إعادة البينة؛ لأن تلك البينة قائمة (138أ4) عليه لأنها قامت على من انتصب خصماً منه وهو المشتري بخلاف مسألة العيب، لأن البينة على العيب قائمة على البائع دون بائع البائع؛ لأنه لا يتعدى حكمه إليه للحال كما ذكرنا.

والذي يوضح الفرق أن القضاء بالملك، لما كان قضاء بالملك من الأصل لابد وأن يكون البائع المسلم مقضياً عليه بشهادة الكفار وإنه لا يجوز، وأما شهادة الشهود على أن هذا العيب كان عند البائع المسلم، شهادة أنه كان في يد البائع الكافر الذي اشتراه من المسلم، لأنهم شهدوا ببقاء ذلك العيب إلى هذا الوقت، فقد شهدوا بقيام العيب عند البائع النصراني وشهادتهم حجة عليه، فقبلت وثبت قيام هذا العيب في يده وشهدوا أيضاً بإسناد عيب إلى زمان سابق، وهو حال ما كان في يد المسلم وشهادتهم ليست بحجة عليه، فيثبت قدر ما أمكن إثباته بشهادتهم، وهو كون العيب موجوداً في يد الكافر دون المسلم، وإنه غير مستحيل، ليكون عملاً بقدر الدليل.
قال ابن سماعة: سمعت محمداً رحمه الله يقول في المسلم قطع يد النصراني عمداً، وادعى القاطع أنه يعني القاطع عبد لنصراني، وادعى المقطوعة يده أنه حر، فأقام رجل وامرأتين من المسلمين على أنه أعتقه مولاه منذ سنة، قال: أجعله حراً وأقتص منه وهذا لأنه ادعى لنفسه حق استيفاء القصاص من القاطع، ولا يمكنه ذلك إلا بإثبات حرية القاطع، فالقصاص في الأطراف لا يجري بين العبيد ولا بين العبد والحر، وإذا كان لا يمكنه إثبات القصاص إلا بإثبات العتق صار خصماً في حق إثبات العتق، فهذه بينة قامت على خصم فقبلت.
وكذلك العبد لا يمكنه دفع القصاص إلا بإنكار العتق فانتصب خصماً عن مولاه في إنكار العتق، فقامت هذه البينة على خصم فقبلت هذه البينة.
ثم الثابت بهذه البينة في صورة جريان القصاص فكان كاللإحصان في باب الرجم، وأنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين عندنا كذا هذا.

وإن أقام المقطوعة يده شاهدين نصرانيين أن مولاه اأعتقه عند شهر وأراد أن يقتص له، فإنه يعتق بهذه الشهادة ولا أقتص من القاطع المسلم بشهادة النصرانيين؛ لأن هذه الشهادة حجة على المولى النصراني، فثبت العتق في حقه بهذه الشهادة، وليست بحجة على القاطع، فلم يظهر العتق في حقه لاستيفاء القصاص منه، وقالوا: ينبغي أن يكون القضاء بالعتق في هذه الصورة قولهما؛ لا قول أبي حنيفة رحمه الله فإن أبا حنيفة رحمه الله، لا يرى قبول الشهادة على عتق العبد بدون دعواه، ولم يوجد هاهنا دعوى العبد فإنه منكر لذلك.
قال: ألا ترى لو أن مسلماً قال: إن طلق فلان النصراني امرأته فعبدي حر فشهد نصرانيان أن فلاناً طلق امرأته بعد هذا القول أني أطلق امرأة النصراني، ولا أعتق عبد

(8/419)


المسلم؟ لأن الشهادة حجة في حق النصارى دون المسلم، والطلاق منفصل عن العتق فأمكن إثبات أحدهما دون الآخر، فيثبت الطلاق دون العتق ويجعل في حق العين كأن الطلاق غير نازل لعدم الحجة على ظهوره في حق المسلم كذا هذا.6

قال: ألا ترى أن نصرانياً لو مات وترك ألفاً لا مال له غيره فأقام كل واحد من مسلم ونصراني بينة من النصارى أن له عليه ألفاً، أنه يقضي بها للمسلم ولا يشاركه النصراني، لأن شهادة النصراني حجة على النصراني دون المسلم، فثبت بقدر الحجة فكذا هاهنا قال: ألا ترى أن نصرانياً في يده طيلسان أقام كل واحد من مسلم ونصراني نصرانيين أن النصراني أقر بالطيلسان له، أني أقضي به للمسلم؟ لما قلنا كذا هذا.
ألا ترى أن رجلاً لو شهد عليه ابناه أن لفلان عليه ألف درهم، فقال: إن كان لفلان علي ألف درهم فأمهما طالق، فشهد ابناه بالمال، أني أقضي بالمال ولا أطلق الأم إذا ادعت؟، لأن شهادتهما للأم غير مقبولة، وللأجنبي مقبولة، فتقبل شهادتهما للأجنبي بالمال على وجه لا يظهر في حق أمهما كذا هذا.

وما ذكر محمد رحمه الله في ابتداء المسألة أن المقطوعة يده إذا أقام رجلاً وامرأتين من المسلمين على أن المولى أعتقه اقتصصت منه قوله.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت أبا يوسف عن رجل قال: إن اشتريت خمراً فعبدي حر، فشهد رجل وامرأتان أنه قد شرب الخمر، قال: أعتق العبد ولا أحده، ولا فرق بين المسألتين لأن الثابت في المسألتين بهذه البينة في صورة الشرط جريان القصاص، وفي صورة الشرط جريان الحد.
ولو شهد رجل وامرأتان أن لفلان على زوج إحدى المرأتين ألف درهم، وقد كان قال الزوج: إن كان لفلان علي ألف فأنت طالق، فإني أقضي بالمال ولا أطلق المرأة؛ لأنها شهدت لنفسها بوقوع الطلاق، ولأجنبي بالمال فتقبل الشهادة للأجنبي ولم أثبت المال عليه في حق كونه شرطاً لوقوع الطلاق لما ذكرنا من المعنى كذا هذا.

قال في كتاب الرهن: ذمي مات وادعى ذمي بعض متاعه رهناً وأقام بينة من أهل الذمة، وادعى مسلم عليه ديناً، وأقام بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة فإني آخذ بينة المسلم فأبدأ بدينه حتى يستوفي المسلم ماله، فإن بقي شيء كان للذمي، وهذا لأن بينة الذمي قامت بالدين على الميت وعلى الغريم المسلم بالمزاحمة، وإنها حجة تامة في حق الميت لأنه كافر، وليست بحجة في حق المسلم، فلم يظهر الدين بهذه البينة في حق المزاحمة للمسلم، وبينة المسلم حجة على الميت والغريم النصراني فكانت أولى، فلهذا يبدأ بدين الميت، ثم قال: ولا يجوز رهن الذمي حتى يستوفي المسلم دينه؛ لأن الحجة على الرهن بشهادة أهل الذمة، وإنها ليست بحجة على المسلم، فلم يثبت الرهن في حقه فكأن أخص به كما في غيره من التركة، فإن كان شهود الذمي مسلمين وشهود المسلم

(8/420)


ذميين أو مسلمين كان الذمي أحق بالرهن حتى يستوفي دينه، لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على الميت وعلى صاحبه فقبلت بينتهما، وثبت ببينة الذمي اختصاص الذمي بالرهن، ولم يعرف مثل هذا الاختصاص للمسلم به فصار الذمي أولى بالرهن من هذا الوجه.

قال في «المنتقى» : عبد باعه نصراني من نصراني، ثم باعه المشتري من نصراني آخر ثم وثم، حتى تداولته عشرة أيد من الباعة كلهم نصارى، ثم أسلم واحد منهم، ثم ادعى العبد أنه حر الأصل وأقام على ذلك شهوداً من النصارى، قال زفر رحمه الله: لا تقبل بينته سواء أسلم أولهم أو آخرهم أو أوسطهم حتى يقيم بينة من المسلمين، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان المشتري الآخر هو الذي أسلم لم تقبل بينته، وإن كان غيره أسلم قضي بعتقه، ويرادون الثمن فيما بينهم حتى ينتهوا إلى المسلم، فلا يؤمر برد الثمن ولا من قبله من الباعة، فإن كان العبد أقام البينة على الإعتاق فإن أقام بينة أن البائع الأول قد أعتقه وقد أسلم الأول والشهود نصارى لا أقبل بينته، وكذلك إن كان الأوسط هو الذي أسلم لا تقبل بينته على عتق الأوسط وعلى عتق من بعده، وتقبل بينته على عتق من قبله وهذا قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: أي الباعة أقام عليه البينة من النصارى أنه أعتقه، الذي قبل المسلم والذي بعده سواء تقبل شهادته وقضى بعتقه إلا أن تقوم البينة على المسلم فلا تقبل، وإذا أقام على غيره يتراجعون حتى ينتهوا إلى المسلم فلا يرجع عليه ولا على من قبله إلا أن يقر بذلك، ويترادون بالثمن حتى ينتهوا إلى الذي أعتقه.
قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة والكفالة: إذا ادعى مسلم على كافر مالاً، وادعى ضمان مسلم عنه، وأقام بينة من أهل الكفر بأصل المال وبكفالة المسلم عنه، فإن المال ثبت في حق الأصيل، ولا يثبت في حق الكفيل؛ لأن شهادة أهل الذمة حجة في حق الأصيل؛ لأنه ذمي وليس بحجة في حق الكفيل لأنه مسلم، فصار في حق الكفيل كأنه لم يقم البينة أصلاً وإنما وجد في حقه مجرد الدعوى.

ولو أن رجلاً مسلماً كفل لكافر عن كافر بألف درهم، فقال الكافر الذي عليه الأصل: لم آمره أن يضمن عني، فجاء المسلم بشاهدين من أهل الكفر (138ب4) أنه قد أمر بالضمان، وأقر الطالب أنه قد استوفى منه المال كان (له) أن يرجع عليه؛ لأن شهادة الذمي حجة على الذمي كشهادة المسلم، ولو شهد بذلك الأمر شاهدان مسلمان، وأقر الطالب أنه استوفى رجع الكفيل بذلك على الذي عليه الأصل فكذلك هذا.
قال: وإذا ادعى رجل مسلم على رجل مسلم مالاً وجحده المطلوب، وادعى الطالب كفالة رجل من أهل الذمة بالمال بأمره وجحد الكفيل ذلك، فشهد رجلان من أهل الذمة على ذلك، فإنه لا يجوز على المسلم شيء من ذلك، ويجوز على الذمي حتى يؤخذ الكفيل بالمال، وإذا أدى لا يرجع على الأصيل، هكذا ذكر في عامة روايات هذا الكتاب، وذكر في بعض روايات هذا الكتاب، وقال: لا تقبل الشهادة أصلاً، وجه ما

(8/421)


ذكر في بعض روايات هذا الكتاب وهو أن الكفيل يتحمل عن الأصيل ولا يلزم الأصيل شيء بهذه الشهادة فلا يلزم الكفيل، وجه ما ذكر في بعض الروايات: أن شهادة أهل الذمة حجة في حق الذمي الكفيل وليس بحجة في حق الأصيل، فيثبت بهذه الشهادة المال على الأصيل في حق الكفيل، وإن كان لا يثبت في حق الأصيل نفسه، ويجوز أن يعتبر الدين واجباً في حق الكفيل، ولا يعتبر في حق الأصيل كمن قال: لك على فلان ألف درهم فكفلت لك عنه، وأنكر الأصيل أخذ الكفيل به ولم يؤاخذ به الأصيل فكذلك هذا.

وإذا كان الصك عليهما فكل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه بجميع المال بشهادة أهل الذمة وهما يجحدان، فإن الذمي يؤخذ بالمال كله ولا يؤخذ المسلم، وإذا أدي لا يرجع على المسلم وقد مرت المسألة من قبل، وإذا كفل مسلم بنفس ذمي أو بمال عليه لمسلم أو لذمي وشهد عليه أهل الذمة فإن جحد المسلم الكفالة لم يجز ذلك عليه؛ لأن شهادة أهل الذمة ليست بحجة على المسلم، وإن أقر بها جاز ذلك عليه لإقراره، فإن أدى المال وشهد شهود من أهل الذمة أنه كفل بأمره، رجع به لأن شهادة أهل الذمة حجة على الذمي، وفي إثبات الأمر قامت على ذمي لمسلم فقبلت.
قال ابن سماعة: عن محمد رحمهما الله في رجل مسلم أذن لعبده النصراني في التجارة فشهد عليه نصرانيان أنه اشترى متاعاً بألف درهم، جاز وقد مرت المسألة من قبل.
ولو شهد نصرانيان عليه أنه قتل هذا الرجل أو فرسه، لا تجوز شهادتهما على قتل الرجل ويجوز على قتل الفرس، لأن ضمان استهلاك الفرس يلزم العبد فكان هو الخصم، والشهادة إنما تقوم حجة عليه وهو كافر، فصح ولزم، وأما حكم القتل وهو وجوب القصاص إن كان عمداً وإن كان خطأ، فالتخيير بين الدفع والفداء، إنما يلزم المولى باعتبار أنه تلف بمال نفسه في القصاص، ويستحق عليه دفع العبد الذي هو ملكه في الخطأ، وعلى كلا الوجهين، هذه الشهادة قامت على المولى وهو المسلم، فلا تقبل شهادتهما عليه فهذا عندهما، فأما عند أبي يوسف رحمه الله، تقبل البينة عليه في القصاص دون المال في الخطأ.
قال محمد رحمه الله: وأصل ذلك أن كل شيء أجزت إقراره فيه لو أقر به أجري عليه شهادة أهل ذمته إذا أنكره؛ لأن مولاه أذن له في ذلك وإقراره فيه جارٍ، وبيانه: أن إقرار الإنسان إنما يصح على نفسه لا على غيره، وإذا صححنا إقراره علم أن المقر به بحصته، ولا يتعدى بسببه شيء إلى غيره؛ إذ لو كان كذلك لامتنع صحة الإقرار لمكان ذلك الغير، فلما جاز إقراره في ضمان المبايعة وضمان استهلاك الفرس علم أن هذا حكم بحصته، فإذا أنكر وقامت عليه البينة بذلك من أهل الكفر، فهذه شهادة قامت عليه لا على المسلم فقبلت، وما لا يصح إقراره فيه علم أنه حق غيره، فإذا أنكر لا يمكن إثباته إلا على ذلك الخصم.
قال: ألا ترى لو أن رجلاً أمر هذا العبد وهو محجور عليه أن يشتري له عبد فلان

(8/422)


بثمن مسمى، فأذن له المولى في ذلك فاشترى منه إنه جائز؟ لأن العبد من أهل الشراء لأنه كلام وهو من أهل الكلام الصحيح وإنما امتنع نفاذ تصرفه لضرر يلحق المولى، فإذا رضي له بعد ذلك، فإن جحد أن يكون اشتراه فشهدت عليه بينة من النصارى أنه اشتراه جازت شهادتهم، لأن هذه شهادة على العبد وهو كافر، والضرر الذي يلحق المولى من جهة العبد قد وصى بذلك حين أذن له.

قال: عبد أو صبي مأذون له في التجارة شهد عليه ذميان بغصب أو وديعة أو بضاعة أو مضاربة استهلكها أو جحدها أو شهدا بإقراره بذلك أو شهدا عليه ببيع أو شراء، أو قرض، أو رهن وهو يجحد فإنه لا يخلو، إما أن كان المشهود عليه مسلماً والآذن وهو المولى أو الوصي كافراً، أو كان الآذن مسلماً أو المشهود عليه كافراً فان كان المشهود عليه مسلما لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة عليه دون الآذن وهو مسلم، ولا شهادة للكافر على المسلم، وإن كان المشهود عليه كافراً تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة عليه دون الآذن، وإنه كافر فيقبل شهادتهما، ولا يمنع قبول هذه الشهادة لمكان ضرر المولى؛ لأنه قد رضي به حين أذن، ألا ترى أنه جاز إقراره على نفسه بذلك وإن لحق المولى ضرر لما ذكرنا.
ثم إذا قبلت هذه الشهادة فظهر عليه الدين تباع رقبته فيه، لأن الدين إنما يجب في ذمة العبد شاغلاً بالبينة، فإن باع العبد بألف درهم وأوفى الغريم دينه وهو ألف درهم ثم أقام مسلم شاهدين مسلمين أن له على العبد ألف درهم دين قبل أن يباع، فإنه يأخذ الألف من الغريم الذي كان قضاه ويدفعه إلى هذا المسلم، لأن شهادة شهود الغريم المسلم حجة على العبد والغريم الأول وشهادة شهود الغريم الأول ليست بحجة في حق الغريم المسلم لأنهم كفار، فلم يكن له أن يزاحمه فكان المسلم أولى به، ألا ترى أنه لو حضر وأقام شهوده قبل القضاء كان مقدماً عليه فكذلك بعده فصار هذا كالمقضي عليه بالملك المطلق لو أقام بنية على التاج رد عليه لأنه لو أقامها قبل القضاء قضي له، فكذلك بعده كذا هذا.
ولو كان شهود الغريم الأول مسلمين، والغريم الأول كافر ثم أقام مسلم أو كافر كافرين أنه كان له على العبد ألف درهم اشتركا فيه؛ لأن شهادة كل فريق حجة على الفريق الآخر، فاستويا في الاستحقاق فيشتركان في الألف ويكون بينهما نصفين، ألا ترى أن الغريم الثاني لو أقام شهوده قبل القضاء اشتركا فيه؟ فكذلك بعده.
قال: ألا ترى أن كافراً لو هلك فأسلم وارثه فأقام كافر مسلمين أن له على الميت ألف درهم فإن القاضي يقضي بالألف له قضاء من دينه، فإن قضى له بذلك، ثم إن مسلماً أو كافراً أقام كافرين أن له على الميت ألف درهم إن الغريم الثاني يشارك الغريم الأول على قدر دينهما؛ لأن هذه البينة قامت على الميت وإنه كافر فيقبل شهادة أهل الكفر عليه كما تقبل شهادة المسلمين، والغريمان كافران وشهادة أهل الكفر عليهما حجة كشهادة المسلمين، ولم تعتبر الشهادة الثانية قائمة على الابن إذ لو اعتبرت قائمة على الابن لما

(8/423)


قبلت، لأن الابن مسلم إنما لم يفعل كذلك؛ لأن الغريم الأول لما استحق ألف بما هو حجة على الابن المسلم خرجت تلك الألف من أن تكون لذلك الابن فيه حق، فكان هذا استحقاقاً على الغريم لا على الابن، والغريم كافر فتقبل هذه الشهادة عليه.

فإن أذن المسلم لعبده الذمي في التجارة، فادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألفاً وأقام أحدهما مسلمين والآخر ذميين، فإن القاضي يقضي بالدين كله؛ لأن هذا قضاء على العبد وإنه كافر وقد أقام كل واحد منهما ما هو حجة عليه، ولكنه يبدأ فيوفي الذي شهد له المسلمان؛ لأن شهادة شهود المسلمين حجة على العبد وعلى صاحبه، وشهادة شهود صاحبه ليست بحجة عليه، لأنه مسلم وهو كافر، فلم (يجب أداء) دين صاحبه في حق مزاحمته، فإن فضل شيء كان للذي شهد له الكافر لأنه ثبت دينه على العبد فيستوفيه منه، فإن صدق العبد للذي شهد له الكافران اشتركا (139أ4) فيه؛ لأنه سقط حكم شهادة الكافرين؛ لأن شرط قبول الشهادة الإنكار من الخصم وقد انعدم وثبت الدين له على العبد بإقراره، وما يثبت بإقرار العبد في حالة الإذن والصحة مساو للدين الثابت بالبينة فلهذا اشتركا.
وكذلك إن كان الذي شهد له الكافران مسلماً، والذي شهد له المسلمان كافراً، لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على صاحبه، فاستويا فاشتركا.

ولو أقام مسلم مسلمين بألف درهم على العبد، وأقام ذمي مسلمين أيضا بألف درهم، وأقام ذمي ذميين أيضا بألف درهم، فإن القاضي يقضي بدينهم على العبد فيباع العبد وما في يديه، فيعطى المسلم والذمي الذي شهد له المسلمان كل واحد منهما نصف ذلك، وإنما قضى القاضي بدينهم على العبد؛ لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على العبد، فوجب القضاء بها عليه إذ لا تنافي في الوجوب عليه فلا تقع المزاحمة، وإذا آل الأمر إلى الاستيفاء ووقعت المزاحمة وبيع العبد وما في يده ولم يف ذلك بالديون يقدم دين المسلم والذمي الذي شهد له شاهدان مسلمان، لأن ما أقام الذمي الآخر ليس بحجة في حق المسلم، فلم يظهر دينه في حق المسلم فلا يشاركه، والذمي الذي أقام مسلمين مع المسلم، أقام كل واحد منهما ما هو حجة في حقه، فقسم ثمن العبد وما في يده بينهما، ثم الذي شهد له الكافران يرجع على الذمي الذي شهد له المسلمان، فيأخذ نصف ما في يده، لأن دين المسلم يثبت بما هو حجة في حق هذا الذمي، ودين هذا الذمي ثبت بما ليس بحجة في حق هذا المسلم، فأي شيء يكون من ثمن العبد لا يكون لهذا الذمي حق المشاركة فيه معه، كان ينبغي أن يأخذ جميع ما في يده؛ لأن جميع ما في يده ثمن العبد وحق المسلم في ثمن العبد يقدم على حق الذمي، إلا أنه لا يأخذ جميع ذلك؛ لأنه أخذ كان للذمي الذي شهد له مسلمان أن يأخذ منه نصفه لأنه يساويه في ثمن العبد فلا يفيد أخذ الكل، أما إذا أخذ المسلم نصف ذلك لا يكون للذمي الذي شهد له مسلمان أن يأخذ شيئاً، لأن من حجة المسلم أن يقول: حصتك مما كان في يد هذا الذمي باق في يده ولا سبيل لك عليه.

(8/424)


ولو كان أحد الغرماء كافراً شهد له مسلمان، والآخران مسلمان شهد لأحد المسلمين مسلمان، وللمسلم الآخر كافران، فإن ثمن العبد يقسم بين المسلم الذي شهد له مسلمان وبين الكافر نصفين لاستوائهما، فإن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على صاحبه، ثم يدخل المسلم الذي شهد له الكافران على الكافر، فيأخذ منه نصف ما في يده، لأن حجة كل واحد منهما حجة على صاحبه فيستويان في الاستحقاق.
ولو كان العبد مسلماً والمولى كافراً وأحد غريمي العبد مسلم شهد له كافران والغريم الآخر كافر شهد له مسلمان، فإنه يقضي للكافر دون المسلم لأن الكافر أقام ما هو حجة على العبد؛ لأن العبد مسلم وشهود الكافر مسلمون، والمسلم أقام ما ليس بحجة على العبد؛ لأن شهود المسلم كافران وليس للمسلم أن يشارك الكافر ويقول: شهودي حجة عليك كما فيما تقدم من المسائل؛ لأن المشاركة إنما تكون بعد ثبوت أصل الدين، وفي المسألة المتقدمة أصل الدين ثابت على العبد لأنه كافر وشهادة الكفار على الكافر حجة وفي هذه المسألة أصل الدين غير ثابت لأن العبد مسلم وشهادة الكفار على المسلم ليست بحجة.
ولو كان العبد مسلماً محجوراً عليه والمولى كافراً كان بمنزلة ما وصفت، يعني لا تقبل شهادة الكافر على العبد فيقضي للكافر الذي شهد له مسلمان ولا يقضي للمسلم الذي شهد له كافران، وهذا يشكل لأن المولى في العبد المحجور عليه هو المقضي عليه والضرر راجع عليه والمولى كافر فيكون شهادة الكفار حجة عليه ولكن الوجه في ذلك أن هذه الشهادة على إثبات فعل المسلم لا تقبل وقد مر هذا.
ولو كان العبد المحجور كافراً والمولى مسلماً فأقام مسلم ذميين على العبد بغصب ألف درهم، وأقام ذمي مسلمين عليه بغصب ألف درهم، فإن القاضي يقضي بثمن العبد للذمي؛ لأن الذمي أقام ما هو حجة على العبد وعلى المولى، فأما المسلم أقام ما ليس بحجة على المولى، والمقضي عليه في المحجور هو المولى.

قال: ثم إذا قبض الكافر دينه يشاركه المسلم فيما قبض؛ لأن أصل دينه قد ثبت على العبد، لأن شهوده حجة على العبد وعلى شريكه الذمي، فيثبت له حق المشاركة مع الذمي، لأن أصل دينه لم يثبت، لأن الخصم فيه المولى، وهو مسلم وصار هذا نظير العبد المأذون المسلم إذا شهد عليه كافران لمسلم بدين ألف درهم، وشهد عليه مسلمان لكافر بدين ألف وقضى القاضي بدين الكافر، وإذا قبض الكافر دينه فليس للمسلم أن يشاركه فيما يقبض؛ لأن دين المسلم لم يثبت، لأن العبد مسلم وشهود المسلم كفار.

والجواب عن هذا الطعن وهو الفرق بين المسألتين: أن في تلك المسألة العبد مسلم وشهود المسلم كفار، وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم، فلم يثبت دون المسلم على العبد، ولم يستحق المسلم شيئاً من كسبه، فلا يثبت للمسلم حق المشاركة في الكسب إنما يثبت بعد استحقاق الكسب بناء على ثبوت الدين على العبد، أما هاهنا العبد كافر، فأمكن القول بثبوت الدين على العبد، إلا أنه لا يقضى للمسلم بالمشاركة في

(8/425)


الابتداء؛ لأن في الابتداء الاستحقاق على المولى، ودين المسلم لم يثبت على العبد في حق المولى، لأن المولى مسلم وشهود الغريم المسلم كفار، فإذا قضينا بدين الكافر وخلص ثمن العبد للكافر والمشاركة في هذه الحالة تقع استحقاقاً على الكافر.
قال: مسلم أو حربي أو ذمي أذن لعبده الذي ليس بمسلم في التجارة، فشهد عليه مسلمان لمسلم بدين، وذميان لمسلم بدين، وحربيان مستأمنان لمسلم بدين، فإن شهادة الحربيين لا تقبل.
أما إذا كان المولى مسلماً أو ذمياً، لأن العبد ذمي في هذه الصورة، لأنه بقي في دارنا على التأبيد تبعاً لمولاه، وهذه الشهادة على العبد، وشهادة أهل الحرب على الذمي لا تقبل.
وأما إذا كان المولى حربياً مستأمناً، فلأن المسألة متصورة فيما إذا اشترى الحربي عبداً في دار الإسلام، والحربي المستأمن لا يمكن من إدخال رقيق اشتراهم في دار الإسلام دار الحرب، بل يبقى في دارنا على التأبيد ويصير ذمياً، ولكن يقضى عليه بشهادة المسلمين والذميين، لأن شهادتهم حجة على العبد وعلى الغريم الآخر، وشهادة الغريم الآخر إن كانت حجة على العبد فهي ليست بحجة على الآخر، ثم يبدأ بدين المسلم الذي شهد له مسلمان، لأن شهادة شهوده حجة على العبد وعلى المسلم الآخر، وشهادة شهود المسلم الآخر ليست بحجة على هذا المسلم.
ولو كان العبد ومولاه حربيين قضي بدينهم جملة، يريد به: إذا دخل الحربي دار الإسلام ومعه عبد حربي استأمن على نفسه وعلى العبد، والعبد يكون حربياً في هذه الصورة مثل المولى، ألا ترى أن المولى عن من إدخاله دار الحرب؟ وشهادة الحربي حجة على الحربي، كما أن شهادة المسلم والذمي حجة عليه، ولكن يبدأ بدين المسلم الذي ثبت بشهادة المسلمين؛ لأن شهادة شهوده حجة على العبد وعلى الغريمين الآخرين، وشهادة شهود الغريمين الآخرين إن كانت حجة على العبد فليست بحجة على هذا المسلم، فلم يثبت دين الغريمين الآخرين في حق هذا المسلم، فلهذا بدأ بدينه.
كافران شهدا على كافر بدين أو وديعة أو طلاق أو إعتاق فأنفذ القضاء ذلك، ثم أسلم المشهود عليه، فإني أجيز ذلك، ولا أرده لأن القضاء قد تم لاستجماع شرائطه، وقيام حجة القضاء، وهي الشهادة، فإن شهادة الكافر حجة القضاء على الكافر، وإنه كان كافراً وقت القضاء فيلزمه ذلك بشهادتهم، وبإسلامه من بعده يظهر أن تلك الشهادة لم تكن حجة عليه فلا يظهر بطلان القضاء.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : نصراني مات فجاءت امرأته مسلمة، فقالت: أسلمت بعد موته ولي الميراث، وقالت الورثة: لا بل أسلمت قبل موته، فالقول قول الورثة، لأن المرأة ادعت ما هو حادث من كل وجه، لأن الإسلام بعد الكفر حادث من كل وجه، فكانت مدعية فلا يقبل قولها إلا بحجة.
l
فإن قيل: لماذا لا تترجح دعواها بسبب الإسلام؟ قلنا: الإسلام إنما يعتبر ترجيحاً

(8/426)


حالة المساواة في الدعوى ولا مساواة هاهنا.
فإن قيل: إذا كان الإسلام بعد الكفر حادثاً من كل وجه، والأصل في الحوادث أن يحال لحدوثها على أقرب الأوقات وأقرب الأوقات ما بعد موت الزوج يجب أن يجعل القول قولها لتمسكها بما هو الأصل، قلنا: هذا الأصل معارض بأصل آخر، فإن الأصل أن يجعل القول قول من يشهد له الظاهر، والظاهر شاهد للوارث، فإنها مسلمة للحال، والحال حكم في التعرف عما مضى في الدفع دون الإلزام كما في مسألة الطاحونة، فالحال يشهد للورثة وفي اعتبار الحال دفع الميراث لا إبطال شيء أو إلزام شيء على الغير، فوقعت المعارضة بين الأصلين فتساقطا، بقي ما ذكرنا وهو (139ب4) دعواها أمراً حادثاً من كل وجه خالياً عن المعارض فلا يقبل قولها إلا بحجة.
ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية، فتقول وهي مسلمة وقت الخصومة: أسلمت قبل موته، وقالت الورثة: لا بل أسلمت بعد موته، فالقول قول الورثة أيضاً لما ذكرنا: أنها تدعي أمراً حادثاً من كل وجه.

فإن قيل: ينبغي أن يجعل الحال حكماً في معرفة حكم ما مضى كما في المسألة المتقدمة، وهي مسلمة في الحال فيحكم بإسلامها فيما مضى، قلنا: الحال حكم ظاهر في الدلالة على الماضي، وليست بدليل قطعي والظاهر يصلح حجة للدفع، لا لإثبات شيء لم يكن، والورثة هم الدافعون في المسألتين جميعاً أما في المسألة الأولى فظاهر، وأما في المسألة الثانية فلأنهم ينكرون إسلامها فيما مضى لدفع الميراث تحقق أن سبب الحرمان ظهر في الفصلين وهو اختلاف الدين فهي تدعي الوراثة بعد ظهور سبب الحرمان بدعوى أمر حادث من كل وجه، والورثة ينكرون ذلك فكان القول قولهم.
قال في «الأصل» : وإذا مات الرجل وترك ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات أبي مسلماً وقد كنت مسلماً أسلمت حال حياة الأب، فقال الآخر: صدقت وقد كنت أيضاً مسلماً أسلمت حال حياة الأب وكذبه الابن المتفق على إسلامه وقال: إنما أسلمت بعد موت الأب، فإن الميراث للابن المتفق على إسلامه؛ لأن وراثة الابن المتفق على إسلامه ثابت باتفاقهما، فإنهما يصدقان على موت الأب مسلماً وعلى إسلامه قبل موت أبيه.

وعلى الآخر البينة وذلك لأن الآخر ادعى أنه أسلم قبل موت أبيه، والابن المتفق عليه يقول: أسلمت بعد موت الأب، والإسلام أمر حادث من كل وجه، بعدما اتفقا على الكفر، والأصل في الحوادث أنه يحكم بحدوثها لأقرب ما ظهر، والابن المتفق على إسلامه بدعوى حدوث الإسلام لأقرب ما ظهر متمسك بما هو الأصل في الحوادث، فيكون منكراً والآخر مدعياً فكان عليه البينة ولا يحكم الحال.

وإن وقع الاختلاف في إسلام الابن المختلف فيه فيما مضى وهو مسلم للحال، فالحال يدل على ما مضى إذا لم يعرف حدوثه للحال، بخلاف مسألة الطاحونة، ووجه الفرق بينهما وهو: أن تحكيم الحال إنما يجوز لإثبات ما مضى إذا كان ما ثبت في الماضي ثابتاً للحال، لأن الحال يدل على الماضي إذا لم يعرف حدوثه للحال فأما إذا لم

(8/427)


يكن ثابتاً للحال لا يجعل حكماً على ما مضى، ألا ترى أن في مسألة الطاحونة لو اتفقا على انقطاع في بعض مدة الإجارة واختلفا في مقداره، فإن قال المستأجر: كان الماء منقطعاً شهرين، وقال صاحب الطاحونة: لا بل انقطع شهراً، فإنه لا يحكم الحال ولكن القول قول المستأجر مع يمينه، لأنهما اختلفا في مقدار مدة الانقطاع، ومقدار مدة الانقطاع للحال غير ثابت إنما الثابت للحال نفس الانقطاع إن كان الماء للحال منقطعاً لا انقطاع، مقدار شهر أو شهرين، وكذلك إن كان القيام هو الحرمان، وفي مسألتنا حاصل الخلاف وقع في مقدار مدة الإسلام لا في نفس الإسلام إنه كان أو لم يكن، والثابت في الحال نفس الإسلام لا إسلام مقدر بقدر شهر أو شهرين، بخلاف ما لو اختلفا في انقطاع الماء، ادعى المستأجر انقطاعه وأنكر صاحب الطاحونة، وذلك لأن الاختلاف وقع في نفس الانقطاع فيما مضى لا في مقداره، ونفس الانقطاع للحال يدل على ثبوته فيما مضى، إذا لم يحدث للحال معاينة، فوجب تحكيم الحال على ما مضى.

وإذا كانت الدار في يدي ذمي، فادعى رجل مسلم أن أباه مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، وأقام بينة على ذلك من أهل الذمة، وادعى ذمي فيها مثل ذلك، وأقام بينة من أهل الذمة، فإنه يقضي بها للمسلم، وذلك لأن بينة المسلم حجة على ذي اليد وعلى من ينازعه وهو الذمي الخارج، وبينة الذمي إن كانت حجة على ذي اليد؛ لأن ذا اليد ذمي، فليس بحجة على المسلم الخارج، وكما يصير ذو اليد مقضياً عليه ببينة كل واحد من المدعين، فكل واحد من المدعيين الخارجين يصير مقضياً عليه في النصف من جهة صاحبه، ولهذا قالوا: لو ادعى أحد المدعيين النصف الذي قضي به لصاحبه، وأراد أن يقيم البينة على ذلك لا يسمع ما لم يدع تلقي الملك من جهة المدعيين، وإذا لم تكن هذه البينة حجة في حق الاستحقاق على المسلم، صار وجود مدة البينة في حق المسلم وعدمه بمنزلة، ولو عدم بينة الذمي أصلاً كان يقضي بجميع الدار للمسلم فكذا هذا، ولو كانت بينة الذمي مسلمين قضيت بالدار بينهما نصفان.
فرق بين هذا وبينما إذا مات الرجل وترك ابنين أحدهما مسلم والآخر ذمي، أقام كل واحد من الابنين بينة أن أباه مات على دينه، كانت بينة المسلم أولى، ولم تترجح بينة المسلم منهما، وذلك لأن في تلك المسألة البينتان إنما قامتا لإثبات إسلام الميت وكفره، وقد استويا في الإثبات من الوجه الذي ذكرنا، ويرجح ما يوجب الإسلام على ما يوجب الكفر على ما مر، فأما هاهنا البينتان قامتا لإثبات الملك لا لإثبات الإسلام والكفر، فإن ذلك ثابت باتفاق الخصمين، إلا أن أحدهما يثبت الملك للمسلم، والآخر للكافر، ولم يوجد ما يوجب ترجيح بينة المسلم في حق إثبات الملك له، فإن الكافر في تملك الأموال والمسلم سواء، ألا ترى أنهما لو أخذا صيداً أو اشتريا مالاً كان بينهما نصفين؟ فلهذا يقضى بينهما نصفين.

وإذا مات الرجل وترك داراً فقال ابن الميت وهو مسلم: مات أبي وهو مسلم وترك هذه الدار ميراثاً لي، وجاء أخ الميت وهو ذمي فقال: مات أخي وهو كافر على ديني

(8/428)


وابنه هذا مسلم، فالقول قول الابن وله الميراث، وذلك لأن مدعي الكفر لو كان مساوياً للمسلم في الدعوى وسبب الاستحقاق، بأن كان ابناً كان القول قول المسلم بسبب الإسلام، فإذا كان دونه في سبب الاستحقاق أولى أن يكون القول قول المسلم.
ولو أقاما جميعاً على مقالتهما بينة أخذت بينة المسلم؛ لأن المدعي بكفر الميت لو كان مساوياً لمدعي الإسلام في الاستحقاق، بأن كان ابناً كانت بينة المسلم أولى، فإذا لم يكن مساوياً له في الاستحقاق أولى أن تكون البينة بينته.
ولو أقام الأخ بينة من أهل الذمة على ما قال ولم يقم الابن البينة لم أجز بينة الأخ ليست بحجة على الابن، لأنه مسلم ولا شهادة للكافر على المسلم، فصار وجودها وعدمها بمنزلة، فأما إذا أقام الأخ مسلمين على ما ادعى من كفر الميت الآن يقضى بالميراث للأخ؛ لأن سبب الحرمان يثبت في حق الابن وهو كفر الميت؛ لأن الأخ أقام البينة على الكفر ولم يقم الابن بينة إنما له مجرد الدعوى ولا عبرة للدعوى بمقابلة البينة، وكان بمنزلة ما لو أقام الأخ البينة أن الابن قتل الأب والابن يقول: لم أقتل كان الميراث للأخ، بخلاف ما لو أقام البينة ولم يقم لهما بينة، لأن هناك الموجود مجرد الدعوى من الجانبين أو الدعوى مع البينة، ولا مساواة بين الدعوتين، وسبب الاستحقاق وحالة المسلم منهما أولى فحال عدم المساواة أولى أن يكون أولى.

وإذا كانت الدار ميراثاً في يدي ورثة فقالت امرأة الميت وهي مسلمة: زوجي كان على ديني في الأصل ومات وهو مسلم، وقال أولاده وهم كفار: بل مات أبونا وهو كافر وللميت أخ مسلم، فإن القول قول المرأة وذلك لأن المرأة ساوت الأولاد في الدعوى وسبب الاستحقاق، وعند الاستواء في الدعوى وسبب الاستحقاق يترجح قول المسلم منهما بسبب الإسلام، كما (لو) كان للميت ابنان وأحدهما مسلم يدعي إسلامه والآخر كافر يدعي كفره وإنما قلنا: استويا في الدعوى، لأن كل واحد منهما تمسك بما هو ثابت في الأصل من وجه وبما هو حادث من وجه، فاستويا في الدعوى والإنكار، وإنما قلنا: استويا في سبب الاستحقاق؛ لأن الزوجية سبب استحقاق الإرث كالولاد، ألا ترى أن المرأة تستحق الميراث على كل حال لا تحجب بوارث آخر كالولد إلا أن الولد يستحق الأكثر والمرأة الأقل؟ إلا أن العبرة لاستوائهما في أصل الاستحقاق لا في مقدار المستحق، ألا ترى أن المدعي لإسلام الميت لو كانت ابنته مسلمة والمدعي للكفر ابناً كافراً، كان القول قول الابنة لأنها ساوته في الدعوى والإنكار، وفي أصل الاستحقاق إن لم تساوه في قدر الاستحقاق فكذلك هذا، وإذا جعلنا القول قول المرأة يثبت إسلام الميت بقولها، فكان كالثابت بالبينة ولو ثبت بالبينة كان ما بقي بعد فرض المرأة للأخ لا للولد، فكذلك إذا ثبت بقولها.
ولو لم يكن له امرأة وكان له ابن كافر وأخ مسلم، فقال الأخ المسلم: مات على ديني، وقال الابن: لا بل مات كافراً، فإن القول قول الابن ولم يترجح قول الأخ بسبب الإسلام، وقد استويا في الدعوى فإن كل واحد منهما ادعى ما هو ثابت في الأصل من

(8/429)


وجه وما هو حادث من وجه، وفي مسألة الزوجة مع الولد، وفي مسألة الابنين لما استويا في الدعوى والإنكار يرجح قول المسلم (140أ4) منهما بسبب الإسلام، ووجه الفرق بينهما: أن في مسألة الابنين إنما اعتبرنا الإسلام مرجحاً لأنهما استويا في الدعوى والإنكار وفي سبب الاستحقاق أيضاً، فإن سبب الاستحقاق لكل واحد منهما البنوة، فرجحنا قول أحدهما بسبب الإسلام، والابن والأخ إن استويا في الدعوى والإنكار لم يستويا في سبب الاستحقاق، فإن سبب الاستحقاق للابن البنوة وسبب الاستحقاق للأخ الأخوة ولا مساواة بينهما في الاستحقاق، فإن الابن لا يحجب بأحد والأخ يحجب بالابن، ولما لم يستويا في الدعوى وسبب الاستحقاق لم يمكن أن يعتبر للإسلام ترجيحاً، وكان كالولد الحادث بين أبوين كافرين وله جد مسلم، فإنه لا يحكم بإسلامه تبعاً للجد، لأنه لا مساواة بين الجد والأبوين في سبب التبعية، وهي الولاد؛ لأن الولاد بين الأبوين ثابت بغير واسطة وللجد مع الواسطة، ولما لم يستويا في سبب التبعية لم يعتبر للإسلام ترجيحاً فكذلك هذا.

الفصل الثاني عشر: في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به
بعض مسائل هذا الفصل ذكرناه في كتاب «أدب القاضي» فنذكر هاهنا ما لم يذكر ثمة، ذكر في «فتاوى النسفي» : إذا قال الشاهد بالفارسية: أين تدعي عليه أين محدود باسمه حدها وحقها دعي بفروخت بدين مدعى، ولم يقل: بهمه حدها وحقها فالشهادة صحيحة، قال ثمة: وقد وقعت هذه المسألة مرة بسمرقند، ومشايخنا أجابوا بالصحة، وهذا لأن معنى قوله بحدوده، مع حدوده لأن الحديد يدخل تحت البيع، ولو شهدوا بهمسه حدها دعي أليس أنه تصح الشهادة كذا هنا.
قالوا: فالصحيح من الجواب أن يقال: إن ذكر في الحدود لزيق دار فلان، أو ينتهي إلى دار فلان أو ما أشبهه فالشهادة صحيحة. وإن ذكروا دار فلان أو ذكروا في الحدود الطريق أو المسجد لا تصح الشهادة، وفي كتاب الشروط: إذا كتب أحد حدود هذه الدار دار فلان والثاني والثالث والرابع كذلك لا يكتب اشتريتها بحدودها، لأن الحد يدخل وإذا كتب أحد حدوده ينتهي إلى دار فلان أو ملازق دار فلان كتب اشتريتها بحدودها، وإذا غلظ الشاهد في أحد الحدود لا تقبل شهادته بخلاف ما إذا ترك أحد الحدود وقد ذكرنا هذا في كتاب «أدب القاضي» وإنما يثبت غلط الشاهد في ذلك بإقرار الشاهد: أني قد غلظت في ذلك، أما لو ادعى المدعى عليه أن الشاهد قد غلظ في الحدود أو في بعضها، لا يسمع دعواه، ولو أقام البينة على ذلك لا يسمع بينته، هكذا حكي فتوى شمس الأئمة السرخسي وشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، وهذا لأن دعوى الغلط من المدعى عليه على الشاهد إنما دعوى المدعي والجواب من المدعى عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بعد دعوى المدعي، والجواب من المدعى عليه، والمدعى عليه

(8/430)


حين أجاب المدعي عن دعواه فقد صدقه أن المدعي بهذه الحدود، فيصير بدعوى الخطأ بعد ذلك في الحدود كلاً أو بعضاً متناقضاً.

أو يقول: تفسير دعوى الغلط في أحد الحدود، أن يقول المدعى عليه: أحد الحدود ليس ما ذكره الشهود، أو يقول: صاحب أحد الحدود ليس بهذا الاسم الذي ذكره الشهود، وكل ذلك نفي والشهادة على النفي لا تقبل.
وكذلك لو ادعى المدعى عليه إقرار المدعي بغلط الشاهد في الحد لا يسمع دعواه، وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: إذا أخطأ الشاهد في بعض الحد، ثم تدارك وأعاد الشهادة وأصاب ذلك، قبلت شهادته عند إمكان التوفيق، سواء تدارك في ذلك المجلس أو في مجلس آخر وتفسير إمكان التوفيق، أنه قال: كان صاحب الحد فلان إلا أنه باع داره من فلان ونحن ما علمنا به، أو يقول: كان اسم صاحب الحد ما قلنا، إلا أنه سمي بعد ذلك بهذا الاسم ونحن ما علمنا وعلى هذا فافهم، هذا إذا ترك الشاهد أحد الحدود أو غلط، وأما إذا ترك المدعي أحد الحدود أو غلط فيه، فهو على نحو ما ذكرنا في الشاهد.

وإذا ادعى المدعى عليه أن المدعي أخطأ في أحد الحدود وكان ذلك بعدما قضي على المدعى عليه بنكوله أو ببينته لا تصح دعواه لوجهين.
أحدهما: ما ذكرنا في فصل الشاهد: أن المدعى عليه في دعوى الغلط بعدما أجاب المدعي عن دعواه متناقض.
والثاني: أن دعواه الخطأ في الحدود ليس فيه أكثر من إنكاره أن المحدود المدعى في يده، أو أن المحدود الذي يدعي ليس ملك ولا يندفع عنه دعوى المدعي من هذين الوجهين، وإن أقام على ذلك بينة كذا هاهنا.
إذا قال القاضي لمدعي العقار: هل تعرف حدود المدعى؟ قال: لا، ثم أعاد الدعوى وذكر الحدود لا يسمع دعواه، ولو قال: لا أعرف أسماء أصحاب الحدود يعني الجيران، ثم أعاد الدعوى وذكر أسماءهم يسمع دعواهم.

ولو أنه قال: لا أعرف الحدود ثم ذكر الحدود بعد ذلك وقال: عنيت بقولي لا أعرف الحدود، ولا أعرف أصحاب الحدود، قبل ذلك منه وسمع دعواه ثانياً إذا ذكر في الدعوى أو الشهادة أحد حدود الأرض المدعى لزيق أرض فلان، ولفلان في القرية التي فيها الأرض المدعى أراض كثيرة مختلفة متفرقة، صحت الدعوى وصحت الشهادة، وإن كان فيه نوع جهالة إلا أنها تحملت لضرورة، فإنه عسى لا تكون لأرض فلان علامة لكن يعرفها بتلك العلامة، وهذا هو الغالب من حال الأراضي في القرى، فيتعين للتعريف ذكر اسم صاحبه، ألا ترى أنه إذا ذكر في اسم صاحب الحد بناء محمد بن أحمد بن محمد فذلك يكفي وإن كان فيه نوع جهالة؛ لأن كثيراً من الناس يكونون بهذا الاسم والنسب، وقد تحمل ذلك لمكان الضرورة؟ فكذا هاهنا.
ولو ذكر في الحدود كنية صاحب الحد أبو فلان أو ذكر ابن فلان، فذلك لا يكفي

(8/431)


إلا إذا كان صاحب الحد مشهوراً بذلك، كشهرة أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله، وقد ذكرنا نظير هذا في كتاب «أدب القاضي» .
ولو ذكر في الحدود: لزيق أرض سيان ديهي فذلك لا يكفي؛ لأن سيان ديهي مجهول جهالة متفاحشة، فالأراضي التي غاب أربابها، أو مات أربابها ولا ولد لهم، تسمى: ديهي، وكذلك الأراضي تركت لرعي الدواب، ولم تدخل تحت القسمة تسمى: سيان ديهي، وكذلك إذا ذكر في الحد لزيق أرض وقف، فذلك لا يكفي وينبغي أن يذكر أنها وقف على الفقراء أو على مسجد كذا أو ما أشبهه.
وكذلك إذا ذكر في الحد أرض لزيق أرض ورثة فلان فذلك لا يكفي؛ لأن الورثة مجهولون، فمنهم صاحب فرض ومنهم عصبة ومنهم ذووا الأرحام، فكان مجهولاً جهالة متفاحشة، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا أن هذا وارث فلان، فالقاضي لا يقبل شهادتهم؟ وإنما لا تقبل لمكان الجهالة في الوارث.

يوضحه: أن المقصود من ذكر الحدود، وذكر صاحب الحد، التعريف، وربما يكون صاحب الحد من جملة ذوي أرحام فلان، ويكون بعيداً عنه بحيث لا يعرفه الناس وارثاً لفلان مع كونه وارثاً له حقيقة فلا يحصل به التعريف.
وإذا ادعى أرضاً مثلثة وذكر حدين لا غير والشهود أيضاً ذكروا حدين لا غير تصح الدعوى وتصح الشهادة، وهذا وما لو ذكر الحدود الثلاثة في الأرض المربعة على السواء، وإذا شهدوا بملكية الأرض وبينوا حدودها، وقالوا: هي مقدار خمس مكاييل بذر، والمدعي يدعي ذلك ذكر ذلك في دعواه وأصابوا في بيان الحدود إلا أنهم أخطؤوا في بيان المقدار فهي تسع قدر ثلاث مكاييل بذر، حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي أنه قال: لا تبطل دعوى المدعي ولا شهادة شهوده، لأن بيان مقدار البذر بعد ذكر الحدود غير محتاج إليه، فصار ذكره ولا ذكره سواء، وأجاب بعض مشايخ زمانه ببطلان الدعوى والشهادة.
وقد يجب أن تكون المسألة على التفصيل إن شهدوا بحضرة الأرض المدعى به وأشاروا إليها تقبل (140ب4) وبلغوا ذكر الوصف، وهو بيان قبول مقدار البذر، وإن شهدوا بغيبة الأرض لا تثبت بهذه الشهادة ملكية أرض تسع فيها خمس مكاييل بذر.
وقيل: لا تقبل البينة على كل حال وهو الأظهر والأشبه بالفقه.
وإذا جعل الحد طريق العامة لا يشترط أن يذكر طريق القرية أو طريق البلد، ويجب أن يعلم أن الطريق يصلح حداً، ولا حاجة فيه إلى بيان الطول والعرض إلا على قول لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله فإنه كان يقول: يبين الطريق بالذراع، والنهر لا يصلح حداً عند بعض أهل الشروط، وكذلك التنور وهو رواية عن أبي حنيفة، وظاهر المذهب أنه يصلح حداً وفي اشتراط حدود المستثنيات نحو الطريق والمقبرة والحياض اختلاف المشايخ، فمنهم من شرط ذلك ومنهم من لم يشترط، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يقول: إذا كانت المقبرة تلاً لا يحتاج إلى ذكر حدودها وإذا لم تكن تلاً يحتاج لأنها عسى تزداد.

(8/432)


وإذا ادعى محدوداً في يد رجل وأحد حدوده أو جميع حدوده متصل بملك المدعي هل يحتاج إلى ذكر الفاصل؟ فقيل: لا يحتاج، ولو كان متصلاً بملك المدعى عليه يحتاج إلى ذكر الفاصل؛ لأن في الوجه الأول اختلاف اليد فاصل ولا كذلك في الوجه الثاني، وقيل: إن كان المدعى أرضاً فكذلك الجواب، وإن كان بيتاً أو داراً أو منزلاً فلا حاجة إلى الفاصل والجدار فاصل، وإذا كان المدعى أرضاً واحتيج إلى ذكر الفاصل، فذكروا الفاصل شجرة، فذلك لا يكفي هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي، وهذا لأن الشجرة لا تحيط بجميع المدعى به، والفاصل يجب أن يكون محيطاً بجميع المدعى به حتى يصير المدعى به معلوماً، فإذا ادعى أرضين محدودة معلومة، ثم ترك الدعوى في أحد الأرضين، وأدعى الأرض الأخرى ولم يذكر الحدود فقد قيل: لا تصح الدعوى ولا الشهادة لمكان الجهالة.

وإذا ادعى محدود في موضع كذا وبين الحدود ولم يبين أن المحدود ما هو كرم أو أرض أو دار، هل يوجب هذا جهالة في المدعى به؟ وإذا شهد الشهود على هذا الوجه هل تقبل شهادتهم؟ حكي فتوى شمس الأئمة السرخسي: أنه لا تصح هذه الدعوى، ولا تقبل هذه الشهادة، وحكى فتوى شمس الإسلام الأوجندي: أن المدعي إذا بين المصر والمحلة والموضع والحدود يصح الدعوى، ولا يوجب ترك بيان المحدود جهالة في المدعى به، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يكتب في جواب الفتوى: لو سمع قاضي هذه الدعوى يجوز، وقيل: ذكر القرية والمصر والمحلة والسكة ليس بلازم.
وإذا ادعى ألف درهم ثمن لدار مقبوضة، ولم يذكر حدود الدار والشهود شهدوا كذلك، فالدعوى صحيحة والشهادة مقبولة، لأن الدار إذا كانت مقبوضة فلا حاجة إلى القضاء بها، فترك الحد فيها لا يضره.
وإذا قال الشهود في شهادتهم: أحد حدود هذه الأرض لزيق شط الوادي، ثم أقر المدعي أن بين شط الوادي وبين أرض المدعى طريق عامة بطلت الشهادة؛ لأنه أكذب الشهود في بعض ما شهدوا، وإنه يوجب بطلان الشهادة في الكل، وإن ظهر ذلك عند القاضي بما هو طريق حصول العلم، بطلت الشهادة في مقدار الطريق وتقبل فيما سواه، وقيل: لا تقبل الشهادة لأنه اختلف الحد، وكذلك إذا شهد الشهود أن هذه الأراضي ملك المدعي، ثم ظهر أن في الأراضي طريق العامة، إن ظهر ذلك بإقرار المدعي، لا تقبل شهادة الشهود، وإن ظهر ذلك بإخبار واحد من المسلمين لا يمنع قبول الشهادة، وإن حصل العلم للقاضي بما هو طريق حصول العلم، لا تقبل الشهادة في الطريق، وتقبل فيما سواه، وإذا كانت الدار معروفة لابد من ذكر الحدود عند الدعوى والشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: إذا كانت الدار معروفة مثل دار عمرو بن الحارث بالكوفة تقبل الشهادة من غير ذكر الحدود، وتصح الدعوة أيضاً.
Y

(8/433)


الفصل الثالث عشر: في شهادة الوارث بالوصية والرجوع عنها وفي شهادةالوصي للميت وفي شهادة الوكيل للموكل
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا هلك الرجل، وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل، وشهد وارثان أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر فهذا على وجهين.
الأول: أن تكون هذه الشهادة من الوارثين قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى، وفي هذا الوجه القاضي يقبل شهادة الوارثين ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى أو (لم) يذكرا رجوعاً عنها، غير أنهما إن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، بقيت الوصية الأولى، ووجبت الوصية الثانية، ووجب تنفيذهما من الثلث؛ لأن محل الوصية الثلث، فيأخذ كل واحد منهما نصف العبد الموصى به له.

فإن ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى بطلت الوصية الأولى، ويكون العبد الثاني للموصى له الآخر اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت عياناً، وإن كان القاضي قضى بالوصية الأولى، ثم شهد الوارثان بما ذكرنا، لا تقبل شهادتهما ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، أو لم يذكرا رجوعاً، إن ذكرا رجوعاً؛ لأنهما بشهادتهما يبطلان قضاء القاضي عليهما؛ لأن الوارث يصير مقضياً عليه بطريق الخلافة عن الميت.
ولهذا قلنا: إن الوارث لو ادعاه لنفسه ملكاً مطلقاً لا يصح لصيرورته مقضياً عليه، ولأنهما بهذه الشهادة يعيدان العبد الأول إلى ملكهما، لأن العبد الأول قد زال عن ملكهما بقضاء القاضي، وكل ذلك مانع قبول الشهادة ولا شيء للثاني بحكم إقرارهما، لأنهما أقرا بحق الثاني من الثلث بطريق الوصية، والقاضي جعل كل الثلث للأول فلم يبقي محل حق الثاني فلهذا لا يسلم له شيء.
وأما إذا لم يذكرا رجوعاً فلأنهما بهذه الشهادة يعيدان نصف العبد الأول إلى ملكهما بنصف العبد الثاني فيكون في معنى البيع، والبيع لا يثبت بشهادتهما بخلاف ما قبل القضاء لأن قبل القضاء العبد الأول لم يزل عن ملكهما فلا يتصور البيع أما هاهنا بخلافه.
وكذلك لو كان مكان الوصية الثانية عتقاً بأن شهد الوارثان أن الميت أعتق هذا العبد الآخر في مرض موته إن كان شهادتهما بعدما قضى القاضي بالوصية الأولى لا تقبل شهادتهما، وإن كان قبل قضاء القاضي تقبل شهادتهما.
لأن بعد القضاء لو قبلت شهادتهما احتجنا إلى نقض قضاء أمضى عليهما وذلك لا يجوز ولا كلذلك قبل القضاء، ولكن مع أنه لا تقبل شهادتهما بحكم بعتق العبد؛ لأنهما مالكان أقرا بعتق مملوك لهما ويسعى العبد في قيمته؛ لأنهما أقرا بعتقه بطريق الوصية من الثلث، والثلث صار مستحقاً

(8/434)


للأول بقضاء ألقاضي فيجب رد العتق، وتعذر رده صورة فيجب رده معنى بإيجاب السعاية.
وإن كان الوارثان شهدا بذلك العبد وصية للثاني من جهة الميت إن كان قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى قبلت شهادتهما والكلام هاهنا أظهر؛ لأن هاهنا لا يصل إليهما شيء من العبد فبعد ذلك إن ذكرا رجوعاً فالعبد للثاني خاصة، وإن لم يذكرا رجوعاً كان العبد بينهما إذا لا تنافي بين الوصيتين.
وإن شهدا بذلك بعدما قضى القاضي بالوصية الأولى إن لم يذكرا رجوعاً قبلت شهادتهما وقضي بالعبد بينهما؛ لأن هذه الشهادة لم تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء من العبد إلى ملكهما ليصير في معنى البيع.
أما إعادة شيء من العبد إلى ملكهما فظاهر، وأما نقض القضاء فلأنها لا تبطل شيئاً من حق الأول بل توجب الحق للثاني، فتثبت الوصية الثانية مع بقاء الوصية الأولى بجميع العبد، وهذا لأن الوصية عقد خلافة في المال المسمى في الوصية، وكون الثاني خليفة في المال لا ينافي كون الأول خليفة ولهذا يضرب كل واحد منهما بجميع حقه ولهذا لو رد أحدهما الوصية كان العبد كله للآخر، ولما كان هكذا فقد أثبت حق الثاني مع بقاء حق الأول بينهما وقضي بالعبد بينهما لاستوائهما في سبب الاستحقاق وضيق المحل.
وإن ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى لا تقبل شهادتهما على الرجوع لما فيه من إبطال قضاء أمضى عليهما، وقبلت شهادتهما على الوصية الثانية إذ ليس فيه إبطال قضاء أمضى عليهما، ولو كان القاضي دفع العبد إلى الموصى له الأول بشهادة الفريق الأول، ودفع العبدين (141أ4) إلى الوارثين على وجه القسمة ثم شهد الوارثان أن الميت أوصى بهذا العبد بعينه لهذا الآخر، لا تقبل شهادتهما وإن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، لأن هذه الشهادة تتضمن نقض تسليم القاضي في بعض العبد، وبعض قسمته لأن القاضي قسم العبد بينهم أثلاثاً، فلو قبلت هذه الشهادة تصير القسمة أسداساً، وتسليم القاضي وقسمته قضاء منه، وكما لم تقبل شهادتهما إذا تضمنت إبطال القضاء، فكذا إذا تضمنت إبطال التسليم والقسمة.

وكذا لو أن القاضي قضى بالوصية الأولى، ثم شهد الوارثان أن الميت أعتق هذا العبد بعينه في مرضه، لا تقبل شهادتهما؛ لأنها لو قبلت تضمنت بعض القضاء بالوصية الأولى، لأن العتق الموقع أولى بالاعتبار من سائر الوصايا.
ولو أن رجلاً مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل الآخر، إن كانت شهادة الوارثين قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى قبلت شهادتهما، لأن هذه الشهادة لا تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء زال عن ملكهما إليهما، وإن كانت شهادتهما بعد قضاء القاضي بالوصية

(8/435)


الأولى، إن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى قبلت شهادتهما، لأن هذه الشهادة لا تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء زال عن ملكهما إليهما، وإن ذكرا رجوعاً لا تقبل شهادتهما على الوصية الثانية؛ لأنها لا تتضمن إبطال القضاء وتقبل شهادتهما على الوصية الثانية، لأنها لا تتضمن إبطال القضاء، ثم يشتركان في الثلث بحكم المزاحمة وضيق المحل.

ولو أن الوارثين شهدا أن الميت أعتق هذا العبد في مرضه، وكان ذلك بعد قضاء القاضي بالوصية الأولى لا تقبل شهادتهما؛ لأنها لو قبلت بطل قضاء القاضي بالوصية الأولى، لأن العتق الموقع يقدم على سائر الوصايا، ولكن يعتق العبد؛ لأنهما أقرا بعتقه ولهما فيه ملك ويجب على العبد السعاية لما ذكرنا، ويكون ثلثا السعاية للموصي له؛ لأنه استحق الثلث من كل التركة والثلثان للورثة، فإن قال الموصى له بالثلث: قد وجب في ثلث العبد وصية وقد أتلف الوارثان، على حين أقرا بعتقه، فلي أن أضمنهما ليس له ذلك، لأن الوارثين ما أعتقا هذا العبد وما أقرا بعتقه بإعتاق منهما، وإنما حكيا الإعتاق من جهة الميت ولا ضمان في مثل هذا كرجلين اشتريا عبداً وأقر أحدهما أن البائع كان أعتقه، فإنه لا يضمن لشريكه شيئاً.
كذا هنا ولو أن القاضي قسم العبد بين الورثة وبين الموصى له الأول، فأعطى الموصى له بالثلث والورثة الثلثين، وشهد الوارثان أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل الآخر، لا تقبل شهادتهما، لأن هذه الشهادة تتضمن نقض تسليم القاضي وقسمته.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الوارثين لو أقرا بدين لرجل ومعهما ورثة غيرهما، فلم يقض القاضي بشيء بحكم إقرارهما، حتى شهدا لذلك الرجل على الميت بذلك الدين قبلت شهادتهما عليهما وعلى باقي الورثة، حتى يستوفي جميع الدين من جميع التركة، ولو كان القاضي قضى بالدين عليهما في نصيبهما حين أقرا بالدين، ثم شهدا بعد ذلك لصاحب الدين بالدين على الميت، فالقاضي لا يقبل شهادتهما على باقي الورثة، لأن بقضاء القاضي ثبت الدين على الميت في حقهما، واستحق جميع ذلك في نصيبهما، فهما إلى باقي الورثة، أورد هذه المسألة لبيان أن الشهادة إذا تضمنت نقض القضاء لا تقبل، والفصل الأول يصير حجة للشافعي رحمه الله في مسألة أحد الورثة إذا أقر بدين على الميت وكذبه باقي الورثة، فعندنا يستوفي كل الدين من نصيب الوارث المقر، وعند الشافعي رحمه الله يلزمه بقدر حصته.
ووجه الاحتجاج بها: أنه لو كان يلزم المقر كل الدين في نصيبه كان بالشهادة محولا بعض ما لزمه إلى غيره فينبغي ألا يقبل شهادة الوارثين بالدين لصاحب الدين على الميت قبل قضاء القاضي عليهما بالدين في نصيبهما، وهذا لأن الإقرار يلزم بنفسه فكان الحال فيه قبل القضاء وبعد القضاء سواء، ولا كذلك الشهادة لأن الشهادة لا يكون ملزمه بنفسها، ما لم يتصل بها قضاء القاضي، فجاز أن يفرق الحال فيها قبل القضاء وبعده والجواب لعلمائنا رحمهم الله: أن بمجرد الإقرار لا يلزم كل الدين في نصيب المقر ما لم يتصل به قضاء القاضي.

(8/436)


وبيان ذلك من وجهين، أحدهما: أن هذا الإقرار في معنى الشهادة فإنه إقرار على الغير وهو الميت فكما أن الشهادة التي فيها تنفيذ القول على الغير لا تصير موجبة إلا بقضاء القاضي، فكذا الإقرار الذي هو في معنى الشهادة.
والثاني: أنه يحتمل أن رب الدين يجد بينة على ذلك، أو يصدقه باقي الورثة، فلو ألزمنا المقر جميع الدين في نصيبه للحال فقد ألزمناه مع الاحتمال، وإنه لا يجوز وإنما ينقطع هذا الاحتمال، ويلزمه كل المال في نصيبه بقضاء القاضي، فإذا شهدا قبل القضاء يحولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فتقبل شهادتهما، وإذا شهدا بعد القضاء فقد حولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فلا تقبل شهادتهما.
فإن قيل: إذا كان لا يلزم المقر كل الدين في نصيبه بمجرد إقراره فبأي طريق يقضي القاضي عليه بكل الدين؟ قلنا: طريقه أن الدين يقضى من أيسر المالين قضاء، ألا ترى أنه إذا كان في التركة دين وعين فالدين يقضى من العين دون الدين؟ وكذا إذا كان بعض التركة حاضراً وبعضها غائباً فالدين يقضى من الحاضر.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا لم يجد رب المال الدين بينة ولم يصدقه باقي الورثة، فقضاء القاضي من نصيب المقر أيسر فقضى عليه، وإن كان الدين متعلقاً بكل التركة، قال في «الكتاب» أيضاً: ألا ترى لو أن رجلا مات، وشهد شاهدان أن الميت أوصى إلى هذا، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما، شهد الوارثان أنه رجع عنه وأوصى إلى هذا الثاني، قبل القاضي شهادتهما، إذا كان الثاني يدعي ذلك ولو كان القاضي قضى للأول ثم شهد الوارثان بذلك فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأنها تضمنت إبطال قضاء القاضي.
أورد هذا الفصل إيضاحاً لما تقدم أيضاً، ثم لم يقل هاهنا: إن شهادة الوارثين تقبل في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الإيصاء الأول كما ذكرنا فيما تقدم، قال مشايخنا: وينبغي على قول أبي يوسف: أن تقبل شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول؛ لأن عنده أحد الوصيين ينفرد بالوصية فلم تكن في قبول شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول، أما في قبول شهادتهما في حق الرجوع عن الأول نقض القضاء الأول، وأما على قولهما لا تقبل هذه الشهادة أصلاً؛ لأن عندهما أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف إلا في أشياء معهودة استحسنا في ذلك على ما عرف في موضعه فلو قبلت الشهادة في حق الإيصاء إلى الثاني لم يبق الأول منفرداً بالتصرف بعد أن كان منفرداً فكان في قبولها نقض القضاء الأول من حيث إن الأول لا يبقى منفرداً فلا تقبل شهادتهما عندهما أصلاً.

قال: رجل هلك وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، وترك ابناً لا وارث له غيره، فأقر الابن أن أباه أوصى بهذا العبد لفلان، فسمع القاضي إقراره ولم يقض عليه شيء حتى شهد هو ورجل آخر أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر، قبل القاضي هذه الشهادة؛ لأن الوارث أقر على الميت بالوصية بالعبد الأول، وإقراره على الميت لا يلزمه شيء ما لم يتصل به قضاء القاضي على ما مر قبل هذا.

(8/437)


فلم تكن الشهادة منه بالوصية بالعبد الآخر إعادة إلى نفسه بعض ما صار مستحقاً عليه، فلم يكن بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً ولا جاراً إلى نفسه مغنماً ولا ساعياً في نقض ما تم قضاء أمضى عليه، فقبلت وإذا قبلت لا شيء للموصى له الأول؛ لأن وصيته تثبت بالإقرار، والإقرار لا يعارض الشهادة؛ لأن الإقرار (حجة) قاصرة والشهادة حجة متعدية، فعند تعذر اعتبارهما كان اعتبار الشهادة أولى، وإذا اعتبرت الشهادة صار كل الثلث مستحقاً للموصى له الثاني، فلا يكون للموصى له الأول شيئاً.
ولو كان القاضي قضى على الوارث بالعبد بإقراره، ثم شهد مع أجنبي آخر على نحو ما بينا لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنها لو قبلت بطل قضاء القاضي بالإقرار لكون الشهادة أقوى من الإقرار، واندفع عن الشاهد ما لزمه بإقراره فلهذا لا تقبل هذه الشهادة وإذا لم تقبل هذه الشهادة لا شيء (141ب4) للموصى له الثاني؛ لأن الثلث صار مستحقاً للأول بكماله بتسليم القاضي إليه، ومحل الوصايا الثلث فلم يبق للثاني شيء، وكذلك لو كانت الشهادة الثانية في العبد المقر بعينه.
كان الجواب على التفصيل الذي قلنا: إن كانت الشهادة قبل قضاء القاضي عليه بإقراره قبلت، وإن كانت بعد القضاء لا تقبل، وإذا لم تقبل الشهادة لا يضمن الوارث للمشهود له فيما سلم القاضي إلى المقر له حصلت الشهادة في العبد المقر بعينه، أو في عبد آخر، لأنه لو ضمن إما أن يضمن بالإقرار أو بالتسليم، لا وجه إلى الأول لأن مجرد الإقرار لا يوجب شيئاً منها على ما مر، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن التسليم حصل بقضاء القاضي.
ولو كان الوارث حين أقر سلم العبد المقر به إلى المقر له بنفسه من غير قضاء القاضي، ثم شهد الثاني بذلك العبد بعينه أو بعبد آخر لا تقبل هذه الشهادة لأنه سعى في نقض ما تم به وهو التسليم وسعي الإنسان في نقض ما تم به مردود.

وإذا لم تقبل شهادته ضمن للثاني نصف قيمة العبد المقر به إن كان العبد واحداً، وإن كان عبدين ضمن نصف قيمة العبد المشهود به للثاني، لأنه لما شهد للثاني فقد أقر أنه يسلم إلى الأول ما هو حق الثاني بغير حق فيصير ضامناً له، ولو كان الوارث أقر بثلث المال وصية لرجل، ثم شهد مع أجنبي بالثلث وصية لرجل آخر، إن كانت الشهادة قبل قضاء القاضي عليه بالإقرار قبلت، وإن كانت بعد القضاء لا تقبل لما قلنا.
ولو شهد الوارثان مع أجنبي بالثلث وصية لرجل، ثم شهدا بالثلث وصية لرجل آخر قبل القاضي شهادتهما سواء شهدا للثاني قبل قضاء القاضي للأول أو بعده، لأن الشهادة الثانية هاهنا لا تتضمن بطلان القضاء لأن الشهادة تعارض الشهادة، ألا ترى أنهما يتحاصان في الثلث؟ بخلاف ما إذا أقر الوارث بالثلث وصية لرجل وقضى به القاضي، ثم شهد هو مع أجنبي وصية بالثلث لرجل آخر، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة؛ لأن هذه الشهادة هنا تتضمن بطلان القضاء الأول؛ لأن الإقرار لا يعارض الشهادة.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الوارث لو شهد مع أجنبي بدين على الميت وقضى

(8/438)


به القاضي، ثم شهد ابنن آخر لرجل على الميت، وليس في التركة وفاء بالدينين قبل القاضي شهادتهما، لأن الشهادة الثانية لا تتضمن بطلان القضاء الأول بل يتحاصان إذا ثبت الدينان.
ولو كان الوارث أقر بدين لرجل على الميت وقضى به القاضي، ثم شهد هو مع أجنبي لرجل آخر بدين على الميت، وليس في التركة وفاء بالدينين، فالقاضي لا يقبل الشهادة لأن هذه الشهادة تتضمن بطلان القضاء فكذا فيما تقدم.

ولو كان الوارث أقر بالدين وسلم إلى الغريم بنفسه، ثم شهد مع آخر بالدين لرجل آخر لا تقبل شهادتهما، لما ذكرنا أنه ساع في نقض ما تم به من التسليم ويضمن نصف ما سلم إلى الأول للثاني إن كان الدينان سواء والتركة لا تفي إلا بواحد منهما؛ لأنه أتلف ذلك القدر على الثاني بغير حق، بخلاف ما إذا كان التسليم بقضاء القاضي حيث لا يضمن للثاني شيئاً، والمعنى ما ذكرنا.
قال: رجلان شهدا أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل، ثم شهد وارثان أن الميت رجع عن ذلك الوصية، وأوصى بالثلث لوارثه فلان، وأنهما يعني: الشاهدان وجميع الورثة أجازوا ذلك بعد الموت، فشهادة الوارثين جائزة، والثلث للوارث في قول أبي يوسف الأول لأنه لا تهمة في شهادتهما؛ لأن الثلث بالرجوع ينتقل من الموصى له الأول إلى الوارث الموصى له، ولا حق للشاهدين فيه، فصار النقل إلى الوارث والنقل إلى الأجنبي سواء، وعلى قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله: شهادة الوارثين على الرجوع باطلة، لأنهما بشهادتهما على الرجوع يثبتان لأنفسهما حقاً في الثلث، حتى إنهما إن شاءا أجازا الوصية للوارث، وإن شاءا لم يجيزا فكانا متهمين في هذه الشهادة، بخلاف ما إذا شهدا لأجنبي لان هناك لا يتعلق نفاذ الوصية الثانية بإجازتهما فانتفت تهمة الحق أما هاهنا بخلافه.

قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل مات وقد كان أوصى إلى رجل، وقبل الوصي الوصاية بعد موته، فلم يخاصم الوصي عند القاضي حتى عزله القاضي عن الوصاية ونصب للميت وصياً آخر، ثم إن الموصى (له) الأول شهد للميت بمال أو غيره على إنسان فشهادته باطلة؛ لأن الميت بالإيصاء أقامه مقام نفسه بطريق الخلافة وله ولاية الخلافة، فإذا مات وقبل الموصى الوصاية فقد قبل الخلافة فتمت الخلافة ونفدت الإقامة، فصار الوصي قائماً مقام الموصي كالوارث، ومن ضرورة قيامه مقام الموصي صيرورته خصماً فيما كان الموصي فيه خصماً، وإذا صار خصماً خرج من أن يكون شاهداً، وبعد ما خرج الإنسان من أن يكون شاهداً في حادثة لا يعود فيها شاهداً أبداً هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» .
وفي «شرح حيل الخصاف» أن شهادة الوصي بعدما خرج عن الوصاية للميت مقبولة فيصير في المسألة روايتان، هذا إذا قبل الوصي الوصاية بعد موت الموصي، ولو أنه لم يقبل ولم يرد حتى شهد عند القاضي، فالقاضي يقول له أتقبل الوصاية أم تردها؟ فإن قبل

(8/439)


بطلت شهادته لصيرورته خصماً من وقت الموت، وإن رد أمضى شهادته لعدم صيرورته خصماً، وإن سكت ولم يجز بشيء، توقف القاضي في شهادته، لأن سبب الرد موقوف، لأن سبب الرد صيرورته خصماً بثبوت الخلافة، والخلافة لا تثبت إلا بالقبول، وإذا كان في سبب الرد توقفاً كان في الشهادة توقفاً وصار كالشفيع إذا شهد بالبيع إن طلب الشفعة بطلت شهادته، وإن سلم قبلت شهادته، وإن سكت ولم يجز بشيء توقف القاضي في شهادته كذا هاهنا.

قال: رجل وكل رجلاً بالخصومة في شيء قبل رجل وقبل الوكيل الوكالة، ثم عزله الموكل فشهد للموكل في ذلك الشيء ينظر: إن كان الوكيل خاصم فيه قبل أن يعزله لم تقبل شهادته، وإن كان لم يخاصم فيه قبلت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف لا تقبل وهذا بناء على أن عند أبي يوسف بمجرد قبول الوكالة يصير خصماً خاصم أو لم يخاصم، ولهذا لو أقر على موكله في غير مجلس القضاء نفد إقراره عليه، وهذا لأن الموكل بالتوكيل أقامه مقام نفسه فإذا قبلت الوكالة تمت الإقامة فقام مقامه كما في الوصاية، ألا ترى أن الإيصاء توكيل بعد الموت فكان كالتوكيل في حالة الخصومة، وعندهما بمجرد قبول الوكالة لا يصير خصماً ولهذا لو أقر على موكله في غير مجلس القضاء لا ينفذ إقراره عليه عندهما، وفرقا بين التوكيل والإيصاء.
والفرق: وهو أن الإيصاء إقامة نفس الوصي مقام نفسه بطريق الخلافة، فلا يتعلق ثبوتها وتمامها للفعل وهو الخصومة قياساً على الإرث، فإن نفس الوارث لما كان يقوم مقام نفس المورث بطريق الخلافة لا يتوقف تمامه على الخصومة حتى يصير الوارث خصماً بنفس موت المورث خاصم أولم يخاصم، فكذا الوصي.
فأما التوكيل اعتبر بالفعل وإقامة فعل الوكيل وهو الخصم مقام فعل نفسه لا إقامة نفس الوكيل مقام نفسه ولكن إذا فعل الوكيل وقام فعله مقام فعل الموكل تقوم نفسه مقام نفسه، فقبل الفعل وهو الخصومة لم تقم مقام الموكل أصلاً فلم يصر خصماً فتقبل شهادته، أما إذا خاصم قامت خصومته مقام خصومة الموكل فصار خصماً كالموكل وخرج من أن يكون شاهداً فلا تقبل شهادته بعد ذلك أبداً فهذا هو الفرق بينهما، ثم الشرط عندهما الخصومة في مجلس القضاء حتى لو خاصم في غير مجلس القضاء وعزله الموكل قبل الخصومة عند القاضي فشهد الموكل تقبل شهادته له عندهما، فصار تقدير المسألة عندهما كأن الموكل قال له: أنت وكيلي بالخصومة في مجلس القاضي، فلا يصير خصماً قبله.

قال: رجل وكل رجلاً بالخصومة مع فلان في كل حق هو له، قبله بمحضر من القاضي، والقاضي يعرفهم، فقبل الوكيل الوكالة ولم يخاصم فلاناً في شيء من ذلك حتى عزله الموكل عن الوكالة، ثم شهد الوكيل للموكل بشيء من ذلك الذي وكله به، قبلت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن المانع من قبول الشهادة صيرورته خصماً، والوكيل إنما يصير عندهما خصماً بالخصومة، ولم توجد الخصومة، وإنما شرط

(8/440)


علم القاضي بالتوكيل حتى لا يحتاج الوكيل في إثباتها لو أنكر الخصم الوكالة.
وإن كان الوكيل خاصم فلاناً في ألف درهم للموكل وقضى القاضي أو لم يقض حتى عزل ثم شهد للموكل أنه شهد (142أ4) بتلك الألف التي خاصم فيها لا تقبل شهادته إجماعاً، وإن شهد بمال آخر تقبل شهادته عندهما لأنه إنما يصير خصما عندهما بالخصومة، والخصومة خصت بتلك الألف، فصار خصماً فيها لا في مال آخر ففي مال آخر انعدم المانع من قبول الشهادة فقبلت.
ولو كان التوكيل بغير محضر من القاضي، فخاصم الوكيل فلاناً في ألف قبله للموكل فأنكر وكالته، فأقام الوكيل بينة عليه بالوكالة، وقضى القاضي بالوكالة، وقضى بالألف أولم يقض حتى عزل الموكل الوكيل، ثم شهد الوكيل للموكل على فلان بتلك الألف أو بمال آخر، لا تقبل شهادته، بخلاف الوجه الأول وهو ما إذا كان التوكيل بعلم القاضي.

والفرق: أن القاضي إذا لم يعلم بالوكالة، والوكيل يحتاج إلى إثباتها بالبينة، ومن ضرورة إثباتها في هذا الحق بالبينة ثبوتها في سائر الحقوق؛ لأن التوكيل واحد وقد حصل عاماً بكل حق، فلا يثبت بشيء حتى يثبت جملته، كما أثبته الموكل، والبينة إنما تعمل بعد الدعوى والخصومة، فإذا صار إثبات الوكالة بالبينة في هذا الحق إثباتاً لها في سائر الحقوق وصارت الخصومة في هذا الحق خصومة في سائر الحقوق لإثبات الوكالة فيها فسقطت شهادته في عامة الحقوق بالخصومة فيها، إلا أن يشهد بمال حادث بعد تاريخ الوكالة، لأن التوكيل بالخصومة في كل حق له قبل فلان إنما يتناول الحقوق الموجودة، ولا يتناول الحادث بعد التوكيل، فلا يصير خصماً في الحادث بعد التوكيل فلا تبطل شهادته، فأما إذا كان التوكيل بعلم القاضي فالوكيل لا يحتاج إلى إثبات الوكالة عند القاضي بعلم القاضي ذلك ليصير إثبات الوكالة في بعض الحقوق إثباتاً في جميع الحقوق، فيصير خصومته في بعض الحقوق خصومة في جميع الحقوق فلهذا افترقا.
واستشهد في «الكتاب» لإيضاح الفرق بين الوجهين فقال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بوكالته بالبينة ثم مات أو عزل ورفع حكمه إلى قاض آخر وثبت ذلك عنده أمضى قضاء الأول وجعل لهذا خصماً في كل حق يدعيه قبل فلان؟ ولو ثبت عند القاضي الثاني علم القاضي الأول بما جرى عنده من الوكالة لم يجعله خصماً، ولم يمض قضاء الأول؛ لأن علم القاضي حجة في حقه، وليس بحجة في حق غيره، فأما حكمه حجة في حق الكل، فإذا ظهرت التفرقة بين علم القاضي وحكمه في حق قاض آخر جاز أن يظهر التفرقة بينهما في حق مال آخر في حق قبول الشهادة.

قال: ولو أن رجلاً وكل رجلاً بكل حق له قبل فلان وفلان وفلان بغير محضر من القاضي، فأحضر الوكيل واحداً من هؤلاء، وأقام بينة على أن فلاناً وكله بكل حق له قبل فلان وفلان وفلان، وقضى القاضي بوكالته، ثم عزل الموكل الوكيل، فشهد الوكيل بعد ذلك للموكل على هذا الذي أحضره بحق أو على الآخرين لا تقبل شهادته، وكذلك لو

(8/441)


وكله بكل حق له في مصر كذا وبالخصومة فيه، فأحضر الوكيل رجلاً من أهل ذلك المصر، وادعى عليه حقاً للموكل فجحد وكالته، فأقام الوكيل بينة على أن فلاناً وكله بكل حق له في ذلك المصر وبالخصومة فيه، وقضى القاضي بوكالته، ثم عزل الموكل الوكيل، فشهد الوكيل للموكل بعد ذلك بحق أو مال على ذلك الرجل أو على غيره من أهل ذلك المصر، لم تقبل شهادته، لأنه صار خصماً للغائبين كما صار خصماً للحاضر، لأن الخصومة مع الحاضر خصومة مع الغائبين لكون الحاضر نائباً عن الغائبين.
بيانه: أن ما ادعى على الحاضر من الوكالة لا يثبت إلا بإثباتها على الغائبين؛ لأن التوكيل واحد، وقد حصل عاماً فصار المدعي على الغائبين سبباً لثبوت المدعي الحاضر فانتصب الحاضر خصماً عن الغائبين ألا ترى أن القضاء على الحاضر صار قضاء على الغائبين؟ فكذا الخصومة مع الحاضر يكون خصومة مع الغائبين فبطلت شهادته في حقهم جميعاً.
إلا أن بين المسألتين فرقاً: فإن في مسألة المصر كما لا تقبل شهادة الوكيل للموكل بحق قائم وقت الوكالة لا تقبل شهادته له بحق حدث بعد الوكالة، والقياس في مسألة المصر أن لا تقبل شهادته بحق قائم وقت التوكيل لا بحق يحدث بعد التوكيل، اعتباراً للتقييد بالمكان بالتقييد بالشخص، إلا أنهم استحسنوا في مسألة المصر لمكان العرف، فإن العرف الظاهر فيما بين الناس أن من أراد سفراً يقيم غيره مقام نفسه، بطلب كل حق له في مصر ومراده من ذلك أن يقوم مقامه فيما هو واجب له وفيما يحدث، كيلا يضيع شيء من حقوقه، فلمكان العرف صرفنا الوكالة إلى الكل.

وهو نظير من وكل إنساناً بقبض غلاته، يريد به الواجب وما يحدث كيلا يحتاج إلى تجديد الوكالة في كل زمان فلا يقع في الحرج، وإذا انصرفت الوكالة إلى الكل صار خصماً في الكل، فلا تقبل شهادته في شيء من ذلك، مثل هذا العرف لا يوجد فيما إذا كانت الوكالة بكل حق له قبل شخص بعينه، أو قبل أشخاص بأعيانهم فيعمل بظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يتناول القائم وقت التوكيل، لا ما يحدث بعد ذلك، فلم يصر خصماً فيما حدث بعد التوكيل، فجاز أن تقبل شهادته فيه.

فرع
على مسألة المصر فقال: لو شهد بحق حدث بعد العزل قبلت شهادته، لأنه لم يصر خصماً فيه بظاهر اللفظ، لأن التوكيل لم ينصرف إليه؛ لأن انصراف التوكيل إلى الحادث بعد التوكيل بحكم العرف، ولا عرف في الحادث بعد العزل، فيعمل فيه بظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ لا يتناول الحادث بعد التوكيل ولا الحادث بعد العزل، قال: ولو كان هذا التوكيل بعلم القاضي، لم يبطل القضاء بشهادته بعد العزل إلا فيما كان خاصم فيه بعينه قبل العزل، والفرق ما ذكرنا.
قال: والتوكيل بكل حق له قبل الناس في انصرافه إلى القائم وقت التوكيل، والحادث بعده نظير التوكيل بكل حق له في مصر كذا بل أولى، لأن هذا أعم لأن هذا يتناول جميع الناس في كل مصر.

(8/442)


وإذا ادعى رجل أن فلاناً وكله وفلاناً الغائب في كل حق له قبل الناس، وأحضر رجلاً وادعى عليه حقاً للموكل، وأقام البينة على وكالته على نحو ما ذكرنا، وقضى القاضي بها صار الحاضر مع الغائب وكيلين، حتى إن الغائب إذا حضر وادعى حقاً على أحد لا يكلف إعادة البينة على الوكالة، فإن عزلهما الموكل ثم شهدا بحق قبل هذا الرجل، أو قبل رجل آخر لا يقبل شهادتهما، القائم وقت الوكالة والحادث بعد الوكالة في ذلك على السواء، لأن خصومة أحدهما لما جعل كخصومتهما صار كأنه وجدت الخصومة منهما، ولو وجدت الخصومة منهما في حق من الحقوق كان ذلك بمنزلة الخصومة في سائر الحقوق، القائم وقت الوكالة والحادث بعدها سواء لما مر، فهاهنا كذلك والله أعلم.

الفصل الرابع عشر: في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى
إبراهيم عن محمد في شاهدين شهدا لرجل أن له على هذا درهماً أو درهمين، فالشهادة جائزة على درهم، وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: في رجل في يديه درهمان صغير وكبير وأقر بأحدهما لرجل، ثم جحد فشهد عليه بذلك شاهدان، أجزت الشهادة على الصغير منهما استحساناً، وسواء أقر بأحدهما بغير عينه أو بعينه ثم نساه، هكذا ذكر، وفصل الإقرار بأحدهما بعينه والنسيان مشكل يعرف بالتأمل، قال: وكذلك الكيل كله، والوزن كله إذا كانا صنفاً واحداً فإني أقضي بالأوكس، وإذا اختلف النوعان فإني أبطلت الإقرار.
قال: وكل شيء يضمن فيه القيمة وقد صارت ديناً جعلت عليه أوكس القيمتين، نحو أن يشهد أنه غصب منه ثوباً همروياً أو مروياً وأحرقه قالا: أسمي لنا هكذا، أو قال: سمي لنا أحدهما بعينه فنسيناه، قضيت عليه بأوكس القيمتين.

روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: في رجلين شهدا لرجل بشهادة، ثم زاد فيها قبل أن يقضي القاضي بها أو بعده وقالا: أوهمنا، وهما غير متهمين قبل ذلك منهما.
وروى بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف رحمهما الله: في رجل يشهد عند القاضي بشهادة ثم يجيء بعد ذلك بيوم فيقول: شككت في كذا وكذا مبهماً، قال: إذا كان القاضي يعرفه بالصلاح قبل شهادته فيما بقي، وإن كان لا يعرفه فهذه تهمة ألغى شهادته، وكذلك لو قال: رجعت عن شهادتي في كذا وكذا من هذا المال غلطت في ذلك أو نسيت، فهو مثل قوله: شككت، وإذا لم يقل الشاهد: قد شككت، ولكن قال: قد

(8/443)


تعمدت ولم أغلط ثم بدا لي أن أرجع عن ذلك، لم تقبل شهادته فيما بقي، ولا في غير ذلك حتى يحدث توبة ويعاقبه القاضي، وقال محمد رحمه الله (142ب4) .
فيمن شهد عند القاضي، فلا يبرح مكانه حتى يقول أوهمت بعض شهادتي جاز ذلك وقبل شهادته إذا كان عدلاً، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل على دارٍ بحدودها، أو شهد بمال ثم رجع عن بعض تلك الدار أو بعض المال، قال محمد: إن كان عدلاً ورجع في مكانه، وقال أوهمت أستحسن أن أجيز شهادته إذا لم يكن في ذلك إكذاب من الشهود له.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل، وأقام شاهدين شهدا أن الدار له، ثم قال الشاهدان بعد ذلك قبل القضاء: إن البناء ليس للمدعي إنما هو للمدعى عليه، قال: إذا قال ذلك قبل أن يتفرقا عن مجلس القضاء، قبلت شهادتهما، وهذا استحسان ما لم يطل ذلك، وإذا قاما أو طال ذلك بطلت شهادتهما.

وفي «نوادر بن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد الشهود بالدار للمدعي، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم إن الشهود قالوا: لا ندري لمن البناء، فإني لا أضمنهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا، وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء، كأنهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا، وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء للمشهود عليه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً: رجل مات وترك عبداً لا مال له غيره، وقيمته ألف درهم، ولا يعلم عليه دين، فأعتقه الوارث، ثم شهد العبد بشهادات واستقضى فقضي بقضايا، ثم أقام رجل بينة على الميت بالدين، فإن العبد يرد رقيقاً ويبطل عتقه، وما شهد به من الشهادة فإن أبرأ الغريم العبد من الدين جاز عتقه وحده، ولم يجز شيء من شهادته وقضاياه، وإن كان رجل قتل هذا لعبد غرم قيمته لورثة العبد، ولا يجعلهما لورثة المولى، قال: ألا ترى أنا لا نرده في الرق؟.
وروى إبراهيم عن محمد رحمه الله: في رجل أقام بينته أنه وصي فلان الميت وقضى القاضي بوصايته، وأخذ ما للميت من الديون على الناس، ثم وجد البينة عبيداً فقد برىء الغرماء، ولو كان مثله في الوكالة لم يبرؤوا.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل شهد عليه شاهدان: أن هذه الدار التي في يديه لفلان، فلم يقض القاضي بها حتى قالا: إنما شهدنا على العرصة، أجزت شهادتهما على ذلك ولم يكن هذا رجوعاً، ولو قضى القاضي بها وبالبناء، وقالا: شهدنا على العرصة ضمنتهما قيمة البناء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل مات فقاسمت امرأته ولده الميراث، وهم كبار، وأقروا أنها زوجة الميت، ثم وجدوا شهوداً أن زوجها قد كان طلقها ثلاثاً في صحته، فإنهم يرجعون عليها بما أخذت من الميراث.

(8/444)


وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في امرأة اختلعت من زوجها بمال، ثم أقامت البينة أنه كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع وكذلك أمة كاتبها مولاها فأدت ثم أقامت البينة على إعتاق كان من المولى قبل الكتابة، وكذلك العبد.
وكذلك الزوج إذا قاسم أخ المرأة ميراثها، وأقر أن هذا ميراث، وأن هذا زوج الميت وهذا أخوها، ثم إن الأخ أقام بينة أن الزوج قد كان طلقها ثلاثاً في حال حياته، فذلك جائز ويرجع الأخ فيما أخذ الزوج من الميراث، وقد تحقق التناقض في هذه المسائل إلا أن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء؛ لأن الطلاق مما يستند به الزوج، والعتاق مما يستند به المولى، والتناقض فيما طريقه طريقة الخفاء لا يمنع صحة الدعوى وسماع البينة.

الفصل الخامس عشر: في الشهادة على الوكالة والوصاية
رجل أقام بينة عند القاضي أن فلاناً وكله بطلب كل حق له بالكوفة وبالخصومة فيه، جائز ما صنع فيه وليس معه خصم يدعي عليه حقاً، لم يسمع القاضي منه هذه البينة لقيامها على غائب ليس عنه خصم حاضر؛ وإن أحضر رجلاً يدعي الوكيل أن للموكل عليه حقاً وهو ينكر كونه وكيلاً، فأقام الوكيل بينة على وكالته، قضى القاضي عليه، لكونه وكيلاً لقيام البينة على خصم حاضر، وصار الثابت بالبينة كالثابت عيانا، ولو عاين القاضي توكيله قضى بكونه وكيلاً كذا هاهنا، فإن أحضر الوكيل رجلاً آخر من أهل الكوفة يدعي الموكل قبله حقاً، فأنكر الوكالة، لا يحتاج الوكيل إلى إقامة البينة على الوكالة؛ لأن القاضي حين قضى بوكالته ببينة قامت على الأول فإنما قضى بوكالته في حق جميع من بالكوفة؛ لأنه كان لا يتوصل إلى إثبات الوكالة على الأول إلا بإثبات الوكالة على الكل، لكون الوكالة واحدة بلفظ عام، فانتصب الذي حضر مجلس القاضي خصماً عن جميع من بالكوفة، فصار القضاء عليه بالوكالة قضاءً على الكل.

وهو نظير ما لو مات رجل، فجاء رجل إلى القاضي وأحضر معه رجلاً، وأقام بينة أنه ابن الميت، وأن للميت على هذا الذي أحضر مجلس القاضي دين، وقضى القاضي بنسبه يثبت نسبه عاماً في حق هذا المديون وفي حق مديون آخر لما قلنا من المعنى كذا هنا.
ولو كان الشهود شهدوا أن فلاناً وكله بطلب حقه قبل فلان بن فلان الفلاني، وبالخصومة فيه لم يسمع القاضي شهادتهم ما لم يحضر فلان بن فلان؛ لأن الخصم في هذه الوكالة متعين فلا يصير غيره قائماً مقامه إلا بإقامته ولم يوجد، ولو أن الموكل حضر عند القاضي فقال: إني وكلت هذا الرجل بطلب كل حق لي بالكوفة وبالخصومة، وليس

(8/445)


معهما خصم ثم جاء الوكيل برجل وادعى أن للموكل قبله حقاً، فإن كان القاضي يعلم الموكل باسمه ونسبه يقضي بوكالته، ولا يكلفه إقامة البينة على الوكالة؛ لأن علم القاضي بالمعاينة فوق علمه بالخبر، فإذا كان يقضي بوكالته عند حصول العلم له بالخبر، فهذا أولى ولا يشترط حضرة الخصم عند التوكيل بصحة التوكيل عند القاضي، لأن حضرة الخصم إنما يحتاج إليه للجحود ليمكن إثبات الوكالة بالبينة، فيحصل العلم للقاضي بالبينة بكونه وكيلاً، فإذا كان العلم حاصلاً للقاضي بالمعاينة لا حاجة إلى اعتبار حضرة الخصم، فإن كان القاضي لا يعرف الموكل باسمه ونسبه لا يقضي بالوكالة؛ لأن الموكل غائب وقت القضاء بالوكالة، والغائب إنما يعرف بالاسم والنسب، فإذا لم يعرف القاضي ذلك بقي الموكل مجهولاً، والقضاء للمجهول وعلى المجهول باطل، بخلاف ما لو كان الموكل حاضراً حيث يقضى القاضي بوكالته، وإن لم يعرف اسمه ونسبه؛ لأنه معلوم لكونه حاضراً، فإن لم يعرف القاضي الموكل باسمه ونسبه فقال الموكل: أنا أقيم البينة أني فلان بن فلان ليقضي بالوكالة متى جئت، لا يلتفت القاضي إليه؛ لأن شرط سماع البينة على النسب، الخصومة في النسب ولم توجد، فإن غاب الموكل فأحضر الوكيل رجلاً فادعى أن للموكل عنده حقاً وأقام الوكيل البينة

عليه أن فلان بن فلان الفلاني وكله بالخصومة في كل حق له عند الناس بالكوفة، وأنكر ذلك الخصم وكالته، قبلت بينته وصار وكيلاً في حق جميع من كان بالكوفة لما قلنا.
وإن أرادوا من القاضي في هذه الوجوه كلها أن يسمع من الشهود بغير محضر من الخصم، ليكتب الكتاب بشهادتهم إلى قاضي آخر أجابهم القاضي إلى ذلك، لأن كتاب القاضي إلى القاضي ليس بقضاء ليحتاج فيه إلى حضرة الخصم، إنما هو من القاضي الكاتب نقل شهادة الشهود إلى مجلس القاضي المكتوب إليه، بمنزلة الشهادة على الشهادة، ثم الإشهاد على الشهادة صحيح من غير حضرة الخصم، فكذا كتاب القاضي إلى القاضي قد يجوز للقاضي المكتوب إليه القضاء بكتاب للقاضي وحده، وإن لم يجز له القضاء بشهادة هذا القاضي الكاتب بانفراده، بأن ذهب بنفسه إلى بلدة القاضي المكتوب إليه، وشهد بين يديه على شهادة هؤلاء، والفرق وهو أن القاضي الكاتب نقل شهادة الشهود إلى القاضي المكتوب إليه بكتابه وهو قاض، وقوله وهو قاض بمنزلة شهادة الشاهدين فكذلك كتابه، أما إذا ذهب بنفسه إلى تلك البلدة وشهد فقد نقل شهادة الشهود بقوله وهو ليس بقاض؛ لأنه بعدما خرج من البلدة التي هو قاض فيها لا يبقى قاضياً ويلتحق بواحد من الرعايا، فلا يثبت النقل بمجرد قوله، حتى لو كان قاضي تلك البلدة أيضاً بأن كان قاضي القضاة تثبت شهادة الشهود بمجرد قوله في مجلس القاضي الثاني.

ثم ما ذكر من الجواب قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو قول محمد الأول، وأما على قوله الآخر الذي رجع إليه لا تثبت شهادة الأصول عند المكتوب إليه بكتاب القاضي ما لم يشهد معه شاهد آخر والمسألة معروفة، والذي ذكرنا من الجواب في الوكيل، فكذا في الوصي في الفصول كلها؛ لأن الوصي وكيل بعد الوفاة فيعتبر بالوكيل حالة الحياة إلا

(8/446)


أنهما يفترقان في فصل وهو: أن الوكيل إن أثبت الوكالة عاماً يثبت عامة وإن اثبت خاصة، يثبت خاصة والوصي إذا أثبت الوصاية تثبت عامة عند أبي حنيفة رحمه الله، سواء أثبتها خاصة أو عامة (143أ4) لأن الوصي في نوع عنده وصي في الأنواع كلها، ولا كذلك الوكيل والله أعلم.

الفصل السادس عشر: في شهادة ولد الملاعنة
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : امرأة جاءت بابنين في بطن واحد فنفاهما الزوج، ولاعن القاضي بينهما وألزم الابنين الأم، ثم كبرا وشهدا للذي نفاهما لم تقبل شهادتهما؛ لأن نسبهما كان ثابتاً من الزوج؛ لأنهما ولدا على فراشه، وقد قال عليه السلام: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وتعلق به أحكام منها: انتفاع قبول الشهادة وهذا أمر عليه، ومنها حرمة وضع الركن، وحرمة المناكحة والعتق عند التملك، وهذه الأحكام إنما تثبت حقاً للشرع ومنها الإرث، فهو بهذا القذف واللعان يريد إبطال هذه الأحكام فلا يقدر على إبطال ما عليه وعلى إبطال ما هو حق الشرع، ويجعل النسب باقياً في حق الأحكام الثابتة حقاً للشرع، وفي حق الأحكام التي تثبت عليه، فأما الانتساب يبطل؛ لأنه كما هو حق الولد فهو حق الوالد فيبطل بإبطاله ما هو حقه، ثم يبطل حق الولد ضرورة أن النسب لا يثبت من أحد الجانبين، وإذا بطل الانتساب بطل الإرث؛ لأن الانتساب أمر لابد منه لجريان الميراث.
وكذلك لو مات هذان الولدان ولهما أولاد فشهدوا للملاعن كانت الشهادة باطلة؛ لأن النسب باق في حق آخر عليه.

وكذلك لو تزوج أحد الابنين اللذين تقاسما بنتاً للزوج من امرأة أخرى كان النكاح باطلاً لبقاء النسب في حق الحرمان الثانية حقاً للشرع.
امرأة لم يدخل بها زوجها جاءت بولد، فنفاه فإن القاضي يلاعن بينهما، ويلزم الولد أمه، لأن النكاح في حق من هو من أهل الماء في مدة تتصور الولادة فيها أقيم مقام الإنخلاق من مائه حكماً، ولو كان الإنخلاق من مائه حقيقة يعمل نفيه ويلاعن بينهما، ويلزم الولد أمه فكذا هنا، وعلى الزوج المهر كاملاً لوجود الدخول من حيث الحكم، لما حكم بثبات نسب الولد منه، فإن قيل إنما يثبت الدخول من طريق الحكم لما حكم بثبات النسب، وقد تبين النسب لم يكن ثابتاً منه فتبين أن الدخول لم يكن ثابتاً، قلنا: النسب

(8/447)


إنما ينقطع بعدما ثبت من حيث الظاهر لحدوثه على فراشه، لا أن يظهر أنه لم يكن ثابتاً، ألا ترى أنه نفي بعض أحكام النسب ولو تبين أنه لم (يكن) ثابتاً لكان لا يثبت شيء من الأحكام، وإذا لم يتبين أن النسب لم يكن ثابتاً لا يتبين أن الدخول لم يكن ثابتاً، ولا يتزوج الزوج ولا أحد من ولده الولد الذي ولدته المرأة إن كانت جارية، ولا يعطيه زكاة ماله، ولا يشهد له لما مر أن النسب باق في حق الحرمان الثانية حقاً للشرع، ولا يرث كل واحد منهما من صاحبه لما مر، ولا يستحق كل واحد منهما النفقة على صاحبه، لما قلنا في الإرث.

جارية لرجل جاءت بولد فادعاه المولى حتى يثبت النسب منه، وصارت الجارية أم ولد له، ثم ولدت بعد ذلك ابنين في بطن واحد فنفاهما جاز نفيه؛ لأنه لو نفى نسب الولد المنكوحة جاز نفيه، وإن كان فراشه أقوى فلأن يجوز نفي ولد أم الولد وفراشها أضعف كان أولى، إلا أن بينهما فرقاً وهو أن نسب ولد المنكوحة لا ينتفي بمجرد النفي إنما ينتفي باللعان، وقضاء القاضي بالقطع، ونسب ولد أم الولد ينتفي مجرد النفي وموضع الفرق كتاب الدعوى وإذا انتفى نسبها من المولى بمجرد النفي كانا عبدين له بمنزلة أمهما؛ لأن ولد أم الولد يكون بمثل حالها، وكان النفي عاملاً في إبطال ما ثبت لهما من الحرمة من حيث الظاهر؛ لأن العتق ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك عنه النسب، ألا ترى أن الأب لو كان مكاتباً أو عبداً مأذوناً فذلك ولده لا يعتق عليه؟ والنفي عامل فيما ليس من الأحكام المختصة بالنسب، كما في حق الميراث، فإن أعتقهما المولى ثم شهدا للمولى كانت شهادتهما باطلة، وكذا شهادة أولادهما، وكذا لو أعطاهما من زكاة ماله لم يجز، وكذا لا يرثان من الرجل ولا يرث الرجل منهما بحكم القرابة، كما في ولدي المنكوحة ولكن الرجل يرث منهما بحكم الولاء لأنهما معتقاه.
r
أمة لرجل جاءت بولدين في بطن واحد فباع المولى أحد الولدين فأعتقه المشتري، ثم إن المعتق بعدما كبر شهد مع رجل جازت شهادتهما؛ لأن نسب هذا الولد ما كان ثابتاً من المولى قبل البيع؛ لأنه ولد الأمة ونسب ولد الأمة لا يثبت بدون الدعوة، فلم يثبت امتناع قبول الشهادة، بخلاف ولد أم الولد والمنكوحة على ما مر، وإن قضى القاضي بشهادتهما، ثم إن البائع ادعى الولد الذي عنده جازت الدعوة لاتصال علوقه بملكه، وإذا ثبت نسب هذا الولد ثبت نسب الولد الآخر ضرورة لأنهما توأم، وإذا ثبت نسب الآخر ظهر أنه علق حراً، وأن المولى باع الحر فانتقض البيع ورجع المشتري بالثمن على بائعه؛ لأنه لم يسلم له المبيع فلا يسلم للمشتري الثمن، وظهر بطلان الشهادة للبائع؛ لأنه ظهر أنه كان شهد لأبيه ويرجع المشهود عليه على البائع بما أخذ منه إن كان قائماً بعينه، وإن كان استهلكه ضمن له مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن لم يكن مثلياً؛ لأنه ظهر أن القاضي أخطأ في قضائه والقاضي متى أخطأ في قضائه كان قرار الضمان على المقضي له، وإن كان المشهود به قطع يد أو رجل غرم البائع للمشهود عليه أرش ذلك في ماله في سنين، وإن كان المشهود به قتل نفس، غرم الدية في ماله في ثلاث سنين، لأن البائع كان مخطئاً

(8/448)


في القتل والقطع والعقل، لأنه إنما قطع وقتل على حسبان أن له ذلك، وقد ظهر خلاف ذلك، وموجب جناية الخطأ المال، إلا أنه يكون في ماله لا على العاقلة لأنه وجب بسبب دعوته وهو غير مصدق في ذلك في حق العاقلة، فصار من هذا الوجه كالثابت بإقراره.

فإن قيل: جناية مالية معاينة لا بإقراره إنما الثابت بقوله بسبب الولد إلا أن إيصال العلوق في ملكه بمنزلة البينة العادلة على صدق مقالته، ولو ثبت نسب هذا الولد بالبينة كان موجب هذه الجناية على عاقلته، كذا هاهنا. قلنا: هذا هكذا فيما كان من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك النسب عنه بحال فأما في حق الأحكام التي ينفك النسب عنه فالدعوة بمنزلة الإقرار ألا ترى أن رجلاً لو كان قطع يد هذا الولد خطأً حتى وجب على الجاني نصف القيمة، ثم ادعاه البائع حتى صحت دعوته لا يجب على الجاني نصف الدية؟ وإن اتصل العلوق بملكه وجعل دعوته في حق الجاني بمنزلة الإقرار لا بمنزلة البينة، لهذا إن وجوب الدية ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك النسب عنه فجعل في هذا دعوة البائع بمنزلة الإقرار لا بمنزلة البينة كذا ههنا، الوجوب على العاقلة ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك عنه فجعل في حق هذا دعوة البائع بمنزلة الإقرار وما يجب بحكم الإقرار لا يجب على العاقلة.
كل بينة لا تكون حجة شرعاً فهي من التهاتر فمن جملة ذلك ما ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف: في شاهدين شهدا على رجل بقول، أو بفعل يلزمه بذلك إجازة أو كتابة أو بيع أو قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق في موضع وصفاه أو في يوم سمياه، فأقام المشهود عليه بينة أنه لم يكن في ذلك الموضع ولا في ذلك اليوم في الموضع الذي وصفاه، لم يقبل منه البينة على ذلك؛ لأنها بينة في غير موضعها فكانت ساقطة.
بيانه أن الشرع شرع البينات للإثبات لا للنفي؛ لأنه شرعها في جانب المدعي والمدعي يحتاج إلى إثبات الحق فلا يكون حجة في موضع النفي وموضع مسألتنا هذه موضع النفي، فلا تكون البينة حجة فيها فلا يلزم على ما قلنا.

إذا شهدوا أن هذا وارثه لا وارث له غيره حيث تقبل شهادتهم، فهذه شهادة على نفي وارث آخر، لأنا نقول: المقصود من هذا النفي إثبات جميع المال له، فكانت هذه

(8/449)


الشهادة على الإثبات باعتبار المقصود، وكذلك كل بينة قامت على أن فلاناً لم يقل لم يفعل لم يقر فهذا كله من التهاتر؛ لأنها قامت على النفي.
رجل أقام على رجل بينة على أنه جرحه يوم النحر بمكة هذا الجرح وقضيت بذلك، ثم أقام المدعى عليه الجراحة على أحد الشاهدين بينة أنه جرحه يوم النحر بكوفة، لم أقبل بينته على ذلك قال: لأني قد قضيت بجراحته يوم النحر بمكة، ولا يكون في يوم واحد بكوفة ومكة، وقد ثبت بالبينة الأولى كونه بمكة يوم النحر وتأيدت تلك البينة بإيصال القضاء بها، فتعين البطلان في البينة الثانية (143ب4) ولو لم يكن قضيت بالأولى حتى اجتمعت البينتان، والدعوتان أبطلهما لأن القاضي تيقن بكذب أحدهما لأن الشخص الواحد في وقت واحد لا يكون بكوفة ومكة.

قال في كتاب الحدود: لو شهد أربعة على رجل أنه زنى بفلانة يوم النحر بمكة، وشهد أربعة أنه قتل فلاناً يوم النحر بكوفة، أو كانت الشهادة الثانية في نكاح أو طلاق أو عتاق أو جراحة، أو قال رجل لعبديه: أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر، فشهد شاهدان أن هذا أكله، وشهد الآخران أن هذا الآخر أكله، لم أقبل شهادتهما، لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين، وإن شهد أحد الفريقين أولاً وقضى القاضي بشهادتهم، ثم شهد الفريق الآخر بما وصفنا، لا تقبل شهادة الفريق الثاني؛ لأن شهادة الفريق الثاني تعينت للكذب، وإن رد القاضي الشهود جميعاً ثم مات أحد الفريقين، ثم شهد الفريق الثاني بما شهدوا به وأعادوا شهادتهم لا تقبل شهادتهم؛ لأن الشهادة متى صارت مردودة في الحكم لا تقبل بعد ذلك أبداً، فإن جاء الآخر بشاهدين آخرين قبلت شهادتهما؛ لأنها لم ترد ولم تعارضها البينة الأولى لأنها مردودة في الحكم فوجب القضاء.

وعلى هذا إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته غدوة يوم النحر بكوفة؛ وشهد آخران أنه طلقها يوم النحر بمكة أو كانوا شهدوا على امرأتين، لم تقبل شهادتهما، ولو شهد أحد الفريقين أولاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم شهد الفريق الثاني فالقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني لما قلنا.
ولو ادعى رجلان ولاء رجل، وأقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه وهو يملكه، ثم مات ولا يعلمون له وارثاً غيره جعلنا الولاء بينهما، وإن ادعى أحدهما أولاً وقضى القاضي بالولاء له، ثم أقام الآخر بعد ذلك بينة على دعواه، فالقاضي لا يقبل بينة الثاني؛ لأن الواحد يستحيل أن يكون مُعتَق اثنين، لكل واحد منهما على الكمال، والبينة الأولى تأكدت باتصال القضاء بها فتعينت الثانية للبطلان، وإذا شهد أربعة أخرى على هؤلاء الشهود أنهم زناة فهذا باطل على قول أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يحد الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، وإنما لا يحد المشهود عليه الأول، أما على قولهما؛ فلأن عندهما قبل شهادة الفريق الثاني على الأول، وظهر أنهم زناة فتعطلت شهادتهم لفسقهم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله للشبهة التي دخلت لمكان شهادة الفريق الثاني، والشبهة كافية لدرء الحدود، فأما حجتهما في إقامة الحد على

(8/450)


الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، أن حجة إقامة الحد عليهم قد تمت، فوجب أن يقام الحد عليهم وهذا لأن الحجة شهادة الأربع العدول، وقد وجد عدد الأربع ووجدت العدالة، لأنهم لم يطعن فيهم، وإنما وجد الطعن في الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، أما الفريق الثاني فشهادة الأوليين لا توجب طعناً، وقد جاء فيهم فقبلت لظهور عدالتهم، ولا يقال: إن هذه شهادة قامت لنفي الحد عن المشهود عليه الأول، والبينات للإثبات لا للنفي لأنا نقول: ظاهر شهادتهم لإثبات الحد على الفريق الأول فإن تضمن نفياً لا يقدح ذلك في شهادتهم، فما من إثبات إلا وتحته النفي. وأبو حنيفة

رحمه الله يقول: إن قصد الفريق الثاني إبطال شهادة الفريق الأول، لا إقامة الحسبة فلا تقبل شهادتهم، كما لو شهدوا بعد تقادم العهد.
بيانه: أنهم لما لم يشهدوا حتى شهد الفريق الأول فأما أن يقال كانوا كاذبين قصدوا إبطال شهادة الفريق الأول وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهم، أو يقال: كانوا صادقين وكانوا اختاروا الستر، فلما شهد الفريق الأول حملتهم الضغينة على الشهادة عليهم، وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهم أيضاً؛ لأن شهادة ذي الضعن مردودة ولأنه يؤدي إلى التهاتر، فإنا لو قبلنا شهادتهم كان يشهد فريق ثالث عليهم أنهم زناة ويشهد فريق رابع على الفريق الثالث، إلى ما لا يتناهى فكان من التهاتر وهو التكاثر فلا تقبل شهادتهم.
وإذا قضى القاضي لرجل بحق ببينة أقامها فيقول المقضي عليه: أنا أقيم البينة أنه لي، لم يقبل ذلك منه، أشار في «الأصل» فقال: لو قبلت من هذا لقبلت من الآخر مثلها فيؤدي إلى ما لا يتناهى، أشار إلى أن المدعى عليه لو تمكن من إقامة البينة على ملكه لنقض القضاء الأول، كان للمدعي أن يقيم البينة أنه لي، ثم يقيم المدعى عليه بعد ذلك أنه لي فيؤدي إلى ما لا يتناهي، فكان من التهاتر والتكاثر فلا تقبل، ولكن هذا القدر لا يصلح عليه لرد الشهادة، فإنه تقبل بينة المدعى عليه على التملك من المدعي، وإنه يؤدي إلى ما لا يتناهي، لأنا لو قبلنا منه ربما يقيم المدعي بينة على التملك من المدعى عليه، ثم المدعى عليه يقيم البينة على المدعي إلى ما لا يتناهي، ومع هذا قبلت بينته على تلقي الملك من جهته، ولكن الصحيح أن هذه بينة قامت على نقض القضاء الأول لا للإثبات، فليس في بينة المدعى عليه إثبات، والبينة القائمة على نقض القضاء مطلقاً لا تقبل، كيف وإنه يضمن أمراً لا يتناهي من الوجه الذي ذكر، فما ذكر في الكتاب لبيان الأولوية لا لرد الشهادة.

قال في كتاب الوصايا: إذا شهد شاهدان أنه دبر فلاناً بعينه إن قتل، وإنه قد قتل وشهد آخران أنه مات موتاً فإنه يقضي بعتق المدبر من الثلث، ولا تجوز شهادة الشهود على الموت، لأن شهود القتل أثبتوا عتق المدبر وشهود الموت نفوا عتقه، وهو المقصود من الشهادة، فأما الموت فإنه غير مقصود، والبينات للإثبات لا للنفي، فلا تقبل شهادة شهود الموت.

(8/451)


وكذلك إن شهدا أنه أعتق عبده فلاناً إن حدث به حادث من مرضه أو سفره وأنه مات في ذلك السفر والمرض، وشهد آخران أنه رجع من سفره ومات في أهله، أو برأ من مرضه ومات من مرض آخر بعد ذلك؛ لأن الوقت في البينة الأولى صار مقضياً به، فإنه لو مات بعد رجوعه من سفره لا يعتق العبد؛ لأنه علق العتق بموت يوجد في السفر فإذا صار الوقت مقضياً به في البينة الأولى تعذر القضاء بموته بعد ذلك؛ لأن الموت لا يحتمل التكرار.

وإن شهد شاهدان أنه قال: إن حدث في سفره هذا حدث فأنت حر وأنه مات في سفره ذلك وشهد آخران أنه قال: إن رجعت من سفري هذا فمت في أهلي ففلان حر وأنه رجع من سفره ومات في أهله، وجاء الشهود إلى القاضي فإنه يجيز شهادة الفريق الأول أنه مات في سفره، لأن كليهما شهدا بموته، وذكروا لذلك تاريخاً والموت حادث فأسبق التاريخين أثبت موته في زمان لا يعارضه أحد، فثبت موته في ذلك الزمان فصار الموت مقضياً به في ذلك الزمان ضرورة القضاء بالعتق المعلق به، فتعذر القضاء بالبينة الأخرى؛ لأن الموت لا يحتمل التكرار.
وأوضح هذا بما إذا ذكروا تاريخاً وأفصحوا بالوقت فقال: لو أن رجلاً قال إن مت في جمادى الأولى ففلان حر، وإن مت في رجب ففلان الآخر حر؛ فشهد شاهدان أنه مات في جمادى الأولى، وشهد آخران أنه مات في رجب، أخذت بقول من شهد على الميت الأول، ولا ألتفت إلى قول الآخرين لما قلنا كذلك هاهنا، فإن شهد شاهدان أنه قال لعبده: إن مت من مرضي فأنت حر، وقالا: لا ندري مات من ذلك المرض أم لا؟ وقال العبد: مات من ذلك المرض، وقالت الورثة: لا بل برئ، فإن القول قول الورثة مع اليمين، لأن المقصود من هذه الدعوى العتق وانتفاؤه لا الموت من المرض أو بعدما برئ منه، والورثة ينكرون العتق لإنكارهم وجود شرط العتق، فكان القول قولهم، وإن قامت لهما بينة أخذت ببينة العبد، لأن البينات للإثبات، وذلك في بينة العبد؛ لأنها تثبت العتق دون بينة المولى فإنها تنفي العتق، وهو المقصود بالدعوى والإنكار.

فإن قال: إن مت من مرضي هذا فلان حر، وإن برئت ففلان الآخر حر، فقال العبد الذي قال له: إن مت من مرضي هذا فأنت حر: مات منه، وقال الورثة: برئ فالقول قول الورثة مع أيمانهم لما قلنا إنهم ينكرون نزول العتق في العبد الذي قال له: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، ويعتق العبد الآخر لإقرارهم بوجود شرط عتقه وهو البرء من ذلك المرض، فإن أقام العبد الذي قال له: إن مت من مرضي فأنت حر البينة أنه مات من مرضه ذلك، قبلت بينته ويقضي بعتقه؛ لأنه أثبت ما ادعاه ببينة، وعتق الآخر بإقرار الوارث له فإن قامت البينتان جميعاً أخذت بالبينة التي شهدت على موته من ذلك المرض ولا أقبل بينة الآخر، وهذا بخلاف الوارث يقيم البينة على موته في زمان، ثم تقيم المرأة على النكاح بعد الزمان الأول أنه تقبل بينتها؛ لأن في تلك المسألة لم يتعلق بالموت في ذلك الزمان حكم فلم يصر الموت (144أ4) في ذلك الزمان مقضياً به فقبلت بينة

(8/452)


المرأة، أما ههنا لابد من القضاء بالموت في ذلك المرض لإثبات العتق في العبد الأول لأنه معلق به، ولابد من القضاء شرط العتق ليمكن القول بنزول العتق، فصار موته من ذلك المرض مقضياً به، فلم تقبل بينة الآخر؛ لأن بعدما ثبت موته في زمان لا يتصور أن يكون حياً بعد ذلك.

ذكر في كتاب محمد رحمه الله إعمالاً لرقه.
قال محمد رحمه الله: كل مدع على صاحبه بشيء من الأشياء مما يلزمه فيه حق، وأقام البينة أنه فعل يوم كذا في موضع كذا، وأقام المدعى عليه البينة أنه كان في ذلك اليوم في موضع كذا، المكان لا يستقيم أن يكون فيه وفي الموضع الآخر في يوم واحد وليس ذلك بأمر مكشوف فالبينة بينة المدعي، ولا تقبل من المدعى عليه بينة، والأصل فيه ما ذكرنا غير مرة: أن البينات للإثبات، فمن لا يقصد بإقامة بينته إلا النفي لا تقبل منه البينة؛ لأنه أراد أن يضعها في غير ما وضعت في الشرع فلم يكن له ذلك.
قال: فمن جملة ذلك رجل أقام البينة على آخر أنه قتل أباه عمداً في ربيع الأول، وأقام المدعى عليه البينة أنهم رأوا أباههم حياً بعد ذلك الوقت، أو أنه كان حياً وأقرضه ألف درهم بعد ذلك الوقت وأنها دين عليه، أو أقام رجل على آخر البينة أنه أقرض فلاناً أباه أمس ألف درهم، وأقام الآخر بينة أن أباه مات قبل ذلك، أو أقامت امرأة رجلين أن فلاناً طلق امرأته يوم النحر بالرقة؛ وأقام فلان البينة أنه كان في ذلك اليوم حاجاً بمنى، فالبينة في جميع ذلك بينة المدعي، ولا يلتفت إلى بينة المدعى عليه؛ لأن الإثبات في بينة المدعي، والمدعى عليه لا يريد ببينته إلا نفي القتل والقرض والطلاق، والبينات لا تقبل للنفي، إنما تقبل للإثبات فلم يلتفت إلى بينته إلا أن يأبى العامة وشهد بذلك، ويكون أمراً مكشوفاً فيؤخذ بشهادتهم، لأن الخبر المتواتر موجب للعلم قطعاً، فإذا شهدوا به على التواتر لم تقبل البينة على خلافه، لأنها محتملة للكذب وقد ظهر كذبهم بخبر العامة، بخلاف ما إذا لم يشهد به العامة ولكن قامت بينة مثله على خلافه لأنها مثل الأولى، وترجحت الأولى عليه بقوة الحكم؛ لأنها مبنية وليس في هذه البينة إثبات، فلم تصلح معارضة لها فبطلت، ولكن إنما بطلت الترجيح من حيث الحكم بعد مساواتهما في شهادتهما وشهادة شاهدين لا تصلح معارضة لخبر العامة في أدائها لما فيها من احتمال الكذب، وانتفاء الاحتمال في خبر العامة فلهذا أخذ بخبرهم.

قال: ألا ترى أن العامة لو شهدت أن المدعى عليه كان معهم في الموسم، وأنه شهد معهم عرفات، لم تقبل بينة المدعية على ما ادعت من الطلاق لما ذكرنا من ظهور الكذب في البينة على ما قلنا، فإن أقامت المرأة البينة أن زوجها طلقها يوم النحر بالرقة، وأقام عبده البينة أنه أعتقه في ذلك اليوم بمنى، وجاءت البينتان جميعاً والرجل يجحد ذلك كله، فالبينتان باطلتان لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين، وجهالته الصادق من الكاذب منهما، وانعدام الترجيح لأحدهما على الأخرى، فإن صدق الرجل إحدى البينتين وجحد الأخرى قضى عليه بالطلاق والعتاق جميعاً أماما أقر به فلإقراره والآخر بالبينة،

(8/453)


والبينة الأخرى قد بطلت؛ لأنها إنما تقبل على المنكر فإذا أقر به فقد فات شرط قبولها وهو الإنكار فبطلت، فتقبل البينة الأخرى لاستجماع شرائطها وخلوها عن المعارضة.

وهذه المسألة دليل على أن المدعى عليه بعدما أقام المدعي البينة إذا أقر بما ادعاه المدعي أن القاضي يقضي عليه بالإقرار، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه.
ولو شهد اثنان أنه طلق امرأته يوم النحر بمنى وشهد آخران أنه أعتق عبده بعد ذلك اليوم بالرقة، فإن القاضي يقضي بالطلاق بالوقت الأول؛ لأنهما شهدا به بذلك التاريخ ولا تعارضه البينة الأخرى؛ لأنها لا تقبل تاريخاً بعده، فلم تعارضه فقضى بالبينة الأولى، ثم ينظر بعد ذلك إن كان بين الوقتين ما يستقيم أن يكون في المكانين جميعاً بأسرع ما يقدر عليه من السير قضى بشهادتهم جميعاً؛ لأنه لا تنافي بينهما فأمكن العمل بهما فيعمل، وإن كان لا يستقيم بطل الوقت الثاني؛ لأنه لما وجب قبول البينة الأولى لإثباته تاريخاً سابقاً تعين جهة البطلان في الثانية لتعذر الجميع بينهما.

ولا يقال: بأن العمل بالبينتين ممكن، لأنه لا يستحيل كونه في يوم واحد بهذين المكانين وكذلك في هذين الوقتين؛ لأنه يبعد (كونه) من الأولياء وكرامة الأولياء حق، لأنا نقول: إن الولي لا يجحد ما قد فعله حتى تقام عليه البينة، فلا يمكن تصور المسألة فيه، ولأن الأحكام إنما تنبني على ما عليه قدرة الناس باعتبار العادة، فإنما لا يبتني على ما يتصور من إقدار الله تعالى، ألا ترى أن من حلف وقال: والله لأمس السماء، فإنه يحنث في الحال لمكان العجز الثابت للحال باعتبار العادة ولا يعتبر ما يتصور من إقدار الله تعالى إياه فكذا هذا، والاستحالة عادة ثابتة ههنا، وباعتبارها تعذر القضاء بالبينتين على ما ذكرنا فبطلتا.
ولو شهد شاهدان أنه قال: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وأنه مات من ذلك المرض، وشهد آخران أنه قال: إن برئت من ذلك المرض ففلان آخر حر، فقد ذكرنا هذه المسألة أعادها لزيادة تفريع لم نذكرها ثمة، وهو أن الورثة إذا قالوا: برئ من ذلك المرض عتق العبد المقر له من جميع المال، وعتق العبد المشهود له من ثلث ماله، لأنهم أقروا بعتق ذلك العبد في حالة الصحة من المولى والعتق في صحته ينفذ من جميع ماله، والشهود إنما شهدوا بعتق هذا العبد عند موته وأنه لا ينفذ إلا من في الثلث لأنه عتق بجهة التدبير، فإن لم يكن للميت مال غير العبدين وقيمة العبدين على السواء يسعى المعتق في المرض في ثلث قيمته، لأنه يجعل في حقه كأن المال هذان العبدان، وان ذلك العبد لم يعتق من جهة الميت؛ لأنه لا يعمل إقرار الورثة في حقه، فصار في حقه كأن الورثة أعتقوا ذلك العبد بعد موته، وإذا جعل في حقه كأن مال الميت هذان العبدان، ووجب اعتبار عتقه من الثلث وقيمتهما سواء كان الثلث ماله ثلثا رقبته لا محالة، فيعتق مجاناً ويسعى فيما سواه وهو الثلث.

فإن قالت الورثة: مات من مرضه قبل أن يبرأ، فإنه يعتق هذا العبد المقر له من ثلث مال الميت بعد عتق الآخر؛ وعتق الآخر بشهادة الشهود من جميع المال، لأنه عتق المشهود لعتقه بالبرء من المرض بالبينة لخلوها عن المعارضة،

(8/454)


فإن البينة الأخرى لم تقبل لعدم شرط قبولها وهو الإنكار، والعتق في الصحة ينفذ من جميع المال، وإنما عتق الآخر بإقرار الوارث، وقد أقروا بعتقه في المرض، فيكون من ثلث مال الميت، وقد خرج العبد الأول من أن يكون مال الميت حتى قضى بعتقه في الصحة، فيعتبر ثلث ماله فيما سواه لنفاذ العتق فيه، حتى إن العبد المقر له يعتق ثلثه مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته.
قال: ولو أقام رجل البينة أن هذا الرجل قتل أباه منذ عشرين سنة، فأقامت امرأة البينة أنه تزوجها منذ خمس عشرة سنة، وأن هؤلاء ولده منها، استحسن أبو حنيفة رحمه الله في هذا أن أجاز بينة المرأة، وأثبت النسب وأبطل بينة الابن على القتل، والقياس: أن يقضي ببينة القتل، وقد مر هذا من قبل.
وجه الاستحسان: أن الحكم بثبوت النسب لا يتصور نقضه، وإنه بعدما حكم به لا يبطل حكمه بالإبراء وغيره، ولا يعمل فيه التكذيب بخلاف القتل، فإن حكمه يبطل بالعفو وما أشبهه، وكذلك بتكذيب الولي ينتقض الحكم.
وإذا ثبت هذا فنقول: النسب قد ثبت بنفس هذه الشهادة؛ لأنه يثبت بالشهرة عند الناس ولا يفتقر ثبوته عند الناس إلى قضاء القاضي، حتى حل لهم الشهادة بنسبه بمجرد السماع، فلو قبلنا بينة القتل لنقضنا النسب بعد ثبوته وإنه لا يجوز فلهذا لم تقبل بينة القتل، بخلاف ما لو لم تقم بينة على الولد، لأن النكاح مما يحتمل القطع بالطلاق وغيره، فإذا أمكن نقضه وقد قامت الحجة على انتقاض النكاح، وهو بينة القتل في وقت قبل وقت النكاح، قضي ببينة القتل وبطلب بينة النكاح لهذا، والله أعلم بالصواب.
g