المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الدعوى
هذا الكتاب يشتمل على سبعة وعشرين فصلاً:
1 * الفصل الأول في معرفة المدعي والمدعى عليه.
2 * في بيان صحة الدعاوى، وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع.
3 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان.
4 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان بسبب نحو الشراء والميراث والهبة وما أشبه ذلك.
5 * في دعوى الشراء والبيع.
6 * في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاق.
7 * في الدعوى والبينات عليها.
8 * في مقاسمة المدعي بطريق المنازعة أو العول.
9 * في دعوى الميراث.
10 * في دعوى الرجل النكاح على المرأة، وفي دعوى المرأة النكاح على الرجل الآخر.
11 * في الرجلين يدعيان بالأيدي.
12 * في دعوى النتاج.
13 * فيما هو في معنى النتاج.
14 * في دعوى الحائط.
15 * في دعوى الطرق ومسيل الماء والمجاري والناوقات.
16 * في القضاء لأحد الخارجين عند ظهور العدالة لشهوده ثم ظهور العدالة لشهود الخارج الآخر، وإقامة الخارج الآخر شهوداً بعد ذلك.
17 * في دعوى الدين.
18 * في إقرار المدعي بنقض ما قضاه المدعى عليه أو بغير ذلك عن نفسه، وفي دعوى المدعى عليه لنفسه بعض ما قضى به عليه.
19 * في بيان ما يقع به التناقض في الدعوى وما لا يقع.
20 * فيما يبطل دعوى المدعي من قوله أو فعله.

(9/3)


21 * فيما يكون جواباً من المدعى عليه وما يكون إقراراً منه وما لا يكون.
22 * في بيان من يصلح خصماً ومن لا يصلح.
23 * في بيان ما تندفع به دعواه وما لا تندفع، وفيه أنواع وأقسام.
24 * في دعوى الوصية وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك وإقراره بالوصية.
25 * في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر، ودعوى كل واحد الإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما.
26 * في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة.
27 * في دعوى العتق.
28 * في دعوى النسب.
29 * في الغرور.
30 * في المتفرقات.

(9/4)


الفصل الأول: في معرفة المدعي والمدعى عليه فنقول
اختلف العلماء في الحد الفاصل بينهما، والمروي عن محمد رحمه الله أنك تنظر إلى المنكر منهما، فهو المدعى عليه، وهذا صحيح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل المدعى عليه هو المنكر حيث قال: «واليمين على من أنكر» ، فإن قيل: بهذا لا يحصل تمام الحد، فالإنسان قد يكون مدعياً وتكون اليمين من جانبه، كالمودع إذا ادعى الرد، قلنا: المودع بدعوى الرد ينكر الضمان، والخصومة إنما جرت لأجل الضمان، فجعل اليمين في جانبه لهذا.
وقال بعضهم: المدعي من يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه، ولا يكفيه مجرد النفي بأن يقول لغيره: هذا العين ليس لك، فبهذا القدر لا يصير مدعياً، ويحتاج إلى أن يقول: هذا العين لي والمدعى عليه لا يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه بل يكفيه مجرد النفي، فإن بمجرد قوله للمدعي هذا العين ليس لك يصير خصماً، ويكفيه ذلك من أن يقول: هو لي.
وبعضهم قالوا المدعي: من يكون مخيراً بين الخصومة والكف، وإذا ترك الخصومة يترك ولا يتبع، والمدعى عليه: من لا يكون مخيراً بين الخصومة والكف عنها، وإذا ترك الخصومة لا يترك بل يتبع.
وبعضهم قالوا: المدعي: من يستعدي على غيره بقول غيره.

وبعضهم قالوا: المدعي: من يدّعي ويتمسك بما ليس بثابت، والمدعى عليه من يتمسك بما هو ثابت.
بيانه: فيما إذا ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه وأنكر ذو اليد دعواه وقال: هو ملكي، فالخارج يسمى مدعياً، لأنه يدعي ما ليس بثابت له وهو الملك في هذا العين، وصاحب اليد يسمى مدعَياً عليه؛ لأنه يتمسك بما هو ثابت له، وهو الملك بظاهر اليد.

(9/5)


فإن قيل: هذا يشكل بالمودَع إذا ادعى الرد، والمودِع ينكر، فالمودع يكون مدعى عليه حتى يحلف، وقد ادعى ما ليس بثابت وهو الرد، ورب الوديعة يكون مدعياً وقد ادعى ما هو ثابت وهو عدم الرد.
قلنا: رب الوديعة من حيث المعنى مدعي ما ليس بثابت، وهو شغل ذمة المودَع بالضمان، والمودَع من حيث المعنى يتمسك بما هو ثابت وهو براءة ذمته والعبرة....، والخصومة وقعت لأجل الضمان.
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان في يدي رجل دار أو عبد أو شيء من الأشياء، فادعى رجل ذلك أو طائفة منه بشراء من مالكه أو بهبة أو صدقة أو وصية أو ميراث أو بوجه من وجوه الملك، أو ادعى عليه ديناً دراهمَ أو دنانير، أو شيئاً من الكيل أو الوزن أو ما أشبه ذلك، أو ادعى عليه كفالة بمال أو نفس أو ادعى عليه بيعاً أو إجازة، فالمنكر هو المدعى عليه، والطالب هو المدعي، وإنه يخرج على العبارات كلها.

ولو كان المدعى عليه أقر بدعوى المدعي إلا أنه ادعى القضاء والإبراء في دعوى الدين، أو ادعى الإبراء في دعوى الكفالة بالنفس أو الكفالة بالمال، أو ادعى الفسخ في الإجارة أو الإقالة في البيع، فالطالب في الدعوى الأول هو المدعى عليه في هذه الدعوى، والمدعى عليه في الدعوى الأول هو المدعي في هذا الدعوى، وإنه يخرج على العبارات كلها.

قال في كتاب الغصب: رجل غصب ثوباً أو دابة واستهلكه أقام المغصوب منه بينة على قيمته وأقام الغاصب بينة على قيمته أقل من ذلك، فالبينة بينة المغصوب منه، إما لأن المغصوب منه هو المدعي لما ذكرنا من العبارات، وإما لأن المغصوب منه ببينته يثبت زيادة في قيمة المغصوب وينفيها بينة الغاصب، والبينات شرعت في طرف الاثبات لا في طرف النفي، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول في الزيادة قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه في الزيادة على العبارات التي ذكرنا، والقول قول المدعى عليه مع اليمين. وإن أقام الغاصب بينة على قيمته، ولا بينة للمغصوب منه فللمغصوب منه أن يستحلف الغاصب، ولا يلتفت إلى بينته، لأن الغاصب هو المدعى عليه، والذي في جانب المدعى عليه اليمين دون البينة.
وإن قال الغاصب: أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف ورضي به رب الثوب، لا يلتفت إلى قولهما؛ لأن اليمن شرعت في جانب المدعى عليه وليس إلى العباد تغيير المشروعات.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحلاف رد اليمين إلى المدعي في مسألة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه غصبه ثوباً وأقر الغاصب بذلك، واختلفا في قيمة

(9/6)


الثوب، فقال المغصوب منه: كانت قيمة ثوبي مئة، وقال الغاصب: لا أدري ما كانت قيمته، ولكن علمت أن قيمته لم تكن مئة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن المغصوب منه يدعي زيادة قيمته عليه وهو ينكر، ويجبر الغاصب على البيان؛ لأنه أقر بقيمة مجهول، فيؤمر بالبيان وإن (لم) يخبر بشيء يحلف على ما يدعي المغصوب منه من الزيادة، فإن حلف ولم يثبت ما ادعاه المغصوب منه ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة، ويأخذ من الغاصب مئة درهم.

طعن الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي على محمد رحمه الله فيما ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة ويأخذ من الغاصب مئة درهم، وقال: المغصوب منه يدعي زيادة القيمة، واليمين لم تشرع حجة للمدعي عندنا، وقال: الجواب الصحيح عندي أن بعدما أبى الغاصب بيان القيمة، فالقاضي يوقفه بين يديه، ويقول: أكانت قيمة الثوب مئة؟ أكانت خمسون؟ أكانت ثلاثون؟ إلى أن ينتهي إلى أقل ما يجوز أن تنقص قيمة الثوب منه في العرف والعادة، فإذا انتهى إلى ذلك ألزمه ذلك وجعل القول قوله (173ب4) في الزيادة مع يمينه، وجعل الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا أقر بحق مجهول في عين في يديه، وأبى أن يبين مقداره، فالقاضي يوقفه بين يديه ويسمي السهام حتى ينتهي إلى أقل السهام الذي يقصد بالملك عادة، فيلزمه ذلك ويجعل القول في الزيادة قوله مع يمينه.
ومنهم من اشتغل بتصحيح ما ذكر في «الكتاب» ، وجه ذلك: أن الإقرار بالمجهول صحيح، وقطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه واجب، ويقدر إيصال المقر له إلى حقه بالطريق الذي قلتم؛ لأن موضوع المسألة أنه أقر بغصب ثوب، والثياب أجناس، فالقاضي لا يدري أن هذا أقل ما يصلح أن يكون قيمة الثوب، لأن ما من ثوب من جنس هو أقل ذلك الجنس إلا وثوب آخر من جنس آخر يكون أقل منه، بخلاف المسألة التي استشهد بها، لأن أقل المقدار الذي يقصد بالتملك معلوم من حيث العادة، فأمكن للقاضي إلزام المقر ذلك، أما ههنا بخلافه ولا وجه إلى أن يقضي بمئة درهم كما يدعيه المغصوب منه، لأن الغاصب حلف على ذلك، فلم يبق للقاضي طريق قطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه إلا ما قلنا وما نقول بأن يمين المغصوب منه يمين المدعي.

قلنا: يمينه يمين المدعي من وجه من حيث إنه يدعي أن قيمة الثوب مئة ولم يثبت ذلك، لما أنكر الغاصب ذلك ويمين المدعى عليه من وجه من حيث إن أصل الاستحقاق ثابت بإقرار الغاصب، فإن الإقرار بقيمة مجهولة صحيح، وإنما الحاجة إلى فصل الخصومة، واليمين شرعت لفصل الخصومة، فكانت بمنزلة يمين المدعى عليه من هذا الوجه، ويمين المدعى عليه من كل وجه مما يجوز أن يفصل بها الخصومة، فكذا يمين المدعى عليه من وجه، وهذه المسألة من الغرائب لا توجد إلا في كتاب الاستحقاق فيجب حفظها.

(9/7)


الفصل الثاني: في بيان صحة الدعاوى وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع
يجب أن يعلم بأن الدعوى لا تخلو، إما أن تقع في العين أو في الدين، فإن وقعت في الدين فإن كان المدعى مكيلاً، فإنما تصح الدعوى إذا ذكر المدعي جنسه أنه حنطة أو شعير، وبعدما ذكر الجنس بأن ذكر أنه حنطة يذكر مع ذلك نوعها أنها سقية أو برية، أو خريفية أو ربيعية، ويذكر مع ذلك صفتها أنها جيدة أو وسطية أو رديئة، كدم سفيدة أو كندم سرخة، ويذكر وزنها بالكيل، فيقول: كذا قفيزاً، لأن المقدر في الحنطة الكيل، ويذكر بقفيز كذا؛ لأن القفزان تتفاوت في ذاتها، ويذكر سبب الوجوب؛ لأن أحكام الديون تختلف باختلاف أسبابها، فإنه إذا كان بسبب السلم يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء ليقع التحرز عن الاختلاف، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض، وإن كان من ثمن بيع يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولا يشترط فيه مكان الإيفاء، وإن كان من قرض لا يجوز التأجيل فيه، بمعنى أنه لا يلزم، ويذكر في السلم سائر شرائط صحته من إعلام جنس رأس المال ونوعه وصفته وقدره بالقدر إن كان رأس المال وزنيا وإنفاذه في المجلس حتى يصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأشباه ذلك على ما عرف في كتاب البيوع.

ولو قال: بسبب السلم الصحيح ولم يبين شرائط صحة السلم، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي بصحة الدعوى، وغيره من المشايخ كانوا لا يفتون بصحته؛ لأن للسلم شرائط كثيرة، لا يقف عليها إلا الخواص من الناس، وربما نطق المدعي صحته ولا يكون صحيحاً في نفسه.
وفي دعوى البيع إذا قال: بسبب بيع صحيح جرى بينهما في جارية قد سلمها إليه صح الدعوى بلا خلاف، إذ ليس للبيع شرائط كثيرة تخفى على العامة، وعلى هذا في كل سبب له شرائط كثيرة يشترط بيان الشرائط لصحة الدعوى عند عامة المشايخ، ولا يكتفي بقوله بسبب كذا صحيح، وإن لم يكن له شرائط كثيرة يكتفى بقوله بسبب كذا صحيح.
ويذكر في القرض القبض وصرف المستقرض ذلك إلى حاجة نفسه يصير ذلك ديناً عليه بالإجماع؛ لأن عند أبي يوسف المستقرض لا يصير ديناً في ذمة المستقرض إلا بصرفه إلى حاجة نفسه.
وكذلك يذكر في دعوى القرض أنه أقرضه كذا من مال نفسه؛ لجواز أن يكون وكيلاً في الإقراض، والوكيل في الإقراض معار ومعير، فلا يصير ذلك ديناً له في ذمة المستقرض، ولا يثبت له حق المطالبة بالأداء، وإن كان المدعى به وزنيا فإنما تصح الدعوى إذا بين الجنس بأن قال: ذهب أو فضة، فإن بين الجنس بأن قال ذهب، فإن كان مضروباً يقول: كذا ديناراً، ويذكر نوعه أنه بخاري الضرب أو نيسابوري الضرب أو ما أشبه ذلك.

(9/8)


قالوا وينبغي أن يذكر صفته أنه جيد أو وسط أو رديء، فاعلم بأن هذه الدعوى إن كان بسبب البيع، فلا حاجة إلى ذكر الصفة إذا كان في البلد نقد واحد ظاهر معروف؛ لأن مطلق البيع ينصرف إلى نقد البلد ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا يشترط البيان إلا إذا كان قد مضى من وقت البيع إلى وقت الخصومة زمان طويل، بحيث لا يعلم نقد البلد في ذلك الوقت فحينئذ لابد من بيان أن نقد البلد في ذلك الوقت كيف كان، وبيان صفته بحيث تقع المعرفة من كل وجه.

وإن كان في البلد نقود مختلفة والكل في الرواج على السواء ولا صرف للبعض على البعض، يجوز البيع ويعطي المشتري للبائع أيَّ النقدين شاء، إلا أن في الدعوى لابد من تعيين أحدهما، وإن كان الكل في الرواج على السواء، وللبعض صرف على البعض كما كانت الغطريفية والعدلية في ديارنا، قيل: هذا لا يجوز البيع إلا بعد بيانه، وكذا لا تصح الدعوى من غير بيانه.
وإن كان أحد النقدين أروج والآخر أفضل، فالعقد جائز وينصرف إلى الإرواج، ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا حاجة إلى البيان إلا إذا كان قد مضى زمان طويل من وقت العقد إلى وقت الخصومة، بحيث لا يعلم الأروج وقت العقد على نحو ما بينا قبل هذا.
وإن كان هذا الدعوى بسبب القرض والاستهلاك، فلابد من بيان الصفة على كل حال؛ وعند ذكر النيسابوري أو البخاري لا حاجة إلى ذكر الأحمر؛ لأن النيسابوري لا يكون إلا أحمر وكذلك البخاري لا يكون إلا حمراء، ولابد من ذكر الجيد عليه عامة المشايخ؛ لأن ذكر النيسابوري لا يثبت ذكر الجيد؛ لأن النيسابوري ما يكون مضروباً في نيسابور أو ما يكون عليه سكة نيسابوري، وما يكون مضروباً في نيسابور أو يكون عليه سكة نيسابور قد يكون جيداً وقد لا يكون، وفي «فتاوى النسفي» : إذا ذكر أحمر خالص ولم يذكر الجيد كفاه.
ولا بد من ذكره أنه ضرب أي وال عند بعض المشايخ؛ لأن في مضروب الولاة تفاوت، وبعض مشايخنا لم يشترطوا ذلك وإنه أوسع، والأول وإن ذكر كذا ديناراً نيسابورياً مسقدة وفارسية سره كرده، ولم يذكر الجيد، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لابد من ذكر الجيد مع ذلك، لأن المسقدة قد تكون جيدة وقد تكون رديئة، وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذكر الجيد مع ذلك وهو الصحيح. ولو ذكر الجيد ولم يذكر المسقدة، فالدعوى صحيحة، لأن الجيد لابد وأن يكون مسقداً، فأما المنتقد قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً.

وإن لم يكن الذهب مضروباً لا يذكر في الدعوى كذا ديناراً، وإنما يذكر كذا مثقالاً، فإن كان خالصاً من الغش يذكر ذلك، وإن كان فيه غش يذكر ذلك نحو الده نوهي أو الده هشتي أو ما أشبه ذلك، وإن كان المدعى به نقده وكان مضروباً ذكر نوعها وهو ما يضاف إليها وصفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها أنه كذا درهماً وزن

(9/9)


سبعة؛ لأن وزن الدراهم يختلف باختلاف البلدان والذي في ديارنا وزن سبعة وهو الذي كل عشرة منها بوزن سبعة مثاقيل.

قيل: وإن (174أ4) كانت الفضة غير مضروبة إن كانت خالية عن الغش يذكر كذا فضة خالصة عن الغش، ويذكر نوعها نقرة كليحة أو نقرة طمغاجيّ، ويذكر صفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها كذا درهماً، وقيل: إذا ذكر كذا طمغاجي كفاه ولا حاجة إلى ذكر الجيد، وإن كان المدعى به دراهم مضروبة والغش فيها غالب إن كان يعامل به وزناً يذكر نوعها وصفتها ومقدار وزنها، وإن كان يعامل بها عدداً يذكر عددها.
وإذا ادعى الحنطة أو الشعير بالمنّ وبيّن أوصافه، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدار في الحنطة والشعير إنما عرف بالحديث المعروف، وقيل: لا بل الدعوى صحيحة، لأن الكيل في الحنطة والشعير إنما عرف مقداراً عند المقابلة بالجنس، ولهذا جاز بيع الحنطة موازنة بالدراهم، ففي الدعوى يحمل على بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة، والمختار في الفتوى أن يسأل المدعي عن دعواه، فإن ادعاه بسبب القرض أو بسبب الاستهلاك لا يفتى بالصحة؛ لأن ذلك مضمون بالمثل، وإن ادعاه بسبب بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة أو بسبب السلم يفتى بالصحة، وإن ادعاه مكايلة حتى صح الدعوى بلا خلاف، وأقام البينة على إقرار المدعى عليه بالحنطة أو الشعير، ولم يذكر الصفة في إقراره قبلت البينة في حق الجبر على البيان، لا في حق الجبر على الأداء.

وإذا ادعى الدقيق بالقفيز لا يصح؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدر في الدقيق الوزن دون القفيز؛ لأن الدقيق مكبس بالكبس بخلاف الحنطة، وإذا ذكر الوزن حتى صح الدعوى لا بد وأن يذكر خشك آردا وشسته، ويذكر مع ذلك يونحته او ناويخته، ويذكر مع ذلك أنه جيد أو وسط أو رديء، وأما إذا وقع الدعوى في العين، فإن كان المدعى به منقولاً وهو مالك، ففي الحقيقة الدعوى في الدين، فيشترط بيان القدر والجنس والنوع والصفة كما في سائر الديون، هذا هو المذكور في الكتب المشهورة.
قال رضي الله عنه: وكتبت في الشهادات من هذا المجموع عن «فتاوى أبي الليث» : أن من ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام على ذلك بينة ينبغي للمدعي أن يبين الذكر والأنثى، وينبغي للشهود أيضاً أن يبينوا ذلك، وإن لم يبينوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر رضي الله عنه: أخاف أن تبطل الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء من دعواه، وإن تبينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم، ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأن باختلاف اللون؛ لا تختلف المنافع، ولا يصير المشهود به مختلفاً ولا كذلك الذكورة والأنوثة.

قيل: اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم خصوصاً على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناء على القضاء بملك المستهلك؛ لأن حق المالك باق في العين المستهلك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض

(9/10)


القيمة أو بقضاء القاضي بالقيمة، حتى قال: يجوز الصلح عن العين المغصوب المستهلك على أكثر من قيمته، وإذا كان القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المستهلك لابد من بيان المستهلك في الدعوى والشهادة ليعلم القاضي أنه بماذا يقضي.
وهذا القائل يقول مع ذكر الأنوثة والذكورة لابد من ذكر النوع بأن يقول: فرس أو حمار أو ما أشبه ذلك، ولا يكتفي بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللون كما في الوكالة.

ومن المشايخ من أبى ذكر الأنوثة والذكورة وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلك القيمة، فالمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة مقبولة، وكذلك دعوى القيمة مسموع، فلا حاجة إلى بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من ادعى على آخر مالاً مقدراً وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضي عن السبب فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم وطريقة ما قلنا.
وكذلك الرجلان إن ادعيا نكاح امرأة ميتة وأقاما البينة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذرة، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث؛ فيقضى لهما بالميراث لهذا، والأول أصح.
ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة دعوى النكاح أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق من الشهود أيضاً صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة فلم يقض بالنكاح في حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى والشهادة، أما بعد الموت المقصود هو الميراث، والقضاء بالميراث لهما ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة؛ لأن المدعي ادعى ملك المتلف والشهود شهدوا بملك المتلف أيضاً، والقاضي يقضي بملك المتلف أولاً ثم يقضي بالقيمة بناء على ذلك، والقضاء بالمجهول لا يصح فلا يقضي.
وفيما إذا ادعى مالاً مقداراً وشهد الشهود بذلك وبينوا السبب استهلاك الدابة يقول بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم إذا لم يبينوا النوع ولم يبينوا الصفة الذكورة أو الأنوثة مع ذلك، هذا إذا كان المدعى به منقولاً وهو هالك.

فأما إذا كان المنقول قائماً، فإن أمكن إحضاره مجلس الحكم، فالقاضي لا يسمع دعوى المدعي ولا شهادة شهوده إلا بعد إحضار ما وقع فيه الدعوى مجلس الحكم حتى يشير إليه المدعي والشهود لتنقطع الشركة بين المدعى به وغيره من كل وجه، وهذا لأن إعلام المدعى به والمشهود به على وجه تنقطع الشركة بينه وبين غيره من كل وجه شرط سماع الدعوى والبينة إذا أمكن الإعلام على هذا الوجه والإعلام على هذا الوجه في المنقول الذي يمكن إحضاره مجلس الحكم ممكن بإحضاره مجلس الحكم، فيشترط إحضاره.

(9/11)


قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ومن المنقولات ما لا يمكن إحضاره عند القاضي كالصبرة من الطعام والقطيع من الغنم، والقاضي فيه بالخيار إن شاء حضر ذلك الموضع لو تيسر له ذلك وإن كان لا يتهيأ له الحضور وكان مأذوناً بالاستخلاف يبعث خليفته إلى ذلك الموضع.
قال محمد رحمه الله: وهو نظير ما إذا كان القاضي يجلس في داره، ووقع الدعوى في حمل، ولا يسع باب داره، فإنه يخرج إلى باب داره، أو يأمر نائبه حتى يخرج ليسير إليه الشهود بحضرته.
وفي «القدوري» : إذا كان المنقول المدعى به شيئاً يتعذر نقلها كالرحى، فالحاكم بالخيار إن شاء حضرها، وإن شاء بعث أميناً، فإن وقع الدعوى في عين غائب لا يعرف مكانه بأن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً أو جارية لا يدري أنه قائم أو هالك، فإن بيّن الجنس والصفة والقيمة فدعواه مسموعة وبينته مقبولة، وإن لم يبين القيمة، أشار في عامة الكتب الى أنها مسموعة، فإنه ذكر في كتاب الرهن:
إذا ادعى رجل على رجل أنه رهن عنده ثوباً وهو ينكر، قال: يسمع دعواه. وقال في كتاب الغصب: رجل ادعى على غيره أنه غصب منه جارية، وأقام بينة على ما ادعى تسمع دعواه وتسمع بينته، بعض مشايخنا قالوا: إنما تسمع دعواه إذا ذكر القيمة، وهذا القائل يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» هذا.

وكان الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» أن الشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه بالغصب، فثبت غصبه الجارية بإقراره في حق الجنس والقضاء جميعاً، قال شمس الأئمة الحلواني وعامة المشايخ على أن هذه الدعوى صحيحة والبينة مقبولة، ولكن في حق الجنس وإطلاق محمد في الكتاب يدل عليه.
قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزودي: إذا كانت المسألة مختلفة ينبغي للقاضي أن يكلف المدعي بيان القيمة، فإذا كلفه ولم يبين يسمع دعواه، وهذا لأن الإنسان قد لا يعرف قيمة ماله، فلو كلفه بيان القيمة فيه فقد أضرّ به إذ يتعذر (174ب4) عليه الوصول إلى حقه، وإذا سقط بيان القيمة من المدعي سقط من الشهود من الطريق الأولى، وتمام المسألة مرت في كتاب الغصب، وإن وقع الدعوى في العقار، فلابد من ذكر البلدة التي فيها الدر المدعى به، ثم من ذكر المحلة، ثم من ذكر السكة، يبدأ بالأعم، وهو البلد ثم بالأخص.
وهذا فصل اختلف فيه أهل الشروط، قال بعضهم يبدأ بالأعم، وقال بعضهم بالأخص، وعند أهل العلم له الخيار إن شاء يبدأ بالأعم، وإن شاء بالأخص؛ لأن المقصود هو التعريف، والتعريف حاصل بالكل، ولابد من ذكر حدود الدار بعد هذا، قال جماعة من أهل الشروط: ينبغي أن يذكر في الحدود لزيق دار فلان؛ ولا يذكر دار فلان لأنه حينئذ يصير دار فلان يدعي به؛ لأن الحد يدخل في المحدود، وعندنا كلا اللفظين على السواء، أيهما ذكر فهو حسن؛ لأن المقصود تعريف الدار المدعى به

(9/12)


باتصالها بدار فلان، وإنه حاصل باللفظين جميعاً، وما يقول بأن الحد يدخل في المحدود ليس كذلك؛ لأن الحد غاية والغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية، وإن ذكر حدين لا يكفي في «ظاهر الرواية» عند أصحابنا رحمهم الله، وإن ذكر ثلاثة حدود كفاه، وكذلك في الشهادة إذا ذكر الشهود ثلاثة حدود قبلت شهادتهم، وكيف يحكم بالحد الرابع في هذه الصورة؟

قال الخصاف رحمه الله في «وقفه» : جعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى مبتدأ الحد الأول أي بإزاء الحد الأول، وإذا ادعى على آخر مئة عدلية غصباً، وهي منقطعة عن أيدي الناس يوم الدعوى ينبغي أن يدعي قيمته، فالمغصوب إذا كان مثلثاً وقد انقطع عن أيدي الناس يجب على الغاصب قيمته، غير أن عند أبي حنيفة يعتبر القيمة يوم الدعوى والخصومة، وعند أبي يوسف يوم الغصب، وعند محمد يوم الانقطاع، ولابد من بيان سبب وجوب الدراهم في هذه الصورة؛ لأنها لو كانت ثمن بيع فبالانقطاع قبل القبض يفسد العقد عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قبض المبيع والبيع قائم على حاله في يده، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً وجب على المشتري رد قيمة المبيع إن لم يكن مثلياً، ورد مثله إن كان مثلياً، وإن كان بسبب القرض أو النكاح فلابد من بيان سبب وجوبها لينظر هل له ولاية دعوى القيمة؟.
وإذا ادعى على غيره مقداراً معلوماً من العنب فهذا على وجهين: إما أن يكون العنب المدعى به عيناً، فإنه يسمع الدعوى بحضرته عند الإشارة إليه، فلا يشترط بيان الصفة والوزن والنوع، وإن كان ديناً فإن كانت الدعوى في أوانه، فلابد من بيان المقدار والنوع والصفة، فيقول إدندي أنكور علائي ادندي أنكور طائفي لعله باطائفي سبيدا، وما أشبه ذلك.

بيانه: يانيكوما سفق، وإن كان بعد انقطاعه فالقاضي يقول له يريد عين العنب في الحال أو قيمته، فإن قال عين العنب فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأنه إن كان ثمن مبيع يفسد البيع بانقطاعه قبل التسليم، ولا يبقى للبائع حق المطالبة بالعنب بل يجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً ورد قيمته إن كان مستهلكاً، وإن كان دعوى العنب بسبب السلم أو القرض أو الاستهلاك، فبسبب الانقطاع إن كان لا يسقط ذلك عن ذمة من عليه، ولكن لا يطالبه صاحب الحق بعين العنب في الحال؛ لعجزه عن ذلك، بل يتخير إن شاء صبر حتى يدخل أوانه ويطالبه بعين العنب، وإن شاء أخذ منه القيمة في الحال، فإذاً في الأحوال كلها لا مطالبة للمدعي بعين العنب، فلا يستقيم منه دعوى عين العنب، وإن قال أريد القيمة فالقاضي يأمره ببيان سبب وجوب العنب؛ لأن العنب إن كان ثمن مبيع ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم ويسقط العنب عن ذمة المشتري، فكيف يطالبه بقيمة العنب؟ وإن كان بسبب السلم أو الاستهلاك أو القرض، فبالانقطاع لا يسقط ذلك عن ذمة المدعى عليه، فتستقيم المطالبة بقيمته في الحال إذا كان لا ينتظر دخول أوانه.

قال مولانا رضي الله عنه: هذه الجملة مسموعة عن الشيخ الإمام الأجل ظهير

(9/13)


الدين المرغيناني رحمه الله، حكاها عن أستاذه، قال رضي الله عنه: وما ذكر العنب ولو كان ثمن المبيع، فبالانقطاع قبل التسليم ينتقض العقد، ولا ينبغي للبائع حق المطالبة بتسليم عين العنب، ليس بصحيح، فقد ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصرف في حجج مسألة. صورتها:
رجل اشترى من آخر مئة فلس بدرهم، ونقد الدرهم ولم يقبض شيئاً من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس أن لا ينتقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدرهم، وفي الاستحسان: ينتقض العقد.

ومن اشترى من آخر شيئاً بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوان الرطب إن العقد لا ينتقض. وذكر أيضاً أن من اشترى شيئاً بقفيز رطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، وهذا بخلاف ما لو اشترى شيئاً بدراهم أو فلوس ثم انقطعت الدراهم أو الفلوس قبل القبض حيث ينتقض البيع عند أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمهما الله على رواية كتاب الصرف، لأن في الرطب العود ثابت من غير صنع من العباد، ولا كذلك في الدراهم، وفي دعوى مال الإجارة المنسوخ بموت الآجر: إذا كانت الأجرة دراهم أو عدالي ينبغي أن يذكر كذا دراهم كذا عدالي رائجة من وقت العقد إلى وقت الفسخ؛ لأنها إذا أكسدت فيما بين ذلك تفسد الإجارة كبيع العين.
وإذا ادعى نوعين من العنب بأن ادعى ألف مَنّ من العنب العلاني والورخمني الحلو الوسط، لابد وأن يقول من العلاني كذا، ومن الورخمني كذا، لأن بدون ذلك القاضي لا يدري أنه بأي قدر يقضي من كل نوع.
(رجل) ادعى على آخر مقداراً من اللحم بأن ادعى مثلاً خمسة عشر منّاً، خمسة أمناء لحم اليد وخمسة أمناء لحم الرجل وخمسة أمناء لحم الجنب، فلابد وأن يبين السبب؛ لأنه يجوز أن يدعي ذلك بسبب السلم، وفي صحة السلم في اللحم خلاف معروف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، ويجوز أن يدعيه بسبب الاستهلاك، وفي استهلاك اللحم اختلاف بين المشايخ، قال بعضهم: يوجب القيمة، وإليه أشار محمد رحمه الله في بعض الكتب، وقال بعضهم: يوجب المثل، وإليه أشار في بعض الكتب، فلهذا احتيج إلى بيان السبب فيه، فإن بيّن الثمنية بأن قال: بعت منه عرضاً بكذا وكذا من اللحم، وبيّن أوصافه وموضعه صح دعواه بناءً على أن المكيل والموزون إذا قوبل بعرض واستعمل استعمال الثمن، فهو ثمن.
وإذا ادعى على آخر أنه غصب منه كذا قفيز حنطة، وبيّن الشرائط لابد وأن يذكر مكان الغصب وستأتي بتمامها في المحاضر.

(وإذا) ادعى على آخر أنه باع من فلان مئة منّ من الشحم الأبيض بكذا، وسلم الشحم إليه وقبض الثمن بتمامه، وإن الشحم المبيع كان مشتركاً بيني وبين البائع هذا، وإني قد أجزت البيع حين وصل إليّ خبر البيع فواجب عليه تسليم نصف الثمن إليّ، فهذه الدعوى لا تصح؛ لأنه لم يذكر في الدعوى أن الشحم كان قائماً في يد المشتري وقت

(9/14)


الإجارة، ولابد من ذلك؛ لأن بدون ذلك لا تعمل إجارة الشريك، ولأنه يذكر رواج الثمن وقت الإجارة، ولابد من ذلك، فإنه لو صار كاسداً قبل الإجارة لا تعمل الإجارة، كما لا يجوز ابتداء البيع به، وكذلك لو ذكر قيام الشحم ورواج الثمن وقت الإجارة للبيع إلا أنه لم يذكر في دعواه قبض البائع الثمن من المشتري، لا تصح دعوى تسليم بعض الثمن؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء بالبيع ما لم يقبض البائع الثمن من المشتري لا يطالب البائع بتسليم الثمن إلى الشريك، فالوكيل بالبيع لا يطالب بتسليم الثمن قبل أخذ الثمن من المالك، كذا هذا.
ادعى على آخر.... فاعلم (175أ4) بأن دعوى الخبز لا تصح إلا بعد بيان السبب؛ لأن التسلم في الخبز لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا وزناً ولا عدداً وعند أبي يوسف يجوز وزناً، وفي الاستقراض خلاف أيضاً، على قول أبي حنيفة، لا يجوز لا عدداً ولا وزناً، وقال محمد رحمه الله: يجوز عدداً، وقال أبو يوسف: يجوز وزناً لا عدداً، وبالاستهلاك يجب قيمة الخبز لا عين الخبز، فلابد من بيان السبب، فإن بيّن أنه ثمن المبيع تصح الدعوى، ولكن ينبغي أن يذكر في الدعوى الكعك المتخذ من الدقيق المغسول أو غير المغسول، وكذا ينبغي أن يذكر أنه أبيض أو وجهه ملطخ بالزعفران وكذا ينبغي أن يذكر أن على وجهه سمسماً أبيض أو أسود.
وإذا ادعى ديباجاً على إنسان ولم يذكر وزنه، فإن كان الديباج عيناً يشترط إحضاره والإشارة إليه، وعند ذلك لا حاجة إلى بيان الوزن وسائر أوصافه، وإن كان ديناً بأن كان مسلماً فيه اختلف المشايخ في أنه هل يشترط ذكر الوزن لصحة الدعوى؟ عامتهم على أنه يشترط، وهو الصحيح.
وفي دعوى القطن لابد وأن يبين القطن البخاري أو الشالشي؛ لأن القطن يتفاوت في نفسه بتفاوت المواضع، ويبيّن أن يجعل من كذا من منّه كذا مَنٌ من المحلوج، هكذا قيل، وقيل: ليس بشرط وهو الصحيح، ولو ذكر في السلم أنه يحصل من كل أربعة أمنان أو ثلاثة أمنان من المحلوج يفسد السلم وقع الدعوى في خبا في الذمة مهراً فارسية خركاه، فأفتوا بالصحة، وإنه ظاهر؛ إذ ليس فيه أكثر من الجهالة، والجهالة في باب المهر لا تمنع الوجوب في الذمة.

وقد نص محمد رحمه الله في النكاح: إذا تزوج امرأة على بيت، فلها جهاز بيت وسط مما تجهز به النساء، قالوا وهذا هو المتعارف فيما بين أهل الأمصار في تلك الديار، فإنهم يعنون بذلك الغرف، وفي البادية يتعارفون بيت الشعر، وفي دعوى الغصب وأشباهه إن كانت الدعوى بسبب الاستهلاك أو القرض أو بسبب الثمنية لا يحتاج إلى الإحضار.

(9/15)


ادعى قدراً من التوتياء ينبغي أن يذكر في دعواه كوفته أو ناكوفته، وبدونه لا تصح الدعوى لمكان الجهالة.

وإذا ادعى على آخر كذا عدداً من الإبرة، فإن وقع الدعوى في العين، فلابد من الإحضار للإشارة إليها وعند ذلك لا يحتاج إلى بيان الأوصاف، وإن وقع الدعوى في الدين، فلابد من بيان السبب لصحة الدعوى؛ لأنها لا تجب في الذمة بالاستهلاك؛ لأنها مضمونة بالقيمة لا بالمثل، وكذلك لا يجب في الذمة بالقرض؛ لأن استقراضه لا يجوز؛ لأنه ليس من ذوي المثل، ويجب في الذمة بطريق السلم وثمن المبيع، فلهذا احتيج إلى بيان السبب، فإن بيّن سببية السلم أو ثمن المبيع يحتاج فيه إلى بيان النوع والصفة على وجه يخرج عن حد الجهالة لتصح الدعوى.
وإذا ادعى وقر رمان أو وقر سفرجل لا بد وأن يذكر الوزن؛ لأن الوقر يتفاوت، ويذكر مع ذلك الصغر والكبر، ويذكر الحلاوة والحموضة، ثم يؤمر بالإحضار، فإذا أحضر وأقر المدعي أن المحضر جميع المدعى به الآن يدعي الملك، هكذا قيل، وينبغي أن لا يشترط هذه الأوصاف في دعوى الإحضار، وقد مر جنس هذا.
ادعى طاحونة في يدي رجل، وبيّن حدود الطاحونة، وذكر الأدوات القائمة في الطاحونة، إلا أنه لم يسم الأدوات ولم يذكر كيفيتها، فقد قيل: لا تصح الدعوى، وقد قيل: تصح إذا ذكر جميع ما فيها من الأدوات القائمة وهو الأصح.
باع دار غيره وسلمها إلى المشتري، فجاء المالك وادعى الدار على البائع، هل تصح الدعوى؟ ينظر إن أراد أخذ الدار لا تصح؛ لأن الدار ليست في يده، وإن أراد التضمين بالغصب، فعلى الخلاف المعروف أن الغصب في العقار هل يتحقق موجباً للضمان؟ وفي وجوب الضمان بالبيع والتسليم روايتان عن أبي حنيفة، وإن أراد إجارة المبيع وأخذ الثمن تصح دعواه.
ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وقال: كان لي في حائط هذا الذي أحضرته في موضع كذا خشبة، فوقعت أو قال: قلعتها لأعمل غيرها وقد منعني صاحب الحائط هذا، وهو حق لي في هذا الحائط، لابد وأن يذكر حق وضع الخشبة أو الخشبتين أو ما أشبه ذلك وبين موضع الخشبة وغلظها.

وكذا إذا ادعى مسيل ماء في دار، لابد وأن يبين مسيل ماء المطر أو ماء الوضوء، لأن هذا مما يتفاوت، لأن المطر لا يكون أدوم ويكون أكثر، وماء الوضوء والغسالات يكون أدوم ويكون أقل، وينبغي أن يبين موضع مسيل الماء أنه في مقدم البيت أو في مؤخره.
وكذا إن ادعى طريقاً في دار رجل ينبغي أن يبين مقدار عرضه وطوله ويبين موضعه في الدار هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .
وذكر في دعوى «الأصل» : اذا ادعى مسيل ماء في دار رجل، أو ادعى طريقاً في دار رجل، وشهد الشهود أن له مسيل ماء في هذه الدار أوله طريق في هذه الدار، وقع

(9/16)


في بعض النسخ أنه تقبل البينة وإن لم يثبتوا، ووقع في بعضها أنه لا تقبل البينة ما لم يثبتوا، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما وقع في بعض النسخ أنه تقبل البينة محمول على ما إذا شهدوا على إقرار صاحب الدار؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وما وقع في بعض النسخ أنه لا تقبل البينة محمول على ما إذا شهدوا على نفس المسيل والطريق، لا على إقرار المدعى عليه، وستأتي هذا المسائل في فصل على حدة إن شاء الله تعالى.
وإذا ادعى على آخر أنه شق في أرضه نهراً وساق الماء فيه إلى أرضه، لابد من أن يسمي الأرض التي شق فيه النهر، ويبين موضع النهر، أنّ هذا النهر من الجانب الأيمن من هذا النهر، أو من الجانب الأيسر، ويبين قدر طول النهر وعرضه.
وإذا ادعى على آخر ثلاثة أسهم من عشرة أسهم من دار، وقال: هذه الأسهم الثلاث من العشرة الأسهم من الدار المحدودة ملكي وحقي، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، ولم يذكر أن جميع هذه الدار في يده، وكذلك لم يشهد الشهود أن جميع هذه الدار في يد هذا المدعى عليه، فهذه الدعوى صحيحة، وهذه الشهادة مقبولة.

ادعى مالاً معلوماً على غيره، وقال في دعواه من إذا فلان أد يدي مال في ما تذكرت فت بسبب حسابي كه بيان من واو يود، فهذه الدعوى بهذا السبب لا تصح، لأن هذا السبب لا يصلح سبباً لوجوب المال.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي: عمن ادعى على آخر عيناً في يده، وقال: كان هذا ملك أبي، مات وتركه ميراثاً لي ولفلان، وسمى عدد الورثة، إلا أنه لا يبين حصة نفسه، فهذه الدعوى صحيحة منه، وإذا أقام البينة على دعواه سمعت بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لابد وأن يبين حصته؛ لأنه لا يملك المطالبة بالتسليم إلا بقدر حصته، فيبين حصته عند ذلك، ولو كان بيّن حصته ولم يبين عدد الورثة.

بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي، وحصتي منه كذا، وطالبه بتسليم ذلك لا تصح منه الدعوى، ولا بد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بيّن كان نصيبه أنقص مما سمّى.
عبد باع عيناً من الأعيان بحضرة المولى، ثم إن المولى ادعى ذلك العين لنفسه، فإن كان العبد مأذوناً لا تصح دعوى المولى، وإن كان محجوراً تصح دعواه، فإن قيل: أليس أن المولى صار آذناً له لما رآه أنه باع ولم ينهه؟ قلنا نعم ولكن أمر الإذن إنما يظهر في المستقبل لا في التصرف المباشر، عرف ذلك في كتاب «المأذون الكبير» .

رجل ادعى على رجل أنه باع عبداً مشتركاً بينه وبيني من فلان بكذا، وسلم العبد وطالبه بأداء نصف الثمن، فالقاضي يسأل المدعي أن العبد كان مشتركاً بينكما شركة ملك أو شركة عقد مفاوضة أو عياناً، إن قال شركة ملك لابد لصحة الدعوى من أن يقول في الدعوى: إن العبد قائم في يد (175ب4) المشتري وقت طلب الثمن الذي هو دليل الإجازة؛ لأن العقد في نصيبه إنما ينفذ وقت الإجازة، وإنما ينفذ إذا كان محله قائماً في

(9/17)


هذه الحالة، ولابد من ذكر قبض البائع الثمن، لتصح مطالبته إياه بأداء نصف الثمن، وإن قال: شركة عقد لا حاجة إلى ذكر قيام العبد وقت طلب العين؛ لأن العقد قد نفذ في النصيبين حال وجوده، ولكن يشترط ذكر قبض الثمن لتصح مطالبته بأداء نصف الثمن.
رجل ادعى على غيره أن وصيّي باع من أقمشتي منك كذا وكذا في حال صغري بكذا وكذا، وأنه قد مات قبل استيفاء شيء من الثمن، فادفع إليّ ثمن أقمشتي، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن بعد موت الوصي حق قبض ثمن ما باع الوصي يكون لوارثه أو لوصيّه فإن لم يكن له وصيّ أو وارث، فالقاضي ينصب له وصياً.
قال رضي الله عنه: وعلى قول من يقول من المشايخ في الوكيل بالبيع إذا مات قبل قبض الثمن، فحق القبض ينتقل إلى الموكل، ينبغي أن يقال ههنا حق القبض ينتقل إلى الصبي بعد بلوغ الصبي، وتصح الدعوى.
وفي «الأقضية» لأهل الكوفة: رجل ادعى على رجل أنه أمر فلاناً، فأخذ منه كذا وكذا من المال، فإن كان المدعى عليه الآخر سلطاناً، فالدعوى عليه مسموعة، وإن لم يكن سلطاناً فالدعوى عليه غير مسموعة.

ووجه ذلك إن أمر السلطان إكراه؛ لأن المأمور يعلم أنه لو لم يمثل أمره يعاقبه السلطان، هذا هو عادة السلاطين، والثابت من طريق العادة كالثابت نصاً، ولو هدده السلطان بالعقوبة على أن يأخذ مال الغير أو ينقله ففعل، كان الضمان على السلطان دون المأمور، كذا ههنا، وإذا كان الضمان في هذه الصورة على السلطان كانت الدعوى عليه صحيحاً، فأما أمر غير السلطان فليس بإكراه لأنه لا يعاقب المأمور لو لم يمثله وكان مجرد أمر، وإنه لم يصح، لأنه لم يملك أخذ مال الغير وإتلافه، والأمر بما لا يملكه، الأمر لغو فخرج الأمن من البين وبقي الفعل مقصوراً على المأمور، فكان الضمان عليه دون الأمر، فلا يصح دعوى الضمان على المأمور بأن ادعى على رجل أن فلاناً أمرك وأخذت من مالي كذا وكذا، فإن كان الآمر سلطاناً فدعوى الضمان على المأمور لا تصح، وإن لم يكن سلطاناً فدعوى الضمان عليه صحيحة، وهو بناء على ما قلنا.

رجل ادعى داراً في يد رجل من تركة والده أنه اشتراها من والده في مرضه، وأنكرنا في الورثة ذلك، فقد قيل: لا تصح هذا الدعوى؛ لأن المرض قد يكون مرض موت، وقد يكون غير مرض موت، وبيع المريض مرض الموت من وارثه وصية له بالعين عند أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال: بيعه من الوارث لا يجوز وإن كان بمثل القيمة، إلا بإجازة باقي الورثة، فكان هذا دعوى الوصية على أحد التقديرين، فلا تصح بالشك، وقيل: ينبغي أن تصح الدعوى؛ لأن تصرف المريض مع وارثه ينعقد بوصف الصحة، حتى لو أجاز بقية الورثة ذلك ينفذ وإن لم يجيزوا يبطل، فالبطلان يعارض عدم الإجازة بشرط أن يكون المرض مرض الموت، فإن لم يعلم أن هذا المرض مرض الموت كان للتصرف فيه حكم الصحة، فتكون الدعوى صحيحة.
H

رجل باع عقاراً، وابنه أو امرأته، أو بعض أقاربه حاضر يعلم به، ووقع القبض

(9/18)


بينهما وتصرف المشتري زماناً، ثم إن الحاضر عند البيع ادعى على المشتري أنه ملكه، ولم يكن ملك البائع وقت البيع، اتفق المتأخرون من مشايخ سمرقند على أنه لا تصح هذه الدعوى ويجعل سكوته كالإفصاح بالإقرار أنه ملك البائع، ومشايخ بخارى أفتوا بصحة هذه الدعوى.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : إن نظر المفتي في المدعي وأفتى بما هو الأحوط كان أحسن، وإن لم يمكنه ذلك يفتي بقول مشايخ بخارى، فإن كان الحاضر عند البيع جاء إلى المشتري وتقاضاه الثمن بعثه البائع إليه، لا تسمع دعواه بعد ذلك الملك لنفسه، ويصير مجراً البيع بقاضي الثمن، فلا تصح دعواه بعد ذلك الملك لنفسه.
وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن ادعى على آخر أربعين فصيلاً في بطون أمهاتها غير مولود، قال: لا تسمع دعواه إلا أن يدعي إقرار المدعى عليه بذلك، ويقيم البينة على إقراره، وهذا إشارة إلى أن دعواه بسبب الإقرار صحيح، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه، ومسائل الكتب فيها متعارضة، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ادعى على آخر ثمن عبد اشتراه منه وقبضه صحت الدعوى، وإن لم يعين العبد ولم يبين صفته؛ لأن هذا في الحقيقة دعوى الدين لما كان العبد مقبوضاً.
دار في يدي رجل ادعى بقاء رجل، فأقام صاحب اليد بينة على المدعي أني اشتريت هذه الدار من وصيّك في حال صغرك بكذا إلا أنه لم يسم الوصيّ، وأقام على ذلك بينة، هل تسمع دعواه وبينته؟ اختلف المشايخ فيه، وكذلك إن ادعى أن فلاناً باع هذه الدار بإطلاق القاضي في حال صغرك، ولم يسم القاضي، وأقام على ذلك بينة هل تصح دعواه، وهل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وعلى هذا إذا شهد الشهود على الوقف وتسلم الواقف إياه إلى المتولي، إلا أنهم لم يسموا الواقف أو سموا الواقف، دون المتولي ففيه اختلاف المشايخ.

والحاصل: أن في دعوى الفعل والشهادة على الفعل هل يشترط تسمية الفاعل؟ ففيه اختلاف المشايخ، وأدلة الكتب فيه متعارضة.
ذكر الخصاف في كتاب «أدب القاضي» في باب الشهادة على الحقوق: أنه إذا شهد شاهدان على رجل لرجل أن قاضياً من القضاة قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم، أو شهد شاهدان أن قاضي الكوفة قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة حتى يسموا القاضي الذي قضى به وينسبوه، قال ثمة: وليس هذا في هذا الموضع وحده، بل الحكم في جميع الأفاعيل، هذا إذا شهد الشهود على فعل لابد وأن يسموا الفاعل وينسبوه، ولو لم يسموا لا تقبل شهادتهم.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الحدود: إذا أقام المدعى عليه بينة أن شهود المدعي محددون في قذف، لابد وأن يسموا من حدهم، فهذه المسائل على أن تسمية الفاعل شرط.
وذكر محمد في «الزيادات» : إذا ادعى على رجل أنه وارث فلان الميت، وأن

(9/19)


قاضي بلد كذا قضى لوراثته، وجاء بشاهدين شهدا أن قاضي بلد كذا أشهدنا على قضائه أن هذا الرجل وارث فلان الميت لا وارث له غيره، فالقاضي يجعله وارثاً، ولم يشترط تسمية ذلك القاضي.
وذكر في دعوى «الأصل» في آخر باب دعوى النكاح: إذا ادعى رجل أمة في يدي رجل وجاء بشهود شهدوا عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بهذه الأمة لي صحت دعواه، ولم يشترط تسمية القاضي.
وذكر في إقرار «المنتقى» : رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها لي، اشتريتها من وكيلك بألف درهم، ولم يسم الوكيل، وشهد له الشهود على الشراء ولم يسموا الوكيل تسمع دعواه وشهادة شهوده.

وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب الوقف بعلامة السين: إذا كتب صك الوصاية أو صك التولية، ولم يذكر فيه جهة الوصاية والتولية لا يصح الصك؛ لأن الوصي قد يكون من جهة القاضي وقد يكون من جهة الأب، وأحكامها مختلفة، وكذلك المتولي قد يكون من جهة القاضي وقد يكون من جهة الواقف، وأحكامهما مختلفة، وإن كتب أنه قضى من جهة الحاكم أو أنه متولي من جهة الحاكم، ولم يسم الحاكم الذي نصبه، ولا الذي ولاه جاز.
قال رحمه الله: ثمة وعلى هذا القياس إذا احتيج إلى كتابة القضاء في المجتهدات، كالوقف وإجارة المشاع ونحوه، كتب وقضى قاضٍ من قضاة المسلمين بصحته وجوازه (176أ4) ويجوز ذلك وإن لم يسم ذلك القاضي، فهذه المسائل كلها تدل على أن تسمية الفاعل ليس بشرط لصحة الدعوى والشهادة، فيتأمل عند الفتوى.
وفي دعوى السعاية لا يشترط ذكر قابض المال ونسبه، لأن وجوب الضمان على الساعي بصنعه ولا تعلق له بالقابض والآخذ، وفي دعوى المال في الإجارة المفسوخة لا يشترط ذكر حدود المستأجر.

ادعى على آخر عشرة دراهم ثمن مبيع مقبوض، ولم يبين المبيع أنه ما هو، فقد قيل لا تصح الدعوى؛ لأنه يحتمل أن يكون المبيع خمراً أو ميتة، وبيعهما لا يوجب الثمن على المشتري فيما بين المسلمين على ما عليه ظاهر حالهم، والبناء على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه، وفي دعوى قيمة الأعيان لابد من بيان الأعيان؛ لأن الإنسان قد يظن عيناً أنه من ذوات القيم، ويكون في الحقيقة مثلياً، إذا قال مراده ديناً رزومي بايد نميدا نم كه انز زيد في بايديا أن جعفر بازير يكي ازايشان دعوى ميكندبر تعين در مجلس ديك، تصح دعواه؛ لأنه قد يشتبه على الإنسان ذلك ثم يزول الاشتباه بالتفكر.
ذكر محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان الحائط بين رجلين، فادعى رجل على أحدهما أنه أقر أن الحائط له، وأقام على ذلك بينة قضى بنصيبه لا غير؛ لأنه ثبت إقراره بالبينة، وإقرار أحد الشريكين في نصبيه صحيح.
وهذه المسألة تصير رواية في فصل اختلف المشايخ فيه أن من ادعى عيناً في يد

(9/20)


إنسان أنه له لما أن صاحب اليد أقر به لي، أو ادعى عليه دراهم، وقال في دعواه: لي عليه كذا من الدراهم لما أنه أقر بها لي أو قال ابتداءً: إن هذه العين لي، أو قال: أقر أن لي عليه كذا من الدراهم، هل تصح هذه الدعوى؟ بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: تصح، وفي بعض الكتب أشار إلى هذا، من جملة ذلك هذه المسألة، ألا ترى أن محمداً رحمه الله سمع الدعوى وسمع البينة في هذه المسألة، وقد ادعى المدعي إقرار المدعى عليه، وعامتهم أن هذه المسألة الدعوى لا تصح ولا تسمع هذه البينة؛ لأن نفس الإقرار لا يصلح سبباً لاستحقاق المدعى به، فإن بالإقرار كاذباً لا يثبت الاستحقاق للمقر له، فقد أضاف الدعوى إلى ما لا يصلح سبباً للاستحقاق فلا يصح.
وأجمعوا على أنه لو قال: هذه العين ملكي، وهكذا أقرّ به صاحب اليد، أو قال لي عليه كذا، وهكذا أقر به المدعى عليه أنه ليصح الدعوى، ويسمع البينة على إقراره، ولو قال في الدعوى: إن صاحب اليد قال: هذه العين لك جعلت هذا العين لك سمع ذلك منه؛ لأن هذه دعوى الهبة، والهبة سبب الملك ودعوى الملك مضافاً إلى ما لا يصلح سبباً له لا يصح، وكذلك اختلف المشايخ في دعوى الإقرار في طرف الدفع أنه هل تصح؟ بعضهم قالوا: لا تصح كما في طرف الاستحقاق، وعامتهم على أنه تصح دعوى الإقرار في طرف الرفع.
وقد ذكر محمد رحمه الله في الكتب مسائل تدل على ذلك فمن جملته ما ذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد.

وصورتها: رجل ادعى في يدي رجل داراً أو متاعاً، وأقام البينة عند القاضي، وقضى القاضي له بذلك، فلم يقبضه حتى أقام ذو اليد بينة على المدعي أنه أقر أنه لا حق له فيه، قال إن شهدت شهوده على إقرار المدعي بذلك قبل قضاء القاضي بطلت شهادة شهود المدعي.
وذكر في كتاب الوكالة في الوكيل بالخصومة في الدار إذا أقام بينة على أن الدار ملك موكله، وأقام المدعى عليه بينة على إقرار الوكيل أن الدار ليست لموكله، بطلت بينة الوكيل.
وذكر في آخر «الجامع» : رجل ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه بينة أن أب المدعي أقر في حال حياته أن الدار ليست له، وأقام بينة على إقرار المدعي أنها ليست له، بطلت بينة المدعي، وذكر بعض مشايخنا في تعليل هذه المسألة لو كان الميت حياً، وأقام بينة على الذي الدار في يديه أن الدار داره، وأقام ذو اليد بينة على إقرار المدعي أنها ليست له، بطلت بينة المدعي.
وفي دعوى «المنتقى» : إن من ادعى على آخر عيناً في يديه أن هذه العين ملكه، وأن صاحب اليد غصبه وأقام البينة على ذلك، وأقام الغاصب بينة أن المالك أقر أن هذا العين لي قبلت بينته، وأقررت الغصب في يديه وهذا بطريق الدعوى، ودعوى الإقرار بطريق الدفع مسموع، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: إن المدعي أقر باستيفاء هذا

(9/21)


المال منه وأقام البينة عليه، فقد قيل: إنه لا تسمع بينته؛ لأن هذه دعوى الإقرار في طرف الاستحقاق؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فيصير المقبوض مضموناً على القابض ديناً للدافع على ما عرف، ففي الحاصل هذا دعوى الدين لنفسه، وكان هذا دعوى الإقرار في طرف الاستحقاق من حيث المعنى والله أعلم.

الفصل الثالث: في دعوى الملك المطلق في الأعيان
هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول في دعوى الخارج مع ذي اليد، قال محمد رحمه الله في «الأصل» :
إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أو عقاراً آخراً ومنقولاً، وأقاما البينة قضي ببينة الخارج عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، والجملة في ذلك أن البينات في الأصل وضعت للإثبات، فبطل الترجيح أولاً من حيث الإثبات، فما كان أكثر إثباتاً كانت أولى بالقبول، وبعد الاستواء في الإثبات يقع الترجيح بحكم اليد، إذا ثبت هذا فنقول: بينة الخارج في دعوى الملك المطلق أكثر إثباتاً من بينة ذي اليد؛ لأن الخارج يثبت زيادة استحقاق على ذي اليد لا يثبت ذو اليد مثل ذلك ببينته على الخارج؛ لأنه ثبت استحقاق الملك الثابت لذي اليد، بظاهر اليد وذو اليد لا يستحق ببينته مثل ذلك على الخارج، إذ ليس للخارج ملك ثابت بظاهر اليد حتى يستحق ذو اليد ذلك عليه ببينته.

وتحقيق هذا الكلام أن دعوى الملك المطلق وإن كان دعوى أولية الملك من حيث الحكم، حتى يستحق المدعي الأصل بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ويرجع الباعة بعضهم على البعض كافة، نص على أولية الملك، إلا أنه يحتمل التملك من جهة صاحب اليد من حيث الحقيقة والنص، فإنه لم ينص على أولية الملك من حيث الحقيقة، فكل واحد من البينتين أثبت أولية الملك لصاحبها، فاستويا من هذا الوجه، إلا أن الخارج ببينته يستحق على ذي اليد الملك الثابت له بظاهر اليد، لأن الملك في العين ثابت لذي اليد بظاهر اليد، والخارج ببينته يستحق عليه ذلك؛ لأن دعواه تحتمل التملك من جهته، وذو اليد ببينته لا يستحق على الخارج مثل ذلك؛ فهو معنى قولنا بينة الخارج أكثر إثباتاً، بخلاف ما إذا وقع الدعوى في النتاج؛ لأن هناك استوت البينات في الإثبات؛ لأن كل بينة أثبتت أولية الملك لصاحبها، ولم تثبت استحقاقها على الآخر باعتبار التمليك من جهته؛ لأن كل بينة نصت على أولية الملك، حيث قالت نتجت عنده، ولدت عنده، وكذلك كل واحد من الخصمين نص على أولية الملك حيث قال نتجت عندي ولدت عندي، وهذا لا يحتمل التمليك من جهة صاحبه، فاستويا في الإثبات، فرجحنا بينة ذي اليد بحكم اليد؛ لأن يده دليل على زيادة صدقه في دعواه.
وبخلاف ما لو وقع الدعوى في تلقي الملك من جهة ثالثٍ؛ لأن هناك استوت البينات في الإثبات والاستحقاق؛ لأن كل بينة أثبتت الملك لبائعه والانتقال من بائعه إلى

(9/22)


نفسه، وترجح صاحب اليد بحكم اليد، وبخلاف ما لو تنازعا في عبد ادعى كل واحد أنه عبده دبّره أو أعتقه، وأقاما البينة حيث يقضي ببينة صاحب اليد، لأن هناك الدعوى في الحاصل في الولاء، لأن العتق حاصل للعبد بتصادقهما، وقد استوت البينتان في إثبات الولاء، وترجح بينة صاحب اليد بحكم يده.
هذا إذا لم يذكرا تاريخاً، فأما إذا (176ب4) ذكرا تاريخاً إن كان تاريخهما على السواء، فكذا الجواب أنه يقضي للخارج منهما؛ لأن عند استوائهما في التاريخ يسقط اعتبار التاريخ، وتبقى الدعوى في الملك المطلق، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق إذا اجتمعا على التاريخ فيقضى لأسبقهما تاريخاً إن كان اسبقهما تاريخاً الخارج، فلا إشكال، لأنهما لو كانا في التاريخ على السواء كان يقضى للخارج، فإذا كان هو سابقاً في التاريخ كان أولى، وإن كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد، فلأنه أثبت الملك في وقت سابق على وقت الخارج، في بينته زيادة إثبات واستحقاق من حيث الوقت إن كان في بينة الخارج زيادة استحقاق من حيث أنه يستحق على صاحب اليد الملك الثابت له بظاهر اليد، فاستويا في إثبات الاستحقاق من هذا الوجه، وترجح بينة صاحب اليد بحكم اليد كما في دعوى النتاج وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد أولاً: للتاريخ عبرة في هذه الصورة كما هو قول أبي حنيفة رحمهم الله، فيقضى لأسبقهما تاريخاً، وعلى قول أبي يوسف أولاً وهو قول محمد آخراً: إلا عبرة للتاريخ في هذه الصورة، فيقضى للخارج، وما ذكر محمد رحمه الله في الدعوى، وأحدهما وقت قبل وقت صاحبه من قوله، فمن هذه الصورة أنه يقضى أسبقهما تاريخاً، فذلك قوله الأول، أما على قوله الآخر يقضي للخارج، روى ذلك أصحاب «الأمالي» عن محمد رحمه الله.

وذكر في «المنتقى» : رجل ادعى عبد في يدي رجل أنه له منذ شهر، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه له منذ سنة، وذكر أن صاحب اليد أولى عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: المدعي أولى، وما ذكر من قول أبي يوسف قوله الآخر؛ لأن للتاريخ عبرة على قوله الآخر في دعوى الملك المطلق، فيقضي لأسبقهما تاريخاً، وهو ذو اليد، وما ذكر من قول محمد رحمه الله قوله الآخر أيضاً؛ لأنه لا عبرة للتاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الاجتماع، إنه إذا اجتمع في دعوى الملك المطلق ما يوجب اعتبار التاريخ وما يوجب إلغاءه، أما ما يوجب إلغاءه؛ لأن دعوى مطلق الملك بمنزلة دعوى مطلق الملك بمنزلة دعوى النتاج من حيث إنه دعوى أولية الملك والتاريخ في دعوى النتاج لغو حالة الإجماع وحالة الانفراد على ما يأتي بيانه إن شاء الله.

وأما ما يوجب اعتباره؛ لأن دعوى مطلق الملك يحتمل دعوى التملك من جهة المدعى عليه، بخلاف دعوى النتاج، وهذا يوجب اعتبار التاريخ كما لو ادعى التملك من جهة المدعى عليه بالشراء صريحاً، فقد اجتمع في دعوى الملك المطلق ما يوجب اعتبار التاريخ وما يوجب إلغاءه، والعمل بهما متعذر، إذ لا يتصور أن يكون التاريخ معتبراً وغير

(9/23)


معتبر فلابد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر، فنقول: اعتبار دعوى النتاج فيه أولى من اعتبار دعوى التملك؛ لأن دعوى النتاج في دعوى الملك المطلق ثابت من حيث الحكم حتى تستحق العين بالزوائد المتصلة والمفصلة جميعاً، ويرجع الباعة بعضهم على بعض، ودعوى التملك من جهة المدعى عليه في دعوى الملك غير معتبر من حيث الحكم، بل هو معتبر لترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد، فكان دعوى النتاج أثبت من دعوى التملك، فكان اعتبار دعوى النتاج أولى، وإذا اعتبرنا دعوى الملك المطلق بدعوى النتاج يلفوا فيه ذكر التاريخ، كما في دعوى النتاج، ولأبي حنيفة وأبي يوسف آخراً، وهو قول محمد أولاً، لبيان أن للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق حالة الإجماع أنه اجتمع في دعوى مطلق الملك ما يوجب اعتبار التاريخ، وما يوجب إلغاءه على الوجه الذي قاله أبو يوسف آخراً ومحمد أولاً، إلا أن اعتباره بدعوى التملك من جهة المدعى عليه أولى، لأنا إذا اعتبرناه بدعوى التملك في حق هذا الحكم أعني به اعتبار التاريخ تبقى دعوى أولية الملك معتبراً في حق بعض الأحكام، وهو استحقاق الزوائد، ورجوع الباعة بعضهم على البعض.
ولو اعتبرناه بدعوى النتاج في حق هذا الحكم لا يبقى دعوى التملك معتبراً في حق حكم ما، فكان اعتباره بدعوى التملك في حق اعتبار التاريخ، وإنه عمل به وبدعوى أولية الملك من وجه أولى من اعتباره بدعوى أولية الملك، وفيه إلغاء دعوى التملك من كل وجه، هذا إذا أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق.

فأما إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، وعلى قول أبي حنيفة يقضي للخارج؛ لأنه لا عبرة للتاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الانفراد، فيسقط اعتبار التاريخ وتبقى دعوى الملك المطلق، فيقضي للخارج.
وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقضى للمؤرخ في هذه الصورة، وهكذا روى الحسن في «المجرد» ، فهذه الرواية إشارة إلى أن التاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الانفراد تعتبر عنده، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول بهذا، يعني كان يعتبر التأقيت حالة الإنفراد، والصحيح من مذهبه والمشهور عنه أن التاريخ حالة الإنفراد في دعوى الملك المطلق غير معتبر.

والوجه لأبي حنيفة في ذلك أن الذي لم يؤرخ سابق على الذي أرخ من وجه سابق من حيث إن دعوى الملك المطلق دعوى أولية الملك حكماً، فبهذا الاعتبار يكون غير المؤرخ سابقاً على المؤرخ، ولا حق من حيث إن دعوى مطلق الملك يحتمل دعوى التملك من جهة المدعى عليه بعد تاريخ المؤرخ، فبهذا الاعتبار يكون لاحقاً، وإذا كان غير المؤرخ سابقاً من وجه ولاحقاً من وجه كان المؤرخ أيضاً سابقاً من وجه ولاحقاً من وجه، فقد استويا في السبق واللحوق، فيجعل كأنهما ملكا معاً، وعند ذلك لا يمكن اعتبار معنى التاريخ، فهذا معنى قولنا إن دعوى النتاج حالة الانفراد ساقطة الاعتبار بخلاف ما إذا أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق حيث يقضي لأسبقهما تاريخاً عنده؛ لأن

(9/24)


أسبقهما تاريخاً سابق من كل وجه والآخر لاحق من كل وجه، وعلى قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله أولاً للتاريخ عبرة، وغير المؤرخ أسبقهما تاريخاً معنى؛ لأنه يدعي أولية الملك، فيقضى لغير المؤرخ، وعلى قول محمد آخراً وهو قول أبي يوسف أولاً لا عبرة للتاريخ فيسقط اعتبار التاريخ، ويقضى للخارج.
ومما يتصل بهذا النوع إذا ادعى الخارج مع ذي اليد مع دعوى الملك المطلق فعلاً.

صورته: ما ذكر في آخر دعوى «الأصل» : إذا ادعى الخارج أنه عبده، كاتبه على ألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد بينة، أنه عبده كاتبه على ألف درهم، قال: جعلته مكاتباً بينهما يؤدى إليهما جميعاً؛ لأن كل واحد منهما لما ادعى الكتابة، فقد تصادقا على أنه لا بد لواحد منهما عليه، وأنه في يد نفسه، فصارت مسألتنا عبد في يد ثالث تنازع فيه اثنان، وادعى كل واحد أنه عبده كاتبه، ولو كان هكذا يقضي بالملك بينهما، ويكون مكاتباً لهما كذا ههنا، ولو ادعى أحدهما أنه دبره وهو يملكه، وأقام على ذلك بينة وادعى الآخر أنه كاتب وهو يملكه، كانت بينة التدبير أولى؛ لأن التدبير أولى؛ لأن التدبير يوجب الحرية للحال، وإنه لا يحتمل الفسخ، والكتابة لا توجب الحرية للحال، وإنما تحتمل الفسخ، فكان التدبير أولى، فكان بينته أكثر إثباتاً.
ومما يتصل بهذا النوع أيضاَ: إذا ادعى الخارج الملك المطلق مؤرخاً، وادعى صاحب اليد الملك بسبب الشراء مؤرخاً.
صورته: دار في يدي رجل، ادعى رجل أنها داره ملكها منذ سنة، وأقام صاحب اليد بينة أنه اشتراها من فلان منذ سنتين وهو يملكها وقبضها منه، قضي بها للمدعي الخارج؛ لأن صاحب اليد خصم عن بائعه في إثبات الملك ليمكنه إثبات الانتقال إلى نفسه، فكأن بائعه حضر، وأقام البينة على الملك المطلق لنفسه والدار في يده، لأن يد المشتري يد البائع من حيث التقدير، ولو كان كذلك كان يقضي ببينة الخارج، كذا ههنا.

نوع آخر في دعوى الخارجين في الملك المطلق (177أ4) .
قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى رجلان داراً أو عقاراً أو منقولاً في يدي رجل، فأقاما البينة على ما ادعيا، وأرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا يقضي بينهما لاستوائهما في الدعوى والحجة، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف آخراً وقول محمد أولاً يقضى لأسبقهما تاريخاً ويكون للتاريخ عبرة، وعلى قول أبي يوسف أولاً، وهو قول محمد أخراً يقضى بينهما ولا يكون للتاريخ عبرة، هكذا ذكر في «الأصل» .
e
وذكر في «المنتقى» أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً بلا خلاف، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» .
وفي «النوادر» عن أبي حنيفة يقضى بينهما؛ لأنه لا عبرة للتاريخ عند حالة الإنفراد في دعوى الملك المطلق في أصح الروايات، فيسقط اعتبار التاريخ، وتبقى الدعوى في الملك المطلق، وعلى قول أبي يوسف: يقضى للذي أرّخ، وعلى قول محمد رحمه الله:

(9/25)


يقضى للذي لم يؤرخ، قالوا: وما ذكر من قول أبي يوسف رحمه الله: أنه يقضى للذي أرخ مستقيم على قوله الآخر: لأن على قوله الآخر: للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق في حالة الانفراد كما في حالة الاجتماع، فيكون المؤرخ أولى، وإنه مشكل على قوله الآخر وينبغي أن يكون غير المؤرخ أولى؛ لأنه أسبقهما تاريخاً، لأنه يدعي أولية الملك ويؤيده أن في فصل الخارج مع ذي اليد إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر كان غير المؤرخ أولى على قوله الآخر على ما مر، وما ذكر من قول محمد: إنه يقضي لغير المؤرخ إنما يستقيم على قوله الأول: للتاريخ عبرة واعتبار التاريخ يوجب أن يكون غير المؤرخ ههنا أولى؛ لأن غير المؤرخ سابق، لأنه يدعي أولية الملك، وأما على قوله الآخر يجب أن يقضى بينهما؛ لأن على قوله الآخر: لا عبرة للتاريخ، حتى إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى بينهما.

نوع آخر في دعوى صاحبي اليد

دارٌ أو منقول في يدي رجلين، فأقام كل واحد منهما البينة أنه لم يجب أن يعلم بأن العقار أو المنقول، إذا كان في يدي رجلين يجعل في كل واحد منهما نصفه، ويجعل كل واحد منهما مدعياً فيما في يد صاحبه، مدعى عليه فيما في يده، فإذا أقاما البينة على ما ادعيا: إن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء يقضى بينهما نصفان، وفي «الأصل» يقول محمد رحمه الله: يقضى لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، وهذا إشارة إلى أن هذه البينة وقعت معتبرة، فإنه قال قضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، والمشايخ اختلفوا في هذه البينة على قولين: بعضهم قالوا هذه البينة وقعت لغواً؛ لأنها لا تفيد؛ لأنها لا توجب الملك بينهما إلا نصفان، والملك بينهما نصفان ثابت بحكم يدهما، وبعضهم قالوا: لا بل هذه البينة وقعت معتبرة؛ لأن قبل هذه البينة تترك الدار في أيديهما قضاء ترك، وبعد هذه البينة تترك الدار في أيديهما قضاء استحقاق بالبينة، فإن كل واحد منهما يصير مقضياً عليه فيما كان في يده ببينة صاحبه، حتى بعدما قضى القاضي بالدار بينهما نصفان، لو ادعى أحدهما على صاحبه النصف الذي صار لصاحبه لا تسمع دعواه؛ لأنه صار مقضياً عليه في ذلك النصف، وإن أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف أولاً: لا عبرة للتاريخ يقضى به بينهما، وإن أرّخ أحدهما ولم يؤرّخ الآخر، فعلى قول أبي حنيفة: لا عبرة للتاريخ فيقضى به بينهما، وكذلك عندهما على القول الذي لا يعتبران التاريخ، وعلى القول الذي يعتبران التاريخ يقضى للمؤرخ عند أبي يوسف، ولغير المؤرخ عند محمد؛ لأن غير المؤرخ أسبقهما تاريخاً معنى.

نوع آخر في دعوى الخارجين
كل واحد منهما يدعي فعلاً على صاحبه من غصب أو إجارة أو إعارة مع دعوى الملك المطلق، وفي دعوى أحدهما ذلك الفعل على صاحبه والحكم فيه أنه إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه فعلاً مع دعوى الملك المطلق بأن ادعى على صاحبه غصبه منه،

(9/26)


أو ادعى أنه أعاره منه أو أودعه منه، فإنه يقضي بالعين بينهما؛ لاستوائهما في الدعوى والحجة، وإن ادعى أحدهما فعلاً على صاحبه مما ذكرنا وصاحبه ادعى الملك لا غير يقضى ببينته..... ببينة مدعي الفعل؛ لأن بينته أكثر إثباتاً، والدار إذا كانت في يدي رجلين يجعل في يد كل واحد منهما نصف الدار؛ لاستوائهما في اليد على الدار، ثم يجعل كل نصف من الدار بمنزلة دار على حدة؛ لأن حكم كل نصف يخالف حكم النصف الآخر؛ لأن كل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه يد فيما في يده، وحكم الخارج يخالف حكم ذي اليد في الدعوى وإقامة البينة.
جئنا إلى المسائل، قال محمد رحمه الله في «الجامع» :

وإذا كانت الدار في يدي رجلين أقام كل واحد منهما بينة أن الدار له، وأقام أجنبي بينة أن الدار له، فإن للرجل الأجنبي نصفها ولكل واحد من صاحبي اليد ربعها؛ لأن في يد كل واحد من صاحبي اليد نصف الدار، وكل نصف بمنزلة دار على حدة، فيسمى أحد صاحبي اليد أكبر، ويسمى الآخر أصغر تسهيلاً للتخريج، فنقول: في يد الأصغر نصف الدار، تنازع فيه الأصغر والأكبر والأجنبي، وأقاموا البينة، وبينة الأصغر فيه مقبولة لكونه صاحب يد فيه، فخرج هو من البين، بقي بينة الأجنبي والأكبر، وهما مقبولتان لكونهما خارجين من هذا النصف وقد استويا في الدعوى؛ لأن كل واحد يدعي جميعه، واستويا في الحجة، فيقضي بذلك بينهما، وفي يد الأكبر نصف الدار أيضاً تنازع فيه الأكبر والأصغر والأجنبي وبينة الأكبر غير مقبولة فيه وبينة الأصغر والأجنبي مقبولتان، فيقضى بذلك النصف بين الأجنبي والأصغر، فحصل للأجنبي نصف كل واحد من النصفين، فكان له النصف كملاً، وحصل لكل واحد من صاحبي اليد نصف النصف الذي في يد صاحبه، فكان لكل واحد ربع الدار.

ولو أن الأجنبي ادعى على أحد صاحبي اليد بعينه أنه غصب هذه الدار منه، وباقي المسألة بحاله، كان ثلاثة أرباع الدار للأجنبي، وربعها للذي لم يدع عليه الغصب، وخرج المدعى عليه الغصب من البين، حتى لو كان دعوى الغصب على الأكبر لا يكون للأكبر شيء من الدار، ويكون للأجنبي ثلاثة أرباع الدار، وإنما كان كذلك لأن النصف الذي في يد الأكبر، بينة الأكبر فيه غير مقبولة، وبينة الأصغر والأجنبي فيه مقبولتان وقد استويا في الدعوى، وكذلك استويا في الحجة، لأن كل واحد منهما يدعيه ملكاً مطلقاً من غير دعوى الفعل على صاحبه، فيقضي بذلك بينهما، وأما النصف الذي في يد الأصغر فبينة الأصغر فيه غير مقبولة، وكذلك بينة الأكبر فيه غير مقبولة؛ لأن الأكبر مع الأجنبي خارجان في ذلك النصف، وقد ادعى الأجنبي على الأكبر فيه فعلاً وهو الغصب، وفي مثل هذا تقبل بينة مدعي الفعل، ولا تقبل بينة مدعى عليه الفعل، فيقضي بهذا النصف للأجنبي بكماله وقد أصابه نصف النصف الآخر، فصار له ثلاثة أرباع الدار من هذا الوجه.

(9/27)


وفي «الجامع» أيضاً: رجل في يديه دار أقام رجل عليه بينة أنها داره، وأقام رجل آخر البينة أنها داره غصبها منه هذا المدعي الآخر، فإنه يقضي بالدار للمشهود له بالغصب، لأنهما خارجان تنازعا في الملك المطلق وادعى أحدهما الفعل وهو الغصب على صاحبه، وكذلك لو (177ب4) كان مكان دعوى الغصب دعوى الإيداع.
ولو أن رجلين في أيديهما دار أقام رجل أجنبي بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داره غصبها منه هذا الأجنبي، وأقام الأصغر بينة أنها داره، ولم يثبت غصباً على أحد، فإنه يقضي بنصف الدار للأجنبي نصف ذلك مما في يد الأصغر، ونصف ذلك مما في يد الأكبر، والنصف الآخر من الدار بين الأصغر وبين الأكبر نصفان لأن الأكبر مع الأجنبي استويا في دعوى ما في يد الأصغر وفي «الحجة» : لأن كل واحد منهما ادعى الغصب على صاحبه فيه، وهما خارجان فيه، فيقضى بما في يد الأصغر بينهما، والأصغر مع الأجنبي استويا في دعوى ما في يد الأكبر، وفي «الحجة» أيضاً: لأن كل واحد منهما لم يدع الغصب على صاحبه، فيقضي بذلك بينهما نصفان أيضاً، فحصل للأجنبي نصف ما في يد كل واحد منهما فيكون لكل واحد منهما، ربع الدار، فصارت هذه المسألة والمسألة الأولى سواء.

ولو أقام الأجنبي بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر وأقام الأكبر، بينة أنها داره غصبها منه هذا الأصغر، وأقام الأصغر بينة أنها داره، ولم يدع هو الغصب على أحد ذكر أنه يقضى للأجنبي بثلاثة أرباع الدار، وللأصغر بربع الدار نصف ما في يد الأكبر، ولا يقضى للأكبر بشيء؛ لأن ما في يد الأكبر استوى فيه دعوى الأصغر ودعوى الأجنبي؛ لأنهما خارجان فيه ادعيا الملك من غير دعوى الغصب على صاحبه، فاستويا فيه دعوى وحجة، فيقضى بذلك بينهما، وما في يد الأصغر بطل فيه دعوى الأكبر ببينة الأجنبي على الأكبر، لأن الأجنبي ادعى الغصب فيه على الأكبر، والأكبر لم يدع على الأجنبي مثل ذلك؛ لأن الأكبر يدعي الغصب على الأصغر دون الأجنبي، فيقضي بذلك للأجنبي، قال وليس للأكبر أن يأخذ ما أخذ الأصغر منه بأن يقول للأصغر أثبت أنا عليك غصب جميع الدار؛ لأن من حجة الأصغر أن يقول للأكبر: إنما أثبت الغصب على ما في يدي، لا فيما في يدك لأني لا أكون غاصباً لما في يدك، وما كنت غاصباً فيه قد أخذته بقضاء، وما في يدي الآن فإنما أخذته منك أيها الأكبر وأنت ما أثبت الغصب عليّ في ذلك.

ولو أقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر وأقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، قال يقضي للأجنبي بالنصف الذي في يد الأصغر، ويقضي للأصغر بالنصف الذي في يد الأكبر، وخرج الأكبر من البين؛ لأن ما في يد الأكبر بطل دعوى الأجنبي فيه بدعوى الأصغر الغصب على الأجنبي، وإقامة البينة عليه فصار كأن الأجنبي لم يدعه، فيقضى به للأصغر، وما في يد الأصغر بطل دعوى الأكبر فيه بدعوى الأجنبي الغصب على الأكبر وإقامة البينة عليه، فكأن الأكبر لم يدعه، فيقضى به للأجنبي.

(9/28)


ولو أقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، وأقام الأصغر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، فإنه يقضي للأصغر بالنصف الذي في يد الأكبر؛ لأن دعوى الأجنبي قد بطل فيه بدعوى الأصغر الغصب فيه على الأجنبي، وإقامة البينة على ذلك، ويقضى بالنصف الذي كان في يد الأصغر بين الأكبر والأجنبي نصفان؛ لأنه استوى فيه دعوى الأكبر والأجنبي؛ لأن كل واحد منهما ادعى الملك فيه لنفسه، وادعى الغصب فيه على صاحبه، فيقضى بينهما.
ولو أقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأصغر وأقام الأصغر، بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر، وأقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر والأصغر، فللأجنبي نصف الدار، والنصف الآخر بين الأكبر والأصغر نصفان.
حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري أنه قال ما ذكر من الجواب غلط وقع من الكاتب، وينبغي أن يقضي بجميع الدار للأجنبي؛ لأن الأجنبي أبطل دعوى كل واحد منهما، وبينته بإثباته الغصب عليهما، وواحد منهما لم يبطل دعوى الأجنبي وبينته؛ لأنه لم يثبت الغصب عليه، فتبطل دعواهما وبينتهما، وبقي دعوى الأجنبي وبينته، فيقضي بجميع الدار للأجنبي من هذا الوجه، وعامة المشايخ على أن ما ذكر في «الكتاب» صحيح.

ووجه ذلك: أن الأجنبي لما ادعى الغصب عليهما كان مدعياً على كل واحد منهما؛ لأنه يدعي الغصب فيه على صاحبه، أما الأكبر فظاهر، وأما الأجنبي؛ فلأنه لا يدعي الغصب على الأكبر فيما في يد الأصغر، إنما يدعي الغصب فيه على الأصغر، فيقضى بذلك النصف بين الأكبر والأجنبي نصفان، وأما النصف الذي في يد الأكبر تنازع فيه الأصغر والأجنبي، وقد استويا فيه دعوى وحجة؛ لأن كل واحد منهما لا يدعي الغصب فيه على صاحبه على نحو ما بينا في طرف الأصغر، فيقضى بذلك النصف بين الأجنبي والأصغر نصفان، فحصل للأجنبي نصف الدار، ولصاحبي اليد نصف الدار من هذا الوجه، فكان ما ذكر في «الكتاب» صحيحاً والله أعلم.

الفصل الرابع: في دعوى الملك في الأعيان بسببنحو الشراء أو الميراث الهبة وما أشبه ذلك
فنقول: هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً:
الأول: في دعوى الخارجين وإنه على وجهين: إما أن يدعيا تلقي الملك من جهة اثنين، أو من جهة واحد، صورة ما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : دار في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد يدعي أنها داره، ورثها من أبيه فلان، وأقاما على ذلك بينة، فإن لم يؤرّخا أو أرّخا

(9/29)


وتاريخهما على السواء، بأن قال كل واحد منهما مثلاً: مات أبي منذ سنة وترك هذه الدار ميراثاً لي، فإنه يقضي بالدار بينهما؛ لأن كل واحد منهما يثبت الملك لمورثه في الدار أولاً ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، فكأن مورثهما حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً لأنفسهما، والعين في يد الثالث، وهناك يقضى بالعين بينهما نصفان، فههنا كذلك، وإن أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق بأن أقام أحدهما بينة أن أباه مات منذ سنة، وتركها ميراثاً له، وأقام الآخر بينة أن أباه مات منذ سنتين وتركهما ميراثاً له، وفي هذا الوجه على قول أبي حنيفة آخراً على ما ذكر في «المنتقى» ، وهو قول أبي يوسف آخراً على ما ذكره في «الأصل» ، وهو قول محمد أولاً على ما رواه ابن سماعة عنه، يقضى لأسبقهما تاريخاً؛ لأن للتاريخ عبرة على هذه الأقاويل وأسبقهما تاريخاً أثبت الملك لنفسه في وقت لا مزاحم له فيه، فيكون هو أولى، كما إذا ادعيا الشراء من اثنين، وأقاما البينة وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، وهناك يقضى لأسبقهما تاريخاً بلا خلاف، وطريقه ما قلنا، وعلى قول محمد آخراً، وهو قول أبي يوسف أولالاً لأن كل واحد من الوارثين يثبت الملك لمورثه أولاً، ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، ولا تاريخ في ملك المورثين، فكأن المورثين حضرا وادعيا الملك لأنفسهما من غير ذكر تاريخ، وهناك يقضى بينهما، حتى لو أرخا ملك المورثين، وتاريخ ملك أحدهما أسبق كان هو أولى من الآخر، هكذا رواه هشام عن محمد، وأما إذا ادعيا الشراء من رجلين، وأرخا الشراء وتاريخ أحدهما أسبق، فقد روي عن محمد أنهما إذا لم يؤرخا ملك البائعين (178أ4) يقضي بينهما نصفان كما في فصل الميراث، فعلى هذه الرواية لا يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين الشراء وبين الميراث وفي

ظاهر رواية محمد في فصل الشراء، يقضي لأسبقهما تاريخاً، فعلى ظاهر الرواية، محمد يحتاج إلى الفرق بين فصل الميراث وبين فصل الشراء.
والفرق: وهو أن ملك المشتري حادث ثبت بسبب حادث وهو الشراء، فكل واحد من المشتريين أثبت لنفسه ملكاً حادثاً لا تعلق له بملك البائع، فمن أثبت لنفسه الملك في وقت لا ينازعه فيه أحد كان هو أولى، فأما ملك الوارث فهو ليس بملك جديد، بل هو عين ما كان ثابتاً للمورث؛ لأن الوراثة عقد خلافة، ولا تاريخ في ملك المورثين، فلهذا افترقا، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وذكر صاحب «الأقضية» عن بشر أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يقضي للمؤرخ.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله أن على قول محمد رحمه الله يقضي لغير المؤرخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يقضي بالدار بينهما نصفان بالاتفاق، هكذا ذكر الطحاوي، فما ذكر في «الأقضية» من قول أبي حنيفة إشارة إلى أن للتاريخ عبرة عند حالة الانفراد في دعوى تلقي الملك من جهة اثنين وهذا قوله الأول ثم رجع، وقال: لا عبرة في دعوى تلقي الملك من جهة اثنين حالة الانفراد، وما ذكر شيخ الإسلام من قول أبي حنيفة قوله الآخر؛ لأن على قوله الآخر التاريخ حالة الانفراد ساقط الاعتبار في هذه

(9/30)


الصورة، فصار ذكره والعدم بمنزلة، أو يقول كل واحد منهما يثبت الملك لمورثه، ثم يثبت الانتقال من مورثه، ولا تاريخ في ملك المورثين، فكأنهما حضرا وادعيا الملك لأنفسهما مطلقاً، وهناك يقضى بينهما كذا ههنا، وما ذكر شيخ الإسلام من قول أبي يوسف مستقيم على قوله الآخر؛ لأن على قوله الآخر للتاريخ عبرة، فيكون المؤرخ أولى، أما لا يستقيم على قوله الأول؛ لأن على قوله الأول لا عبرة للتاريخ يقضي بينهما كما رواه بشر رحمه الله.

وما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله من قول محمد رحمه الله: أنه يقضي لغير المؤرخ مستقيم على قوله الأول: للتاريخ عبرة وغير المؤرخ أسبقهما تاريخاً يعني؛ لأنه يدعي الملك المطلق بطريق إطلاقه عن الميت، ودعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل، وما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه يقضى بينهما بالاتفاق أراد به الاتفاق بين أبي حنيفة آخراً: لا عبرة للتاريخ حالة الانفراد في هذه الصورة، فصار ذكره كلا ذكر، وعلى قول محمد: التاريخ في ملك الوارثين لا في ملك المورثين، وكل واحد من الوارثين يثبت الملك لمورثه أولاً ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، فكأن المورثين حضرا وادعيا لأنفسهما ملكاً مطلقاً، وهناك يقضي بالدار بينهما فههنا كذلك وإذا ادعيا الشراء من اثنين والدار في يد الثالث، فإن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء، قضي بالدار بينهما، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الميراث، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فهو على ما ذكرنا من الميراث أيضاً.

صورة ما إذا ادعى الخارجان تلقي الملك من جهة واحد:

دار في يدي رجل ادعاها رجلان، كل واحد منهما يدعي أنه اشتراها من صاحب اليد بكذا، فإن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا، فالدار بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة ويخير كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء جميع الدار لنفسه، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف، فيخير كل واحد منهما، إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن الذي سماه شهوده، وإن شاء ترك، فإن رضي أحدهما وأبى الآخر، وذلك بعدما خيرهما القاضي وقضى لكل واحد منهما بالنصف، فقد فسخ بيع كل واحد منهما في النصف، فلا يعود بيع أحدهما بعد ذلك بترك صاحبه المزاحمة معه، قال: إلا أن يكون ترك المنازعة قبل أن يقضي القاضي بشيء فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فالسابق أولى؛ لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه فيه أحد، فثبت شراءه من ذلك الوقت، وتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فالمؤرخ أولى، قيل: إنما جعلنا المؤرخ أولى تعليلاً لنقض ما هو ثابت.
بيانه: أنا متى جعلنا المؤرخ أولى فقد نقضنا شراء الآخر لا غير؛ لأنه لم تثبت بينته إلا الشراء، ومتى قضينا للذي لا تاريخ له، لقضينا على صاحب التاريخ شراءه، وتاريخه بعدما ثبت الأمران بالبينة، وتعليل نقض ما هو ثابت أولى من تكثيره. وقيل: إنما جعلنا

(9/31)


المؤرخ أولى؛ لأنه أثبت الشراء في وقت لا منازع له فيه.
صورة ما إذا ادعى الخارجان تلقي الملك من واحد من وجه آخر:
رجل في يديه دار، جاء رجل وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان بكذا سمى رجلاً آخر، وجاء رجل آخر وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان ذلك بعينه، فإن لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضى بالدار بينهما، وإن أرخاه وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فالمؤرخ أولى لما قلنا.
ومن هذا الجنس مسائل ذكرها في «الزيادات» وصورتها:

رجل في يديه دار وعبد، جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه اشترى هذه الدار بهذا العبد من صاحب اليد وأقاما البينة، فالقاضي يخيرهما إن شاءا أخذا الدار بينهما وأخذا العبد بينهما أيضاً، وإن شاءا تركا الدار وأخذا العبد بينهما، وغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما، أما القضاء بالدار بينهما؛ لأنهما استويا في سبب الاستحقاق وهو الدعوى والشهادة، والمشهود به قابل للشركة فوجب القضاء بينهما، وأما الخيار فلأنا إذا قضينا بالدار بينهما، فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء كل الدار، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف، وهذا تفريق حصل قبل التمام؛ لأنه حصل قبل القبض فيوجب الخيار، فإن اختارا أخذ الدار بينهما لما مر، وأخذا العبد بينهما أيضاً؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء كل الدار بكل العبد، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا نصف الدار، فكان لكل واحد أن يأخذ نصف العبد، وإن اختارا ترك الدار أخذا العبد لكون العبد بدلاً عن الدار، ويكون العبد بينهما لاستوائهما في الحجة في العبد، وغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما؛ لأن كل واحد منهما سلم جميع العبد ثمناً إلى صاحب اليد، ثبت ذلك ببينة كل واحد منهما، فعند الفسخ يستحق كل واحد منهما جميع العبد، وقد عجز صاحب اليد عن تسليم جميع العبد إلى كل واحد منهما، فيغرم قيمة العبد بينهما، ليسلم لكل واحد منهما جميع العبد معنى.
d

فإن قيل: كيف يغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما، وإنه صار مشترياً من كل واحد منهما كل العبد بالدار، وقد استحق عليه نصف ما اشترى من كل واحد منهما حين قضى به لصاحبه، واستحقاق المشترى من يد المشتري يمنع وجوب القيمة عليه عند الفسخ؟.
قلنا: نعم، ولكن هذا الاستحقاق ثبت إقراره؛ لأن كل واحد من المدعيين ببينته أثبت إقرار صاحب اليد بملك العبد له حين اشتراه منه بالدار، واستحقاق المشترى من يد المشتري بإقراره يقتصر عليه ولا يتعدى إلى غيره، وإذا لم يثبت الاستحقاق في حق كل واحد منهما، رجع كل واحد منهما عند الفسخ بقيمة ما عجز عن تسليمه، وإن كانت الدار في أيدي المدعيين والباقي بحاله، فكذلك الجواب، يثبت الخيار لكل واحد منهما، وإن تفرقت الصفقة على كل واحد منهما بعد التمام بالقبض، إلا أن هذا التفريق أوجب عيباً في الباقي؛ لأن الشركة في الأعيان عيب، والعيب يوجب الخيار، وإن كانت الدار في يد (178ب4) أحد المدعيين والباقي بحالة قضى بالدار لصاحب اليد؛ لأن شراءه أسبق؛

(9/32)


لأن القبض يدل على سبق الشراء؛ لأن الإنسان إنما يتمكن من القبض في وقت لا منازع له فيه، ولأن سببه أقوى؛ لأن سببه شراء اتصل به القبض، وبالقبض يتأكد الشراء، والقضاء بالمؤكد أولى، ولأن صاحب اليد يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على المدعى عليه لا غير، وفي بينته ما يوجب ذلك، فأما الخارج فإنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على المدعى عليه وعلى ذي اليد، لينقض قبضه، وليس في بينته ما يوجب الاستحقاق على ذي اليد؛ لأن ذلك إنما يكون بسبق شرائه، ولم يثبت ذلك ببينته، ولا يكون له الخيار؛ لأنه سلم له جميع ما اشترى، ويكون كل العبد للآخر؛ لأنه أثبت تسليم كل العبد إليه ثمن الدار، ولم يسلم له شيء من الدار، فيرجع عليه بجميع العبد.
ولو قال المدعى عليه لصاحب اليد: إن عوض الدار ولم يسلم لي، بل استحق ببينة الخصم الآخر، فإنما أرجع عليك بالدار، لا يلتفت إليه؛ لأن العبد استحق بما ليس بحجة في حق صاحب اليد ليرجح بينة صاحب اليد على بينة الآخر، فلم يظهر الاستحقاق في حق صاحب اليد من يد بائع الدار ببينة لا يرجع على المسلّم، وإنما لا يرجع لما قلنا.

هذا إذا ادعيا الشراء مطلقاً فأما إذا ادعيا الشراء مؤرخاً وأقاما البينة على ذلك، وتاريخ أحدهما أسبق قضي لأسبقهما تاريخاً، سواء كانت الدار في يد المدعى عليه أو في أيديهما أو في يد أحدهما لأيهما كان؛ لأنه أثبت شراءه في وقت لا منازع له فيه، فيثبت شراؤه من ذلك الوقت، ومن ضرورة ثبوت شرائه من ذلك الوقت بطلان شراء الآخر، وبطلان قبضه بعده، ويقضى بالعبد للآخر لما قلنا قبل هذا.

وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر إن كانت الدار في يد المدعى عليه، يقضى بالدار للذي أرخ؛ لأن الشراء أمر حادث، فيحال مطلقه على أقرب الأوقات، فالذي لم يؤرخ أثبت شراءه للحال، ولهذا لا يستحق شيئاً من الزيادة المتولدة من المبيع قبل هذا، والمؤرخ سابق عليه، ألا ترى أنه يستحق الزيادة المتولدة من وقت التاريخ فكان أولى لهذا، بخلاف دعوى الملك المطلق من اثنين على ثالث، والعبد في يد الثالث إذا أرخ أحدهما فيه دون الآخر، حيث كانا على السواء على قول أبي حنيفة رضي الله عنه على أصح الروايات عنه؛ لأن هناك ملك المؤرخ يثبت من وقت التاريخ بلا شبهة، وملك الآخر ثبت من الأصل مع الاحتمال، فيحتمل التقدم على المؤخر والتأخر عنه فيجعل مساوياً.
أما في دعوى الشراء من الواحد أقرا بالملك للبائع، والملك إذا ثبت يبقى إلى أن يوجد الناقل، فالمؤرخ أثبت النقل في زمان لا يزاحمه غيره فيه بيقين، وفي نقل الآخر احتمال، والمحتمل لا يعارض المتيقن، أما في الملك المطلق بخلافه على ما مر. وإذا قضينا بالدار للمؤرخ قضينا بالعبد للآخر على ما مر، ولا خيار لواحد منهما؛ لأن موجب (البيع) سلم لأحدهما وموجب الفسخ سلم للآخر، فانعدم الموجب للخيار.
وإن كانت الدار في يد الذي لم يؤرخ شهوده والباقي بحاله، يقضى بالدار للذي لم

(9/33)


يؤقت؛ لأن تاريخ المؤرخ إن دل على سبق شرائه على نحو ما بيّنا، فقبض الذي لم يؤرخ يدل على سبق شرائه من حيث أن الإنسان إنما يتمكن من القبض في وقت لا منازع له فيه فتعارضا، إلا أن دليل السبق في حق الذي لم يؤرخ القبض وإنه معاين، وفي حق المؤرخ التاريخ، وإنه مخبر فيه، وليس الخبر كالمعاينة، ولو استوى الدليلان لا يجوز نقض قبض صاحب اليد بالشك، فكيف إذا ترجح دليل صاحب اليد، ولأن القبض يؤثر في الشراء تأكيداً له، والتاريخ لا يؤثر، والترجيح بالمؤثر أولى من الترجيح بغير المؤثر، وكذلك إذا كان للذي لم يؤرخ قبضاً مشهوداً به كان هو أولى؛ لأن قبضه ثبت بالبينة، والثابت بالبينة كالثابت عياناً ولو عاينا قبضه كان هو أولى فههنا كذلك.
وإن شهد شهود الذي لم يؤرخ على إقرار البائع بالشراء والقبض، قضي لصاحب التاريخ؛ لأن الثابت بالبينة ههنا إقرار البائع بالقبض لا نفس القبض، فصار كأنما عاينا إقرار البائع بذلك، ولو عاينا إقرار البائع بذلك لا يصدق في حق صاحب التاريخ فههنا كذلك.
والفقه في ذلك: أن الاحتمال في بينة صاحب الوقت من وجهين، من حيث أيهم صدقه أو كذبه، ومن حيث أن عقده يحتمل أن يكون سابقاً أو لاحقاً، والاحتمال في بينة صاحب الإقرار من وجوه ثلاثة: من حيث أيهم صدقه أو كذبه، من حيث أن بائعه صادق في إقراره أو كاذب في إقراره، ومن حيث أن عقده يحتمل أن يكون سابقاً، ويحتمل أن يكون لاحقاً، فكان القضاء ببينة صاحب الوقت أولى.

ولو كان لأحدهما قبض مشهود به، وللآخر قبض معاين، فالذي له قبض معاين به أولى لرجحان العيان على الخبر. وإن شهد شهود كل واحد منهما على الشراء والقبض معاينة، أو على إقرار البائع بالقبض، وأرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، إن كانت الدار في يد البائع، فصاحب التاريخ أولى، وإن كانت الدار في يدي الذي لم يؤرخ شهوده، فهو أولى بحكم القبض المعاين، وإن كانت الدار في يد المشتري، وأقاما البينة على الشراء والقبض معاينة، أو على إقرار البائع بالقبض، وأرخ شهود أحدهما دون الآخر قضي بالدار بينهما نصفين، والعبد لهما أيضاً، أما القضاء بالدار بينهما، فلأن في يد كل واحد منهما نصف الدار، فالنصف الذي في يد صاحب التاريخ له فيه تاريخ وقبض معاين، وليس للآخر في ذلك شيء، فصار هو أولى به، والنصف الذي في يد غير صاحب التاريخ له فيه قبض معاين، وليس للآخر فيه إلا التاريخ، فصار صاحب القبض أولى، وأما العبد لهما لأن كل واحد منهما أثبت على المدعى عليه شراء جميع الدار بالعبد، ولم يسلم له إلا نصف الدار، وكان له الرجوع في نصف العبد، فلذلك صار العبد لهما أيضاً، ويخيران أيضاً لعيب الشركة.
قال محمد رحمه الله عقيب هذه المسائل: وتاريخ القبض في هذا بمنزلة تاريخ الشراء، حتى لو كانت الدار في يد البائع وشهد شهود كل واحد من المدعيين على الشراء والقبض، وأرخوا القبض دون الشراء وتاريخ أحدهما أسبق، بأن شهد شهود أحدهما أنه

(9/34)


اشترى هذه الدار بهذا العبد وقبضها منذ عشرة أيام، كان صاحب القبض السابق أولى؛ لأن سبق التاريخ في القبض دليل سبق التاريخ في العقد، ولأن العقد متى ثبت بالبينة وهناك قبض يجعل القبض عن العقد، وكان سبق التاريخ في القبض دليلاً على سبق التاريخ في العقد، وسبق التاريخ في الشراء يوجب الترجيح، فكذا سبق التاريخ في القبض.
وكذلك إذا كانت الدار في يد صاحب الوقت اللاحق قضى بها لصاحب الوقت السابق لما قلنا في الشراء.

وإن أرخ أحدهما في القبض دون الآخر والدار في يد البائع، قضي لصاحب التاريخ، وإن كانت الدار في يدي الذي لم يؤرخ، فهو أولى لما قلنا في الشراء. هذا كله إذا كان العبد في يدي المدعى عليه، فأما إذا كان العبد في يد المدعيين، والدار في يد المدعى عليه والباقي بحاله، فالدار بينهما، والعبد بينهما ويخيران لما مر، فإن أمضيا العقد فالدار بينهما لما مر.
فإن قيل: ينبغي أن يؤمرا بتسليم العبد إلى المدعى عليه؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا كان العبد في يد المدعيين، فلم يسلما إلى المدعى عليه، وقد سلم لكل واحد منهما من المدعيين نصف الدار من جهة المدعى عليه ينبغي أن يسلم له من جهة كل واحد من المدعيين نصف العبد.

قلنا: إنما لم يؤمر بتسليم العبد إلى المدعى عليه؛ لأنهما لو أمرا به يثبت لهما حق الاسترداد من ساعته، فلا يفيد الأمر بالتسليم.
بيانه: أن لكل واحد منهما أثبت ببينته أن المدعى عليه صار مشترياً جميع العبد بكل الدار، فلو أمرا بتسليم العبد إليه (179أ4) صار بائع الدار قابضاً من كل واحد منهما جميع العبد بجهة الشراء، ولم يسلم لكل واحد منهما من جهته إلا نصف الدار، فكان لكل واحد منهما حق الرجوع عليه من العبد، فلم يفد الأمر بالتسليم من هذا الوجه، فلهذا لا يؤمر بذلك، وإن اختارا فسخ العقد كان العبد بينهما نصفين، ولا يغرم المدعى عليه قيمة العبد بينهما بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أن هناك كل واحد من المدعيين ببينته أثبته بتسليم كل العبد إلى المدعى عليه بجهة الثمنية فعند الفسخ يستحق الرجوع بجميع العبد، فلم يسلم لكل واحد جميع العبد معنى، أما ههنا: لم يسلم كل واحد منهما شيئاً من العبد إلى المدعى عليه، ليستحق الرجوع به عند الفسخ، ليرجع بالقيمة عند سلامة العين، فلهذا افترقا.

نوع آخر من هذا الفصل في دعوى الخارج وذي اليد بسبب من جهة غيرها

وإنه على وجهين: أما إن ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة، والحكم فيه: أنهما إذا أرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا، فذو اليد أولى، لأنهما استويا في إثبات

(9/35)


الشراء ولأحدهما يد، والشراء يتأكد باليد، فكان صاحب اليد أولى وإنه يثبت آكد الشرائين أولى، وإن أرخ أحدهما، فكذلك ذو اليد أولى، بخلاف ما إذا كانت الدار في يد البائع، ولأحد المدعيين تاريخ، حيث كان المؤرخ أولى؛ لأن هناك إنما صار المؤرخ أولى تعليلاً لنقض ما هو ثابت، وتعليل النقض ههنا في جعل صاحب اليد أولى.
بيانه: أننا إذا قضينا لصاحب التاريخ ههنا، احتجنا إلى نقض شراء ذي اليد مع يده، ويده ثابتة معاينة، ومتى قضينا لصاحب اليد احتجنا إلى نقض شراء الآخر، وتاريخه ثابت بالبينة، والثابت معاينة فوق الثابت بالبينة، فكان نقض الثابت معاينة أكبر من نقض الثابت بالبينة، فإذاً في الموضعين يقضى بتعليل نقض ما هو ثابت، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق كان أسبقهما تاريخاً أولى، أما إذا كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد، فلأنه أولى من غير التاريخ فأولى أن يكون أولى مع التاريخ، وأما إذا كان أسبقهما الخارج اعتباراً للسبق الثابت بالبينة بالسبق الثابت معاينة، ولأنه أكثر إثباتاً.
وإن ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فإنه يقضي للخارج، بخلاف ما إذا ادعيا التلقي من يد واحد ولم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء، أو أرخ أحدهما دون الآخر حيث يقضي لذي اليد.
والفرق أنهما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه، فكأن البائعين حضرا وادعياه ملكاً مطلقاً والدار في يد أحدهما وأقاما البينة، وهناك الخارج أولى، فههنا كذلك.

فأما إذا ادعيا التلقي من جهة واحد، فكل واحد منهما لا يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه؛ لأن الملك لبائعها ثابت بتصادقهما، وإنما يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات الانتقال إلى نفسه بسبب الشراء، وذو اليد ببينته أثبت الشراءين والقضاء بالآكد أولى إذا تعذر الجمع.

نوع آخر من هذا الفصل في دعوى صاحبي تلقي الملك من جهة غيرهما
وإنه على وجهين: إن ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة ولم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء، يقضى بالعين بينهما، وكذلك إذا أرخ أحدهما دون الآخر يقضى بالدار بينهما، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً، وإن ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فكذلك الجواب على التفصيل الذي قلنا فيما إذا ادعيا التلقي من جهة واحدة.
نوع آخر منه في ذكر تاريخ الشراء مع الجهالة
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجلان اختصما في دار في يد أحدهما، فأقام المدعي بينة أنه اشتراها من فلان منذ سنة وأكثر، ولا يحفظون الفضل، فالبينة بينة

(9/36)


المدعي. وهذا مشكل على قول من يعتبر التاريخ؛ لأن شهود ذي اليد أرّخوا أكثر مما أرخ شهود الخارج، وإن لم يثبتوا قدره، فينبغي أن يترجح شهادة شهوده بهذا.
والجواب المنقول عن المشايخ المتقدمين: أنهم إذا لم يقدروا الفضل ولم يحفظوه، كانت شهادتهم على المجهول فيما يرجع إلى الفضل، فلم تقبل شهادتهم على الفضل، تثبت شهادتهم على سنة وقد استوت البينتان فيه فيقضي به للمدعي، وكذلك إذا شهد شهود المدعى عليه أنه اشتراها من فلان منذ سنة أو سنتين شكّوا في الزيادة، قضي للخارج؛ لأن الزيادة على السنة لم تثبت بالشك، تثبت الشهادة على السنة، وقد استوت البينتان فيها، فيقضى للخارج.

قال رضي الله عنه: وإنه مشكل؛ لأنه عند استواء البينتين في التاريخ يقضي ببينة ذي اليد، وهو النوع المذكور قبل هذا بنوع، ولكن الوجه الصحيح في هذا أن يقال: بأن شهود صاحب اليد شهدوا على أنفسهم بالسهو والغفلة، وشهادة المغفل لا تقبل، فلغت شهادة شهود ذي اليد من كل وجه، وصار كأنه لم تقم البينة أصلاً.
ولو وقت شهود أحدهما بسنتين وشهود الآخر بسنة وأكثر، ولا يحفظون الفضل أو وقت شهود الآخر سنة أو سنتين، شكوا في الزيادة، فالبينة بينة من يثبت سنتين، إن كان المثبت لسنتين المدعي فبالاتفاق، وإن كان المثبت لسنتين صاحب اليد، فعلى قول من يعتبر سبق التاريخ فكذلك؛ لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه فيه أحد، وعلى قول من لا يعتبر التاريخ يقضي للخارج.

نوع آخر منه في دعوى الخارجين تلقي الملك من جهة صاحب اليد وإقرار صاحب اليد لأحدهما
في «نوادر هشام» قال: سألت محمداً رحمه الله عن غلام في يدي رجل ادعى رجل، أنه اشتراه من صاحب اليد بألف درهم منذ سنة، وأقام رجل آخر بينة أنه اشتراه من صاحب اليد بمئة دينار منذ خمسة أشهر وصاحب اليد يقول: بعته من صاحب المئة، وقضى القاضي بالغلام لصاحب الألف لما أن وقته أول، وسلم الغلام إليه، ثم وجد به عيباً ورده على المقضي عليه بقضاء القاضي، فجاء صاحبه وقال: أنا آخذ الغلام، لأنك أقررت أنك بعته مني، فصاحب اليد يأبى ويقول: القاضي فسخ العقد بيني وبينك، لا يلتفت إلى قول صاحب الغلام، ولا يكون قضاء القاضي بالغلام لصاحب الألف فسخاً للبيع بمئة، ويكون لصاحب المئة أن يأخذ الغلام بإقرار البائع أنه باعه منه ولم يبعه من ذلك، وإن قال البائع لصاحب المئة: خذ الغلام وأبى هو فللبائع أن يلزمه، وإن قال صاحب المئة حين قضى القاضي بالغلام لصاحب الألف وقام من مجلس القاضي قد فسخت البيع ههنا، لم يكن فسخاً إلا أن يقول البائع: أجيبك إلى ذلك، أو يفسخ القاضي العقد بينهما.

(9/37)


نوع آخر منه في دعوى الرجلين كل واحد منهما البيع على صاحبه أو الشراء على صاحبه
ما يجب اعتباره في هذا النوع لتخريج المسائل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه متى تنازع اثنان في عين، ادعى كل واحد منهما أنه اشتراه من صاحبه بثمن معلوم، أو ادعى أنه باعه من صاحبه بثمن معلوم، وأنكر صاحبه وأقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى ولم يؤرخا، فإنه تتهاتر البينتان، سواء كان المبيع في يد أحدهما أو في يد ثالث، والثالث يجحد، وسواء شهد الشهود بالشراء والقبض، أو شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، وسواء كان الثمنان على السواء أو كان أحدهما أنقص من الآخر، إلا أن المبيع إذا كان في يد المدعيين، فإنه يترك في يده قضاء ترك على الروايات كلها، وإذا كان في يد ثالث ذكر في بيوع «الجامع» في باب القصير أنه يقضي بالعين المدعى بين المدعيين نصفان إن كان لا يقضي بالعقدين، وذكر في باب الطويل أنه يترك في يد الثالث قضاء ترك.
وما يجب اعتباره (179ب4) لتخريج هذا النوع من المسائل على قول محمد: أن المبيع إذا كان في يد المتداعين إذا كان في يد المتداعيين إن شهد الشهود بالعقد دون القبض، فإن القبض المعاين يجعل أولاً، كأن ذا اليد اشترى أولاً وقبضه ثم باع ولم يسلم، فيؤمر بالتسليم ويجب لكل واحد منهما على صاحبه ما ادعى من الثمن ويتقاصان إذا كانا على السواء، وإن شهدوا بالعقد والقبض، فإنه يجعل القبض المعاين آخراً، كأن الخارج اشترى أولاً وقبضه ثم باعه من صاحبه وسلم، فيقضى بالمبيع لذي اليد، يعتبر هكذا إذا كان في اعتبار القبض المعاين آخر القبوض بحكم هذه العقود المشتبهة، تصحيح البيوع كلها رواية واحدة، وأما إذا كان في جعله آخر القبوض فساد بعض البيوع، وفي جعله آخر القبوض تصحيح البيوع كلها، ذكر في أول باب الطويل: أنه يجعل آخر القبوض على قوله، وذكر في آخر باب الطويل أنه يجعل أول القبوض، قالوا: وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن ما ذكر في أول الباب جواب القياس، وما ذكر في آخره جواب الاستحسان.
وأما إذا كان البيع في يد الثالث والمسألة بحالها، إن ادعى كل واحد منهما من الثمن مثل ما ادعاه صاحبه، فعلى قوله: يقضى بالمبيع بين المدعيين نصفان، سواء شهد الشهود بالعقد والقبض أو شهدوا بالعقد ولم يشهدوا بالقبض، إلا أنهم متى شهدوا بالعقد دون القبض يقضى لكل واحد منهما بنصف الثمن على صاحبه، ومتى شهدوا بهما فإنه يقضى لكل واحد منهما بجميع الثمن على صاحبه ثم يتقاصّان، وإن كان أحد الثمنين أنقص من الأخر، إن شهدوا بالعقد دون القبض، فإنه يجوز عقد كل واحد منهما في النصف، ويبطل في النصف، وإن شهدوا، بها فإنه يقضي لكل واحد منهما بما ادعى من العقد على صاحبه في الجميع، وتقدم أولاً بيع الذي ادعى أنه باع بخمسمئة، وترتب عليه

(9/38)


بيع الذي ادعى أنه باعه بألف، فحاصل ما يجب اعتباره في تخريج مسائل هذا الباب على قوله هذا.

إذا عرفنا الرواية. جئنا إلى بيان المعنى، فنقول: على قول محمد رحمه الله: إذا كان المبيع في يد أحدهما وشهد الشهود بالعقد دون القبض إنما يجعل القبض المعاين أولاً، لأن الشهود شهدوا بأصل التاريخ بين هذين العقدين، إن لم يشهدوا بكيفيته؛ لأن كل فريق شهدوا بالعقد في وقت غير الوقت الذي شهد به الآخر؛ لأن الوقت لو كان واحداً لكانا لا يشهدان؛ لأن العقدين يكونان باطلين، إلا أنهم لم يثبتوا السابق منهما، فجعلنا شراء الذي له قبض معاين سابقاً حكماً؛ لأن السبق في باب الشراء مما يثبت بالقبض، كما لو ادعيا الشراء من ثالث، ولأحدهما يد يجعل شراؤه سابقاً على ما مر قبل هذا، ولأن في تقديم شراءه تصحيح الشراءين وليس في تقديم شراء الخارج تصحيح الشراءين، بل فيه إفساد شراء ذي اليد منه، لأن الشهود لم يشهدوا بالقبض، فيصير الخارج بائعاً المشتري المنقول قبل القبض، وإنه لا يجوز، وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، فإنما يجعل المعاين آخر القبوض؛ لأن الأصل أن القبض إذا ثبت عقيب عقد يحال به على ما ظهر من السبب لا على غيره، ولأن أي الشراءين قدمناه يصح العقدان، فيقدم شراء الخارج حتى لا يحتاج إلى نقض القبض المعاين بالشك ولأن في هذه الصورة السبق في باب الشراء مما يثبت بالقبض، وقبض الخارج سابق؛ لأنه ينقض؛ فإن الانقضاء دليل السبق، والقيام دليل التأخير، هذا إذا كان في جعل القبض المعاين آخراً في هذه الصورة تصحيح العقود، فأما إذا كان في جعله آخراً إفساد بعض العقود وفي جعله أولاً تصحيح العقود كلها، القياس: أن يجعل آخراً على قوله، وفي الاستحسان يجعل أولاً.

وجه القياس: أن هذا قبض وجد عقيب الشراء، فيجب أن يكون قبض شراء وإن كان فيه إفساد بعض العقود، كما لو شهدوا بالعقد دون القبض، ولأن السبق مما يثبت بالقبض في باب الشراء، فيثبت سبق الشراء بسبق القبض، وقبض الخارج سابق؛ لأنه ينقض، وقبض ذي اليد متأخر؛ لأنه قائم، وإذا كان قبضه متأخراً كان شراؤه متأخراً.
وجه الاستحسان: أن القبض الموجود عقيب الشراء، إنما يجعل قبض الشراء من حيث الظاهر لا بدليل يوجب ذلك، وكذلك انقضاء القبض يدل على السبق من حيث الظاهر لا بدليل يوجب ذلك، وقد قابل هذا الظاهر ظاهراً آخر، فإن الظاهر من حال المسلم العاقل أنه يقدم على العقد الصحيح دون الفاسد، والعمل بهما متعذر لما بينهما من التنافي، فكان العمل بالظاهر الذي فيه تصحيح العقود كلها أولى من العمل بالظاهر الذي فيه إفساد بعض العقود، بخلاف ما إذا شهدوا بالعقد دون القبض، لأن الشهود لم يشهدوا للخارج بالقبض، ولا يمكن إثبات القبض من غير شهادة ولا معاينة، فشراء الخارج إن اعتبر أولاً يفسد بعض العقود أيضاً، وهو شراء ذي اليد؛ لأن الخارج يصير تابعاً ما اشترى قبل القبض.
Y

(9/39)


وأما إذا كان المبيع في يد الثالث إن كان الثمنان على السواء يقضى بينهما نصفان، سواء شهدوا بالعقد والقبض أو بالعقد دون القبض، لأنه تعذر القضاء بالعقدين؛ لأنه إنما يمكن القضاء بالعقدين إذا أمكن تقديم أحدهما على الآخر، وههنا التقديم إنما يثبت إما بالقبض المعاين، أو بأن يكون في تقديم بعض البيوع تصحيح جميع العقود، وفي تقديم البعض إفساد، فيقدم ما فيه تصحيح الكل؛ إذ الأصل في تصرف العاقل أن يحمل على وجه الصحيح.

قلنا: وكل ذلك معدوم ههنا؛ لأنه ليس لأحدهما قبض معاين، وأي العقدين قدمنا إذا كان الثمنان من جنس واحد، يجوز إذا شهد الشهود بالعقد والقبض؛ لأن كل واحد منهما يصير بائعاً ما اشترى من صاحبه بعد القبض قبل نقد الثمن بمثل الثمن وإنه جائز، وإذا تعذر التقديم وجب القضاء بالمبيع بينهما نصفان، إلا أنهم متى شهدوا بالعقد دون القبض، فإنه يقضى لكل واحد منهما على صاحبه بنصف الثمن، لأن كل واحد منهما إنما سلم نصف المبيع، فلا يستحق إلا نصف الثمن، ومتى شهدوا بهما، فإنه يقضي لكل واحد منهما على صاحبه بجميع الثمن؛ لأنه يثبت بالبينة العادلة أن كل واحد منهما سلم جميع المبيع إلى صاحبه، فيستحق جميع الثمن، وإن كان أحد الثمنين أنقص من الآخر إن لم يشهدوا بالقبض فإنما يجوز بيع كل واحد منهما في النصف؛ لأن كل واحد منهما إنما قدر على تسليم نصف المبيع لا غير.

وإن شهدوا بالعقد والقبض فإنه يقضى بالعقدين؛ لأنه إن تعذر تقديم أحدهما على الآخر من حيث القبض المعاين، أمكن من حيث أنّا إذا قدمنا شراء الذي اشترى بخمسمئة يصح شراء الآخر منه بعد ذلك؛ لأنه يصير مشترياً بالشراء من صاحبه بعد القبض بأكثر من الثمن الأول قبل نقد الثمن، وإنه جائز، فيجوز العقدان، والمعنى لأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لم يثبت أحد الشرائين بعينه على الآخر؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك، ولا يجوز أن يثبت السبق بالقبض، إنما يثبت ذلك إذا ادعيا الشراء من واحد، قلنا إذا ادعياه من اثنين لا يثبت السبق بالقبض، بل يقضى بالعين بينهما نصفين، وههنا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل غير الذي ادعاه صاحبه، فلا يثبت الشراء بالقبض ولا يجوز إثبات سبق شراء ذي اليد تخيرنا لجواز الشراءين؛ لأن التقديم بهذا الاعتبار إنما يثبت من حيث الظاهر، والظاهر يصلح حجة للدفع، ولا يثبت حجة للاستحقاق، وإذا تعذر إثبات الشراءين تتهاتر البينتان، وكذلك إذا شهدوا بالشراء والقبض تتهاير البينتان أيضاً؛ لأن تقديم شراء الخارج ههنا لو ثبت إنما ثبت بنوع من الظاهر على ما قال، والظاهر يصلح حجة للدفع، ولا يصلح حجة للاستحقاق، وإذا تعذر التقديم يتعذر القضاء بهما، فتتهاتر البينتان (180أ4) ضرورة.

وهذا إذا لم يؤرخا، فإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فكذلك الجواب.
وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق إن كان أسبقهما تاريخاً الخارج وقد شهدوا بالقبض مع الشراء، قضي بالعقدين، ويقضى بالدار لآخرهما تاريخاً، وهو صاحب اليد. وإن

(9/40)


شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، ذكر شيخ الإسلام: أنه يقضي بالدار لذي اليد، وهل يقضي بالعقدين؟ على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقضى، وعلى قول محمد: لا يقضى.
إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى المسائل، فنقول:

وضع محمد رحمه الله في «الجامع» المسألة في الشراء أولاً، فقال: دار في يدي رجل ادعاها رجل، أنه اشترى من المدعي بألف درهم، وأقام البينة على ذلك، فالمسألة على الاختلاف والتفصيل الذي ذكرنا.
ثم وضع المسألة في البيع، فقال: دار في يد رجل أقام البينة أنها داره باعها من ذي اليد بألف، وأقام ذو اليد بينة أنها داره، باعها من هذا المدعي بألف درهم، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف تتهاتر البينتان لما قلنا. وقد أشار محمد رحمه الله في الكتاب الى نكتة أخرى، لهما: أن كل واحد منهما أثبت إقرار صاحبه أن الدار له؛ لأن كل مشترٍ يقر أن الملك فيما اشترى لبائعه، بمنزلة ما لو ادعى كل واحد منهما الإقرار من جهة صاحبه، فإن قيل على قياس قولهما: يجب أن تقبل البينتان إذا شهد كل فريق لمدعيه بالبيع والقبض؛ لأنه لا حاجة إلى القضاء بالبيع والتسليم، وإنما الحاجة إلى القضاء بالثمن.
هذا كما ذكرنا في عبد في يد رجل أقام رجل بينة أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، فإنه يقضي لكل واحد منهما على ذي اليد بجميع الثمن، فطريقة ما قلنا. هذا هكذا إذا صح دعوى كل واحد منهما، وهنا لم يصح للتضاد؛ لأن كل واحد منهما ادعى على صاحبه مثل ما ادعى صاحبه عليه، فصار وجوده والعدم بمنزلة.
دار في يدي رجل يسمى محمداً، وادعى رجل يسمى بكراً أن الدار داره اشتراها من هذه المرأة بألف درهم، وادعت المرأة أنها داره واشتراها من بكر، وأقاموا جميعاً البينة إلا أن الشهود لم يؤرخوا، ولم يشهدوا بالقبض، إنما شهدوا بالشراء، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: بينة المرأة وبينة البكر باطلتان، لأن كل واحد منهما ادعى الشراء من صاحبه، وتقبل بينة محمد، لأنه تفرد بإقامة البينة، ولا دافع ببينته، فقبل بينته، ويقضي بالدار له شراء من بكر، ويقضي عليه بالثمن لبكر.
فإن قيل: كيف يقضي بشراء محمد من بكر ولم يثبت الملك لبكر؟

قلنا: ملك بكر ثبت بإقرار محمد تلقي الملك من جهة بكر، وهذا الإقرار منه صحيح، لكونه صاحب يد. ثم بينة محمد تثبت شراء محمد من بكر، وعلى قياس قول محمد تقبل بينة بكر على المرأة، ويقضي بالدار له شراء من جهة المرأة، وتقبل بينة محمد

(9/41)


على بكر، وتبطل بينة المرأة على بكر؛ لأن الدار كانت في يد محمد من حيث الحقيقة إلا أنها من حيث الحكم والتقدير كأنها في يد بكر؛ لأن محمداً يقر بأن اليد والملك في هذه الدار كان لبكر، وأنه استفاده من جهة بكر، ولم يدع بكر مثل ذلك، حتى يبطل إقرار محمد للتعارض والتدافع من جهة محمد، فصح إقرار محمد لبكر، ولو كانت الدار في يد بكر حقيقة، كان الجواب على نحو ما بينا: أن بينة المرأة وبينة بكر باطلتان، وبينة محمد مقبولة، وإن كانت الدار في يد المرأة والباقي بحاله، فعلى قولهما: البينات كلها باطلة، أما بينة المرأة على بكر، وبينة بكر على المرأة فلا إشكال فيه، وأما بينة محمد على بكر ففيه نوع إشكال، ويجب أن تقبل بينة محمد على بكر؛ لأنه ادعى حادثاً وأثبته بالبينة، ولا دافع لبينته.
قلنا: محمد أثبت الشراء ببينته من بكر، إلا أن قبض بكر ما اشترى من المرأة لم يثبت، فصار بكر بائعاً ما اشترى قبل القبض، فإن قيل: ثبت قبض بكر بإقرار المرأة، فإنها أقرت تلقت الملك من جهة بكر، فتكون مقرة أنها استفادت الملك واليد من جهة بكر، فيجعل كون الدار في يد بكر كما في الفصل الأول.
قلنا: إن إقرارها لم يصح لما ادعى بكر أنه تلقى الملك من جهته، فلا يثبت قبض بكر بإقرار المرأة، فإن قيل: كيف تستقيم أن يقال: ... وبيع العقار قبل القبض جائز عندهما، ومحمد وضع المسألة في العقار.
قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في هذا المقام، فعبارة بعضهم: أنه يحتمل أن محمداً حين فرّع هذه المسألة وطال تفريعها على حسب ما يرى، حسب أنه وضع المسألة في المنقول. ومنهم من قال: إنما فرع هذا على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، فبيع العقار قبل القبض في شيء من الكتب إنما أثبته في «الجامع» هذه المسألة. ومنهم من قال: أراد محمد رحمه الله التفريع على قياس قولهما: إن كانا لا يريان جواز بيع العقار قبل القبض.
فإن قيل: إن استقام ما ذكر محمد من الحكم على قولهما على ما ذكرتم من التأويلات إلا أن التعليل الذي ذكر محمد في «الكتاب» لهما إن شاء محمد من بكر لم يصح؛ لأنه اشترى من بكر قبل القبض لا يصح؛ لأن امتناع جواز شراء محمد من بكر عندهما ما كان لعدم القبض، وإنما كان لعدم الملك؛ لأن بينة بكر على المرأة لما بطلت لم يثبت الملك لبكر، لا بالبينة ولا بإقرار المرأة على ما بينا.

قلنا: بطلان بيع محمد من بكر له علتان، إحدهما: ما ذكر محمد، والثانية: ما ذكرنا أنه لم يثبت الملك لبكر، والحكم إذا كان له علتان، جاز للمعلل أن يذكر إحداهما ويترك الأخرى؛ لأن إحداهما تكفي لإثبات الحكم، هذا كله قولهما، وأما على قول محمد: يجوز شراء المرأة من بكر وشراء بكر من المرأة.

(9/42)


وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، وكان الدار في يد محمد وباقي المسألة بحالها، فالجواب فيه عندهما كالجواب فيما إذا لم يشهدوا بالقبض إنما شهدوا بالعقل لا غير. وعند محمد يقضى بالبيوع كلها، وهكذا الجواب فيما إذا كان الدار في يد بكر، وأما إذا كانت الدار في يد المرأة، فإن على قول محمد: يحكم بجواز الشرع كلها، وعلى قولهما تقبل بينة بكر ومحمد، ولا تقبل بينة المرأة.
قالوا: وما ذكر أن على قولهما بينة البكر مقبولة مشكل، وينبغي أن لا تقبل بينته كما في الفصلين الأولين، وهو ما إذا كانت الدار في يد محمد، أو في يد بكر.

والجواب: وهو الفرق بين هذا الفصل وبين الفصلين الأولين بينة بكر، قالا: يثبته جواز شراء محمد منه؛ لأن شراء محمد منه يجوز من غير بينة متى كان الدار في يد بكر بظاهر يده؛ لأن اليد تدل على الملك، وكذلك إذا كانت الدار في يد محمد، بينة بكر لا تثبت جواز شراء محمد؛ لأن محمداً مقر أن اليد في هذه الدار كانت لبكر لما ادعى محمد تلقي الملك من جهة بكر، وصح هذا الإقرار من محمد لما قلنا، فصار كون الدار في يد محمد، وكونها في يد بكر سواء، فهو معنى قولنا: إن بكراً ببينته لا يثبت جواز شراء محمد منه في الفصلين. والمرأة كذلك بينتها لا تثبت جواز شراء محمد، فكانت بينة بكر مساوية ومعارضة لبينتها فبطلتا، فأما إذا كانت الدار في يد المرأة فبينة بكر تثبت جواز شراء محمد منه؛ لأنه متى لم يقم لبكر بينة على الشراء من المرأة، لا يجوز شراء محمد من بكر؛ لأن الدار ليست في يد بكر، لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار، بإقرار المرأة أن اليد كانت لبكر حيث ادعت تلقي الملك من جهة بكر؛ لأن إقرارها قد بطل لما أقر بكر لها بمثل ذلك. وإذا لم تثبت لبكر يد في هذه الحالة بوجه ما متى لم تقبل بينته على المرأة لا يجوز شراء محمد من بكر، فكان في قبول بينة بكر جواز شراء محمد، وترجحت بينته على بينة المرأة ولم يقع (180ب4) التعارض بينهما، فقبلت بينته لهذا.
عبد في يدي حر، أقام مكاتبٌ البينة أنه عبده، باع من هذه المرأة بألف درهم، وأقامت المرأة بينة أنه عبدها باعته من هذا المكاتب بعشرة أكرار حنطة وسط، وأقام الحر بينة أنه عبده اشتراه من هذا المكاتب بهذا الوصف، إلا أنهم لم يشهدوا بالقبض، فإن في قياس قول أبي حنيفة بينة المكاتب وبينة المرأة باطلتان لما مر، وبينة الحر مقبولة، ويقضي بالعبد للحر شراء من المكاتب، وعلى قول محمد تقبل بينة المرأة على المكاتب، وتقبل بينة الحر على المكاتب، ولا تقبل بينة المكاتب على المرأة؛ لأن العبد في يد المكاتب حكماً واعتباراً ولو كان في يده حقيقة يجعل قبضه أول القبضين، وإنما يكون أول القبضين إذا كان بيع المرأة سابقاً على بيع المكاتب، كأنها باعت منه وقبض المكاتب ثم أثبت الحر ببينته أنه اشتراه من المكاتب، والمكاتب ببينته أثبت أنه باعه من الحر، فيكون بينة الحر أولى؛ لأن الحر أثبته المدعيين؛ لأنه يثبت الملك واليد لنفسه، والمكاتب يثبت الملك لغيره، ولأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة. ولو عاينا أن الحر اشترى من المكاتب، ثم ادعى المكاتب أنه باعه من المرأة لا يسمع بينته؛ لأنه ينبغي في نقض ما تم

(9/43)


به، ولأن الحر ببينته أثبت إقرار المكاتب أنه باع العبد منه، والمكاتب ببينته أثبت إقرار نفسه أنه باعه من المرأة، ولأن الحر ببينته أثبت أنه اشترى من المكاتب، والمكاتب ببينته يثبت الشراء.
ولو ادعت المرأة الشراء من المكاتب والحر كذلك، كانت بينة الحر أولى؛ لأن له قبض كذا ههنا، وإن كان العبد في يد المكاتب، فالجواب في المسألة الأولى، إلا أن ههنا يحتاج المكاتب إلى تسليم العبد إلى الحر.
ولا يجيئ ههنا بعض علل المسألة الأولى، وهي العلة الأخيرة إنما يجيئ العلل البواقي. وإن كان العبد في يدي المرأة فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف البيوع كلها باطلة لوقوع التعارض بين البينات.

فإن قيل: كان يجب أن تقبل بينة المرأة لأن لبينة المرأة؛ زيادة رجحان؛ لأنها تثبت جواز بيع المكاتب من الحر، قلنا ليس كذلك لأن الشهود لم يشهدوا بالقبض، فيصير الحر مشترياً من المكاتب قبل القبض.
فإن قيل: كان ينبغي أن تقبل بينة الحر؛ لأنه لا دافع لبينته، قلنا: نعم لا دافع لبينته، إلا أنها قامت على إثبات شراء فاسد؛ لأنه لما بطلت بينة المرأة والمكاتب، فهو على قولهما للتعارض لم يثبت للمكاتب ملك، ولئن ثبت الملك للمكاتب بإقرار المرأة أنها باعت منه، إلا أنه لم يثبت القبض من المكاتب لما بينا، بخلاف الفصلين الأولين على ما مر.

أما على قياس قول محمد: تقبل بينة المكاتب على المرأة، ثم تقبل بينة المرأة على إثبات البيع من المكاتب، ولا تقبل بينة الحر على إثبات الشراء من المكاتب، وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، والعبد في يد الحر، فإن على قولهما: بينة المرأة والمكاتب باطلتان للتعارض، وبينة الحر على المكاتب مقبولة، وأما على قول محمد: البينات كلها مقبولة، ويقضى بالبيوع كلها.
وإن كان العبد في يد المكاتب وباقي المسألة بحالها فالجواب فيه عندهما كالجواب في الفصل الأول، وعند محمد: الجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى.
وإن كان العبد في يد المرأة وباقي المسألة بحالها، فعلى قولهما: بينة المكاتب على المرأة باطلة، وبينة المرأة على المكاتب جائزة، وما ذكر أن بينة المرأة على المكاتب جائزة مشكل اعتباراً بالفصلين الأولين، إلا أن الفرق بينهما: أن في الفصلين الأولين بينة المرأة أنها بطلت؛ لأنها ساوت بينة المكاتب؛ لأنها ثبت بيعها من المكاتب، ولا يثبت جواز شراء الحر من المكاتب جائز وإن لم يثبت بيع المرأة؛ لأن العبد في يد المكاتب، إما حقيقة أو تقديراً واعتباراً أو تعذر العمل بهما فبطلتا.
فأما ههنا في بينة المرأة على المكاتب زيادة إثبات، فإنها تثبت حقاً للحر، وهو جواز شرائه من المكاتب، فإنه متى كان العبد في يد المرأة لا يجوز شراء الحر من المكاتب ما لم يثبت بيع المرأة من المكاتب؛ لأنه باع ما ليس في يده ولا ملكه،

(9/44)


فترجحت بينة المرأة فصارت أولى، وأما على قول محمد جازت البيوع كلها لما عرف من أصله عن طريق الاستحسان، فإن كان الحر لم يقم البينة على الشراء، لكن أقام البينة أنه باع العبد من المكاتب بمئة دينار، والباقي بحاله، قبلت بينته، ولا تقبل بينة المكاتب على المرأة، ولا بينة المرأة على المكاتب عندهم جميعاً. أما عندهما فلما مر، وأما عنده: فكذلك، وينبغي أن يقضى ببيع المرأة من المكاتب عند محمد، ولا يقضي ببيع الحر من المكاتب، قياساً على مسألة أخرى ذكرها محمد في البيوع من «الجامع» أيضاً في باب الشهادات في البيوع في الاثنين والواحدة.
وصورتها: رجل في يديه عبد ادعى أن هذا العبد عبده، باعه من هذه المشتراة بألف درهم، والمرأة تجحد ذلك وتدعيه لنفسها، وأقام المدعيان البينة على ما ادعيا، فإنه يقضي ببيع المدعي الذي ليس العبد في يده من المرأة؛ لأنهما ادعيا بيع العبد من المرأة، وادعيا فيه ملكاً مطلقاً والعبد في يد أحدهما، فكذلك ههنا يجب أن يقضي ببيع المرأة من المكاتب؛ لأن الحر مع المرأة ادعيا البيع من المكاتب وادعيا في العبد ملكاً مطلقااً والمرأة خارج، فإن العبد ليس في يدها، والحر ذو اليد، فمن المشايخ من يجعل في المسألة روايتين، ومنهم من يفرق بين المسألتين.

والفرق: أن ثمة الذي ليس العبد في ملكه يحتاج إلى إثبات ملكه في العبد بالبينة، ليجوز بيعه؛ لأن الملك له في العبد غير ثابت، وذو اليد أثبت كذلك أيضاً، إلا أن المذهب عندنا: أن بينة الخارج أولى، فأما ههنا فالمرأة الخارجة مستغنية عن إثبات الملك لنفسها في العبد، ليجوز بيعها؛ لأن الملك لها ثابت في العبد بإقرار الحر، فكان بينة كل واحد منهما مشروعة على إثبات البيع، لا على إثبات الملك، فكان بينة ذي اليد أولى؛ لأن بيعه آكد لأنه أثبت بيع شيء في يده، ويقدر على تسليمه، والمرأة تثبت بيع شيء لا يقدر على تسليمه، وإن كان العبد في يد المكاتب والباقي بحاله، فإن على قولهما: بينة المكاتب والمرأة باطلتان، وبينة الحر مقبولة، وعلى قول محمد: يقضى بالعبد كله للمكاتب، نصفه شراء من جهة المرأة، ونصفه من جهة الحر؛ لأن العبد في يده، وقد تنازع فيه خارجان يدعي كل واحد منهما أنه باعه من المكاتب، وأقاما البينة ولا مزية لإحدى البينتين على الأخرى.
فإن قيل: لماذا قدم محمد بيع الحر وبيع المرأة من المكاتب، ولم يقدم بيع المرأة من المكاتب؟
قلنا: لأن الأصل عنده أن الشهود متى لم يشهدوا بالقبض يجعل القبض المعاين أول القبوض بحكم البيع، وإنما يصير أول القبوض إذا قدمنا على هذا الوجه، ويقضي لكل واحد منهما على المكاتب بنصف الثمن بائعاً جميع العبد من المرأة، فيؤمر المكاتب بتسليم العبد إلى المرأة، ولا خيار للمكاتب، وإن اشترى من كل واحد منهما جميع العبد وقد سلم له النصف لأن خياره يسقط بالبيع من المرأة؛ وكان يجب أن يقضي على المكاتب لكل واحد منهما بجميع الثمن، لأن العبد سلم الى المكاتب.

وقد ذكر هذه المسألة في باب الشهادات في البيوع من «الجامع» ، ووضعها في

(9/45)


الدار، فقال: دار في يدي رجل، أقام رجل البينة أنها داره باعها من ذي اليد بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنها له داره باعها من ذي اليد بمئة دينار، فالشراء لازم للمشتري، وعليه (181أ4) الثمنان، قال مشايخنا ولا يتهيأ الفرق، فيجعل ما ذكر في باب الشهادات جواب الاستحسان، وما ذكر ههنا جواب القياس.
وجه الاستحسان: أن كل واحد منهما محتاج إلى إثبات الملك فيما باع عند المنازعة، وقد نازعهما ذو اليد في ذلك، فتقبل بينتهما، وإذا قبلت بينتهما فقد استحق على كل واحد منهما نصف ما باع بينة صاحبه، فصار كأن كل واحد منهما باعه جميع العبد، إلا أنه استحق منه النصف، فيسقط عنه نصف الثمن في حق كل واحد منهما.

وجه الاستحسان: أنه لم يستحق كل واحد منهما شيء مما باع من المشتري؛ لأن حاجة كل واحد من البائعين في هذه الصورة إلى إثبات الملك فيما باع؛ لأن الملك فيما باع، إنما يحتاج إليه ليقدر البائع على تسليمه، فيستوجب الثمن على المشتري، فإذا كان المبيع في يده استغنى كل واحد من البائعين عن تسليم ما باع، واستغنى عن إثبات الملك لنفسه، وبينة المدعي إنما تسمع فيما يحتاج إلى إثباته، لا فيما يحتاج إلى إثباته، وإذا لم تسمع بينة كل واحد من البائعين على إثبات الملك فيما باع، لم يصر كل واحد من البائعين مستحقاً عليه في شيء مما باع، فيقرر جميع الثمن لكل واحد منهما على المشتري، وإن كان المبيع شيئاً واحداً؛ لأن اجتماع الثمنين في ذمة المشتري بسبب مبيع واحد جائز على سبيل الترادف، بأن يشتري من أحدهما ثم يبيعه من الآخر، ثم يشتري منه.

وإن كان العبد في يد المرأة وباقي المسألة بحالها، فعلى قولهما: بينة المرأة والمكاتب باطلتان، وبينة الحر على المكاتب مقبولة، وعلى قول محمد كذلك الجواب؛ لأن الحر والمرأة ادعى كل واحد منهما أن العبد عبده وقد باعه من المكاتب، والعبد عبد يسلم إلى المشتري وهو المكاتب، فكان الحر محتاجاً إلى إثبات الملك في العبد، ليمكنه التسليم إلى المشتري، والحر خارج والمرأة ذو اليد، وبينة الخارج أولى.
وأما إذا شهد الشهود بالعقد والقبض، فالمسألة على ثلاثة أوجه: وهو أن يكون العبد في يد الحر أو في يد المرأة، وتخريجهما على نحو ما ذكرنا، وما ذكر محمد رحمه الله من هذا الجنس، فتخريجه على نحو ما ذكرنا.
قد ذكرنا في أول هذا النوع أن العين الواحد إذا تنازع فيه اثنان ادعى كل واحد منهما أنه باعه من صاحبه بثمن معلوم وأنكر صاحبه، وأقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى ولم يؤرخا، والعين في يد الثالث، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف على رواية باب الطويل من بيوع الجامع تترك العين في الثالث قضاء ترك، وعلى رواية الباب القصير منه يقضي بالعين المدعى من المدعيين نصفان، واختلف المشايخ فيما بينهم قال بعضهم: في

(9/46)


المسألة روايتان على رواية الباب القصير يقضي بالملك بينهما، وعلى رواية الباب الطويل لا يقضي بالملك بينهما، وبعضهم قالوا ما ذكر في الباب القصير قياس، وما ذكر في الباب الطويل استحسان، وبعضهم قالوا اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.

وضع المسألة في الباب الطويل أن كل واحد منهما ادعى البيع على صاحبه فقط، وعند التعارض في دعوى البيع تتهاتر البينتان، ووضع المسألة في الباب القصير إذا ادعى كل واحد منهما البيع والملك وجه ما ذكر في الباب القصير، وهو القياس على قول بعض المشايخ أو إحدى الروايتين على قول البعض أن كل واحد منهما أقام البينة على ما يجوز القضاء به وعلى ما لا يجوز القضاء به على قولهما؛ لأن كل واحد منهما أقام البينة أن الدار ملكه، والدار في يدي الثالث، وهذا مما لا يجوز القضاء به، بدليل أنه لو لم يدع كل واحد منهما البيع من صاحبه، فإنه يقضي بينهما نصفان، وعلى كل واحد منهما البيع من صاحبه، فإنه يقضي بينهما نصفان وعلى ما لا يجوز القضاء، فإن كل واحد منهما أثبت بيع جميع الدار من صاحبه، وقد جهل التاريخ بينهما، فيجعل كأنهما وقعا معاً بأن قال كل واحد منهما لصاحبه: بعت منك هذه الدار وخرج الكلامان معاً، ولو كان هكذا كان البيعان باطلين؛ لأن الشخص الواحد في وقت واحد لا يتصور أن يكون بائعاً ومشترياً لعين واحدة لما فيه من التضاد، فيقضي بما يجوز القضاء به، ولا يقضي بما لا يجوز القضاء به.
ويجوز أن تقبل شهادة الشاهد في بعض ما شهد به، كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمئة والمدعي يدعي أكثر المالين قبلت شهادة الشاهد بالألف والخمسمئة على الألف، كذا ههنا، بخلاف ما لو ادعى رجل داراً في يدي إنسان أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم، وادعى ذو اليد أنه اشتراها من الخارج بمئة دينار، وأقاما البينة ولم يؤرخا، فإن هناك تتهاتر البينتان، وتترك الدار في يدي ذي اليد؛ لأن كل بينة أثبتت إقرار صاحبها أن الدار إن كانت لصاحبه؛ لأن كل مشتر مقر أن المشترى كان ملك بائعه، وأنه سبيل من بيعه، وجهل التاريخ بين الإقرارين فبطلتا، وترك الدار في يد ذي اليد قضاء ترك، فأما ههنا ذو اليد ما أثبت إقرار أحد المدعيين أن الدار له، فوجب القضاء بالدار بينهما نصفان.
وجه ما ذكر في الباب الطويل وهو الاستحسان على قول بعض المشايخ أو إحدى الروايتين على قول بعض المشايخ أن الأمر على ما قلنا، إلا أنه تعذر القضاء بشهادتهم في الكل؛ لأن كل فريق فيما شهد بسبب نفسه إلى الشهود والغفلة؛ لأنه شهد لمدعيه في غير الوقت الذي شهد به الآخر، إذ لو عاينا البيعين معاً في وقت واحد لكان لا يحل لهم أن يشهدوا بالبيع؛ لأنه يكون باطلاً، فقد اتفق الفريقان أن البيعين كانا في وقتين مختلفين، إلا أنهما جهلا ذلك ونسياه، وشهادة المغفل لا تقبل، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
فأما على قول محمد يقضى بالدار بينهما نصفان، ويقضى لكل واحد منهما على

(9/47)


صاحبه بنصف ما أقر له من الثمن؛ لأن كل واحد منهما يستحق نصف الدار، ولم يذكر في الباب الطويل أنه يخير إن شاء أخذ نصف الثمن، وإن شاء ترك، واختلف المشايخ فيه السكوت يحمل على المنطوق، ومنهم من قال ما ذكر في الباب الطويل جواب القياس، وما ذكر في الباب القصير جواب الاستحسان، وظاهر السكوت يدل على أنه لا خيار لهما.

وجه القياس في ذلك: أن كل واحد منهما أثبت على صاحبه أنه باع منه جميع الدار، ولم يسلم له إلا النصف، فيخير كما لو ادعى رجلان شراء عين من واحد ولم يؤرخا، وليس لأحدهما قبض، فإنه يقضي بينهما نصفان، ويكون لكل واحد منهما الخيار لما بينا كذا ههنا.
وجه الاستحسان: أن كل واحد أثبت على صاحبه البيع في جميع الدار إلا أنه أن المنصف من ذلك إنما استحق على كل واحد منهما ببيعه من صاحبه، فإن الأكبر صار بائعاً نصف الدار من الأصغر، والأصغر كذلك، وفي مثل هذا لا يثبت الخيار والله أعلم.

نوع آخر من هذا الفصل
فمن جملة صورته: إذا ادعى أحدهما الهبة مع القبض، وادعى الآخر الشراء، وإنه على وجهين: إن ادعيا ذلك من جهة اثنين، والعين في يد ثالث أو في أيديهما أو في يد أحدهما، والجواب فيما إذا ادعيا ملكاً مطلقاً سواء لأن كل واحد منهما يثبت ملكاً مطلقاً، ثم يثبت الانتقال الى نفسه فكان بمنزلة ما لو حضر الى الملكان وادعيا لأنفسهما ملكاً مطلقاً وأقاما البينة، ففي كل موضع ذكرنا في دعوى الملك المطلق إنه يقضي بينهما نصفان، فههنا يقضي بينهما نصفان أيضاً، قال شيخ الإسلام إنما يقضى بينهما نصفان إذا كان المدعى به شيئاً لا يحتمل القسمة كالعبد، أما إذا كان المدعى به شيئاً لا يحتمل القسمة كالدار والدابة وأشباههما، يقضي بالكل لمدعي الشراء؛ لأن مدعي الهبة أثبت بينة فاسدة، لأنه أثبت الهبة (181ب4) في الكل واستحق الآخر النصف عليه بالهبة واستحقاق نصف الهبة في مشاع يحتمل القسمة، يوجب فساد الهبة، فلا تقبل بينة مدعي الهبة، وصار كأن مدعي الشراء تفرد بإقامة البينة، والصحيح أن المشاع الذي يحتمل القسمة في ذلك على السواء؛ لأن مدعي الهبة أثبت الهبة في الكل، إلا أنه لأجل المزاحمة سلم له البعض، وهذه المزاحمة بعد القبض، فكان شيوعاً طارئاً، وإنه لا يبطل الهبة.
وإن ادعيا ذلك من جهة واحدة، والعين في يد ثالث، ولم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء، فالشراء أولى؛ لأن الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، فإذا احتجنا إلى نقض وأحدهما كان نقض ما يوجب الملك بغير عوض، وفيه تعليل النقض أولى من نقض ما يوجب الملك بعوض، وفيه تكثير النقض، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فالمؤرخ أولى أيهما كان، أما إذا كان المؤرخ يدعي

(9/48)


الشراء فظاهر؛ لأنه من غير تاريخ الشراء هو أولى أيهما كان، أما إذا كان المؤرخ يدعي الشراء فظاهر؛ لأنه من غير تاريخ الشراء هو أولى فمع تاريخ الشراء أولى أن يكون أولى، وأما إذا كان المؤرخ يدعي الهبة، فلأن الشراء متأخر معنى؛ لأن الشراء حادث، والأصل أن يحال بحدوثه على أقرب الأوقات بعين ما هو ثابت بيقين من حيث العيان، والحكم بإحالة الشراء على أقرب الأوقات، وههنا لا يتضمن ذلك، فجعلنا الشراء المطلق حادثاً للحال، وهو معنى قولنا الشراء متأخر معنى، فيعتبر بما لو كان متأخراً حقيقة، وهناك يقضى لمدعي الهبة كذا ههنا، ولو أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو أولى، وإن كان العين في يد أحدهما فهو أولى، إلا أن يؤرخا وتاريخ الخارج أسبق فحينئذٍ يقضي للخارج. وإن كان العين في أيديهما، فهو بينهما إلا أن يؤرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فحينئذٍ يقضي لأسبقهما تاريخاً، والجواب في الصدقة لا تفيد الملك قبل القبض، ويفيد الملك بغير عوض كالهبة.

وإذا اجتمعت الهبتان مع القبض فالجواب فيه كالجواب فيما إذا اجتمع الشاءان وإذا اجتمعت بينة مع القبض والصدقة مع القبض، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا اجتمع الشراءان، وستأتي هذه المسألة في أخر الباب إن شاء الله تعالى، وكان ينبغي أن تكون الصدقة أولى؛ لأن الصدقة توجب ملكاً لازماً، والهبة ملكاً غير لازم، ونقض ما ليس بلازم وفيه تعليل النقض أولى والجواب: أن الهبة إن كانت من ذوي رحم محرم، فهي لازمة كالصدقة، وإن كانت من أجنبي إن لم تكن لازمة ففيها عوض مشروط عرفاً، ولهذا يثبت للواهب حق الرجوع ما لم يعوض عنها، ففي نقض الصدقة إن كان نقض اللزوم، ففي نقض الهبة نقض العوض من وجه فاستويا.
وإذا اجتمع الشراء والرهن فالشراء أولى؛ لأن الشراء أقوى؛ لأنه يفيد الملك بنفسه والرهن لا يفيد الملك في الحال، وإذا اجتمع الرهن والهبة أو الصدقة فالرهن أولى استحساناً؛ لأن الرهن يتعلق به الضمان فكان قبضه مضموناً، وقبض الهبة والصدقة ليس بمضمون، وإذا اجتمع النكاح والهبة أو الرهن أو الصدقة فالنكاح أولى؛ لأن النكاح عقد معاوضة يفيد الملك بنفسه كالشراء، ولو اجتمع الشراء مع كل واحد من هذه الأشياء كان الشراء أولى فهاهنا كذلك.
وإذا اجتمع الشراء والنكاح فعلى قول محمد: الشراء أولى إذا لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على سواء؛ لأن الشراء مبادلة مال بمال يوجب الضمان في العوضين، والنكاح مبادلة مال بما ليس بمال لا يوجب الضمان في المنكوحة فكان الشراء أقوى من هذا الوجه.

المحيط البرهانى
وعلى قول أبي يوسف: إذا لم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضى بينهما نصفان، وصار الجواب فيه كالجواب فيما اذا اجتمع الشراءان، وهذا لأن الشراء مع النكاح يستويان من حيث أن كل واحد منهما يفيد الملك بنفسه، وللنكاح قوة من وجه من حيث الملك في الصداق ثبت بنفس العقد متأكداً حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم،

(9/49)


ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض، بخلاف الشراء فإن لم يترجح جانب النكاح لا أقل من أن يثبت المساواة.
وإن ادعى رجل بينة مقبوضة في دار أو عبد، وادعى آخر صدقة مقبوضة، وأقاما البينة، فإن وقتت بينة أحدهما فصاحب الوقت أولى، وإن لم يوقت بينة أحدهما أو وقت بينة كل واحد منهما، ووقتهما على السواء ففيما لا يحتمل القسمة يقضى بينهما نصفان بالاتفاق، وفيما يحتمل القسمة نحو الدار وأشباهها تبطل البينتان جميعاً، لأنا لو عملنا بهما قضينا لكل واحد بالنصف، والهبة والصدقة في مشاع يحتمل القسمة لا يجوز قبل هذا قول أبي حنيفة، فأما على قول أبي يوسف ومحمد ينبغي أن يقضى لكل واحد بالنصف على قياس بينة الدار من رجلين.

قيل: ينبغي أن يقضى لكل واحد منهما بالنصف أثبت الهبة في الكل، ثم الشيوع بعد ذلك طارئ وذلك لا يمنع صحة الهبة والصدقة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الأصح عندي أن ما ذكر في «الكتاب» قول الكل لأنا لو قضينا لكل واحد بالنصف فإنما يقضى بالعقد الذي شهد به شهوده عند اختلاف العقدين هبة الدار من رجلين.
في «المنتقى» : دار في يد رجل أقام بينة إني كنت ادعيت هذه الدار، وإن صاحب اليد صالحني منها على مئة درهم، وأقام الذي في يديه الدار أنه أبرأه من حقه من دعواه في هذه الدار، فبينة الصلح أقوى لا..... .

نوع آخر من هذا الفصل في الخارجين يدعيان

إذا ادعى رجل على صاحب العبد والرقيق الشراء، وادعى الرقيق الإعتاق أو التدبير أو الكتابة أو الاستيلاد.

رجل ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها من صاحب اليد بألف درهم، وأنه أعتقها وأقام على ذلك بينة، وأقام آخر بينة أنه اشتراها من صاحب اليد بألف درهم ولم يذكر الإعتاق، فصاحب العتق أولى، هكذا ذكر المسألة في أول الكتاب الدعوى، وهذا لأن الإعتاق قبض حكماً لما تبين، فقد ادعيا تلقي الملك من جهة واحد، ولأحدهما قبض مشهود به وهو مدعي العتق فكان أولى، ونبين شرح هذا الكلام في المسألة التي تلي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، ولم يذكر ثمة ما إذا كان مدعي الشراء قبض العبد فلو كان قبض العبد كان هو أولى بدليل المسألة التي تليها.
وصورتها: رجل له عبد، أقام العبد بينة أن المولى أعتقه، وأقام رجل آخر بينة أن المولى باع العبد منه بألف درهم، فإن لم يكن المشتري قبض العبد فبينة العبد أولى؛ لأنهما يدعيان تلقي الملك من جهة ثالث ولأحدهما قبض مشهود به وهو العبد ولا قبض للآخر.

(9/50)


بيانه: أن العبد ادعى تلقي الملك في نفسه من جهة مولاه بالإعتاق والآخر ادعى تلقي الملك في العبد من جهة مولاه أيضاً بالشراء غير أن العبد بالإعتاق يصير قابضاً نفسه؛ لأنه يقع في يد نفسه، فالشهادة على العتق تكون شهادة على الملك والقبض جميعاً، والمشتري بنفس الشراء لا يصير قابضاً فالشهادة على الشراء لا تكون شهادة على القبض، فهو معنى قولنا: ادعيا تلقي الملك من جهة الثالث ولأحدهما قبض مشهود كما في دعوى الشراء (182أ4) من ثالث إذا كان لأحد المدعيين قبضاً مشهوداً به، بأن شهد شهود أحد المدعيين بالشراء والقبض، وشهد شهود الآخر بالشراء دون القبض.

قال: فإن كان المشتري قبض العبد فبينة المشتري أولى؛ لأن المشتري له قبض معاين، والعبد له قبض مشهود به، وليس له قبض معاين، وهذا لأن العبد إنما يصير قابضاً نفسه بالإعتاق، والإعتاق مشهود به، فكان قبض العبد مشهوداً به، وللقبض المعاين رجحان على القبض المشهود به، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث إذا كان لأحد المتداعيين قبضاً معايناً وللآخر قبضاً مشهوداً به يترجح من له القبض المعاين كذا ههنا.
والمعنى في ذلك: أن الذي له قبض معاين قبضه ثابت حقيقة، وما يدعيه الآخر إن كان مقدماً يجب نقض هذه الحقيقة، وإن كان متأخراً لا يجب نقضها فلا يجب نقضها بالشك والاحتمال، والجواب فيما إذا كان العبد ادعى التدبير نظير الجواب فيما إذا ادعى العتق إن لم يكن المشتري قبض العبد، فبينة العبد أولى، وإن كان قبض العبد فبينته أولى.
ولو ادعت أمة أنها ولدت من مولاها وأقامت على ذلك بينة، وأقام رجل آخر بينة أنه اشتراها من مولاها، فبينة الأمة أولى سواء كانت في قبض المشتري أو لم يكن في قبضه، أما إذا لم يكن في قبض المشتري؛ فلأن دعوة الاستيلاد ودعوة التدبير سواء، وبينة التدبير أولى إذا لم يكن للمشتري قبض معاين، فكذا بينة الاستيلاد، وإما إذا كان في قبض المشتري فكذلك، وكان ينبغي أن تكون بينة المشتري أولى؛ لأن له قبض معاين وقع الشك في نقضه إن كان علوق هذا الولد قبل الشراء فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء يجب نقض قبضه، وإن كان علوق هذا الولد بعد الشراء إن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر من وقت الشراء لا يجب نقضه، فلا يجب نقضه بالشك، فصار كما في دعوى التدبير.

والجواب عن هذا أن يقال: بأن دعوى العتق والتدبير إنما لا ينقض قبض المشتري لأن قبضه ثابت حقيقة، وقع الشك في نقضه إذا لم يعرف التاريخ؛ لأنه إذا لم يعرف التاريخ يحتمل أن العتق والتدبير لاحقان، وعلى هذا التقدير لا ينقض قبض المشتري، فلا ينقض قبضه بالشك وفي دعوى الاستيلاد لو نقضنا قبض المشتري نقضناه بيقين لا بالشك.
بيانه: أن دعوة البائع قد ثبتت بالبينة إلا أنه يحتمل أن تكون دعوته قبل البيع وعلى

(9/51)


هذا التقدير يجب نقض قبض المشتري؛ لأنه صار بائعاً أم ولده وإن كان دعوته بعد البيع، فكذلك يجب نقض قبض المشتري أيضاً؛ لأن موضوع المسألة أن المدعي ادعى شراء الجارية، ولم يدع الولد، فيبقى الولد على ملك البائع.
وصارت مسألتنا رجل له جارية ولدت ولداً، فباع المولى الجارية، ثم ادعى بنسب الولد لستة أشهر وهناك تصح دعوته، وإذا صحت دعوة البائع على كل حال، وجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء أو لستة أشهر، وجب نقض قبض المشتري على كل حال، فقد تيقنا بنقض قبضه والقبض المعاين يجوز أن ينقض، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق والآخر قبض معاين يقضى للخارج وينقض قبض الآخر كذا ههنا، ولو وقتت بينة المشتري وقتاً قبل الحبل بثلاث سنين كانت بينة المشتري أولى اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة، وكذلك الجواب في العتق والتدبير إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة.

وإذا أقام عبد البينة أن مولاه أعتقه وهو ينكر أو يقر، وأقام آخر بينة أنه عبده قضي للذي أقام البينة أنه عبده، لأن شهود العتق شهدوا بعتق باطل؛ لأنهم لم يقولوا في شهادتهم: وفلان يملكه، والملك لفلان لا يثبت من غير شهادة، فالعتق بلا ملك عتق باطل، فصار وجود هذه البينة والعدم بمنزلة، ولو عدم هذه البينة لكان يقضى للذي أقام البينة أنه عبده كذا ههنا، وكذلك لو شهدوا أن فلاناً أعتقه وهو في يده يقضى للذي أقام البنية أنه عبده، كذا ههنا؛ لأن نفوذ العتق يعتمد الملك دون اليد والشهود لم يشهدوا له بالملك، وإن شهد شهود العبد أن فلاناً أعتقه، وهو يملكه، وشهد شهود الآخر أنه عبده قضي ببينة العتق لأن إثبات العبد الملك لمعتقه كإثبات المعتق الملك لنفسه بنفسه، ولو أن المولى أقام بينة أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن إثبات العبد الملك لمعتقه كإثبات المعتق الملك لنفسه بنفسه، ولو أن المولى أقام بينة أنه عبده أعتقه؛ وأقام رجل آخر بينة أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن البينتين استويا في إثبات الملك وفي أحدهما إثبات العتق كذا ههنا.
وكذلك لو أقام العبد أن فلاناً دبره وهو يملكه، وأقام رجل أخر بينة أنه عبده قضي ببينة التدبير، كما لو أقام المولى بنفسه بينة أنه عبده دبره، وأقام الآخر بينة أنه عبده يقضى ببينة المولى، ولو أقام العبد بينة أن فلاناً كاتبه وهو يملكه، وأقام بينة أنه عبده يقضى للذي أقام البينة أنه عبده، ألا ترى أنه لو أقام الذي في يديه بينة أنه ملكه كاتبه، وأقام الآخر بينة أنه عبده قضي للذي أقام البنية أنه عبده كذا ههنا، فقد فرق بينما إذا ادعى صاحب اليد لنفسه الملك مع الكتابة، وادعى الخارج لنفسه ملكاً مطلقاً، وبينما إذا ادعى صاحب اليد لنفسه الملك مع الإعتاق أو التدبير، وادعى الخارج ملكاً مطلقاً، والفرق أن دعوى التدبير من ذي اليد بمنزلة دعوى النتاج من حيث المعنى لأنه يوجب الولاء، والولاء كالنسب، والنسب في معنى النتاج، ولو ادعى صاحب اليد النتاج حقيقة، وادعى

(9/52)


الخارج ملكاً مطلقاً، وأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى، أما دعوى الكتابة من ذي اليد فليس بمنزلة دعوى النتاج لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى؛ لأن الكتابة ليست سبباً للولاء في الحال، ولهذا يقبل الفسخ فيكون بمنزلة دعوى البيع والإجارة، وبدعوى صاحب اليد الإجارة أو البيع لا يترجح ببينته على بينة الخارج في دعوى الملك كذا ههنا،
ومما يتصل بمسائل العتق: عبد في يدي رجل أقام رجل البينة أنه له أعتقه، وأقام آخر البينة أنه حرّ الأصل وأنه والاه وعاقده، فصاحب الموالاة أولى ذكره في دعوى «المنتقى» .

وفيه أيضاً: عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه له أعتقه وهو يملكه، وأقام آخر بينة أنه أعتقه وهو يملكه، فإن ادعى العبد عتق أحدهما فبينته أولى، وإن كذبهما جعلت ولاءه بينهما نصفين، ولو أقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه على ألف درهم وهو يملكه، لم ألتفت إلى تصديق العبد وتكذيبه، وقضيت بولائه بينهما ولكل واحد منهما على ألف درهم، وإن ذكر إحدى البينتين مالاً ولم يذكر الأجنبي مالاً فالبينة بينة المال وولاؤه له، ولا أبالي أصدقه العبد أو كذب.
وفيه أيضاً: شاهدان شهدا على رجل أنه غصب هذا عبداً، وأن مولاه أعتقه، وقال المشهود عليه بالغصب: ما غصبته عبداً ولا أعتقته، والعبد حي، فإني أقضي بعتق العبد، وأبرئ الغاصب عن الضمان وإن لم يدع الغاصب ذلك، علل فقال: لأن العتق حق العبد يدعيه ويقوم به، فأعتقه بالشهادة (182ب4) وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل في يديه عبد ادعى ابن له وأقام البينة أن أباه تصدق به عليه وهو صغير في عياله، وأقام العبد بينة أن الأب قد أعتقه، قال: أقبل بينة العتق.

ولو شهدوا أنه تصدق به أو وهبه لابنه الكبير هذا وقبضه، وعاينوا قبضه إياه، وشهد شهود العبد أنه أعتقه ولم يوقتوا أجزت الصدقة وأبطلت العتق.
وفي «المنتقى» : رجل شهد على رجل أنه أعتق غلامه وهو مريض، وقال الوارث: كان يهذي حين دخل عليه الشهود، ولم يقر الوارث بالإعتاق، قال: القول قول الوارث حتى يشهد الشهود أنه كان صحيح العقل ولو أقر الوارث بالعتق إلا أنه ادعى أنه كان يهذي فالقول قول الغلام، وهو حر حتى يقيم الوارث البينة أنه كان يهذي.

ومما يتصف بمسائل العتق: إذا وقع الاختلاف بين المعتق والمعتق، بشر عن أبي يوسف: رجل أعتق أمة ثم ادعى المولى ولدها وقال: أعتقتها بعدما ولدت هذا الولد والولد عبدي، وقالت الأمة: بل أعتقني قبل أن ألده، فالقول قول من كان الولد في يده، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقد مرت المسألة في كتاب العتاق.
وإن كان في أيديهما جميعاً فهو حر، وكذلك إذا اختلفا في متاع في يدها فالقول قولها، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الأمة في المسألتين جميعاً، وفي كتاب «الأقضية» : رجل قدم بلدة ومعه رجال ونساء وصبيان يخدمونه، وهم في يده، فادعى أنهم رقيقه وادعوا

(9/53)


أنهم أحرار، فالقول قولهم ما لم يقروا له بالملك بكلام أو بيع، أو تقوم بينة عليهم، قال: وإن كانوا من السند أو الترك أو الهند أو الروم، لأنهم في دار الإسلام وقت الخصومة، ودار الإسلام دار الأحرار فمن ادعى الحرية فيه فقد تمسك بالأصل فكان القول قوله، وإن كان من جنسه أرقاء، فلهذا كان القول قولهم إلا إذا باعهم فقد انقادوا البيع والتسليم لأن ذلك بينهم بمنزلة الإقرار بالرق، أو تقوم البينة عليهم بالرق فلا يقبل قولهم في الحرية بعد ذلك، هكذا ذكر تأويله إذا جاء بهم غير مقهورين، أما إذا كانوا مقهورين من جهته فلا يقبل قولهم أنهم أحرار.H
ادعى رجل حرية الأصل ولم يذكر اسم أمه واسم أب أمه يجوز لأنه يجوز أن يخلق الإنسان حر الأصل وأمه تكون رقيقة ألا ترى أن من استولد جارية نفسه فالولد يعلق حر الأصل، والأم رقيقة، وولد المغرور حر الأصل والأم رقيقة.

مات الرجل وعليه ديون ولم يترك إلا جارية وفي حجرها ولد، فادعت أنها أم ولد الميت، وأن هذا من الميت لا يقبل قولها من غير بينة تقوم على إقرار المولى في حياته أنها أم ولده، وفيه نوع إشكال ينبغي أن تقبل بينتها إذا كان معها ولد بناء على أن الأمة تنتصب خصماً عن أبيه في إثبات النسب من الأب على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإذا انتصبت خصماً عنه صار إقامتها البينة على نسب الغلام كإقامة الغلام لو كان بالغاً، ولو كان الابن بالغاً وأقام البينة أنه ابن هذا الرجل الميت أليس أنه يثبت نسبه منه؟ فكذا ههنا.

وإذا ثبت نسب الغلام يثبت حقها بطريق التبعية بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد لأن هناك لو قبلنا بينتها قبلنا على إثبات حقها مقصوداً، وحقها في هذا الباب ليس بمقصود.
ولو شهدت الورثة أنها أم ولد الميت قبلت شهادتهم، ولا سبيل للغرماء عليها.
إذا كانت الدار في يدي رجل وادعى رجل أنه اشترى هذه الدار من زيد، وأقام على ذلك بينة، وذو اليد أقام البينة أنه اشتراها من زيد، والمدعي هو الأول أي: تاريخ الخارج أولى، فإنه يقضي بها للخارج، وقد مرت المسألة من قبل فقد قبل البينة من الخارج، وإن قامت على البائع، والبائع غائب إنما قبلها لأنها قامت على خصم حاضر لأن الذي في يديه الدار يدعي الملك لنفسه ومن ادعى شراء على غائب والعين في يد الحاضر والحاضر يدعي الملك لنفسه، ينتصب الحاضر عن الغائب عرف ذلك في مواضع كثيرة.
وإذا قضينا بالشراء للخارج هل للخارج أن يقبض الدار من صاحب اليد؟ فالمسألة على ثلاثة أوجه.
إما أن يثبت نقدهما الثمن عند القاضي.

أو ثبت نقد أحدهما دون الآخر، فإن ثبت نقدهما الثمن ثبت عند القاضي فإنه يسلم الدار إلى الخارج لأن الشراء ثبت بينة الخارج لما ذكرنا، ونقده الثمن ثبت عند القاضي لأن ما نقد ذو اليد للبائع صار ديناً له عند البائع عن الاستحقاق، وما في يده من الدار

(9/54)


ملك غير الديون، ولو كان ملك الديون لم يكن له أن لحقه فههنا أولى.
وإن لم يثبت نقد واحد منهما الثمن بإقرار البائع أو بالمعاينة، فإن القاضي لا يسلم الدار إلى الخارج حتى يستوفى الثمن منه، وذلك لأن القاضي نصب ناظراً للمسلمين، فكما نظر للخارج وجمع بينته على الشراء يجب أن ينظر للغائب ويستوفي منه الثمن، ثم يأمره بقبض الدار.
وإن ثبت نقد أحدهما عند القاضي، إما بإقرار البائع أو بالمعاينة، إن ثبت نقد الخارج فإنه يسلم الدار إليه لأنه ثبت الشراء بالبينة ونقده الثمن بإقرار البائع أو بالمعاينة فيسلم الدار إليه، ولا يكون لذي اليد شيء لأنه لم يثبت نقده الثمن للبائع عند القاضي، والمشتري لا يجب له على البائع شيء عند الاستحقاق إذا لم يكن نقد الثمن، فأما إذا ثبت نقد ذي اليد بإقرار البائع، أو بمعاينة القاضي، ولم يثبت نقد الخارج، فإن القاضي لا يسلم الدار إليه حتى يستوفى منه الثمن لأنه وإن ثبت الشراء عند القاضي لم يثبت نقد الثمن، والمبيع لا يسلم للمشتري إلا بعد نقد الثمن، فيستوفى الثمن منه، ثم هل يعطى ذا اليد مما قبض من الثمن من الخارج ما وجب لذي اليد على البائع من الدين عند الاستحقاق؟.

إن كان الثمنان من جنسين مختلفين فإنه لا يعطي شيئاً، وذلك لأن البائع إن كان حاضراً لم يكن له أن يأخذ ذلك بغير رضا البائع، فكذا إذا كان غائباً لا يكون للقاضي أن يعطيه.

فأما إذا كانا من جنس واحد فإنه يعطيه مما قبض تمام حقه، ثم إن فضل شيء أمسكه على البائع، وإن بقي من يد ذي اليد شيء اتبع البائع إذا حضر، وذلك لأن القاضي علم بوجوب دين ذي اليد على البائع، وما قبض جنس حقه فكان له أن يعطيه ذلك بغير رضا البائع. ألا ترى أنه لو كان البائع حاضراً كان له أن يأخذ بغير رضاه؟ فكذلك ههنا، هذا إذا أثبت نقد ذي اليد بإقرار البائع عند القاضي أو بالمعاينة، فأما إذا أراد ذو اليد أن يقيم البينة على نقده الثمن للبائع فإنه لا يسمع بينته لأنه يقيم البينة على غائب بإثبات دين عليه، وليس عن الغائب خصم حاضر، فلا يسمع بينته لأن القضاء على الغائب بالبينة باطل، وكان بمنزلة رجل قال: أنا أقيم البينة على غائب أن لي عليه دين حتى آخذه من وديعة له عند فلان، أو قالت المرأة: أنا أقيم البينة على أنها امرأة فلان لآخذ النفقة من مال له وديعة عند فلان، فإنه لا يسمع بينتها لأنها بينة قامت على الغائب، وليس عنه خصم حاضر فلم يسمع، فكذلك هذا، ولو كانت الدار في يدي ذي اليد بهبة صدقة أو بيع لم ينقد الثمن، فأقام هذا بينة أنه اشتراها من زيد قد دفعتها إليه، وأخذت منه الثمن للبائع لأنه ثبت شراء الخارج أولاً، ولم يثبت نقد الثمن، فكان للقاضي أن يستوفي الثمن للبائع لأنه ثبت شراء الخارج أولاً ولم (183أ4) يثبت نقد الثمن فكان للقاضي أن يستوفي الثمن للبائع؛ لأنه ثبت شراء الخارج أولالاً ولم يثبت نقد الثمن فكان للقاضي أن يستوفي الثمن منه نظراً للغائب، ولا يعطي ذا اليد من ذلك شيئاً؛ لأن ذا اليد موهوب له أو متصدق عليه أو مشتري لم ينقد الثمن، ولا يثبت لواحد من هؤلاء حق الرجوع على المالك عند الاستحقاق.

(9/55)


قال: وإذ باع الرجل جارية من رجل، ثم غاب المشتري، ولا يدري أين هو، فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي منه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة؛ لأنه يدعي حقاً على الغائب، وليس عنه خصم حاضر، ولأنه يجوز أن يكون غاصباً لهذه الجارية احتال بهذه الحيلة ليبرئ نفسه عن ضمانها وتسقط النفقة عن نفسه فلا يتعرض القاضي لما قاله البائع من غير بينة، ولأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي في هذا الحال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وأنه مما يخشى عليه التلف وعلى القاضي حفظ مال الغائب إذا كان يخشى عليه التلف فكان على القاضي أن لا يلتزم الحفظ إلا ببينة.
وهو نظير رجل جاء به إلى القاضي، وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي (أن) لا يصدقه إلا ببينة، كذا ههنا، قال: فإن أقام البينة على ذلك ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري بنقد الثمن على البائع، واستوثق من البائع بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان والقياس أن لا يسمع هذه البينة، ولا يبيع الجارية على المشتري، نص على هذا القياس والاستحسان في «الجامع الكبير» في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة.
وجه القياس في ذلك ظاهر إن هذا بينة قامت على إثبات حق على الغائب وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي فوجب أن لا تقبل قياساً على ما إذا كان يعرف مكان المشتري، وقياساً على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب لا يعرف مكانه لينزع شيئاً مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة وإنما تقبل هذه البينة لما قلنا.

وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره، واحتاج إلى أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما باقي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب ناظراً لإحياء حقوق الناس، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليدفع الضرر والبلية التي ابتلي بها البائع، لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه، بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع، بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري وإقامة البينة عليه، وبخلاف ما إذا ادعى حقاً على غائب لا يعرف مكانه وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينتزع شيئاً من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه، وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا تسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر، إلا أنا تركنا القياس فيها بإجماع العلماء على ذلك، فإنا والشافعي أجمعنا أن في هذه المسألة تسمع بينة البائع إذا كان لا يعرف مكان المشتري، وما ثبت بالإجماع بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والإجماع المنعقد في هذه المسألة لتندفع البلية التي

(9/56)


ابتلي بها البائع، وليس في قبولها إزالة يد الغائب عما في يده؛ لأن حق الغائب إنما يستوفى من الجارية التي في يده لو ادعى أنها له كان القول قوله لا يكون إجماعاً إذا قامت البينة على انتزاع مال في يد الغائب، وفي ذلك إزالة ملك البائع ويده حتى لو ادعى المدعي ذلك لنفسه لا يصدق في ذلك؛ لأنه ليس في يده؛ فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، فإنما استحسنوا إذا كان المدعي لا يدعي انتزاع شيء مما في يد الغائب وإنما يدعي إيفاء حقه من المال الذي في يده.
ثم إذا باع القاضي الجارية ذكر أنه يوفي البائع، وليس طريق الإيفاء أنه ثبت بما أقام البائع من البينة الدين على المشتري، ولكن طريقه أن في الإيفاء حفظ الثمن على الغائب؛ لأنه يصير مضموناً على القابض بالمثل، فيكون بمعنى القرض، وللقاضي أن يقرض مال الغائب لما فيه من زيادة حفظ ليس في الإيداع فكذا هذا، والدليل على أن البيع وإيفاء الثمن كان على سبيل الحفظ من القاضي لا على سبيل القضاء أنه لو فعل ذلك من غير بينة أقامها الحاضر بأن يعرف ذلك من الناس كان له ذلك؛ وكذا لو فعل القاضي ذلك بعد إقامة البينة، وجحد الشراء، وقال: الجارية جاريتي من الأصل يحتاج البائع إلى إقامة البينة ثانياً، ولو فعل القاضي ذلك على وجه القضاء صار الغائب مقضياً عليه بالشراء، ولو صار مقضياً عليه بالشراء لكان لا يلتفت إلى إنكاره بعد ذلك مع هذا صح إنكاره، عرف أن ما فعله القاضي فعله على سبيل الحفظ لا على سبيل القضاء، وللقاضي ولاية الحفظ في مال الغائب، ثم إذا باع القاضي الجارية وأوفى البائع حقه، فإنه يأخذ منه كفيلاً ثقة لجواز أنه آخذ الثمن من المشتري مرة، فمتى حضر المشتري احتاج إلى أن يرجع على البائع بالثمن وربما لا يجد البائع فيأخذ كفيلاً نظراً للمشتري، حتى إن تعذر عليه اتباع البائع اتبع الكفيل فيستوفي من الكفيل، ثم إن كان فيه وضيعة فعلى المشتري، وإن كان فيه فضل فللمشتري؛ لأن بيع القاضي وله ولاية البيع على المشتري من الوجه الذي ذكرنا كبيع المشتري، ولو أن المشتري باع الجارية بنفسه إن كان فيه وضيعة يكون على المشتري؛ لأن الدين على المشتري فكذا إذا باعه القاضي، وإن كان فيه فضل فله لأنه بدل ماله فيكون له، ثم وضع المسألة في الجارية ولم يضع في الدار، ويجب أن يقال بأنه في الدار لا يتعرض القاضي لذلك ولا يبيع الدار؛ لأن القياس أن لا يبيع الجارية على المشتري، وإنما يبيعها استحساناً إما لدفع البلية عن البائع وهو إسقاط النفقة عنه،

وإنما يحتاج إلى النفقة إذا كان حيواناً، أو للحفظ على الغائب وإنما يحتاج إلى الحفظ إذا كان المبيع شيئاً يخاف فيه التلف كالجارية ونحوها دون العقار، وإنها محصنة بنفسها، وإن كان يعرف مكان المشتري فإنه ليس للقاضي أن يبيع الجارية، وإن أقام البائع البينة على ذلك، فرق بين هذا وبينما إذا كانت الجارية آبقة فادعى الذي في يده الجارية أنها آبقة وأقام البينة على ذلك وطلب من القاضي بيعها، أو كانت وديعة أو ضالة كالبعير والبقر، وطلب من القاضي أن يبيع ذلك، أو يأمره بالنفقة على حسب ما يرى الأصلح للغائب، وأن القاضي يعرف مكانه، وإن كان القاضي لا يرجو قدومه عن قريب وخاف أنه

(9/57)


متى أمر الذي في يديه الجارية بالنفقة أنها تربى على قيمة الجارية يبيع الجارية، وذلك لأن نفقة الآبقة والوديعة على ربها، فمتى لم يبع أتى النفقة على جميع ماله فيهلك ماله وعلى القاضي أن يدفع الهلاك عن أموال الناس ما أمكنه، فكان النظر للغائب أن يبيع، وههنا النظر للغائب في أن لا يبيع حتى لا تزول العين من ملكه، لأن نفقة المبيع على البائع إلى أن يحضر المشتري فيقبض، وإذا هلكت كانت عليه فالنظر للغائب أن لا يبيع إذا كان يعرف، ولكن يأمره بطلب المشتري وهذا إذا جاء المشتري وأقر بذلك، فأما إذا أنكر الشراء احتاج البائع إلى إقامة البينة على المشتري ثانياً لأن البيع لم يثبت بما أقام من البينة؛ لأنه لم يكن عنه خصم (183ب4) حاضر.

قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كانت الدار في أيدي ورثة وأحدهم غائب، فادعى أحدهم أنه اشترى نصيب الغائب هل تقبل هذه البينة على بقية الورثة الذين في أيديهم الدار؟ فهذا على وجهين:
إما أن تكون بقية الورثة الذين في أيديهم الدار مقرين بنصيب الغائب، أو كانوا منكرين نصيب الغائب فإن كانوا مقرين بنصيب الغائب؛ فإنه لا يقبل بينته لأنها قامت على إثبات الشراء على الغائب وليس عنه خصم حاضر وإنما قلنا: ليس عن الغائب خصم حاضر، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً فيما يستحق للميت ويستحق عليه، فأما فيما يستحق على أحدهم لا ينتصب البعض عن البعض على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى: وإن كانوا منكرين يسمع هذه البينة، ويثبت الشراء على الغائب حتى لو حضر لا يكلف المدعي إعادة البينة؛ لأنه أقام البينة على الغائب في إثبات الشراء وعنه خصم حاضر جاحد، فسمع هذه البينة كما لو كان الغائب وكله بالخصومة، وإنما قلنا ذلك، وذلك لأنه ادعى حقاً على الحاضر بسبب على الغائب، وقد جحد الحاضر ما ادعى المدعي وصح جحوده؛ لأن اليد له فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
كعبد قطع يد رجل، وادعى المقطوع يده أن مولاه أعتقه، وأنكر العبد ذلك انتصب خصماً عن المولى في إثبات العتق عليه؛ لأن المقطوعة يده ادعى حقاً على الحاضر وهو العبد بسبب على الغائب وهو الولي فانتصب الحاضر، خصماً عن الغائب فكذلك هذا.

قال محمد في «الزيادات» : رجل في يديه دار اشتراها رجل من غير ذي اليد بعبد وسلم العبد إليه، ثم خاصم المشتري صاحب اليد الدار فأخذها منه بهبة أو صدقة أو شراء أو وديعة أو غصب أو ما أشبه ذلك، فليس له على العبد سبيل؛ لأن في زعمه أن القبض مستحق له بجهة الشراء والمستحق بجهة نفع عن جهة المستحق، وإن أوقعه الموقع بجهة أخرى، فوقع هذا القبض بجهة الشراء وسلم الدار للمشتري بجهة الشراء، ولا يكون له على العبد سبيل، أورد هذه المسألة ليبين أن المشتري إذا وصل إلى المشترى يعتبر وصوله بجهة الشراء وصل إليه من جهة البائع أو من جهة غيره، فإن جاء صاحب اليد واسترد الدار من يد المشتري بأن كان في يد المشتري بسبب الغصب أو بسبب الوديعة فالمشتري يرجع على البائع بالعبد، فإن قيل: المستحق بالشراء أصل القبض لا إدامته وبالاسترداد تتقدم إدامة القبض لا أصله.

(9/58)


قلنا: بلى إلا أن قبض المشتري نقض بسبب سابق على عقده فارتفع قبضه من الأصل، وصار كأن لم يكن، ولو انعدم القبض من الأصل رجع المشتري على البائع بالعبد فهنا كذلك.

قال: ولو كان مكان الدار جارية اشتراها بالعبد فوصلت إلى يد المشتري بالأسباب التي ذكرناها، ثم هلكت في يده لا يكون له على العبد سبيل؛ لأنه قبضها بجهة المستحق، وتقرر القبض بالهلاك ولا يكون له بعد ذلك على العبد سبيل إلا في صورة وهو أن الجارية لو كانت غصباً في يد المشتري جاء ذو اليد وضمنه قيمتها بحكم الغصب كان له أن يرجع على البائع بالعبد؛ لأن أخذ القيمة كأخذ العين لكون القيمة بدلاً عن العين، ولو كانت الجارية قائمة في يد المشتري وأخذ صاحب اليد عينها أليس أن المشتري يرجع على البائع؟ فههنا كذلك، وكذلك لو كانت الجارية غصباً في يد المشتري فأبقت فجاء صاحب العبد، وضمن المشتري قيمتها رجع المشتري بالعبد على البائع لما قلنا، فإن عادت من الإباق عادت على ملك الغاصب وهو المشتري عرف ذلك من مذهبنا والعبد سالم للمشتري لا سبيل لبائع الجارية عليه؛ لأن القاضي نقض البيع بينهما حيث قضى له بالرجوع بالعبد، فلا يكون لبائع الجارية على العبد سبيل ينفي هذا القدر أن الجارية قد سلمت للمشتري إلا أنها سلمت له بحكم أداء الضمان لا بحكم البيع فلا يمنع ذلك سلامة العبد له.
رجل اشترى من آخر داراً بعبد، والدار في يدي غير البائع، وصاحب اليد يدعي أنها له فخاصم المشتري صاحب اليد، فلم يقض له بشيء، فطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد بينهما لعجز البائع عن التسليم إجابة إلى ذلك لما مر قبل هذا، فإن فسخ العقد بينهما وأمر البائع برد العبد على المشتري، ثم وصل الدار إلى يد المشتري يوماً من الدهر بسب من الأسباب فالفسخ ماض حتى لا يؤمر المشتري برد العبد على البائع، وإنما كان كذلك؛ لأن القاضي إنما فسخ العقد بينهما باعتبار عجز البائع عن التسليم، وبوصول الدار إلى يد المشتري بعد ذلك بسبب من الأسباب لا يتبين أن العجز لم يكن نافذاً وهل يؤمر المشتري بتسليم الدار إلى البائع لإقراره للبائع بالدار حين اشترى الدار منه؟ ينظر إن كان المشتري صرح بالإقرار له، ذكر ههنا أنه لا يؤمر فعلى رواية هذا الكتاب لم يجعل الإقدام على الشراء إقراراً يكون المشترى ملكاً للبائع، وذكر في «الجامع» أن الإقدام على الشراء إقرار بصحة الشراء، ولا صحة للشراء إلا بصحة البيع، ولا صحة للبيع إلا بملك البائع، فصار الإقدام على الشراء إقراراً بملك البائع من هذا الوجه.
وجه ما ذكر ههنا أن صحة الشراء لا تعلق لها بالملك لا محالة فإن الشراء كما صح من المالك يصح من غير المالك، إما بإنابة المالك كالوكيل والرسول، أو إنابة الشرع كالوصي، فلم يكن الإقدام على الشراء إقراراً بالملك لهذا.

والصحيح ما ذكر في «الجامع» أن الإقدام على الشراء إقرار بالملك للبائع على اعتبار «الأصل» لأن الأصل يصرف الإنسان لنفسه، لكن مع أن الصحيح ما ذكر

(9/59)


في «الجامع» لا يؤمر بتسليم الدار ههنا باتفاق الروايتين؛ لأن هذا ليس بإقرار مصرح، بل هو إقرار في ضمن الشراء، وقد انتقض الشراء ههنا، فينتقض ما ثبت في ضمنه، وليس كالإقرار المصرح؛ لأن الإقرار هناك حصل ابتداء لا في ضمن الشراء فانتقاض الشراء لا يوجب انتقاض الإقرار، فبقي كما كان.
فعلى قول هذا التعليل إذا استام عيناً من آخر واستباعه فلم يتفق بينهما بيع، ثم وصل إليه ذلك العين يوماً من الدهر يؤمر بالتسليم إلى الذي استامه واستباعه؛ لأن الإقرار هناك وإن حصل في ضمن الاستيام والاستباعة إلا أنه لم يرد عليهما نقض حتى ينتقض الإقرار الثابت في ضمنها فبقي الإقرار كما كان.
رجل اشترى من آخر داراً بعبد، وتقابضا، ثم استحق نصف الدار كان مشتري الدار بالخيار؛ لأنه تفرقت الصفقة عليه، وهذا التفرق أوجب عيناً في الباقي إذ الشركة في الأعيان عيب، فيكون له الخيار إن شاء أخذ بنصف العبد وإن شاء ترك، ولا يكون لمشتري العبد الخيار، وإن تفرقت الصفقة عليه ويعيب الباقي بعيب الشركة لأن هذا العيب إنما كان بسبب تدليس من جهته وهو بيع كل الدار مع علمه أنه لا يملك إلا النصف، فلا يبقى مستحقاً للنظر، وعلى هذا إذا استحق نصف العبد كان لمشتريه الخيار، فإن اختار أخذ نصف العبد بنصف الدار لا خيار لمشتري الدار لما قلنا.
وإن استحق نصف العبد ونصف الدار ذكر في «الكتاب» : أن كل واحد من المشتريين بالخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك لوجود علة الخيار في البدلين وهو الشركة، ولم يبين قدر المأخوذ وقدر المتروك، من أصحابنا من قال مشتري الدار (184أ4) بالخيار إن شاء أخذ ربع العبد بربع الدار، وإن شاء ترك.
ووجه ذلك: أنه استحق من كل واحد من البدلين نصفه إلا أن النصف المستحق من الدار لا يكون بإزاء النصف المستحق من العبد، وغير المستحق من الدار بإزاء غير المستحق من العبد، بل النصف الذي هو المستحق من الدار يقابله نصف العبد شائعاً من المستحق ومن غير المستحق، فيجعل الدار والعبد كل واحد منهما أرباعاً، فإذا استحق ربعا الدار يقابله من العبد ربع مستحق وربع غير مستحق، فإذا انفسخ العقد في الربع المستحق من العبد ينفسخ فيما يقابله من الدار وهو ربع الدار، فانفسخ العقد في ثلاثة أرباع العبد وفي ثلاثة أرباع الدار، وبقي العقد في ربع العبد وربع الدار، فلهذا قال: لأن كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ الربع بالربع وإن شاء ترك.
d

وبعض أصحابنا قالوا: كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ النصف بالنصف وإن شاء ترك؛ لأن كل واحد منهما باع ما يملك وما لا يملك فينصرف بيع كل واحد منهما إلى ما يملك طلباً للجواز، كعبد بين اثنين باع أحدهما نصفه ينصرف ذلك إلى النصف الذي هو ملكه، وطريقه ما قلنا، وإن لم يجز واحد منهما شيئاً حتى جاء المستحق بنصف العبد وسلم ذلك النصف إلى مشتري العبد بهبة أو صدقة تبطل خيار مشتري العبد؛ لأنه استحق جميع العبد بالعقد، وقد سلم له جميع العبد بالعقد نصفه من بائع العبد ونصفه من

(9/60)


المستحق، وقد بينا أن المستحق بجهة إذا وقع يقع عن جهة المستحق سواء وقع من جهة المستحق عليه أو من جهة غيره، ويكون الخيار لمشتري الدار إذا لم يسلم له جميع ما استحق من الدار.

الفصل السادس: في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاقوما يجب اعتباره في هذا الفصل وما لا يجب
استحقاق المبيع على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق، ولا يوجب نقضه في «ظاهر الرواية» وقد ذكرنا في كتاب البيوع أن استحقاق المشترى على المشتري يوجب الرجوع بالثمن على البائع إذا كان الاستحقاق بسبب سابق على الشراء لأن البيع معاوضة، وتنبني المعاوضة على التساوي والمساواة فيما قلنا، وإذا كان الاستحقاق بسبب متأخر عن البيع لا يوجب الرجوع بالثمن على البائع؛ لأن الواجب على البائع، إثبات يد المشترى على المشتري لإدامة يده لعجز البائع عن ذلك، وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: إذا ادعى المشتري استحقاق المشترى، وأراد الرجوع على البائع بالثمن لابد وأن يفسر الاستحقاق ويبين سببه لما ذكرنا أن الاستحقاق إنما يوجب الرجوع بالثمن على البائع إذا كان الاستحقاق بسبب متأخر عن البيع؛ ولأن دعوى الاستحقاق مطلقاً كما يحتمل دعوى الاستحقاق بسبب سابق على البيع بأن كان الاستحقاق بالنتاج أو بالملك المطلق يحتمل الاستحقاق بسبب الشراء من المشتري، ثم إذا بين سبب الاستحقاق وصح ذلك، وأنكر البائع البيع منه وأقام المشتري البينة على البيع قبلت بينته، وكان له الرجوع بالثمن، ولا يشترط حضرة المشتري لسماع هذه البينة عند بعض المشايخ، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، بل إذا ذكر سن العبد وصفاته وذكر مقدار الثمن كفاه؛ لأن العبد غير مقصود في هذه الدعوى وفي هذه الشهادة، فلا يشترط حضرته، وعلى هذا العبد إذا تداولته الأيدي وادعى حريته على المشتري الآخر، ورجع البعض على البعض لا يشترط حضرة العبد عند الرجوع بالثمن ويكفي أن يقول الشهود: إن العبد الذي أقام البينة

(9/61)


على حريته باعه هذا من هذا وعند بعضهم يشترط حضرته، ثم إذا قبل بينة المشتري ورجع المشتري على البائع بالثمن بقضاء القاضي، أراد البائع أن يرجع على بائعه بالثمن كان له ذلك، وإن زعم أنه ليس له حق الرجوع لما أنكر البيع إلا أن القاضي لما قضى عليه بالبيع بالبينة فقد رد زعمه والتحق بالعدم، ولو أبرأ البائع المشتري عن الثمن أو وهبه منه، ثم استحق المبيع من يد المشتري لا يرجع على بائعه بشيء؛ لأنه لا شيء له على بائعه، وكذلك بقية الباعة لا يرجع بعضهم على البعض، وإذا استحق المبيع من يد المشتري وهو لم يؤد الثمن أو أدى بعضه يجبر على أداء الثمن في الفصل الأول، وعلى أداء الباقي في الفصل الثاني، بخلاف ما إذا طعن المشتري بعيب حيث لا يجبر على أداء الثمن؛ لأن في فصل العبد لو دفع يسترد ثانياً لا محالة، وفي فصل الاستحقاق لا يسترد ثانياً لا

محالة لجواز أن القاضي عسى لا يقضي ببينة المستحق أو يجيز المستحق البيع، وإذا استحق من يد المشتري وأراد المشتري الرجوع بالثمن على بائعه، وأراه السجل فأقر بالاستحقاق، وقبل السجل أن يدفعه الثمن ثم إلى ذلك، فالقاضي يجبره على دفع الثمن ولو لم يقر بالاستحقاق ولكن وعد له دفع الثمن لا يجبر عليه فمجرد الوعد لا يلزم شيئاً، وإذا رجع المشتري على بائعه وصالحه البائع على شيء قليل كان للبائع أن يرجع على بائعه بجميع الثمن.

نوع آخر

اشترى رجل من آخر عبداً وباعه من غيره، ثم إن المشتري الأول اشتراه ثانياً ثم استحق الدار من يده رجع هو على البائع الأول، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله، وهذا الجواب إنما يستقيم على الرواية التي يقول فيها: إن القضاء بالملك للمستحق يوجب انفساخ البياعات، فخرج بيع المشتري الأول وشراؤه ثانياً من اثنين، فصار كأنه لم يبع من غيره، أما على «ظاهر الرواية» القضاء بالملك للمستحق لا يوجب انفساخ البياعات فيبقى بيع المشتري الأول وشراؤه ثانياً على حاله، فلا يكون له الرجوع على البائع الأول فيسمي المشتري الأول: زيداً ويسمي المشترى منه: جعفراً، فيرجع المشتري الأولى وهو زيد على بائعه وهو جعفر لأن جعفر بائعه في الكرة الثانية، ثم يرجع جعفر على زيد لأن زيداً بائعه في الكرة الأولى، ثم يرجع زيد على البائع الأول، وقيل: يجب أن يكون الجواب في الرد بالعيب نظير الجواب في الاستحقاق، حتى أن في مسألتنا أو وجد المشتري الأول وهو زيد بالدار عيباً قديماً بعدما باعه من جعفر، ثم اشتراه ثانياً من جعفر كان لزيد أن يرده على جعفر ثم يرده جعفر على زيد، ثم يرده زيد على البائع الأول، وهذا لأن حق الرد بالعيب وإن كان ينقطع العقد الذي جرى بين المشتري الآخر والبائع الآخر، فصار كأن لم يكن حتى لو كان الرد من المشتري الآخر بغير قضاء لا يكون لبائعه أن يرده على بائعه.

(9/62)


وفي شرح وكالة «الجامع» من تعليقي في باب قبل باب ما يكون وكالة في الطلاق على سبيل الاستشهاد: وقبضه رجل اشترى من رجل عبد وقبضه وباعه من غيره، وقبضه ذلك الغير، ثم اشتراه من ذلك الغير ثانياً، ثم اطلع على عيب به قد كان عند البائع الأول لم يرده على الذي اشتراه منه لأنه لا يفيد؛ لأنه لو رده عليه كان للمردود عليه أن يرده عليه في الحال، فلا يفيد الرجوع، ولا يرده على البائع الأول؛ لأن هذا الملك غير مستفاد من جهة البائع، فعلى قياس هذه المسألة يجب أن يقال في فصل الاستحقاق: إن زيداً لا يرجع على جعفر لأنه لا يفيد.
اشترى من آخر داراً وقبضها واستحقت من يده فقال المستحق للمشتري: خذ الثمن الذي دفعتها إلى (184ب4) البائع مني فأخذ ثم أراد المستحق أن يسترد ما دفع من المشتري هل له ذلك؟ فقد قيل: يجب أن لا يكون له ذلك على رواية، يقول فيها: إن بقضاء القاضي بالملك للمستحق تنفسخ البياعات المتقدمة؛ لأنه أدى دين البائع متبرعاً، لأن البيع السابق لما انفسخ بالاستحقاق وجب على البائع رد الثمن على المشتري، ومن أدى دين غيره متبرعاً لا يكون للمؤدي أن يرجع فيما أدى، وعلى ظاهر الرواية له أن يسترد ذلك، لأن على ظاهر الرواية لا ينفسخ البيع السابق بمجرد القضاء للمستحق، فلا يجب الثمن على البائع، فلا يصير مؤدياً دين البائع فلو أن المشتري رجع على البائع، وطالبه بالثمن، فقال المستحق للمشتري: خذ الثمن مني فأخذ ثم أراد المستحق أن يسترد منه ليس له ذلك باتفاق الروايات، ووجب الثمن على البائع فيصير المستحق قاضياً دين البائع على وجه التبرع فلا يكون له أن يسترده منه.

قال محمد في «الزيادات» : رجل اشترى من رجل عبداً، وقبضه، وضمن رجل للمشتري ما أدركه من رجل آخر وسلمه إليه، ثم باعه المشتري الثاني من رجل آخر وسلمه إليه، ثم استحق مستحق من يد المشتري الآخر بالبينة، وقضى القاضي بذلك يكون ذلك قضاء على المشتري الآخر وعلى الباعة جميعاً حتى لو أقام المشتري الآخر أو واحد من أن يرجع على بائعه بالثمن من غير أن يحتاج إلى إعادة البينة، وإنما كان كذلك؛ لأنه ثبت تلقي البعض عن البعض، والقضاء بالملك المطلق على ذي اليد بالبينة قضاء عليه وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته؛ لأن القضاء بالملك قضاء بالملك من الأصل، ولهذا يقضى للمستحق بالزوائد المتصلة والمنفصلة جميعاً.

والقضاء بالملك من الأصل على ذي اليد بالبينة قضاء عليه وعلى من تلقى ذو اليد الملك منه ضرورة أنه لو لم يجعل كذلك كان الملك باقياً في حق البائع عدماً في حق المشتري، ويستحيل أن يكون الملك من الأصل عدماً في حق المشتري ويكون باقياً في حق البائع، فصار كل واحد من الباعة مقضياً عليه ومستحقاً عليه، فلا تقبل بينة واحد منهم على المستحق بالملك المطلق، وكان لكل واحد منهم حق الرجوع على بائعه بالثمن لهذا، ولكن إنما يرجع كل مشتري على بائعه إذا رجع عليه مشتريه حتى لا يكون للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الآخر، ولا يكون للمشتري

(9/63)


الأول أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الآخر، ولا يكون للمشتري الأول أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري، وإنما كان كذلك؛ لأن بدل المستحق مملوك عندنا، فإن العقد على المستحق عندنا ينعقد لكنه موقوف على الإجازة، فلو رجع على بائعه بالثمن قبل أن يرجع عليه مشتريه يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وإنه لا يجوز، وكذلك لا يكون للمشتري الأول أن يضمن الكفيل بالدرك ما لم يرجع عليه؛ إذ ليس له ولاية تضمين الأصيل قبل أن يرجع عليه مشتريه، وما لم يجب على الأصيل لا يجب على الكفيل.
وهل يحتاج كل مشترٍ إلى إقامة البينة على الرجوع عليه إذا أراد الرجوع على بائعه؟ ينظر إن لم يعلم القاضي بالرجوع عليه بأن كان الرجوع عند قاض آخر يحتاج، وإن علم القاضي بذلك بأن كان الرجوع عند هذا القاضي لا يحتاج، وإن كان العبد لم يستحق ولكن أقام العبد بينة على المشتري الآخر على حرية الأصل، وقضى القاضي بها رجع كل واحد منهم على بائعه بالثمن قبل أن يرجع عليه مشتريه؛ لأن القضاء بالحرية يوجب انفساخ البياعات، وبدل الحر غير مملوك، ولو رجع على بائعه قبل أن يرجع عليه مشتريه لا يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وكذلك المشتري الأول يرجع على الكفيل قبل أن يرجع عليه؛ لأنه التزم ما على الأصيل، وقد تقرر الوجوب على الأصيل وثبت للمشتري الأول حق الرجوع عليه قبل أن يرجع عليه فكذا على الكفيل.

ولو لم يقم العبد البينة على حرية الأصل ولكن أقام بينة أنه كان عبداً لفلان منذ سنة أعتقه، أو أقام رجل بينة أن العبد كان له منذ سنة أعتقه، وقضى القاضي بذلك، وكان تاريخ العتق قبل تاريخ البياعات كلها يرجع كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه؛ لأن القضاء بالعتق سابق على البياعات يوجب بطلان البياعات، وبدل العتق ليس بمملوك، فلو رجع كل بائع على بائعه قبل أن يرجع عليه لا يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وكذلك إذا لم يعرف التاريخ؛ لأنه إذا لم يعرف التاريخ يجعل العتق مقارناً للشراء لأنهما حادثان، والحادثان إذا لم يعرف بينهما تاريخ جعلا متقاربين على ما عرف.

واقتران العتق بالشراء يوجب بطلان الشراء وكذلك لو أقام العبد البينة أنه كان عبداً لفلان منذ سنة دبره، وأقام رجل بينة على ذلك، أو كانت جارية أقامت بينة أنها كانت لفلان منذ سنة استولدها، وأقام رجل بينة على ذلك، وكان تاريخ هذه الأسباب قبل تاريخ البياعات كلها أو لم يعرف التاريخ أصلاً، وقضى القاضي بذلك، فهذا وما لو أقامت البينة على حرية الأصل أو على العتق سواء، يرجع كل واحد على مشتريه قبل أن يرجع عليه؛ لأنه ثبت لهما حق الحرية، وحق الحرية بمنزلة حقيقة الحرية.
طعن أبو حازم رحمه الله في فصل التدبير والاستيلاد وقال:

يجب أن يكون الجواب فيهما كالجواب في استحقاق الملك المطلق لا يرجع كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه؛ لأن العقد على المدبر وأم الولد منعقد، ولهذا نفذ البيع في المدبر بقضاء القاضي رواية واحدة، وفي أم الولد على إحدى الروايتين، وبدلهما مملوك، ألا ترى أن

(9/64)


المدبر يضمن بالغصب عند الكل وكذا أم الولد عندهما، والجواب أن العقد لا ينعقد عليهما مع التدبير والاستيلاد، ولا ينفذ البيع بقضاء القاضي مع التدبير والاستيلاد ولكن بقضاء القاضي لجواز بيع المدبر يتضمن فسخ التدبير أولاً، ثم البيع يلاقيه وهو قن وكذلك في أم الولد قضاء القاضي في القن، فأما مع التدبير والاستيلاد العقد لا ينعقد ولا ينفذ بالقضاء والبدل الذي شرط في العقد في مقابلتهما لا يملك، فصار فصل التدبير والاستيلاد نظير الحرية والعتق من هذا الوجه، وإن قامت البينة على العتق والتدبير والاستيلاد بتاريخ بعد البياعات كلها بأن أقام العبد والجارية بينة على المشتري الآخر أنه عبد فلان أو جارية فلان أعتقه استولدها بعد شراء المشتري الآخر، وأقام رجل بينة على ذلك وقضى القاضي بذلك، كان هذا والقضاء بالملك المطلق سواء؛ لأن كل عقد جرى كان منعقداً، والبدل الذي ذكر فيه كان مملوكاً بالقبض؛ لأن العتق المتأخر لا ينافي الملك المتقدم، ولو كان تاريخ العتق من العبد بين البياعات حتى وقع بعضها قبل العتق وبعضها بعد العتق، فما كان قبل العتق لا يرجع فيه كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه، وما كان بعد العتق يرجع فيه كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه اعتباراً للبعض بالكل.

نوع آخر
قال محمد في «الزيادات» : رجل اشترى من أخر جارية وقبضها، ثم جاء مستحق واستحقها من يد المشتري وقضى القاضي بذلك فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يستحقها ببينة وفي هذا الوجه يرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع استحق على المشتري بما هو حجة في حق الناس كافة فيظهر (185أ4) الاستحقاق في حق البائع كما يظهر في حق المشتري.
الوجه الثاني: أن يستحقها بإقرار المشتري، وفي هذا الوجه لا يرجع المشتري بالثمن على البائع لما عرف أن الإقرار حجة في حق البائع، فلا يثبت له حق الرجوع على البائع.
الوجه الثالث: أن يستحقها بنكول المشتري وفي هذا الوجه لا يرجع المشتري بالثمن على البائع، واعتبر نكوله بإقراره، وفرق بين هذا وبين الوكيل بالمبيع إذا رد عليه المبيع بالعيب بنكوله، فإنه يلزم الموكل واعتبر الرد عليه بنكوله بمنزلة الرد عليه بالبينة.
والفرق: وهو أن المشتري مختار في النكول إذا سبق منه ما يطلق له اليمن بكونها مملوكة، وهو الشراء فإن الشراء من أسباب الملك ولا ضرورة مع قيام الدليل فلم يكن مضطراً في النكول بل كان مختار فيه، فاعتبر نكوله بإقراره لهذا، أما في فصل الوكالة الوكيل مضطر في النكول إذا لم يسق بينة ما يطلق له اليمن بانتفاء العيب؛ لأن الذي سبق منه قبول الوكالة بالبيع، والإنسان كما تقبل الوكالة في السليم تقبل في المعيب، وكما يبيع السليم يبيع المعيب، وقد يبيع الإنسان مال نفسه فلا يعلم قيام العيب به فكيف يعلم الوكيل فكان مضطراً في النكول منه بمنزلة البينة حتى لو أقر بالعيب فرد عليه بإقراره لا

(9/65)


يلزم الموكل؛ لأنه مختار في الإقرار؛ لأنه يمكنه أن يسكت حتى يعرض عليه اليمين فينكل فينقضي عليه بنكوله، فإن قال المشتري بعدما أقر أو نكل: أنا أقيم البينة على أن الجارية ملك المستحق يريد به الرجوع بالثمن على البائع لا تسمع بينته وإنما لا لوجوه ثلاثة:

أحدها: أن البينة إنما تسمع إذا ترتبت على دعوى صحيحة والدعوى هنا لم تصح لمكان التناقض؛ لأنه حصل مقراً أن الملك للبائع مقتضى إقدامه على الشراء ولم يصر مكذباً فيما أقر فيصير بدعواه أنها ملك المستحق متناقضاً.
والثاني: أن هذه البينة قامت على إثبات ما هو ثابت، وهو ملك المستحق، فإن ملك المستحق ثابت بإقراره أو بنكوله وإثبات الثابت لغو.
والثالث: أنها قامت من غير خصم؛ لأن المشتري ليس بخصم عن المستحق في إثبات الملك له؛ لأن المستحق لا يصلح خصماً في ذلك بنفسه، وذكر في البيوع من «الإملاء» عن أبي يوسف: أن بينة المشتري للمستحق إنما لا تقبل حال غيبته؛ لأنه ليس بوكيل عنه حتى لو حضر المستحق وصدقه المشتري قبل بينة المشتري ويرجع بالثمن على البائع؛ لأن البينة قامت على إثبات الملك في حق البائع لم يكن ثابتاً؛ والبينة إذا قامت على إثبات ما ليس بثابت وجب قبولها، ولو أقام المشتري البينة على إقرار البائع أنها ملك المستحق قبلت بينته.

أما على المعنى الأول: لأنه لم يسبق بينة ما يجعله متناقضاً في دعوى إقرار البائع أنها ملك المستحق، وأما على المعنى الثاني: فلأنه بهذه البينة يثبت إقرار البائع أنها ملك المستحق وإقرار البائع لم يكن ثابتاً، فهذه بينة قامت على إثبات ما ليس بثابت فقبلت، وأما على المعنى الثالث: فلأنه بهذه البينة يثبت إقراره ليرجع عليه بالثمن، وهو خصم في ذلك هكذا ذكر المسألة ههنا.
قالوا وذكر في «الجامع الصغير» : أن بينة المشتري على إقرار البائع أنها ملك المستحق لا تقبل، وليس في المسألة اختلاف الروايتين وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.
موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» : أنه أقام البينة على إقرار البائع بذلك قبلت البيع، ولو كان هكذا لا تقبل بينته؛ لأن إقدامه على الشراء ينفي إقرار البائع قبل البيع أنها للمستحق فيصير متناقضاً، والتناقض لا يصح دعواه ولا تسمع بينته.
وموضوع ما ذكر في «الزيادات» أنه أقام البينة على إقرار البائع بعد البيع، وإذا كان هكذا تقبل بينته؛ لأن إقدامه على الشراء ليس ينفي إقرار البائع بعد البيع أنها للمستحق، فلا يصير متناقضاً فيقبل بينته، وإذ لم يكن للمشتري بينة يعني على إقرار البائع أن الجارية ملك المستحق، فقال القاضي: سأل البائع عن الجارية أهي ملك المستحق أم لا؟ سأل القاضي وهذا لأن المشتري يزعم أنه مظلوم من جهة البائع، وأن له حق الرجوع بالثمن عليه بإقراره، فسأله القاضي إزالة الظلم عنه، فإن أقر لزمه الثمن لإقراره بحق الرجوع

(9/66)


عليه، وإن أنكر فطلب من القاضي أن يحلفه أجابه إلى ذلك لأن الاستحلاف ههنا يفيد، فإنه لو استحلف ربما ينكل فيصير مقراً.
ولو لم يستحق الجارية أحد، ولكن ادعت أنها حرة الأصل، فأقر المشتري بذلك، أو أبى اليمين، وقضى القاضي بحريتها لا يرجع بالثمن على البائع، أما إذا أقر فلأنه حجة قاصرة، وأما إذا نكل فإن نكوله بمنزلة الإقرار من مشايخنا قال: قوله: أو أبى اليمين، غلط من الكاتب؛ لأن أبا حنيفة لا يرى الاستحلاف في الرق، والدعوى ههنا دعوى الرق؛ لأنها تزعم أنها حرة الأصل وهما وإن كانا يريان الاستحلاف في دعوى الرق لكن في هذه الدعوى اليمين عليها لأنها تنكر للرق، فلا معنى لقوله في «الكتاب» : وأبى المشتري اليمينز

ومنهم من قال: لا بل ما ذكر صحيح؛ لأنه تقدم منها ما هو نظير الإقرار بالرق، فإن موضوع المسألة فيما إذا بيعت وسلمت وانقادت لذلك فلا يقبل قولها في دعوى الحرية بعد ذلك، فإن قبول قولها باعتبار شهادة الظاهر، وفي هذه الصورة الظاهر لا يشهد لها، وكان دعواها الحرية ههنا بمنزلة دعوى العتاق العارضي ولو ادعت عتقاً عارضياً على المشتري أليس أنه يحلف عندهما؟ فههنا كذلك، فإن حضر البائع وأنكر ما قاله المشتري، فقال المشتري: أنا أقيم البينة على البائع أنها حرة الأصل قبلت بينته، فرق بين هذا وبينما إذا أقام المشتري البينة على ملك المستحق حيث لا تقبل بينته.

والفرق أما على المعنى الأول، فلأن المشتري وإن صار متناقضاً في هذه الدعوى، ولكن التناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية وعلى العتق على ما عرف.
وأما على المعنى الثاني: فلأنه بهذه البينة يثبت ما ليس بثابت وهو غصب البائع الثمن لأن الحرة لا تدخل تحت العقد أصلاً، ولا يجب في مقابلتها الثمن فهو بهذه البينة يثبت أنه قبض ماله بغير حق، وقبض مال الغير بغير حق غصب، أما في الاستحقاق فالمشتري ببينته يثبت أنه غصب البائع الثمن؛ لأنه يثبت أن ما أخذه البائع أخذ بغير حق، لأن بدل المستحق مملوك، ولكن يثبت الملك للمستحق ليثبت لنفسه حق فسخ هذا العقد، وفيما يرجع إلى الملك البينة قامت على إثبات ما هو ثابت.

وأما على المعنى الثالث: فلأنه يثبت ما هو سبب حقه وهو خصم فيه، ولو ادعى المستحق على المشتري أنها جاريته وأنه أعتقها أو دبرها أو استولدها، وأقر المشتري بذلك أو نكل لا يرجع المشتري بالثمن على البائع، لما ذكرنا، فإن أقام المشتري بينة على البائع، بذلك يرجع بالثمن على البائع، ينظر إن شهدت بينته بعتق مطلق أو بعتق مؤرخ بتاريخ قبل الشراء قبلت، ويرجع بالثمن لما قلنا: إن التناقض في هذا الباب لا يمنع سماع البينة؛ ولأنها قامت على إثبات ما ليس بثابت وهو غصب البائع الثمن على نحو ما بينا فقبلت، وأما إذا شهدوا بعتق مؤرخ بتاريخ بعد الشراء لو قبلت بينته لقبلت على الملك، والملك ثابت للمستحق بإقرار المشتري أو بنكوله، فقامت البينة على إثبات ما هو ثابت فلا تقبل.
h

(9/67)


نوع آخر
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : أيضاً، أمة في يد رجل يقال له (185ب4) عبد الله، فقال رجل يقال له: إبراهيم لرجل يقال له: محمد: يا محمد الأمة التي في يد عبد الله كانت أمتي بعتها منك بألف درهم، وسلمتها إليك ولم ينقد الثمن، إلا أن عبد الله غلب عليك وغصبها، منك، وصدقه محمد في ذلك كله، وعبد الله ينكر ذلك كله، ويقول: الجارية جاريتي، فالقول في الجارية قول عبد الله لكونه صاحب يد، ويقضي بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأنهما تصادقا على البيع والتسليم، وعلى أن عبد الله غصبها بعد البيع والتسليم، والثابت بتصادقهما في حقها كالثابت عياناً ولو عاين القاضي ذلك، أليس يقضى بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأن الواجب على البائع إثبات يد المشتري على المبيع، لا ابتدائية يده فكذلك ههنا.

فلو استحق رجل الأمة من يد عبد الله بعدما أخذ إبراهيم الثمن من محمد فأراد محمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وقال: الجارية التي بعتها مني ورد عليه الاستحقاق لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن القضاء بالاستحقاق على عبد الله اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد إنما يتعدى إلى غائب يدعي تلقي الملك من جهته، وذو اليد وهو عبد الله لا يدعي تلقي الملك من جهة محمد، فلم يصر محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، ولهذا لو أقام محمد البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم وهو يملكها قبلت بينته وقضي بالجارية له، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته وما لم يصر مقضياً عليه لا يرجع بالثمن على إبراهيم.
وكذلك لو كان الذي استحقها، استحقها بالنتاج بأن أقام البينة على أنها جاريته ولدت في ملكه، وقضى القاضي بها للمستحق لم يرجع محمد بالثمن على إبراهيم وإن ظهرت بينة المستحق أن إبراهيم باع جارية الغير؛ لأن القضاء بالاستحقاق اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد فلم يصر محمد مقضياً عليه.
بيانه: هو أن دعوى النتاج ههنا غير محتاج إليه؛ لأن المستحق خارج، ألا ترى أنه لو أقام المستحق البينة على الملك المطلق قبلت بينته، فسقط اعتبار دعوى النتاج وبقي دعوى الملك المطلق، وفي دعوى الملك المطلق، لا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله فكذا ههنا.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، وهو يملكها، كذا إنه يقضي بها لمحمد، ولو صار محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما قضى له.

فرع

على هذه المسألة للاستشهاد به فقال: لو أعاد المستحق البينة على محمد أنها أمته ولدت في ملكه قضي بها للمستحق، وترجحت بينته على بينة محمد؛ لأن بينة النتاج لا

(9/68)


يعارضها بينة الملك المطلق، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم في هذه الصورة؛ لأن محمداً صار مقضياً عليه بهذا القضاء، ولو لم يستحق الجارية أحد ولكن أقامت الجارية البينة على عبد الله أنها حرة الأصل، وقضى القاضي بحريتها رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن القضاء بالحرية، وبما ألحق بها قضاء على الناس كافة فصار محمد مقضياً عليه بذلك، وثبت الاستحقاق عليه، ولهذا لو أقام محمد البينة على الملك والشراء من إبراهيم لا تقبل بينته ولا يقضى له، ولو لم يثبت الاستحقاق عليه لثبت بنيَّة استحقاق المبيع على المشتري؛ بسبب سابق على الشراء يوجب الرجوع على البائع بالثمن.
وكذلك لو أقامت البينة على عبد الله أنها كانت أمته أعتقها وقضى القاضي بذلك رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن دعوى الملك ههنا ليس بمقصود، وإنما المقصود دعوى العتق ودعوى الملك لكونه وسيلة إلى العتق، ولما كان المقصود دعوى العتق، وليس بعض الأوقات للقضاء فيه بالعتق بأولى من البعض، لما أنها لم تعين وقتاً في الدعوى كان هذا والقضاء بحرية الأصل سواء.
وكذلك لو أقامت البينة على عبد الله أنها كانت أمته دبرها أو استولدها، كان الجواب كما قلنا، لأن الثابت بالتدبير والاستيلاد حق العتق، فيكون ملحقاً بحقيقة العتق، ولهذا لا يحتمل النقض والفسخ، فصار دعوى الاستيلاد والتدبير كدعوى حقيقة العتق، وهذا إذا أقامت البينة على الإعتاق والتدبير والاستيلاد من غير تاريخ.

فأما إذا أرخت إن أقامت البينة على أن عبد الله ملكها منذ سنة، وأعتقها أو دبرها أو استولدها وقضى القاضي بذلك، فإنه ينظر إلى تاريخ العقد الذي كان بين إبراهيم ومحمد، فإن كان منذ سنة أو أقل من ذلك يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، لأن ملك عبد الله صار مؤكداً بالعتق أو بما ألحق بالعتق، والملك المؤكد بالعتق أو بما ألحق بالعتق مع الملك الخالي عن العتق أو عما ألحق بالعتق إذا اقترنا، كان الملك المؤكد أولى بالإثبات لقوة فيه؛ فإذا استويا في التاريخ وصار المؤكد بالعتق أولى كان من ضرورته بطلان شراء محمد من إبراهيم، هو كذلك إذا كان تاريخ العقد الذي جرى بين محمد وبين إبراهيم أقل من سنة عن طريق الأولى.
أو يقول: بأن العتق الموقع يبقى ملكاً مقارناً وملكاً متأخراً عنه، لأن العتق إبطال الملك، ولا يتصور اقتران الملك بما يبطله ولا يتصور بعده أيضاً، وإن كان تاريخ العتق الذي جرى بين محمد وإبراهيم منذ سنتين لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم إذ ليس من ضرورة ملك عبد الله، وإن صار مؤكداً بالعتق بطلان شراء محمد من إبراهيم، فلا نثبت له حق الرجوع على إبراهيم.

ولو أن الجارية أقامت البينة على عبد الله أنه كاتبها، وقضى القاضي بذلك لا يرجع بالثمن على إبراهيم؛ لأن عقد الكتابة حق العبد، وإنه معاوضة كسائر المعاوضات، ولهذا يحتمل النقض والفسخ من جهة المتعاقدين فأشبه البيع.

ولو أقامت البينة على البيع من عبد الله، وقضى بها للمستحق لم يكن لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم كذا ههنا،

(9/69)


قال في «الكتاب» : إلا إذا أدت بدل الكتابة وعتقت فحينئذ يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن القضاء بالكتابة عند الأداء قضاء بالعتق، فنفذ على الناس كافة، فصار محمد مقضياً عليه، فيرجع بالثمن على إبراهيم، ولهذا لو أقام محمد بينة أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، إن كان قبل أداء بدل الكتابة تقبل، وإن كان بعد أداء بدل الكتابة لا تقبل.
وإن أقر عبد الله أنه اشتراها من محمد بمئة دينار وقبضها ونقده الثمن، وصدقه محمد في ذلك، فهذا على وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يتصادقا عليه ثم استحقت الجارية من يد عبد الله.
الوجه الثاني: أن يتصادقا عليه بعدما استحقت الجارية من يد عبد الله.
الوجه الثالث: أن يقرّ عبد الله بالشراء من محمد، ومحمد كان غائباً أو حاضرا، فلم يصدقه ولم يكذبه حتى استحقت الجارية من يد عبد الله، ثم صدقه محمد فيما قال.
ففي الوجه الأول يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن عبد الله مع محمد تصادقا على الشراء في زمان يملكان استئناف الشراء فانتفت التهمة فيصح التصادق، وصار البيع بإثباته حسب ثبوته بالمعاينة، ولو ثبت البيع بينهما عياناً ثم استحقت رجع عبد الله على محمد ورجع محمد على إبراهيم، وصار القضاء على عبد الله قضاء على محمد؛ لأن عبد الله يدعي تلقي الملك من جهة محمد، وإذا صار محمد مقضياً عليه يرجع بالثمن على إبراهيم ضرورة، بخلاف مسألة هذا النوع؛ لأن هناك عبد الله لم يتلقَّ الملك من جهة محمد، فلا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما مر، أما ههنا بخلافه.

وفي الوجه الثاني: يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ولا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن التصادق وجد في حال لا يملكان (186أ4) استئناف الشراء؛ لأن المانع من الاستئناف قد تحقق، فكان هذا تصادقاً في موضع التهمة فصح عليهما حتى كان لعبد الله أن يرجع بالثمن على محمد، ولم يصح على غيرهما حتى لم يكن لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم.
وكذلك الجواب في الوجه الثالث: يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ولا يرجع بالثمن على إبراهيم، فلم يعتبر التصديق ههنا مستنداً إلى وقت الإقرار، إذ لو اعتبر لظهر أن التصادق كان قبل الاستحقاق، وكان ينبغي أن يكون نظير الوجه الأول.

واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: التصديق إنما يستند إلى وقت الإقرار، إذا بقي الإقرار أما إذا بطلت فلا، وههنا قد بطل ذلك الإقرار. بيانه هو: أن الاستحقاق بالبينة على عبد الله يفتقر إلى قضاء القاضي، وقضاء القاضي بالملك للمستحق يوجب تكذيب عبد الله في إقراره، فكيف يستند التصديق إليه وقد بطل نفسه؟ إلا أن بعد الاستحقاق ثابت على إقراره، فيستند التصديق إلى هذا الإقرار القائم للحال، فصار كأنهما تصادقا بعد الاستحقاق، فكان نظير الوجه الثاني لهذا.

(9/70)


وبعضهم قالوا: بأن محمداً متّهم في التصديق بعد الاستحقاق؛ لأنه قصد به إثبات حق الرجوع لنفسه على إبراهيم، فلا يصح تصديقه فيما يرجع إلى الإسناد وصار في حق الإسناد كان التصديق منه لم يوجد، ولو لم يوجد منه التصديق أصلاً لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأنه لا يصير مقضياً عليه، ألا ترى أنه لو لم يصدق وأقام البينة على أنها أمته اشتراها من إبراهيم قضي بها على المستحق، فدل أنه لا يصير مقضياً عليه قبل التصديق فكذا إذا تقدم التصديق ما لم يصر مقضياً عليه لا يرجع بالثمن على إبراهيم، فقال محمد: أنا أقيم البينة على إبراهيم، قبلت بينته؛ لأن هذه بينة قامت من خصم على خصم، لأن بيع محمد من عبد الله سبب لثبوت حق الرجوع لمحمد على إبراهيم فصار محمد خصماً في إثبات هذا البيع وصار إبراهيم خصماً في إنكاره ودفعه، فقبلت بينته، وإذا قبلت البينة صار الثابت بها كالثابت عياناً، ولو عاينا يقع محمد من عبد الله، والباقي بحاله كان لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم كذا ههنا.
وكذلك لو أقام محمد بينة أنه صدق عبد الله في دعواه الشراء منه قبل استحقاق الجارية من عبد الله قبلت بينته، ورجع محمد بالثمن على إبراهيم اعتباراً للتصادق الثابت بالبينة بالثابت عياناً.

ولو تصادق محمد وعبد الله على أن محمداً وهب الجارية من عبد الله، وسلمها إليه فهو على وجوه ثلاثة: على نحو ما ذكرنا في الشراء، ففي الوجه الثاني والثالث: لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، وفي الوجه الأول: يرجع، وكان ينبغي أن لا يرجع لأن في فصل الشراء لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم ما لم يرجع عبد الله بالثمن على محمد؛ وههنا لا يرجع عبد الله على محمد أصلاً، فكيف يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؟ ولكن الوجه في ذلك أن يقال: بأن في فصل الشراء رجوع عبد الله بالثمن على محمد ما شرط ليصير محمد مقضياً عليه؛ لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء عليه، وعلى من تلقى الملك من جهته وقد ثبت تلقي عبد الله الملك من جهة محمد، فصار محمد مقضياً عليه ولكن إنما شرط باعتبار أن بدل المستحق مملوك العاقد، فلو رجع محمد بالثمن على إبراهيم قبل أن يرجع عبد الله على محمد بالثمن يجتمع الثمنان في ملك محمد بدلاً عن ثمن واحد، وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه، هذا المعنى معدوم في الهبة والصدقة، فكان لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وإن لم يكن لعبد لله أن يرجع بالثمن على محمد.

رجل اشترى من آخر، كرماً اشترى الأرض والنخيل جميعاً وقبضهما، ثم استحقت العَرَصَةُ وحدها كان للمشتري أن يرد الأشجار على البائع، ويرجع عليه بجميع الثمن. ومثله لو اشترى حماراً مع بردعته اشترى الحمار والبردعة جميعاً وقبضهما، ثم استحق الحمار دون البردعة ليس للمشتري أن يرد البردعة، ويرجع على البائع بجميع الثمن، بل يمسك البردعة بحصتها من الثمن.

(9/71)


والفرق: أن في فصل الكرم اشترى الأشجار النامية والمثمرة، وبعد استحقاق العَرَصَةُ يؤمر المشتري بقلع الأشجار، وبالقلع يخرج عن حد الثمر ويصير حطباً، وهذا عيب فاحش فيثبت للمشتري حق الرد، هذا المعنى لا يتأتى في فصل البردعة؛ لأن باستحقاق الحمار لا تصير البردعة شيئاً آخر، ولا يخرج الانتفاع الذي اشتراها لأجله فلهذا افترقا.
أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن، وأدَّى المشتري الثمن إلى المحتال له، ثم استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟ ذكر في «مجموع النوازل» عن الشيخ الإمام شيخ الإسلام السغدي: أن المشتري يرجع على البائع، قيل له: فإن لم يظفر المشتري بالبائع هل يرجع عل المحتال له؟ قال: لا.
وإذا اشترى شيئاً من الوكيل فاستحق المشترى من يد المشتري، فعند الاستحقاق يرجع المشتري بالثمن على الوكيل إن كان المشتري إن كان دفع الثمن إلى الوكيل، وإن كان دفع الثمن إلى الموكل يقال للوكيل: طالب الموكل بالثمن وحده وادفعه إلى المشتري، وتفاوت بين الصورتين، إنه في الصورة الأولى يطالب الوكيل بنقد الثمن من مال نفسه، ولا ينتظر أخذه من الموكل، وفي الصورة الثانية ينتظر أخذه من الموكل، وفي «الجامع» أن المشتري بالخيار إن شاء رجع على القابض، وإن شاء رجع على الآمر.
اشترى شيئاً وقبضه واستحق من يده، ثم فصل إلى المشتري يوماً مالاً، يؤمر بالتسليم إلى البائع؛ لأنه وإن حصل مقراً بالملك للبائع لكن مقتضى الشراء (القبض) ، وقد انفسخ الشراء بالاستحقاق فينفسخ الإقرار لا جرم لو أقر نصاً أنه ملك البائع ثم وصل إليه يوماً يؤمر بالتسليم على بائعه؛ لأن إقراره بالملك له لم يبطل.

في «شرح قسمة شيخ الإسلام» رحمه الله، في باب الميت عليه دين، وفي الباب الرابع عشر بعد المئة من «الزيادات» ، وفي الباب الرابع في دعوى «الجامع» لشيخ الإسلام رحمة الله عليه: اشترى عبداً أقر أنه ملك البائع وتقابضا، ثم استحق من يده بالبينة يرجع على البائع بالثمن، وليس للبائع أن يقول للمشتري: إنك أقررت أنه ملكي، ومن زعمك أن المستحق غاصب، فلا يرجع علي كما لو غصب منك حقيقة، لأن المشتري يقول: إنما أقررت لك بالثمن بشرط أن أملك المبيع ظاهراً وباطناً، وقد نفذ على القضاء ظاهراً، وإذا صار العبد ملكاً للمستحق ظاهراً لا يبقى الثمن لك ملكاً ظاهراً، وإن بقي لك ملكاً باطناً حتى يستوفي قضية للعقد الموجب للتساوي بخلاف الغصب، لأن الغصب لا يزيل ملك المغصوب ظاهراً، كما لا يزيله من حيث الباطن.

وفي «المنتقى» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا استحق المشترى من يد المشتري وأراد أن يرجع بالثمن، فقال البائع للمشتري: قد علمت أن الشهود شهدوا بزور فإن المبيع لي، فقال المشتري: أنا أشهد لك أن المبيع لك وإن الشهود شهدوا بزور، فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن مع هذا الإقرار قال: لأن المبيع لم يسلم له، فلا يحل للبائع أخذ الثمن، وقد استحق المبيع من يد المشتري.

(9/72)


وفي «النوادر» لابن سماعة عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية وقبضها، ثم جاء رجل وادعاها، وأقر المشتري أنها لهذا المدعي، فأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن، فقال البائع للمشتري: إنما كانت هي للمدعي؛ لأنك وهبتها له فالقول قوله، ولا يرجع المشتري عليه بالثمن.
استحق حماراً من يدي رجل ببخارى وقبض المستحق عليه، ووجد بائعه بسمرقند فقدمه إلى القاضي بمصر سمرقند فأراد الرجوع (186ب4) عليه بالثمن، وأظهر سجل قاضي بخارى، فأقر البائع بالبيع، ولكن أنكر الاستحقاق، وكون السجل، سجل قاضي بخارى، فأقام المستحق عليه بينة أن هذا سجل قاضي بخارى لا يجوز لقاضي سمرقند أن يعمل به، ويقضى للمستحق عليه بالرجوع بالثمن ما لم يشهد الشهود أن قاضي بخارى قضى على المستحق عليه بالحمار الذي اشتراه من هذا البائع وأخرجه من يد المستحق عليه، وهذا لأن الخط يشبه الخط، فلا يجوز الاعتماد على نفس السجل بل يشترط أن يشهدوا على قضاء القاضي، وعلى قصر يد المستحق عليه.
في شهادات «المنتقى» : استحق حماراً بشهادة شاهدين عدلين عدلهما الشهود عليه، قال: أسأل عن الشاهدين إن زكيا رجع المشهود عليه على البائع بالثمن بمنزلة الإقرار.

نوع آخر في استحقاق المبيع وقد كفل بالثمن كفيل بأمر

مسائل هذا الفصل مبنية على معرفة الكفالة بحق عن الغير، وعلى معرفة قضاء الدين عن الغير، فنقول: الكفيل بعقد الكفالة بضم ذمته إلى ذمة الأصيل ليحمل ما على الأصيل؛ لأن الكفالة مشتقة من الضم، ثم قضاء الكفيل بعد ذلك لإسقاط ما يحمل الكفيل والقاضي الدين عن الغير يقيم ماله مقام الأصيل في إسقاط ما على الأصيل من الدين، فمتى كانت الكفالة والقضاء بأمر الأصيل صار كل واحد منهما * أعني الكفيل والقاضي * مقرضاً ما يلاقيه يصرفه بمن عليه، فالقاضي للدين يصير مقرضاً ماله الذي أدى به دين من عليه؛ لأن المديون لما أمر بقضاء الدين عنه فقد جعله نائباً عن نفسه في القضاء بما يؤدي إلى صاحب الحق، وإنما يصير نائباً إذا صار المؤدى ملكاً للآمر بالإقراض، وهو معنى قولنا: إن المأمور بقضاء الدين يصير مقرضاً ما وقع به القضاء من الأمر، والكفيل يصير مقرضاً ذمته من الأمر في الالتزام ما عليه، لأن الأمر بالكفالة أمر بالتزام ما في الذمة وحق الكفيل مقام المال في حق المأمور بقضاء الدين، وهذا لأن ذمة الكفيل تصير مشغولة بما على الأصيل، وإنما تصير مشغولة بذلك إذا صارت ذمة الكفيل كذمة الأصيل بالإقراض، فكان في معنى الإقراض من هذا الوجه، ومتى كانت الكفالة وقضاء الدين بغير أمر من عليه صار الكفيل والقاضي متبرعاً، فيعتبر في حق الأصيل كأن صاحب الدين أبرأه بغير قبض، ويعتبر في حق الكفيل والقاضي هذا أداء المال والتزامه بمقابلة إسقاط المال من الغير، والتزام المال وأداؤه بمقابلة إسقاط المال عن غيره كالفضولي يصالح صاحب المال على مال نفسه، يعتبر ذلك في حق صاحب المال كأنه

(9/73)


أبرأه من غير قبض ويعتبر في حق المصالح التزام المال وأداؤه بمقابلة إسقاط المال عن الغير.

جئنا إلى المسائل، قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم، وكفل عن المشتري بالثمن كفيل بأمر المشتري، ونقد الكفيل للبائع الثمن، ثم غاب الكفيل واستحق العبد من يد المشتري، أو وجد حراً أو مكاتباً أو مدبراً، أو كاتب جارية فوجدها أم الولد، فأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن. قال: ينظر إن كان الكفيل قد رجع على المشتري بما نقده للبائع كان للمشتري أن يرجع على البائع؛ لأن المشتري في هذا الوجه قام مقام الكفيل؛ وقد كان للمكفول أن يرجع على البائع بما نقد له من الثمن، فكذا لمن قام مقامه أو نقول: الكفيل لما رجع على المشتري وأخذ منه ما نقد صار المنقود ملكاً للمشتري، فكان للمشتري أن يرجع على البائع بذلك عند عدم سلامة المبيع له، وإن كان الكفيل لم يرجع على المشتري بما نقد للبائع لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن؛ لأن في هذه الصورة، المشتري ما قام مقام الكفيل، ولم يملك المنقود لو رجع رجع بحكم أن نقد الكفيل جعل كنقد المشتري.
وبظهور هذه الأسباب يتبين أن نقد الكفيل لم يجعل كنقد المشتري؛ إذ تبين أن الثمن لم يكن واجباً على المشتري، وأن الكفالة وقعت باطلة، ولأن في هذا الرجوع قطع خيار الكفيل إذا حضر، فإن الكفيل إذا حضر يتخير بين أن يرجع على المشتري بما نقد وبين أن يرجع على البائع، لما يتبين بعد هذا، وبعد ما رجع المشتري على البائع بالثمن لا يبقى للكفيل هذا الخيار، وليس للمشتري أن يقطع على الكفيل خياره.

ثم إذا حضر الكفيل فإن شاء رجع على البائع بما نقد، وإن شاء رجع على المشتري؛ لأنه وجد في كل واحد منهما ما هو سبب الضمان في حق الكفيل، أما البائع فلأنه قبض مال الكفيل بحكم الكفالة الباطلة؛ لأنه بظهور هذه الأسباب تبين أن الثمن لم يكن واجباً على الأصيل، والكفيل يتحمل عنه أو نقول الكفيل قضى ديناً على ظن أنه عليه، وتبين أنه ليس عليه، فكان له أن يرجع بما قضي على القابض، وأما المشتري فلأن المشتري لما أمره بالكفالة عنه بالثمن فقد أمره بأن يقضي دينه بشرط الضمان بالقضاء إن لم يصح؛ لأنه ظهر أن الثمن لم يكن واجباً، نفى الأمر بالدفع بشرط الضمان، كأنه قال: لم أدفع إلى فلان ألف درهم على أني ضامن لك، أو نقول: لما أمره بالكفالة فقد ضمن له تسليم ما يؤدي من ملك نفسه لمنفعة له في ذلك، وهو براءة ذمته، فيثبت له حق الرجوع لما ضمن له كالمغرور يرجع على البائع بقيمة الأولاد؛ لأن البائع ضمن للمشتري سلامة الأولاد بما شرط عليه لنفسه من الثمن، فإن أخذ من البائع لم يرجع البائع على المشتري، وهذا ظاهر لأنه ظهر أن المشتري لم يملك المبيع، فلا يملك البائع الثمن عليه، وإن أخذ من المشتري رجع المشتري على البائع بما نقد الكفيل؛ لأن الكفيل لما رجع على المشتري صار المنقود ملكاً للمشتري، أو قام المشتري مقام البائع على ما ذكرنا.
s

(9/74)


وإن أراد المشتري بعدما حضر الكفيل اتباع البائع، وذلك قبل أن يختار الكفيل اتباع المشتري ليس له ذلك، وكان ينبغي أن يكون له ذلك؛ لأن الكفالة أن يطلب من استحقاق لما بينا، بقي الأمر بدفع مطلق إلى البائع صحيحاً صار دفع الكفيل كدفع المشتري بنفسه، وهناك الجواب كما قلنا، فهنا كذلك.

والجواب اختلفت عبارة المشايخ فيه. قال بعضهم: إنما لم يكن للمشتري؛ لأنه ثبت للكفيل الخيار على ما بينا، ولو ثبت للمشتري حق الرجوع على البائع يبطل خيار الكفيل؛ لأنه لا يمكن الكفيل بعد ذلك أن يبيع البائع ويأخذ منه ما دفع إليه لأنه يتضرر به البائع، لأنه بسبب قبض ألف درهم وأخذ ألفين وإنه مأمور إلا أن هذا العذر يشكل بالغاصب الاول، فإن له ولاية اتباع الثاني، ويأخذ منه عين ما أخذ الثاني منه إن كان قائماً، وقيمته إن كان هالكاً، ولم أجد بأن في تضمين الغاصب الأول للثاني إبطال ما ثبت للمالك من الخيار بين تضمين الأول وبين تضمين الثاني.

وبعضهم قالوا: إنما لا يرجع المشتري على البائع؛ لأنه لو رجع؛ إما أن يرجع بحكم أن البائع أزال يد المشتري عن المال الذي قبضه عن الكفيل بغير حق، أو لأن المنقود صار ملكاً للمشتري، لا وجه إلى الأول؛ لأن البائع ما أزال يد المشتري عما قبضه عن الكفيل؛ لأن ذلك لم يكن في يد المشتري، ولا وجه إلى الثاني لأنه بالاستحقاق بطلت الكفالة وبقي الأمر بمجرد الدفع إلى البائع بشرط الضمان إلا أن في الأمر بالدفع بشرط الضمان ما لم يرجع المأمور على الأمر بالضمان لا يصير المدفوع ملكاً للآمر، (187أ4) ولو لم يكن كفالة كان أمراً بقضاء الثمن، وباقي المسألة بحالها كان هذا بمنزلة الكفالة في جميع ما وصفنا؛ لأن بظهور هذه الأسباب تبين أن الثمن لم يكن واجباً، فيتبين أن الأمر بقضاء الثمن لم يصح، فكان هذا وفصل الكتابة سواء.
قال: ولو لم يكن مما ذكرنا من الأسباب في فصل الكفالة، لكن مات العبد قبل القبض، وكان الكفيل قد نقد الثمن وغاب، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن سواء رجع الكفيل على المشتري بما نقد أو لم يرجع.
فرق بين الهلاك وبين الاستحقاق فيما إذا لم يرجع الكفيل على المشتري بما نقد، فإن في فصل الاستحقاق المشتري لا يرجع على البائع، وفي فصل الموت يرجع، والفرق أن بهلاك العبد لا يتبين أن الثمن لم يكن واجباً، وأن الكفالة لم تكن صحيحة؛ لأن بهلاك العبد قبل القبض لا يفسد البيع من الأصل فحين أدى الكفيل الثمن إلى البائع أداه بحكم كفالة صحيحة، فكان ما قبض البائع مقبوضاً بحكم كفالة فاسدة، فكان للكفيل أن يرجع على البائع، وكان له أن يرجع على المشتري لما ذكرنا، ولأن في فصل الاستحقاق إنما لا يكون للمشتري الرجوع على البائع حال غيبة الكفيل؛ لأنه يوجب قطع خيار الكفيل، وهذا المعنى لا ينافي فصل الهلاك؛ لأنه لا خيار للكفيل ههنا على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن حضر الكفيل في فصل موت العبد، أو كان الكفيل حاضراً لم يكن للكفيل أن يرجع على البائع بالثمن.

(9/75)


فرق بين هذا وبين فصل الاستحقاق، والفرق ما ذكرنا: أن بالاستحقاق يظهر بطلان الكفالة فيظهر أن البائع قبض ما قبض من الكفيل بغير حق، فيكون للكفيل حق استرداد ما قبضه البائع، أما بهلاك العبد قبل القبض لا يظهر بطلان الكفالة، ولا يظهر أن البائع قبض من الكفيل ما قبض بغير حق، فلا يكون للكفيل حق استرداد ما دفع إليه، ولكن المشتري يرجع على البائع لما ذكرنا، ولو لم يمت العبد، ولكن انفسخ البيع فيما بينهما بسبب من الأسباب، فإن كان الانفساخ بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بالعيب بعد القبض بقضاء، أو قبل القبض بقضاء أو بغير قضاء أو الرد بخيار الرؤية أو بخيار الشرط كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا مات العبد قبل القبض لأن بهذه الأسباب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجباً، ولا يتبين أن الكفالة لم تكن صحيحة كما في هلاك العبد قبل القبض.

وكذلك لو كان المشتري أمر غيره أن ينقد الثمن عنه فنقد، ثم مات العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري، فإن المشتري هو الذي يرجع على البائع بالثمن في الأحوال كلها لما ذكرنا، وإن كانت الكفالة بغير أمر المشتري ثم انفسخ البيع فيما بينهما من كل وجه كان للكفيل أن يرجع على البائع بالثمن، وليس للكفيل على المشتري سبيل؛ لأن هذا في حق المشتري إبراء بغير عوض وفي حق الكفيل والبائع هذا إبراء بعوض، فإنما يسلم للبائع ما قبض من الكفيل إذا حصلت البراءة للمشتري بمقابلة العوض، وإذا انفسخ البيع بينهما لم تكن البراءة حاصلة للمشتري بمقابلة العوض، وهو الثمن الذي قبضه البائع بل كان الانفساخ السبب بينهما، وكان للكفيل أن يرجع على البائع بما أدى إليه، وإن انفسخ البيع بينهما بسبب هو فسخ فيما بين المتعاقدين، عقد جديد في حق الثالث نحو الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء ونحو الإقالة لا يكون للكفيل أن يرجع على البائع بشيء؛ لأن الكفيل ثالث المتعاقدين فيجعل في حق الكفيل كأن المشتري باعه بيعاً جديداً من البائع، ولما كان هذا بيعاً جديداً في حق الكفيل لا يتبين أن براءة المشتري عن الثمن لم تكن بمقابلة العوض، فلهذا لا يرجع الكفيل على البائع بالثمن، ولكن المشتري هو الذي يرجع على البائع بذلك؛ لأن المأتي به فسخ فيما بينهما فكانت براءة المشتري في حقهما حاصلة بانفساخ السبب لا حكماً للعوض، فيجب على البائع رد ما قبض، وسبب وجوب رد ما قبض انفسخ، والمشتري هو الذي باشر الفسخ، فيكون حق القبض للمشتري لمباشرته السبب، ويكون المقبوض للكفيل دون المشتري؛ لأن الكفيل إنما أدى بذلك لتحصل البراءة للمشتري بمقابلة هذا المؤدي، فإن كان المأتي به فسخاً في حق البائع والمشتري كان في زعمهما أن البراءة إنما حصلت للمشتري لا بمقابلة المؤدي حقاً للكفيل بزعمهما، فيعتبر في حقهما، فلهذا كان المؤدى للكفيل ولكن حق القبض للمشتري على ما مرّ.
ولو لم تكن كفالة، ولكن نقد رجل الثمن عن المشتري بغير أمر كان الجواب فيه في جميع ما وصفنا نظير الجواب في الكفالة إذا كانت بغير أمر المشتري، قال: ولو

(9/76)


كانت الكفالة بأمر المشتري، فصالح الكفيل البائع عن الثمن على خمسين ديناراً، كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالدراهم دون الدنانير لأن المقابلة بين الكفيل وبين المشتري في إقراض الذمة لالتزام الألف قد تمت؛ لكن شرط رجوع الكفيل على المشتري انقطاع حق البائع عن المشتري، وقد حصل ذلك بهذا القدر، ألا ترى أن الكفيل لو أدى للبائع زيوفاً بمقابلة العوض والثمن جياد وتجوز البائع بالزيوف كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالدراهم الجياد؟ فكذا ههنا يجب أن يرجع الكفيل على المشتري بالدراهم أيضاً.

فإن استحق العبد والكفيل غائب، ثم حضر كان له اتباع البائع بالدنانير، ولا سبيل للكفيل على المشتري، وفيما تقدم قال: للكفيل الخيار إن شاء طالب البائع، وإن شاء طالب المشتري. والفرق أن في ضمن الأمر بالالتزام بالكفالة أمر بالأداء وبالاستحقاق أن يطلب الكفالة في الوجهين إلا أن في الوجه الأول لم يبطل الأمر بالأداء، أما ههنا الأداء لم يكن بأمر المشتري؛ لأنه أدى غير ما أمر به يتعذر الرجوع بحكم الأمر، كما تعذر الرجوع بحكم الكفالة، فلهذا قال: لا يرجع الكفيل على المشتري، ولكن يرجع الكفيل على البائع؛ لأنه أعطاه الدنانير بحكم الصلح، وبالاستحقاق ظهر بطلان الصلح، ويستوي في هذا أن يكون الاستحقاق في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس، لأن المعنى لا يتفاوت.

وكذلك لو أن البائع باع الكفيل الدراهم التي كفل بها عن المشتري بالدنانير، ثم استحق العبد بطل البيع، وأراد محمد بهذه التسوية بين البيع والصلح التسوية بينهما بعد الافتراق عن المجلس، لأن ما جرى بينهما من البيع كان صرفاً، وبالافتراق عن المجلس قبل قبض بدل الصرف، فأما إذا استحق العبد، وهما في المجلس بعد يبطل البيع، أما لا يبطل الصلح.
والفرق بين الصلح والبيع أن ينبني الصلح على التجوز بدون الحق، وذلك إنما يكون باستيفاء بعض الحق وترك البعض، والدراهم والدنانير يتعينان في الاستيفاء فيتعينان في الصلح أيضاً؛ ولهذا لو صالح من الدراهم على ثوب بعينه، ثم تصادقا على أنه لا دراهم عليه يبطل الصلح، فأما البيع لا يتعلق بعين الدراهم المشار إليها وإنما يتعلق بمطلق الدراهم، وما دام المجلس قائماً يمكن دفع ألف درهم إلى صاحبها، فلا يبطل البيع، ولهذا لو باع من آخر دراهم في الذمة ثبوت بعينه، ثم تصادقا على أنه لا دراهم في الذمة لا يبطل البيع.
قال: ولو لم يستحق العبد ولكنه مات في يد البائع؛ فإن للمشتري أن يرجع على البائع بألف، ولا سبيل للكفيل على البائع؛ لأن بالموت لا يظهر أن الثمن لم يكن واجباً، فصار الكفيل بهذا البيع موفياً للبائع ألف (187ب4) درهم بطريق المقاصة؛ لأنه وجب للكفيل على البائع ألف درهم مثل ما كفل به؛ لأن عقد الصرف لا يتعلق بعين ذلك الدين، فصار للكفيل على البائع ألف درهم بعقد الصرف، وللبائع عليه مثله بحكم

(9/77)


الكفالة، فوقعت المقاصة، والإيفاء بالمقاصة كالإيفاء بالاستيفاء حقيقة، وهنا لا يكون للكفيل على البائع سبيل في هذا الوجه، وإنما السبيل للكفيل على المشتري وللمشتري على البائع كذلك ههنا.
وكذلك لو كان الكفيل صالح البائع على خمسين ديناراً؛ لأن الكفيل صار موفياً ألف درهم بالصلح، فصار الجواب فيه والجواب في البيع سواء إلا أن الفرق بين الصلح والبيع، أن في الصلح للبائع الخيار إن شاء رد خمسين ديناراً وإن شاء رد ألف درهم، وفي البيع يرد ألف درهم من غير خيار. والفرق ما ذكرنا أن يبنى الصلح على التجوز بدون الحق، والبائع إنما رضي بدون حقه ليصل إلى حقه من الدين لا لتلزمه الدراهم، فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه الدراهم كان له الخيار إن شاء أمضى الصلح وأعطى الثمن وذلك ألف درهم، وإن شاء أبطل الصلح، ورد ما قبض من الدنانير بخلاف البيع؛ لأن مبناه على المماكسة والاستيفاء، فصار البائع مستوفياً حقه، فلهذا لا يتخير في البيع بل يرد على المشتري الثمن وهو الدراهم، أما في الصلح بخلافه على ما مرّ.
ثم في الصلح إن اختار البائع رد الدراهم فالمشتري هو الذي يستوفيه؛ لأنه لما اختار رد الدراهم فقد أمضى الصلح وتعذر استيفاء الثمن، فعند انفساخ العقد بموت العبد قبل القبض يكون حق القبض للمشتري، كما لو استوفى البائع الثمن من الكفيل حقيقة، وإن اختار رد الدنانير، فالكفيل هو الذي يقبض ذلك لأن رد الدنانير إنما يكون بطريق فسخ الصلح، والكفيل هو الذي باشر الصلح معه فعند انفساخ الصلح حقه في الدنانير، فلهذا لم يكن له رجوع على المشتري.

ولو كان المشتري أمر رجلاً أن يقضي البائع عنه الثمن من غير كفالة، فباع المأمور من البائع خمسين ديناراً بالثمن يجوز، وكذلك لو صالح المأمور البائع من الثمن على خمسين ديناراً، وهذا لا يشكل في الصلح لأن الدين وإن لم يكن واجباً عليه، حتى لو امتنع عن القضاء بترك ذلك إلا أن المأمور بقضاء الدين وإنما يشكل في البيع، فإن الفضولي لو باع ماله بدين على غيره لا يجوز، فكذا المأمور بقضاء الدين لو باع ماله بالثمن الذي ليس عليه لا يجوز وهذا أفقه، أن الثمن إذا لم يكن واجباً على المأمور بقضاء الدين صار هو مملكاً الدنانير بالدراهم التي على غيره، وصار مشتري الدنانير مملكاً الدراهم التي هي ثمن له على مشتري العبد من غيره، وهو بائع الدنانير، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز.
والجواب وهو الفرق بين الفضولي وبين المأمور بقضاء الدين: أن عقد الدين لا يتعلق بذلك الدين في الأحوال كلها إلا أن البائع إذا كان فضولياً كان في هذا شرط تسليم الثمن على غير العاقد في هذا العقد وهو المشتري في العقد الأول، فإنه لو صح هذا العقد يجب على المشتري في العبد الأول تسليم الثمن الذي عليه إلى الفضولي.

قلنا: وشرط تسليم الثمن الذي عليه إلى الفضولي شرط تسليم الثمن على غير العاقد فيفسد العقد، فأما المأمور بقضاء الدين فلا يبيع ماله من البائع لاستيفاء الثمن عن

(9/78)


المشتري، وإنما يبيع حتى يجب على البائع الأول مثل ما كان له على المشتري الأول، ثم يجعل له قصاصاً بما عليه، فيتقدم الشرط الفاسد فيجوز، وإذا صح البيع وصلح الصلح من المأمور صار المأمور بمنزلة الكفيل في جميع ما وصفنا.

أو نقول: المأمور بقضاء الدين بمنزلة الفضولي من وجه من حيث إنه لم يجب للطالب عليه دين وبمنزلة المطلوب من حيث إنه أداء يجبر الطالب على القبول، فمن حيث إنه فضولي، إن كان لا يجوز هذا البيع فمن حيث إنه مطلوب يجوز فرجحنا ما يوجب الجواز احتيالاً للجواز بقدر الممكن، ولو كان الكفيل كفل عن المشتري بالثمن بغير أمره، ثم إن الكفيل صالح مع البائع على خمسين ديناراً من الثمن، أو باع منه خمسين ديناراً بالثمن، ثم مات العبد قبل القبض، أو استحق فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن المشتري لم ينقد الثمن بنفسه ولا نقد نائبه؛ لأن الكفالة كانت بغير أمر المشتري، ولكن الكفيل يرجع على البائع، ويتخير البائع في الصلح بين إعطاء الدراهم وبين إعطاء الدنانير؛ وفي البيع لا يتخير، والفرق قد مرّ قبل هذا.
ولو لم يكن كفالة ولا أمر بقضاء الدين ولكن جاء متبرع وباع دنانيره من بائع العبد بالثمن الذي له على المشتري أو صالح معه من الثمن على دنانيره من بائع العبد بالثمن الذي له على المشتري، أو صالح معه من الثمن على دنانيره، فالبيع باطل على كل حال لما فيه من شرط تسليم الثمن على غير العاقد، وإنه مفسد للبيع، وأما الصلح فإن كان شرط أن يكون الثمن الذي على المشتري للمتبرع يكون باطلاً؛ لأنه يصير بمعنى البيع، والصلح يحتمل معنى البيع فيصير هذا الصلح بحكم هذا الشرط والبيع سواء، وإن كان الصلح بشرط براءة المشتري من الثمن كان الصلح جائزاً، ويكون هذا تمليك العين بمقابلة الفراغ الذي يحصل لا لمن وجد منه التمليك، وإنه جائز كما في الخلع، وإن أطلق الصلح إطلاقاً ولم يصرح بالإبراء ولا بالتمليك يجوز؛ لأن الصلح يحتمل معنى الإبراء والإسقاط ويحتمل معنى التمليك، فعند الإطلاق يحمل على الإبراء والإسقاط تحرياً للجواز وطلباً للصحة، فإن استحق العبد كان على البائع رد الدنانير على المصالح، وإن مات العبد كان للبائع الخيار إن شاء رد الدنانير على الكفيل، وإن شاء رد عليه الدراهم لما مرّ.

رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم جياد، وكفل رجل عن المشتري بالثمن بأمر المشتري، ثم إن الكفيل أدى البائع الزيوف، وتجوز به البائع، فالكفيل يرجع على البائع بالجياد؛ لأن رجوع الكفيل على المشتري بحكم الالتزام بعقد الكفالة، فيرجع الملتزم وهو الجياد فإن لم يرجع الكفيل على المشتري حتى استحق العبد لا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن الكفيل لو أدى مثل الملتزم، وقد ذكرنا أن المشتري لا يرجع على البائع، وإن شاء رجع على المشتري وعلى أيهما رجع لا يرجع إلا بالزيوف.

أما إذا رجع على البائع فلأن رجوع الكفيل على البائع يعلمه أن بالاستحقاق يظهر أن البائع قبض ما قبض بغير حق، فيرجع بالمقبوض، وأما إذا رجع على المشتري فلأن

(9/79)


رجوع الكفيل على المشتري يعلمه أن المشتري أمره بالأداء، ضمن له سلامة المؤدى فيرجع بمثل المؤدى، هذا إذا أدى الكفيل أنقص مما التزم، وأما إذا أدى خيراً مما التزم لا يرجع الكفيل على المشتري إلا بالملتزم لأنه متبرع على المشتري بزيادة الجودة فيعتبر بما لو تبرع بزيادة العدد، وهناك لا يرجع على المشتري إلا بالملتزم، فهذا كذلك.
فإن استحق العبد من يد المشتري في هذا الوجه فالكفيل بالخيار إن شاء رجع على البائع وإن شاء رجع على المشتري، فإن رجع على البائع رجع بالمؤدى؛ لأنه ظهر أن البائع قبض ذلك بغير حق، وإن رجع على المشتري رجع بالملتزم لما مرّ أن رجوع الكفيل على المشتري باعتبار ما لحق الكفيل من الضمان بأمر المشتري، وضمان المشتري السلامة له، وذلك بقدر الملتزم، وإذا رجع على المشتري بالملتزم لما مرّ إن رجع المشتري على البائع بما أداه الكفيل من الجياد؛ لأن الكفيل لما أدى الجياد، فإنما تبرع بالجودة على المكفول عنه دون الطالب لأن الطالب في حق الأصيل يقبض حقه، فلا تكون الكفالة تبرعاً في حق الطالب، وإنما تكون تبرعاً في حق المكفول فكذا بالزيادة تكون تبرعاً على المطلوب، ولأن الكفيل لما رجع على (188أ4) المشتري، فقد قام المشتري مقام الكفيل في تلك المؤدى فيقوم مقامه في حق الرجوع على البائع بالجياد.
ولو لم يستحق العبد ولكن مات في يد البائع قبل القبض، وقد كان الكفيل أنقص مما التزم فلا سبيل للكفيل على البائع؛ لأن بموت العبد لا يتبين أن البائع قبض ما قبض من الكفيل بغير حق، ولكن يرجع على المشتري بألف درهم نبهرجة.

فرق بين هذا وبينما إذا سلم العبد للمشتري وقد أدى الكفيل أنقص مما التزم، فإن هناك الكفيل يرجع على المشتري بالملتزم، وهو أن البائع لما تجوز بالزيوف صارت صفة الجودة كأنها وهبت الكفيل، فتفسير ذلك بما لو وهب للكفيل كل الدين، وهناك عند سلامة العبد للمشتري يرجع الكفيل على المشتري بذلك، وعند انتقاض البيع لا يرجع، فكذا إذا وهب له صفة السلامة.
والفرق الفقهي بين الفصلين: أن البيع لما انتقض فقد برئ الأصيل عن الثمن وبراءة الأصيل عن الثمن يوجب براءة الكفيل، وبعدما وقعت البراءة للكفيل لا يتصور ملك ما في ذمته فيعتبر المؤدى بخلاف ما إذا تم البيع، ولو كان الكفيل أدى أجود ما التزم ثم مات العبد في يد البائع لم يكن للكفيل على البائع سبيل، ولكن يرجع الكفيل على المشتري بما كفل عنه، ويرجع المشتري على البائع بمثل الدراهم التي أعطى الكفيل البائع وهو الخيار.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو أمر رجلاً أن يعطي رجلاً عشرة دراهم عليه على أن يكون قرضاً على القابض للآمر ويكون قرضاً للمعطي على الآمر إن ذلك جائز؛ فإن أعطاه المأمور دراهم أجود من الدراهم التي أمره بها الآمر لم يكن للمعطي على الآمر إلا دراهم مثل الدراهم التي أمره بإعطائها، ويرجع الآمر على القابض بمثل ما أعطاه المأمور، فكذا فيما تقدم.

(9/80)


ولو كان المشتري أمر رجلاً أن ينقد عنه الثمن من غير كفالة، فنقد المأمور أفضل ما أمره لم يرجع على الآمر بمثل ما أمره به، وإن نقده أردأ مما أمره يرجع بمثل المؤدى؛ لأن ههنا الرجوع بحكم الآمر بالأداء، فلابد من اعتبار الأمر والأداء، ففي الوجه الأول: الأمر في حق الزيادة لم يوجد، وفي الثاني: الأمر إن وجد، فالأداء لم يوجد بخلاف الكفيل، فإنه إذا أدى أدى من الملتزم وتجوز به البائع يرجع على المشتري بالملتزم، لأن ثمة الرجوع بحكم إقراض الذمة والالتزام، وإقراض الذمة لالتزام الجيد قد تم أما ههنا بخلافه.
فإن استحق العبد يخير المأمور بين اتباع البائع وبين اتباع المشتري على ما مر في الكفيل، فإن رجع على البائع رجع بمثل المقبوض؛ لأنه بالاستحقاق تبين أنه قبض بغير حق، وإن رجع على المشتري يرجع بالمؤدى إن كان المؤدى أردأ مما أمر به، وإن كان أجود رجع بما أمر به، ثم المشتري يرجع على البائع بمثل ما أخذ من المأمور؛ لأن المأمور إنما تبرع بالجودة على المشتري لا على البائع، وقام المشتري مقام المأمور في ذلك، وقد ذكرنا نظير هذا فيما تقدم، ولو لم يستحق العبد ولكنه مات قبل القبض، فلا سبيل للمأمور على البائع، ولكن يرجع المشتري على البائع بما أدى إن كان المؤدى أردأ مما أمره به، وإن كان أجود يرجع بما أمره به. وشبه محمد رحمه الله هذا بفصل الإجارة.

ولو استأجر رجل من آخر داراً بمئة دينار، فلم يسكنها حتى أمره رب الدار أن يعطي رجلاً عشرة دراهم من أجرة الدار على أن يكون قرضاً لرب الدار على القابض، ثم انتقضت الإجارة بينهما بموت أحدهما فلا سبيل للمستأجر على المستقرض؛ لأن رب الدار يصير كالمستعمل لهذا القدر من الأجر، فعند انتقاض الإجارة يكون رجوعه على رب الدار لا على المستقرض، فبعد ذلك إن كان المستأجر نقد المستقرض أردأ من أجرة الدار رجع الآخر بما أعطى، وإن نقد أفضل لم يرجع على الآخر إلا بمثل ما أمره به، ويرجع الآخر على المستقرض بمثل ما قبض من المستأجر، فكذا فيما تقدم والله أعلم.

زوجان في دار، أقامت المرأة البينة أن الدار دارها غصبها منها زوجها، وأقام الزوج بينة أن الدار داره واشتراها منها قضي بالدار للمرأة، والدار في يد الزوج، فكانت المرأة خارجة فيقضى ببينتهما كذا أجاب أبو نصر الدبوسي، وقال أبو بكر العياضي: يقضى بالدار للزوج، فجعل كأن الزوج غصبها أولاً ثم اشتراها منها بعد ذلك.
وفي «المنتقى» رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة أنه تصدق به علي منذ شهر، وقبضته منه ثم أودعته إياه، وأقام رجل آخر بينة أنه تصدق به علي منذ شهرين وقبضته، ثم أودعته منه، والذي في يديه العبد ينكر دعواهما، فإني أقضي بالعبد للذي أقام البينة على شهرين، وأبطلت دعوى الآخر، فإن رجع شاهدا الذي قضيت له بالعبد ضمنتهما قيمة العبد للذي ادعى الصدقة منذ شهر ولا أكلفه إعادة البينة من قبل لأن شهوده شهدوا بمحضر من صاحب الشهرين، وأثبتها عبدين، ولو كنت أبطلتها يومئذ ما قبلتها إذا هو

(9/81)


أعادها؛ لأني إذا أبطلتها مرة لم أقبلها ثانياً، ألا ترى أن صاحب الشهرين لو غاب بعدما شهد شهوده ولم يحضر لا يقضي على الذي في يديه الغلام لصاحب الشهرين حتى يحضر صاحب الشهر لأني جعلته خصماً.

روى عمرو بن أبي عمرو عن محمد عن أبي يوسف رحمهما الله: في رجل أقام بينة على رجل أنه قتل أباه عمداً في شهر ربيع الأول ولا وارث له غيره، وأقام المدعى عليه بينة أنهم رأوا أباه حياً بعد ذلك الوقت في شهر ربيع الآخر، فالبينة بينة المدعي ويقضى بالقود.
ولو أقامت امرأة بينة أن زوجها طلقها ثلاثاً في يوم النحر برقة، وأقام عبده بينة أن مولاه هذا بعينه أعتقه في ذلك اليوم بمنى فالشهادة باطلة، فإن صدق إحدى البينتين قضى بإقراره فيما أقر به، وقضيت في الأخرى بالبينة.
ولو شهدت إحدى البينتين أنه طلق امرأته ثلاثاً يوم النحر بمنى، وشهدت الأخرى أنه أعتق عبده بعد ذلك بيوم بالرقة، فإن القاضي يطلق امرأته؛ لأن وقته أول ويبطل الآخر.
وإذا شهد الشهود على رجل أنه قتل أبا هذا الرجل عمداً ولا وارث له غيره، وأن القتل كان في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومئة، وأقام المدعى عليه بينة أن أباه كان حياً أقرضه في محرم سنة ست وثمانين ومئة درهم وأنها له دين عليه، فالبينة بينة الابن قال: لأنهما أمران لا يستقيم أن يكون فيؤخذ بالوقت الأول، قال: إلا أن أبا حنيفة رحمه الله أستحسن في هذا الباب شيئاً واحداً، فقال: إذا أقام الابن البينة أن هذا قتل أباه عمداً بالسيف منذ عشرين سنة، وأنه لا وارث له غيره، وجاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها منذ خمسة عشر سنة، وأن هذا ولده منها، وأنها وارثة مع ابنه هذا، قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أجيزه ببينة المرأة، وأثبت النسب وأبطل بينة الابن على القتل، ولو أقامت البينة على النكاح ولم تأت بولد، فالبينة بينة الابن والميراث للابن دون المرأة، ويقتل القاتل، إنما أستحسن في النسب خاصة، وهو قول أبي يوسف ومحمد.

ذكر ابن سماعة في «الرقيات» أنه كتب إلى محمد بن الحسن: أرأيت رجلاً مات وباع رجل من تركته متاعاً، فخاصمه وارثه بعد ذلك إلى قاض، وأقام الرجل البينة أن فلاناً القاضي أجاز جميع ما باع فلان من تركة فلان، وأقامت الورثة البينة أن ذلك القاضي أبطل جميع ما باع فلان من تركة فلان ونقضه، والقاضي واحد ولم يوقت للبينتان وقتاً أو وقتا وقتاً واحداً، قال محمد رحمه الله: إذا لم يعلم أيها أول، فالنقض أولى لأن كل واحد منهما ينقض صاحبه، فصار كأنه باع ولم يجز ذلك القاضي ولم يرده، وهو غير وصي ولا جائز الأمر، وإن وقتا وقتين أخذ بالوقت الأخير.
وإن أقاما البينة على النقض والإجارة من قاضيين مختلفين، فالنقض أولى إذا لم يدر أي الوقتين أول، وإن شهد أحد (188ب4) الفريقين أن ذلك القاضي أبطل إجارة

(9/82)


ذلك القاضي وأنه أبطل بعضه، فالقضاء الآخر الذي شهد الشهود أبطل الأول أولى
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة أنه باع هذا العبد من هذا الذي في يديه وهو يملكه بألف درهم ورطل من خمر، وأقام آخر بينة أنه باع هذا الذي في يديه وهو يملكه بألف درهم وخنزير، ادعى كل واحد منهما بيعاً فاسداً، فالعبد يرد عليهما نصفان، وضمن الذي في يديه لكل واحد منهما نصف قيمة العبد، وإن مات العبد في يد المشتري فعليه قيمتان.
وإن كانت البينتان شهدتا على البيع ومعاينة القبض، فإن كان العبد قائماً بعينه أخذاه نصفين، ولا شيء لهما غير ذلك، وإن كان مستهلكاً أخذا قيمته نصفين ولا شيء لهما غير ذلك.
رجل له ابنتان صغرى وكبرى، وأقام بينة على هذا الرجل أنه زوج ابنته الكبرى منه، وأقام الأب بينة أنه زوج ابنته الصغرى من هذا الرجل، فالبينة بينة الزوج.

عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد بألف درهم، وأقام صاحب اليد بينة أنه باع هذا العبد من فلان الآخر بألفي درهم، فالبينة بينة مدعي الشراء بألف درهم. ولو أقام صاحب اليد بينة على مدعي الشراء بألف درهم أنه كفل بألفين عن المدعى عليه الذي اشتراه بألفين، كانت بينة صاحب اليد أولى.
دار في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعي أنها داره أجرها من الذي في يديه شهراً بعشرة دراهم، وأقام على ذلك بينة، والذي في يديه الدار قد سكنها شهراً وهو جاحد دعواهما، فإنهما يأخذان الدار بينهما نصفين، ويأخذان عشرة دراهم، وتكون بينهما نصفين أيضاً، والقياس أن يأخذ كل واحد منهما عشرة دراهم، وأظن أن هذه المسألة مرت في كتاب الإجارات.

ونظير هذه المسألة في دعوى البيع، إذا كانت الجارية في يدي رجل، أقام رجلان كل أحد منهما بينة أنه باعها من صاحب اليد لكل واحد منهما ألف درهم؛ لأن لا تضايق في الثمن، فإن أمضى أحدهما دون الآخر، فللذي أمضى نصف الثمن؛ لأن منازعة الآخر باقية، ومع المنازعة حقه كان في نصف الجارية، فيأخذ بدل ذلك وهو نصف الثمن، وللذي لم يمض أن يأخذ الجارية كلها؛ لأنه انقطع منازعة الآخر وحقه في كلها لولا منازعة الشريك؛ لأن البينة قامت له على كلها، فإذا ارتفع منازعة الشريك استحق كلها، وإن لم يمض واحد منهما البيع أخذ الجارية بينهما نصفين ولا شيء على المشتري؛ لأنه لم يسلم له شيء من المبيع، فلا يلزمه شيء من الثمن.
رجل في يديه عبد أقام رجل بينة أنه عبده، وأقام آخر بينة أنه عبده باعه من الذي في يديه، وذو اليد يجحد دعواهما جميعاً، قال: يقضى به للذي أقام البينة أنه عبده، ويبطل الثمن عن الذي هو في يديه.

استحق الفرس من يد المشتري في غير بلد البائع، وجاء المشتري بالسجل إلى بلد البائع، فكان المكتوب في السجل صفة الفرس المستحق، ديزه رتك مع الكي، فقال بائع

(9/83)


الفرس: الذي بعته كيت بلا كي وأقاما البينة فالبينة بينة المشتري.
وفي «فتاوى سمرقند» : قلنسوة في يدي ثلاثة نفر يدعي أحدهم قطنها، ويدعي الآخر بطانتها، ويدعي الآخر جميعها، وأقام كل واحد بينة على ما ادعى، فإنه يقضي بالقلنسوة لمدعي جميعها ويضمن لمدعي القطن نصف قطنها، ولمدعي البطانة قيمة نصف بطانتها.
أما القضاء بالقلنسوة كلها لمدعي جميعها؛ لأن بينته في الظهارة خلت عن المعارض، فيجب العمل بها في حق الظهارة، ولا يمكن العمل بها في حق الظهارة إلا بالعمل بها في حق الكل، وأما القطن فهو في أيديهم، ولا يدعيه مدعي البطانة، فيكون بين مدعي الكل وبين مدعي القطن نصفين، وقد صار مدعي الكل مستهلكاً لحصة مدعي القطن من القطن، والقطن من ذوات الأمثال، فيضمن نصف مثل نصف القطن لمدعي هذا.
وأما البطانة فلا يدعيها مدعي القطن، وإنما يدعيها صاحباه فيكون بينهما، وقد صار مدعي الكل مستهلكاً نصيب مدعي البطانة من البطانة، والبطانة من ذوات القيم، فيضمن مدعي الكل نصف قيمة البطانة لمدعيها لهذا.
وهو نظير من غصب من رجل بطانة وغصب من آخر قطناً وظهراً فجعل منهما قلنسوة، فإنه يضمن لصاحب القطن مثل قطنه، ويضمن لصاحب البطانة قيمة بطانته، وطريقه ما قلنا كذا ههنا.
وكذلك لو لم يدع مدعي الجميع القلنسوة كلها إنما ادعى ظهارتها، وباقي المسألة بحالها، فهي كلها له لكن يضمن لمدعي القطن مثل قطنه ولمدعي البطانة قيمة بطانته؛ لأنه لا يدعي شيئاً من القطن والبطانة فسلم القطن والبطانة لصاحبه والله أعلم.
قال محمد رحمه الله: دار في يدي ثلاثة رهط ادعى أحدهم جميع الدار وادعى الآخر نصفها، فهذا على وجهين: إن أقاموا بينة على دعواهم، أو لم يقيموا وقد ذكرنا المسألة بتمامها في كتاب الشهادة، ولم يذكر ثمة ما إذا كانت الدار في يد غيرهم إنما ذكر هنا، وقال: إن لم تقم بينة لهم يحلف الذي كان في يديه الدار على دعواهم، فإن حلف انقطعت دعواهم وبقيت الدار في يد صاحب اليد كما كان قبل الدعوى، وإن قامت لهم بينة فبينة كل واحد منهم مقبولة على جميع ما ادعى؛ لأن ما يدعي كل واحد منهم في يد غيره، ويكون كل واحد منهم خارجاً في جميع ما يدعي لنفسه.
وإذا قلنا ببينة كل واحد منهم على جميع ما ادعاه يقسم الدار بينهم على طريق المنازعة عند أبي حنيفة، فيعطي لمدعي الجميع سبعة أسهم من اثني عشر سهماً من جميع الدار ويعطي لصاحب النصف سهمان، وعندهما يقسم الدار على طريق العول والمضاربة على ثلاثة عشر سهماً، يعطى لصاحب الجميع ستة أسهم من ذلك، ويعطى

(9/84)


لصاحب الثلثين أربعة أسهم، ولصاحب النصف ثلاثة أسهم.
وإذا كانت الدار في يدي رجلين ادعى أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها ولا بينة لهما، فإن مدعي النصف يحلف لمدعي الجميع، ومدعي الجميع لا يحلف لمدعي النصف؛ لأن مدعي النصف لا يدعي لنفسه شيئاً مما في يدي مدعي الجميع، أما مدعي الجميع يدعي لنفسه جميع ما في يد مدعي النصف، فإن حلف مدعي النصف برئ عن خصومة مدعي الجميع، وصار الحال بعد الحلف كالحال قبله، وقبل الحلف كانت الدار في أيديهما نصفين فكذا بعد الحلف، وإن نكل قضي لمدعي الجميع بجميع الدار.

وإن أقاما البينة قضي لمدعي الجميع بجميع الدار؛ لأن مدعي النصف ادعى لنفسه نصف الدار وفي يده النصف، فانصرف دعواه إلى ما في يده، فلا يقبل بينته عليه، ومدعي الجميع ادعى جميع الدار، ونصفها في يد مدعي النصف فيسمع بينته فيه، ونصفها في يده ولم يسمع بينته إلا أن مدعي النصف لم يدع شيئاً من ذلك النصف لنفسه فيترك في يده، فصار جميع الدار لمدعي الجميع من هذا الوجه.
وإن كانت الدار في يد ثالث، والباقي بحاله، فإن لم يكن لهما بينة حلف على دعوى كل واحد منهما، فإن حلف برئ عن خصومتهما، وترك الدار في يده كما كان، وإن أقاما البينة قال أبو حنيفة تقسم الدار بينهما أرباعاً بطريق المنازعة، وقال أبو يوسف ومحمد: تقسم أثلاثاً بطريق العول والمضاربة.
دار في يدي رجل منها منزل في يدي رجل آخر منها منزل آخر ادعى أحدهما أن جميع الدار له، وادعى الآخر أن الدار بينهما نصفان، ولا بينة لهما حلف كل منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالمنزل الذي في يد مدعي الجميع يترك في يديه؛ لأنه برئ عن دعوى مدعي النصف بالحلف، فعاد الأمر إلى ما كان قبل الدعوى، ويقضى (189أ4) بنصف المنزل في يد مدعي النصف، ويترك نصف المنزل الذي في يد مدعي النصف في يده على حاله ويقضى بالساحة بينهما. أما القضاء له بنصف المنزل الذي في يد مدعي النصف إقرار بذلك له قال: الدار بيننا نصفان، وأما ترك النصف في يد مدعي النصف؛ لأنه برئ عن دعوى صاحبه في ذلك النصف، وعاد الأمر في ذلك النصف إلى ما كان قبل الدعوى، أما القضاء بالساحة بينهما لأن الساحة في أيديهما على الشيوع، فإنهما يستعملانها ويتصرفان فيهما على السواء.
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا كانت الدار في أيديهما وليس في يد واحد منهما شيء بعينه، فقال أحدهما: الدار بينا نصفان، وقال الآخر: الدار كلها لي، فإنه يقضى لكل واحد منهما بما في يده، ولا يقضى لمدعي الجميع بشيء مما في يد المدعي النصف، وههنا قال: يقضى لمدعي الجميع بنصف المنزل الذي في يد مدعي النصف؛ لأن في تلك المسألة أمكن تصحيح إقراره من غير إثبات استحقاق شيء عليه؛ لأنه أقر لصاحبه بنصف شائع من الدار وفي يد صاحبه نصف شائع من الدار، وفي هذه المسألة لا يمكن تصحيح إقراره باستحقاق نصف المنزل الذي في يده من جملة الدار، وقد أقر له

(9/85)


بنصف الدار شائعاً، فيكون مقراً له بنصف هذا المنزل شائعاً فلهذا افترقا.
عاد إلى أول المسألة فقال: ادعى أحدهما جميع الدار وادعى الآخر نصفها، ولم يزد على هذا، يعني قال الآخر: نصف هذه الدار ولم يقل هذه الدار بيننا نصفان لا يقضى لمدعي الجميع بشيء مما في يد مدعي النصف، ولكن ما في يدي مدعي النصف يترك نصفه له، والنصف الآخر يكون موقوفاً إلى أن يقيم مدعي الجميع البينة، وإنما جاء الفرق؛ لأنه لما قال: الدار بيننا نصفان فقد أقر لصاحبه بنصف المنزل في يده، وإقرار الإنسان بما في يده صحيح.
وإذا قال: نصف الدار لي ما أقر لصاحبه بشيء من الدار إنما ادعى لنفسه النصف لا غير، وليس من ضرورة أن لا يكون له مازاد على النصف أن يكون ذلك لمدعي الجميع لجواز أن لا يكون ذلك له، ولا لمدعي الجميع بل يكون لغيرهما، وإن أقاما البينة في هذه الصورة قبلت بينة كل واحد منهما على ما في يد صاحبه ويقضى لمدعي الجميع بجميع المنزل الذي في يد مدعي الجميع.

دار سفلها في يدي رجل وعلوها في يدي رجل آخر، وطريق العلو في ساحة السفل ادعى كل واحد منهما أن جميع الدار له ولا بينة لهما، فإنه يقضى لصاحب العلو بالعلو بحق الممر في الساحة، ويقضى لصاحب السفل بجميع السفل وبرقبة طريق العلو ويجعل طريق العلو في حق الممر كأنه في يد صاحب العلو، وفي حق الرقبة كأنه في يد صاحب السفل.
هكذا ذكر المسألة في كتاب الدعوى وذكر هذه المسألة في كتاب الصلح وقال: يقضى بالساحة بينهما، وإنما الاختلاف لاختلاف الوضع، وضع المسألة في كتاب الدعوى أن جميع السفل كان في يد صاحب السفل فإنه قال: دار سفلها في يدي رجل والهاء كناية عن الدار، فقد جعل جميع السفل في يد صاحب السفل إلا أن صاحب العلو كان يمر في الساحة، فيقضى لصاحب السفل بجميع السفل إلا في حق المرور. وموضوع ما ذكر في كتاب الصلح أن في يد مدعي السفل منازل السفل، والساحة في أيديهما أمانة.

قال: في دار يسكن فيها رجلان أحدهما في منازل من السفل والآخر في علوها، فقد أشار إلى أن في يد صاحب السفل منازل السفل، فكأن يد صاحب السفل على الانفراد ثابتة على منازل السفل والساحة في أيديهما؛ لأنهما يستعملان الساحة استعمالاً على السواء، فيقضى بالساحة بينهما لهذا.
دار في يدي ثلاثة ادعى، أحدهم النصف، وادعى الآخر الثلث، وادعى الآخر السدس، وجحد بعضهم دعوى البعض ولا بينة لواحد منهم، فنقول: يجعل الدار في أيديهم أثلاثاً لاستوائهم في اليد، ويقضي لمدعي النصف، والثلث لكل واحد منهم بما في يد كل واحد منهما وهو الثلث، أما مدعي النصف فلأنه يدعي لنفسه ثلث الدار، وفي يده هذا المقدار، وقوله فيما في يده مقبول، وأما مدعي النصف فلأنه ادعى لنفسه نصف الدار وفي يده الثلث، فكان مدعياً جميع ما في يده وزيادة سدس إلى تمام النصف مما في

(9/86)


يد صاحبه، فيقبل قوله فيما في يده ولا تقبل فيما في يد صاحبه إلا ببينة، ويقضى لصاحب السدس بنصف ما في يده وهو سدس الدار ويوقف السدس لأنه ادعى لنفسه سدس الدار وفي يديه ثلث الدار، فكان مدعياً لنفسه نصف ما في يده وقوله فيما في يده مقبول، وأما النصف الآخر الذي في يده لم يقر به لصاحب النصف، إنما أقر أنه ليس له وليس من ضرورة أن لا يكون له أن يكون لصاحب النصف لجواز أن لا يكون له أيضاً ويكون لغيره، فيوقف ذلك النصف عنده فإن أقام صاحب النصف.... سدس الدار؛ لأنه ادعى لنفسه نصفاً شائعاً، وقد تم له الثلث فبقي دعواه في سدس الدار، وذلك في يد صاحبه إذ ليس أحدهما يصرف دعواه إلى ما في يده أولى من الآخر.
دار في يدي رجلين ادعى أحدهما كل الدار، وادعى الآخر نصفها، وأقاما جميعاً البينة فشهد شهود صاحب النصف أن الدار كانت لأبيه، وأن الذي ادعى الجميع فصارت ميراثاً بينهما نصفان، وشهد شهود صاحب الجميع له بالجميع فإن الدار بينهما تكون أرباعاً؛ لأنهم لما شهدوا على الميراث، فقد شهدوا أن له النصف مما في يده ويد صاحبه؛ لأن الميراث في جميعها، فقد شهدوا له بنصف ما في يد صاحبه.
ولو شهد شهود صاحب النصف أن الدار بينه وبين صاحب الجميع نصفان اشتراها من فلان بينهما نصفان، وشهد شهود الآخر على الجميع، فإن الدار بينهما نصفان.

قال أبو حنيفة رحمه الله: في دار في يدي رجل نصفها، وادعى آخر نصفها وأقاما البينة، فالدار بينهما نصفان، ولم يجمع أبو حنيفة في هذه المسألة نصف كل واحد منهما في نصف الدار؛ فيجعل بينهما نصفان.

وإن أقام آخر بينة على جميعها فإنه يجمع نصيب صاحبي النصف في نصف الدار ويجعل لصاحب الجميع النصف خالصاً، ويجعل النصف الآخر بينهم، فقد ترك قوله في هذا، وكان ينبغي أن يضرب كل واحد من صاحبي النصف بالنصف في جميع الدار ويضرب الثالث بالجميع، فيكون نصفها لصاحب الجميع، ونصفها للآخرين نصفين.
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمداً يقول في دار في يدي آخرين ادعى أحدهما كل الدار وادعى الآخر أنها ميراث بينهما من أبيهما، قال: للذي ادعى كلها ثلاثة أرباع الدار النصف الذي في يديه ونصف ما في يد أخيه، وللآخر ربعها، فإن أقاما البينة على ما ادعيا صار النصف الذي في يد مدعي الكل ميراثاً، فيكون ذلك النصف بينهما نصفان، ويصير النصف الذي في يد مدعي الميراث للآخر فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباع الدار، ولمدعي الميراث ربعها، فإن جاء إنسان آخر وأقام البينة أنها داره فاستحقها ثم وهبها لمدعي الجميع، فلا شيء لأخيه فيها وإن وهبها لمدعي الميراث أخذ أخوه نصفها.
في «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل أقام بينة على رجل أن له عليه ألف درهم، وأقام آخر بينة عليه أن تلك الألف بينهما نصفان، قال: في قول أبي حنيفة رحمه الله،

(9/87)


للذي أقام البينة على الألف ثلاثة أرباع الألف، وللآخر ربعها، وقال أبو يوسف ومحمد: هي بينهما أثلاثاً.
وفي (189ب4) «المنتقى» : دار في يدي رجل ادعى رجل أنها بينه وبين الذي في يديه نصفان، وجحد الذي في يديه، وادعى أن كلها له فسأل القاضي المدعي البينة على ما ادعى، فأقام البينة على أن هذه الدار كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً له خاصة لا وارث له غيره، قال: إن لم يدع المدعي أن النصف خرج الى الذي الدار في يده بسبب من قبله فشهادة شهوده باطلة، وإن قال: قد كنت بعت نصفها بألف درهم، لم يصدقه القاضي على البيع ولم يجعله مكذباً لشهوده، وقضي له بنصف الدار ميراثاً عن أبيه.
فإن أحضر بينة على أنه باع النصف من المدعى عليه بألف درهم، أو أنه صالحه من الدار على أن يسلم له النصف منها، قبلت بينته على ما ادعى من ذلك، وقضي بالدار كلها ميراثاً عن الولد، وقضي بنصفها للمدعي الآخر بيعاً من المدعي، إن كان ادعى البيع وكان للمدعي على المدعى عليه الثمن، وإن أقام البينة على ما ادعى من الصلح، أبطلت الصلح ورددت الدار كلها إلى المدعي لأنه لم يأخذ للنصف عوضاً، فإن قال المدعى عليه في الصلح حين أقام المدعي البينة عليه بالصلح: إن الصلح الذي ادعى لم يكن جائزاً في قوله، ولم أملك به من الدار وقد أقرّ أن لي نصف الدار، فأنا أحق بنصف الدار منه بحكم إقراره، لم يلتفت إلى قوله؛ لأن المدعي أقام البينة أن نصف الدار صار للمدعى عليه من وجه الصلح، فيجعل إقراره من قبل الصلح.

ألا ترى أن من باع داراً من رجل بعبد وتقابضا، ثم قيل لبائع الدار لمن الدار، فقال: لفلان يعني المشتري منه، ثم إن بينته قامت على أن العبد حرّ أعتقه القاضي بحضرة بائع الدار، وقال بائع الدار: إنما أقررت لفلان بالدار، لأني كنت بعت منه الدار بالعبد، فالقاضي يجعل إقراره من قبل البيع ويرد الدار عليه، كذا في مسألتنا والله أعلم.
l