المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل السادس واالعشرون: في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة
رجل من وكلاء باب القاضي ادعى قبل القاضي على رجل أنه وكيل من جهة

(9/265)


فلان بن فلان الغائب بإثبات حقوقه وديونه على الناس، وللغائب على هذا عشرة دراهم قرض مدة حتى يسلم إلي، فلم يجب المدعى عليه لكن وكيل آخر من وكلاء القاضي بحضرة المدعى عليه أجاب وقال: إن موكلي يقول ليس علي هذه العشرة، وليس لي علم بهذه الوكالة، فأقام الوكيل شاهدين على التوكيل، وطلب الحكم من القاضي، فقضى القاضي بثبوت وكالته، والمدعى عليه ساكت لم يجب أصلاً، وتوكيل الوكيل من المدعى عليه ليس ثابت هل يصح هذا الحكم؟ وهل يثبت التوكيل؟ قيل: لا، وبه كان يفتي الإمام ظهير الدين رحمه الله، وهي واقعة العامة فتحفظ.
رجل استأجر كرماً إجارة طويلة وغاب بعد ذلك جاء رجل وقال: أنا وكيله بقبض المال وفسخ الإجازة وأنكر هو التوكيل وأقر بالباقي فيقضي.
رجل ادعى القاضي ثبوت الوكالة بحضرة المدعى عليه كان ذلك قضاء على الغائب أنه وكيل فلان باستيفاء الدين من رجل، فادعى المديون الإبراء والإيفاء قال المدعي: عزلني الموكل إن كان التوكيل بالتماس الخصم لا يملك عزله فلا يسمع هذه الدعوى، وإن كان بغير التماس منه تثبت الدعوى إذا أقام البينة على الغرماء على العزل أما بدون البينة فلا.
ولو قال: لست بوكيل وصدقه الخصم لا يسمع، وأثر هذا في أنه إذا صالح مع الخصم ثم قال: لست بوكيل وأراد استرداده دفع وصدقه الخصم لا يسمع.

رجل ادعى على آخر الكفالة بمال الإجارة معلقة بالفسخ، وقال: إني قد فسخت الإجارة ونرد منك المال، وأقام على ذلك بينة والآخر غائب قبلت بينته ويكون ذلك قضاء على الآخر، وانتصب الوكيل خصماً عنه؛ لأن المدعي ادعى المال على الكفيل ولا يمكنه إثبات ذلك على الكفيل إلا بإثبات على الأصيل فينتصب الكفيل عنه، وإذا أدى الكفيل رجع على الآخر إن كانت الكفالة بأمره، وإن كانت بغير أمره لا يرجع عليه، فإن حضر الآخر قبل أن يأخذ المدعي من الكفيل شيئاً، وأنكر الفسخ لم يلتفت إلى إنكاره، وكان الفسخ ماضياً.
رجل ادعى على آخر أنه كفل له أنه إن مات فلان مجملاً لوديعتي وهي كذا، فضمانها علي وقد مات فلان مجملاً لوديعتي، وأقام البينة عليه هل تسمع هذه الدعوى؟ فقد قيل: تسمع، وفي دعوى الكفالة لابد وأن يقول: وأنا أجزت كفالته مجلس الكفالة، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين، وقد قيل: لا يشترط ذلك، ودعوى الكفالة تتضمن ذكر الإجارة كدعوى البيع تتضمن ذكر الشراء، حتى إن من ادعى على آخر أنك بعت مني كذا كذا لا يحتاج إلى أن يقول: وأنا اشتريت.

رجل ادعى الكفالة بالمال معلقة بعدم تسليم النفس في يوم كذا، والمال الذي وقعت الكفالة وجب على الأصيل بسبب الصلح، وإنه كاسد اليوم؛ لا بد وأن يبين في دعواه أن الصلح عن أي شيء كان لينظر أنه هل صح؟ ولو صح هل فسد بكساد البدل قبل القبض كما يفسد البيع بكساد الثمن قبل القبض.

(9/266)


رجل اشترى عبداً بألف درهم، وقبض العبد بإذن البائع، وطلب البائع الثمن، فقال المشتري: قد كنت أحلته على فلان وفلان غائب، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته ويتعدى ذلك إلى الغائب، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب وكثير من هذا الجنس ذكرناها في كتاب أدب القاضي، وسيأتي بعد ذلك في كتاب الكفالة والحوالة إن شاء الله.

الفصل السابع والعشرون: في دعوى العتق
بعض مسائل هذا الفصل قد مر قبل هذا:
عبد في يدي رجل قال: إني كنت عبداً لهذا الرجل، وأنا اليوم حر لما أنه قال لي: اكرد وسال كار من كنز توازر ومن دو سال كارله وكردم، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، وحكم بعتقه.
عبد ادعى أنه حر الأصل في موضع لم يسبق منه الإقرار بالرق، فقضى القاضي بحريته لما أن القول في ذلك قوله، لا يرجع المشتري بالثمن على بائعه، والبينة للمشتري في ذلك حتى يرجع بالثمن على البائع أن يدعي المشتري على العبد الرق، ويقول: أقر لي بالرق، ويقيم البينة عليه ثم يقيم العبد البينة عليه أنه حر الأصل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع.
عبد في يدي رجل يزعم أنه ملكه، وادعى العبد عليه أنه أعتقه وشهد الشهود أنه حر الأصل لا تقبل. وكذلك لو ادعى العبد أنه حر الأصل، وشهد الشهود أن صاحب اليد أعتقه تقبل، وعلى العكس لا تقبل، وقيل: تقبل في الوجهين جميعاً.
ادعى غلاماً في يدي رجل أنه ملكه أعتقه منذ سنة، والقاضي يسأل المدعي البينة على الكل لا على العتق، لأنه إذا أقام البينة على العتق، ولم يكن له بينة يحلف المدعى عليه على الملك.
ادعى على امرأة بأنها أمته، فأقامت الأمة بينة أنها كانت لفلان وأنه أعتقها، وأقام المدعي بينة أن فلاناً ذلك قد أقر أن هذه الأمة أمتي ومملوكتي، فإن أرخا وتاريخ الإقرار أسبق قضي بالملك للمدعي، وإن لم يؤرخا يجعل كأنهما وقعا معاً الإقرار والإعتاق بالملك للمدعي فيقضي بالعتق ببينة الأمة.
ادعت حرية الأصل ثم ادعت حرية عارضية تسمع، وكذلك على العكس يجب أن تسمع.

الجارية إذا تداولتها الأيدي، فادعت أنها حرة الأصل، أو ادعت عتقاً عارضياً بتاريخ قبل تاريخ البياعات، ورجع المشتري الآخر على بائعه، وكذلك بائعه رجع على بائعه، وللبائع الأول الرجوع عليه، ففيما إذا ادعت حرية الأصل إن لم يسبق منها إقرار

(9/267)


بالرق لا نصاً ولا دلالة من انعقاد البيع، وما أشبه ذلك على ما عرف في كتاب الإقرار ليس له أن يأتي؛ لأن حرية الأصل ثبتت بمجرد قولها في حق الناس كافةً، إذا لم يسبق منها إقرار بالرق، ولو سبق منها إقرار بالرق كان للبائع الأول أن يأتي بالرجوع عليه؛ لأن حرية الأصل لا تثبت بمجرد قولها في موضع سبق منها الإقرار بالرق.
وفيما إذا ادعت عتقاً عارضياً كان للبائع الأول أن يأتي بالرجوع عليه على كل حال، لأن العتق العارضي لا يثبت بمجرد قولها، وفي كل موضع قضى القاضي بحرية الأصل لا يشترط حضرة العبد والأمة لرجوع المشتري على البائع بالثمن والله أعلم.

الفصل الثامن والعشرون: في دعوى النسب
هذا الفصل يشتمل على أنواع:

النوع الأول: في بيان مراتب النسب
قال أصحابنا رحمهم الله: لثبوت النسب مراتب ثلاثة:
أحدها: بالنكاح الصحيح، وما هو في معناه من النكاح الفاسد، والحكم فيه: أن يثبت النسب من غير دعوى، وله أن ينفيه مالم يقر بنسبه صريحاً أو يظهر منه ما يكون اعترافاً به في قبول تهنئة، أو شراء متاع الولادة، أو تطاول المدة، مع العلم بالولادة أو يقع الاستغناء، أو يقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال، متى وجد واحد من هذه الأسباب لا بملك النفي بعد ذلك.
أما إذا أقر بنسب الولد صريحاً؛ لأن الإقرار بنسب الولد إقرار له بحقوق مالية نحو النفقة والميراث، وأشباه ذلك اقتضاء، ولو أقر له بهذه الحقوق صريحاً، لا يعمل رجوعه بعد ذلك، فكذا إذا أقر له بذلك اقتضاء.
وأما إذا قبل التهنئة: فدل قبول التهنئة على أن الولد منه.

وأما إذا اشترى متاعاً للولادة: فلأنه أقر بالولد دلالة عادة، فإن العادة أن الإنسان لا يشتري متاعاً للولادة إذا (223ب4) لم يكن الولد منه.
فأما إذا وقع الاستغناء عن نفيه: فلأن بعدما وقع الاستغناء عن نفيه؛ لا يكون في النفي فائدة، والشرع لا يرد بما لا يفيد.
وأما إذا تطاولت المدة: فلأن ترك النفي مدة طويلة مع العلم بالولادة دلالة الإقرار بالولد ظاهراً، لأن الظاهر أن الإنسان لا يترك النفي مدة طويلة، مع العلم بالولادة، إذا لم يكن الولد منه.
والمرجع في معرفة تطاول تلك المدة العرف والعادة، إذا مضى من المدة ما ينفى

(9/268)


فيها الولد عادة ولم يبق، فليس له أن ينفيه بعد ذلك هذه رواية أبي حنيفة، وروي عنه رواية أخرى: أنه يفوض ذلك إلى رأي القاضي، وعن أبي يوسف ومحمد: أنهما قدرا المدة الطويلة بالأربعين، فبعد الأربعين لا يصح النفي.
وأما إذا وقع فيه حكم لا يقبل النقض، بيانه فيما لو جنى هذا الولد جناية، وقضى القاضي على عاقلة الأب بالأرش لا يستطيع نفي هذا الولد؛ لأنه وقع فيه حكم لا يقبل النقض والبطلان؛ لأنا حكمنا بنسب هذا الولد من الأب لما قضينا بالأرش على عاقلته، والقضاء بالأرش على العاقلة بعدما صح لا يقبل النقض والإبطال، ومتى صار نسب الولد مقضياً به بحكم لا يقبل البطلان لا يصح نفيه بعد ذلك، ولا يمكن قطعه إلا بعد قطع ذلك الحكم، ولا يمكن قطع ذلك الحكم، فامتنع النفي والقطع.
وبيانه في مسألة أخرى وروي عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جاءته امرأته بولد فنفاه ولم يلاعنها حتى قذفها أجنبي بالولد فحد، ثبت النسب ولا يلاعن بينهما، والمعنى ما ذكرنا، وبعدما وجد النفي لا ينتفي نسب الولد إلا باللعان، وشرائط جريان اللعان عرفت في كتاب الطلاق.

المرتبة الثانية: أم الولد، والحكم فيها: أن نسب ولدها ثبت بدون الدعوى إذا كانت بحال يحل للمولى وطؤها، أما إذا كان بحال لا يحل للمولى وطؤها لا يثبت النسب من المولى بدون الدعوى، ولا للمولى أن ينفيه إذا لم تتطاول المدة مع العلم بالولادة، ولم يقر به صريحاً ولم يقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال.
وعن هذا قلنا: إذا جنى هذا الولد جناية وقضى القاضي على عاقلة المولى بالأرش، أو جنى عليه وقضى القاضي بالأرش جناية الأحرار والقصاص لا يستطيع أن ينفيه المولى بعد ذلك؛ لأنه وقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال؛ لأن حكمنا بحريته بسبب أن ولده لما قضي على عاقلته الأرش إن كان جانياً، وقضى له بأرش الأحرار إن كان مجنياً عليه، والحرية مما لا يقبل النقض والإبطال، ومتى حكمنا بنسب الولد منه بحكم لا يقبل النقض والإبطال ولا يمكن نفيه؛ وقطع نسبه بعد ذلك لا يمكن قطعه إلا بعد نقض ذلك الحكم وذلك الحكم لا يبدل النقض.
ولم يذكر في ولد أم الولد ما إذا قتل لا شك أنه يكون إقراراً، فقد ذكر في عتاق «الفتاوى» : أنه لو جنى المولى بولد الأمة، فسكت يكون إقراراً لقبول التهنئة، أو لأن يكون إقرار التهنئة فيه.
ولو مات هذا الولد لا يملك المولى نفيه أما إذا ترك مالاً فلوجهين:
أحدهما: أنه صار مخلوفاً بكونه مخلوقاً من مائه بحكم لا يقبل البطلان وهو الميراث، فإنه ورث منه بالولادة، والوارثة منه بالولادة حكم بكونه مخلوقاً من مائه، والإرث لا يقبل القطع والإبطال.
والثاني: أنه وقع الاستغناء عن نفيه؛ لأن مقصود المولى من نفيه أن لا يستحق هذا

(9/269)


الولد عليه أحكام النسب، وهو غير مخلوق من مائه، وقد حصل هذا المقصود للمولى بموت الولد.
وأما إذا لم يترك مالاً فللوجه الثاني.

وإذا زوج الرجل أم ولده من رجل ومات عنها وطلقها وانقضت عدتها، ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ انقضت، فهو ابن المولى وله أن ينفيه ما لا توجد منه إحدى الأسباب التي ذكرنا، وهذا لأنه لما انقضت عدتها حلت للمولى، وعادت فراشاً له؛ لأن بانقضاء العدة يرتفع النكاح بحقوقه من كل وجه، وهو المانع من ظهور فراشه، وإذا ظهر فراش المولى صار الحال بعد انقضاء العدة كالحال قبل النكاح، وقبل النكاح له أم الولد إذا جاءت بالولد كان ثابت النسب، وكان للمولى أن ينفيه ما لم يوجد واحد من الأسباب التي ذكرناها كذا ههنا.
وإذا حرم المولى أم ولده على نفسه أو حلف أن لا يقربها، فجاءته بولد لزمه ما لم ينفه؛ لأن فراشها لا يبطل بتحريم المولى ولا بالإيلاء، ألا ترى أنه لا يبطل فراش النكاح بالتحريم والإيلاء، فكذا فراش ملك اليمين إلا أن الإيلاء في النكاح يبطل ملك النكاح بعد أربعة أشهر، والإيلاء في الأمة لا يبطل ملك اليمين؛ لأن الإيلاء يصير طلاقاً بعد مضي أربعة أشهر في المنكوحة، ولا يصير طلاقاً في الأمة فيبقى يميناً.

ولو وطئها أب المولى أو ابن المولى فحرمت على المولى، ثم جاءت بولد بعد ذلك أكثر من ستة أشهر لايلزمه. ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر يلزمه؛ لأن حرمة المصاهرة تزيل الفراش في ملك النكاح، ففي ملك اليمين أولى؛ لأن فراش ملك النكاح أقوى من فراش ملك اليمين، إلا أنه يزول لا إلى عدة، فكان بمنزلة ما لو زال فراش النكاح قبل الدخول بها لا إلى عدة ثم جاءت بالولد، وهناك لو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر يثبت النسب من الزوج، وإن جاءت به لستة أشهر لا يثبت النسب منه كذا ههنا.

وإذا نفى المولى نسب أم الولد ينتفي نسبه بمجرد النفي، وهذا لأن بيان النسب ينبني على الفراش وفراش المنكوحة أقوى، وآكد من فراش أم الولد؛ لأن فراش المنكوحة يزول بسبب واحد وهو الطلاق، ولا يزول بالتمليك من الغير، فإنه لو زوج منكوحته من غيره لا يزول فراش الزوج، وفراش أم الولد يزول بسببين وهو الإعتاق والتمليك من الغير، و (ما) يزول (بسببين) يكون أضعف مما يزول بسبب واحد، وإذا كان فراش المنكوحة أقوى وأكد، فالنسب الثابت بناء على هذا الفراش يكون أقوى، فلم يجز أن ينتفي بما ينتفي به نسب أم الولد؛ لأنه حينئذٍ يكون تسوية بين الأقوى والأضعف وإنه لا يجوز، وههنا وقفة يجب حفظها أنه إنما ينتفي نسب أم الولد بمجرد النفي إذا لم يحدث العتق في الأم وسيأتي بعد ذلك هذا ونوع يتعلق بمسائل أم الولد، وولد أم الولد إن شاء الله.
المرتبة الثالثة: الأمة، والحكم فيها: أن نسب ولدها بعد الولادة لا يثبت بدون دعوى المولى، ويستوي في ذلك أن يدعي المولى نسب ولدها بعد الولاد، أو يدعي نسبه

(9/270)


وهو في بطنها بأن قال: هذا الحمل الذي في بطن أمتي هذه مني، أو قال: هذا الولد الذي في بطن هذه مني.
ولو قال: إن كان في بطن جاريتي هذه غلام فهو مني، وإن كان جارية فهو من فلان، أو قال: فليس مني، فولدت ابنة ثبت نسبها منه، هكذا ذكر في «عتاق عصام» .
وفي «الأصل» : رجل له أمة حامل، فقال: إن كان حملها غلاماً فهو مني، وإن كان جارية فهو من فلان، أو قال: فليس مني، فولدت غلاماً وجارية لأقل من ستة أشهر، ثبت نسبها منه، وكان ينبغي أن لا يثبت؛ لأنه علق الدعوى بشرط للدعوة منه بد، فلا يصح كما (لو) علقها بدخول الدار.
بيانه: أنه علق الدعوة بكون الحمل غلاماً، وبكون الحمل غلاماً مما أمر الدعوى منه بد، فإنه لو قال: هذا الحمل مني، كانت دعوته صحيحة، وإن كان الحمل جارية، فكان كون الحمل غلاماً كدخول الدار من هذا الوجه.

بخلاف ما لو قال: إن كان لها حمل فهو مني، لأن هذا تعليق الدعوة بما لابد للدعوة منه، لأنه لا بد لدعوة الحمل من وجود الحمل، والجواب: الدعوة ههنا معلقة بأصل الحمل لا بصفة في الحمل، والتعليق بأصل الحمل صحيح.
بيانه: أنه وإن ذكر صفة الحمل إلا أنا لو اعتبرنا حقيقة الصفة يبطل التعليق، ولو جعلنا ذكر الصفة عبارة عن الحمل مجازاً يصح التعليق، ويمكن جعل الصفة مجازاً عن الموصوف لاتصال منهما، كما يقال: أعطيه جزيلاً، أي: عطاءً جزيلاً، ويصير تقدير كلامه إن كان حملها حملاً على الحقيقة فهو مني، ولما قال بعد ذلك: وإن كان جارية فليس مني، فتقديرها أيضاً، وإن كان حملها حملاً على الحقيقة، فليس (224أ4) مني، فيصح الإقرار ولا يصح الرجوع بعد ذلك بخلاف دخول الدار؛ لأن دخول الدار أن يجعل عبارة عن أصل الحمل؛ لأنه لا اتصال بينهما، فتبقى الدعوة معلقة بالدخول حقيقة.
وبخلاف ما إذا قال: إن كان حملك غلاماً فهوحر، فولدت لأقل من ستة أشهر جارية حيث لا تعتق الجارية، لأن تعليق العتق بالصفة صحيح، فلا ضرورة الى أن يجعل صفة مجازاً عن أصل الحمل وإنما يثبت نسبها مع أنه ادعى نسب أحدهما؛ لأنا تيقنا بوجودهما في البطن وقت الدعوة، فدعوة نسب أحدهما ودعواه نسبهما على السواء، وقد ذكرنا جنس هذه المسائل في كتاب العتاق في فصل أم الولد.
وفي «نوادر بشر بن الوليد» عن أبي يوسف رحمه الله في أمة حامل أقر سيدها أنها حامل منه، فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر أو لستة أشهر، فنفاه قال: لا يكون ابنه وتكون أم ولده بإقراره، وكذلك إن لم تلد ولكن أسقطت سقطاً لم يستبن خلقه.
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: وإذا عالج الرجل جاريته فيما دون الفرج وأنزل، فأخذت الجارية ماءه في شيء واستدخلته فرجها في جريان ذلك، فعلقت الجارية وولدت ولداً، فإن الولد ولد الرجل والجارية تصير أم ولده.

(9/271)


ولو هنىء المولى بولد فسكتت الأمة، روي عن محمد رحمه الله: أنه لا يكون اعترافاً بخلاف ولد الحرة وولد أم الولد، ولو قبل المولى التهنئة كان اعترافاً.
ومما يتصل بهذا النوع: ما روى إبراهيم عن محمد في رجل وطء جارية له ولم....... ولم يحصنها قال أبو حنيفة رحمه الله: له أن ينفي ولدها ويبيعها، وأما في قول.... فأحب أن يعتق ولدها ويتمنع منها، فإذا مات أعتقها. وذكر المعلى عن أبي يوسف: في رجل له أمة يطأها ويحصنها ولا يعزل عنها، فجاءت بولد؛ لا يسعه أن ينفيه في قول أبي حنيفة وقولي، وأحب إلي أن يدعيه إذا كان يطؤها ولم يحصنها.

ومما يتصل بهذا أيضاً: إذا ولدت أمة الرجل ولداً، فادعت أن مولاها أقر به، وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين وشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به؛ لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به قد اختلف لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر شهد على إقرار المولى بها وإنه قول، والقول مع الفعل مختلفات.
فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة يعلمها الشاهد بطريقين؛ بالمعاينة إن اتفق له ذلك كما في الزنا، أو بالشهرة والتسامع، وكونها على فراشه يعلمه شرعاً إن كانت الوالدة منكوحة، أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد شرعاً، وإن كانت الوالدة أمته يعلم بإقرار المولى أنها ولدت منه على فراشه، لأن الأمة لا تصير فراشاً للمولى ما لم تقر بولادتها منه.
فإن قيل: إذا كان طريق وقوف الشاهد (على) ولادة ولد الأمة على فراش المولى، إقرار المولى أنها ولدت منه، وينبغي أن تقبل الشهادة في هذه المسألة؛ لأن شهادة كل واحد منهما قاصرة على القول. قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش في الأمة إن كان لا يعلم الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها من غير إقرار المولى بالمعاينة فشهادتهما على الولادة قد اختلف، فلا يثبت بالولادة بهذه الشهادة، وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي.
وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى أنها ولدت منه قبلت شهادتهما لاتفاقهما على الإقرار الثابت بالبينة كالإقرار الثابت عياناً. وكذلك إذا شهدا على نفس الولادة على فراشه قبلت شهادتهما لاتفاقهما على نفس الفعل وهو الولادة.
وإذا كان المولى من أهل الذمة والأمة مسلمة، فشهد شاهدان ذميان أنه أقر أنه ابنه منها، وأنها ولدته على فراشه فهذا على وجهين:
الأول: أن تدعي هي ويجحد المولى، وفي هذا الوجه الشهادة مقبولة ونسب الولد ثابت منهما، أما في المولى: فلأن المولى ذمي وشهادة الذمي على الذمي مقبولة، وأما

(9/272)


منها وإن كانت مسلمة؛ لأنها ادعت أنها صارت أم ولد له، فكانت هذه شهادة ذمي قامت للمسلم على الذمي.
الوجه الثاني: أن يدعي المولى وتجحد الأمة، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة؛ لأن هذه شهادة ذمي قامت على المسلم، قال شمس الأئمة رحمه الله: تأويل المسألة في الوجه الثاني إنها تجحد المملوكية للمولى، أما لو أقرت بالمملوكية: فالمولى ينفرد بدعوة النسب وثبت نسب الولد منه، وتصير الجارية أم ولد له بإقراره ولا عبرة لتكذيبها.

ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً في معرفة أم الولد فنقول:

أم الولد الجارية التي يستولدها الرجل بملك اليمين، أو استولدها بملك النكاح ثم اشتراها بعد ذلك، أو ملكها بسبب آخر، أو استولدها بشبهة ثم اشتراها بعد ذلك، أو ملكها بسبب آخر وهذا مذهبنا؛ وقال الشافعي: إذا استولدها بحكم النكاح ثم اشتراها لا تصير أم ولد له، وإذا استولدها بالزنا ثم ملكها؛ القياس أن تصير أم ولد له، وهو قول زفر في الاستحسان، ولا تصير أم ولد له، وهو قول علمائنا الثلاثة، والمسألة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا قال الرجل: تزوجت هذه الجارية وولدت مني، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، وأنكر ذلك المولى الذي هي له، فإذا ملكها الذي أقر بهذا بعد ذلك تصير أم ولد له عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
f
وإذا أسقطت أمة الرجل سقطاً استبان خلقه أو بعض خلقه تصير أم ولد له، وإن لم يستبن شيء من خلقه لا تصير أم ولد له عندنا.
وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: إذا أقر الرجل أن جاريته هذه قد أسقطت منه، فهذا إقرار أنها أم ولده، قال: إنما يقع اسم السقط على ما تبين خلقه؛ أما إذا لم يبن خلقه لا يسمى سقطاً، وقد ذكرنا هذه المسائل في كتاب العتاق.

نوع آخر في المسائل التي تتعلق بنفي الولد
قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الرجل امرأة، وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها حران مسلمان، فادعى أحدهما أنه ابنه وكذبه الآخر فهو ابنه منها؛ لأن هذا الولد ولد النكاح القائم بينهما لما جاءت لستة أشهر منذ تزوجها، وولد النكاح ثابت النسب من صاحب النكاح لا ينتفي نسبه إلا باللعان.
وكذلك لو قال الزوج: هذا الولد كان لك من زوج قبلي، وقالت المرأة: بل هو منك، فهو ولد الزوج؛ لأنه ولد النكاح القائم بينهما، ولا حد على الزوج؛ لأنه لم يقذفها بالزنا، إنما نسبه إلى وطء حلال، فلا يوجب حداً ولا لعاناً.

ولو قال الزوج: ولدته من الزنا وكذبته، يلاعن بينهما، ويقطع نسب الولد من الزوج ويلحق بالأم، وإن صدقته فهو ابنهما؛ لأن اللعان لا يجري بين المتصادقين.
وإذا ولدت المرأة ولدين في بطن واحد وأقر الزوج بالأول منهما ونفى الآخر؛ فهما ابناه، ويلاعن بينهما لقطع النكاح؛ لأنهما لا يتجريان في حق ثبات النسب، فإذا أقر بأحدهما فكأنه أقر بهما، فإذا نفى الآخر بعد ذلك فكأنه نفاهما جميعاً، ولو أقر بهما ثم

(9/273)


نفاهما فإنهما يتلاعنان لقطع النكاح إن كانا لا يتلاعنان لقطع النسب فكذا ههنا.
فإن كان نفى الأول منهما وأقر بالثاني جلد الحد وكانا أثبته؛ لأنه لما نفى الأول فكأنما نفاهما، فإذا أقر بالآخر فكأنه أقر بهما، ولو نفاهما ثم أقر بهما لا يلاعن؛ لأنه أكذب نفسه، والملاعن إذا أكذب نفسه يجلد ولا يلاعن لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإذا امتنع اللعان بقيا ثابتي النسب من الزوج.
وإذا تزوج الرجل امرأة وجاءت بولدين فنفاهما الزوج، وقضى القاضي باللعان، فمات أحدهما يعني أحد الولدين قبل اللعان فهما ابنا الزوج، ويلاعن لقطع النكاح، وإنما كانا ابني الزوج (224ب4) لأنه تعذر قطع نسب الميت منهما باللعان، فيتعذر قطع نسب الحي تبعاً له فبقي نسبهما ثابتاً من الزوج.
فإن قيل: أمكن قطع نسب الحي باللعان فيمكن قطع نسب الميت تبعاً له.
قلنا: اعتبار جانب الحي يوجب قطع نسبهما واعتبار جانب الميت يوجب ثبوت نسبهما وقع الشك في القطع، والنسب كان ثابتاً فلا يقطع بالشك، وكذلك لو لم يمت واحد من الولدين، ولكن مات الزوج قبل اللعان فالولدان ثابتا النسب منهما؛ لأنه تعذر إقامة اللعان بعد موت أحد الزوجين.

وكذلك لو التعنا عند القاضي إلا أن القاضي لم يفرق بينهما، ولم يلزم الولد أمه حتى مات الزوج أو المرأة، فالولدان ثابتا النسب منهما؛ لأن بمجرد اللعان لا ينقطع نسب الولد من الزوج ما لم يقطعه القاضي، وتعذر قطع النسب بعد موت أحد الزوجين متعذر، فكذا قطع النسب من جملة اللعان، وإقامة اللعان بعد موت أحد الزوجين متعذر، فكذا قطع النسب الذي هو من جملة اللعان.

وإذا ولدت امرأة الرجل ولداً فنفاه الزوج، ولاعن القاضي بينهما وفرق بينهما، وألزم الولد أمه، ثم ولدت ولداً آخر في ذلك البطن، فإن الولدين يلزمان الأب؛ لأن نسب الثاني ثبت من الزوج لأنه لم يوجد فيه نفي ولا لعان، وثبات النسب الثاني يوجب ثبات نسب الأول.
فإن قيل: هلا اعتبرتم جانب القطع قلتم: قطع نسب الأول يوجب قطع نسب الثاني.
قلنا: اعتبار الثاني في حق النسب أولى من اعتبار الأول في حق القطع، لأنا إذا اعتبرنا الثاني في حق ثبات النسب، وثبت نسب الأول باعتبار الثاني كان في ذلك إبطال النفي في حق المنفي، وأنه جائز كما لو أكذب الملاعن نفسه.
ولو اعتبرنا الأول في حق القطع وانقطع نسب الثاني باعتبار الأول، فقد انقطع نسب الحبل باللعان، وقطع نسب الحبل باللعان غير مشروع، لكان اعتبار الثاني في حق إثبات النسب، وفيه إثبات أمر مشروع أولى من اعتبار الإقرار في حق القطع وفيه إثبات أمر غير مشروع، ولكن كانت ولدتهما جميعاً، وعلم بأحدهما ونفاه، ولاعن وألزمه القاضي أمه، وفرق بينهما، ثم علم بالآخر؛ فهما ابناه، لأن النسب الذي علم بعد ذلك

(9/274)


ثابت من الزوج لأنه لم يوجد في حقه نفي ولا لعان، ومن ضرورة ثبوت نسبه ثبوت نسب الآخر؛ لأنهما لا يختلفان في النسب لكونهما توأمان، فإن قيل: لم لا يجعل نسب أحدهما باللعان قطعاً في حق الآخر.

قلنا: اللعان يعتمد النفي في حق الآخر، ولم يوجد من حيث الصريح، أو جعل النفي موجوداً في حق الآخر إنما يجعل موجوداً من حيث المعنى، إلا أن النفي لا يثبت من حيث المعنى بل يعتمد الصريح، وإذا لم يوجد في حق الآخر نفي صريح لا يثبت اللعان في حق الآخر فكان الآخر ثابت النسب ما لم يقطع باللعان ثابتاً.
وأما اللعان ثانياً فتعذر لأن الزوجية انقطعت بها لفرقة بينهما، ولأن الذي انقطع نسبه باللعان يحتمل الثبوت منه بالإكذاب فالذي نفى ثابت النسب منه بعدما قضى القاضي بينهما بالفرقة فنسبه لا يحتمل النفي لأن انتفاء نسب ولد النكاح باللعان، واللعان بعد وقوع الفرقة ممتنع فكان الترجيح لجانب الإثبات.
ولو علم الثاني قبل أن يفرق القاضي بينهما فنفاه، فالقاضي يعيد اللعان بينهما لأجل الثاني، ويقطع نسبهما من الزوج لأن النفي في حق الثاني وجد صريحاً، وإقامة اللعان ممكن فيعاد اللعان ويقطع نسب الثاني من الزوج كما قطع نسب الأول.
وإذا أكذب الملاعن نفسه، وادعى نسب الولد بعدما فرق القاضي بينهما وألزم الولد أمه، إن كان الولد حياً ثبت نسب الولد منه لأنه بالإكذاب بطل اللعان، لأن اللعان شهادات، والشهادة تنفسخ برجوع الشاهد، وإذا بطل اللعان صار وجوده كعدمه، ولو عدم اللعان كان الولد ثابت النسب من الزوج؛ فكذا ههنا، ويقام عليه الحد لأنه ملاعن أكذب نفسه، والحكم في مثله الحد ثم يقام عليه الحد سواء كانت المرأة حية أو ميتة.

إن كانت حية فلا إشكال لأنه صار قاذفاً حية محصنة.
وإن كانت ميتة فلا بد أن يصير قاذفاً لها بالقذف السابق عند الإكذاب، فيصير قاذفاً لها وهي ميتة.

ومن قذف ميتة كان على القاذف الحد؛ وهذا إذا كان الولد حياً لأن الحي محتاج إلى أن يتشرف بالنسب ويتجمل به، فلا يصح دعوته، فإن ترك هذا الولد المنفي ابناً أو ابنة، أو ابن ابن فادعاه الملاعن صحت دعوته، لأن الميت إن استغنى عن النسب فولده محتاج إليه حتى يثبت نسبه من الحد فيتشرف به، وحاجة ولده وهو بعضه كحاجة نفسه.
ولو كان المنفي محتاجاً إلى النسب أليس أنه يصح دعوته، فكذا إذا كان بعضه محتاجاً إليه، ولو كان الولد المنفي ابنة، وتركت ابنة وابناً ثم أكذب الملاعن نفسه لم يصدق، ولم يرث في قول أبي حنيفة وفي قولهما يصدق ويرث.
فوجه قولهما: أن ولد الابن كما هو محتاج إلى نسب أبيه، فولد الابنة يحتاج إلى نسب أمه؛ لأن الإنسان كما ينسب إلى أبيه، وكما يتشرف بشرف الأب يتشرف بشرف الأم، ويصير كريم الطرفين فكان في الفصل الأول جعل بقاء ولد الولد المنفي كبقاء الولد المنفي، فكذا في هذا الفصل يجعل كذلك، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا الولد غير

(9/275)


منسوب إلى الملاعن لأن نسب الولد إلى قوم أبيه لا إلى قوم أمه، فلا يلاعن نفسه في حقه بخلاف الفصل الأول.
وإذا لاعن الرجل بجارية، وألزمها الأم ثم أراد ابن الملاعن أن يتزوجها لم يكن له ذلك، ويفرق بينهما، وكذلك الملاعن نفسه لو ادعى أنه لم يدخل بالأم، وتزوج بالبنت فرق بينهما؛ وهذا لأن النسب باقٍ في حق حرمة المناكحة كما في حق حرمة قطع الزكاة عنده، وقبول الشهادةبيانه أن النسب، وإن انقطع باللعان حقيقة إذا كان ممكن الإعادة يعتبر قائماً حكماً، هذا أصل متمهد في قواعد الشرع.
فإذا كان النسب بعد اللعان منقطعاً حقيقة قائماً حكماً، كان قائماً من وجه، منقطعاً من وجه، فاعتبرناه منقطعاً في حق الميراث والنفقة، فاعتبرناه قائماً في حق حرمة وضع الزكاة، وقبول الشهادة أخذا بالاحتياط في كل فصل.
ولأجل ما ذكرنا قلنا بأنه لا يصح دعوى غيره نسب ولد الملاعنة لأن النسب من الأول باق من وجه.

نوع آخر في بيان ولد المطلقة
طلق الرجل امرأته ثم جاءت بولدين؛ فهذه المسألة على وجهين:
إما أن كان الطلاق رجعياً.
أو بائناً، وكل وجه من ذلك على ثلاثة أوجه:
إما إن جاءت بهما لأقل من سنتين.
أو جاءت بهما لأكثر من سنتين بيوم.
وبالآخر من سنتن بيوم، وبدأ محمد في الكتاب بالطلاق الرجعي.
فقال: إذا جاءت بولدين لأقل من سنتين من وقت الطلاق، ولم تقر المرأة بانقضاء العدة فنفى الزوج الولد الأول، ثم ولدت الثاني؛ فهما ابناه لأنهما ولدا لنكاح، ونسب ولد النكاح لا ينقطع إلا باللعان، واللعان ههنا يتعذر.
بيانه: أن المرأة وإن كانت منكوحة له وقت نفي الولد الأول بقيام العدة إلا أنها لما ولدت الثاني بعد ذلك فقد انقضت عدتها، وانقضاء العدة في الطلاق الرجعي بقطع النكاح، وانقطاع النكاح بعد النفي يمنع جريان اللعان لقيام الزوجية وقت النفي والعقد متى انعقد موجباً للعان لا يوجب الحد بعد ذلك إلا بإكذاب الملاعن نفسه، ولم يوجد الإكذاب ههنا.
وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين، وقد نفى الأول فلأنة لا يلاعن بينهما لقطع النكاح، وقطع النسب يكون موقوفاً إن نفى الثاني قطع نسبهما منه وإلا فلا يلاعن بينهما لقطع النكاح لأنا نتيقن أن العلوق بالولدين من وطء بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين عندنا، فصار الزوج مراجعاً لها، فولادة الولد الثاني حصلت بعد رجعته الزوج، فيكون النكاح قائماً، وقت ولادة الولد الثاني، وهما من أهل اللعان بينهما، وإنما كان قطع النسب موقوفاً على نفي الثاني، لأن نفي الأول لا يكون نفياً للثاني في حق اللعان (225أ4) فبقي الثاني ثابت النسب، وثبوت نسب أحدهما يوجب ثبوت نسب الآخر، فلهذا توقف قطع النسب على نفي الثاني.

(9/276)


فإن قيل: كان ينبغي ألا يقطع نسبهما، وإن نفى الثاني لأنا حكمنا بكون الولدين مخلوقين من مائه لما حكمنا بالرجعة، وكون الولد مخلوقاً من مائه يمنع قطع النسب باللعان كما لو كان مقراً به.
قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في الجواب:
فعبارة بعضهم: أن الحكم بكون الولد مخلوقاً من مائه لو ثبت إنما يثبت إذا ثبت الحكم بالرجعة بوطء الزوج ولم يحكم بالرجعة بوطء الزوج؛ لأن الرجعة كما تثبت بالوطء تثبت بدواعي الوطء وبمقدماته، وهي اللمس عن شهوته.
وعبارة بعضهم وهو الأصح: أنّا وإن حكمنا بكون الولدين مخلوقاً من مائه، فإنما حكمنا به بالرجعة، والرجعة مما تقبل الإبطال بعد ثبوتها فإنه لو طلقها ثلاثاً بعد الرجعة تبطل الرجعة، والحكم بكون الولد مخلوقاً من ماء الإنسان إذا كانت بسبب حكم يقبل الطلاق لا يمنع القطع باللعان، ألا ترى أن قبل النفي حكمنا بكون الولد مخلوقاً من مائه لما حكمنا بثبات النسب، ثم لم يمنع ذلك جريان اللعان، وقطعه به لما كان النسب يقبل القطع والإبطال بعد الثبوت.

وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم، وجاءت بالآخر لأكثر من سنتين بيوم، ونفى الزوج الأول منهما، فالجواب فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف كالجواب فيما إذا جاءت بهما لأقل من سنتين؛ لأنهما يجعلان الثاني تبعاً للأول لأنه لا بد من جعل أحدهما تبعاً للآخر لأنهما خلقا من ماء واحد فكان جعل اللاحق تبعاً للسابق أولى لأن للسبق إبراء في كثير من الأحكام.
وعند محمد الجواب فيه كالجواب فيما إذا جاءت بهما لأكثر من سنتين لأنه يجعل الأول تبعاً للثاني لأن العلوق بالثاني متيقن أنه بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في الولد أكثر من سنتين والعلوق بالأول مشكوك يجوز أن يكون بعد الطلاق، ويجوز أن يكون قبله، ولا شك بأن جعل المتيقن أصلاً أولى هذا الذي ذكرنا إذا كان الطلاق رجعياً.

فإن كان الطلاق بائناً، فإن جاءت بهما لأقل من سنتين من وقت الطلاق فهما ابناه لأنهما ولدا لنكاح وتعذر قطع نسبهما باللعان لانقطاع الزوجية، وعلى الزوج حد القذف لأنه قذفها وهي أجنبية محصنة.
وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين؛ لا يثبت نسبهما من الزوج، ولا حد على الزوج، وإن قذفها وهي أجنبية لما أنها في صورة الزانيات، ولأن في حجرها ولد لم يثبت نسبه من أحد.
وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم، وجاءت بالآخر لأكثر من سنتين؛ فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف، هذا وما لو جاءت بهما لأكثر من سنتين سواء.
وإذا طلق الرجل امرأته واحدة بائنة، وقد دخل بها ثم تزوجها ثانياً، ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح الثاني فنفاه فإنه يلاعن بينهما لقيام النكاح بينهما في الحال ويفرق بينهما، والولد ثابت النسب من الأب.

(9/277)


لأنا تيقنا أن العلوق به كان في النكاح الأول، والنكاح الأول قد انقطع، والنكاح الذي منه الولد إذا انقطع لا يمكن قطع نسب الولد بعد ذلك باللعان لأن الولد فرع النكاح ولا يمكن قطع ذلك النكاح باللعان، فكذا قطع نسب ولد يكون منه.
وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً فإنه يلاعن ويقطع نسب الولد لأن علوق هذا الولد من النكاح الثاني لأن الوطء حلال للزوج فيحال به على أقرب الأوقات، فالنكاح الذي منه هذا الولد قائم فيجوز نسبه باللعان.

نوع آخر في نفي ولد المنكوحة إذا كانت أمته
وإذا كانت منكوحة الرجل أمة جاءت بولد فهذا على وجهين:
الأول: إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح، وفي هذا الوجه إن ادعاه الزوج لا يثبت نسبه إلا بتصديق المولى، لأن علوق هذا الولد كان في ملك المولى فيحتاج إلى تصديق المولى لثبات نفسه كما قبل النكاح، وإن نفاه لا يلزمه لأنه لا يلزم بدون النفي، ففي النفي أولى.

الوجه الثاني: أن تجيء به لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد منه ادعاه أو لم يدع لأنه ولد النكاح، وإن نفاه لا يلاعن بينهما لأن اللعان لا يجري بين الحر والأمة، ولا ينتفي نسب الولد لأن نسب ولد المنكوحة لا ينتفي إلا باللعان، ولا لعان بينهما؛ ولا حد عليه لأنها ليست بمحصنة، فإن كان المولى أعتق الأمة، ثم جاءت بولد فهو على وجهين:
الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق، وأنه على وجهين أيضاً:
الأول: أن يدعي الزوج الولد وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد من الزوج اختارت زوجها أو نفسها قبل الدعوى أو بعد الدعوى، إن اختارت زوجها فلأن النكاح قائم وقت العلوق، ووقت الدعوى، وذلك كاف لثبات النسب بدون الدعوى، فمع الدعوى أولى، وإن اختارت نفسها حتى ماتت، فكذلك إن اختارت نفسها بعد النكاح فظاهر، وإن اختارت نفسها قبل الدعوى؛ فلأن النكاح إن كان منقطعاً وقت الدعوى فقد كان قائماً وقت العلوق، وإن كان لثبات النسب من غير دعوى فمع الدعوى أولى.
الوجه الثاني: أن ينفي الزوج الولد؛ وفي هذا الوجه، وإن اختارت زوجها فنسب الولد ثابت منه، ويتلاعنان بقطع النكاح، أما نسب الولد فلأنه ولد النكاح؛ وتعذر قطعه باللعان لأنهما لم يكونا من أهل اللعان وقت العلوق.
وأما التلاعن بقطع النكاح فلأن النكاح قائم وقت النفي، وهما من أهل اللعان وقت النفي فيتلاعنان بقطع النكاح إن كانا لا يتلاعنان بقطع النسب، وهو نظر ما لو نفى ولد امرأته بعدما أقر به، فإنهما يتلاعنان بقطع النكاح؛ لا بقطع النسب؛ كذا ههنا، وإن اختارت نفسها؛، فإن كان ذلك قبل نفي الولد ثم نفى الزوج الولد فنسب الولد ثابت من

(9/278)


الزوج ولا يلاعن لأنه لا نكاح بينهما وقت النفي؛ لأنه ثابت باختيارها نفسها قبل النفي، ولا يقام اللعان بعد البينونة، ويجب الحد على الزوج لأنها محصنة وقت القذف.

وإن كان اختيارها نفسها بعد النفي قبل إقامة اللعان فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان لأنها بانت من زوجها، ولا حد أيضاً لأن القذف انعقد موجباً للعان لأنها كانت محصنة وقت القذف منكوحة للقاذف، والقذف متى انعقد موجباً للعان لا يوجب الحد إلا إذا أكذب الملاعن نفسه؛ ولم يوجد ذلك ههنا، هذا إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق.

فأما إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت العلوق، فإن ادعى الزوج الولد، فالولد ثابت النسب منه ولا حد ولا لعان في الوجوه كلها، وإن نفاه فهو على وجهين:
إن اختارت زوجها، فهما يتلاعنان بقطع نسب الولد، فيه قياس واستحسان، القياس: أن لا يقطع، وفي الاستحسان: يقطع على ما مر.
وإن اختارت نفسها قبل نفي الولد، فإن الولد ثابت النسب من الزوج ولا لعان لأنه قذفها وهي أجنبية، ولكن يجب الحد لأنها محصنة وقت القذف.
وإن اختارت نفسها بعد النفي قبل إقامة اللعان؛ فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان ولا حد لما مر.
رجل تحته أمة اشتراها من مولاها؛ ثم جاءت بالولد، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء فالولد ثابت النسب من الزوج سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ولد النكاح بيقين، وولد النكاح ثابت النسب، فإن نفاه الزوج في هذه الصورة فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان بينهما، إما لأن المقذوف أمة، أو لأن النكاح قد انقطع وقت القذف، ولا حد أيضاً لأن القذف صادف أمة، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت الشراء (225ب4) ، فإن ادعاه الزوج ثبت النسب منه، وإن نفاه لا يثبت النسب منه سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ولد الأمة.

بيانه: أن العلوق حادث والأصل في الحادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات إلا لضرورة، وذلك بأن يتضمن إحالتها على أقرب الأوقات نسبة الزوج إلى ارتكاب الحرام كما في الطلاق البائن، فإن الوطء بعد الطلاق البائن حرام على الزوج، فيحال بالعلوق على أبعد الأوقات وهو ما قبل النكاح صيانة له عن النسبة إلى الحرام، أو يتضمن خلاف السنة بأن يصير الزوج مراجعاً بالوطء فيحال بالعلوق على أبعد الأوقات صيانة للزوج عن النسبة إلى مخالفة السنة، وهذه الضرورة معدومة في مسألتنا؛ لأن الوطء حلال للزوج بعد الشراء بملك اليمين، ولا يصير مراجعاً بالوطء بعد الشراء فيحال بالعلوق على ما بعد الشراء، فهو معنى قولنا: إن ولد الأمة، وولد الأمة لا يثبت نسبه بدون الدعوى، فمع النفي أولى.
رجل تحته أمة اشتراها من مولاها فأعتقها ثم جاءت بالولد؛ هذه المسألة على ثلاثة أوجه:

(9/279)


الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق، فإن ادعاه ثبت نسبه منه سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، لأنها إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء فهذا ولد النكاح.

وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الشراء فهذا ولد أمته وقد ادعاه، ومن ادعى ولد أمته يثبت النسب منه، وإذا ثبت النسب منه صارت الجارية أم ولد له، لأنه ملك جارية له منها ولد؛ وهو ثابت النسب منه.
وأما إذا نفاه الزوج إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء لا ينتفي نسبه، ولا لعان بينهما لانقطاع النكاح، ويجب حد القذف؛ لأن المقذوف محصنة أجنبية من القاذف وقت القذف، وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الشراء، فإن نسب الولد لا يثبت منه، لأنه ولد أمة لما بينا أن العلوق حادث يحال به على أقرب الأوقات ما أمكن، ولا لعان لانقطاع النكاح، ولا حد على الزوج لأن في حجرها ولد غير ثابت النسب من أحد فكانت في صورة الزانيات.

الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت العتق، فإن ادعى الزوج نسب الولد ثبت نسبه منه سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وإن نفاه إن كانت المرأة غير مدخول بها؛ لا يثبت نسبه منه عندهم جميعاً، وإن كانت المرأة مدخولاً بها ونفاه، أو لم ينفِ، ولم يدعُ بل سكت؛ اختلفوا فيه؛ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يثبت نسبه من الزوج، ولا يضرب الحد إذا نفى، وقال محمد رحمه الله: يثبت النسب من الزوج ويضرب الحد إذا نفى، وجه قول محمد أنَّ هذه معتدة قد ثبت نسب ولدها من صاحب العدة إلى سنتين، وإنما قلنا: هذه معتدة قد ثبت نسب ولدها من صاحب العدة إلى سنتين لأن العدة قد وجبت بالفرقة الشرعية بالشراء، وظهر بالعتق حتى لزمها الإيفاء عن محظورات العدة، وحرم على الزوج، ولا يحل له أن يتزوج بأختها وأربع سواها، بخلاف ما لو لم يعتقها، وجاءت بالولد لستة أشهر من وقت الشراء، فإنه لا يثبت نسبه من غير دعوى لأنا قلنا: معتدة جاءت بولد، وقيل: العتق بعد الشراء لا تظهر العدة في حق المولى، فإن شيئاً من أحكامها لا يظهر في حق المولى، فكان بمنزلة المطلقة قبل الدخول بها من هذا الوجه.
وأما أبو يوسف يقول بأن هذه ولد الأمة فلا يثبت نسبه بدون الدعوى قياساً على ما لو لم يعتقها.
بيانه: أن العلوق حادث، فيحال بالحدوث على أقرب الأوقات ما أمكن، وأمكن إحالته إلى ما بعد الشراء؛ لأن الوطء حلال للمولى بعد الشراء بملك اليمين، ولا يصير المولى بالوطء مراجعاً حتى يصير مخالفاً للسنة، بخلاف المطلقة بعد الدخول بها إذا جاءت بولد؛ لأن الوطء حرام على الزوج بعد الفرقة إن كان الطلاق بائناً، وإن كان رجعياً يصير الزوج مراجعياً بها لوطء، وإنه خلاف السنة، فأحيل به على حال النكاح،

(9/280)


فكان ولد منكوحة، وإذا لم يثبت النسب من الزوج عند أبي يوسف لم يجب الحد وإن نفى، فإن في حجرها ولداً غير ثابت النسب من أحد، وعند محمد لما ثبت النسب لا يجب الحد، وإن نفى إذ ليس في حجرها ولد غير ثابت النسب من أحد.

الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت العتق؛، فإن ادعاه الزوج ثبت نسبه منه، وإن نفاه لا يثبت نسبه منه عندهم كما في المطلقة، وإذا لم يثبت نسب الولد من النكاح لا يجب الحد لما ذكرنا.
رجل تحته أمة اشتراها ثم باعها من غيره، ثم جاءت بولد بعد البيع، فهذه المسألة على وجوه أيضاً:
الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت شراء الزوج إياها، وفي هذا الوجه ثبت نسبه منه، ادعاه أو سكت؛ لأنه ولد النكاح، وولد النكاح ثابت النسب من الزوج ادعاه أوسكت، وإذا ثبت النسب ظهر بطلان بيع الزوج؛ لأنه ظهر أنه باع أم ولده وولده الحر فوجب على الزوج رد الثمن، وإن نفاه لا ينتفي نسبه أيضاً، لأن نسب ولد النكاح لا ينقطع إلا باللعان، وتعذر إقامة اللعان ههنا لانقطاع النكاح، وتكون المقذوفة أمته.

الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فقط منذ اشتراها الزوج فادعاه الزوج فالجواب فيه كالجواب فيما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج، لأنها ولدت لستة أشهر منذ اشتراها الزوج، لأنها ولدت لأقل من ستة أشهر منذ باعها الزوج، لأنها ولدت لستة أشهر منذ اشتراها فيكون لأقل من ستة أشهر منذ باعها، ومن باع جارية وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ باعها، وادعاه البائع صحت دعوته.
الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ بيع الزوج وادعاه الزوج ثبت نسب الولد منه من غير تصديق المشتري وبطل كما لو باع أمة لم تكن زوجة له وجاءت بولد عند المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، وإن نفاه الزوج في هذه الصورة لا يثبت نسبه، لأنه ولد الأمة ولم يدع نسبه، وإذا لم يثبت النسب، ففي البيع على حاله، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت بيع الزوج، وادعاه، فإن كانت المرأة غير مدخول بها لا يثبت نسبه إلا بتصديق المشتري، كما لو باع أمة لم تكن زوجة له وجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت البيع، وادعاه البائع، وإذا صدقه المشتري حتى ثبت النسب بطل البيع، وإن كانت المرأة مدخولاً بها، وباقي المسألة بحاله، كان أبو يوسف يقول أولاً تصح دعوته من غير تصديق المشتري؛ وهو قول محمد.
ووجه ذلك: أن هذه ولد المعتدة، لأن المعتدة وجبت بالفرقة الواقعة بالشراء، وظهر بالبيع حتى لا يحل للمشتري أن يقربها ما لم تنقض عدتها، والمعتدة إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت نسبه من صاحب العدة من غير تصديق ودعوى، كما في المطلقة، وكما لو أعتقها الزوج في هذه الصورة على قول محمد، وإنما شرط محمد رحمه الله

(9/281)


الدعوى ههنا لثبات النسب، وإن كان ولد المعتدة لأجل الضرورة لأنها متى لم يشترط الدعوى وأثبتها النسب بدون الدعوى ابتداءً لزمنا اشتراط الدعوى انتهاءً.
بيانه: أنه متى ثبت النسب بدون الدعوى ينتقض البيع، وصار كأنه لم يبع، ولو لم يبع، وجاءت بالولد لستة أشهر منذ اشتراها الزوج لا يثبت النسب إلا بالدعوى فيثبت، أما لو لم يشترط الدعوى ابتداءً، لشرطناها انتهاءً، فشرطناها من الابتداء لهذه الضرورة بخلاف ما لو أعتقها على أصل محمد رحمه الله، لأن هناك لو لم تشترط الدعوى في الابتداء إثبات النسب لا يلزمها اشتراطها في الانتهاء؛ لأنها إذا جاءت بالولد بعد العتق لا ينتقض العتق، وبخلاف ما لو لم تكن المرأة مدخولاً بها لأن هناك بالشراء وقعت الفرقة قبل الدخول من غير عدة، وكان ولد أمة لا ولد معتدة، وجه قول أبي يوسف الآخر أن هذا ولد الأمة لأن العلوق بحال (226أ4) على ملك اليمين على ما مر في فصل العتق فقد جاءت بالولد بعد البيع لستة أشهر فإذا ادعاه البائع يجب ألا تصح دعوته من غير تصديق المشتري، كما لو لم تكن الأمة زوجة له، هذا إذا ادعاه، وإن نفاه لا يثبت نسبه عندهم جميعاً.
إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت بيع الزوج، إن ادعاه الزوج لا يثبت نسبه إلا بتصديق المشتري عندهم جميعاً، أما عند أبي يوسف الآخر فلأنها إذا جاءت به إلى سنتين لا يثبت النسب إلا بتصديق المشتري فههنا أولى، وأما عند محمد فلأنه يعتبرها بالمعتدة، والمعتدة إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت الفرقة لا يثبت النسب من غير دعوى، فههنا كذلك، وإن نفاه لا يثبت النسب عندهم جميعاً.

رجل تحته أمة رجل، اشتراها ثم باعها من آخر فولدت في يد المشتري ولداً، وأعتق المشتري الولد، ثم ادعاه البائع وقد كان دخل بها في النكاح، فهذا على وجهين أيضاً: الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج، وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد من الزوج، ادعاه الزوج أو لم يدعِ، لأنه ولد النكاح وبطل البيع، وبطل عتق المشتري لأنه ثبت أنه باع أم ولده، وأن الولد كان حراً، وإن جاءت به لستة أشهر منذ اشتراها الزوج لا يثبت نسبه منه، لأنه ولد الأمة فلا تصح فيه دعوى البائع بعدما أعتقه المشتري، كما لو لم تكن الأمة زوجة له.
وإن لم يكن المشتري أعتق الولد ولكن أعتق الأم، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج؛ وفي هذا الوجه صحت دعوته في حق الأم والولد جميعاً، لأنه ولد النكاح فكان ثابت النسب من الزوج، وإن لم يدعه وظهر أنه باع أم الولد فظهر بطلان البيع وظهر بطلان إعتاق المشتري، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً منذ اشتراها الزوج، فإن كان لأقل من ستة أشهر منذ

(9/282)


باعها لا يثبت النسب إلا بالدعوى لأنه ولد الأمة، وإذا ادعى صحت دعوته في حق الولد، ولم تصح دعوته في حق الأم، كما لو باع أمة ليست بزوجة له وجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فأعتق المشتري الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته في حق الولد من غير تصديق المشتري حتى يرد الولد على البائع، ولا يسلم للبائع ما قبض من حصته من الثمن، ولم تصح دعوته في حق الأم حتى لا ترد الأم على البائع ويسلم للبائع ما قبض من حصتها من الثمن؛ كذا ههنا، وإن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ باعها الزوج فإنه لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري عند أبي يوسف الآخر، وعند محمد تصح دعوته إلى سنتين من غير تصديق المشتري إذا كانت مدخولاً بها لمكان العدة، وهو قول أبي يوسف الأول، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ اشتراها فسواء جاءت لأقل من سنتين أو لأكثر من سنتين منذ باعها الزوج لا تصح دعوى الزوج إلا بتصديق المشتري، إلا إذا جاءت بالولد لسنتين من وقت البيع وصدقه المشتري ينتقض البيع، وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لا ينتقض البيع.
وإذا طلق الرجل امرأته الأمة تطليقة بائنة ثم أعتقت ثم جاءت بالولد إلى سنتين منذ طلقها فإنه يلزمه إياه، فإنه ولد النكاح؛ لأن العلوق ههنا محال به على أبعد الأوقات وهو وقت النكاح؛ لأن الوطء حرام بعد النكاح، ويضرب الزوج الحد لأنه قذفها وهي محصنة أجنبية من القاذف.

وولاء الولد لمولى الأم لأنه معتق.... إلا أنا حكمنا بوجوده وقت إعتاق الأم حيث أحلنا العلوق على حال النكاح، والمعتق...... لا يتبع أحداً في الولاء، ويكون ولاؤه للمعتق، قال عليه السلام: «الولاء للمعتق» ، ولو مات الأب وقد أعتقت بعده بيوم، وجاءت بالولد إلى سنتين فالجواب فيه، والجواب فيما إذا طلقها سواء، لأن العدة كما تجب بالطلاق تجب بالموت، وإذا كانت امرأة الرجل أمة، فولدت منه ولداً فاشتراها الزوج وأعتقها تزوجها، ثم ولدت ولداً آخر لستة أشهر فصاعداً منذ تزوجها فنفاه لاعن القاضي بينهما، ولزم الولد أمه، أما اللعان فلأنهما من أهل اللعان وقت النفي، ويقطع نسب الولد؛ لأن العلوق يحال به على أقرب الأوقات وهو ما بعد النكاح، وهما من أهل

(9/283)


اللعان في ذلك الوقت، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها آخر أو لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها يلاعن ويلزم الولد أباه، لأنها بالشراء صارت أم ولد له، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح الأخير علمنا أن العلوق كان سابقاً على هذا النكاح فكان ولد أم الولد ونسب ولد أم الولد لا ينتفي بمجرد النفي بعدما ثبت فيها العتق، واللعان متعذر؛ لأن حالة العلوق لم يكونا من أهل اللعان، ولو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها لاعن القاضي بينهما، ولزم الولد أمه، لأن العلوق كان في حال النكاح حال ما لا يجري بينهما اللعان، ويضرب الحد إذا كانت أم الولد مسلمة لأنها محصنة، ولو صدقته المرأة أن الولد ليس منه لم يصدقا على الولد لأن النسب من حق الولد وقد استحق النسب لأنه ولد النكاح، فلا يصدقان على إبطال حقه والله أعلم.

نوع آخر من المسائل التي تتعلق بأم الولد

الجارية إذا كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم جاءت بولد آخر بعد ذلك لم يثبت نسبه من غير دعوى منهما، وإن كانت الجارية أم ولد لهما ونسب ولد أم ولد يثبت بدون الدعوى، والوجه فيه ما ذكرنا: أن نسب ولد أم الولد إنما يثبت بدون الدعوى إذا كانت أم الولد بحال يحل للمولى وطؤها، أما إذا كانت بحال لا يحل للمولى وطؤها لا يثبت نسب ولدها بدون الدعوى، وإن ادعاه أحدهما ثبت النسب منه، وضمن لشريكه نصف عقرها، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً عند أبي حنيفة، لأن ولد أم الولد بمنزلة أم الولد، ومالية أم الولد غير متقومة عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن ولد أم الولد غير متقوم عند أبي حنيفة؛ حتى لو أعتقها أحد الشريكين لا يضمن لشريكه شيئاً، فكذا مالية ولدها، وعندهما مالية أم الولد متقومة لو أعتقها أحد الشريكين يضمن لشريكه نصف قيمتها إن كان موسراً، وسعت في نصف قيمتها إن كان المعتق معسراً، فكذا مالية ولد أم الولد.
وإذا أعتق الرجل أم ولده ثم تزوجها، فجاءت بولد فنفاه المولى، فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فإنهما يتلاعنان؛ لأنهما من أهل اللعان وقت القذف، والنكاح بينهما قائم، ولزم الولد أباه هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، قال شمس الأئمة السرخسي: تأويل المسألة: إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ أعتقها حتى لا ثبت النسب من المولى؛ باعتبار زوال الفراش إلى عدة، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده أجرى المسألة على إطلاقها من غير تأويل، قال: العلوق كان في حال كونها أم ولد له، وقد حدث العتق فيها من قبل المولى، ونسب ولد أم الولد لا ينتفي بمجرد النفي بعدما حدث العتق في الأم، وإنما ينتفي بمجرد النفي، قبل حصول العتق، فلا ينتفي بمجرد النفي ههنا، واللعان متعذر؛ لأنهما لم يكونا من أهل اللعان حال ما حصل العلوق أنها كانت أم ولد في تلك الحالة، وإن جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ تزوجها، فإنهما يتلاعنان، ويقطع نسب الولد استحساناً، فإذا مات الرجل وترك امرأة (فجاءت ب) ولد فأقر الوارث أنها ولدت هذا الغلام من الميت، فإن لم يكن هناك للمقر

(9/284)


منازع ثبت نسب الغلام من الميت ويرث ولا يشترط العدد في المقرين، ولا لفظة الشهادة، فإن كان (226ب4) للمقر منازع يشترط العدد باتفاق الروايات، ولا يشترط العدالة باتفاق الروايات، وهل يشترط لفظة الشهادة؟ فيه روايتان:

رجل باع أم ولده من رجل؛ والمشتري يعلم به، فجاءت بولد وادعاه المشتري، لا يثبت نسبه منه وهو ابن البائع، لأنه ولد على فراشه؛ لأن أم الولد فراش المولى، ولا يبطل هذا الفراش بالبيع لأن بيع أم الولد باطل، فإذا نفاه المولى فقد انتفى نسبه من المولى، والمشتري يدعيه فيثبت نسبه من المشتري كيلا يبقى بلا أب، وكذلك إذا لم يعلم المشتري بكونها أم ولد للبائع كان الجواب كما قلنا إلا أن في هذه الصورة إذا نفى البائع الولد يكون الولد حراً على المشتري بالقيمة لأن المشتري صار مغروراً ههنا، بخلاف الوجه الأول، فإن هناك الولد لا يكون حراً على المشتري إذا نفاه البائع، وإن ثبت النسب من المشتري لأن المشتري هناك لم يصر مغروراً.
اشترى جارية وظهر بها الحبل بعد أيام فخاصم المشتري البائع، فقال البائع: امسكها، فإن كان في بطنها ولد فهو مني، فاسقطت هذه الجارية سقطاً مستبين الخلقة لأقل من أربعة أشهر منذ قال هذه المقالة، فالولد ثابت النسب من البائع والجارية أم ولد له لأنه تبين أن الولد كان موجوداً في البطن وقت إقراره لأن الولد منه، وكان عليه أن يرد على المشتري بما أخذ من الثمن لأنه تبين أن الولد وقع باطلاً.

نوع آخر يتصل بهذا النوع
جارية بين اثنين؛ قال أحدهما: هذه أم ولدي وأم ولدك، أو قال: أم ولدك وأم ولدي، أو قال: أم ولدنا، فإن صدقه صاحبه في ذلك صارت الجارية أم ولد لهما فرق بين هذا وبينما إذا ولدت ولداً، فقال أحدهما لصاحبه: هو ابنك وابني، أو قال: ابننا حتى ثبت النسب من المقر صارت الجارية أم ولد للمقر.

والفرق: أن المقر هناك أقر بنسب الولد مقصوداً وبأمية الولد تبعاً لما ذكرنا أن أمية الولد تبع لثبات النسب وحكم البيع يوجد من الأصل فإذا ثبت نسب الولد من المقر خاصة لأنه لا يقبل الشركة والتجزؤ صارت الجارية أم ولد للمقر بطريق التبعية أيضاً، أما ههنا أقر بأمومية الولد مقصود لا تبعاً فيعتبر حكمها بنفسها، ومن حكم الاستيلاد أنه يقبل الشركة والتجزؤ إذا وقع حمله.
ولهذا قلنا: إذا جاءت الأمة المشتركة بين رجلين بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما صارت الجارية أم ولد بينهما، ولولا أن الاستيلاد يقبل الشركة والتجزؤ وإلا لصارت الجارية أم ولد لكل واحد منهما كملاً ألا ترى أن النسب لما كان لا يتجزأ إذا ثبت النسب منهما ثبت من كل واحد منهما كملاً، حتى لو ماتا ورث من كل منهما ميراث ابن كامل إذا ثبت أن الاستيلاد يتجزأ في هذه الصورة فيقول المقر: أقر أن الاستيلاد وجد منهما وقد صدقه صاحبه فيه، فكأنهما ادعيا ذلك جميعاً معاً، فلهذا صارت الجارية أم ولد لهما، ولا ضمان لواحد منهما على الآخر كما لو ادعيا معاً، وإن كذبه صاحبه في

(9/285)


ذلك ضمن المقر لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً إلا أنه يصير متملكاً نصيب شريكه بزعم شريكه إن كان لا يصير متملكاً بزعمه لأن في زعمه أن ذلك النصف أم ولد الشريك وأم ولد الشريك لا يحتمل التملك ولكن الضمان حق الشريك فيعتبر التملك في حق الشريك، وقد وجد وضمن أيضاً نصف العقر لشريكه؛ لأن إقراره بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره ثم يكون نصف الجارية أم ولد للمقر ونصفها موقوف بمنزلة أم الولد، وإنما يوقف لما قلنا: إنه لما ضمن المقر نصيب الشريك فقد انعقد سبب الملك له في نصيب الشريك، فصار كأنه اشترى، وأقر بالاستيلاد على البائع، وهو ينكر وهناك يجب القول بالتوقف كذا ههنا.

يوضحه: أن للشريك حق الرجوع إلى التصديق فربما يصدقه ساعة فساعة فتصير أم ولد بينهما فلأجل هذا التوهم أثبتنا التوقف، فإن عاد الشريك إلى التصديق صارت أم ولد بينهما أو يرد ما أحدث الضمان لإقراره أنه أخذ ما أخذ بغير حق، وإن لم يعد إلى التصديق فنصفها أم ولد للمقر ونصفها موقوف بمنزلة أم الولد تخدم المقر يوماً وتوقف يوماً وفي بعض النسخ يكتسب لنفسه يوماً، فإن مات أحدهما، ففي فصل التصديق عتقت أيهما مات لمعنى واحد أن نصيب الميت قد عتق بموته، فيتعدى إلى الباقي ولا سعاية عليها للحي في قول أبي حنيفة لما عرف من مذهبه أن أم الولد ليست بمال وعندهما عليها السعاية؛ لأن أم الولد مال عندهما، فقد أحبس عندهما نصيب الحي، وهو مال فيجب عليهما السعاية رداً لمال حبس عندهما، فقد احتبس عندهما، وفي فصل التكذيب كذلك تعتق أيهما مات، ولكن لمعنيين مختلفين إن مات المقر عتقت؛ لأن في زعم المنكر أن كلها أم ولد للمقر، وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه ولا سعاية عليها للمنكر؛ لأن في زعم المنكر أنها خرجت عن ملكه وصارت كلها أم ولد للمقر وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه ولا سعاية عليها للمنكر؛ لأن في زعم المنكر أنها خرجت عن ملكه وصارت كلها أم ولد للمقر، وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه وقد أخذ الضمان من المقر فكيف يأخذ السعاية، وإن مات المنكر عتقت؛ لأن في زعم المقر أن نصفها أم ولد للمنكر وقد عتق ذلك النصف بموته فيتعدى إلى الباقي ولا سعاية عليها للمقر عند أبي حنيفة خلافاً لهما لما مر.

رجلان بينهما جارية جاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت النسب منه وحكم بحرية الولد وصارت الجارية أم ولد وضمن لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً، وهو نصف العقر وأصل المسألة معروف، فإن قال المدعي لصاحبه: إن هذه الجارية قد ولدت منك ولداً، وادعيته قبل أن تلد مني وصارت أم ولد لك وصدقه صاحبه في ذلك وكذبته الجارية، فإنهما لا يصدقان على الجارية وعلى ولدها حتى لا يبطل ما ثبت لهما من الحقوق من جهة المدعي ولا يبطل الضمان عن المدعي لأنا لما جعلناها أم ولد للمدعي فقد كذبنا المدعي في إقراره فبطل إقراره، فلهذا لم يبطل عنه الضمان ولكن يضمن المقر نصف قيمتها أم ولد باعتبار أن صاحبه لما أقر بثبوت الاستيلاد منه قبل هذا فقد أقر

(9/286)


بفوات ذلك الجزء، ومن جهته فصار ميراثاً للمدعي عن فضل قيمتها فيه على قيمتها مدبرة، من مشايخنا من قال هذا قولهما.
أما على قول أبي حنيفة: لا يضمن المقر للمقر له شيئاً، لأن أم ولد الولد غير متقوم عنده، وقيل لا بل هو قولهم جميعاً؛ لأن أمية الولد من جهة المقر له لم يثبت في الحكم، لأنها أم ولد للمقر في الحكم فصار متملكاً نصيبه، والتملك لا يكون مجاناً، لكن يضمن قيمتها أم ولد لما قلنا، والأول أشبه وأقرب الى الصواب، لأن إقرار المقر له بالاستيلاد قبل ذلك إبراء المقر عن الضمان أصلاً، لأن الاستيلاد يمنع التملك بعد ذلك، ولو وجب الضمان ههنا لوجب بالتملك، فإن اكتسبت الجارية إكساباً، أو قتلت هي أو ولدها، فذلك كله للمقر؛ لأنها أم ولد المقر والولد ابن المقر في الحكم، فلهذا قال: كل ذلك للمقر. ولو قال هذا المدعي للشريك: كنت أعتقتها أنت قبل هذا، وصدقه الشريك في ذلك، فالأمة تعتق لأن المقرر أقر بعتقها، وهو مالك الإقرار بعتقها، ولا ضمان على المقر في نصف قيمتها، ولا في نصف عقرها بخلاف فصل الاستيلاد عندهما.

والفرق: أن الإقرار بالعتق قبل ذلك إقرار ببراءة المقر عن الضمان؛ لأن العتق ينافي ضمانها أصلاً، وهو يملك إنشاء الإبراء، فيصح الإقرار به، أما الإقرار بالاستيلاد ليس بإقرار ببراءته عن الضمان أصلاً؛ لأن الاستيلاد لا ينافي الضمان عندهما، على ما عرف في تلك المسألة، فلهذا افترقا.
رجل في يديه أمة فوطئها، وولدت منه ولداً فادعى ولدها ثم قال: كانت هي أم ولد فلان فزوجنيها فولدت لي هذا الولد، وصدقه فلان في ذلك، فإن صدقتهما الأمة في ذلك أو كذبتها ولكن رجعت الى تصديقها قبل قضاء القاضي بكونها أم ولد للمقر فهي أم ولد للمقر، ويكون حكم ولدها كحكمها، فيعتقان إذا مات المقر له؛ لأن تصديقها في حق نفسها صحيح، وكذلك في حق الولد لأنها في يدها، وإنه لا يعبر عن نفسه، فصار كثوب أو دابة في يدها، فإن كبر الولد بعد ذلك وكذبها فيما أقرت، لم يلتفت الى تكذيبه، لأن إقرار الجارية قد نفذ عليه حين كان في يدها (227أ4) صغيراً لايعبر عن نفسه، فلا يتغير ذلك لصيرورته كبيراً معبراً عن نفسه كما قلنا في الملتقط إذا ادعى نسب اللقيط، ثم كبر اللقيط وكذبه لا يلتفت إلى تكذيبه، وطريقه ما قلنا، ولو لم تصدقه الجارية المقر ولم تكذبه حتى ماتت صدق المقر والمقر له؛ حتى كان الولد عبداً للمقر له؛ لأنا إنما كنا لا نصدقهما حال حياة الجارية لحق الجارية، وقد زال حقها، ولا يعتبر بحق الصغير؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، وهو في يد المقر، فصار كثوب أو دابة في يده فيصح إقراره بالملك فيه للمقر، فإن كبر الولد وأنكر أن يكون عبداً للمقر له لم يلتفت إلى إنكاره لما قلنا.

وإن كذبتهما الأمة، وثبتت على ذلك، فالقاضي يجعلها أم ولد للمقر؛ لأن أمية الولد للجارية، ونسب الولد وحرمته ثابتة من جهة المقر بناءً على الظاهر، فالمقر بقوله: إن الولد من نكاح يريد إبطال ذلك فلا يصدق عليه وعلى المقر قيمتها أم ولد للمقر له؛ لأن المقر أقر بكونها أم ولد للمقر له، وقد احتبست عنده بقضاء القاضي قيل: هذا على

(9/287)


قولهما، أما على قول أبي حنيفة لا ضمان على المقر؛ لأنه لا تقوم لمالية أم الولد عند أبي حنيفة، فلا يضمن بالاحتباس عنده، ولا عقر للمقر له على المقر لأنه ما أقر بالوطء إلا بحكم النكاح وإنه لا يوجب العقر، وأشار في «الكتاب» إلى فرق آخر، فقال: بأن القاضي لما قضى بكونها أم ولد للمقر فقد قضى بأن المقر وطء ملك نفسه، وهذا إشارة إلى أنه لا يلزمه المهر أيضاً بخلاف المسألة التي تقدم ذكرها؛ لأن هناك القاضي قضى بكونها أم ولد للمقر بعد إذ كانت مشتركة بينهما ظاهراً، فكان ذلك قضاء باستيلاد الجارية المشتركة، وإنه يوجب العقر إنما ههنا بخلافه على ما بينا.
وإن كذبتهما فلم يقض القاضي بشيء حتى ماتت توقف أم الولد حتى يكبر بخلاف ما إذا لم يكذبهما، ولم يصدقهما حتى ماتت، فإنه يقضي بولدها للمقر له، والفرق أنها إذا لم يصدقها ولم يكذب لم يوجد ما يوجب سقوط اعتبار يد المقر، فإذا ماتت والولد في يد المقر يعتبر قوله فيه، فأما إذا كذبت المقر، فقد سقط اعتبار يده؛ لأن تكذيبها كتكذيبه، وهو يعبر عن نفسه فلا يحكم برقه باعتبار يده، إلا أنه يحتمل أن يعقل الغلام فيصدق المقر، والتصديق بعد التكذيب يعتبر، فلهذا يوقف أمره.

فإن كبر وصدق المقر فيما أقر كان عبداً للمقر له، وأمه أم الولد للمقر له، وإن مضى على التكذيب جعله القاضي حراً من جهة المقر، وأمه أم ولد للمقر، وإن كانت الأم حية والغلام يعبر عن نفسه فصدقت الأم المقر وكذبه الغلام، فالغلام حر والجارية أم ولد للمقر؛ لأن تكذيب الولد قد صح بكونه من أهله، ومع صحة تكذيب الولد لا يعتبر بتصديق الأم لأن الولد أصل في هذا الباب، والأم تبع على ما عرف.
قال: وكذلك إن كذبت الأم وصدقه الغلام في جميع ما وصفت لك ولم يفسر لذلك تفسير، فمن مشايخنا من قال: تفسيره أن تصديق الولد أولى حتى كانا رقيقين للمقر له؛ لأن تصديق الولد قد صح لكونه من أهله، ولا يعتبر تكذيب الأم مع تصديقه لما قلنا، ومنهم من قال: تفسيره أن تكذيب الأم أولى حتى كان الولد حراً والجارية أم ولد للمقر، كما لو كذب الغلام، ألا ترى إلى قوله في «الكتاب» ، وكذلك لو كذبت الأم المقر، وصدقه الغلام وإنما يستقيم ذلك كذلك إذا كان الجواب في الفصلين متحداً، وهذا لأن قول كل واحد منهما صحيح معتبر بانفراده، فعند التعارض يرجح قول من يوجب الحرية على من يوجب إبطالها.

نوع آخر في بيان أنواع دعوى الرجل نسب الولد
فنقول: الدعوى في النسب لا تخلو من ثلاثة أوجه: دعوى استيلاد، ودعوى تحرير، ودعوى الأب ولد جارية أبيه، ومن يقوم مقام الأب كأب الأب حال عدم الأب حقيقة واعتباراً.

أما دعوى الأب ولد جارية أبيه فظاهر، وشرط صحتها: أن يكون للأب تأويل ملك في جارية أبيه من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وولاية التملك أيضاً من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وأن تكون الجارية محلاً ينقل من ملك إلى ملك، وإنما شرطنا أن

(9/288)


تكون الجارية محل النقل من ملك إلى ملك؛ لأن الأب يمتلك جارية الابن سابقاً على أصل الوطء لما نبين بعد هذا، ولا بد للتملك من كون المحل قابلاً للنقل من ملك إلى ملك وإنما شرطنا أن يكون له ولاية التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى؛ لأن دعوة الأب متى صحت استندت إلى وقت العلوق، وإنما يمكن القول بالإسناد إلى وقت العلوق إذا كان له ولاية التملك، من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، أما بدون ذلك فلا إمكان، فلا تصح دعوته.
إذا عرفنا هذه الجملة فنقول: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعى أبو الرجل الولد صحت دعوته صدقه الابن في ذلك أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن علوق الولد اتصل بتأويل ملكه لأن للأب تأويل الملك في مال ولده، قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» ، ولهذا لو وطء جارية ابنه وقال: علمت أنها حرام عليَّ لا حد عليه، ولو اتصل العلوق بحقيقة ملكه كان مصدقاً في الدعوى وكان اتصال العلوق بملكه بمنزلة البينة العادلة في إبطال الملك على الملك بغير رضاه فكذا إذا اتصل العلوق تأويل الملك، وإذا صحت الدعوى صارت الجارية أم ولد له، وضمن الأب قيمة الجارية، لأنه يملك الجارية على الأب لأن الشرع أثبت له ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، ولهذا كان له أن يأكل طعام الابن وأن يلبس ثيابه عند حاجته إلى ذلك، وقد مست الحاجة ههنا إلى التملك، لأنه احتاج إلى ثبات نسب الولد منه، بعدما أعلقها بولده إلا أن هذه الحاجة دون الحاجة إلى المأكول والملبوس؛ لأن الحياة المتعلقة بالمأكول والملبوس حياة حقيقية، والحياة المتعلقة بالولد حياة معنوية فلوجود أصل الحاجة أثبتنا ولاية التملك ولانعدام كمالها أثبتنا ولاية التملك بالقيمة لتظهر رتبة هذه الحياة عن رتبة تلك الحاجة ولا عقر على الأب عندنا، لأن تملكها سابق على الوطء.
بيانه: أن التملك باعتبار الحاجة إلى ثبات النسب منه، وثبات النسب وإن كان وقت العلوق إلا أن الوطء قائم مقام العلوق، فيجب تقديم الملك على الوطء ليثبت نسب الولد منه، فيتبين أنه وطء ملك نفسه، وليس كما يعلقها لأن هناك لم يمتلك الجارية؛ لأن ولاية التملك عند الإعلاق باعتبار الحاجة إلى ثبات نسب الولد منه، وقد انعدمت هذه الحاجة إذا لم يعلقها.

وليس كالأمة المشتركة بين رجلين إذا استولدها أحدهما هناك؛ لأن الوطء في نصف الشريك حصل قبل الملك؛ بيانه أن تملك نصيب الشريك هناك وقع بعد الوطء لا قبله، لأن التملك قبل الوطء في مسألتنا باعتبار الحاجة إلى ثبات نسب الولد، وثمة نسب الولد ثابت باعتبار ما له من الملك في نصيبه، ألا ترى أن الجارية المشتركة إذا كانت مدبرة واستولدها أحدهما صح استيلاده، وأن يمتلك نصيب صاحبه، أما ههنا مست

(9/289)


الحاجة إلى تقديم الملك؛ لأن ما للأب من تأويل الملك في مال الابن لا يكفي لثبات النسب منه، ألا ترى أنه لو ادعى نسب ولده من يد أبيه لا يصح إلا بتصديق الابن.
وروى بشر أن آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الجارية لا تصير أم ولد للأب، ولكن الولد حر بالقيمة بمنزلة الولد المعروف، فيغرم الأب عقرها وقيمة ولدها، وقاسه على ما إذا ادعى ولد جارية مكاتبة، فإنه لا تصير الجارية أم ولد له، فأما ليس للأب في مال الابن حق الملك، ألا ترى أنه يجوز للابن وطؤها، فلا يمكن إثبات النسب من الأب، إلا بتقديم الملك له في الجارية، وإذا قدمنا الملك في الجارية صار الأب مستولداً في ملكه، فتصير الجارية أم ولد له لهذا.
وإذا اشترى الرجل أمة حاملاً وولدت عنده بعد الشراء بيوم، فادعى أب المشتري الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق الابن؛ لأن العلوق لم يكن متصلاً لا بملكه، ولا بتأويل ملكه ولا (227ب4) بد من أحدهما لصحة الدعوة من غير تصديق المالك، وكذلك المدبرة تكون عند الرجل فتلد ولداً، فإنه لا تصح دعوة الأب إلا بتصديق الابن؛ لأن تدبير الجارية يمنع صحة الدعوى، والعلوق متصل بتأويل الملك، وإذا لم تصح الدعوة في حق الجارية لا تصح في حق الولد.

وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن دعوة الأب في ولد مدبرة الابن صحيحة يثبت نسب الولد منه ويضمن عقرها وقيمة الولد مدبراً، وهذا على الأصل الذي ذكرنا لأبي يوسف رحمه الله أنه لا يتملك الجارية ولكنه بمنزلة المغرور في دعوة النسب، وفي هذا القنة والمدبرة سواء إلا أنه يضمن قيمته مدبراً؛ لأنه كما انفصل من أمه انفصل مدبراً، فإنما يضمن قيمته على الوجه الذي أتلفه بدعوته.
وفرق على هذه الرواية بين ولد المدبرة وبين ولد أم الولد، والفرق: أن ولد أم الولد ثابت النسب من مولاها، فيمنع ذلك صحة دعوى الأب فيه، وكذلك إذا ادعى ولد مكاتبة ابنه لا تصح دعوته إلا بتصديق الابن، لأن دعوة الابن إنما تصح إذا كانت الجارية محل التملك، لأنه إذا صحت دعوته تملك الجارية سابقاً على الاستيلاد والمكاتبة ليست بمحل التملك.

ثم يستوي في هذه الصورة إن ولدته وهي مكاتبة أو كانت الكتابة بعد الولادة، وكذلك هذا على وجوه: أما إن كاتب الأم والولد جميعاً، أو كاتب الولد خاصة في هذين الوجهين لا تصح دعوة الأب؛ لأن الولد هو المقصود، وقد ثبت في الولد من جهة الابن ما يمنع نقله إلى الأب، فلهذا لا تصح دعوة الأب، وإن كانت الأم بعدما ولدت خاصة، ثم ادعى الأب نسب الولد، قال في موضع من كتاب الدعوى: لا تصح دعوته، وقال في موضع آخر: تصح وثبت نسب الولد ولا يصدق في جوابه.
قيل: ما ذكر أنه تصح دعوته قول أبي يوسف رحمه الله، وما ذكر أنه لا تصح دعوته قول محمد رحمه الله، نص على الخلاف على هذا الوجه فيما إذا باع الابن الأم بعد الولادة، ثم ادعى أبوه نسب الولد على قول أبي يوسف رحمه الله: تصح دعوته

(9/290)


ويثبت نسب الولد، وستأتي مسألة البيع بعد هذا إن شاء الله.

ويستوي في دعوا الرجل ولد جارية الابن أن تكون الجارية موطوءة الابن أو لم تكن؛ لأن العلوق قد اتصل بتأويل ملكه في الحالين، والجارية محل التملك، وإن كان لا يحل للأب فيتملكها بالقيمة كما لو كانت تحل له.
وإذا قال الأب: وقعت على جارية ابني وأنا اعلم أنها علي حرام تصح دعوته وثبت نسب الولد كما لو لم يعلم، وإنما أعلم أنها حرام علي؛ لأن الوطء في الحالين جميعاً اتصل بتأويل ملكه.
وإذا ادعى ولد جارية أبيه، وضمن قيمتها للابن ثم استحقها رجل، فإن للمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة الولد من الأب، أما أخذ الجارية والعقر فظاهر، وأما أخذ قيمة الولد؛ لأن الأب في معنى المغرور؛ لأنه لا يملك الجارية على الولد بعوض وهو القيمة، فصار في معنى المشتري، والمشتري مغرور في ولد الجارية عند الاستحقاق، ثم يرجع الأب على الابن بما أخذ منه من قيمة الجارية؛ لأنه تبين أنه لم يمتلكها على الابن، وأن الابن أخذ بغير حق.
وإذا ولدت أمة الرجل ولداً، وادعى المولى وأبوه الولد معاً صح دعوة الابن، ولا تصح دعوا الأب؛ لأن دعوا الابن سابقة معنى تعتبر بما لو كانت سابقة حقيقة. بيانه: أن دعوى الابن توجب ثبات النسب منه بلا واسطة، ودعوى الأب لا توجب ثبات النسب منه إلا بواسطة التملك، فحال ما يتملكها الأب يثبت نسب الابن، فيكون ثبات النسب من الابن سابقاً على دعوى الابن الوجه، ولو كانت دعوى الابن سابقة على دعوى الأب حقيقة لا تصح دعوة الأب، فههنا كذلك.
وإذا حبلت جارية الرجل في ملكه وولدت ولداً وادعاه الجد، والولد حي حقيقة واعتباراً بأن كان الولد حراً مسلماً، فدعوى الجد باطلة لانعدام شرط صحة الدعوى، فإن شرط صحة دعوى الجد، ولد جارية حافده أن يكون له تأويل ملك في جارية حافده من وقت العلوق إلى وقت الدعوى لأن الجد يقوم مقام الأب، وشرط صحة دعوى الجد ولد جارية حاضرة.
إذا ثبت هذا فنقول حال قيام الأب حقيقة واعتباراً: إن كان للجد تأويل الملك في مال حافدة حتى قلنا: إن الجد إذا وطئ جارية حافدة حال قيام الأب حقيقة واعتباراً لا يجب الحد على الجد كما لا يجب على الأب فليس له ولاية تملك مال حافدة لحاجة الاستيلاد إنما يثبت إن كان له ولاية التصرف في المال إذا كان صاحب المال صغيراً كما في الأب؛ لأن الولاء باب إنما يثبت في حالة الصغر، غير أن الثابت للأب في حالة الصغر ولاية التصرف لحاجة الصغير، وولاية التملك بالاستيلاد لحاجة نفسه، وهي الحاجة إلى صيانة ماله عن الضياع، وصيانة نفسه عن الزنا فما يثبت من الولاية لحاجة

(9/291)


الصغير لن تزول ببلوغه عن عقل، وما ثبت من الولاية لحاجة نفسه يبقى بعد البلوغ بطريق ثبوت الولاية للأب في ملك جارية الابن لحاجة الاستيلاد ما ذكرنا.
إذا ثبت هذا فنقول: ما دام الأب حياً حقيقةً واعتباراً فليس للجد ولاية التصرف في مال حافده وإن كان صغيراً، فلا يثبت له تملك جارية حافده لحاجة الاستيلاد، فلو صحت دعواه لصحت دعوته باعتبار مجرد تأويل الملك، ولا وجه إليه لما ذكرنا أن دعوى الأب صحت باعتبار تأويل الملك، وباعتبار ولاية التملك لحاجة الاستيلاد، ففي الجد يجب أن يكون كذلك.

فإن كان الولد نصرانياً والجد والحافد مسلمين، أو كان الأب عبداً أو مكاتباً والجد والحافد حرين صحت دعوى الجد؛ لأن للجد ولاية تملك مال حافده لحاجة الاستيلاد في هذه الصورة؛ لأن الأب في حكم الميت في هذه الصورة، ألا ترى أنه تزول ولايته عن المال بالكفر والرق كما تزول بالموت، ولو مات الأب حقيقة ثبت للجد ولاية تملك مال حافده لحاجة الاستيلاد، ويصح دعوى ولد جارية حافده كذا ههنا. والدليل عليه: أن زوال ولاية الأب بالكفر والرق تعتبر بزوال ولايته بالموت في حق الجد في حق ثبوت ولاية التصرف في مال الصغير، وفي حق تملك مال الصغير بالنفقة وبالبيع، حتى لو باع مال حافده من نفسه يجوز، فكذا في حق التملك لحاجة الاستيلاد.
ولو كان الأب مرتداً والجد والحافد مسلمين، فدعوى الجد موقوفة عند أبي حنيفة ومحمد: إن أسلم الأب بطلت دعوته، وإن مات أو قتل على الردة صحت دعوته، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: دعوى الجد باطلة، وهذا لأن لدعوى الجد صحة وبطلاناً ينبني على ولاية الأب، ونفاذ ولاية الأب موقوفة عند أبي حنيفة فكذا دعوى الجد موقوفة، وعندهما ولاية الأب باقية بلا توقف، فدعوى الجد تكون باطلة بلا توقف أيضاً.

فإن قيل: على قولها يجب أن تتوقف دعوى الجد أيضاً؛ لأن التمليك بالاستيلاد تصرف في مال الابن، وولاية المرتد في مال ولده موقوفة عند الكل، نص عليه محمد في كتاب الوكالة، إنما الخلاف فيما يتصرف المرتد في مال نفسه، فتكون دعوى الجد موقوفة ضرورة. والجواب عن هذا أن يقال: بأن ولاية التملك بالاستيلاد نظير ولايتة على نفسه؛ لأنها إنما تثبت حقاً له، ولهذا لا تزول بالبلوغ عن عقل، وكان نظير الولاية في ماله لا في مال الابن وفي توقف ولايته في ماله اختلاف، وكان بطلان دعوى الجد عندهما صحيح.

ولو كانوا جميعاً أحراراً مسلمين، ثم مات الأب، فادعاه الجد لم تصح دعوته لما ذكرنا أن من شرط صحة دعوى الجد قيام ولاية التملك له من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وقد انعدمت ولاية التملك للجد وقت البلوغ حقيقة واعتباراً لكون الأب حياً وقت العلوق حقيقة.
استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى جارية حاملاً، فوضعت عنده لستة أشهر، فادعاه والد المشتري لم تصح دعوته لانعدام ولاية التملك له وقت

(9/292)


العلوق لكونها زائلاً عن ملك الابن، أورد هذا البيان أن شرط صحة دعوى الجد قيام ولاية التملك له من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وكذلك (288أ4) لو كان الأب نصرانياً، والجد والحافد مسلمين، ثم أسلم الأب والجارية حامل وضعت حملها لأقل من ستة أشهر كانت دعوى الجد باطلة لانعدام ولاية التملك حالة الدعوى بإسلام الأب، وكذلك لو كان الوالد مكاتباً وأدى بدل الكتابة، فعتق قبل دعوى الجد أو كان عبداً، فأعتق قبل دعوى الجد كانت دعوى الجد باطلة لانعدام ولاية التملك له وقت الدعوى.
قال محمد رحمه الله: إذا كان للرجل جارية حبلت في ملكه، وللرجل والد معتوه، وله جد حر مسلم، فولدت الجارية ولداً فادعاه الجد فدعوته جائزة؛ لأن الأب جعل كالمعدوم بسبب العته لعجزه عن التصرف، وظهر ولاية الجد وصحت دعوته، وإن لم يدع الجد الولد حتى أفاق الأب لا تصح دعوى الجد بعد ذلك لانعدام ولاية الجد وقت الدعوى، وإن لم يدع الولد الجد بعدما أفاق الأب وإنما ادعاه الأب بعدما أفاق؛ القياس: أن لا تصح دعوته، وفي الاستحسان: تصح دعوته،

وجه القياس في ذلك ما مر: أن شرط صحة دعوى الأب قيام حق التملك وقت الدعوى، وههنا لم يكن للأب ولاية التملك وقت الدعوى لكونه معتوهاً، فانعدم شرط صحة الدعوى. وجه الاستحسان في ذلك: الولاية كانت قائمة وقت العلوق، فإن العته لا ينافي الولاية، ولهذا يستوجب نفقته على ولده، والإرث طريقه طريق الولاية، ولهذا ما ينفي الولاية كالرق، واختلاف الدين يمنع الإرث، فكان من هذا الوجه بمنزلة العتق، إلا أنه بمنزلة العبد من وجه؛ لأنه عاجز عن التملك كما أن العبد عاجز، إلا أن عجز المعتوه لفساد عبارته، وعجز العبد لكونه غير أهل لملك المال، أما فيما يرجع إلى العجز فهما سواء، ولو كان بمنزلة العتق من كل وجه بأن كان له ولاية التملك، ويكون قادراً على التملك صحت دعوته ولا تصح دعوى الجد.

ولو كان بمنزلة العبد من كل وجه بأن لم يكن من أهل التملك أصلاً لا تصح دعوته وتصح دعوى الجد، فإذا كان بينهما فمن حيث إنه معتوه تصح دعوته بعد إفاقته وإن كان علوق الولد قبل إفاقته، ومن حيث إنه بمنزلة العبد صحت دعوى الجد قبل إفاقته توفراً على الشبهين حطهما.
وجه آخر للاستحسان: إن العته والجنون إنما ينافي الأهلية والولاية في كل باب إذا كان مستغرقاً مدة ذلك الحكم، فأما إذا لم يستغرقه، فهو ملحق بالنوم والإغماء، ألا ترى أنه لا يعمل في الزكاة حتى يستغرق الحول، ولا يمنع الصوم حتى يستغرق الشهر، ولا يمنع الصلاة حتى يزيد على خمس صلوات، وههنا مدة هذا الحكم من حين العلوق إلى حين الدعوى، ولم يوجد امتداد العته في هذه المدة، فصار ذلك بمنزلة النوم.

جئنا إلى بيان دعوى الاستيلاد فنقول: دعوى الاستيلاد أن يكون ابتداء العلوق في ملك المدعي، وشرط صحتها في المحل قيام الملك في المحل وقت الدعوى ليس بشرط لصحة الدعوى عند علمائنا الثلاثة، حتى إن من باع جارية وولدت في يد المشتري لأقل

(9/293)


من ستة أشهر من وقت البيع، فادعى البائع الولد صحت دعوته استحساناً لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
جئنا إلى بيان دعوى التحرير، فنقول: دعوى التحرير أن لا يكون العلوق في ملك المدعي، وشرط صحتها قيام الملك للمدعي في المحل وقت الدعوى.
جئنا إلى المسائل؛ قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا باع الرجل جارية من غيره، وولدت عند المشتري ولداً، فادعاه البائع (أن المشتري) ، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع وقد علم ذلك، والحكم: أنه إذا ادعاه البائع صحت دعوته، صدقه المشتري أو كذبه؛ حتى يثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له، وانتقض البيع ورد الثمن على المشتري إن كان نقد الثمن، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة رحمهم الله.
والقياس: أن لا تصح دعوى البائع إذا كذبه المشتري، وبه أخذ زفر.
وجه القياس في ذلك: أن البائع في الدعوى متناقض ساع في نقض ما تم به وهو البيع، فلا يقبل قوله، كما لو قال: كنت أعتقتها أو دبرتها قبل البيع.
بيانه: أن إقدامه على البيع إقرار منه أنها ليست بأم ولد له، فيصير بدعوى أمية الولد بعد ذلك متناقضاً.

وجه الاستحسان في ذلك: أنا تيقنا بحصول العلوق في ملك البائع، لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر، فإذا جاءت بالولد لأقل من ذلك وقد تيقنا بحصول العلوق قبل البيع، واتصال العلوق بملك الإنسان ينزل منزلة البينة في إبطال حق الغير عليها، ألا ترى أن جارية المريض إذا جاءت بولد في ملكه وادعى نسبه ينزل ذلك منزلة البينة في حق إبطال حق الغرماء والورثة عنها وعن ولدها وهذا لأن بحصول العلوق في ملكه ثبت له حق استحقاق النسب بالدعوى، وذلك لا يحتمل الإبطال فلا يبطل بالبيع، وما يقول بأنه متناقض قلنا: نعم، ولكن طريقه طريقة الخفاء فإن الإنسان قد لا يعلم بالعلوق أصلاً، ولا يعلم أن العلوق منه، لم يعلم بعد ذلك، والتناقض في مثل هذا عفو، ومثل هذا الخفاء لا يمكن تصويره في دعوى الإعتاق والتدبير، فإن ادعى المشتري الولد بعد ذلك، فعلى طريق الاستحسان لما صحت دعوى البائع، لا تصح دعوى المشتري، وعلى طريق القياس لما لم تصح دعوة البائع لا تصح دعوة المشتري.

هذا الذي ذكرنا إذا ادعاه البائع وحده، وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته أيضاً، وثبت النسب منه، وصارت الجارية أم ولد له فكانت دعوى المشتري دعوى تحرير، لأن العلوق لم يتصل بملكه حتى كان للمشتري ولاء على الولد كما لو أعتقه المشتري، والمشتري يصح منه تحرير الولد؛ لأنه ملكه فيصح منه التحرير أيضاً، وإذا صحت دعوى المشتري، وثبت النسب منه يحمل أمره على جهة يثبت به النسب من نكاح جائز أو فاسد لا على وجه الزنا، وإذا صحت دعوى المشتري لا تصح دعوى البائع بعد

(9/294)


ذلك؛ لأنه ثبت فيه حقيقة النسب، وإنه أقوى من حق استلحاق النسب، فيبطل به ما كان للبائع من حق استلحاق النسب ضرورة.l

وإن ادعيا جميعاً يعني البائع والمشتري، فإن سبق أحدهما صاحبه في الدعوى فدعواه أولى، وإن خرج الكلامان معاً، فدعوى البائع أولى عندنا؛ لأنه سابق معنى؛ لأن دعوته دعوى استيلاد، وإنه يستند إلى وقت العلوق، ودعوى المشتري دعوى تحرير، وإنها تقتصر على الحال، فهو معنى قولنا: إن دعوى البائع سابق معنى.
الوجه الثاني: (إذا جاءت) بالولد لستة أشهر فصاعداً، ما بينهما وبين سنتين من وقت البيع وقد علم ذلك، فإن ادعى البائع بسبب الولد وحده لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري، لأن البائع في هذه الصورة بعلوق الولد في ملكه وأجنبي آخر سواء، ولو أن أجنبياً آخر ادعى نسب هذا الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري؛ فههنا كذلك إلا أن الفرق بين البائع والأجنبي أن الأجنبي إذا ادعى وصدقه المشتري حتى ثبت النسب من الأجنبي يبقى الولد عند المشتري ولا تصير الجارية أم ولد الأجنبي.
وإذا ادعاه البائع وصدقه المشتري حتى ثبت النسب منه لأنه ولد البائع، لأن في فصل المشتري بتصادقهما أن الولد ثابت النسب من البائع ثبت علوق الولد في ملكه؛ لأن احتمال حصول العلوق في ملكه ثابت، وقد تصادقا عليه والحق لهما لا يعدوهما، فثبت علوق الولد في ملكه.
وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته، ويجب أن تكون دعوته دعوى استيلاد، حتى كان الولد حر الأصل، ولا يكون للمشتري عليه ولاء، لأنه يزعم أن العلوق حصل في ملكه وأمكن تصديقه؛ لأن هذه مدة تصلح لحدوث الولد فيها.
وإن ادعياه وخرج الكلامان معاً أو (228ب4) أحدهما أسبق، فدعوى المشتري أولى على كل حال، كما لو كان المدعي مع المشتري أجنبياً.

الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت البيع، وقد علم القاضي ذلك، فإن ادعاه البائع لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري حتى لو صحت دعوته ثبت النسب من البائع، ويكون الولد عبداً للمشتري ولا تصير الجارية أم ولد؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب من البائع، أما ما تصادقا على كون العلوق في ملكه؛ لأن هذه مدة تحتمل بقاء الولد في البطن، فيكون حادثاً بعد زوال ملك البائع لا محالة بخلاف الوجه الثاني، وإن ادعياه وخرج الكلامان معاً، أو سبق أحدهما صاحبه صحت دعوى المشتري، ولا تصح دعوى البائع.

هذا الذي ذكرنا إذا علم المدة من وقت البيع إلى وقت الولادة، فأما إذا لم يعلم أنها جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من البيع، أو لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين، أو لأكثر من سنتين من وقت البيع، فإن ادعاه البائع لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري، لأنا لم نتيقن بكون العلوق في ملكه، وإن ادعاه المشتري تصح دعوته؛ لأن أكثر ما في الباب أنا لم نتيقن بعلوق الولد في ملكه، لكن ذاك لا يمنع صحة دعوى المشتري، كما

(9/295)


لو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع.
وإن ادعياه جميعاً وخرج الكلامان منهما معاً لم تصح دعوى واحد منهما، إن كان لأقل من ستة أشهر لا يثبت النسب من المشتري ولا من البائع، فوقع الشك في ثبوت النسب من كل واحد منهما، فلا يثبت مع الشك.
وإن سبق أحدهما صاحبه، فإن سبق المشتري صحت دعوته، وإن سبق البائع لم تصح دعوى واحد منهما لوقوع الشك في ثبات النسب من واحد منهما، وإن نفياه في الوجوه كلها فهو عند المشتري لانعدام الدعوى.
هذا كله إذا لم يخرجه عن ملكه، فإذا أخرجها عن ملكه ثم جاءت بولد، فالجواب في هذه المسألة نظير الجواب في المسألة الأولى على الوجوه والتفاصيل التي ذكرناها.

قال: وإذا حبلت الجارية في ملك رجل ثم باعها، فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر، ثم إن المشتري أعتق الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته في حق الولد حتى ثبت نسب الولد منه، وحكم بحريته، ولا يصح في حق الأم حتى لا تصير الجارية أم ولد له.
فرق بين هذا وبينما إذا أعتق المشتري الولد ثم ادعاه البائع، فإنه لا تصح دعوته لا في حق الولد، ولا في حق الأم، والوجه في ذلك: أن الولد هو المقصود بالدعوى، وحكم الاستيلاد في الجارية يثبت تبعاً للولد، ولهذا قال عليه السلام: «أعتقها ولدها» ، ولما كان هكذا قلنا: إذا جرى في الولد من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع فيه لا تصح دعوى البائع أصلاً؛ لا في الولد لقيام المانع به، ولا في الأم لكون الأم تبعاً للولد في حق حكم الاستيلاد، ومتى جرى في الأم من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع فيها، لا تصح دعوى البائع منه، وتصح في الولد ويثبت نسب الولد من البائع، ولا تصير الجارية أم ولد للبائع حتى لا يبطل عتق المشتري في الجارية، ولا يجب على البائع، وحصة الأم من الثمن، وكان ينبغي أن تصير الجارية أم ولد للبائع؛ لأنه من أحكام ثبات نسب الولد منه، ألا ترى أن قبل إعتاق المشتري الأم في هذه الصورة إذا ادعى البائع نسب الولد حتى ثبت نسب الولد منه صارت الجارية أم ولد له حكماً لثبات نسب الولد منه، والجواب صيرورة الجارية أم ولد للمدعي من أحكام ثبوت النسب، وليس من ضروراته بحيث لا ينفك النسب عنه، بل يجوز الانفكاك عنه بحال، ألا ترى أن ولد المغرور حر ثابت النسب من المستولد، وإنه لا تكون أم ولد له.
إذا ثبت هذا فنقول: صيرورة الجارية أم ولد للمدعي لو لم تكن من ضرورات ثبوت نسب الولد منه، ولا من أحكامه لا تصير الجارية أم ولد للبائع، ادعى البائع الولد قبل إعتاق المشتري أو بعده، ولو كان من أحكامه ولم يكن من ضروراته عملنا بهما،

(9/296)


فجعلناها أم ولد البائع إذا ادعاها قبل إعتاق المشتري، لأنه ليس من ضروراته عملاً بالشبهين بقدر الإمكان.
وإذا صحت دعوى البائع في حق الولد دون الأم ذكر أن الثمن يقسم على الجارية وعلى الولد على قدر قيمتيهما، فما أصاب الولد يجب على البائع رده، لأنه لم يسلم الولد للمشتري، فلا يسلم للبائع بدله، وما أصاب قيمة الأم يمسكه البائع؛ لأن الأم سلمت للمشتري، فلا يسلم للبائع بدلها، فقد جعل للولد حصته من الثمن.
وكان ينبغي أن لا يكون له حصة من الثمن؛ لأنه حدث بعد قبض المشتري، والجواب: الولد من حيث الصورة حدث بعد قبض المشتري، أما من حيث الحكم: فهو حادث قبل قبض المشتري، لأنه حدث في حال البائع فسخ العقد، فإن للبائع فسخ هذا البيع بالدعوى، وإن قبضه المشتري كما لو فسخ هذا البيع قبل القبض بالاستهلاك، وإذا كان الولد حادثاً قبل القبض معنى صار له حصته من الثمن متى استهلكه المشتري بالدعوى، فلهذا صار له حصته من الثمن.
وكذلك الجواب فيما إذا كان دبره لأن بالتدبير يثبت حق العتق، فيعتبر بحقيقة العتق، ألا ترى أن في الولد استوى العتق والتدبير حتى لم تصح دعوى البائع الولد بعد تدبيره، كما لم تصح دعوته قبل إعتاقه، ولم يكن شيء من ذلك ولكنها ماتت عند المشتري، ثم ادعى البائع الولد، فعلى قول أبي حنيفة: تصح دعوته في حق الولد والأم جميعاً حتى يجب على البائع رد جميع الثمن على المشتري، كما لو كانت الأم حية، وعلى قولهما: لا تصح الدعوى في حق الأم كما لو أعتقها المشتري، ولا يلزمه رد الثمن بحصة الأم، لأنه تعذر فسخ البيع فيها بعد الموت كما في فصل العتق والتدبير.

قالوا: هذه المسألة في الحاصل بناءً على مسألة معروفة أن رق أم الولد هل هو متقوم؟ فعند أبي حنيفة رحمه الله ليس بمتقوم حتى لا يضمن بالغصب، فكذا لا يكون له حصته من الثمن، وقد زعم البائع أنها أم ولده، وزعمه حجة في حقه، وعلى قولهما: رقها متقوم حتى يضمن بالغصب، فتمسك حصتها من الثمن.
ثم فرق أبو حنيفة بين فصل الموت وبين فصل العتق والتدبير، مع أن البائع زعم أنها أم ولد له في الفصول كلها، وجه الفرق له: أن في الفصول المتقدمة القاضي كذب البائع فيما زعم حين جعلها معتقة من المشتري، أو مدبرة أو أم ولد، فلم يبق لزعمه عبرة، فأما ههنا بعد موتها لم يجز الحكم بخلاف ما زعم البائع، فبقي زعمه معتبراً في حقه؛ فلهذا رد جميع الثمن، ولم يكن شيء من ذلك، ولكن المشتري باعها من غيره، أو كاتبها أو زوجها، أو وهبها وقبضها الموهوب له، ثم إن البائع ادعى الولد صحت دعوته في حق الأم والولد جميعاً، وينقض هذه التصرفات ويرد الجارية على البائع، فهما يحتاجان إلى الفرق بين هذه التصرفات وبين الموت، والفرق: أن بعد موت الأم إنما لم تصح دعوى البائع في حق الأم، لأنه تعذر فسخ البيع فيها بعد الموت، أما بعد هذه التصرفات فسخ البيع

(9/297)


فيها يتمكن بواسطة فسخ هذه التصرفات، وهذه التصرفات قابلة للفسخ.

قال: ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن مات الولد عند المشتري أو قتل، وأخذ المشتري قيمته ثم ادعاه البائع لم تصح دعوته لا في حق الولد؛ لأنه لم يبق محلاً لثبات النسب؛ ولا في حق الأم؛ لأن الأب تبع في هذا الباب.
ولو لم يمت الولد، ولم يقتل ولكن قطعت يده ثم ادعاه البائع صحت دعوته؛ لأن بعد القطع بقي محلاً لثبات النسب، وإذا صحت دعوته ثبت نسب الولد منه وحكم بحريته، ولكن على الجاني أرش العبد، وإن استندت الحرية إلى حالة (229أ4) العلوق، ولم يكن إثبات النسب في حق اليد لأنها فائتة، ولم يخلف بدلاً في حق إثبات النسب؛ لأن الأرش لا يصلح بدلاً عن الولد في حق ثبات النسب، وإذا لم يصح الأرش في حق التدبير لم يثبت الاستناد في حقه، فبقي اليد بياناً على حكم الرق فيجب أرش الرقيق.
وإذا ولدت الجارية المبيعة في يد المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فادعاه وكذبه المشتري، ثم قتل في يد المشتري أو قطعت يده عمداً أو خطأ، فإن على الجاني في ذلك ما عليه جناية الآخر، أو لأن النسب قد ثبت من البائع ههنا بمجرد دعوته إذ لا عبرة لتكذيب المشتري إذا كان في وقت الشراء إلى وقت الولادة لأقل من ستة أشهر، وحكم بحرية الولد من الأصل، فكانت الجناية واردة على الحر، وكذلك إذا كانت الجارية على الأم كان على الجاني في ذلك ما يجب بالجناية على أم الولد؛ لأن حَكَمْنا بأمية الولد من وقت العلوق بالولد، والجناية كانت بعد ذلك.
ولو كانت الجناية من الولد أو من الأم في هذه الصورة، فجناية الولد كجناية الأم، وجناية الأم كجناية أم الولد، لأنا حكمنا بحرية الولد من الأصل، وحكمنا بأمية الولد من وقت العلوق بالولد، والجناية مهما كانت بعد ذلك، وإن كانت الجناية من الولد أو من الأم قبل دعوى البائع، ثم ادعى البائع نسب الولد، فهو على البائع دون المشتري، لأن دعوى البائع قد صحت، وحكم بحرية الولد من الأصل ونسبت دعوته، صار الجاني مستحقاً على المشتري، فيعتبر بما لو صار مستحقاً بالبينة، وهناك لا شيء على المشتري من جنايته، بل يكون على المستحق كذا هنا.

وإذا ولدت الجارية المبيعة في يد المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر فكبر ابنها، وولد له ابن عند المشتري، ثم مات الابن الأول، ثم إن البائع ادعى الولد الثاني لا تصح دعوته، فرق بين هذا وبين ولد الملاعنة إذا كبر، وولد له ولد، ثم مات الولد المنفي وبقي ابنه، فادعاه الملاعن صحت دعوته، وعلوق الولد الثاني لم يكن في ملك الملاعن كما في ولد ولد المبيعة.

ثم قال: تصح الدعوى في مسألة اللعان، ولم تصح في ولد ولد المبيعة، والفرق: أن في ولد ولد الملاعنة إن لم يثبت اتصال العلوق بملكه حكم من الأحكام اتصال العلوق بملكه وهو أن لا تصح دعوى الغير إياه، وفي ولد ولد المبيعة لم يثبت اتصال

(9/298)


العلوق بملكه ولا حكماً، فإنه لو ادعاه غير البائع صحت دعوته، ولا بد لصحة الدعوى من اتصال العلوق بملك المدعي إما حقيقة أو حكماً.
إذا ولدت المبيعة في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فشهد شاهدان أن البائع ادعى هذا الولد، والبائع ينكر، فإن كان المشتري يدعي ذلك، فالشهادة مقبولة؛ لأنها قامت عن دعوى صحيحة؛ لأن المشتري بهذه الدعوى يدعي استحقاق الثمن على البائع، وإن كان المشتري لا يدعي ذلك؛ فإن كان الولد أنثى، فكذلك الجواب تقبل الشهادة، لأن هذه شهادة قامت على عتق الأمة في حق الولد والأم جميعاً.
وإن كان الولد ذكراً فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل هذه الشهادة، لأن عندهما الشهادة قائمة على عتق العبد، فتقبل بدون الدعوى. وأما على قول أبي حنيفة؛ وإن كان ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة لا في حق الولد؛ لأن الشهادة على عتق العبد عنده بدون الدعوى غير مقبولة، ولا في حق الجارية لأن حق الجارية في هذا الباب تبع، وإلى هذا مال بعض المشايخ.
وبعضهم قالوا: لا، بل هذه الشهادة مقبولة عند أبي حنيفة أيضاً، لأن هذه الشهادة وإن قامت على عتق العبد إلا أنها تضمنت حرمة الفرج، لأن عتق الأم مضاف إلى عتق الولد الثابت بالشهادة، وكانت بمنزلة الشهادة القائمة على عتق الأمة، حتى لو كانت الأم ميتة لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة؛ لأنها لا تتضمن حرمة الفرج، فلم تكن بمنزلة الشهادة القائمة على عتق الأمة، وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده.
وقال بعضهم: لا بل هذه الشهادة مقبولة عند أبي حنيفة وإن كانت الأم ميتة؛ إذ ليس المقصود ههنا عتق الولد، وإنما المقصود ثبوت النسب والعتق بناء عليه، ويجوز أن يثبت النسب بالشهادة من غير دعوى، كالولد إذا ولد وتصادق الزوجان أن النكاح بينهما منذ شهر فشهد الشهود أن النكاح منذ ستة أشهر أو أكثر، فإنه يثبت النسب بهذه الشهادة، وإن انعدم الدعوى، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
إذا باع الرجل من آخر جارية ثم ادعى أنها حامل وأن الحمل منه، فإنه لا تصح دعوته في الحال بل تكون موقوفة، وإن أريته النساء فقلن: بها حبل أو صدقه المشتري في دعوى الحمل، وهذا لأن من شرط صحة دعوى البائع اتصال العلوق بملكه بيقين، ولا يقين في الحال لجواز أنها لا تلد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فيتوقف فيه، وإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر ظهر أن العلوق كان في ملكه وأن دعواه كانت صحيحة، أو إن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً تبين أن العلوق لم يكن في ملكه، وأن دعواه لم تصح.

فإن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فقال المشتري: أصل الحبل لم يكن في ملكك إنما اشتريتها وهي حامل، وقال البائع: لا بل أصل الحبل كان في ملكي، فالقول قول البائع؛ لأنا تيقنا أنها كانت حاملاً في يد البائع، فبعد ذلك المشتري يدعي تاريخاً سابقاً في العلوق والبائع ينكر ذلك، وكان ينبغي أن يكون القول قول المشتري؛

(9/299)


لأن المشتري لا يدعي جواز العقد، والبائع يدعي فساد العقد؛ لأنه يقول: العلوق كان مني وقد بعت أم الولد فلم يصح البيع، والقول قول من يدعي الصحة، ألا ترى أنهما إذا اختلفا في تاريخ الشراء بعدما ولدت الجارية في يد المشتري وادعاه البائع، فقال المشتري: اشتريتها منذ ستة أشهر أو أكثر، وقال البائع: لا بل اشتريتها مني منذ شهر، فالقول قول المشتري؛ لأنه يدعي جواز العقد كذا ههنا.
والجواب: وهو الفرق بين المسألتين أن في مسألتنا سبب الفساد ثبت بدليله، فكان القول قول من يدعي الفساد كما لو ثبت سبب الفساد بالبينة.
بيانه: وهو أن سبب الفساد علوق هذا الولد من جهة البائع، وقد ثبت ذلك بقول البائع؛ لأن الظاهر يشهد للبائع؛ لأنه هو الممكن بالوطء دون غيره بخلاف ما لو اختلفا في التاريخ؛ لأن هناك سبب الفساد لم يكن ثابتاً بدليله؛ لأن سبب الفساد هناك ما يدعيه البائع من التاريخ، ولم يثبت ذلك بقوله؛ لأن الظاهر لا يشهد للبائع أنه باع منذ شهر، وما لم يثبت سبب الفساد بدليل، فالقول قول من يدعي الجواز.
وإن أقاما البينة فالبينة بينة البائع؛ لأن البائع يثبت تاريخاً سابقاً في ملكه على العلوق وملكه حقه، فتقبل بينته في سبق التاريخ في ذلك، ولا شك في هذا على قول أبي يوسف، واختلف المشايخ على قول محمد، منهم من قال: قوله هكذا، ومنهم من قال على قوله: البينة بينة المشتري؛ لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة.
وأصل هذا فيما إذا اختلفا في التاريخ وقد ولدت الجارية في يد المشتري بعد البيع بيوم وادعاه البائع، فقال المشتري: لم تحبل عندك، وإنما اشتريتها قبل أن تبيعها مني قبل شهر، وقال البائع: لا، بل اشتريتها منذ سنة، فالقول قول البائع، فإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة البائع عند أبي يوسف؛ لأن البائع ببينته يثبت حصول العلوق في ملكه، وثبوت حق استلحاق النسب، وعند محمد البينة بينة المشتري؛ لأنه هو المحتاج إلى إثبات التاريخ في شرائه بالبينة ليثبت أن (229ب4) شراءه كان منذ سنة، فيمتنع له صحة دعوى البائع.
وإذا ولدت الجارية المبيعة ابنة من ستة أشهر من وقت البيع، ثم ولدت الابنة ابناً، فأعتق المشتري ابن الابنة، ثم ادعى البائع نسب البنت، فإنه تصح دعوته؛ لأن علوق البنت كان متصلاً بملكه، وإذا صحت دعوته في حق البنت صحت في حق ابنها على (أن) يبطل عتق المشتري؛ لأن من ضرورة حرية الأم من الأصل حرية الولد، لأنه لا يتصور أن تكون الأم حرة الأصل، وولدها يكون رقيقاً؛ بخلاف ما إذا ادعى البائع الابن بعدما أعتق المشتري الأم حيث لا يبطل إعتاق المشتري في الأم إذ ليس من ضرورة كون الولد حر الأصل أن تكون الأم أم الولد كما في ولد المغرور.

وإذا حبلت الأمة وولدت في يد مولاها، فباعها المولى دون ولدها، وقبض ثمنها، ثم زوجها المشتري عبداً له فولدت ولداً، ثم مات العبد عنها، فوطئها المشتري بعد انقضاء العدة، فجاءت بولد وادعاه المشتري، ثم إن البائع ادعى الولد الذي عنده صحت

(9/300)


دعوته في الولد الذي عنده؛ لأن علوق هذا الولد كان في ملكه.

قال: ولا تصح دعوته في الولد الذي ادعاه المشتري، ولا في الجارية؛ لأنه جرى فيها من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع، لأنه يثبت الولد حقيقة العتق، وللجارية حق العتق؛ قال: ويرد المشتري ولد العبد على البائع بحصته من الثمن، فيكون عند البائع ولد أم الولد يعتق بموته، وهذا لأن البائع حين ادعى الولد الذي عنده، فقد أقر أن الجارية أم ولده، وأن ابن العبد ابن أم ولده، إلا أنه لم يعمل إقراره في حق الجارية لمانع قام بها، ولا مانع في حق الولد، فعمل إقراره في حقه.
فإن ادعى البائع بعد ذلك ابن الغلام أنه ابنه عتق عليه لأنه ملكه منه، ولا يثبت نسبه منه؛ لأنه معروف النسب من غيره، فدعواه إياه كإعتاقه.
إذا باع الرجل جاريته وهي حبلى، فولدت في يد المشتري بعد البيع بيوم، ثم مكث سنة، ثم ولدت ولداً آخر من غير الزوج، فادعى البائع الولدين جميعاً، فهما ابناه وترد الأمة إليه، وتكون أم ولد له ويرد البائع الثمن إن كان المشتري نقده، وهذا لأن دعوى البائع الولد الأول قد صح، وصارت الجارية أم ولد من وقت العلوق به، فتبين أنه باع أم الولد، وبيع أم الولد باطل، وتبين أن الولد الثاني ولد أم الولد، وولد أم الولد ثابت النسب من المولى بدون الدعوى فمع الدعوى أولى، فلو ادعى البائع والمشتري الولدين جميعاً معاً صحت دعوى البائع ولا تصح دعوى المشتري، لأن دعوى البائع سابقة معنىً، فكانت أولى بالاعتبار، كما لو كانت سابقة حقيقة.
ولو كان المشتري ادعى الولد الآخر ابتداءً، أخرت دعوته وجعلت الجارية أم ولد له، فإن ادعى البائع بعد ذلك الولد الأول صحت دعوته في حق الولد، ولم تصح دعوته في حق الجارية، والولد حر لأنه جرى فيهما من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له جارية فحبلت؛ فباعها من رجل فولدت في يد المشتري ولداً؛ فادعى الولد أب البائع وكذبه المشتري وصدقه البائع أو كذبه، فدعوته باطلة، ولا يثبت نسب الولد منه، ولا ننظر في هذا إلى تصديق البائع وتكذيبه، وإنما ننظر إلى تكذيب المشتري وتصديقه؛ لأن الجارية خرجت عن ملك البائع ظاهراً، وصار البائع كالأجنبي عنها، فصار تكذيبه وتصديقه في بيان ثبات النسب كتصديق الأجنبي وتكذيبه.
فرق بين هذا وبينما إذا ادعى البائع نسب هذا الولد بنفسه حيث تصح دعوته، وإن كذبه المشتري، والفرق من وجوه:
أحدها: ما ذكرنا أن الأب تملك جارية الابن سابقاً على الاستيلاد حتى يصير مستولداً ملك نفسه، لأن استيلاد الأب إنما يصح في ملك نفسه للابن.
إذا ثبت هذا فنقول: الثابت للأب متى حصل العلوق في ملك الابن بملك الجارية على الابن، ثم الاستيلاد صحته بناءً عليه، وقد ثبت للمشتري حقيقة الملك بالبيع من حيث الظاهر، وكل واحد منهما أعني حقيقة الملك وحق التملك قابل للنقض، وتعذر

(9/301)


مراعاتهما فكان مراعاة حقيقة الملك أولى، فأما الثابت للبائع بحصول العلوق في ملكه قبل البائع حق استلحاق نسب الولد، لا حق تملك الجارية، فإنها كانت مملوكة على الحقيقة وقت العلوق، وهذا الحق مما لا يحتمل النقض؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة حقيقة النسب، لا يحتمل النقض بعد ثبوتها، فكذا الحق وملك المشتري يحتمل النقض، ولا شك أن مراعاة ما لا يحتمل النقض أولى.g
قياس مسألة الأب من البائع: لو ادعى المشتري أنه أعتقه حتى ثبت حقيقة النسب أو الولاء الذي هو كلحمة النسب من المشتري، ولو كان هكذا كان مراعاة حقيقة النسب أولى من مراعاة حق النسب.
الفرق الثاني: أن طريق تصحيح دعوى الأب ولد جارية أبيه لما كان تقديم الملك للأب في الجارية على الوطء ليصير الأب مستولداً ملك نفسه.

فنقول: تقديم الملك للأب في الجارية على الوطء غير ممكن ههنا، لأن الأب يدعي ملكاً خفياً لينقض به ملكاً ظاهراً، لأن ملك المشتري في الجارية ظاهر وقت الدعوى، وملك الأب خفي وقت الوطء، ومن ادعى ملكاً خفياً لينقض به ملكاً ظاهراً لا تسمع دعواه، ألا ترى أن أبا البائع بعدما باع الجارية والولد؛ لو ادعى أن البائع قد كان باع الولد منه قبل أن يبيعه من هذا لا تصح دعواه، وإنما لا تصح لما قلنا بخلاف ما إذا ادعى البائع نسب الولد بنفسه؛ لأن ملك البائع في الجارية ظاهر وقت العلوق، وتيقنا أن العلوق حصل في ملكه؛ لأن موضوع المسألة في دعوى البائع فيما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر إلا أنه لا يثبت نسب الولد بدون دعوته؛ لأن له في ولد جارية الابن حق الملك لكونه متولداً في ملكه، ويحتمل أن يكون هذا الولد من غيره، فلا يبطل حق ملكه عن الولد بالشك، وإذا ادعى فقد ارتفع هذا الشك، وتبين أن هذا الولد ولده، وأنه باع أم ولده، فهو معنى قولنا: إن ملك البائع ظاهر وقت العلوق، فجاز أن يقبل قوله وينقض ملك المشتري.

والدليل على الفرق بينهما: أن الجارية لو لم تكن في ملك الابن وقت العلوق بهذا الولد ثم اشتراه الابن، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر حتى علم أن العلوق لم يكن في ملك المشتري، فادعى الولد أب المشتري لا تصح دعوته، ولو ادعاه المشتري صحت دعوته، فإذا وقع الفرق بين دعوى الأب ولد جارية الابن، وبين دعوى الابن ولد جاريته فيما إذا لم تكن الجارية في ملك الابن وقت العلوق، جاز أن يقع الفرق بين دعوتيهما إذا لم تكن الجارية في ملك الابن وقت الدعوى أيضاً.

الفرق الثالث: أن الأب بهذه الدعوى يدعي على الابن تملك الجارية عليه بالقيمة قبل البيع، وتملك الشيء بالقيمة في معنى الشراء، وليس له على ذلك دليل وقت الدعوى، فصار بمنزلة ما لو ادعى على الابن أنه قد كان اشترى هذه الجارية منه قبل البيع، فأما البائع بهذا البيع ليس يدعي تملك الجارية على المشتري، بل ينكر زوالها عن ملكه، لأنه يقول: صارت أم ولد لي، ولم يصح نفي فيها، وله على ذلك دليل ظاهر، وهو علوق الولد في ملكه.

(9/302)


فإن قيل: أليس أن الأب لو ادعى قبل البيع صحة دعوته، وقد ادعى تملك الجارية على الابن بالقيمة، ولم يجعل ذلك بمنزلة دعوى الشراء، قلنا: جعل ذلك بمنزلة دعوى الشراء أيضاً، إلا أن له على هذه الدعوى دليل ظاهر، وهو ما له من تأويل الملك وقت العلوق ووقت الدعوى، فلهذا افترقا.
الفرق الرابع: أن دعوى الأب دعوى تملك، والتملك لا يعمل في ملك الغير، أما دعوى الابن دعوى استيلاد، والاستيلاد قد يعمل في ذلك الغير، كما في الجارية المشتركة بين اثنين.
هذا الذي ذكرنا إذا كذبه المشتري وصدقه البائع أو كذبه، فأما إذا صدقه المشتري، وكذبه البائع صحت دعوته؛ لأن الجارية مع الولد ملك المشتري، فإذا صدق المشتري أبا البائع في دعوته، فقد أقر أن الجارية أم ولده، وأن الولد ولده وأنه يملك الجارية على البائع قبل تملكه إياها، وكل ذلك إقرار على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، ألا ترى أن أجنبياً آخر لو ادعى نسب هذا الولد، وصدقه المشتري صحت دعوته مع أنه ليس للأجنبي في الجارية تأويل الملك؛ فههنا أولى، ولكن لا يبرأ المشتري عن الثمن بتصديقه أب البائع في دعوته؛ لأن تصديقه يعتبر (230أ4) فيما عليه لا فيما له، وصيرورة الجارية أم ولد لأب البائع، وثبوت نسبه والولد منه أمر على المشتري، فيعتبر تصديق المشتري في ذلك، أما براءة المشتري عن الثمن أمر له، فلا يعتبر تصديقه في ذلك، ولا يضمن أب البائع شيئاً من قيمة الجارية للبائع.

وإن زعم أنه يملك الجارية على البائع بالاستيلاد، وتملك الأب جارية ابنه بالاستيلاد يوجب القيمة على الأب، إلا أن البائع كذب الأب في ذلك، فالتحق زعمه بالعدم، وليس للمشتري على أب البائع شيء من قيمة الجارية ولا من قيمة الولد، أما في قيمة الجارية، فلأنه وإن زعم أن الأب يملك الجارية إلا أنه زعم تملكها على الابن، وهو البائع لا على نفسه، فكان مدعياً القيمة للبائع لا لنفسه، وأما من قيمة الولد فلأن في زعمه أن الأب تملك الجارية سابقاً على الاستيلاد، وأن الولد حر الأصل، فلا يكون مدعياً قيمة الولد أصلاً.
ولو صدقاه جميعاً يعني المشتري والبائع صارت الجارية أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ورجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن بتصادقهم ظهر أن البائع باع أم ولد الغير، وأن بيعه باطل، وأن البائع أخذ الثمن ولا ثمن له فيؤمر بالرد، وضمن الأب قيمة الجارية للبائع؛ لأنهما تصادقا على تملك الأب جارية البائع سابقاً على الاستيلاد، وإنه يوجب القيمة على ما عرف.
قال محمد رحمه الله: وإذا كانت الجارية ولدت في ملكه ولدين في بطن واحد، فباع أحد الولدين، ثم إن أب البائع ادعى الولدين جميعاً، وكذبه البائع والمشتري في ذلك صحت دعوته، وصارت الجارية أم ولد له، وثبت نسب الولدين منه، ويغرم قيمة

(9/303)


الجارية للابن، ويعتق الولد الذي لم يبع بغير قيمته، والولد الذي بيع يكون عبداً للمشتري على حاله.
أما صحة الدعوى وصيرورة الجارية أم ولد للمدعي، وثبوت نسب الولد الذي لم يبع منه، فلوجود شرطه وهو حق التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وأما ثبوت نسب الولد الذي بيع منه؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، فلا يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر في حق النسب، وإذا ثبت نسب أحدهما ثبت نسب الآخر ضرورة.
وأما عتق الولد الذي لم يبع بغير قيمته لأنه خلق حر الأصل.

وأما كون الولد الآخر عبداً للمشتري، فقد اختلفت عبارة المشايخ في تخريجه، بعضهم قالوا: لأن تملك المشتري ثبت فيه من حيث الظاهر، فلا يبطل عليه ملكه بدعوى غيره إلا لضرورة، ولا ضرورة ههنا؛ لأن أكثر ما فيه أنا حكمنا بحرية الولد الذي لم يبع، إلا أن كل واحد منهما شخص على حدة؛ منفصل عن صاحبه وعن الأم، وليس من ضرورة عتق أحد الشخصين المنفصلين عتق الآخر، ويجعل في حق الابن المبيع كأن الابن الآخر عتق للحال بعتق مبتدأ صيانة لملك المشتري، وعتق أحدهما بإعتاق مبتدأ لا يوجب عتق الآخر.
يوضحه: أن العتق شرع بطريقين: بطريق الأصل عند العلوق، وبطريق الابتداء، ففي حق الولد المبيع عتق الذي لم يبع، حمل على الابتداء صيانة لملكه بخلاف النسب؛ لأن النسب يستند إلى وقت العلوق، ولا يتصور ثبوته إلا بطريق واحد وهو التعيين من الأصل، فإذا ثبت نسب البعض ثبت نسب الكل، لأنهما خلقا من ماء واحد، فلا يتصور التبعيض فيه فلهذا افترقا.

فإن قيل: حكمنا بحرية الولد الذي لم يبع من الأصل، ومن ضرورة حريته من الأصل حرية الولد من الأصل؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، قلنا: حرية الولد الذي لم يبع من الأصل يظهر في حقه أما لا يظهر في حق الولد المبيع، ويجعل في حق الولد المبيع كأن عتق الذي لم يبع ثبت بإعتاق مبتدأ على ما مر، ولا يوجب الشراء به.
فإن قيل: إن لم تتحقق الضرورة من الوجه الذي قلتم؛ تحققت من وجه آخر، فإن نسب الولد المبيع قد ثبت من المدعي، ومن ضرورة ثبوت نسبه منه أن يكون العلوق حاصلاً في ملكه، ومن ضرورة حصول علوقه في ملكه أن يكون حر الأصل. قلنا: ثبوت نسب الولد المبيع منه كان بطريق الضرورة لا بدليل يوجبه، بل الدليل بخلافه.

بيانه: أن من شرط صحة الدعوى وثبوت النسب في ولد جارية الابن قيام حق التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وقد انعدم الشرط في حق الولد المبيع، فتنعدم صحة الدعوى في حقه، فينبغي أن لا يثبت نسبه منه، وإنما أثبتناه ضرورة أنه يثبت نسب الولد الذي لم يبع، وهما توأمان، والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة في حق ثبات النسب. أما لا ضرورة في حق الحرية، فصار في حق الحرية الولد المبيع كأنه لم توجد منه الدعوى أصلاً، ولو لم توجد منه الدعوى أصلاً أليس أنه لا يعتق هذا الولد؟

(9/304)


كذا ههنا، أكثر ما فيه أنه ثبت نسب هذا الولد منه، ولكن ليس من ضرورة ثبوت نسب الولد منه عتقه، ألا ترى أنه لما استولد جارية الغير بالنكاح؛ ثبت نسب الولد منه، وإن كان لا يعتق كذا ههنا.
وبعضهم قالوا: لأنه حين ادعى كان الولدان منفصلين، ومن شرط صحة دعوى الأب قيام ملك ولده فيهم، وإنه معدوم في حق الولد المبيع، فصحت الدعوى بقدر وجود شرطه، فصحت في حق الولد الثاني والأم دون المبيع، فالحجة إنما تثبت بقدر شرطها كتصديق المشتري الأب في المسألة الأولى ثبت في حق الأم دون الابن، وتعتبر الدعوى في حق الولد المبيع إعتاقاً فاسداً، فصارت الدعوى في حق الابن المبيع كأنها لم تكن، بخلاف ما لو أعتق المشتري الولد ثم إن البائع ادعى الباقي، فإن الدعوى تصح، وينتقض إعتاق المشتري ضرورة صحة الدعوى في الثاني، وإن كانت دعوى البائع لا تصح في الولد المبيع بعد العتق كما أن دعوى الأب لا تصح في الولد بعد البيع.
والفرق: أن شرط صحة دعوى البائع الملك عند العلوق، وملك البائع كان قائماً وقت العلوق بالولدين؛ فصحت الدعوى لقيام شرطها مطلقاً، وظهر ثبوتها في حق الولدين جميعاً، ولما ظهرت لم يجز أن يكون أحد الولدين علق حراً دون الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد، وظهر بطلان إعتاق المشتري بعتق هو فوقه.

فأما دعوى الأب فإنما تصح بقيام ولاية التملك للحال، لا عند العتق، وفي الحال الأولاد والأم منفصل بعضها عن بعض، والشرط منقطع في حق الولد المبيع، فينعدم ثبوت الدعوى في حقه، فلا يجعل الولد الثاني حر الأصل في حقه، بل يجعل في حقه كأنه عتق بإعتاق مبتدأ، فلا يوجب الشراء به إليه، وصار كما لو اشترى عبداً أقر أنه حر الأصل يثبت في حقه كذلك ولا يكون له ولاؤه وهو في حق البائع بمنزلة إعتاق مبتدأ؛ لأنه لم يصدق عليه؛ كذا ههنا.
فإن قيل: إذا لم تصح دعوى الأب في حق الولد المبيع ينبغي أن لا يثبت نسب الولد المبيع منه، قلنا: نحن إنما لم نصدق الأب على المشتري، وقطعنا شرط صحته صيانة لملك المشتري عليه، ألا ترى لو صدق المشتري الأب صحت دعوته في حق الولدين، فيتعذر انقطاع شرط الصحة بقدر ما يصون به ملكه، وذلك في أن لا يعتق، لا في أن لا يثبت النسب فيثبت نسب الولد المبيع من الأب، وإن كان لا يعتق عليه وإنما يغرم الأب في هذه الصورة قيمة جارية الابن؛ لأنه يملكها بالاستيلاد، وإنه يوجب القيمة، ولا يجب العقر على الأب عندنا؛ خلافاً للشافعي والمسألة معروفة.
هذا الذي ذكرنا إذا باع أحد الولدين لا غير، فإذا كان باع الجارية مع أحد الولدين ثم أب البائع ادعى نسب الولدين جميعاً، وكذبه المشتري والبائع، فعلى قول محمد رحمه الله: دعوى الأب في هذه الصورة باطلة، وعلى قول أبي يوسف: دعوى الأب لا تصح في حق الجارية، ولا تصير الجارية أم ولد له، وتصح دعوته في حق الولدين نسباً، فثبت نسب الولدين منه، ولا تصح دعوته في حق الولدين حرية، فلا يحكم بحرية الولد المبيع

(9/305)


بل يكون عبداً للمشتري، والولد الباقي يكون حراً بالقيمة.

وجه قول محمد (230ب4) في المسألة: أن من شرط صحة دعوى الأب قيام حق تملك الجارية للأب من وقت العلوق إلى وقت الدعوى ليصير الأب متملكاً الجارية سابقاً على الوطء، فيصير مستولداً ملك نفسه، وقد فات هذا بالبيع فلم تصح دعوته في حق الجارية، ولم يثبت ملك الجارية لا يثبت نسب الولدين؛ لأن ثبات نسب ولد جارية الابن من الأب من حيث وقوع الاستيلاد في ملك الأب ولم يوجد، فصار كما لو ادعى نسب مدبرة الابن، أو نسب ولد مكاتبة الابن أو نسب ولد أم ولد الابن.
وجه قول أبي يوسف: أن البائع لم يبع الجارية والولد حتى ادعاه الأب صحت دعوته في الكل، ولو باع الجارية والمدبرين لم تصح دعوته في الكل، فإذا باع البعض دون البعض كان لكل بعض حكم نفسه.

والمعنى في ذلك أن حق الدعوى كان ثابتاً للأب قبل البيع لقيام ملك الابن، لو بطل إنما يبطل حكماً لزوال ملك الابن، فإنما يبطل بعد زوال ملك الابن عنه بخلاف ولد المدبرة والمكاتبة؛ لأن حق الدعوى لم يكن ثابتاً للأب هناك لفوات شرطه؛ أما ههنا بخلافه، ولكن المقصود بالدعوى الولد دون الأم بدليل أن الأم تضاف إلى الولد ولا يضاف الولد إلى الأم، يقال: أم الولد ولا يقال ولد الأم، ويدل عليه قوله عليه السلام: «أعتقها ولدها» وما هو المقصود بالدعوى على حاله لم يحدد به ما يمنع نقل الملك إليه، فتصح دعوته فيه.
وإن لم تصح دعوته في الأم فقيل: هذا جائز ألا ترى أنه لو باع جاريته من إنسان وجاءت ليد المشتري بولد وأعتق المشتري الجارية، ثم إن البائع ادعى نسب الولد صحت دعوته في حق الولد وإن لم تصح دعوته في حق الأم.
وكذلك إذا ماتت الجارية مع أحد الولدين في مسألتنا، ثم إن البائع ادعى نسب الولدين صحت دعوته في حق الولد الحي، وإن كان لا تصح في حق الأم وخروجها عن ملك الابن بالموت كخروجها عن ملكه بالبيع، ثم هناك لما لم يمنع صحة دعواه في الولد الباقي كذا ههنا.

والدليل: أن ولد المغرور ثابت النسب من المغرور، ويكون حراً بالقيمة وأمه تكون رقيقة على حالها، وليس كما لو ادعى نسب ولد مكاتبة الابن أو مدبرة أمه؛ لأن ولد المدبرة مدبر، وولد المكاتبة مكاتب، فقد حدث في الولد هناك ما يمنع النقل إلى ملكه كما حدث ذلك في الأم، فلم تصح الدعوى هناك أصلاً أما ههنا، فبخلافه ويكون الولد الذي لم يبع حراً بالقيمة؛ لأنه لا يتملك الجارية ههنا سابقاً على الاستيلاد ليكون العلوق حاصلاً في ملكه، فيكون حر الأصل، فيكون حراً بغير قيمة، فلابد وأن يظهر قيمة الولد، فجعلناه حراً بالقيمة، بخلاف ما إذا كانت الجارية في ملكه؛ لأن هناك يتملك

(9/306)


الجارية سابقاً على الاستيلاد، فيكون العلوق حاصلاً في ملكه، فيكون الولد حر الأصل، فيكون حراً بغير قيمة، ولأن الأب مصدق في حق نفسه.
وإذا ادعى نسب الولدين حمل أمره على أنه أصابها بناء على أن له حق التملك على ولده، وأن الظاهر في ملك ولده الدوام، ووجود شرط التملك يوم الدعوى، وإذا بيعت فقد عدم شرط التملك فيها، ولكن بعد صحته بناء للأمر على الظاهر، فصار مغروراً بمنزلة الذي يصيب الجارية ويستولدها على أنها ملكه بناء على سبب أفاد الملك له ظاهراً، فإذا استحقت صار مغروراً كذا ههنا، ولما ثبت الغرور وقع الاستغناء عن تملك الجارية؛ لأن الغرور بمنزلة عقد النكاح في إثبات النسب، وعند وجود عقد النكاح يستغنى عن تملك الجارية كذا ههنا، ولأجل ما ذكر غرم الأب قيمة الولد الباقي فثبت نسب الولد المبيع، ولكن لا يعلق لما ذكرنا.

هذا الذي ذكرنا إذا أكذبه المشتري والبائع، فأما إذا صدقه المشتري وكذبه البائع، فالجارية تصير أم ولد له بلا خلاف، وعليه قيمتها للابن ويثبت نسب الولدين منه بلا خلاف، ويصير الولد المبيع حراً بغير قيمة بلا خلاف.

وأما الولد الثاني فهو حر بالقيمة على الأب عند أبي يوسف، وعند محمد هو حر بغير قيمة، وإنما صارت الجارية أم ولد له، وكان الولد المبيع حراً بغير قيمة باعتبار أن المشتري لما صدقه في دعواه، فقد أقر أن الجارية صارت أم ولد له، وأن الولد المبيع علق حر الأصل وأن البيع لم يصح فيهما ولي حق الرجوع على البائع ويصدق فيما عدا ذلك؛ لأن فيما عدا ذلك كله إقرار على المشتري وهو مالك لذلك من حيث الظاهر، وإنما يثبت نسب الولدين بدون تصديق المشتري، فمع تصديق المشتري أولى، وأما على قول محمد: فلأنه ثبت نسب الولد المشترى بتصديق المشتري، وهما توأمان خلقا من ماء واحد، فإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر ضرورة.
وأما الباقي في يد البائع فعلى قول أبي يوسف: هو حر بالقيمة؛ لأنه كان عتق بالقيمة حقاً للبائع قبل تصديق المشتري، فلا يبطل ذلك بتصديق المشتري، وعلى قول محمد رحمه الله: يعتق بغير قيمة؛ لأن على قوله: لم يثبت نسب الولدين من المدعي أصلاً قبل تصديق المشتري، وبتصديق المشتري يثبت نسب الولد المشترى منه، ومن ضرورته ثبوت نسب الباقي في يد البائع منه؛ لأنهما توأمان، وإذا ثبت نسب الولد منه صار أخاً للبائع، وهو ملكه ظاهراً، والأخ يعتق على أخيه بالقرابة بغير شيء، وهو أن البائع صدق والده فيما ادعى وكذبه المشتري، ثبت نسب الولدين من أب البائع.
مشايخنا ظنوا أنما ذكر أنه يثبت نسب الولدين من البائع قول أبي يوسف، وأما قول محمد: فينبغي أن لا يثبت نسب الولدين منه؛ لأن محمداً رحمه الله يعتبر الأم أصلاً في هذا الباب والولد تبعاً، وتعذر تصحيح دعوته في حق الأم على ما مر قبل هذا، فكيف يصح دعوته في حق الولد؟.

والصحيح أن ما ذكر قول الكل، أما عند أبي يوسف فلأن عنده يثبت نسب الولدين

(9/307)


من الأب عند تكذيبهما، فعند تصديق البائع أولى، وأما عند محمد فلأن بتصديق البائع ثبت نسب الولد الذي لم يبع منه؛ لأن الأب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، ولو كان أجنبياً ادعى نسبه وصدقه الابن يثبت نسبه منه، فههنا أولى من ضرورة ثبوت نسب هذا ثبات نسب الآخر، ويكون الولد الذي عند البائع حراً بغير قيمة لاعتراف مالكه أنه حر الأصل، والجارية والولد المبيع مملوكان للمشتري؛ لأن البائع والمدعي لا يصدقان على المشتري، وليس من ضرورة الحكم بحرية أحد الولدين الحكم بحرية الأم والولد الآخر لما مر.

ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب» : حكم الولد في هذا الفصل، ولم يذكر حكم الأم وكان القاضي الإمام أبو حازم والقاضي الإمام أبو الهيثم رحمهما الله يقولان: على قياس قول أبي يوسف ومحمد: يضمن البائع قيمة الجارية أم ولد للمدعي وهو الأب؛ لأنه لما صدق أباه فقد أقر أنه باع أم ولد ابنه وسلمها وبه يصير غاصباً، وأم الولد عندهما مضمونة بالغصب، ويضمن المدعي وهو الأب للبائع وهو ابنه قيمتها فيه؛ لأنهما تصادقا أن الأب استولد جارية الابن وأنه يملكها بالقيمة.
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يضمن البائع لوالده شيئاً؛ لأن أم الولد لا تضمن بالغصب عنده، وقال أكثر مشايخنا: لا يضمن أحدهما لصاحبه شيئاً بالاتفاق. أما عند أبي حنيفة: فالبائع لا يضمن شيئاً للأب لما مر، والأب لايضمن لابنه شيئاً من قيمة الجارية فيه؛ لأن ثمنها سالم للبائع لما بقي البيع صحيحاً في حق المشتري، والثمن عوض عن الجارية، فلو أخذ البائع من الأب قيمة الجارية يجتمع في ملكه عوضان بإزاء معوض واحد وإنه لا يجوز، وأما عندهما فالأب لا يضمن لهذه العلة أيضاً، ولا يضمن للابن أيضاً، وإن أقر بغصب أم الولد بالبيع والتسليم؛ لأن القاضي لما قضى بصحة البيع وكونها مملوكة للمشتري، فقد كذبه فيما أقر فيلحق إقراره بالعدم.
جارية لرجل حبلت في ملكه، فباعها وهي حامل وقبضها المشتري، ثم اشتراها البائع فوضعت حملها في يده لأقل من ستة أشهر، فادعاه أب البائع الأول، وكذبه ابنه في ذلك كانت دعوى الأب باطلة لما ذكرنا أن من شرط صحة الدعوى قيام حق التملك فيما بين الدعوى والعلوق، وهذا لما ذكرنا أن دعوى الأب متى صحت يستند إلى وقت العلوق، ولهذا يعلق الولد حراً، وانقطاع ولاية التملك فيما بين العلوق والدعوى يمنع الاستناد إلى وقت العلوق، فلا تصح دعوته لهذا، ولو صدقه الابن كانت الجارية أم ولد له بالقيمة (231أ4) ويثبت نسب الولد، ويكون حراً بغير قيمة؛ لأن الملك للابن وقد أقر بكونها أم ولد لابنه من وقت العلوق، وأن بيعه كان باطلاً، فيقبل قوله في حقه، ولا يقبل في حق المشتري حتى لا ينتقض البيع الذي كان جرى بينهما.

ولو أن المشتري لم يبعها من البائع، ولكنه ردها بعيب بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي أو بخيار الشرط أو بخيار الرؤية، أو كان البيع فاسداً وقد قبضها المشتري، فردها على البائع بحكم فساد البيع، ثم أب البائع ادعى الولد، فهذا والأول سواء في جميع ما وصفت ذلك؛ لأنه انقطعت ولاية التملك فيما بين طرف العلوق والدعوى لزوال

(9/308)


الجارية عن ملك الابن بالبيع، وبأن عادت الجارية إلى قديم ملك الابن في حقها، وفي حق الثالث لم يبين أنه لم يكن زائلاً عن ملكه، فلا يتبين أن حق التملك للأب لم يكن ساقطاً وهو المانع من صحة دعوى الأب؛ ألا ترى أن من اشترى شيئاً لم يره ثم رد عليه بقضاء قاض أو بخيار الرؤية، فإنه لا يعود خيار الرؤية للمشتري الأول، وإن عاد إلى قديم تملكه ولم يجعل كأنه لم يبع ولم يزل عن ملكه.Y

وألا ترى أن من اشترى داراً ووجب للمشتري فيها شفعة، ثم إن المشتري ردها بالعيب بقضاء قاض أو بخيار الرؤية كان للشفيع فيها حق الشفعة، وإن عاد إلى قديم ملك البائع، ولم يجعل كأن الدار لم تخرج عن ملك البائع، ولم تدخل في ملك المشتري قط.
وكذلك من اشترى منكوحة حتى فسد النكاح ثم ردها بالعيب بقضاء قاض أو بخيار الرؤية، فإنه لا يعود النكاح، وإن عاد إلى قديم ملك البائع، ولم تجعل كأنها لم تخرج عن ملك البائع، ولم يملكها المشتري، فكذا ههنا وجب أن يكون كذلك، وإذا بقي الزوال على حاله كان ولاية التملك منقطعاً فيما بينهما، فلم تصح دعوته.
فإن قيل: قد يشكل بخيار العيب، فإنه يسقط ببيع المشتري من غيره ثم يعود إذا عاد قديم ملكه، وجعل كأنه لم يبع ولم يزل عن ملكه قط حتى كان له الرد على بائعه، قلنا: نحن لا نقول بأن حقه في الرد بالعيب سقط بالبيع وكيف يسقط ولم يكن عالماً، لكن تأخر لعجزه عن الرد إلا أنه لا يكون له الرجوع بنقصان العيب لوجهين:

أحدهما: أن التملك من المشتري ينتسب بالمبيع من جهة المشتري، فتجعل نسبته كنسبة المشتري، ولو كان المشتري مثبتاً بالمبيع بنفسه، فإنه لا يكون له الرجوع بنقصان العيب من غير رضا البائع، وإن كان في العيب حقه باقياً لإمكان الرد، فإذا نسب الغير به من جهته والرد موهوم بأن يعود إلى قديم ملكه.
والثاني: أن المشتري لما باع من غيره، فقد وصل إليه عوض العيب، فلا يكون له الرجوع بنقصان العيب؛ لأنه يحصل بإزاء العيب عوضان، وهذا لا يجوز، وقد زال كلا الأمرين متى عاد الشيء إلى قديم ملكه، فكان له الرد بالعيب؛ بخلاف خيار الرؤية؛ لأنه سقط لما أثبت لغيره لازماً مع علمه بثبوت الخيار له لعلمه بعلته، وهو جهله بأوصاف المبيع فلا يعود بعد ذلك، وبخلاف مسألتنا؛ لأن دعوى الأب كانت باطلة ببيع الابن لفوات شرط صحة الدعوى، وهو ولاية التملك بالجارية، وإن عادت إلى قديم ملكه لم يتبين أنه لم يكن زائلاً عن ملكه على ما بينا، وإذا بقي الزوال على حاله حقيقة وحكماً كان شرط صحة الدعوى فائتاً، فلم تصح دعوته.
وإذا ولدت الجارية المبيعة في يدي المشتري ولدين في بطن واحد كلاهما أو أحدهما لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، ثم جنى على أحد الولدين بأن قطع يده مثلاً، وأخذ المشتري الأرش، ثم ادعى البائع نسب الولدين صحت دعوته، لأنا تيقنا أن العلوق بالولدين اتصل بملك البائع، أما الذي جاء لأقل من ستة أشهر فظاهر، وأما الآخر فلأنهما خلقا من ماء واحد؛ وعلى الجاني أرش العبد، ويكون ذلك سالماً للمشتري،

(9/309)


وإن حكمنا بحرية الولد الآخر من الأصل حتى لم يكن للبائع على الولد ولاءٌ؛ لما قلنا في الولد الواحد إن الحرية لا تظهر في حق اليد.

وكذلك إن اكتسب أحدهما كسباً قبل الدعوى، ثم ادعاهما البائع ثبت نسبهما من البائع؛ لأنه صحت دعوته في حق الحي، ومن ضرورته صحة الدعوى في حق الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد لا يتصور أن يثبت نسب أحدهما وحريته من الأصل دون الآخر، وإذا صحت دعواهما فيما ذكر أن قيمة المقتول تكون لورثة المقتول ولا تكون للمشتري، ولم يحكم بحريته من الأصل في حق الجاني حتى لم يوجب عليه الدية بل أوجب القيمة، ومثل هذا جائز، يجوز أن يكون الشخص الواحد عبداً وحراً في حق شخصين وفي حق حكمين، ألا ترى أن من أقر بحرية عبد في يد غيره ثم اشتراه اعتبر عبداً في حق البائع حتى يستحق الثمن على المشتري، ويعتبر حراً في حق المشتري حتى يحكم بعتقه عليه، واعتبر شراؤه في حقه تخليص الحر، كذا ههنا.
وفرق بين الأرش والكسب والقيمة، فجعل الكسب والأرش للمشتري، وجعل القيمة لورثة المقتول. والفرق: أن من ضرورة ثبوت أحدهما وحريته من الأصل؛ لأن التوأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حق ثبوت النسب والحرية، والقيمة بدل عن النفس، فإذا ظهرت الحرية في حق النفس من الأصل؛ يثبت في بدل النفس؛ فيكون لورثة المقتول ضرورة أما ليس من ضرورة ثبات النسب وثبوت حرية الأصل في حق النفس ثبوتها في حق الأطراف المبانة، لأن حرية الذات متصورة بدون الأطراف بأن كانت فبانت الأطراف من الأصل، فلا ضرورة إلى قطع ملك المشتري عن الأرش، وكذلك في الكسب؛ لأن حرية الذات متصورة بدون حرية ما فات بسبب الكسب، وهو المنافع كما يتصور بدون حرية الأطراف، فلا ضرورة إلى ملك المشتري عن الكسب، فلذا افترقا قال: ولو لم يدعهما البائع، وإنما ادعاهما المشتري ثبت نسبهما منه لما ذكرنا في الولد الواحد.

وإذا ولدت الأمة عند رجل ولدين في بطن واحد، فباع أحدهما وادعى المشتري الولد الذي اشتراه أنه ابنه، صحت دعوته وثبت نسب الولدين منه؛ لأنهما توأمان، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما منه ثبوت نسب الآخر، ولا يعتق الولد الآخر؛ لأن دعوى المشتري دعوى تحرير؛ لأن أصل العلوق لم يكن في ملكه، فكأنه أعتق ما اشترى للحال، وليس من ضرورة عتق أحد التوأمين بعتق عارض عتق الآخر، ولا تصير الجارية أم ولد له، لأن أمية الولد قد تنفصل عن حرية الولد من الأصل كما في الولد المغرور، ففي حرية عارضة أولى.
وإذا حبلت الأمة عند رجل وولدت ابنة فكبرت ابنتها؛ وولدت ابنة، ثم إن المولى باع الابنة السفلى وأعتقها المشتري ثم إن المولى ادعى الابنة العليا، ثبت نسب العليا وثبت نسب السفلى وبطل عتق المشتري، وكانت بمنزلة التوأم، وإنما بطل إعتاق المشتري؛ لأنه يبين أنها كانت حرة قبل شرائه.

(9/310)


وإذا اشترى الرجل أمة أو ولدها أو اشتراها وهي حامل ثم باعها من آخر ثم اشتراها ثم ادعى الولد صحت دعوته، وثبت نسب الولد منه، إذا كان الولد في ملكه يوم ادعاه؛ لأنه ادعى نسب ولد مملوك، ولا يبطل ما كان قبل الدعوى من بيع أو شراء؛ بخلاف ما إذا كان علوق الولد في ملكه، فإنه يبطل ما كان قبل الدعوى من بيع أو شراء.
والفرق: أن علوق الولد إذا كان في ملكه، فدعوته دعوى استيلاد، فيستند إلى وقت العلوق، وبين أن الساعات كلها حصلت في ولد الحر وفي أم الولد، فيظهر بطلانها، أما إذا لم يكن العلوق في ملكه، فدعوته دعوى تحرير فيقتصر على الحال، فلا يظهر به بطلان البيوع السابقة.

قال: وإذا اشترى الرجل عبدين توأمين ولدا في ملك العبد، وباع أحدهما ثم ادعاهما جميعاً، وادعى الذي لم يبع صحت دعوته في الذي لم يبع، وهذا ظاهر وثبت نسب الذي باع؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، فلا يختلفان في ثبات النسب، ولا ينتقض البيع في الذي باع بخلاف ما إذا كان العلوق في ملكه، والفرق وهو أن العلوق إذا كان في ملكهما، فدعوته في الذي لم يبع دعوى حريته من الأصل، ومن ضرورة حريته من الأصل فتبين أنه باع الحر، فأما إذا لم يكن العلوق في ملكهما فدعوته في الذي (231ب4) لم يبع دعوى تحرير، وليس من ضرورة حرية أحدهما بحرية عارضيه حرية الآخر، فلا يبين أنه باع الحر.
وإذا اشترى الرجل عبداً واشترى أبوه أخا ذلك العبد وهما توأمان؛ فادعى أحدهما العبد الذي في يديه صحت دعوته فيما في يديه، وهذا ظاهر وثبت نسب الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد، ويعتقان جميعاً؛ لأن المدعي إن كان هو الأب عتق الذي عنده بالدعوى، وعتق الآخر على أبيه؛ لأن ملك أخاه، وإن كان المدعي هو الابن عتق الذي عنده بالدعوى، وعتق الآخر على أبيه؛ لأنه ملك ابن أبيه، ولا ضمان على واحد منهما لصاحبه؛ لأن عتق ما في يد كل واحد منهما ثبت نسبه مقصوراً عليه غير متعدٍ إلى صاحبه.
وإذا اشترى الرجل أمة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فولدت بعد ذلك بيوم عند المشتري، فادعى المشتري الولد صحت دعوته عندهم جميعاً؛ لأن دعوى المشتري صادفت ملكه، أما عند أبي يوسف ومحمد، فلأن خيار المشتري سقط بالولادة، وصارت الأمة ملكاً له؛ لأن الولادة عيب في بنات آدم، وحدوث العيب في يد المشتري يسقط خيار المشتري، فهذا معنى قوله إن دعوى المشتري صادفت ملكه، ولو كان الخيار للبائع فادعاه المشتري، فإن دعوته تكون موقوفة إن أجاز البائع البيع، صحت دعوته، وإن فسخ بطلت دعوته.

فرق بين هذا وبينما إذا أعتقه المشتري، والخيار للبائع، فإن عتقه لا يتوقف بل يبطل؛ والفرق: أن الدعوى إقرار بنسب ثابت، وليس بإثبات النسب للحال، والإقرار صحيح قبل الملك، ولكن نفاذه يتوقف على الملك كما لو أقر بحرية عبد الغير، فأما

(9/311)


الإعتاق فإنشاء تصرف مبتدأ للحال، وإنه تصرف لا يصح إلا في الملك، وليس للمشتري حالة الإعتاق لا ملك مات، ولا ملك موقوف متى كان الخيار للبائع على ما عرف في موضعه، فلم يصح الإعتاق حتى لو أخرج الكلامان في الإعتاق مخرج الإخبار بأن كان قال: هذا كان حراً قبل شرائي يوقف ذلك منه.
وإذا أخذ الرجل أمتين من رجل على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء بألف درهم ويرد الأخرى فولدتا عنده، وأقر أنهما منه، إلا أنه لم يبين التي وطئها أولاً، فإقراره صحيح في ولد أحدهما وهي التي تناولها البيع، وهذا لأن خيار المشتري لا يمنع صحة دعواه، ولكن البيع تناول أحدهما بغير عينها، ويتبين باختيار المشتري فيؤمر بالبيان ما دام حياً، فإن مات قبل البيان فالبيان إلى الورثة؛ لأنهم قاموا مقام الميت في خيار التعيين، فيكون لهم البيان للمورث لو كان حياً.
فإن قالت الورثة: إن أبانا وطء هذه الجارية أولاً، فإنه يثبت نسب ولد هذه من الميت، ويرث معه، وتصير هي أم ولد للميت وتعتق بموته، وعلى الورثة ثمن هذا للبائع يؤدون ذلك من تركة الميت، ويردون الأمة الأخرى على البائع مع عقرها، فتكون أمة البائع كما لو حصل هذا البيان من الميت.
وإن قال بعض الورثة: إن أبانا وطء هذه أولاً، وقال بعض الورثة: لا بل وطء هذه الأخرى أولاً، كانت التي قال لهما بعض الورثة أولاً هي التي وطئها الميت أولاً متعينة للاستيلاد، ويرد الأخرى.
فرق بين هذا وبينما إذا أوصى الرجل أن يعتق أحد عبديه، ثم مات وله ولدان، فأعتق أحدهما أحد العبدين وأعتق الآخر العبد الآخر، فإن الآخر يتعين لتنفيذ الوصية فيه دون الأول.

والفرق: أن في مسألتنا هذه الوارث قام مقام المورث في البيان بحكم الملك لا بحكم الأمر؛ لأن المورث لم يأمرهم بالبيان، وإنما ثبت لهم البيان بحكم الملك؛ لأنهم ورثوا ما كان ملكاً للميت، وإنه مختلط بملك الغير، والملك ثابت للكل، فيكون تعيين أحدهم كتعيين الميت لو كان حياً. ولو كان الميت حياً وقال: وطئت هذه أولاً، كان الإقرار منه صحيحاً، والرجوع باطلاً كذا من الورثة.
أما في تلك المسألة التعيين إلى الوارث بحكم الأمر لا بحكم الملك، ألا ترى أنه لو مات ولم يأمرهم لا يصح إعتاقهم عن الميت، وإذا كان التعيين إليهم بحكم الأمر، فإنما يصير إعتاق الوارث كإعتاق الميت أن لو وافق أمره، والميت أمر بإعتاق عبد يجتمعان على تعيينه، وإنه تنفيذ لتفاوت العبدين كما لو حصل الأمر في حالة الحياة، فإذا أعتق أحدهما عبداً، فهذا إعتاق لم يوافق أمر الآمر، فلا ينفذ على الميت بل ينفذ على المعتق؛ لأن له نصيباً فيه، وإذا أعتق بعض هذا العبد من ابن المعتق لم يبق هو محلاً لتنفيذ الوصية، فيتعين العبد الآخر لتنفيذ الوصية فيه، ويصح إعتاق الابن الآخر بانفراده فيه، لأن اجتماعهما على إعتاق عبد بعينه لا يفيد؛ فهذا هو الفرق.

(9/312)


وإن اتفقت الورثة أنهم لا يدرون التي وطئها الميت أولاً، فإنه لا يثبت نسب واحد من الولدين من الميت، ولكن يعتق نصف كل واحد من الولدين، ونصف كل واحد من الجاريتين، وسبب كل واحد من الولدين في نصف القيمة، وردت الورثة على البائع نصف ثمن كل واحد من الجاريتين، ونصف العقر من التركة، فإن لم يمت المشتري وادعى نسب الولدين، وادعى البائع نسب الولدين أيضاً، فهذا على وجهين:

الأول: أن تكون الدعوى من البائع بعد دعوى المشتري، وفي هذا الوجه تصح دعوى البائع في الولد الذي يرد عليه في أمه، كيف جاءتا بالولدين لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، أو لستة أشهر؛ لأن دعواه صادفت ملك نفسه، ولم تصح دعواه فيما صار للمشتري لا يصح في هذه الصورة من غير تصديق المشتري، فبعد دعوته أولى.
وأما إذا جاءتا لأقل من ستة أشهر لا تصح أيضاً؛ لما دخل عليه عتق المشتري، وإن ادعياهما جميعاً إذا جاءتا بالولد لستة أشهر، فدعوى البائع صحيحة فيما صار له، ولا تصح دعوته فيما صار للمشتري، وإن جاءتا بالولد لأقل من ستة أشهر، فدعوى البائع أولى في الولدين؛ لأن دعوته دعوى استيلاد، ودعوى المشتري دعوى تحرير.

نوع آخر في دعوى الولد بعد العتاق
إذا أعتق الرجل عبداً صغيراً له، ثم ادعى أنه ابنه صحت دعوته استحساناً، والقياس: أن لا تصح؛ لأنه يتناقض في هذه الدعوى. بيانه: أن إقدامه على الإعتاق إقرار منه بصحة الإعتاق، وإنما يصح إعتاقه إذا لم يكن ابناً له؛ لأنه إذا كان ابناً له، وكان العلوق في ملكه كان حر الأصل، وإن لم يكن العلوق في ملكه، فإذا دخل في ملكه يعتق عليه، فلا يصح إعتاقه بعد ذلك، وإقدامه على الإعتاق يكون إقراراً منه أنه ليس بابن له، فيصير بدعواه أنه ابنه متناقضاً.
وجه الاستحسان: أن هذا إقرار العبد وهو الابن؛ لأن عظم المنفعة في هذا الميراث للابن، والإقرار للغير صحيح من غير تصديق، وههنا يبطلان على التكذيب، ولم يوجد التكذيب ههنا، وقوله بأنه متناقض في هذه الدعوى قلنا نعم، ولكن التناقض في هذا الباب لا يضر، ألا ترى أنه لو صرح فقال: هذا ليس بابني، ثم قال: هذا ابني، تصح دعواه لنفسه لأن بقوله: ليس هذا بابني؛ أنكر أن يكون للابن عليه حقوق مالية وبقوله هذا ابني بعد ذلك أقر بالحقوق المالية، والإقرار بالحقوق بعد إنكارها صحيح.

عبد صغير بين رجلين أعتقه أحدهما ثم ادعاه الآخر بعد ذلك، فهو ابنه عند أبي حنيفة؛ لأن الإعتاق عنده متجزئ، فاقتصر الإعتاق على نصيب المعتق، وبقي نصيب الآخر مملوكاً له، فإذا ادعاه الآخر، فإنما ادعى نسب ولد مملوك فتصح دعوته، ويكون مولى لها إن كانت دعوى المدعي دعوى تحرير بأن لم يكن العلوق في ملكهما، لأن المعتق استحق نصف الولاء بينهما، فإن كانت دعوته دعوى استيلاد بأن كان العلوق في

(9/313)


ملكه للمنعتق نصف الولاء بإعتاق النصف، ولا ولاء للمدعي؛ لأنه زعم أنه علق حر الأصل، وأنه لا ولاء له عليه وزعمه يعتبر في حقه.
وأما على قول أبي يوسف ومحمد: حين أعتقه أحدهما فقد عتق كله، وكان جميع الولاء للمعتق، فإذا ادعاه الآخر بعد ذلك، فإنما ادعى نسب حر صغير ليس له نسب معروف، فتصح دعوته استحساناً لا قياساً، كما لو ادعى نسب لقيط.
هذا إذا ادعاه الآخر، وأما إذا ادعاه المعتق، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: صحت دعوته قياساً واستحساناً؛ لأنه نصيبه باقٍ على ملكه، وعلى قولهما: صحت دعوته استحساناً، لأنه ادعى نسب حر صغير ليس له نسب معروف من غيره، هذا إذا كان الولد صغيراً، وإن كان كبيراً يعبر عن نفسه، فإن أقر بذلك، فهو ثابت النسب من المدعي سواء ادعى العتق أو لا، وإن جحد ذلك لم تصح دعوى المعتق؛ لأنه لا ملك (232أ4) له فيه وتصح دعوى الآخر عند أبي حنيفة، إلا أن نصيبه باق على ملكه، وعلى قولهما: لا تصح دعوى أحدهما؛ لأنه لا ملك لأحدهما فيه عندهما.

نوع آخر في دعوى الإنسان نسب غيره والشهادة عليه
ما يجب اعتباره في هذا النوع شيئان:

أحدهما: أن البينة إذا قامت على خصم حاضر قبلت، وإذا قامت على خصم غائب لا تقبل، إلا إذا كان عنه خصم حاضر، أما قصدي وهو ظاهر، أو حكمي وذلك بطريقين: أحدهما: أن يكون المدعي على الغائب سبباً لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة، وقد ذكرنا ذلك غير مرة. والثاني: أن يكون الذي أقام البينة وارثاً، وتكون الدعوى واقعاً على الميت، فإن البينة تقبل على الوارث إذا كانت الدعوى في المال؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث في المال، وفيما هو من آثار المال، وفي الحقوق المتصلة بالمال، فتقوم مقامه في الخصومة فيه
الثاني: أن من ادعى على آخر دعوى، وأقام عليه بينة، إن كان المدعى عليه ممن يجوز إقراره للمدعي فما وقع فيه الدعوى سمع دعوى المدعى عليه، وقبلت بينته بذلك عليه؛ لأنه لما جاز إقراره به علم أنه خصم؛ لأن الإقرار إنما يجوز من الخصم، والبينة على الخصم مقبولة والدعوى عليه مسموعة، وإن كان المدعى عليه ممن لا يتصور إثبات نسب ما وقعت فيه الدعوى، فإنه لا تقبل البينة عليه، كالرجل يدعي على آخر أنه أخوه لأبيه أو أمه، أو لأبيه ولأمه، والمدعي ليس يدعي عليه حقاً من ميراثه من جهة أبيه أو من جهة أمه، أو نفقة أو نحوه، فإنه لا تسمع بينته عليه، لأن المدعى عليه ممن لا يجوز إقراره للمدعي بما وقع فيه الدعوى، فإنه لو أقر أنه أخوه لا يصح إقراره؛ لأنه يحتمل النسب على أبيه وأمه، ولا يتصور من المدعى عليه إثبات سبب ما وقع فيه الدعوى؛ لأن سبب ثبوت الأخوة من المدعى عليه إذا كان المدعي يدعي الأخوة من جهة الأب، أو من جهة الأم أن يكون المدعي ابن أبيه أو ابن أمه، وذلك بإيلاد الأب أو بولادة الأم، وإنه لا يتصور من المدعى عليه، ولما لم يصح من المدعى عليه الإقرار بما وقع فيه الدعوى،

(9/314)


ولم يتصور منه إثباته بسبب ما وقع فيه الدعوى، كان المدعى عليه أجنبياً عما وقع فيه الدعوى من كل وجه، ولم يكن خصماً للمدعي، فلا تقبل بينته عليه.

وإن كان المدعى عليه ممن لا يجوز إقراره للمدعي بما وقع فيه الدعوى إلا أنه يتصور من المدعى عليه إثبات نسب ما وقع فيه الدعوى تقبل البينة؛ لأنه لما تصور منه إثبات النسب ذلك كان خصماً فيه، أو وقع فيه الدعوى من كل وجه وذلك كالرجل يدعي على امرأة أنه ابنها وأقام بينة على دعواه؛ قبلت بينته حتى أنه إذا كان لها زوج يثبت نسب هذا الولد من زوجها، وإن كانت لو أقرت بذلك لا يصح إقرارها حتى يثبت نسب الابن المقر به من زوجها؛ لأنها تحمل نسبه على غيرها وهو الزوج، لأنه إن كان لا يصح إقرارها بالبنوة يتصور منها ما هو سبب ثبوت البنوة وهو الولادة، فإن ولادتها سبب لثبوت نسب الولد منها كما في ولد الملاعنة والزنا، فكان المدعي ادعى عليها أنها ولدته، فكان مدعياً عليها فعلاً يتصور منها، فكان خصماً للمدعي في حق سماع البينة عليه، وإن كان لا يجوز إقراره.

ثم ما ذكرنا أن إقرار المرأة بالولد باطل مستقيم على رواية «الأصل» والفرائض، غير مستقيم على رواية «الجامع» ، فقد ذكر في «الجامع» : أن إقرار المرأة بالولد جائز، وسيأتي الكلام فيه في خلال المسائل إن شاء الله تعالى.

وبعد الوقوف عليها جئنا إلى المسائل: قال محمد رحمه الله في «الجامع» : لو أن رجلاً ادعى على رجل أنه أخوه لأبيه وأمه وهو يجحد فقدمه إلى القاضي؛ فالقاضي يسأل المدعي ويقول: ماذا تريد؟ فإن قال: لا حق لي قبله من نفقة ميراث، ولكن أريد إثبات نسبي لا غير، فالقاضي لا يلتفت إلى دعوته ولا يسمع بينته عليه إن أقامها، أما الأصل الأول: فلأن هذه بينة قامت على غائب وهو الأب والأم؛ لأن نسبه يثبت من الأب، ولا يثبت من الحاضر المدعى عليه، لأن نسب أحد الأخوين لا يثبت من الآخر، فدل أن هذه بينة قامت على الأب، وهذا الحاضر ليس بخصم عنها في هذه الدعوى، ولا من طريق الحكم، أما من طريق الإرث: لأن الوارث لا ينتصب خصماً عن الأب والأم من النسب حالة الحياة وبعد الوفاة؛ لأنه ليس بمال، ولا أثر من آثار المال، ولم يدع أيضاً على الحاضر شيئاً لا يتوصل إلى ذلك إلا بإثبات النسب من الغائب، فلم ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، والبينة القائمة على غير الخصم لا تقبل.
وأما على الأصل الثاني: فلأن المدعى عليه ممن لا يجوز إقراره بما وقع فيه الدعوى وهو الأخوة، ولا يتصور منه إثبات نسب الأخوة، وهو إيلاد أبيه وولادة أمه، فلهذا قال: لا تقبل.
وإن قال المدعي: أنا أدعي عليه ميراثاً أو نفقة أو غير ذلك مما يستحق بالأخوة؛ جعله القاضي خصماً للمدعي، ويسمع بينة المدعى عليه، أما على الأصل الأول فلأن هذه بينة قامت على خصم حاضر، لأن ما يدعيه المدعي من الحق على الحاضر لا يتوصل إلى إثباته إلا بإثبات النسب من الأبوين، فانتصب المدعى عليه الحاضر خصماً

(9/315)


عن الأبوين في إنكار النسب، كمن ادعى في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب وأقام عليه البينة؛ قبلت بينته في إثبات الشراء؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ما يدعيه على الحاضر إلا بإثبات الشراء من الغائب، فانتصب الحاضر خصماً على الغائب في إنكار الشراء.l

وكمن ادعى على رجل مالاً بسبب الكفالة من فلان وأقام عليه البينة تقبل بينته في إثبات المال على الغائب؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ما يدعيه على الحاضر إلا بإثبات المال على الغائب، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إنكار المال، فكذا ههنا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إنكار السبب ويصير الغائب مقضياً عليه بالقضاء على الحاضر حتى لو حضر بعد ذلك وأنكر أن يكون المدعى عليه أنه لا ينفعه إنكاره. وأما على الأصل الثاني: فلأن المدعى عليه بالأخوة في هذا الوجه يجوز إقراره، فيقبل بينة المدعى عليه بذلك.

وإن ادعى رجل على رجل أنه ابنه والأب ينكر، فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت بينته؛ ادعى مع ذلك مالاً أو لم يدع؛ لأن هذه بينته قامت على خصم؛ لأنه يدعي عليه فعلاً وهو إيلاده ويحمل نسبه عليه، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك يصح إقراره.
وكذلك لو ادعى رجل أنه أبوه والابن ينكر، فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت بينته ادعى مع ذلك مالاً أو لم يدع؛ لأن هذه بينة قامت على خصم؛ لأنه يدعي عليه فعلاً، فإنه يقول: أنا ولدته ويلزمه الانتساب إلى نفسه، فإن الابن ينتسب إلى الأب، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك جاز إقراره.
وكذلك إذا ادعى رجل على امرأة نكاحاً وهي تنكر، أو ادعت امرأة على رجل نكاحاً وهو ينكر، فأقام المدعي بينته على دعواه قبلت بينته؛ لأنها قامت على خصم؛ لأنه يدعي عليه عقداً باشره وتولاه، ولأن الزوج يدعي عليها الملك وهي تدعي على الزوج المهر والنفقة وثبوت حق المطالبة بالجماع، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك جاز إقراره فتقبل بينة المدعى عليه.

ولو ادعى رجل على رجل أنه مولاه من عتاقه، من فوق أو أسفل، أو ادعى أنه مولاه من موالاة، والمدعى عليه يجحد، فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت؛ لأنها تدعي عليه فعلاً، فكان خصماً فيه وإن لم تدع عليه مالاً، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك صح إقراره، ذكر بعد هذا أن إقرار المرأة بالولد جائز، وكذا ذكر في دعوى «الأصل» ، وفي كتاب الفرائض أن إقرار المرأة بالولد باطل؛ لأن النسب للأب فيكون تحميلاً عليه.
حكي (232ب4) عن الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي أنه كان يقول: ماذكر في الجامع محمول على ما إذا لم يكن لها زوج معروف، فصار إقرارها متصرفاً إلى الزنا، فصار عليها خاصة، وما ذكر في الدعوى والفرائض محمول على ما إذا كان لها زوج معروف، فيكون تحميلاً عليه، وقال: في المسألة روايتان، على رواية «الأصل» إقرارها بالولد صحيح، والبينة عليها بذلك مقبولة على الروايتين جميعاً حتى أن المرأة لو ادعت على

(9/316)


(رجل) أنه ابنها، وأقامت على ذلك بينة قبلت بينتها، وإن لم تدع بذلك مالاً أو حقاً.
وكذلك لو ادعى رجل على امرأة أنه ابنها، وأقام على ذلك بينة، وإن لم يدع بذلك مالاً وحقاً، أما على رواية «الجامع» فظاهر، وأما على رواية «الأصل» ، فإنما قبلت البينة عليها، وإن كان لا يجوز إقرارها بذلك؛ لأن في الأخبار أخبرت بخبر الصدق وخبرها علامة، وهي شهادة القابلة؛ لأن سبب النسب منها الولادة، وأنه تحضرها القابلة، فلا تصدق في إخبارها بدون شهادة القابلة، ولا يثبت النسب بقولهما من هذا الوجه، فأما البينة فشرط صحتها الإنكار، ولا يشترط لصحة الإنكار انضمام قول غير المنكر إلى قول المنكر، وإنما يشترط تصور بسبب ما وقع فيه الدعوى والإنكار، وتصور ما وقع فيه الدعوى والإنكار منها ثابت، فقبلت البينة، ولا كذلك المدعى عليه، فلم تقبل عليه البينة، وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف أن البينة عليه في هذه الصورة غير مقبولة؛ لأنه لا يصح إقرارها بالثبوت، فلا تصح البينة عليه بذلك.

ولو أن صبياً في يد رجل لا يعبر الصبي عن نفسه، وزعم الرجل الذي في يديه أنه التقطه، وأقامت المرأة حرة الأصل بينة أنه أخوها لأبيه وأمه جعلته أخوها وقضت بينهما، ودفعته إليها؛ لأن هذه بينة قامت على خصم؛ لأنها تدعي على الحاضر وهو الملتقط حقاً لنفسها، وهو حق نقل الصبي إلى حجرها للحضانة والتربية، فإن ذا الرحم المحرم وذات الرحم المحرم أحق بالصبي من الملتقط، ولا يتوصل إلى إثبات هذا الحق إلا بعد إثبات نسبها من أبيه أوأمه، فينتصب الملتقط خصماً عن أبيه وأمه.
وكذلك لو كان الذي في يديه يدعي أنه عبده، وباقي المسألة بحاله قضيت بأنه أخوها، وقضيت بعتقه؛ لأنها لا يمكنها الانتزاع من يد الملتقط إلا بعد إثبات نسبها من أبيه وأمه وإثبات حريته، فكان لها إثبات ذلك.

قال بعض مشايخنا: وعلى قياس مسألة اللقيط إذا ادعت امرأة على رجل أنه أخوها لأبيها وأمها، وأقامت على ذلك بينة ينبغي أن تقبل بينتها عند محمد؛ لأنها تدعي عليه حق الإنكاح لأن نكاحها لا يجوز إلا به عند محمد، فكان التزويج حقاً مستحقاً لها قبل الولي، فقد ادعت بسبب الإخوة حقاً، فملكت إثباته بالبينة عليه، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: المرأة تملك تزويج نفسها من غير ولي، فلم يكن التزويج حقاً مستحقاً لها على الولي، فلم تدع نسب الإخوة حقاً، فلا يملك إثباتها بالبينة.
ولو أن رجلاً من العرب ملك وله ابن، فادعى رجل على ابنه أنه كان عبداً لأبيه، وأن أباه أعتقه وأنكر ذلك الابن، فأقام البينة عليه تسمع بينته؛ قال: ولا يشبه هذا النسب يريد بذلك دعوى الأخوة. وكذلك لو مات هذا العبد المعتق وترك ابناً وبنتاً، فادعى الابن العربي أن أباه أعتق أباهما وأنهما مولياه، وأقام عليهما البينة، فإنه تقبل بينته، فقد فرق بين ولاء العتاقة وبين النسب.
واختلفت عبارة المشايخ في الفرق، والعبارة الصحيحة فيه ما حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي أن الولاء أثر من أثار المال، فإنه أثر ملك اليمين؛ لأنه ثبت بالعتق، ولا

(9/317)


صحة للعتق إلا في ملك اليمين، وكان من آثار ملك اليمين والابن يقوم مقام الأب الميت فيما يدعي على الميت من المال.
وإن كان المدعي لا يدعي على الابن مالاً، بأن ادعى ديناً على الأب الميت، وليس في يد الابن شيء من تركة الأب الميت يريد بذلك إثبات الدين على أبيه؛ حتى إذا ظهر له مال يستوفيه، ولا يحتاج إلى إثباته بالبينة تقبل بينته، وإذا كان الابن يقوم مقام الأب الميت فيما يدعي على الأب الميت من أثار المال، وإن كان المدعي لا يدعي قبله مالاً في الحال إذ أثر الشيء قائم مقام ذلك الشيء، ولهذا قلنا: إن من اشترى عبداً، وأعتقه ثم اطلع على عيب به كان له أن يرجع بنقصان العيب، وإن لم يبق ملكه؛ لأنه بقي لهذا الملك أثر، وقام الأثر مقام الملك كذا ههنا. ولما كان الابن قائماً مقام الأب في دعوى الولاء كانت هذه البينة قائمة على غائب عنه خصم حاضر، فقبلت بخلاف دعوى الأخوة؛ لأنه ليس بمال، ولا هو أثر من آثار المال إنما هو من آثار ملك المتعة، والابن لا يقوم مقام الأب في ملك المتعة، فلهذا لا يقوم مقامه فيما هو من آثاره، ولما لم يقم الابن مقام الأب في دعوى الأخوة كانت بينة الأخ قائمة على غائب ليس عنه خصم حاضر فلا تقبل.

ثم قال محمد: وكذلك ولاء المولاة، ثم ولاء العتاقة في جميع ما وصفت لك؛ لأنه حكم عقد بولي الأب لاكتساب المال، وإنه لا تنتقض بموته، فأشبه البيع من هذا الوجه، والابن يقوم مقام الأب في حقوق البيع وأحكامه حتى يرد عليه بالعيب وبخيار الرؤية وبخيار الشرط، وإن لم يكن في يده مال، فكذا يقوم مقام الأب في دعوى الولاء عليه بخلاف الأخوة، فإنها لا تثبت بعقد يبقى بعد الموت حتى يلحق بالبيع، فيقام الوارث في دعواها مقام المورث.

ثم المرأة إذا ادعت على رجل أنه ابنها، وأقامت على ذلك بينة قبلت بينتها. وكذلك إذا ادعى رجل على امرأة أنها أمه، وأقام على ذلك بينة إنما قبلت بينته، وإن كانت المرأة لو أقرت بذلك لا يصح؛ لأن سبب الأمومية متصوّر منها، وهو الولادة فكانت خصماً للابن فيما ادعى، وإن لم يدع عليها مالاً.
ولو ادعت امرأة على رجل أنه ابن أمها، فهذا وما لو ادعت الأخوة سواء؛ لأنها تحمل النسب على غيرها، فإنه ما لم يثبت نسبه من أبيها لا يثبت منها، فكان كدعوى الأخوة، فإن ادعت مع ذلك حقاً مستحقاً قبلت البينة وما لا فلا.
قال في «الجامع» : رجل مات وترك موالي ثلاثة أعتقوه وترك داراً، فأقام مواليه البينة أنهم عصبته وورثته ومواليه الذين أعتقوه لا وارث له غيرهم، وقضى القاضي بالدار بينهم أثلاثاً، ثم مات واحد من الموالي، وأقام رجل بينة أنه أخوه لأبيه وأمه لا وارث له غيره يعني أخ الميت الثاني، وقضى القاضي له بنصيبه ودفعه إليه غير مقسوم، فباع الأخ ذلك من رجل وسلمه إلى المشتري، ثم إن المشتري أودع ما اشترى من رجل وغاب المشتري، فجاء رجل وأقام بينة بحضرة أخ الميت الآخر أنه ابن الميت الآخر ووارثه لا

(9/318)


وارث له غيره، وصدقه في ذلك الشريكان في الدار، فالقاضي يقضي بنسب الابن في حق إثبات النسب قامت على خصم جاحد وهو الأخ، فيقضي القاضي ببينته في حق النسب لهذا.
فإن قيل: كيف يقضي القاضي ببينته وإن الابن لا يدعي حقاً على الأخ؛ لأن نصيب الميت ليس في يد الأخ، ودعوى النسب إذا خلا عن دعوى المال لا تصح، فلا تسمع البينة عليه قلنا: من وجهين:
أحدهما: أن دعوى الحق إنما تشترط لصحة دعوى النسب فيما عدا الوالد والولد نحو الأخ والعم وأشباه ذلك أما في حق الوالد، والولد دعوى الحق ليس بشرط الصحة دعوى النسب، ألا ترى أن في حالة الحياة تصح الدعوى من الوالد والولد، وإن لم يكن مع ذلك دعوى الحق، وقد مر هذا كذا ههنا.

الثاني: أن سلمنا أن دعوى الحق مع دعوى النسب شرط في الوالد والولد أيضاً إلا أنه وجد دعوى الحق ههنا من الابن.
وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن الابن يقول لأخ الميت ثلث الدار ملكي، وأنت بعته بغير أمري، ولي أن أجيز البيع وآخذ منك الثمن. والثاني: أنه ادعى الميراث مع دعوى النسب إلا أن القاضي لم يقض له بالميراث في الحال لعدم الخصم وهذا لا يمنع القضاء بالنسب.
وهذا نظير ما لو ادعى رجل عند القاضي أنه وكيل فلان بإثبات حقوقه على الناس، وله على الناس حقوق، وأنا أريد إثباتها بحكم الوكالة، وأقام البينة على الوكالة، فإن القاضي يقضي بوكالته، وإن كان لا يقضي بالحقوق في الحال.
الثالث: أنه يدعي حقاً، والثاني بأن يحضر المشتري ... للمشتري هذا من أخ هذا الميت، وإنه مما ورثه عن الميت إذا أقر المشتري لهذا والابن يستحق ذلك والسبب كما يعتبر إذا أفاد حكمه في الحال أفاد حكمه في الثاني كبيع الفضولي والبيع بشرط الخيار (233أ4) .
وأقرب من هذا رجل مات وله دين مؤجل على رجل، جاء رجل وأقام بينته على المديون أنه ابن الميت تسمع دعواه وتقبل بينته، وإن كان دعواه لا يفيد له شيئاً في الحال كذا ههنا.
وإذا قضى القاضي بنسب الابن هل يقضي للابن بالثلث الذي كان قضى به للأخ من تركة الميت الآخر؟ ينظر إن كان القاضي الذي وقع عنده دعوى الابن هو القاضي الذي قضى للأخ بنصيب الميت قضى للابن بذلك؛ لأنه علم بخطابه في قضائه؛ لأنه قضى للأخ بالميراث مع وجود الابن، وعلم بكون المشتري غاصباً وبكون المدعي مودع الغاصب، ولا يكون هذا منه قضاء على الغائب، وهو المشتري؛ لأنه علم أن الملك لم

(9/319)


يثبت للمشتري حيث اشترى من غير المالك.

وإن كان القاضي الذي وقع عنده خصومة الابن غير القاضي الذي قضى للأخ بنصيب الميت لا يقضي للابن؛ لأن القاضي الثاني لا يعلم أن المشتري غاصب، وأن المودع غاصب الغاصب؛ لأنه لا يعلم أن الأخ البائع بأي سبب ملك، وأنه لا يعلم أن القاضي قضى للأخ بنصيب الميت بالأخوة، فلو قضى للابن نصيب الميت كان هذا قضاء على الغائب من غير خصم؛ لأن المودع لا ينتصب خصماً فيما يستحق على المودع.
وتأويل هذه المسألة: أن القاضي الثاني عرف كون المودع مودعاً بالمعاينة بأن كان إيداع المشتري منه بمعاينة القاضي الثاني أو ببينة أقامها المودع، أما إذا لم يعرف القاضي الثاني كونه مودعاً، فالقاضي يقضي للابن بنصيب الأخ؛ لأن صاحب اليد ينتصب خصماً بظاهر يده ما لم يثبت كونه مودعاً، ثم إذا لم يقض القاضي للابن بنصيب الأخ لا يدخل الابن في نصيب الشريكين المصدقين؛ لأن القضاء للأخ انصرف إلى نصيب الميت خاصة، فلم يصيرا مقرين للابن بشيء مما في أيديهما، فإن حضر المشتري بعد ذلك أخذ القاضي الثاني نصيب الميت من المشتري ودفعها إلى الابن.

هكذا ذكر محمد في «الكتاب» قالوا: تأويل هذا إذا أعاد الابن البينة على المشتري أو يقر المشتري أنه اشترى هذا من أخ الميت، وأن الأخ كان ورثه من الميت، أما بدون ذلك لا يقضي القاضي بنصيب الميت؛ لأن بينة الابن في حق المال قامت لا على خصم، فصار وجوده والعدم بمنزلة.

نوع آخر في دعوى الرجل النسب على غيره، وإحالة ذلك نسبه على شخص آخر
في «المنتقى» : رجل زمن ادعى على رجل أنه أبوه، وللزمن له عليه النفقة، وأنكر ذلك الرجل، فأقام الزمن بينة أنه أبوه، وأقام المدعى عليه بينة على رجل آخر أنه أب الزمن، وذلك الرجل ينكر، والزمن ينكر، قال: البينة بينة الزمن، ويثبت نسبه من الذي أقام عليه البينة بالنسب، وتفرض له عليه النفقة، ولا يلتفت إلى البينة الأخرى.
ذكر ثمة سؤالاً فقال: كيف لم يجعله ابن الرجلين ثم أجاب، فقال: لا يجوز ذلك، ألا ترى أن رجلين لو ادعيا رجلاً كل واحد منهما يزعم أنه ابنه، وقد يولد مثله لمثلهما، فأقام كل واحد منهما بينة على ذلك، وادعى شهادة إحدى البينتين كانت أولى أن يثبت نسبه منه وحده؛ لأن الحق ههنا حق الابن، وهو الذي ينسب إلى الاب وليس الأب ينسب إلى الابن، فإذا كان الأبوان استوى حالهما في الدعوى كانت البينة التي يدعيها الابن أولى أن يؤخذ بها، فكذا إذا استوت حالهما في الجحود، وادعى الوالد إحدى البينتين؛ فهو أولى أن يؤخذ بها.
ألا ترى أيضاً لو ادعى الغلام على أحدهما أنه أبوه وهو يجحد، والآخر يدعي أن الغلام ابنه والغلام يجحد، وأقاما البينة بينة الغلام، فإذا كانت بينة الغلام في هذا أولى

(9/320)


أحرى أن يكون أولى، وإن كان الابن محتاجاً والغلام موسر، وادعى أنه ابنه ليثبت نسبه منه ويفرض له عليه النفقة، وأقام على ذلك بينة وجحد الغلام ذلك، وأقام بينة أنه ابن فلان سمى رجلاً آخر فأحضره أو لم يحضره وفلان يجحد، فالبينة بينة الأب، ويقضي له على الغلام بالنفقة، وتبطل بينة الغلام على الآخر.
قال ثمة: ولست أقضي بنسب رجل من رجلين إلا أن يستوي في حالهما في الدعوى والبينة، وفي كل شيء حتى لا أجد سبيلاً إلى أن أقضي لأحدهما دون الآخر، وأما إذا كان أحدهما أولى بالدعوى من الآخر بأن يستحق بالنسب شيئاً لا يستحقه الآخر كان أولى بالنسب.
وفي «المنتقى» أيضاً: لو أن غلامين توأمين مات أحدهما وترك مالاً والآخر فقير محتاج؛ فجاء رجل وادعى أنه أبوهما ليأخذ الميراث، وأقام على ذلك بينة ليأخذ الميراث، وادعى الزمن على رجل آخر أنه أبوهما، وأراد أن يقضي القاضي له عليه بالنفقة؛ وأقام على ذلك بينة وغاب البينتان معاً، فالقاضي يقضي بنسب الغلامين من الأبوين؛ ويفرض نفقة الزمن عليهما جميعاً؛ لأن كل واحد منهما يدعي بالنسب حقاً على غيره فاستوى حالهما في الدعوى.

وفي «المنتقى» أيضاً: امرأة خاصمت عمها إلى القاضي وطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة على العم، وهي محتاجة، فقال العم: إن لها أخاً موسراً فهو أولى بالنفقة عليها مني، وأنكرت المرأة ذلك، فإن القاضي يبرأ العم من النفقة ويقول لها: إن شئت فرضت لك النفقة على الأخ قال ثمة: ولا يشبه هذا الأبوين، ثم قال: ألا ترى أني أقبل بينة العم بعدما ثبت نسبه أن لها أخاً، ولا أقبل البينة بعدما ثبت نسب أحد الأبوين بأن الآخر أبوه.
وفي بعض الفتاوى: مجهول النسب إذا ادعى على رجل أني ابنك؛ وصدقه المدعى عليه يثبت النسب منه، وإن كذبه في دعواه وأقام بينة أنه ابنه يثبت النسب منه؛ وما لا فلا، وقد مرت المسألة من قبل، فإن أقام المدعى عليه بينة بعد ذلك أن هذا المدعي ابن فلان آخر تبطل بينة الابن، ولكن لا يقضى ببينة ابن فلان الآخر، لأن المدعى عليه ليس بخصم عنه في إثبات النسب منه.
هكذا ذكروا وقد ذكرنا عن «المنتقى» مسألة الزمن؛ إذا ادعى على رجل أنك أبي؛ وأقام عليه البينة، وأقام المدعى عليه البينة أنه ابن فلان الآخر أن البينة بينة الابن؛ لا يلتفت إلى البينة الأخرى، فما ذكر في بعض الفتاوى يخالف ما ذكر في «المنتقى» .
إذا قال في دعوى البنوة: هذا ابني، ولم يقل: ولد على فراشي، فهذا دعوى صحيحة، وإذا أقام البينة تسمع بينته، وقضي ببنوته، وإذا قال: هذا الولد ليس مني، صح قوله الثاني، وحكم بثبوت النسب منه، وإذا ادعى أنه ابن عم فلان فلا بد فيه من ذكر الجد، وإذا ادعى أنه أخ فلان لا يشترط فيه ذكر الجد، هكذا حكي عن القاضي الإمام شمس الأئمة محمود الأوزجندي.

(9/321)


وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله في ولد الملاعنة، إذا ادعاه رجل ابنه لا يثبت نسبه منه، قال: لأنه ولد على فراش الزوج.
وفي «المنتقى» : إذا شهد الشهود لرجل أن زيداً أقر أن هذا المدعي أخوه أو أخته، أو ابن أخته، أو مولاه، فليس هذا بشيء حتى يثبتوا، وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنه أقر أنه ابن خاله، أو ابن عمه، لأن الغالب في هذا النسب، ويورث منه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: صبي في يدي رجل لا يعرف نسبه ادعى رجل آخر أنه ابنه؛ قال: إن صدقه الذي الصبي في يديه يثبت نسبه منه، وإن كذبه لا يثبت نسبه منه، والمراد من المسألة الصغير الذي لا يعبر؛ لأنه إذا كان يعبر عن نفسه كانت العبرة لتصديقه وتكذيبه، لا لتصديق من في يده وتكذيبه.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : غلام احتلم ادعى على رجل وامرأة أنهما أبواه وأقام على ذلك بينة، وأقام رجل آخر وامرأته بينة أن هذا الغلام ابنهما، فإن البينة بينة الغلام ويقضى بنسب الغلام من اللذين ادعاهما الغلام؛ لأن البينات استويا في إثبات النسب، فإن كل بينة تثبت النسب بفراش النكاح، وترجح بينة الغلام من حيث إن الغلام ببينته يثبت حق نفسه، واللذين أنكرهما الغلام بنسبهما يثبتان حق غيرهما، وهو الغلام؛ لأن معظم المنفعة في النسب للولد لا للوالدين، لأن الولد يُعَيَّر إذا لم يكن (233ب4) له والد معروف، وأما الوالد لا يعير إذا لم يكن له ولد وبينة من يثبت الحق لنفسه أولى بالقبول، لأنه أشبه بالمدعيين، ولأن النسب بمعنى النتاج؛ وفي النتاج بينة ذي اليد أولى؛ والغلام ذو اليد لأنه في يد نفسه.

قال: وكذلك غلام نصراني قد احتلم أقام شاهدين مسلمين على رجل وامرأته من النصارى أنه ابنهما، فأقام رجل مسلم وامرأة مسلمة شاهدين من النصارى على هذا الغلام أنه ابنهما؛ قضيت ببينة الغلام ويثبت نسبه من اللذين ادعاهما الغلام، لأن ما أقام الغلام من البينة حجة على المسلمين، وما أقام المسلمان حجة على الغلام، فاستوت البينتان من هذا الوجه، وترجحت بينة الغلام من الوجهين اللذين ذكراهما، ولو كان بينة الغلام نصرانيان ثبت نسبه من المسلمين؛ لأن ما أقام الغلام من البينة ليست حجة على المسلمين، فكأن الغلام لم يقم بينة، ولو لم يقم الغلام بينة يقضى ببينته من المسلمين نسبهما؛ لأنهما بينتان حقاً لأنفسهما، وهذا لأن معظم المنفعة في النسب، وإن كان الغلام وللوالدين فيه حق أيضاً، فإنهما يستحقان عليه حقوقاً مالية؛ فتقبل بينتهما إذا لم يكن للغلام ما هو حجة في حقهما.
وإذا قضى بنسب الغلام من المسلمين يجبر الغلام على الإسلام إن كان الأبوان مسلمين في الأصل، أو كانا كافرين في الأصل؛ إلا أنهما أسلما والغلام صغير؛ لأن الصغير يصير مسلماً بإسلام الأبوين، فإذا بلغ كافراً يجبر على الإسلام، لكن لا يقتل إن أبى الإسلام، والمسألة معروفة في السير.

(9/322)


نوع آخر في دعوى الرجل نسب الغلام
وإنه ينقسم أقساماً: قسم في دعوى الخارج مع ذي اليد، وقسم في دعوى الخارجين، وقسم في دعوى صاحب اليد.
أما القسم الأول في دعوى الخارج مع ذي اليد: قال محمد في «الأصل» : لو أن حراً مسلماً في يديه غلام يدعي أنه ابنه؛ جاء مسلم حر أو ذمي أو عبد، وأقام بينة أنه ابنه، ولا بينة لصاحب اليد قضي بنسبه من المدعي؛ لأن البينة لا تعارضها اليد، ولا قول ذي اليد.
u
بعد هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: ويكون الولد حراً في ذلك كله، قال: وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا كان المدعي حراً، ويشكل فيما إذا كان المدعي عبداً؛ لأن ماء العبد رقيق ما لم يثبت اتصاله برحم الحرة، وإذا لم يسم أمته لم يثبت اتصاله برحم الحرة، ثم أجاب فقال: حرية الولد قد ثبتت ظاهراً حين ادعى صاحب العبد نسبه، وهو حر وبما أقام العبد من البينة لم تبطل تلك الحرية؛ لأنهم لم يسموا أمتهم يجوز أن تكون أمته حرة حتى لو أقام العبد بينة أن هذا ابنه من امرأته هذه، وامرأته أمة يبطل ما ثبت للولد من الحرية بإقرار ذي اليد. وذكر شمس الأئمة الحلواني: ويكون الصبي حراً إلا في العبد خاصة، فإنه إذا ثبت نسبه من العبد يكون مملوكاً وهو الأشبه.
قال: وإذا كان الصبي في يدي رجل يدعي أنه ابنه ويقيم على ذلك بينة، ورجل آخر يقيم بينة أنه ابنه قضي لصاحب اليد؛ لأن النسب في معنى النتاج، وفي النتاج بينة ذي اليد أولى فكذا في النسب.
ولو أقام صاحب اليد بينة أنه من امرأته هذه؛ وأقام رجل آخر بينة أنه ابنه من امرأته هذه قضي للذي في يديه؛ لأنهما استويا في اليد على الأم، ولأحدهما يد على الولد قد ترجح من له يد على الولد؛ كما في دعوى النتاج، ثم أجعله ابن الرجل والمرأة الذي هو في أيديهما، سواء ادعى الأب وجحدت المرأة، أو ادعت المرأة وجحد الابن يريد به إذا ادعى الرجل الذي في يديه الصبي أنه ابنه من امرأته هذه والمرأة تجحد، وادعت المرأة الصبي في يدها أنه ابنها من زوجها هذا والزوج يجحد.

وهذا بناء على أن الأب ينتصب خصماً عن ابنه في إثبات نسبه من الأم؛ لأن النسب حق الولد، والأب ينتصب خصماً عن ابنه في إثبات حقوقه، فصار إقامة البينة من الأب كإقامة البينة من الابن لو كان بالغاً، ولو كان بالغاً وأقام البينة على الأم أنه ابنها ثبت نسبه منها كذا ههنا. وكذلك الأم تنتصب خصماً عن الابن في إثبات النسب من الأب؛ لأن النسب محض منفعة في حق الصغير، فالأم والأب في ذلك على السواء، ألا ترى أنه كما يصح قبول الهبة من الأب على ابنه الصغير يصح قبولها من الأم على الصغير، وإنما التفاوت بين الأم والأب في الحقوق المترددة بين الضرر والنفع، والأب ينتصب خصماً عن الصغير في ذلك والأم لا تنتصب، وإذا انتصبت الأم خصماً عن الصغير في إثبات نسبه من الأب صار إقامة الأم البينة على ذلك كإقامة الابن لو كان

(9/323)


بالغاً، وكان الابن بالغاً، وإقامة البينة أنه ابن هذا الرجل، أليس أنه يثبت نسبه منه كذا ههنا.

عبد تحته أمة وفي أيديهما صبي جاء رجل آخر تحته حرة؛ وادعى أن هذا الصبي ابنه من هذه المرأة وأقام على ذلك بينة؛ وادعى العبد أنه ابنه من امرأته هذه وأقام على ذلك بينة يقضى به للحر، ولم يعتبر اليد الثانية للعبد ترجيحاً إذا كان الخارج حراً، وهذا لأن اليد إنما تعتبر للترجيح إذا استوت البينتان في الإثبات ولا استواء ههنا؛ لأن بينة الحر تثبت النسب بجميع أحكامه وبينة العبد لا تثبت النسب بجميع أحكامه.
وإذا كان الصبي في يدي رجل أقام رجل بينة أنه ابنه من امرأته هذه وهما حران وأقام رجل آخر بينة أنه ابنه وهو حر أيضاً إلا أنه لم ينسبه إلى أمه، فإنه يقضي بالولد للمدعي؛ لأن بينته أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت النسب من الأب والأم جميعاً، وبينة صاحب اليد لا تثبت النسب من الابن إذا لم يسم الأم، فما استوت البينتان في الإثبات لتعيين اليد ترجيحاً.

صبي في يدي رجل من أصل الذمة يدعي أنه ابنه، جاء مسلم وأقام بينة من المسلمين أو من أهل الذمة أنه ابنه، وأقام الذي في يديه بينة من أهل الذمة أنه ابنه قضي للخارج؛ لأن ما أقام الذمي من البينة ليست بحجة في حق المسلم، فصار في حق المسلم كأن الذمي لم يقم البينة. لو أقام الذمي بينة من المسلمين، وباقي المسألة بحاله قضي للذمي بحكم يده عند الاستواء في الحجة.

نوع آخر يتصل بهذا القسم وهو دعوى الخارج مع ذي اليد نسب الأمة مع دعوى ملك الأمة
قال محمد رحمه الله: وإذا ولدت أمة في يدي رجل، أقام رجل آخر بينة أن هذه الأمة أمته ولدت هذا الولد منه في ملكه وعلى فراشه، وأقام ذو اليد بينة أن هذه الأمة أمته ولدت هذا الولد منه في ملكه وعلى فراشه؛ والغلام صغير لا يتكلم أو قد احتلم إلا أنه يدعي أنه ابن صاحب اليد؛ فالقاضي يقضي بالغلام لذي اليد؛ لما ذكرنا أن بينة ذي اليد في دعوى النسب مرجحة حسب ترجحها في دعوى النتاج ويقضى بالأمة لذي اليد، وإن كان المدعي خارجاً؛ لأنهما تصادقا على أن حق العتق للأم بسبب ثبات نسب هذا الولد؛ لأن حق الأم إنما يثبت تبعاً لثبوت حق الولد، فكل من ثبت نسب الولد منه يثبت حق العتق للأم من جهته باتفاق الخصمين، وباتفاق البينتين، وقد ثبت نسب الولد ههنا من ذي اليد، فيثبت حق العتق للأم من جهته، وإنما يثبت حق العتق للأم من جهة ذي اليد إذا قضيا بالجارية لذي اليد.
وإن كان الغلام يدعي أنه ابن الخارج؛ يقضى بالغلام للخارج ويقضي بالأمة له أيضاً، أما القضاء بالغلام للخارج؛ لأن الغلام لما ادعى أنه ابن الخارج صار بينة الخارج بينة الغلام، وصار كأن الغلام أقام البينة بنفسه، وهناك يقضى ببينة الغلام كذا ههنا، وأما القضاء بالأمة له فلما ذكرنا من العلة في الفصل الأول من جانب ذي اليد.

(9/324)


ومما يتصل بهذا القسم: دعوى الخارج مع ذي اليد نسب ولد الحرة، قال محمد رحمه الله: حرة لها ابن وهما في يدي رجل؛ أقام رجل آخر البينة أنه تزوجها وأنها ولدت منه هذا الولد على فراشه؛ وأقام ذو اليد بينة على مثل ذلك، فإنه يقضى بالولد لذي اليد، سواء ادعى الغلام أنه ابن ذي اليد، أو ادعى أنه ابن الخارج، إن ادعى أنه ابن ذي اليد فظاهر، وإن ادعى أنه ابن الخارج فلان قضيا بالنكاح لذي اليد؛ لأنهما ادعيا تلقي الملك في بضعها من جهة واحدة ولأحدهما (234أ4) يد، فيقضى لذي اليد كما في دعوى الشراء، وإذا ثبت القضاء بالنكاح لذي اليد لم يمكن القضاء بالنكاح للخارج، وما لم يثبت النكاح في المرأة للخارج لا يمكن إثبات نسب الولد منه.
ولو كان الذي هما في يديه من أهل الذمة وشهوده مسلمون، والذي يدعي مسلم وشهوده مسلمون، والمرأة من أهل الذمة قضيت بالمرأة والولد للذي هما في يديه، لأن بينة كل واحد منهما حجة على صاحبه، وفي دعوى النكاح والنسب بينة ذي اليد أولى فيقضى بالولد والمرأة لذي اليد.

وإن كانت المرأة مسلمة في هذه الصورة يقضى بالمرأة والولد للمدعي سواء كان شهود ذي اليد مسلمين أو كانوا من أهل الذمة، أما إذا كانوا من أهل الذمة فظاهر، لأن شهود أهل الذمة ليست بحجة على المدعي، فكأن ذي اليد لم يقم البينة فيقضى للخارج ببينته، وإن كان شهود ذي اليد من أهل الإسلام فلأن ذي اليد يدعي نكاحاً فاسداً؛ لأن نكاح الذمي على المسلم نكاح فاسد، وبينة ذي اليد في دعوى النكاح إنما تترجح إذا ادعى ذو اليد نكاحاً صحيحاً.
وإن ادعى المدعي أنه تزوجها في وقت كذا؛ وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد على وقت دونه؛ فإنه يقضى بها للخارج؛ لأنهما ادعيا تلقي الملك من جهة ثالث، وأرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فيقضي لأسبقهما تاريخاً كما في دعوى النتاج.

ومما يتصل بهذا القسم في دعوى ذي اليد نسب الولد من نكاح أمة ودعوى الخارج نسب الولد مع ملك أمة.
ولو أقام ذو اليد بينة أنها امرأته تزوجها وولدت هذا الولد منه على فراشه، وأقام آخر بينة أنها أمته ولدت هذا الغلام في ملكه على فراشه، فإنه يقضى بالولد للزوج، وبملك الأمة للمدعي أما القضاء بالولد للزوج؛ لأن الزوج أثبت نسب الولد بفراش النكاح، والمدعي أثبت فراشه بملك اليمين وأما القضاء بالأمة للمدعي؛ لأن المدعي يدعي ملكها، والزوج لا يدعي ملكها إنما يدعي النكاح فيها، ويجوز أن تكون أمة الإنسان منكوحة الغير، فلا تنافي بين الدعوتين فيقضى بالأمة للمدعي؛ لهذا كان الولد مع الأمة مملوكين له، لأن الولد يتبع الأم في الملك، إلا أن الولد يعتق بإقرار المدعي؛ وتصير الجارية أم ولد له بإقراره أيضاً، قال: إلا أن يشهد شهود المدعي أنها غرته من نفسها، بأن زوجت نفسها على أنها حرة فحينئذٍ يكون الولد حراً بالقيمة.
قال: أمة وولدها في يدي رجل، أقام رجل بينة أنها أمة أبيه؛ فولدت هذا الولد

(9/325)


على فراش أبيه في ملكه وأبوه ميت، وأقام ذو اليد بينة أن هذه أمته ولدت هذا الولد على فراشه في ملكه، قضيت بالولد للميت الذي ليست في يديه؛ لأنهما استويا في إثبات النسب بفراش ملك اليمين، وترجحت بينة الميت بإثبات حقيقة العتق للجارية في الحال.
والقسم الثاني في دعوى الخارجين نسب الولد: قال محمد رحمه الله: صبي في يدي رجل جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه ابنه وأقاما على ذلك بينة، قضي بنسبه منهما، وإن وقت إحدى البينتين وقتاً قبل الآخر، ينظران إلى سن الصبي، فإن كان موافقاً لأحد الوقتين مخالفاً للوقت الآخر يقضى للذي كان في وقته موافقاً لسن الصبي، وإن كان مخالفاً لأحد الوقتين يتعين، مشكلاً للوقت الآخر يقضى للكل؛ لأنه لم يتيقن بكذبه وتيقن بكذب الآخر.

وإن كان مشكلاً للوقتين نحو أن شهد أحد الفريقين أنه ابن تسع سنين، وشهد الفريق الآخر أنه ابن عشر سنين، وهو يصلح ابن تسع سنين وابن عشر سنين، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يسقط اعتبار التاريخ؛ ويقضى بينهما باتفاق الروايات. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أنه يقضى بينهما في رواية أبي حفص ولا يعتبر التاريخ، وعلى رواية أبي سليمان: يقضى بأسبقهما تاريخاً؛ فعلى هذه الرواية اعتبر التاريخ، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» ؛ وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله ذكر في عامة الروايات أنه يقضي بينهما؛ وذكر في بعض الروايات أنه يقضي لأسبقهما تاريخاً.
قال رحمه الله: والصحيح ما ذكر في عامة الروايات واتفقت الروايات عن أبي حنيفة أنه لا عبرة للتاريخ في باب النتاج، حتى أن الرجلين إذا ادعيا نتاج دابة في يد آخر وأقاما البينة وأرخا، وكان سن الدابة مشكلاً يقضي بينهما، وإذاً على ما ذكر في رواية أبي حفص كما ذكره شيخ الإسلام، وعلى عامة الروايات كما ذكره شمس الأئمة: لا فرق بين دعوى النتاج والنسب، والتاريخ ساقط الاعتبار عند أبي حنيفة فيهما؛ كما هو مذهبهما على ما ذكر في رواية أبي سليمان كما ذكره شيخ الإسلام.

وعلى بعض الروايات كما ذكره شمس الأئمة فرق أبو حنيفة رحمه الله بين النتاج وبين النسب؛ فاعتبر التاريخ في النسب، وأسقط التاريخ في النتاج؛ وهما سواء بين النسب والنتاج، وأسقط التاريخ فيهما، والقياس معهما؛ لأن النسب بمعنى النتاج من حيث إنه يثبت ابتداءً للوالد على الولد لا من جهة أحد بسبب لا يثنى ولا يكرر، فسقوط اعتبار التاريخ في النتاج يكون سقوطاً في النسب؛ وأبو حنيفة يقول: إنما سقط اعتبار التاريخ في النتاج؛ لأن بزيادة التاريخ لا يثبت لصاحب الزيادة زيادة استحقاق؛ لأن النسب يوجب حقوقاً فيما بين الوالد وولده، فأسبقهما تاريخاً بزيادة التاريخ تثبت زيادة استحقاق؛ فكان بينته أولى، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث اعتبرنا سبق التاريخ وطريقه ما قلنا.
صبي في يدي رجل يدعي نسبه خارجان أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقام كل

(9/326)


واحد منهما بينة من المسلمين أنه ابنه قضي بالنسب من المسلم، ويرجح المسلم على الذمي بحكم الإسلام؛ وفي هذه المسألة تعذر الترجيح بحكم اليد؛ لأنهما خارجان فرجحنا بحكم الإسلام، وفيما إذا كان الصبي في يدي ذمي يدعي أنه ابنه ويقيم بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة يقضى للذمي؛ لأن هناك الترجيح بحكم اليد ممكن؛ فرجحنا اليد عند الاستواء في الحجة.

صبي في يدي رجل ادعاه ذمي أنه ابنه ولد على فراشه، وأقام على ذلك بينة شاهدين مسلمين؛ وادعى أنه ابنه ولد على فراشه من هذه الأمة قضي للذمي، ولم يترجح العبد بحكم إسلامه وإن كانا خارجين كما فيما تقدم؛ لأن الترجيح بحكم الإسلام إنما يكون بعد الاستواء للبينتين في الإثبات، وبينة الذمي أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت النسب في جميع أحكامه.

ولو ادعى يهودي ونصراني ومجوسي كل واحد يدعي أنه ابنه ولد على فراشه يقضى لليهودي والنصراني بينهما؛ ولا يقضى للمجوسي؛ لأن بينة المجوسي لا تعارض بينهما؛ لأن بينتهما تثبت بعض أحكام الإسلام، وهو حل المناكحة، وحل الذبيحة واليهودي لاستوائهما في الإثبات.
صبي في يدي رجل ادعاه حر مسلم أنه ابنه من هذه المرأة الأمة؛ وادعاه عبد أو مكاتب أنه ابنه من هذه المرأة، قضي للحر؛ لأن بينته أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت النسب بجميع أحكامه.
ولو ادعاه عبد أنه ابنه ولد من هذه الأمة، وادعاه مكاتب أنه ابنه ولد من هذه المكاتبة قضي للمكاتب؛ لأن بينته أكثر إثباتاً؛ لأنها لا توجب حرية الولد، هذا إذا كان مدعي النسب اثنين، ولو كان مدعي النسب ثلاثة أو أكثر فعلى قول أبي حنيفة: يثبت النسب من الكل، وعلى قول أبي يوسف: إن كانوا أكثر من اثنين لا يثبت النسب، وعلى قول محمد: يثبت النسب من ثلاثة؛ ولا يثبت من أكثر من ثلاثة، وإذا كان المدعي امرأتين أو ثلاثة وعلى قول أبي حنيفة يثبت النسب من كل واحدة منهما، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يثبت النسب من وجوه منهما، وقد مرت المسألة في كتاب اللقيط.
القسم الثالث: وهو دعوى صاحبي اليد الولد: صبي في يدي رجل وامرأته؛ قال الرجل: هذا ابني من امرأة أخرى، وقالت المرأة: هذا ابني من زوج آخر كان لي قبلك، فهو ابنهما؛ ولا يصدق كل واحد منهما فيما يدعي من الإخراج من يد صاحبه، وهذا (234ب4) لأن كل واحد منهما أقر بثبوت نسب الولد؛ وادعى ما يخرجه من يد صاحبه، ويدهما ثابتة في الولد على السواء، فصح إقرارهما بثبوت نسب الولد، ولم تصح دعواهما الإخراج من يد صاحبه.
وإن كان الولد في يد الزوج فقال: هذا ابني من امرأة أخرى، وقالت المرأة: هذا ابني منك؛ فالقول قول الزوج.

وإن كان الولد في يدي المرأة فقالت المرأة: هذا ابني من الزوج كان لي قبلك،

(9/327)


وقال الزوج: هذا ابني منك ولدته في ملكي، فالقول قول الزوج أيضاً؛ وكان ينبغي أن القول قولها في هذه الصورة؛ لأن الولد في يدها، ألا ترى أنا جعلنا القول قول الزوج في المسألة الأولى؛ لأن الولد في يده.

واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بين المسألتين، فعبارة بعضهم: أن الولد إن كان في يدها حقيقة فهو في يد الزوج حكماً؛ فلا تصدق المرأة في دعواها، كما لو كان في يد الزوج حقيقة، أما في يد الزوج حقيقة لا يعتبر في يد المرأة حكماً، لأن المرأة ليست بقوامة عليها بحكم النكاح، فكان الولد في يد الزوج حقيقة وحكماً.
وكذلك إذا اختلف الزوجان في متاع البيت لا يجعل القول قول الزوج فيما في يد المرأة، ولا يجعل ما في يد المرأة في يد الزوج حكماً؛ مع هذا لا يقبل قول المرأة في الولد وإن كان في يدها؛ لأن المرأة بما تقول تريد قطع النسب من هذا الزوج مقصوداً؛ لأن الأنساب للآباء، وهذا الولد ثابت النسب من هذا الزوج ظاهراً لقيام الفراش بينهما، فهو معنى قولنا: إنها تريد قطع النسب من الزوج مقصوداً، ومجرد اليد لا تصلح لذلك، ألا ترى أن اليد مع الملك لا تصلح لذلك حتى لو كان لها عبد، وهو معروف النسب من غيره؛ إذا قالت: هذا ولد فلان الآخر لا تصدق على ذلك، فأما إذا كان الولد في يدي الزوج فالزوج يقول: هذا ابني من امرأة أخرى لا يقطع نسباً ثبت منها مقصوداً؛ لأن الأنساب للآباء لا للأمهات، وليس يخرجها من يده؛ لأنه لا بد لها، فكان مصدقاً فيما ادعى، وأما إذا كان في أيديهما، فالزوج إنما لا يصدق وإن كان لا يقطع نسبها مقصوداً من جانبها؛ لأنه يريد إخراج الولد من يدها، ويدها على الولد ثابت ظاهراً، فلا يصدق في دعوى الإخراج.

وبعضهم قالوا: قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشاً له على غيرها؛ إما بنكاح ملك يمين، فإذا كان الولد في يد الزوج كان بيان سببه إليه أنه على فراش حصل له، وأما ثبوت الفراش له عليها ينافي فراشاً آخر عليها لغيره، فكان هذا الفراش في حقها متعيناً؛ وباعتباره يثبت النسب من الزوج.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد امرأة قالت لزوجها: هذا ولدي منك وهو في يدها، وشهدت امرأة على ولادتها وكذبها الزوج؛ لزم الزوج إذا لزمها لزمه، ولو كان الزوج يدعي ذلك وكذبته المرأة، فأقام الزوج امرأة على الولادة لم يصدق الزوج، وإنما يعتبر قول المرأة الشاهدة إذا ادعت.
وفيه أيضاً ابن سماعة عن محمد: صبي في يدي رجل وامرأة؛ قالت المرأة: هذا ابني من هذا الرجل، وقال الرجل: هذا ابني من امرأة أخرى غيرها، فإنه يكون ابن الرجل، ولا يكون ابن المرأة، فإن جاءت المرأة بامرأة وشهدت على ولادتها إياه كان ابنها منه، وكانت زوجته بهذه الشهادة؛ لأني جعلته ابنهما، وإن كان الولد في يدي الرجل دون المرأة، والمرأة امرأته، فادعى الرجل أنه ولده من غيرها، وادعت المرأة أنه ابنها منه، ويكون ابنه من قبل أنه في يده.

(9/328)


نوع آخر في دعوى المرأة نسب الولد
صبي في يدي رجل، جاءت امرأة وادعت أنه ابنها وأقامت على ذلك شاهدين؛ قضي لها بالولد، وإن لم تقم إلا امرأة، فإن كان صاحب اليد يدعيه لنفسه لا يقضى للمرأة المدعية.
قيل: هذا قول أبي حنيفة، فأما على قولهما: يقضى للمرأة المدعية بناءً على أن شهادة القابلة على الولادة إذا لم يتأيد بمؤيد، وتضمنت إبطال حق مستحق على الغير ليست بحجة عند أبي حنيفة رحمه الله. وهنا تضمنت إبطال اليد على ذي اليد، فصار وجودها والمعدوم بمنزلة بقي مجرد الدعوى من جانبها ومن جانب صاحب اليد كذلك، فيقضى لصاحب اليد، وعندهما شهادة القابلة حجة بمنزلة شهادة الرجلين، وقضي بالولد للمدعية.

وإن كان ذو اليد لا يدعي لنفسه يقضى بالولد للمرأة المدعية؛ لأن ذا اليد إذا كان لا يدعيه لنفسه وهو لقيط، فليس له على اللقيط يد مستحقة، ألا ترى أن للقاضي أن ينزعه من يده، وإذا كان للقاضي ولاية إبطال يده من غير شهادة القابلة، فمع شهادة القابلة أولى.
صبي في يدي امرأة ادعت امرأة أخرى أنه ابنها؛ وأقامت على ذلك بينة، وأقامت المرأة التي في يديها امرأة ابنها يقضى للتي في يديها، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأن شهادة المرأة الواحدة للخارجة عند دعوى ذي اليد؛ ومجرد دعوى الخارجة سواء، وأما عندهما فلأنهما استويا في الدعوى والحجة، وترجح ذو اليد بحكم يده.
ولو شهد لكل واحد منهما رجلان قضي لذي اليد. ولو شهد لصاحبة اليد امرأة واحدة، وشهد للخارجة رجلان قضي للخارجة، أما عند أبي حنيفة فلأن شهادة امرأة واحدة على الولادة حالة المنازعة ومجرد الدعوى سواء، وأما عندهما فلأنه لا تعارض بين الحجتين؛ لأن شهادة امرأة واحدة حجة على الولادة لا غير، وشهادة الرجلين حجة في الولادة وغيرها من الأحكام.
صبي في يدي رجل لا يدعيه، أقامت امرأة بينة أنه ابنها ولدته ولم تسم أباه؛ وأقام رجل بينة أنه ولده على فراشه ولم يسم أمه، فإنه يجعل ابن هذا الرجل من هذه المرأة، ولا يعتبر الترجيح باليد كما لو كان المدعي رجلان والصبي في يد أحدهما، فإنه يقضي لصاحب اليد؛ لأن الترجيح بحكم اليد إنما يكون عند تعذر العمل بالبينتين، وقد أمكن العمل بالبينتين؛ لأنهما قامتا لإثبات نسب هذا الولد من هذا الرجل وهذه المرأة، والنسب هكذا يثبت من الرجل والمرأة، بخلاف ما إذا كانت الدعوى من رجلين؛ لأن هناك تعذر العمل بالبينتين؛ لأن النسب لا يثبت من رجلين، فرجحنا بينة أحدهما بحكم اليد والله أعلم.

(9/329)


نوع آخر في دعوى نسب ولد أمة الغير بحكم النكاح

أمة في يدي رجل لها منه ولد وإن جاء رجل وقال: الأمة التي هي في يديه، وإنه زوجها مني، وقد ولدت على فراش هذا الولد الذي في يدي، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن الأمة لهذا المدعي، وأنه زوجها مني، وولدت على فراشي هذا الذي في يدي، فإنه يقضى لكل واحد منهما بالولد الذي في يديه؛ لأن كل واحد منهما يدعي الولد الذي في يديه، ولا ينازعه في ذلك أحد، ويحكم بحرية كل واحد من الولدين؛ لأن كلاً من المدعيين يقول: الولد الذي في يد صاحبي ملك صاحبي، وصاحبي أقر بحريته لما ادعى به، وقد صح إقراره بذلك، فقد تصادقا على حرية كل واحد من الولدين، فيحكم بحريتهما من هذا الوجه، وتصير الجارية أم ولد موقوفة في يد الذي في يديه لا يطؤها واحد منهما لصيرورتها أم ولد لتصادقهما على ذلك؛ لأن كل واحد منهما يقول: هي مملوكة لصاحبي، وصاحبي قد أقر بكونها أم ولد، فتصير أم ولد للحال، وتكون موقوفة؛ لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه، وصاحبه تبرأ من ذلك، وأيهما مات عتقت، لأنهما تصادقا على حريتها بعد موت أيهما مات.
Y
وإذا كانت الأمة في يدي رجل وفي يديه ولدها، فادعى آخر أنه زوجها بغير إذن مولاها، فولدت له على فراشه هذا الولد الذي في يد مولاها، وأقام البينة على ذلك، وأقام الذي في يديه الأمة بينة أن هذا الولد ابنه ولد على فراشه من أمته هذه، فإنه يقضى بالولد للزوج، وإن كان الزوج خارجاً ودعوى النسب بمنزلة دعوى النتاج إنما كانت بينة صاحب اليد أولى؛ لأن البينات استويا في الإثبات، فإن كل واحدة أثبتت أولية الملك، لا من جهة أحد فترجحت بينة ذي اليد بحكم اليد، وههنا ما استوت البينتان في الإثبات؛ لأن بينة الزوج تثبت النسب بفراش النكاح، وبينة صاحب اليد تثبت الفراش بملك اليمين (235أ4) والنسب بالنكاح آكد حتى لا ينفى بمجرد النفي، فكانت بينة الخارج أكثر إثباتاً، فكانت أولى، فإن قيل: يجب أن لا يثبت الفراش الموجب لبيان النسب بهذا النكاح؛ لأنه عقد بغير إذن المالك، والمستولد عالم به، فهو بمنزلة ما لو اشترى أمة من الغاصب، وهو عالم بذلك واستولدها، فإنه لا يثبت نسب الولد من المشتري، وطريقه ما قلنا. هذا النكاح صدر من المالك من وجه وهي الجارية؛ لأن الجارية في حق النكاح مبقىً على الحرية حتى كان لها القسم كما للحرة واعتبرت الأمة بالعبد فإن العبد في حق النكاح مبقاً على الحرية حتى يملك النكاح بإذن المولى، ولو ثبت الرق في حق النكاح لما ملكه بإذن المولى؛ كملك المال، فعلم أن النكاح صدر من المالك من وجه إلا أنه فسد لفوات شرطه وهو بمنزلة أحد الموليين إذا زوج الأمة بغير إذن الآخر، وبمنزلة العبد إذا تزوج بغير إذن المولى، وهناك ينعقد النكاح بوصف الفساد كذا ههنا. بخلاف الشراء من الغاصب لأن ذلك التصرف صدر من غير المالك من كل وجه فيكون وجوده وعدمه بمنزلة، ثم قال: ويعتق الابن بإقرار المولى بعتقه حيث ادعى نسبه، وتكون الجارية بمنزلة أم الولد للمولى تعتق بموته، لأن المولى كما أقر بالولد أقر للجارية.

(9/330)


نوع آخر في دعوى غلام أنه ابن فلان ولد على فراشه من أمته هذه، ودعوى فلان كون الغلام عبداً له ولدته أمته هذه زوجها عبده فلان.
قال محمد رحمه الله: ولو أن غلاماً احتلم أقام بينة أنه ابن فلان، ولد على فراشه من أمته هذه وقال فلان: إنه عبدي ولدته أمتي هذه، زوجتها من عبدي فلان، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون العبد حياً ويدعي ذلك، وفي هذا الوجه يثبت نسب الغلام من العبد، وهذا مشكل لأن الغلام في يد نفسه، واليد معتبرة ترجيحاً في دعوى النسب، ولا تثبت حرية نفسه من الأصل، وحق العتق للأم، وبينة العبد تثبت رقهما، والجواب: أن الترجيح باليد وبإثبات الحرية إنما يقع إذا استوت البينتان في الإثبات فيما وقع فيه الدعوى، أما إذا كان إحدى البينتين أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى معتبرة الترجيح بكثرة الإثبات كما في دعوى الملك المطلق لم يعتبر الترجيح باليد كما كانت بينة الخارج أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى؛ لأن العبد ببينته يثبت نسب الغلام بفراش النكاح، والغلام يثبت نسبه من المولى بفراش ملك اليمين والنسب الثابت بفراش النكاح آكد؛ حتى لا ينفى نسب فراش النكاح بمجرد النفي، فكانت بينته أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى، فكانت أولى بالقبول، وإذا قبلنا بينة العبد كان الغلام وأمه رقيقين للمولى.
والوجه الثاني: إذا كان العبد ميتاً، أو كان حياً إلا أنه يدعي نسب الغلام ولا يدعي النكاح ومولى الأمة أيضاً ميت، وإنما يدعيه ورثة الميت ويقيمون البينة على ذلك، وفي هذا الوجه يقضى بنسب الغلام من مولى الغلام، ويرث مع سائر ورثته لأن بينة الورثة قامت على إثبات النكاح للعبد وهم أجانب عن نكاح العبد، والبينة إنما تقبل من صاحب الحق لا من أجنبي فكأن الورثة لم يقيموا بينة على ما ادعوا، أو يقول الورثة بهذه البينة لا يثبتون لأنفسهم شيئاً، لا النكاح ولا النسب، وإنما غرضهم من هذه البينة نفي نسب الغلام من المولى، والبينة على النفي لا تقبل، فإذا لم تقبل بينته أنه من هذه الأمة فهو ابن العبد لأن العبد ببينته يثبت النسب بفراش النكاح والمتولي يثبت النسب بفراش ملك اليمين فكانت بينة العبد أكثر إثباتاً، وكذلك إن الغلام بينته أنه ابن العبد لما ذكرنا.
ولو أن رجلاً مات وترك أموالاً كثيرة فجاء غلام قد احتلم ومثله يولد للميت، فأقام بينة أنه ابن الميت من أمته فلانة وولدته في ملكه، وأن الميت أقر بذلك، وأقام رجل آخر بينة أن هذا العبد عبده، وأن الأمة أمته، زوجها غيره فلان فولدت منه هذا الولد، وإن كان العبد حياً ويدعي ذلك فهو ابن العبد لما ذكرنا في المسألة المتقدمة أن بينة العبد أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى، ويقضي بالأمة للمدعي؛ لأن البينتان في حق الأمة قامت على الملك المطلق والمدعي خارج، فيقضي ببينة المدعي في الأمة، وإن كان العبد ميتاً أو كان حياً إلا أنه أنكر النكاح؛ فإن نسب الغلام يثبت من الميت الذي أقام الغلام البينة أنه ابنه ويرث منه؛ لأن بينة المدعي على إثبات نكاح الغلام غير مسموعة لأنها تثبت نكاح الغير، والبينة على إثبات نكاح الغير لا تقبل من غير دعوى صاحب النكاح.

(9/331)


وإذا لم تقبل بينة المدعي جعل كأن المدعي لم يقم البينة، وتفرد الغلام بإقامة البينة، وهناك يقضي ببينة الغلام كذا ههنا، ويقضي بالأمة للمدعي لأن الدعوى في الأمة دعوى مطلق الملك مفرداً، وبينة الغلام تثبت الملك للميت في الجارية مع العتق، وذو اليد إذا ادعى مطلق الملك مع العتق كانت بينته أولى من بينة الخارج إذا كان الخارج يدعي مطلق الملك مفرداً.

نوع آخر في دعوى الولد من الزنا
وإذا ولدت أمة الرجل ولداً فادعاه رجل أنه ابنه من الزنا ثم ملكه يوماً من الدهر، فإنه يعتق عليه من غير أن يثبت نسبه، وإن ملك أمة القياس: أن تصير أم ولد له، وفي الاستحسان: لا تصير أم ولد له.
وجه القياس في ذلك: أن حق الأم في هذا الباب تبع لحق الولد، وحق الولد في شيئين: في النسب وحقيقة العتق، وحق الولد يثبت في حقيقة العتق إذا ملكه المستولد، وإن كان من زنا وجب أن يثبت حق الأم في حق العتق؛ لأن ثبوت أحد الحقين للولد كما في ثبوت حق الأم، ألا ترى أن لو ثبت نسب الولد صارت الجارية أم ولد له، وإن لم يثبت حقيقة الحرية للولد بأن استولد جارية الغير بالنكاح ثم تملكها، فإن الجارية تصير أم ولد له؛ لأنه ثبت أحد الحقين للولد وهو النسب كذا ههنا.
وجه الاستحسان: أن ثبوت أحد الحقين للولد كاف لثبوت الحق للأم إذا ثبت الحق للولد من وقت العلوق، أما ثبات النسب بأن استولدها بالنكاح أو علوقه حر. الأصل: إن استولدها بملك اليمين، وهذا لأن الجارية إنما تصير أم ولد عند العلوق، فشرط لثبوت حقها ثبوت الحق للولد عند العلوق، ولم يثبت ههنا للولد وقت العلوق، لا حق ثبات النسب ولا الحرية، وإنما عتق الولد بسبب طارئ بعد العلوق وهو الملك، وهذا لا يوجب ثبوت الحق للأم، كما لو أعتق الولد.
وكذلك إذا قال المدعي: هذا ابني من فجور أو قال: فجرت بها فولدت هذا، أو قال: هذا ابني من غير رشده؛ لأن هذه العبارات تنبىء عن الزنا، فكأنه قال: هذا ولدي من الزنا. وكذلك إن كان هذا الولد لأب المدعي أو لخاله أو لرجل ذي رحم محرم من المدعي لا يثبت نسبه من المدعي إذا قال: هو من زنا؛ لأن وطأه جارية هؤلاء زنا محض، وليس له فيها ملك ولا تأويل ملك، وبالزنا لا يثبت النسب ولا يعتق هذا الولد على هؤلاء؛ لأن بعد الملك إنما يثبت العتق إذا كان المملوك ذا رحم محرم من المالك، أو كان يقضي من المالك، وهذا بخلاف ما إذا كان الولد لابن المدعي، فإنه يثبت نسب المدعي منه. وإن قال: هو من زنا؛ لأنه لا يكون زانياً بجارية ابنه؛ لأن له فيها تأويل ملك بخلاف من سواه على ما ذكرنا.
وإذا أقر الرجل أنه زنى بهذه المرأة الحرة، وأن هذا الولد ولد منها من الزنا وصدقته المرأة في ذلك لا يثبت نسب الولد من الرجل على كل حال (235ب4) وهل يثبت نسبه من المرأة إن شهدت القابلة بولادتها هذا الولد؟ ثبت النسب منها وما لا فلا.

(9/332)


وإذا أقر الرجل بالزنا بامرأة حرة أو أمة، وادعت المرأة نكاحاً جائزاً أو فاسداً؛ لا يثبت النسب من الرجل وإن ملكه؛ لأن النكاح لم يثبت بقولها لما أنكر الزوج النكاح، بقي الفعل زنا في حق الزوج كما أقر، وبالزنا لا يثبت النسب وإن ملكه الزاني إلا أنه يعتق عليه إذا ملكه؛ لأنه جزؤه وإن لم يكن منسوباً إليه شرعاً، وكما لا يثبت الإنسان الرق على نفسه لم يثبت له الرق على جزئه ولا حد عليه، فقد عرف في كتاب «الحدود» أن الحد يسقط بدعوى أحد الواطئين النكاح وعليه العقر؛ لأن الوطء الحرام في دار الإسلام لا يخلو عن عقوبة أو غرامة وتعذر إيجاب العقوبة فتجب الغرامة، وكذلك إذا أقامت شاهداً واحداً لا يثبت النسب من الرجل وإن كان الشاهد عدلاً؛ لأن شهادة شاهد واحد ليست بحجة في إثبات النكاح، فصار وجودها في حق ثبوت النكاح والعدم بمنزلة وعليه العقر، وعليها العدة؛ لأن العدة حق الله تعالى، وقول الواحد العدل حجة في حقوق الله تعالى، فيثبت النكاح بهذه الشهادة في حق وجوب العدة، وإن لم يثبت في حق ثبوت النسب؛ لأن ذلك من حقوق العباد.
وإذا ادعى الرجل النكاح وادعت المرأة الزنا، ذكر في «الأصل» : أنه إن كان الولد في يد الزوج يثبت نسب الولد منه؛ لأن الولد إذا كان في يده لو ادعى تصح دعواه لقيام يده، مع أنه إقرار على الولد، فإذا ادعى نسبه لأن تصح دعواه وأنه إقرار للولد كان أولى، وإن كان الولد في يدي المرأة لا يثبت نسبه من الرجل إلا ببينة، فإن ملكه يوماً من الدهر يثبت نسبه منه، ويصير كا لمجدد لذلك الإقرار، وكذلك إذا ملك أمة تصير أم ولد له.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: في رجل ادعى ولداً في يدي امرأة وقال: هذا ولدي منك من الزنا، قال: فإني أثبت نسب الولد منه، وأقضي بالمهر عليه. ويتبين بما ذكر ابن سماعة أن ما ذكر في «الأصل» أنه إذا كان الولد في يدي المرأة لا يثبت نسبه من الرجل قول محمد.

قال في «الأصل» : وكذلك إذا أقام الرجل شاهداً واحداً على النكاح لا يثبت النسب من الرجل، يريد به: إذا كان الولد في يد المرأة، وكذلك إذا أقام شاهدين غير أنهما لم يزكيا، أو كانا محدودين في قذف أو أعميين، فإني لا أثبت النسب، وأوجب المهر والعدة؛ لأن النكاح لا يثبت بشهادة الفاسقين والأعميين والمحدودين في القذف، كما لا تثبت بشهادة الواحد، فصار الجواب في هذه الصورة نظير الجواب في الشاهد الواحد.
وإذا كان للرجل امرأة ولدت على فراشه ولداً، فقال الزوج: زنيت بها وولدت هذا منه، وصدقته المرأة في ذلك؛ كان نسب الولد يثبت لأنه ولد نكاح، وولد النكاح ثابت النسب من صاحبه لا ينتفي نسبه الا باللعان، ولا لعان بينهما لإقرارها على نفسها بالزنا.
وإذا قال: الصبي في يدي امرأة هذا ابني من الزنا، وقالت المرأه: لا بل من النكاح، فقال الزوج بعد ذلك: هو من النكاح، يثبت النسب من الرجل؛ لأن إنكاره السابق لا ينافي إقراره اللاحق كما في باب المال.

(9/333)


إذا قال: لا حق لفلان قبلي، ثم قال: له عليّ ألف درهم، وكذلك إذا قال الرجل: هو ابني من نكاح، فإنه يثبت النسب منهما، والمعنى ما ذكرنا.

رجل تزوج امرأة لا تحل له، فأغلق الباب وأرخى الستر لم يكن لها عليه مهر، والمسألة معروفة في كتاب «النكاح» ، فإن جاءت بولد لستة أشهر منذ خلا بها، فإن نسبه يثبت منه، وهذا لأن ولادة الولد لستة أشهر منذ خلا بها دليل ظاهر على دخوله بها في حالة الخلوة، وإن كان ممنوعاً عن وطئها شرعاً، والعمل بالظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه، ومن ضرورة الوصول بها ثبوت النسب؛ لأن النكاح الفاسد بعد الدخول ملحق بالنكاح الصحيح في حق ثبات النسب، ويجب المهر لأنا قد حكمنا بالدخول، والدخول في النكاح الفاسد يوجب المهر، وهذا الذي ذكرنا قول أبي حنيفة رحمه الله، وأما على قول أبي يوسف ومحمد: هذا النكاح غير منعقد أصلاً لا جائزاً ولا فاسداً، لأنه أضيف إلى غير محله، ولهذا يوجب الحد على قولهما، وإذا لم ينعقد هذا النكاح عندهما صار وجوده والعدم بمنزلة، فكان فعله زناً محضاً، فلا يثبت النسب، ولا يجب المهر والعدة.

نوع أخر في المرأة إذا تزوجت وزوجها حي وجاءت بالأولاد فالأولاد لمن تكون؟
قال: وإذا نعي إلى المرأة زوجها واعتدت عدة الوفاة، وتزوجت بزوج آخر وولدت من هذا الزوج الآخر، ثم جاء الأول حياً، أجمعوا على أن المرأة ترد على الأول. واختلف في الأول، قال أبو حنيفة: الأولاد للزوج الأول على كل حال، وقال أبو يوسف ومحمداً: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني، فالولد للزوج الأول، وإن جاءت به لستة أشهر منذ دخل بها الزوج الثاني إلى سنتين. قال أبو يوسف: هو للثاني، وقال محمد: هو للأول، وروى أبو عصمة سئل ابن معاذ عن إسماعيل بن حماد عن عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول وقال: الأولاد للثاني. فوجه قولهما: أن الثاني يساوي الأول في السبب الموجب لثبات النسب وهو الفراش، وترجح على الأول بحكم الوطء وما يقوم مقامه وهو الخلوة الصحيحة.

بيانه: أن الأول إن كان له فراشاً فلا وطء منه لا حقيقة * وهذا ظاهر * ولا حكماً، لأنه غير متمكن من وطئها حقيقة لسبب الغيبة، وإنما يعتبر الإنسان واطئاً حكماً إذا كان متمكناً منه حقيقة، فهو معنى قولنا إن الثاني ترجح على الأول بالوطء حقيقة، أو ما يقوم مقامه، فوجب أن يثبت النسب من الثاني دون الأول، وإن كان فراش الثاني فاسداً، وفراش الأول صحيحاً قياساً على امرأة الصبي إذا زوجت نفسها من رجل، وجاءت بالولد، فإن هناك الولد يكون للثاني، وفراشه يثبت بنكاح فاسد، ونكاح الصبي صحيح ما كان الطريق فيه سوى أن الثاني ترجح على الصبي بالوطء، وهذا بخلاف ما لو كان الزوج الأول حاضراً؛ لأن الحاضر متمكن من وطء المرأة كالثاني فاستويا في التمكن من الوطء، وترجح الأول بحكم الصحة.

(9/334)


إلا أن أبا يوسف يقول: إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ دخل بها الثاني فهو للأول، وإذا جاءت به لستة أشهر إلى سنتين فهو للثاني، لأن بالدخول يثبت بفراش الثاني؛ لأن النكاح الفاسد ملحق بالصحيح في حق حكم النسب، فينقطع الأول بالثاني في حق حكم النسب، وتكون العبرة للثاني، ألا ترى أن بدخول الثاني تحرم على الأول ويلزمها العدة من الثاني، وهذا دليل على أن الفراش الأول قد زال، وإنما كان التقدير فيه بادٍ في مدة الحبل اعتباراً للفاسد بالصحيح.
ومحمد رحمه الله يقول: فراش الأول وإن زال فالملك لم يزل، ولو زال الفراش والملك بالطلاق أو بالملك، وبقيت العدة إذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين، فالولد للأول، وإن جاءت لأكثر من سنتين، فالولد للثاني، فكذا إذا زال الفراش وبقي الملك من طريق الأولى؛ لأن الملك فوق العدة.

وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الأول ساوى الثاني في السبب الموجب وهو الفراش لثبات النسب في الوطء، ويرجح الأول بالصحة، فيكون الأولاد للأول على كل حال قياساً على ما لو كان الأول حاضراً، أما استواؤهما في الفراش فظاهر، وأما في الوطء استواؤهما في الوطء؛ لأنه إن وجد من الثاني حقيقة الوطء أو ما أقيم مقامه، وجد من الأول الوطء حكماً؛ لأن النكاح الأول صحيح، والنكاح الصحيح في حق من هو من أهل الماء أقيم مقام الوطء حتى يثبت النسب من صاحب النكاح.
وإن لم يكن وطئها حقيقة، فإذا استويا في الفراش وفي الوطء: يجب أن يترجح الأول بحكم الصحة كما لو كان الأول حاضراً، وهذا لأنه لا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجهٍ ما، بل الفاسد مدفوع بالصحيح لا محالة.
قال: وإن نفاه الآخر وادعاه الأول، أو ادعيا جميعاً، أو نفاه الأول وادعاه الثاني، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: هو ابن الأول لأنه ولد في نكاحه، فلا ينتفي نسبه من صاحب النكاح إلا باللعان، ولا لعان بين الأول والمرأة، لأنها وطئت في نكاحه بنكاح (236أ4) فاسد، والوطء في النكاح الفاسد يزيل الإحصان، فلا يجب بقذفها بعد ذلك حد ولا لعان، وعلى قولها: هو ولد الثاني وإن نفاه لأنه ولد في نكاحه نكاحاً فاسداً، وولد النكاح الفاسد لا يقطع نسبه باللعان، وكذلك لو كان سبيت المرأة فتزوجها رجل من أهل الحرب وولدت أولاداً، فهو على الخلاف الذي مر، وكذلك لو ادعت الطلاق فاعتدت وتزوجت، والزوج الأول جاحد لذلك، فهو على الخلاف، ذكر هذين الفعلين شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» .

نوع آخر في منكوحة الرجل إذا ولدت ثم ادعى أحدهما أن النكاح كان منذ شهر

قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الرجل امرأة، وولدت ولداً فادعى أحدهما أن النكاح كان منذ شهر، وادعى الآخر أنه كان منذ سنة، فالقول قول من يدعي النكاح منذ سنة، ويحكم بثبات الولد منها؛ لأنهما تصادقا على سبب ثبات النسب وهو الفراش لما

(9/335)


تصادقا على النكاح، إلا أن أحدهما منكر حكم الفراش لمانع والآخر يدعيه، والأصل: أن المتداعيين إذا اتفقا على سبب حكم، واختلفا في ثبوت الحكم وعدمه، فالقول قول من يدعي ثبوت الحكم؛ لأن ثبوت العلة يدل على ثبوت الحكم، فكان الظاهر شاهداً له كالمتبايعين إذا اتفقا على البيع؛ وأنكر أحدهما ثبوت الملك لمانع في السبب وهو الخيار أو التلجئة، وادعى الآخر ثبوته، كان القول قول من يدعي الثبوت كذا ههنا.
وإن تصادقا على أنه تزوجها منذ شهر لم يثبت نسب الولد، وإن كان في ذلك إبطال نسب الولد من حيث الظاهر؛ لأنهما اتفقا على أن حكم السبب غير ثابت، والمتداعيان إذا تصادقا على امتناع ثبوت الحكم لمانع في السبب مع اتفاقها على (السبب) يعتبر تصادقهما، وإن كان في ذلك إبطال حق على الغير، كالمتبايعين إذا اتفقا على أن البيع كان تلجئة، وإن كان فيه خيار، فإنه يعتبر اتفاقهما، وإن كان فيه إبطال حق على الغير وهو الشفيع، فإن أقامت البينة بعدما تصادقا أنه تزوجها منذ شهر أنه تزوجها منذ سنة قبلت، أما إذا كان الولد كبيراً، وهو أقام البينة بنفسه، فلأن هذه بينّة قامت من خصم على خصم، وأما إذا كان الولد صغيراً فكذلك.
واختلف المشايخ في طريق قبول البينة، قال بعضهم: ينصب خصماً عن الصغير؛ لأن النسب حق الصغير؛ فينصب عنه خصماً لتكون البينة قائمة ممن هو خصم، ثم الخصم إنما يقيم البينة على الزوج ههنا، لا على المرأة لأن النسب ثابت منهما على كل حال، وبعضهم قالوا: القاضي يسمع البينة من غير أن ينصب عنه خصماً بناءً على أن الشهادة على النسب هل تقبل حسيّة من غير دعوى؟ وقد اختلف فيه مشايخنا؛ بعضهم قالوا: تقبل؛ لأن في النسب حق الشرع، فإن نسبة الولد إلى غير أبيه حرام حقاً للشرع، والشهادة القائمة على حق الشرع؛ تقبل نسبه من غير الدعوى؛ والله أعلم.

نوع آخر في دعوى المولى ولد أمته ولها زوج
قال محمد رحمه الله: إذا زوج الرجل أمته من عبده فجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً، فهو ابن الزوج، وإن نفاه الزوج لم ينتفِ منه لأنها لما جاءت بالولد لستة أشهر أمكن حالة العلوق على النكاح، فكان هذا ولد النكاح، وولد النكاح لا ينتفي نسبه إلا باللعان، ولا لعان بين الرجل وامرأته الأمة، فإن ادعاه المولى وقال: هذا ابني؛ لم تجز دعوته، ولم يثبت نسب الولد منه؛ ولكن يعتق الولد بإقراره؛ وتصير الجارية أم ولد له؛ لأن المولى بقوله: هذا ابني ادعى النسب على الولد من نفسه، وأقر بحرية الولد، وحق العتق للجارية ودعواه نسب الولد من نفسه على الزوج؛ لأنه يريد قطع نسب ثابت منه، فلم يصح، أما إقراره بحرية الولد وبحق العتق للجارية إقرار على نفسه فصح.
فرق بين هذه المسألة وبين مسألتين إحداهما: إذا قال لعبده ومثله لا يولد لمثله: هذا ابني، وإنه في ملكه؛ فإنها لا تصير أم ولد له، وقد أقر بحق العتق لهما، وكذلك إذا قال في مسألتنا: هذا ولدي من هذه الجارية من الزنا؛ لا تصير الجارية أم ولد، وفي

(9/336)


معروف النسب إذا كان مثله يولد لمثله؛ قال: تصير الجارية أم ولد، وإن لم يثبت نسب الولد منه.

والفرق: أن في معروف النسب سببه ثبات النسب من المولى متصور بأن جعل الوطء منه بشبهة، فإن الوطء بشبهة كافٍ لثبات النسب كما في حال الانفراد، إلا أن صاحب الفراش الصحيح جعل أولى من صاحب الفراش الفاسد بحكم الصحة؛ لأن سبب ثبات النسب منه لم يوجد، وإذا كان سبب ثبات النسب متصور من المدعي بغير النسب ثابتاً منه في حق ما يلزمه من أحكام النسب، وأن يعتق الولد وتصير الجارية أم ولد له هذا حكم يلزمه، وإنه من أحكام النسب، فيعتبر النسب ثابتاً في حقه وفي حق هذا الحكم، وإن لم يعتبر ثابتاً في حق النسب من الزوج؛ لأن ذلك أمر على الزوج.
H
فأما في حق ولد الزنا، وفيما إذا كان لا يولد مثله لمثله؛ فسبب ثبات النسب من المدعي غير متصور، فلا يمكن أن يعتبر النسب ثابتاً من المدعي في حق ما يلزمه من الأحكام؛ فلا يثبت حق العتق للجارية، وإنما عتق الغلام الذي لا يوجد مثله لمثله، لا لأن النسب اعتبر ثابتاً في حق عتق الولد، ولكن لأن قوله: هذا ابني جعل كناية ومجازاً عن قوله: عتق على هذا من حين ملكته، واللفظ إذا صار مجازاً عن غيره سقط اعتبار حقيقته، وتكون العبرة للمكنى عنه، ولو صرح بالمكنى عنه وقال: عتق هذا عليّ من حين ملكته لا تصير الجارية أم ولد له كذا ههنا.

هذا الذي ذكرنا، إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح، ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح لم يثبت نسبه من الزوج وإنه ظاهر، فإن ادعاه المولى ثبت نسبه منه لأنه ولد أمته، وبحكم فساد النكاح؛ لأنه تبين أنه زوجها وفي بطنها ولد هو ثابت النسب منه.

وإذا زوج الرجل أمته من غير عبده بإذن مولاه، أو زوجها من حر برضاه؛ فجاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح فادعاه المولى؛ لا يثبت نسبه من المولى، وإن صدقه الزوج في ذلك؛ لأن الزوج بالتصديق نفاه عن نفسه، ونسب ولد النكاح لا ينتفي إلا باللعان، فيكون الولد ثابت النسب من الزوج؛ صدَّق المولى أو كذبه، وهل يحكم بفساد النكاح إن كذبه الزوج في دعواه؟ لا شك أنه لا يحكم بفساد النكاح.
وأما إذا صدقه فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يحكم بفساد النكاح؛ لأنه لما صدق المولى في النسب، فقد أقر بكونها حاملاً من المولى وقت النكاح مقراً بفساد النكاح، وإقرار الزوج بفساد النكاح إقرار على نفسه، فيصدق في حق فساد النكاح إن لم يصدق في حق قطع النسب عن نفسه، ومنهم من قال: لا يحكم بفساد النكاح لأن تصديق الزوج ليس بإقرار بفساد النكاح نصاً، ولا يجوز أن يثبت الإقرار بالفساد اقتضاءً لأنه لا يجوز أنه صدق المولى في دعوى ثبات النسب؛ لأنه علم أن العلوق منه كان قبل النكاح فيكون إقراراًبفساد النكاح، ويجوز أنه صدقه؛ لأنه علم أنه وطئها بعد النكاح، وظن ثبوت النسب منه، فيكون إقراراً بقيام الملك له في رقبتها حالة الوطء، فلا يكون هذا إقراراً منه بفساد النكاح، فلا يثبت الإقرار بالفساد مع الاحتمال، قال: إلا إذا كان الزوج

(9/337)


أقر أن الولد من المولى حبلت به قبل النكاح فحينئذٍ يحكم بفساد النكاح، لأنه أقر أنه تزوجها وهي حامل بولد ثابت النسب منه، فيكون إقراراً بفساد النكاح.

وإذا زوج الرجل أمته من رجل ثم باعها ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح ولأقل من ستة أشهر منذ باعها فادعاه المولى؛ فإنه لا يصدق في حق النسب ولا يعتق الولد، ولا ينتقض البيع، والولد ابن الزوج على حاله، وإنما لم يصدق في حق النسب؛ لأنه ثابت النسب من غيره، وإنما لا يعتق الولد؛ لأن دعواه دعوة تحرير لما لم يوجد ثبات النسب، ودعوى تحرير لا تصح (236ب4) إلا من المالك، وإن ادعاه المشتري لا تصح دعوته في حق النسب أيضاً؛ لما ذكرنا في جانب المولى، ولكن يعتق الولد وتصير الجارية أم ولد له لأن دعوته دعوى تحرير لما لم يثبت النسب منه، ودعوى التحرير تصح من المالك والمشتري مالك.

وإذا تزوجت الأمة بغير إذن مولاها ودخل بها الزوج، ثم ولدت ولداً لستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه المولى والزوج، فهو ابن الزوج؛ لأن النكاح الفاسد عند اتصال الدخول به في حق النسب كالنكاح الصحيح، والجواب في النكاح الصحيح ما قلنا، ولكن يعتق الولد على المولى بخلاف إقراره، ثم اعتبر المدة من وقت النكاح لا من وقت الدخول، فإنه وضع المسألة فيما إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح، قال شمس الأئمة الحلواني: هذه المسألة دليل على أن الفراش ينعقد بنفس العقد في النكاح الفاسد خلافاً لما يقول بعض المشايخ: إنه لا ينعقد بنفس النكاح، وإنما ينعقد في النكاح الفاسد بالدخول، وتأويل المسألة على قوله: إن الدخول كان عقيب النكاح بلا فصل فتكون المدة من وقت النكاح ومن وقت الدخول سواء، وكذلك الجواب في أم الولد إذا تزوجت بغير إذن المولى فولدت ولداً فادعاه الزوج والمولى.

نوع آخر في امرأة لها ولد معروف

قال رجل لهذه المرأة: هذا ابني منك؛ وفي ولد رجل له ولد معروف قالت المرأة لهذا الرجل: هذا ابني منك، امرأة حرة لها ابن صغير تعرف أنه ابنها؛ قال رجل للمرأة: هذا ابني منك، فقالت نعم، فهو ابنهما ثابت النسب منهما؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب بينهما، وليس للولد نسب معروف من غيرهما؛ فيثبت نسبه منهما لتصادقهما.
وكذلك رجل حر له ابن صغير يعرف أنه ابنه فقال: هذا ابني من هذه الحرة، وصدقته المرأة في ذلك فهو ابنهما ثابت النسب منهما لما ذكرنا، ويقضى بينهما بنكاح صحيح، لأنهما تصادقا على ثبات النسب منهما، ولا يثبت النسب من الرجل إذا كانت المرأة حرة إلا بالنكاح، فيثبت التصادق على النكاح مقتضى التصادق على ثبات النسب منهما، فيقضى بالنكاح بينهما بتصادقهما على ذلك، ثم يقضى بنكاح صحيح، ولا يقضى بنكاح فاسد، وإن كان النكاح ثبت مقتضى تصادقهما على ثبات النسب، فإنما يثبت أدنى ما يكفي لثبات النسب، وهو النكاح الفاسد؛ لأن الأدنى إنما يثبت في موضع يستوي الأدنى والأعلى في صفة الإباحة، أما في موضع كان الأدنى حراماً، والأعلى مباحاً،

(9/338)


يثبت الأعلى حملاً لحالهما على الصلاح، والنكاح الفاسد وإن كان أدنى فهو حرام، والنكاح الصحيح وإن كان أعلى فهو مباح، فأثبتا النكاح الصحيح لهذا.
هذا إذا كانت المرأة معروفة بأنها حرة، فأما إذا كانت لا تعرف بأنها حرة فقال رجل: هذا ابني منك، وأنت امرأتي، وقالت المرأة: أنا أم ولدك، وهذا ابني منك فهو ابنهما، ثابت النسب منهما لتصادقهما على ذلك، ولكن لا يقضى بالنكاح بينهما بخلاف ما إذا كانت المرأة تعرف بأنها حرة لا يثبت إلا بالنكاح، فتصادقهما على ثبات (ذلك) منهما تصادق على النكاح، فأما الفراش على غير الحرة كما يثبت بالنكاح يثبت بملك اليمين بالاستيلاد، وإذا لم يعرف حالها في الحرية والرق لا يثبت فراشاً بعينه بتصادقهما على النسب.

بقي الاختلاف بعدد كل بينهما في تعيين ما يثبت به الفراش عليها فالزوج يعين النكاح، ولم يثبت النكاح لإنكارها ذلك، وهي تعين الاستيلاد، ولم يثبت الاستيلاد لإنكار الزوج ذلك، فلم يثبت بينهما فراش بعينه، حتى يمكن القضاء به، ولكن بأن لم يثبت بينهما فراش بعينه، فذلك لا يمنعنا عن القضاء بحكمه، وهو ثبوت النسب إذا تصادقا على الحكم.
وكذلك إذا قالت المرأة: أنا زوجتك، وقال الرجل: أنت أم ولدي، وباقي المسألة بحالها؛ فالولد ثابت النسب منهما؛ لكن لا يقضى بالنكاح بينهما لما قلنا. ولو قال الرجل للمرأة: هذا ابني منك من نكاح جائز، وقالت المرأة: هذا ابني منك من نكاح فاسد؛ فهو ابنهما، وكذلك لو قالت المرأة للرجل: هذا ابني منك من نكاح جائز، وقال الرجل: هذا ابني منك من نكاح فاسد؛ فهو ابنهما، ويكون القول قول من يدعي الجواز، غير أن مدعي الفساد إن كانت هي المرأة لا يفرق بينهما، وإن كان هو الزوج يفرق بينهما؛ لأن الزوج إن لم يصدق في دعوى الفساد في حق المرأة، يصدق في حق التحريم بالطلاق، فيجعل إقراره بالفساد في حق المرأة بمنزلة إيقاع الطلاق عليها؛ حتى يقضي لها بالمسمى، وإن كان أكثر من مهر مثلها كأنه طلقها صريحاً.

نوع آخر في أمة لها ولدان ادعاها رجلان كل واحد منهما ادعاها مع الولدين جملة
قال محمد رحمه الله: أمة لها ابنان، والأمة مع أحد ولديها في يد رجل، والولد الآخر في يد رجل آخر، فادعى كل واحد منهما أن الأمة له، وأن الابنين ابناه ولدا من هذه الأمة، قضي بالأمة وبالولدين جميعاً للذي في يديه الأمة، سواء ولدا في بطن واحد، أو في بطنين مختلفين.
أما القضاء بالأمة للذي في يديه الأمة؛ لأن كل واحد منهما ادعى أمية الولد، وأمية الولد بمعنى النتاج؛ لأنه يثبت له ابتداءً لا من جهة أحد، وإنه سبب لا يثنى ولا يكرر، فكان بمعنى النتاج، وفي دعوى النتاج يقضى لذي اليد ببينته كذا ههنا، وأما القضاء بالولد للذي في يديه لأن كل واحد منهما ادعى نسب هذا الولد وإنه بمعنى النتاج، وهنا القضاء

(9/339)


له بالولد الآخر؛ وإن كان هو خارجاً في حق الولد الآخر، والنسب بمعنى النتاج، وذي اليد في النتاج أولى؛ لأنهما تصادقا على أن هذا الولد ولد من هذه الأمة، ووجب القضاء بملك الأمة للذي في يديه الأمة، فيجب القضاء بملك الولد له ضرورة وإن كان الولد في يد الآخر؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، فإذا صار الولد ملكاً له وقد ادعى نسبه وجب الحكم بحريته من الأصل، كما في الولد الذي في يديه.
وأما إذا ادعى كل واحد منهما الأمة مع الولد الذي في يديه لا غير، فإن كانت ولدتهما في بطن واحد؛ فهذا والفصل الأول سواء، لأن البطن إذا كان واحد كانا توأمين، فيصير كل واحد منهما بدعوى الولد الذي في يديه مدعياً الولد الآخر، فأما إذا كان البطن مختلفاً، فهذا على وجهين:
إن لم يعلم الأكبر من الأصغر قضي بالأمة للذي في يديه؛ لأنه متى لم يعلم الأكبر من الأصغر لم يثبت سبق أحدهما على الأخر في الاستيلاد، فيسقط اعتبار التاريخ، وإذا سقط اعتبار التاريخ صار ذو اليد أولى؛ لأنه بمعنى النتاج، قال: ويقضى لكل واحد منهما بالولد الذي في يديه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الولد الذي في يديه، ولم ينازعه الآخر فيه، وحال عدم المنازعة مجرد قول صاحب اليد يعتبر، فمع البينة أولى.

فإن قيل: إذا وجب القضاء بالأمة للذي في يديه وجب أن يقضى له بالولد الذي في يد الآخر، لأنهما تصادقا على أن هذا الولد ولد هذه الأمة، والولد يتبع الأمة في الملك قلنا: إنما يقضى له بالولد الآخر؛ لأنه في يد صاحبه وصاحبه مدعيه وهو لا ينازعه في ذلك، فيترك في يده، كأم ولد إنسان في يد غيره يدعيه ذو اليد ولا ينازعه، فأما إذا علم الأكبر من الأصغر كان الأكبر في يد الذي الأمة في يديه، فإنه يقضي له بالأمة والولد الأكبر؛ لأنه يقضى له بهما إذا لم يثبت سبق استيلاده على صاحبه، بأن لم يعلم الأكبر من الأصغر على ما مر.

فإذا علم سبق استيلاده أولى، ولا يقضى له بالولد الأصغر؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان الأكبر في يد الذي ليست الأمة في يديه، فإنه يقضي لكل واحد منهما بالولد الذي في يديه؛ لأنه لا يدعيه ولا ينازعه فيه أحد، فأما الأمة فقد ذكر في «الكتاب» : أنه يقضي للخارج الذي الأكبر في يديه لأنه ثبت سبقه على صاحبه في الاستيلاد لما ادعى الاستيلاد بالولد الأكبر، وادعى الآخر الاستيلاد بالولد الأصغر.

فإن قيل: التاريخ ساقط الاعتبار في دعوة النتاج حتى أنهما إذا تنازعا في نتاج دابة وأرخ ذو اليد أحد عشر شهراً، والخارج أرخ سنة؛ يقضى لذي اليد كأنهما لم يؤرخا كذا هاهنا الجواب، قلنا: المعنى الذي لأجله سقط اعتبار التاريخ في النتاج معدوم فيما نحن فيه، إنما سقط اعتبار (237أ4) التاريخ ثمة لأنه لا يتصور نسبه زيادة استحقاق على أحد؛ لأن الملك الثابت بالنتاج لا يكون على أحد (و) هذا المعنى معدوم فيما نحن فيه؛ لأن شهادة التاريخ ههنا تثبت زيادة استحقاق على أحد؛ لأن أمية الولد سبب للولادة، والولاء يستحق على العبد بعد الحرية، فكان من هذا الوجه بمنزلة دعوى التملك من جهة

(9/340)


غيره بسبب لا يثنى ولا يكرر، وإذا ثبت زيادة استحقاق ههنا بسبب زيادة التاريخ وجب اعتبار التاريخ كما في دعوى التملك في الثالث فيقضى بالأمة للذي الأكبر في يديه، وإن كان خارجاً في حقها لهذا.

نوع آخر في الرجل يقر لصبي في يديه أنه ابن فلان ثم يدعيه لنفسه
قال محمد رحمه الله: وإذا كانت الأمة في يدي رجل ولدت غلاماً، فأقر المولى الذي له الأمة هذا الغلام من زوج حر أو عبد زوجها إياه ثم ادعاها بعد ذلك لنفسه، فهذا لا يخلو من وجوه؛ إما أن يصدقه المقر له في ذلك أو لم يصدقه ولم يكذبه بل سكت، أو كان غائباً أو ميتاً، وفي هذه الوجوه لا تصح دعوى المولى، أما إذا صدقه المقر له فلأن نسب الغلام قد ثبت من المقر له بتصادقهما، وصار الغلام معروف النسب من غيره، وفي مثل هذا لا يثبت النسب منه بالإجماع، ولا يعتق الغلام عليه بإقراره، وأما إذا لم يصدقه المقر له ولم يكذبه، لأن الإقرار قد وقع صحيحاً؛ ولم يتصل به تكذيب المقر له حتى يبطل، فبقي على الصحة كما كان، فلا تصح دعوى المولى بعد ذلك، قال أبو يوسف ومحمد رحمهم الله: يصح. فوجه قولهما: أن إقرار المولى قد بطل بتكذيب المقر له، وبقي الولد محتاجاً إلى النسب، فإنما ادعاه المولى حال حاجته إلى ذلك، وليس فيه إبطال حق على الغير.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه يجب لإقرار المولى شيئان: ثبوت النسب من المقر له، وخروجه من دعوى هذا النسب أصلاً، وتكذيب المقر له بطل ما هو من حقه. فأما ما لا حق له فيه لا يبطل الإقرار فيه بتكذيبه، ولا حق للمقر له في خروج المقر من دعوى هذا النسب، فلا يبطل الإقرار في حق هذا الحكم ولو لم يقر بذلك، ولكن جاء أجنبي وأقر أن هذا الولد ابن المولى، وجحد المولى ذلك، ثم إن للرجل الأجنبي الشاهد على المولى بذلك اشترى هذا الولد أو ورثه فادعاه بعد ذلك أنه ابنه يعتق عليه بإقراره، وهل يثبت نسبه منه؟ فهو على الاختلاف الذي قلنا، لأن الشاهد ادعاه بعدما كذبه المشهود له.

وكذلك إذا شهد رجلان على صبي من امرأة حرة أنه ابنها، وابن هذا الرجل، وأن هذا الرجل زوجها، وادعت المرأة ذلك وجحد الزوج، فسأل القاضي عن الشهود فلم يعدلوا فرد شهادتهم، ثم إن أحد الشاهدين ادعى نسب الولد وصدقته المرأة لا تصح دعوته عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأن الشاهد ادعاه بعدما كذبه المشهود له.
إذا شهدت امرأة على صبي أنه ابن هذه المرأة؛ والمرأة ادعته فلم تقبل شهادتهما بسبب من الأسباب، ثم إن الشاهدة ادعت نسب هذا الولد، وأقامت البينة على ذلك لا تقبل بينتها، ولا يقضى لها بالولد لأن البينة إنما تسمع بعد صحة الدعوى، والدعوى من الشاهدة في هذه الصورة لا تصح بالإجماع؛ لأن المشهود له صدقها، وحال تصديق المشهود له لا تصح الدعوى من الشاهدة بالإجماع. ولو كبر الصبي وادعى أنه ابن الشاهدة والشاهدة منكرة، فأقام على ذلك بينة قبلت بينته؛ لأن الدعوى من الصبي قد

(9/341)


صح لأنه لو لم يقر بنسبها لغير الشاهدة فيصح دعواه النسب من الشاهدة، فهذه بينة قامت على دعوى صحيحة بالإجماع.

وعلى هذا إذا ادعى رجل نسب صبي في يدي امرأة، والمرأة تنكر وأقام الرجل شاهدين، ولم يقض القاضي بشهادتهما، ثم إن أحد الشاهدين ادعى أن هذا الصبي ابنه وهذه المرأة امرأته، وأقام على ذلك شاهدين، فالقاضي لا يقبل شهادته؛ لأن الدعوى من الشاهد لم تصح بالإجماع، وإن ادعت المرأة ابنها من هذا الرجل وأنه زوجها، وأقامت على ذلك شاهدين سمعت بينتها؛ لأن الدعوى منها قد صحت؛ لأنها لم تقر بنسب الولد للغير.
وإذا ادعى رجلان صبياً في يدي امرأة كل واحد يدعي أنه ابنها، والمرأة تنكر، ثم إن المرأة ادعت على رجل أنه تزوجها وهذا الصبي لها منه، فشهد لها الرجلان المدعيان للصبي، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن دعواهما السابق تجعلهما متناقضين في هذه الشهادة، والتناقض في الشهادة مانع قبولها وصحتها.

وكذلك على هذا: صبي في يدي امرأة شهد رجل أنه ابن فلان ورد القاضي شهادته، ثم شهد هو ورجل آخر أنه ابن هذا الرجل الآخر، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن أحد الشاهدين متناقض في هذه الشهادة.
إذا كان للرجل جارية حامل فأقر أن حملها من زوج قد مات، ثم ادعى أنه منه فولدت لأقل من ستة أشهر، فإنه يعتق ولا يثبت نسبه منه، أما العتق فلإقراره بذلك، وأما لا يثبت نسبه منه لأنه أقر بنسبه لغيره، وصح هذا الإقرار منه؛ لأنا تيقنا بوجود الولد في البطن وقت الإقرار، ولم يوجد تكذيب المقر له لكونه ميتاً، وفي هذه الحالة لا تصح دعوى المقر لنفسه بالإجماع، وهذه هي الحيلة لمن أراد أن يشتري جارية حاملاً ويتحرر عن دعوى البائع الولد، يأمر البائع أن يقر أن هذا الولد من فلان الميت، ثم يشتريها بها المشتري، فلا تصح دعوى البائع بعد ذلك. ولو مكث المولى بعد إقراره الأول سنة ثم قال: هي حامل مني، فولدت ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار الآخر فهو ابن المولى ثابت النسب منه؛ لأن دعوة المولى ههنا قد صحت؛ لأنه لو لم يصح الإقرار الأول شكَّ إن كان هذا الحمل موجوداً وقت الإقرار الأول، صح الإقرار الأول، وإن لم يكن موجوداً لا يصح فلا يصح إقراره الأول بالشك، وجعل كأنه لم يوجد، ولو لم يوجد الإقرار الأول كانت دعوته صحيحة كذا ههنا. وإذا أقر أنه زوج أمته رجلاً غائباً وهو حي لم يمت، ثم جاءت بولد بعد قوله لستة أشهر، فادعاه المولى فإنه لا يصدق؛ لأنه حصل مقراً للزوج بنسب ما يحدث منها بعد هذا الإقرار لستة أشهر يقتضي إقراره بالنكاح؛ لأن نسب الولد يثبت من صاحب الفراش، وقد أقر أن الفراش للزوج، وقد ذكرنا أن من أقر بنسب ولد إنسان ولم يصدقه المقر له ولم يكذبه، ثم ادعاه المقر لنفسه، فإنه لا تصح دعواه.

وإذا كانت الجارية بين رجلين جاءت بولدها فقال أحدهما: إنه ابن صاحبي، وقال

(9/342)


الآخر: إنه ابن صاحبي، ثم ادعى أحدهما أنه ابنه، إن ادعى الثاني لا تصح دعوته بلا خلاف؛ لأنه أقر بنسبه الأول، ولم يكذبه الأول بإقراره أنه للثاني لأن إقرار الأول كان سابقاً على إقرار الثاني، والتكذيب ما يكون متأخراً عن الأول لا سابقاً عليه، وإن ادعاه الأول فعلى قول أبي حنيفة؛ لا تصح دعوته خلافاً لهما، لأن الثاني كذب الأول في إقراره لما أقر أنه للأول، وعند تكذيب المقر له لا تصح دعوى المقر بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، وعتق الولد أيضاً لتصادقهما على حريته؛ وتكون الجارية أم ولد له موقوفة لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه، ويقرّ به لصاحبه، فتكون موقوفة أيهما مات عتقت.

نوع آخر في دعوى الرجل ولد الجارية مع نكاح أمها ودعوى المولى بيع تلك الجارية منه أو على العكس
قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى الرجل أمة في يدي رجل أنه تزوجها وأنها ولدت منه هذا الولد، وقال المولى: بعتكها بألف درهم، وقال: الولد منك، قال: هذا الولد ثابت النسب من المستولد؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب منه، إلا أنهما اختلفا في سببه، فالزوج زعم أن سببه ملك النكاح، والمولى زعم أن سببه ملك اليمين، والسبب إن لم يثبت لاختلافهما في ذلك ثبت النسب؛ لأن القضاء بالنسب من غير سبب متعين ممكن، ألا ترى أن لو شهد شاهدان أن هذا ابنه، فإن القاضي يقضي بثبات نسب الولد من المشهود عليه وإن لم يبينا سبباً، وهذا لأن حكم النسب الحرمة وهي حرمة المناكحة والنفقة والميراث، وهذه الأحكام لا تختلف بأي سبب ما ثبت النسب، فلا يشترط بيان، ألا ترى أنه لم يشترط بيان السبب في بيان المال حتى إذا شهد شاهدان أن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم، ولم يبينا سببه، فالقاضي يقضي بالمال؛ لأن حكم الوجوب وهو الإيفاء لا يختلف باختلاف السبب كذا ههنا، ويعتق الولد لأنهما تصادقا على حريته فالمولى يزعم أنه علق حر الأصل، والزوج يقول: إن الولد ملك المولى وقد أقر أنه حر (237ب4) الأصل فهو معنى؛ قلنا: إنهما تصادقا على حريته، وتصير الجارية أم ولد لأنهما تصادقا على ذلك؛ فالمولى يقول: إن الجارية ملك المستولد، والمستولد يقول: إنها ملك المولى؛ وإقراره نافذ في حقها، وقد أقر لها بحق العتق، فصارت أم ولد للمستولد، والمستولد ينفيها عن نفسه، ولا يحل للزوج غشيانها؛ لأن إباحة الغشيان باعتبار ملك المتعة، وملك المتعة لا بد له من سبب، ولم يثبت سبب ملك المتعة عليها؛ لأن الزوج يدعي الزوجية، والمولى يدعي الشراء، والزوج ينكر، وباب الحبل مبني على الاحتياط؛ فلهذا قال: لا يسعه أن يقر بها، وكذلك لا يحل للمولى غشيانها؛ لأن في زعمه أني بعتها، وتعذر على القاضي فسخ البيع فيها، لأنها صارت أم ولد، فلم تعد الجارية إلى ملكي، فلهذا لا يحل له وطؤها، قال: وعلى

الزوج المهر قضاء عن الثمن؛ لأنهما اتفقا على مقدار المهر، فللمستولد أن يقول: لك علي ألف درهم مهراً، والمولى

(9/343)


يقول: لي عليك ألف درهم ثمناً، فاختلفا في حق سبب الألف، وإن لم يثبت السبب.
وإن كان المستولد ادعى الشراء، والمولى ادعى أنه زوجها منه، وباقي المسألة بحالها؛ فالولد ثابت النسب منه لأنهما تصادقا عليه على ما مر إن اختلفا في سببه، والجارية مع الولد رقيقان للمولى بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى المولى أقر بحرية الولد وبحق العتق للجارية، وفي هذه المسألة المولى أقر بذلك إنما أقر به المستولد، وإقرار غير المالك لا يعمل، ولا يحل للمستولد وطؤها لأنه في زعمه أنه اشتراها والمولى أنكر ذلك، وفي زعم المولى أنه زوجها منه، وهو قد أنكر ذلك، فاختلفا في سبب الحل، ومع الاختلاف في سبب الحل لا يمكن القضاء بالحل ويحل للمولى وطؤها؛ لأن من زعم المولى أنه زوجها، وقد زال النكاح بتفريق القاضي، فعادت حلالاً لي؛ بخلاف المسألة الأولى؛ غير أن هناك في زعم المولى أنه باعها والبيع لم ينفسخ؛ لأن القاضي عجز عن فسخها، وإن وجد سبب الفسخ وهو إنكار الآخر؛ لأنها صارت أم ولد بإقرار المالك.
Y
ولم يذكر في هذه المسألة أن على المستولد الثمن قضاء عن العقر، وقال في المسألة الأولى: إن على المستولد العقر قضاء عن الثمن، ولا فرق بين المسألتين من حيث الظاهر، لأن في المسألة الأولى المستولد أقر عليه ألف درهم مهر هذه الجارية، وقال صاحب الجارية: لا بل عليه ألف درهم ثمنها، وههنا المستولد أقر أن عليه ألف درهم ثمن هذه الجارية، وقال صاحب الجارية: لا بل عليه ألف درهم مهرها، وإنما جاء الفرق لأن في المسألة الأولى تصادقا على وجوب الألف ديناً في الذمة على ما مر، وتصادقا على بقاء الألف واجباً في الذمة أيضاً لأن المستولد يقول: علي ألف درهم مهر هذه الجارية، ولم يسقط ذلك عني بتفريق القاضي؛ لأن تفريق القاضي حصل بعد الوطء، والتفريق بعد الوطء في النكاح لا يوجب سقوط المهر، وصاحب الجارية يقول: وجب لي عليه ألف ثمن هذه الجارية ولم يسقط ذلك لأن القاضي لم يفسخ البيع، لأن الجارية صارت أم ولد بإقراري، فقد تصادقا على الوجوب وعلى بقائه، لكن اختلفا في السبب، وإنه غير مانع من القضاء بالمال، أما في مسألتنا هذه: إن تصادقا على الوجوب فقد تصادقا على سقوط الثمن؛ لأن صاحب الجارية يقول: الثمن لم يكن واجباً لأن الشراء لم يكن، والمستولد يقول: الشراء كان إلا أن القاضي فسخ البيع بعد إنكار الآخر؛ لأنه لم يجعل الجارية أم ولد بإقراري، فقد تصادقا على سقوط الثمن بعد ما وجبه بزعم المستولد، فكأن المستولد لم يقر بالثمن، ولكن ادعى عليه المولى المهر، وهو ينكر، ولو كان كذلك لا يقضي عليه بشيء كذا ههنا

نوع آخر في دعوى ولد أمة الغير بحكم النكاح وتصديق المولى إياه في ذلك
قال: أمة في يدي رجل ولدت ولداً فادعى ولدها ثم قال: هذه أمة فلان زوجنيها، وصدقه فلان في ذلك فالمسألة على وجهين:

(9/344)


الأول: أن تكون الأمة معروفة أنها للمقر له، وفي هذا الوجه الأمة والولد رقيقان للمقر له؛ لأنه لم يثبت الولد حقيقة بالعتق، ولا للجارية حق العتق بدعوة المستولد؛ لما كانت الأمة معروفة بكونها للمقر له، وإن كانت الأمة غير معروفة بأنها ملك المقر له، فالولد حر ثابت النسب من صاحب اليد، والأمة أم ولد له لأنها كانت مملوكة له ظاهراً بحكم يده، فصحت دعوته، ويثبت للولد حقيقة الحرية وللجارية حق الحرية بناء على هذه الدعوى، فهو بهذا الإقرار يريد أن يبطل ما ثبت لهما من الحق، فلا يصدق على ذلك، ولكن يضمن قيمتها لأن إقراره صحيح في حقه، وقد صار مستهلكاً الجارية عليه بدعوته، فإنه لولا دعوته لما ثبت لها حق العتق، فيضمن قيمتها للمقر له بحكم الاستيلاد، ولايضمن العقر؛ لأنه ضمن قيمة الجارية وإنه كما بدلها فلا يضمن ما دونها.
وإن كان لا يعرف أصل هذه الجارية أنها لمن؛ قال صاحب الجارية: بعتكها، وقال أب الولد: زوجتني، أو كان على العكس فإن الولد ثابت النسب ويكون الولد حراً والجارية أم ولد، ويضمن الولد قيمتها للمقر له، وهذا لما ذكرنا أن الحق قد ثبت للولد والجارية بدعوته من حيث الظاهر، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال ذلك الحق فلا يقدر عليه، ويضمن أب الولد قيمتها لما مر ولا عقر لما مر أيضاً.
وإن كان يعرف أن الأصل للمقر له، فإنه يأخذ الجارية وولدها مملوكين له؛ ما خلا خصلة واحدة أن يقر المقر له أنه باعها من أب الولد فحينئذٍ لا سبيل له على الجارية؛ لإقراره بخروجها عن ملكه بالبيع، ولا يغرم أب الولد قيمتها في هذا الفصل؛ لأن احتباسها عند صاحب اليد كان بإقرار المقر له أنه باعها، ألا ترى أنه لو أنكر ذلك تمكن من أخذها وأخذ ولدها، وإذا لم يضمن قيمتها في هذه الصورة ضمن العقر لأن العقر فيما تقدم إنما لم يجب لوجوب كمال بدل النفس، ولم يجب ها هنا بدل النفس، فيجب العقر والله أعلم.

نوع آخر في الرجل يقر لصبي في يديه أنه ابنه، وقال ورثته بعد موته: إن أبانا كان زوج هذه الأمة وهذا الولد ولد العبد
وإذا أقر الرجل بصبي في يديه أنه ابنه من أمته ولد على فراشه، ثم مات الرجل فطلب الغلام الميراث وادعى أخواه أن أباهم قد كان زوج هذه الأمة عبده قبل أن يلده بثلاث سنين ولدت هذا الغلام على فراش العبد، فهذا على وجوه:
أحدها: أن يكون الغلام والأمة منكران ذلك، وفي هذا الوجه لا تقبل بينتهم؛ لأنهم بهذه البينة لا يثبتون لأنفسهم حقاً، إنما يثبتون النسب للعبد، وهو مكذب جاحد لهم، وإثبات الحق لمن ينكر ثبوته ممتنع لأن غرضهم من هذه البينة نفي نسب هذا الولد عن المولى حتى لا يزاحمهم في الميراث، والبينة على النفي لا تقبل.

(9/345)


الوجه الثاني: إذا كان الغلام والأمة مدعيان ذلك، وفي هذا الوجه تقبل بينتهم لأنهما بهذه البينة يثبتان الحق لأنفسهما وهو النكاح على الميت، ويعتق الغلام وتصير الجارية أم ولد له، وإقراره حجة عليه، فبعد ذلك إن كان هذا الإقرار من المولى في صحته بغير العتق من جميع المال، وإن كان في مرضه يعتبر من الثلث.
الوجه الثالث: إذا ادعى الغلام ذلك وفي هذا الوجه تقبل هذه البينة، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا ادعى الغلام والأمة ذلك جميعاً، وكذلك ادعت الأمة التزويج تقبل بينتها؛ لأنها تثبت حقاً لنفسها.
قال: ولو كان العبد غائباً حال ما أقامت الورثة البينة، يوقف حكم هذه البينة حتى يحضر العبد؛ لأنه ربما يدعي فتقبل البينة وربما ينكر فلا تقبل هذه البينة، فإذا حكم قبول هذه البينة يختلف بدعواه وإنكاره، يجب التوقف إلى وقت حضوره والله أعلم.

نوع آخر في الجارية إذا جاءت بولد وادعاه الموليان ما يجوز لأحدهما عليه من البيع أو الشراء أو غير ذلك، ويدخل فيه ما إذا مات أحد الولدين أو كلاهما وترك وصياً واحداً هذا النوع ينبني على أصول

أحدها: أن النسب مما يمكن إثباته من غير الواحد حتى إن الأمة إذا كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه، ثبت النسب منهما. والأصل في ذلك: ما روي أن شريحاً رضي الله عنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله عن أمة بين رجلين جاءت بولد فادعياه جميعاً، فكتب إليه في الجواب: هو ابنها يرثها ويرثانه، وهو للباقي منهما، وهكذا روي عن علي رضي الله عنه رجوعاً عما قال في الابتداء إنه يقرع بينهما. فهما نصا بثبوت الولد منهما، ولم ينقل من غيرهما خلاف ذلك فكان إجماعاً.
وفي الحقيقة الأب أحدهما؛ لأن الأبوة بسبب الانخلاق من مائِهِ، والولد مخلوق من ماء أحدهما لا من مائهما؛ لأن الولد لا يتخلق من ماء الذكرين إلا أن النسب منه ليس بمقصود، وإنما المقصود أحكامه، ولا تنافي في حق الأحكام، وقد وجد (238أ4) الدليل المقتضي لذلك في حق كل واحد منهما، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيعمل به في حق كل واحد منهما في حق الأحكام، فبعد ذلك: ما كان قابلاً للانقسام والتحري من أحكام النسب يثبت بينهما ويشتركان، وذلك كولاية التصرف في المال وما أشبه، وما لا يكون قابلاً للانقسام والتحري يثبت لهما جميعاً لكل واحد كملاً، وذلك كولاية الإنكاح وما أشبهه، هذا هو الأصل فيما لا يتحرى، فإذا دل الدليل على ثبوته لشخصين.
وأصل آخر أن ولاية الوصي تتعدد بقدر ولاية الموصى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهة الموصي إذ الإيصاء إقامة الوصي مقام نفسه بعد الموت في حق ولاية التصرف، فينتقل إلى الموصي ما له من الولاية عند الموت.

(9/346)


وأصل آخر وهو أن الولاية نوعان: ولاية التصرف والمصالح وهي عامة، وولاية الحفظ: وهي قاصرة، وتخص بما يفتقر إلى الحفظ والتحصين، وولاية التصرف مستتبعة ولاية الحفظ فإن من ملك التصرف في شيء يملك حفظه؛ إذ التصرف لا يأتي بدون الحفظ فما دام ولاية التصرف ثابتة لأحد كان له ولاية الحفظ، فلا ضرورة إلى إثبات ولاية الحفظ بالإثبات فيجب إثباتها، وسنقرر هذه الجملة من خلال المسائل إن شاء الله تعالى.
إذا عرفنا هذا قال محمد رحمه الله: جارية بين رجلين جاءت بولد، فادعياه جميعاً ثبت النسب منهما لما مر في أصل الثابت، وصارت الجارية أم ولد لهما، فلو أنهما أعتقا الجارية فاكتسبت أكساباً، ثم ماتت وأوصت إلى رجل فلم يدع وارثاً غير ابنها هذا، وهو صغير لم يبلغ؛ كان ولاية التصرف في مال الولد، وحفظه للوالدين لا لوصي الأم.

أما ولاية التصرف: فلأن وصي الأم قائم مقام الأم يستفيد الولاية من جهة الأم، ولم تكن للأم ولاية التصرف في مال الولد حال حياتها، وإنما الولاية للأبوين فكيف تنتقل إلى وصيها؟. وأما ولاية الحفظ: فلأنه محفوظ بولاية الأبوين تبعاً لولاية التصرف؛ فلا حاجة إلى إفراد ولاية الحفظ بالإثبات، فإن غاب الوالدان ظهر الآن ولاية الوصي، فثبت له ولاية الحفظ؛ لأنه مست الحاجة إليه، وللأم ولاية حفظ مال الصغير في هذه الحالة، فكذا لمن قام مقامها، ولكن إنما تثبت له الولاية فيما ورث الصغير من الأم، وفيما كان للصغير قبل موت الأم، وفيما كان للصغير لا في مال يحدث للصغير بعد ذلك، وهذا لأن وصي الأم استفاد الولاية من جهة الأم، فتقدر ولايته بقدر ما كان للأم والذي كان للأم هذا القدر، وكما تثبت له ولاية الحفظ تثبت له ولاية كل تصرف هو من باب الحفظ، نحو بيع المنقول وما يتسارع إليه الفساد، وهذا لأن المنقول وما يتسارع إليه الفساد مما يترادف عليه أسباب التوى والتلف، وبالبيع يقع الأمن عن بعضها، فكان البيع من باب الحفظ فملكه من حيث أنه حفظ، ألا ترى أن الأم ملكت ذلك حال غيبة الأبوين؛ وإنما ملكت من حيث أنه حفظ.
وليس له أن يبيع العقار ولا أن يتصرف في الدراهم والدنانير، أما العقار فلأنها محصنة بنفسها لا يخشى عليه التوى والتلف، فلا يكون نفعها من جملة الحفظ لملكه من حيث أنه حفظ، ألا ترى أن الأم لا تملك بيع العقار، وصرف الدراهم والدنانير للصغير حال غيبة الأبوين، وإنما لم يملكه لما قلنا.

وإن غاب أحد الوالدين والآخر حاضر، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن عندهما أحد الأبوين لا ينفرد بالتصرف إلا في أشياء معدودة على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكأن غيبة أحدهما كغيبتهما، فيثبت لوصي الأم ولاية الحفظ، وما كان

(9/347)


من باب الحفظ، وعند أبي يوسف: أحد الأبوين ينفرد بالتصرف، فكان حضرة أحدهما كحضرتهما، فتكون ولاية التصرف في مال الصغير وحفظه للوالد الحاضر لا لوصي الأم.
فوجه قول أبي يوسف في ذلك: أن سبب الولاية النسب، والنسب يثبت من كل واحد منهما بالترويج، ولهذا لو ماتا يرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، وإذا ثبت النسب من كل واحد منهما كملاً، فقد تفرد كل واحد بسبب الولاية فينفرد بالولاية.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد في ذلك: أن الأب أحدهما: على الحقيقة؛ والآخر: أجنبي حقيقة لما ذكرنا، ولهذا لو مات يرثانه ميراث أب واحد؛ لأنه لو تفرد أحدهما بالتصرف ربما يكون المتصرف في مال الصغير غير الأب وإنه لا يجوز، كانت قضيته ما ذكرنا أن لا ينفرد كل واحد بالتزويج لكنا تركنا هذه القضية، ثم لضرورة أن النكاح لا يتجزأ، فإذا دل الدليل على ثبوته لهما، وإنه لا يتجزأ ثبت لكل واحد كملاً ضرورة هذه الضرورة معدومة في التصرف في المال، لأن التصرف في المال يتجزأ؛ لأن محله متجزئ، وإذا دل الدليل على ثبوته لهما أمسى مشتركاً بينهما، وشرطنا اجتماعهما حتى لا يكون التصرف في مال الصغير غير الأب.
وإنما ورث هذا الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، وورثا منه ميراث أب واحد، لأن الأب أحدهما على الحقيقة، فكل واحد منهما أقر أنه ابنه وأنه أبوه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح ولنفسه باطل، ففيما يرجع إلى استحقاق الابن هذا إقرار على نفسه فكان صحيحاً، فكان استحقاق الابن بحكم الإقرار وقد أقر كل واحد منهما أنه ابنه، فكان له من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، أما فيما يرجع إلى استحقاق الأب بناءً على الحقيقة لا بحكم الإقرار، وفي الحقيقة الأب واحد منهما، فثبت استحقاق ميراث أب واحد، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فيكون ذلك بينهما.
قال: ولو مات أحد الوالدين بعد موت الأم ولم يدع وارثاً غير هذا الصغير، وأوصى إلى رجل والوالد الآخر حاضر، فالميراث كله للصغير، وولاية التصرف في التركتين للأب الباقي لا لوصي الولد الميت، ولا لوصي الأم، لما روينا من حديث عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو للباقي منهما، وليس المراد من خلوص النسبة خلوص أحكام النسبة، ومن أحكام النسبة الولاية، ولأنا إنما أثبتنا أحكام الأبوة في حقهما لمكان المزاحمة وعدم الأولوية، والذي مات زالت مزاحمته والحي يدعي الولد، فتقررت الأبوة عليه..... أولى بالولاية من غيره.
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا أوصى إلى رجلين ثم مات أحد الوصيين فأوصى إلى رجل؛ فإن وصي الميت يزاحم الوصي الحي في التصرف، وههنا وصي الوالد الميت لا يزاحم الوالد الحي في التصرف، والفرق في مسألة الوصيين أن الإيصاء من الميت قد صح؛ لأن بالموت لا يبين أنه لم يكن وصياً، وللوصي ولاية الإيصاء فيصح الإيصاء،

(9/348)


وقام الوصي مقام الميت، وقد كان للميت حال حياته أن يزاحم الوصي الآخر في التصرف؛ فكذا لمن قام مقامه، وفي مسألتنا الإيصاء من الميت لم يصح؛ لأن بعد موت أحدهما يتعين الباقي أباً، ويخرج الميت من أن يكون أباً، فتبين أنه لم يكن للميت ولاية الإيصاء، فلم يصح الإيصاء، فلا يثبت له حق المزاحمة

قال: ولا يضم القاضي إلى الوالد الباقي في وصيه ليتصرف هو معه، فرق بين هذا وبين الوصيين؛ إذا مات أحدهما، فالباقي لا ينفرد بالتصرف عن أبي حنيفة ومحمد بل يضم القاضي إليه وصياً آخر ليتصرف معه، والفرق وهو أن الأب يتصرف لمعنى في نفسه، فإن الأبوة علة مفيدة لولاية التصرف، لكن لم ينفرد أحدهما بالتصرف حال حياتهما؛ لأن أحدهما لم يتعين أبا، وبعد موت أحدهما تعين الباقي أباً، فينفرد بالتصرف، فأما الوصي فلا يتصرف لمعنى في نفسه، إنما يتصرف بحكم التفويض والمفوض لما فوض التصرف إلى المثنى، فقد رضي برأي المثنى، والراضي برأي المثنى لا يكون راضياً برأي الواحد، فيضم القاضي إلى الحي وصياً آخر ليكون المتصرف مثنى؛ طلباً لرضى المفوض بقدر الإمكان.

قال: وإن كان الوالد الباقي غائباً كان لوصي الأم حفظ ما ترك للأم، وما كان من باب الحفظ، أما وصي الأم فلأنه قائم مقام الأم، وقد كان للأم حفظ مال الصغير حال غيبة الوالد فكذا لمن قام مقامهما، وأما وصي الوالد الميت، فلأن حكم الأبوة وإن بطلت بالموت (238ب4) فولاية الحفظ لم تبطل، وهذا لأن بالموت إن تبين أن الميت لم يكن أباً لم يتبين أن الصغير لم يكن في عياله، فلا يتبين أنه لم يكن له ولاية الحفظ، فيصح الإيصاء في حق الحفظ، إن لم يصح في حق ولاية التصرف قام الوصي مقام الميت في حق الحفظ ولا يتعدى حفظ كل وصي إلى التركة الأخرى؛ لأن تعديه إلى التركة الأخرى باعتبار الولاية على الصغير، وليس لواحد من الوصيين ولاية مطلقة على الصغير، وإن مات الوالد الباقي بعد ذلك وأوصى إلى رجل فوصيّه يكون أولى بمال الصغير من وصي الأب الذي مات أولى من وصي الأم، فلأن الوصي قائم مقام الموصي، والولي الباقي حال حياته كان أولى بمال الصغير، فكذا وصيّه بعد وفاته.
فإن كان الأب الذي مات أولاً أباً هو جد هذا الغلام؛ والمسألة بحالها، فوصيُّ الأب الذي مات أولاً بالتصرف في مال الصغير، وكذلك لو كان الأب الذي مات آخراً أباً هو جد هذا الغلام كان وصيّه أولى من أبيه، وإنما كان وصي الأب الذي مات آخراً هو جد أولى من أبيه؛ لأن الوصي قائم مقام الموصي، وقد كان الأب الذي مات آخراً حال حياته أولى من أبيه، فكذا من قام مقامه، وإذا كان أولى من أب الميت الذي مات آخراً مع أنه استقرت أُبوَّة فلان تكون أولى من أب الميت الذي مات أولاً، وقد بطلت أبوته بالموت كان أولى.
وإن مات وصي الأب الذي مات آخراً وأوصى إلى غيره وباقي المسألة بحالها فوصيُّه أولى ممن سمينا؛ لأنه قائم مقام الموصي، وقد كان الموصي حال حياته أولى،

(9/349)


فكذا وصيُّه بعد الموت. وإن مات وصي الأب الذي مات آخراً ولم يوص إلى أحد، أو كان الأب الذي مات آخراً لم يوص إلى أحد، وقد ترك الأب الذي مات أولاً أولى من وصيته، وفي هذا الفصل نوع إشكال: وهو أن الذي مات أولاً إما أن تبطل أبوته وولايته بموته أو لم تبطل، إن بطلت تبطل الجدودة كما تبطل الوصاية، وإذا لم تبطل الوصاية فقد اجتمع وصي الأب مع جد الغلام، فتكون الولاية للموصي. والجواب أن يقول: أبوة الذي مات أولاً بطلت في حق القضاء به أباً لم تبطل في حق الجدودة.
بيانه: وهو أن السبب الثاني كما أثبت الأبوة للأبوين أثبت الجدودة لأبويهما ثبوتاً واحداً، فكانت ولاية الجد بسبب قائم به وهو القرابة لا بتفويض الأب، فلا تبطل ببطلان ولاية الأب، لكن لم تظهر ولاية الجد حال قيام الأب أو وصيه، فإذا ماتا ظهرت ولايته، أما ولاية الوصي بسبب تفويض الأب لا بسبب قائم به، فإذا بطلت ولاية الأب بطلت ولاية الوصي ضرورة.

فإن مات الولدان أحدهما قبل الآخر ولكل واحد منهما أب، وأوصى كل واحد منهما إلى رجل؛ إن لم يعرف الذي مات أولاً من الذي مات آخراً، فولاية التصرف في المال للوصيين جملة؛ لأنه لما لم يعرف الذي مات أولاً من الذي مات آخراً يجعل كأنهما ماتا معاً، وإن ماتا معاً كانت ولاية التصرف في المال للوصيين؛ لأنه لم يظهر بطلان أبوة أحدهما لما ماتا معاً، فالإيصاء من كل واحد منهما حصل وله ولاية الإيصاء فصح، ونزل الوصيان بعد موت الأبوين بمنزلة الأبوين حال حياتهما، وإن عرف الذي مات أولاً من الذي مات آخراً؛ فولاية التصرف في المال لوصي الذي مات آخراً؛ لأنه وصيُّ أب استقرت أبوته، والآخر وصيُّ أب بطلت أبوته على ما ذكرنا.
وإن مات هذا الوصي ولم يوصِ إلى أحد، أو مات الأب الذي عرف موته آخراً ولم يوصِ إلى أحد وباقي المسألة بحالها؛ فولاية التصرف في المال للجدين، لا ينفرد أحدهما به بمنزلة الأبوين في الابتداء بخلاف الوصيين، فإن وصيَّ الأب الذي مات أولاً لا يزاحم وصي الأب الذي مات آخراً في التصرف.
والفرق: أن الوصي ثابت عن الموصي استفاد الولاية من جهته، وبموت الذي مات آخراً، فأما الجد أصل وليس بثابت؛ والولاية له بسبب القرابة، لا بطريق الانتقال والتفويض، وقرابة الجدين قائمة للحال بصفة واحدة فاستويا في سبب الولاية، فزاحم كل واحد منهما صاحبه.
قال: وإن وهب لهذا الغلام هبة والأبوان حيان؛ فقبل أحدهما جاز، أما على قول أبي يوسف فلأن كل واحد منهما ينفرد بجميع التصرفات، وأما على قولهما فلأن قبول الهبة لا يفتقر إلى الولاية، ألا ترى أنه صح من المجحود ومن الذي يعول الصغير ويحفظه، قال عليه السلام: «من عال يتيماً فله قبض هباته» .

(9/350)


والفقه في ذلك: أن قبول الهبة نفع محض، وما كان نفعاً محضاً لا تفتقر صحته إلى الولاية، وكذلك لو وهبه أحدهما وأشهد على ذلك جاز لما قلنا، ويكتفي بقبضه القائم؛ لأن قبض القائم ينوب عن قبض الهبة لكونها قبض أمانة، فلا حاجة إلى تجديد القبض، وقوله: وأشهد على ذلك ليس على وجه الشرط، فالهبة صحيحة بدون الإشهاد، لكن الإشهاد لتعلم الهبة؛ فلا ينازع الوارث الصبي فيها بعد موت الأب، ولو زوجه أحدهما وهما حاضران جاز بلا خلاف، والعذر لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن ولاية الإنكاح لا تقبل الشركة على ما مر، فإذا ثبت لهما ثبت لكل واحد كملا، ولا كذلك ولاية التصرف في المال لأنها قابلة للشركة، فلا تثبت لكل واحد كملا، ولا خيار للغلام إذا بلغ لأن المزوج أب.

وكذلك لو ادعى أحدهما للصغير شيئاً؛ جاز بلا خلاف لأن حالهما لا يكون أضعف من حال الوكيلين، ولأحد الوكيلين أن يتفرد بالخصومة فالأب أولى، وكذلك لو وجب على الصغير مال لرجل فقضاه أحدهما جاز بلا خلاف لأن قضاء الدين ليس من باب الولاية، ألا ترى أن صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أخذه، وألا ترى أن أحد الوصيين يملك ذلك بلا خلاف، وكذلك لو اشترى أحدهما للصغير ما لا بد منه له حال حياته كالطعام والكسوة، وبعد موته كالكفن وما أشبه ذلك جاز بلا خلاف لأن أحد الوصيين يملك ذلك بلا خلاف فأحد الأبوين أولى، ولأن في اشتراط اجتماعهما إضراراً بالغلام والضرر منتفٍ.

ولو اشترى أحدهما للصغير شيئاً بمال الصغير وله منه بد فهو على هذا الاختلاف الذي ذكرنا، على قول أبي يوسف: يجوز، وعلى قولهما: لا يجوز، وكذلك لو قبض أحدهما ديناً وجب للصغير فهو على الاختلاف؛ لأن في قبض الدين معنى المبادلة لأن الديون تقضى بأمثالها على ما عرف في موضعه وتفرود أحدهما بالمبادلة على الخلاف، بخلاف قضاء الدين لأن لصاحب الدين أن يمد يده فيأخذه فقضاؤه يكون معونة ولا يكون مبادلة، وكل جواب عرفته في الأبوين من المتفق والمختلف فهو الجواب في قضيتهما، أما إذا ماتا معاً أو مات أحدهما قبل صاحبه ولا يدرى الذي مات أولاً لأنهما قاما مقام الأبوين فكان حكمهما حكم الأبوين إلا في ولاية التزويج، فإن الوصي لا يملك التزويج على ما عرف في موضعه، ولو جن أحد الولدين جنوناً مطبقاً كانت الولاية للوالد الآخر، لأن الجنون المطبق بمنزلة الموت في حق بطلان الولاية، وإن كان يجن ويفيق فهو بمنزلة الصحيح، وهذا الجنون بمنزلة الإغماء؛ فلا يوجب انقطاع الولاية كالإغماء.
y
ثم تكلَّمُوا في حد المطبق بعضهم قدروه بأكثر السَّنة وهو مروي عن أبي يوسف، وبعضهم قدره بالشهر وهو قول محمد أولاً، ثم رجع وقدَّره بسنة كاملة، وذكر الناطفي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنهم قدروه بالشهر، وإذا عرفت المطبق فما دونه تفسير ما قاله في «الكتاب» أنه يجن ويفيق.

نوع مما يتصل بهذا النوع الذي يجب اعتباره في هذا النوع أن دعوى الوالد إذا

(9/351)


تعذر اعتبارها دعوى الاستيلاد تعتبر دعوى التحرير لأن في دعوى الاستيلاد ما في دعوى التحرير وزيادة؛ لأن دعوى الاستيلاد توجب النسب والحرية وأمومية الولد، ودعوى التحرير توجب النسب والحرية ولا توجب أمومية الولد، فعند تعذر اعتبارها في جميع مواهبها يجب اعتبارها في بعض مواهبها تصحيحاً للصرف بقدر الممكن، وإذا اجتمع دعوى الاستيلاد ودعوى التحرير فدعوى الاستيلاد أولى؛ لأنها سابقة حكماً؛ لأنها مستندة إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير تقتصر على الحال، ولو كانت سابقة حقيقة، (239أ4) كانت أولى، فكذا إذا كانت سابقة حكماً.

قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : جارية بين رجلين فولدت لستة أشهر فصاعداً منذ ملكاها، فجاءت بولد آخر بعد ذلك لستة أشهر فصاعداً منذ ولدت الأول، فقال أحد الموليين: الأصغر ابني والأكبر ابن شريكي، فهذا على وجهين: إما أن يصدقه شريكه في ذلك أو يكذبه.
فإن صدقه يثبت نسب الولد الأصغر من المدعي الأصغر، وتصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر، وضمن مدعي الأصغر لشريكه نصف قيمة الجارية موسراً كان أو معسراً؛ ويضمن نصف عقرها أىضاً، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً، وثبت نسب الولد الأكبر من مدعي الأكبر، وعلى مدعي الأكبر نصف قيمة الأكبر لشريكه، ونصف عقر الجارية، أما ثبوت نسب الأكبر من مدعي الأكبر وعلى مدعي الأكبر نصف قيمة الأكبر لشريكه ونصف العقر للجارية.

أما ثبوت نسب الأصغر من مدعي الأصغر؛ لأن نصف الجارية ملكه، والملك الناقص يكفي لصحة دعوة الاستيلاد، فتجب دعوة مدعي الأصغر، ويثبت نسب الولد الأصغر، وأما صيرورة الجارية أم ولد لمدعي الأصغر لأن أمومية الولد تترتب على ثبات النسب، وقد ثبت نسب الأصغر منه، وصار هو متملكاً نصيب شريكه من الجارية؛ لأن الاستيلاد لا يحتمل الوصف بالتحري، وإذا ثبت في البعض يثبت في الكل ضرورة، ومن ضرورة ثبوته في الكل يملك نصيب الشريك.
وأما ضمان نصف قيمة الجارية لشريكه موسراً كان أو معسراً لما ذكرنا أنه يملك نصيب شريكه فهذا ضمان التملك، وضمان التملك لا يختلف اختلاف اليسار والعسار، ويضمن نصف عقرها؛ لأنه حين وطئها فنصفها ملك الغير، وهذا لأن مدعي الأصغر وإن تملك نصف شريكه من الجارية إلا أنه يملكها حكماً للاستيلاد، وحكم الشيء يثبت بعده، فلا يتبين أن أول الوطء ما صادفت الجارية المشتركة، وهذا بخلاف استيلاد الأب جارية ابنه فإنه لا يوجب العقر على الأب أصلاً؛ لأن الأب يملك الجارية سابقاً عن الاستيلاد شرطاً لصحته فتبين أنه استولد ملك نفسه، وكان الفقه فيه أنه ليس للأب في جارية الابن ما يكفي لصحة الاستيلاد، فلم يثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته، وإنما يثبت التملك حكماً للاستيلاد، والتقريب ما ذكرنا.
ولا يضمن شيئاً من قيمة الأصغر لشريكه، لأن دعوته في حق الأصغر دعوى

(9/352)


الاستيلاد، ولهذا صارت الجارية أم ولد له، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، وإنه كان ماءً مهيناً لا قيمة له، فلم يستهلك على الشريك شيئاً له قيمة، فلهذا لا يضمن.

فإن قيل: ينبغي أن يضمن مدعي الأصغر جميع العقر، ولا يضمن شيئاً من قيمة الجارية؛ لأنهما تصادقا أن استيلاد مدعي الأكبر إياها سابقٌ، وأن الجارية صارت أم ولد لمدعي الأكبر، فمدعي الأصغر استولد أم ولد الغير وإنه يوجب جميع العقر، ولا يوجب شيئاً من قيمة الجارية. قلنا: القاضي حين قضى بكون الجارية أم ولد لمدعي الأصغر فقد كذبها فيما تصادقا فيسقط اعتبار تصادقهما والتحق بالعدم، ولو انعدم تصادقهما كان الجواب كما قلنا؛ فههنا كذلك، هذا هو الكلام في مدعي الأصغر.

أما الكلام في مدعي الأكبر: فإنما يثبت نسب الأكبر منه لأنهما تصادقا على ثبات نسبه منه، ولو تصادقا على ثبات نسبه من أجنبي يدعي نسبه ثبت نسبه فههنا أولى، ويضمن مدعي الأكبر نصف قيمة الأكبر لشريكه إن كان موسراً، وإن كان معسراً سعى الأكبر في نصف قيمته له لأن دعوته في الأكبر ليست دعوى استيلاد؛ لأنا لو جعلناها دعوى استيلاد تصير الجارية أم ولد لمدعي الأكبر وقد جرى الحكم بكون الجارية أم ولد لمدعي الأصغر، وإنه يوجب خروج الجارية من أن تكون محلاً للاستيلاد في حق مدعي الأكبر، ودعوى الاستيلاد إنما تعمل في محلها فيعذر أن يجعل دعوته دعوى استيلاد، فجعلناها دعوى تحرير لما مر في ابتداء هذا النوع، فيصير مدعي الأكبر معتقاً للأكبر وهو مشترك بينهما.
والحكم في العبد المشترك بين رجلين أعتقه أحدهما أن يضمن لشريكه نصف قيمته إن كان موسراً وسعى الغلام في النصف إن كان معسراً، ولا تصير الجارية أم ولد لمدعي الأكبر دون مدعي الأصغر مع مدعي الأكبر لما تصادقا على كون الأكبر ابناً لمدعي الأكبر، فقد تصادقا أن استيلاد مدعي الأكبر سابق، وأن الجارية خرجت من أن تكون محلاً للاستيلاد في حق مدعي الأصغر.
قلنا: حين قال: مدعي الأصغر ابني فقد أقر على نفسه ووجد هذا الإقرار نفاذاً عليه لوجود المنفذ وهو الملك في النصف، وإقرار الإنسان على نفسه إذا وجد نفاذاً عليه ينفذ ولا يتوقف على تصديق الغير فنفذ إقراره، وصارت الجارية أم ولد له، فمدعي الأكبر إنما يدعي أمية الولد بعدما ثبت أمية الولد في حق مدعي الأصغر فلم يصح، أو يقول: بأن مدعي الأصغر حين قال: الأصغر مني فقد أقر بثبات نسب الأصغر وتكون الجارية أم ولد له من وقت العلوق بالأصغر، فهو بذلك بقوله: الأكبر شريكي يريد إبطال أمية الولد في حقه وليس له هذه الولاية فصار وجود هذه المقالة والعدم بمنزلة.
ولو لم يقل: الأكبر ابن شريكي؛ تصير الجارية أم ولد له، ولا تصح دعوة أمية الولد بعد ذلك من مدعي الأكبر فكذا ههنا؛ ويضمن مدعي الأكبر نصف العقر لمدعي الأصغر لأنه أقر بوطئها في حال كانت مشتركة بينهما، هذا إذا صدقه شريكه.
فأما إذا كذبه شريكه فالجواب في حق مدعي الأصغر ما ذكرنا فلا تعتد، وتصير في

(9/353)


حق مدعي الأصغر كأنه ادعى نسب الأصغر وسكت ولا يثبت نسب الأكبر من واحد منهما؛ لأن مدعي الأصغر أقر بنسب الأكبر لشريكه؛ وشريكه ينفيه عن نفسه ولكن يعتق الأكبر ويكون حكمه حكم عبد مشترك بين اثنين شهد أحدهما على صاحبه بالعتق، وصاحبه منكر؛ لأنه لولا قول مدعي الأصغر: الأكبر ابن شريكي لكان الأكبر عبداً؛ وإنما حكم بعتقه بإقراره بنفسه لشريكه فيكون العبد لهما في قيمته عند أبي حنيفة على كل حال، ويسعى الشاهدان إن كان المشهود له معسراً ولا يسعى إن كان موسراً، وهو خلاف معروف في الأصل كذا ههنا.

هذا الذي ذكرنا كله إذا كان قال أحد الوليين: الأصغر ابني والأكبر ابن شريكي، فأما إذا قال: الأكبر ابني والأصغر ابن شريكي فهذا على وجهين أيضاً: إن صدقه شريكه في ذلك أو كذبه، فإن صدقه ثبت نسب الأكبر من الشريك المصدق وصارت الجارية أم ولد له، وضمن مدعي الآخر نصف قيمتها، ونصف عقرها موسراً كان أو معسراً، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً، وصار الشريك المصدق في هذا الفصل نظير مدعي الأصغر في الفصل الأول، أما بيان نسب الأكبر فظاهر، أما صيرورة الجارية أم ولد للشريك المصدق باعتبار أن تصديقه يستند إلى وقت الإقرار فأوجب نفاذ الإقرار من وقت وجوده، فصارت دعوى الشريك المصدق للأكبر سابقة من حيث المعنى، وأما ضمان نصف قيمة الجارية وضمان نصف العقر وعدم ضمان قيمة الولد فلما ذكرنا.
والقياس: أن لا يثبت نسب الأصغر من مدعي الأصغر، لأن الأصغر ولد مدعي الأكبر، وفي الاستحسان: يثبت لأن أمية الولد للأكبر لم تكن ظاهرة وقت العلوق بالأصغر، فإنما استولدها مدعي الأصغر بناءً على ظاهر الملك فيكون مغروراً، وولد المغرور ثابت النسب منه، وضمن مدعي الأصغر قيمة الأصغر لشريكه لما ذكرنا أنه ولد المغرور، وولد المغرور حر بالقيمة عليه إجماع الصحابة.

من مشايخنا من قال: ما ذكر من الجواب قولهما لا قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن ولد أم الولد ليس بمتقوم عنده كالأم، ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل لأن حكم الاستيلاد حالة العلوق بالأصغر لم يكن ظاهراً، وإنما يثبت عند الدعوى بطريق الاستناد إلى وقت العلوق بالأكبر، والمستند ثابت من وجه ظاهر من وجه، فلا يسقط تقوم مالية الولد بالشك، ولأن مدعي الأصغر مغرور على ما ذكرنا، والمغرور بأم ولد الغير يغرم القيمة (239ب4) بلا خلاف، وضمن مدعي الأصغر لشريكه جميع عقرها كذا ههنا، وهو إشارة إلى حقيقة الواجب، لأنه استولد أم ولد الغير، واستيلاد أم ولد الغير يوجب جميع العقر، وذكر في كتاب «الدعوى» : أنه يضمن نصف العقر، وهو إشارة إلى الحاصل بعد المقاصة؛ لأنه وجب لمدعي الأصغر، وعلى مدعي الأكبر نصف العقر، ووجب لمدعي الأكبر على مدعي الأصغر جميع العقر، فصار النصف بالنصف قصاصاً بعد الحاصل بعد المقاصة النصف.
فإن قيل: ينبغي أن تصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر دون مدعي الأكبر؛ لأنه

(9/354)


ادعى نسب الأصغر قبل صيرورة الجارية أم ولد لمدعي الأكبر؛ لأن ذلك لا يسبق تصديقه، قلنا: مدعي الأصغر لما قال: الأكبر ابن شريكي فقد أقر بشيئين: بثبات نسب الأكبر من مدعي الأكبر، وبخروج الجارية من أن تكون محلاً لأمية الولد في حق نفسه، فثبات نسب الأكبر من مدعي الأكبر إن توقف على تصديق مدعي الأكبر فخروج الجارية من أن تكون محلاً لأمية الولد في حق مدعي الأصغر لا يتوقف على تصديق مدعي الأكبر؛ لأنه إقرار على نفسه وهذا سابق على دعواه للأصغر، فلهذا لا تصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر، وأما إذا كذبه شريكه ثبت نسب ولد الأصغر من مدعي الأصغر، وصارت الجارية أم ولد له، وضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً.

قال مشايخنا: وينبغي أن يكون هذا الجواب على قول أبي حنيفة: لا تصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر؛ لأنه إقرار لا بأمية الولد للشريك، وإنها حق لا ينفسخ بالرد والتكذيب، فبقي الإقرار به قائماً فلا تصح دعواه بعد ذلك لنفسه، وصار كما لو أقر بنسب ولد جارية من عبده وكذبه عبده في ذلك، ثم ادعاه المولى لنفسه؛ لم يصح عند أبي حنيفة، وطريقه ما قلنا، ولكن ثبت نسب الأصغر منه لأنه ليس من ضرورة بطلان حق الاستيلاد بطلان حق الولد، ويمكن أن يقال بأن هذا قول الكل؛ لأنا نعتبر هذا الإقرار في حق حريتها، ووجوب نصف قيمتها للشريك، وهذا أمر منفصل عن أمية الولد في الجملة، فجاز أن يصدق فيه، ولا يثبت نسب الأكبر من الشريك، ويكون الحكم فيه كالحكم في عبدين شريكين؛ شهد أحدهما على صاحبه بالعتق على ما ذكرنا قبل هذا.

(نوع آخر) يتصل (بهذا) النوع
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان اشتريا جارية وقبضاها، فولدت عندهما ولداً، فادعى أحد الرجلين الجارية أنها ابنته، وادعى الآخر الولد أنه ابنه، وقد كانت الدعوتان منهما معاً، وكل واحد من المدعيين بحال يولد لمثله للمدعي، فإن كانت الولادة لستة أشهر فصاعداً من وقت الشراء كانت دعوى المدعي الولد أولى، ويصير الولد ابنه، والجارية أم ولد له؛ لأن دعوى مدعي الولد دعوى استيلاد، لأن علوق الولد حصل، والجارية في ملكهما؛ لأن موضوع المسألة أن الجارية جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً، أو ستة الأشهر مدة يحدث فيها الولد التام والحبل عارض، والأصل في الحوادث أن يحال بها على أقرب الأوقات؛ فهو معنى قولنا أن دعوى مدعي الولد دعوى استيلاد، ودعوى مدعي الجارية دعوى تحرير، ولأن علوقها لم يكن في ملكهما، وقد ذكرنا أن دعوى الاستيلاد مع دعوى التحرير إذا اجتمعتا كانت دعوى الاستيلاد أولى.

وإذا صارت دعوته أولى ثبت نسب الولد منه، وتصير الجارية أم ولد له، ويضمن لشريكه نصف قيمة الجارية لأنه يملك نصيب شريكه من الجارية لأنه لما استولدها صار نصيب المستولد من الجارية أم ولد له، وصار نصيب الشريك أم ولد له أيضاً؛ لأن أمية الولد عبارة عن صيرورة الجارية فراشاً للمولى حتى إذا جاءت بالولد ثبت النسب من

(9/355)


المولى غير دعوى؛ كما في النكاح، وهذا مما لا يتحرى لأنه لا يتصور أن يكون البعض منها فراشاً، ولا يكون البعض فراشاً.
قلنا: ولا يصير نصيب الشريك أم ولد للمستولد إلا بتملكه نصيب شريكه، فيصير متملكاً نصيب شريكه بالضمان.
قال: ويضمن لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً؛ لأن ضمان الاستيلاد لا يختلف باليسار والعسار ويضمن لشريكه نصف عقرها أيضاً؛ لأن العلوق بالولد لما كان في ملكها بالطريق الذي قلنا صار هو واطئاً جارية مشتركة، فإن قيل: ينبغي أن لا يضمن مدعي الولد شيئاً من قيمة الجارية ومن عقرها لشريكه، لأن الشريك أقر أنها حرة لمَّا ادعى أنها ابنته، قلنا: نعم إلا أن إقراره قد بطل، وبيان ذلك في وجهين:
أحدهما: أنه إنما أقر بحريتها بعدما هي زائلة عن ملكه من حيث الحكم والاعتبار، بيانه: ما ذكرنا أن دعوى مدعي الولد دعوى استيلاد، ودعوى مدعي الجارية دعوى تحرير، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير تقتصر على حال وجودها فصارت دعوى مدعي الولد سابقة حكماً واعتباراً، فصار مدعي الولد متملكاً نصيب شريكه من الجارية، من وقت العلوق، فصار مدعي الجارية مقراً بحريتها بعدما زالت هي عن ملكه من حيث الحكم والاعتبار فلم يصح إقراره، فصار وجوده والعدم بمنزلة.

فإن قيل: لم لا يجعل هذا الإقرار مجازاً عن الإبراء عن نصف العقر؟ قلنا: لو جعلنا مجازاً عن الإبراء أيضاً لا يصح ولا يبرأ؛ لأن صاحبه وهو مدعي الولد يأبى ذلك لما زعم أن الجارية صارت أم ولد له، ولو أبرأه عن ذلك صريحاً ولم يقبله مدعي الولد كان لا يبرأ فكذا ههنا، وكان كمن اشترى عبداً بألف درهم ثم أقر البائع أنه كان أعتقه قبل البيع وكذبه المشتري في ذلك، فإن المشتري لا يبرأ عن الثمن وطريقه ما قلنا.
الوجه الثاني لبطلان إقراره: أن مدعي الولد بدعوى الولد استحق على شريكه تملك نصيبه من الجارية وإنما استحق التملك عليه بالقيمة؛ لأن تملك مال الغير من غير رضاه لا يجوز إلا بالقيمة، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال الاستحقاق الثابت له عليه، وهو لا يملك إبطال الاستحقاق الثابت له عليه، وهو لا يملك إبطال الاستحقاق الثابت للغير عليه؛ فقلنا: إنه لا يصح إقراره، وصار وجود هذا الإقرار والعدم بمنزلة، فلهذا قال: له نصف قيمة الجارية، وكمن باع عبداً ثم إن البائع أقر أنه كان حر الأصل؛ فإنه لا يسقط عن المشتري شيء من الثمن.
وإن كان هو ينكر وجوب الثمن له عليه لأن المشتري استحق تملك العبد عليه بالثمن فهو بهذا الإقرار يريد إبطال ذلك الاستحقاق الثابت للمشتري عليه، فلم يصح إقراره كذا ههنا. فإن قيل: إذا وجب نصف قيمة الجارية لم لا يدخل فيه نصف العقر كما في الأب إذا استولد فإن هناك لما ملك الأب الجارية بالقيمة دخل فيها العقر؛ حتى لا يضمن العقر.

(9/356)


قلنا: عدم وجود العقر ثمة ما كان باعتبار أنه دخل في قيمة الجارية بل باعتبار أن الأب يملك الجارية سابقاً على الوطء شرطاً لصحة الاستيلاد، لأن نصيبه يكفي لصحة الاستيلاد، وإنما يتملك نصيب الشريك بعد الاستيلاد، وبعدما ثبتت أمية الولد في نصيبه بالطريق الذي قلنا، فالوطء صادف جارية مشتركة، فيضمن نصف العقر لهذا، ولا يضمن مدعي الولد شيئاً من قيمة الولد؛ لأنه لا وجه إلى أن يضمن قيمته بعد الولادة لأن الولادة حصلت كلها في ملكه، فكان الولد حاصلاً في ملكه ولا وجه إلى أن يضمن قيمته حالة العلوق، وإن كانت الجارية ملكها وقت العلوق؛ لأنه كان ماء مهيناً في ذلك الوقت، هذا إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت شرائه إياها، فأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت شرائه إياها وباقي المسألة بحالها؛ صحت دعوى كل واحد منهما فيما ادعى، ويثبت نسب الغلام من مدعيه، ونسب الجارية من مدعيها، لأن دعوى كل واحد منهما دعوى تحرير لأن علوق كل واحد منهما لم يكن في ملكه فانعدم دليل السبق، وزال المرجح.

قال: ويضمن شيئاً من قيمة الجارية، وإن زعم أنه يملك نصيب شريكه من الجارية بالقيمة إلا أن شريكه يكذبه من إقراره فإنه يقول بأن مدعي الولد لم يتملك على نصيبي من الجارية؛ لأنها علقت حرة أو رقيقة إلا أنها عتقت على حين اشتريناها، وقد صحت هذه المقالة منه لقيام ملكه في الجارية (240أ4) وقت هذه المقالة، ولم يصر مكذباً شرعاً في هذه المقالة؛ لأن القاضي قضى بعتق الجارية كما قال، وأما لا يضمن له شيئاً من قيمة الولد؛ لأن مدعي الجارية يقول: إنه ما أتلف الولد علي لأنه حافدي، وقد علق حر الأصل، ولم يصر مكذباً في هذه المقالة؛ لأن القاضي حكم بحرية الولد كما يقول هو، وأما لا يضمن له شيئاً من عقرها، وزعمه معتبر شرعاً لما ذكرنا.
قال: ولا يضمن مدعي الجارية من قيمة الجارية لشريكه عند أبي حنيفة إن كان موسراً يضمن نصف قيمتها، وإن كان معسراً فالجارية لا تسعى في ذلك.
وعندهما: إن كان موسراً يضمن نصف قيمتها، وإن كان معسراً سعت الجارية في ذلك لأن في زعم شريكه أنه بدعوى الجارية أتلف عليّ أم ولدي، وحال بينهما وبيني إلا أن رق أم الولد ليس بمتقوم عند أبي حنيفة وعندهما هو متقوم، والمسألة معروفة في عتاق الأصل، وكذلك لا يضمن مدعي الجارية من عقر الجارية لشريكه؛ لأن مدعي الجارية ما أقر بوطء الجارية وإنما أقر بوطء أم الجارية، وأم الجارية لم تكن مملوكة لشريكه.
رجلان اشتريا جارية، فولدت في ملكهما ابنة لستة أشهر فصاعداً، فكبرت الابنة وولدت ابنةً، ثم ادعى أحد الشريكين البنت الكبرى، وادعى الشريك الآخر البنت الصغرى، وكان الدعوتان منهما معاً كما ذكر في «الكتاب» أنه يثبت نسب كل واحدة منهما من مدعيها، أما نسب الكبرى فإنما يثبت من مدعيها؛ لأن دعوته دعوى الاستيلاد؛ لأن علوق الكبرى كان في ملكهما، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، وفي تلك الحالة لا منازع له فصحت دعوته وثبت النسب منه، وأما نسب الصغرى فقد قيل ما ذكر

(9/357)


في «الكتاب» أنه يثبت نسب الصغرى استحساناً.
والقياس: أن لا تصح دعوته؛ فلا يثبت نسبها منه، إلا أن محمداً رحمه الله لم يذكر القياس، والاستحسان في هذا «الكتاب» ، وإنما ذكر في عتاق الأصل في مسألة نسبه هذه المسألة.
وجه القياس في ذلك: أنا حكمنا بثبوت نسب الكبرى من مدعيها؛ لما أن دعوته دعوى استيلاد، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، فتبين أن مدعي الصغرى ادعى نسب ولد حرة؛ وليس بينه وبينهما نكاح، ولا شبهة نكاح، فلم يصح.

وجه الاستحسان: أن مدعي الصغرى حين ادعى الصغرى كان الملك ثابتاً لهما في الكبرى التي هي أم الصغرى ظاهراً، وملك الأم ظاهراً كافٍ لصحة الدعوى وإثبات النسب، كما في ولد المغرور، إلا أن المغرور يضمن قيمة الولد للمستحق، ومدعي الصغرى ههنا لا يضمن قيمة الصغرى لمدعي الكبرى؛ لأن المستحق يقول للمغرور: لولا دعوتك وأنت حامل بحال الجارية وإلا لكان الولد مملوكاً لي كالجارية، وإنما تلف الولد علي بدعوتك فكنت ضامناً له، وههنا لا يمكن لمدعي الكبرى أن يقول لمدعي الصغرى: لولا دعوتك الصغرى لكانت الصغرى مملوكة لي، لأن الصغرى ولد الحرة، وولد الحرة يكون حراً، فلم يصر مدعي الصغرى متلفاً على مدعي الكبرى ملكه في الصغرى، فلهذا لا يضمن.
قال: ولا يضمن مدعي الصغرى أيضاً لمدعي الكبرى نصف قيمة الكبرى، وإن جعل مدعي الصغرى مقراً لأنه باستيلاد الكبرى يملك نصيب شريكه من الكبرى، لأن مدعي الكبرى يكذبه في إقراره؛ حيث ادعى أن الكبرى ابنته، وأنها حرة الأصل، وقد صحت هذه الدعوى منه شرعاً حتى حكمنا بحرية الكبرى وثبوت نسبها من مدعيها، ويضمن مدعي الصغرى نصف عقر الكبرى لها على رواية هذا الكتاب، وفي بعض روايات كتاب العتاق، قال محمد: يضمن مدعي الصغرى جميع عقر الكبرى، لأن مدعي الصغرى وطئها بعدما حكم بحريتها؛ لأن دعوى الكبرى استدرت إلى وقت علوقها، وثبت نسبها وحكم بحريتها من ذلك الوقت.
وجه رواية هذا الكتاب: أن مدعي الصغرى كان نصفها مملوكاً له ظاهراً، فكان مقراً لشريكه بنصف العقر لو كمل العقر إنما يكمل بحكم الإسناد من حيث أن دعوى الكبرى تستند إلى وقت العلوق، فيظهر أنه وطىء الكبرى وهي حرة، إلا أن الاستناد إنما يظهر في حق ثبات النسب وما لا بد للنسب منه من حرية الولد من الأصل.
h

أما فيما للنسب منه بد فلا يظهر الاستناد في حقه بل تقتصر الدعوى على حال وجودها، وهذا لأن الاستناد إنما يثبت بطريق الضرورة لأن النسب يثبت من وقت العلوق فيظهر الاستناد في حق ثبات النسب، ولا بد لثبات النسب منه وللنسب بد من المستوفي بالوطء، فلا يظهر الإسناد في حقه.
وإذا لم يظهر الإسناد في حق المستوفي بالوطء صار مدعي الصغرى واطئاً الكبرى،

(9/358)


والكبرى مشتركةً بينهما فيكون مقراً بنصف العقر، وإنما أوجبنا نصف العقر للكبرى مع أن مدعي الصغرى أقر بذلك لمدعي الكبرى لا للكبرى؛ لأن مدعي الكبرى حول ذلك من نفسه إلى الكبرى بإقرار أنها حرة الأصل، وذلك صحيح منه في حق نصيبه.

قال: ويضمن مدعي الكبرى نصف قيمة الجدة حية كانت أو ميتة، ونصف عقرها لشريكه، لأن الجدة علقت بالكبرى وهي في ملكهما حقيقة، فصار مدعي الكبرى مستولداً جارية مشتركة بينه وبين غيره، ولا يضمن نصف قيمة الكبرى لأنه ضمن نصف قيمة الأم، وأحد الشريكين متى ضمن نصف قيمة الجارية لشريكه في دعوى الاستيلاد لا يضمن له شيئاً من قيمة الولد؛ لأنه يملك الجارية من وقت العلوق، ووقت العلوق كان ماء مهيناً لا قيمة له.
وحالة الولادة وإن صار له قيمة إلا أن الولادة حصلت والجارية كلها ملك المستولد، فلم يجز أن يصير شيئاً من الولد لغيره وهو حادث على ملكه، هذا إذا كانت الجدة حية أو ميتة وقت الدعوى، فأما إذا قتلت الجدة وقد أخذ قيمة الجدة بينهما نصفان وباقي المسألة بحالها، والجواب في هذه المسألة والمسألة المتقدمة سؤالاً في فصلين؛ أحدهما: أن ههنا أب المدعي الكبرى لا يضمن نصف قيمة الجدة لمدعي الصغرى إنما يضمن له نصف العقر لا غير، لأن مدعي الصغرى لما أخذ نصف القيمة من القاتل فقد وصل إليه بدلها مرة، فليس له أن يأخذها ثانياً، إذ لا يجوز بإزاء مال واحد ضمانين وبدلين، بخلاف ما إذا كانت الجدة حية أو ميتة.

الفصل الثاني: أن الجدة متى كانت حية أو ميتة وقت دعوتها كان لا يضمن مدعي الأكبر من قيمة الكبرى شيئاً في قولهم جميعاً لما مرَّ، وإذا كانت مقتولة فكذلك الجواب عند أبي حنيفة، وعندهما يضمن نصف قيمتها أم ولد، فأبو حنيفة رحمه الله سوَّى بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى في هذا الفصل، لأن مدعي الصغرى أقر أن الكبرى أم ولد له، ومدعي الكبرى بالدعوى أعتقها، ورق أم الولد غير متقوم عنده، وأبو يوسف ومحمد فرقا بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى وفي هذا الفصل.

والفرق لهما: أن الجدة....، فيدخل فيها ضمان الولد فيكون الولد حر الأصل، فأما إذا كانت الجدة مقتولة فمدعي الكبرى لم يضمن من قيمة الجدة شيئاً حتى يدخل ضمان الولد فيه فيضمن نصف قيمة الكبرى لهذا. هذا الذي ذكرنا إذا كانت ولادة الكبرى لستة أشهر فصاعداً من وقت شرائها، فأما إذا كانت ولادة الكبرى لأقل من ستة أشهر من وقت (شرائها) والباقي بحاله صحت دعوى مدعي الصغرى، وصارت الكبرى أم ولد له، ولم تصح دعوى مدعيي الكبرى؛ لأن دعوته دعوى تحرير إلى العلوق بها لم يكن في ملكهما، ودعوى الصغرى تقتصر على الحال، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، فصارت دعوى مدعي الصغرى سابقة معنىً فكانت أولى، ولذا لم تصح دعوى

(9/359)


مدعي الكبرى، ولم يثبت نسب الكبرى منه، هل تصير الجدة أم ولد له؟ فهذا الشرط لمحمد رحمه الله يدل على أن الجدة إذا كانت ميتة إنها لا تصير أم ولد له، وفيما تقدم وهو أن ما إذا كانت ولادة الكبرى لستة أشهر من وقت الشراء؛ ذكر أن الجدة (240ب4) تصير أم ولد لمدعي الكبرى حية كانت الجدة أو ميتة، حتى ضمن مدعي الكبرى نصف قيمة الجدة لمدعي الصغرى على كل حال، والفرق أن حق الأم الولد إنما يثبت تبعاً للولد على ما عرف في موضعه، ففيما تقدم دعوى مدعي الكبرى دعوى استيلاد على ما مر؛ فتستند حرية الولد إلى وقت العلوق، فيثبت حق العتق للأم من ذلك الوقت تبعاً للولد، وفي ذلك الوقت هي محل لحقيقة العتق فكانت محلاً لحق العتق. أما في هذه المسألة دعوى مدعي الكبرى دعوى تحرير، فتقتصر الكبرى على حالة الدعوى فيثبت حق العتق للأم مقصوراً على حالة الدعوى أيضاً، فإن كانت حية كانت محلاً لحقيقة العتق، فتكون محلاً لحق العتق.
وإذا كانت ميتة لم تكن محلاً لحقيقة العتق فلا يكون تحملاً لحق العتق، إذا لحق يلحق بالحقيقة، فإذا كانت الجدة حية حتى صارت أم ولد لمدعي الكبرى؛ ذكر أن مدعي الكبرى يضمن نصف قيمتها لمدعي الصغرى موسراً كان أو معسراً، فضمان الاستيلاد لا يختلف باختلاف اليسار والعسار، بخلاف ضمان العتاق حيث يختلف باختلاف اليسار والعسار.
والوجه في ذلك: أن قضية القياس أن ضمان العتق يختلف أيضاً، ويكون على المعتق على كل حال؛ لأن المعتق هو المفسد لنصيب صاحبه عند أبي حنيفة، وهو المتلف على قولهما، إلا أنا تركنا القياس وأوجبناه على العبد إذا كان المعتق معسراً بالنص. والنص الوارد بإيجاب ضمان العتق على العبد إذا كان المعتق معسراً، ومنفعة الإفساد والإتلاف في نصيب الساكت كلها تحصل للعبد لا يعتبر وارداً دلالة في ضمان الاستيلاد، وعامة منافع نصيب الساكت حاصلة للمستولد لا للأمة من الإجارة والتزويج والاستخدام والوطء، وهو معنى ما نقل من المشايخ أن ضمان الاستيلاد ضمان بملك، فإن عامة منافع نصيب الساكت للمستولد لا للأمة فتكون ضمان بملك هذا الاعتبار، فوجب عليه موسراً كان أو معسراً لهذا.
رجلان اشتريا جارية فولدت في ملكهما ولداً لأقل من ستة أشهر، فادعى الولد أحدهما صحت دعوته؛ لأنه يملك إعتاقه، وإن رد عليه شريكه فتصح دعوته من طريق الأولى؛ لأن الدعوى أسرع ثبوتاً بالإعتاق؛ بدليل أن الأمة تملك دعوى ولد جارية أمته، ولا يملك إعتاقه، وإذا صحت دعوته كانت الجارية أم ولد له، وضمن لشريكه نصف قيمتها يوم ادعى الولد؛ موسراً كان أو معسراً؛ لأنه صار متملكاً نصيب شريكه من الجارية.

أكثر ما في الباب أنه أقر بالاستيلاد قبل الملك، وبالاستيلاد قبل الملك لا يثبت التملك، إلا أن الاستيلاد قبل الملك قد ينعقد موجباً أمومية الولد موقوفاً على الملك،

(9/360)


كما لو اشترى كما لو استولدها بالنكاح، ولا يضمن لشريكه شيئاً من عقرها لأنه لم يصر مقراً له بالعقر لأنه أقر بالاستيلاد وبالوطء سابقاً على المالك، والجواب في الولد كالجواب في العبد إذا كان بين اثنين؛ أعتق أحدهما؛ لأن هذه الدعوى في حق الولد دعوى تحرير؛ لأن العلوق به لم تكن في ملكهما، ولهذا ثبت الولاء للمدعي على الولد، وفي إعتاق أحد الشريكين خلاف ظاهر بين أبي حنيفة وبين صاحبيه في كيفية العتق، وفي كيفية الخيار للساكت، كذا ههنا، فإن قيل: المدعي لما ملك نصيب الساكت من الأم بالضمان ينبغي أن لا يضمن قيمة الولد كما في دعوة الاستيلاد؟ قلنا: في دعوة الاستيلاد يتملك نصيب شريكه من الجارية وقت العلوق، ولهذا يعتبر قيمتها يوم العلوق، وفي تلك الحالة الولد متصل بها فيصير متملكاً نصيب الشريك من الولد بتملك نصيب شريكه من الجارية بطريق التبعية، كما لو اشترى نصفها والولد في بطنها؛ فيكون ضمان نصفها ضمان نصفه بطريق التبعية، ألا ترى أن ثمن نصفها يصير ثمن نصفه بطريق التبعية، أو يقول في تلك الحالة: الولد ماء مهين لا قيمة له، فلا يلزمه بمقابلته شيء، أما ههنا ملك الأم بعد انفصال الولد منها وبعدما صار أصلاً، فلا يملك المدعي نصيب شريكه من الولد تبعاً لملك نصيب شريكه من الأم، فيبقى الولد مشتركاً بينهما، وبالتحرير أفسد وأتلف نصيب شريكه، وله قيمته، فيضمن إذا كان موسراً.

نوع آخر يتصل بهذا النوع أيضا

قال محمد رحمه الله: أمة بين رجلين جاءت بولدين في بطن واحد، فادعى أحدهما الأكبر، والآخر ادعى الأصغر، وخرج الكلامان منهما معاً؛ صحت دعوى كل واحد منهما استحساناً، ولو بدأ أحدهما بالدعوى؛ إن بدأ مدعي الأكبر بدعوى الأكبر ثبت نسب الأكبرمنه، ولم يثبت نسب الأصغر منه؛ لأن تخصيص الأكبر بالدعوى نفى الأصغر دلالة، فكان نفي الأصغر صريحاً، ويكون الأصغر ولد أم ولد مدعي الأكبر مملوكاً له لأن الجارية صارت كلها أم ولد لمدعي الأكبر حالة العلوق بالأكبر، والأصغر حدث بعد ذلك، فلهذا كان الأصغر مملوكاً لمدعي الأكبر، وولد أم ولده.
ويضمن مدعي الأكبر لشريكه نصف قيمة الجارية، ونصف عقرها، ولا يضمن شيئاً من قيمة الولد للأصغر بعد ذلك؛ لأنه ادعى ولد أم ولد المدعي الأكبر، ومن ادعى ولد أم ولد الغير لا تصح دعوته إلا بتصديق ذلك الغير، ويضمن مدعي الأصغر لمدعي الأكبر جميع عقرها؛ لأنه أقر بوطء أم ولده، إلا أن لمدعي الأصغر على مدعي الأكبر نصف العقر ونصف قيمة الجارية، فيتقاصان إن لم يكن ثمة فصل، ويراد أن الفصل إن كان يفصل.
وإن بدأ مدعي الأصغر بدعوى الأصغر ثبت نسب الأصغر منه، وتصير الجارية كلها أم ولد له، ويضمن لشريكه نصف قيمة الجارية ونصف عقرها؛ ولا يضمن شيئاً من قيمة الولد الأصغر لأنه ضمن الأم فلا يضمن الولد وينفي الأكبر ما كان مشتركاً بينهما، فإذا ادعى بعد ذلك الأكبر صحت دعوته لأنه ادعى نسب شخص بعضه مملوك له، وضمن

(9/361)


لمدعي الأصغر نصف قيمة الأكبر إن كان موسراً، إلا أنه لا يمكن أن يجعل دعوته للأكبر دعوى استيلاد فجعلناه دعوى تحرير، فصار معتقاً نصيبه بدعوته، وصار في حق الشريك كأنه أعتقه، فيكون الجواب فيه كالجواب في عبد بين شريكين أعتقه أحدهما.

نوع آخر يتصل بهذا النوع

وإذا مات الرجل وترك أمةً حاملاً، وترك ابنين، وادعى أحدهما أن الحبل منه، وادعى الآخر أن الحبل من أبيه، وخرج الكلامان معاً، صحت دعوى الذي ادعى الآخر أن الحبل منه، ولا تصح دعوى الذي ادعى أن الحبل من أبيه، لأن الذي ادعى الحبل منه يحمل النسب على نفسه، فيكون مقراً على نفسه، والذي ادعى أن الحبل من أبيه يحمل النسب على الغير، فيكون مقراً على الغير، فكانت دعوى من يحمل النسب على نفسه أولى، وإذا صحت دعوى الذي ادعى أن الحبل منه دون دعوى صاحبه صار كأن الذي ادعى الحبل من نفسه تفرد بالدعوى، ولو تفرد هو بالدعوى تصح دعوته، وتصير الجارية أم ولد له ويضمن نصف قيمتها لشريكه كذا ههنا.
فإن قيل: كيف يضمن نصف قيمتها لشريكه، وإن من زعم شريكه أنه ليس عليه قيمة الجارية؛ لأنه في زعم شريكه أنها أم ولد للأب، وأنها عتقت بموت الأب؟ قلنا: لأن شريكه صار مكذباً في زعمه حين جعل القاضي الجارية أم ولد لمدعي الحبل عن نفسه فالتحق زعمه بالعدم، وضمن جميع عقرها لأبيه، إلا أنه لما مات الأب ورث من ذلك نصفه فسقط عن النصف وبقي النصف الآخر لصاحبه، قال شيخ الإسلام: هذه المسألة تنصيص (على) أن دعوى التحرير تنتظم الإقرار بالوطء، كدعوى الاستيلاد لأن وضع هذه المسألة في رجل مات وترك أمة حاملاً، فهذا يوجب أن يدخل في ملك الاثنين وهي حامل، فتكون دعوى مدعي الحبل عن نفسه دعوى تحرير، ومع هذا وجب عليه العقر، وفي هذا الفصل اختلاف المشايخ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. هذا الذي ذكرنا إذا خرج الكلامان معاً. وكذلك الجواب فيما إذا بدأ مدعي الحبل من نفسه بالدعوى، والكلام فيه أظهر.
ولو بدأ الذي ادعى الحبل عن ابنه بالدعوى، لا تصح دعوته في حق النسب (241أ4) لأنه يحمل النسب على الغير، ولكن يعتق نصف الجارية ونصف الولد بإقراره؛ لأنه زعم أن الجارية عتقت بموت الأب، وأن الولد حر الأصل وهو مالك لنصفها، فيصح إقراره بعتق نصف الجارية والولد، ويبقى نصف الجارية ونصف الولد رقيقاً للآخر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العتق عنده متجزئ ولا يضمن المدعي لأخيه شيئاً لا من الأم ولا من الولد لأن المدعي لم يقر بسبب الضمان، فإنه لم يقر أنهما عتقا من جهته، وإنما أقر أنهما عتقا من جهة أبيه، وعتق الأب لا يوجب عليه ضماناً فيكون منكراً للضمان، وهو بمنزلة عبد بين شريكين أقر أحدهما أن صاحبه أعتق نصيبه؛ لا يضمن لصاحبه شيئاً، وإن فسد نصيب صاحبه بإقراره؛ لأنه أقر بإعتاق صاحبه لا بإعتاق نفسه كذا ههنا، وأما على قول أبي يوسف ومحمد: إذا ادعى أن الحبل من أبيه أعتق

(9/362)


الجارية كلها والولد لأن العتق عندهما لا يتجزّأ ولا يضمن لصاحبه شيئاً لما ذكرنا، فإن ادعى الآخر الولد بعد ذلك أنه ابنه؛ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله صحت دعوته، لأن ملكه في نصف الجارية والولد قائم عنده، وهذا كافٍ لصحة الدعوى، وصار نصيبه من الجارية أم ولد له، ولا يضمن لصاحبه شيئاً لا من الولد ولا من الجارية، لأن المدعي لم يفسد على صاحبه نصيبه، لأن نصيب صاحبه عتق عليه بإقراره؛ لأن الحبل من أبيه، ويضمن نصف العقر لصاحبه، إن صدقه صاحبه أخذ ذلك منه لأن في زعمه أنه وطء جارية الأب وضمن العقر لأبيه، إلا أنه ورث النصف من ذلك فسقط عنه النصف، وبقي النصف لصاحبه فيأخذه صاحبه إن صدقه صاحبه في ذلك، وإن كذبه بطل زعمه وإقراره، وعلى قول أبي يوسف ومحمد ثبت نسب الولد منه استحساناً وإن لم يكن له فيه ملك لما أنه عتق كله بإقرار المدعي الأول، إنما يثبت لأنه ادعى نسب صغير ليس له نسب معروف، فتصح دعوته استحساناً، كما لو ادعى نسب لقيط وضمن نصف العقر لصاحبه لما

ذكرنا.

(نوع آخر) يتصل (بهذا) النوع
قال: أمة بين رجلين جاءت بولد فادعياه، وقد ملك أحدهما نصيبه منذ شهر وملك الآخر نصيبه منذ ستة أشهر، فدعوى صاحب الملك الأول أولى؛ لأن دعوته سابقة معنى؛ لأن دعوته دعوى استيلاد وتستند إلى وقت العلوق، وإذا صارت دعوته أولى ذكر أنه يضمن نصف قيمتها، ونصف عقرها، ولم يذكر أنه لمن يضمن لصاحبه أو لبائع صاحبه، قالوا: وينبغي أن يضمن ذلك لبائع صاحبه؛ لأن دعوته دعوى استيلادتستند إلى وقت العلوق، والعلوق كان في ملك بائع صاحبه فصار متملكاً على بائع صاحبه نصيبه فيضمن نصف قيمتها، ونصف عقرها لبائع صاحبه من هذا الوجه، وظهر أن البائع حين باع هذا النصف باع أم ولد الأول فيكون باطلاً، فيجب على البائع أن يرد جميع الثمن على صاحب الملك الآخر، وهل يضمن صاحب الملك الآخر العقر لصاحب الملك الأول؟.
لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل ههنا، وذكر المشايخ في شروحهم: أنه يضمن جميع العقر للمالك الأول؛ لأنه ظهر أنه أقر بالوطء بعدما صارت الجارية كلها أم ولد لصاحب الملك الأول، وما ذكره المشايخ إشارة إلى دعوى التحرير لا ينتظم الإقرار بالوطء، فإن دعوى صاحب الملك الآخر دعوى تحرير، إذ العلوق لم يكن في ملكه.
وصاحب شرح «مختصر الطحاوي» يشير إلى أن دعوى التحرير لا ينتظم الإقرار بالوطء، لأن دعوى التحرير تقتصر على الحال، ولا تستند إلى ما قبل ذلك ومتى لم تستند إلى ما قبل ذلك لا ينتظم الإقرار بالوطء في ملك الغير، ومحمد رحمه الله لا يذكر العقر في دعوى التحرير؛ إنما يذكره في دعوى الاستيلاد، فكأن محمداً صحح دعوى التحرير باعتبار الملك في الحال من غير اعتبار الوطء، كما يصح العتق باعتبار الملك الثابت للحال، وأراد بقوله في «الكتاب» : دعوى التحرير تقتصر على الحال: الاقتصار في حق

(9/363)


العتق والنسب، وإذا اعتبر مقصوراً على الحال في حق بيان ثبات النسب حكماً لم ينتظم إقراراً بالوطء، هذا إذا علم المالك الأول من المالك الآخر، فأما إذا لم يعلم ثبت نسب الولد منهما، وتصير الجارية أم ولد لهما لأنهما استويا في الدعوى لأن دعوى كل واحد منهما احتمل أن تكون دعوى تحرير.
قال: ولا عقر على واحد منهما، قال بعض مشايخنا: لم يرد بقوله لا عقر على واحد منهما أصلاً؛ وإنما أراد به: لا عقر على واحد منهما لصاحبه، ولا شك أنه لا عقر لواحد منهما على صاحبه، وإن صار واطئاً ملك صاحبه، إلا أن الوطء في ذلك ليس بمعلوم، فكان المقضي عليه بالعقر، والمقضي له بالعقر مجهولاً، ولا يمكن الجهالة في الموضعين فمنع القضاء.

إما يضمنا نصف العقر للبائع لأن المقضي وهو نصف العقر معلوم، والمقضي له وهو البائع أيضاً معلوم، وإنما الجهالة في المقضي عليه لا غير، وتمكن الجهالة في موضع واحد لا يمنع القضاء بل يقضي ويودع كما في مسألة الطلاق وإلى هذا مال شيخ الإسلام رحمه الله، وبعض مشايخنا قالوا: لا عقر على واحد منهما أصلاً، إما لصاحبه فغير مشكل لأنا لم نتيقن أن كل واحد منهما وطء ملك شريكه، وإما لبائع صاحبه فلأنه إنما يجب العقر للبائع على من حصل وطؤه في ملك البائع وأنه مجهول، والمال لا يجب على المجهول، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي، والأول أشبه بأصول أصحابنا.
وإذا كانت الأمة بين رجل وامرأة جاءت بولد فادعى الرجل وأب المرأة نسب الولد كانت دعوى الرجل أولى لأنه صاحب حقيقة الملك، ولأب المرأة تأويل الملك، والتأويل لا يعارض حقيقة الملك، ولأن دعوى الرجل تثبت من غير تقديم الملك له على العلوق، فكانت دعوى الرجل سابقة معنى.
أمة بين رجلين ولدت ولداً ميتاً، أو أسقطت سقطاً استبان خلقه، فادعاه أحدهما صحت دعوته وصارت الجارية أم ولد له، وكان ينبغي أن لا تصير الجارية أم ولد له لأن نسب الولد لا يثبت بهذه الدعوى لاستغناء الولد عن النسب، وحق العتق للأم ثبت تبعاً لثبات نسب الولد، والجواب: أن العمل بحقيقة هذه الدعوى إن تعذر وهو إثبات النسب لكون الولد ميتاً أمكن العمل بمجازه، ويجعل قوله: هذا ولدي عبارة عن قوله: هذه أم ولدي بهذا الولد، وهذا لأن نسب الولد إذا ثبت بأن كان الولد حياً كان من حكمته أن تصير الجارية أم ولد له، فعند تعذر العمل بحقيقته يجعل كناية عن حكمه، فصار كأنه قال: هذه أم ولدي بهذا الولد، ونظيره مسألة هذا ابني؛ على قول أبي حنيفة رحمه الله.
أمة بين رجلين جاءت بولد فادعاه أحدهما في مرض موته صحت دعوته وثبت نسب الولد منه لأن العلوق اتصل بملكه وتصير الجارية أم ولد وتعتق من جميع المال إذا مات.

فرق بين الاستيلاد والتدبير، فإن عتق المدبر يعتبر من ثلث المال؛ لأن التدبير وصية، وإنه من فضول الحوائج والاستيلاد من حوائجه الأصلية، لأنه تعلق به حياته المعنوية، فصار كثمن الأدوية وأجرة الطبيب، وقد ذكرنا هذا في كتاب العتاق وهذا إذا

(9/364)


كان الولد ظاهراً، أما إذا لم يكن ظاهراً يعتق من الثلث كالتدبير والله أعلم.

نوع آخر يتصل بهذا الفصل
أمة بين رجل وابنه جاءت بولد فادعياه، فالقياس: أن يكون بينهما، وفي الاستحسان: هو ابن الأب، لأن الابن مع الأب استويا في الملك في النصف، ويرجح الأب بزيادة تأويل الملك له في مال الابن ليس ذلك للابن في مال والده، وإذا صار الولد للأب صارت الجارية أم ولد له، وضمن الأب لابنه نصف قيمتها ونصف عقرها، بخلاف ما إذا كان الكل للابن لأن بملك الأب نصيب الابن ههنا بحكم الاستيلاد لا شرط بصحته، فإن قيام الملك له في النصف كافٍ لصحة الاستيلاد كان الوطء في نصف الجارية ملاقياً ملك الابن، أما إذا كانت الجارية كلها للابن فملك الأب الجارية شرط الاستيلاد إذ ليس للأب في الجارية ما يكفي لصحة الاستيلاد، فكان الوطء مضافاً إلى ملك نفسه؛ وعلى هذا القياس والاستحسان إذا كانت الأمة بين الجد وابن الابن، أما إذا كانت الأمة بين أخوين أو بين رجل وعمه أو خاله أو ابن خاله فالولد يكون بينهما لأنهما استويا من كل وجه.

نوع آخر في دعوى الرجل (241ب4) ولد أمته

قال محمد رحمه الله: رجل له أمة لها أولاد قد ولدتهم في بطون مختلفة من غير زوج، فقال المولى: جد هؤلاء ابني، فما دام المولى حياً يجبر على البيان؛ لأن المولى كما أقر بنسب أحدهم فقد أقر بحرية عبد من عبيده، فما دام المولى حياً يجبر على البيان، فإن مات قبل البيان وقد كان قال هذه المقالة في صحته أجمعوا على أن النسب لا يثبت حتى لا يرث واحد منهم من الميت، لأن النسب مجهول، وجهالة النسب مما يمنع ثبوت النسب، وأجمعوا على أن أم الأولاد تعتق؛ لأنا تيقنا بعتقها، فإن أب الأولاد هو المراد بالدعوى، صارت الجارية أم ولد وتعتق بموته.
وكم يعتق من الأولاد؟ اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة: يعتق من كل واحد منهم ثلثه، ويسعى في ثلثي قيمته. وقال محمد: يعتق الأصغر كله، ويعتق من الأوسط نصفه، وسعى في نصف قيمته، ويعتق من الأكبر ثلثه، وسعى في ثلثي قيمته، ولم يذكر قول أبي يوسف في «الكتاب» ، وحكي أن الفقيه أبا أحمد العياضي كان يروي عن أبي يوسف أنه قال: ما تيقنت بعتقه عتق كله، كما قال محمد: وما لم أتيقن بعتقه، فإن قولي فيه مثل قول أبي حنيفة، فعلى هذا يعتق الأصغر كله على قوله، ويعتق من الأوسط والأكبر من كل واحد ثلثه.
g
وجه قول محمد رحمه الله: أنا تيقنا بعتق الأصغر؛ لأنه إذا كان المراد بالدعوى هو عتق هو، لأنه ابنه، وإذا كان المراد بالدعوى الأكبر أو الأوسط، فكذلك يعتق الأصغر لأنه ولد لأم الولد، فأما الأوسط يعتق في حالتين: وهو أن يكون المراد بالدعوى

(9/365)


هو أو الأكبر، ولا يعتق إن كان المراد بالدعوة الأصغر وأحوال االإصابة حالة واحدة، فصار يعتق في حال ولا يعتق في حال، فيعتق نصفه، وأما الأكبر فهو يعتق في حال ولا يعتق في حالين وهو أن يكون المراد بالدعوى الأوسط أو الأصغر، وأحوال الحرمان أحوال فيعتق ثلثه.

وأما أبو حنيفة يقول: الأصغر إنما يعتق كله، والأوسط نصفه إذا اعتبرنا العتاق لهما من جهة أنفسهما ومن جهة أمهما كما اعتبره محمد، وتعذر اعتبار العتاق لهما بالجهتين، لما بينهما من التضاد والتنافي، فبعد هذا اختلفت عبارة المشايخ في بيان التضاد والتنافي بين الجهتين
فبعضهم قالوا: العتق من جهة نفسه يثبت أصلاً بالدعوى، والعتق من جهة الأم يثبت تبعاً؛ لأنه يعتق تبعاً لعتق الأم؛ وبين كون الشيء تبعاً وأصلاً تنافٍ، فلا بد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر، ولا شك أن إلغاء جهة التبعية أولى من إلغاء جهة الأصالة، وإذا وجب إلغاء للجهة التي تثبت لهما العتق من جهة الأم بقيت العبرة للجهة التي تثبت لهما العتق من جهة أنفسهما أصلاً، وباعتبار هذه الجهة ثبت لكل واحد منهما ثلث العتق؛ لأن كل واحد منهما يعتق في حال رق في حالتين، فيعتق من كل واحد منهما ثلثه.
وبعضهم قالوا: ما يثبت لهما من العتق من جهة أمهما يثبت في ثاني الحال، وهو ما بعد موت السيد، وبينما يثبت من العتق في الحال، وبينما يثبت في الثاني تنافٍ؛ لأن الذي يثبت في الحال يزيل الرق في الحال، والذي يثبت في الثاني يزيل الرق في الثاني، وبين كون الرق زائلاً في الحال وغير زائل تنافٍ، فلا بد من إلغاء أحدهما، فنقول: إلغاء ما يوجب العتق في الثاني أولى من إلغاء ما يوجبه منجزاً في الحال، لأن المنجز أقوى، فلنا اعتبار جهة العتق التي تثبت لهما من جهة الأم، وبقيت العبرة للجهة التي تثبت لهما العتق من جهة أنفسهما، وباعتبار هذه الجهة تثبت لكل واحد منهما ثلث العتق على ما بينا، ولم يذكر ههنا أن الورثة هل يجبرون على البيان؟، وذكر في «وصايا الفتاوى» : أنهم يجبرون، وإذا بين واحد منهم وقالوا: هذا ولده يثبت نسبه؛ ولا يلتفت إلى قول الباقين وجحودهم.

وإذا ولدت أمة الرجل ابناً من غير زوج فلم يدعه المولى حتى كبر الابن وولد الابن ولداً من أمة للمولى، ثم مات الابن الأول، ثم ادعى المولى أحدهما وقال: أحد هذين ابني، يعني الميت وأبيه، قال: يعتق الابن الأسفل كله، وهذا بلا خلاف، أما على أصل أبي حنيفة فلأنه لا يعتبر العتق من جهة نفسه، وباعتبار هذه الجهة يعتق الأسفل كله؛ لأن المولى يصير جامعاً بين حي وميت، وقوله: أحدكما حر، تنصرف الحرية كلها إلى الحي منهما، أما عند محمد فلأنه إن كان المراد بالدعوى هو عتق لأنه ابنه، وإن كان المراد بالدعوى الميت؛ عتق هو أيضاً؛ لأنه ابن ابنه فتيقنا بعتقه ويعتق من كل واحد من الجاريتين نصفها، لأن كل واحدة تعتق في حال وترق في حال

(9/366)


قال: أمة في يدي رجلين ولدت بنتاً، وولدت ابنتها بنتاً؛ فقال المولى في صحته: إحدى هؤلاء الثلاثة ولدي، ومات قبل أن يبين، فإنه تعتق السفلى كلها؛ لأنها إن كانت هي المراد فهي ابنته، فتعتق بهذه الجهة، فتيقنا بعتقها كلها، وكذلك الوسطى تعتق كلها؛ لأنها إن كانت هي المراد فهي ابنته، وإن كان المراد هي العليا فهي العليا، فيعتق نصفها، وسعت في نصف قيمتها لأنها إن كانت هي المرادة بالدعوى تعتق كلها، وإن كان المراد هي الوسطى فكذلك؛ لأنها ولد أم ولده، فتعتق بهذه الجهة، وإن كان المراد هي السفلى لا تعتق العليا، والعليا تعتق في حالين دون حال وأحوال الإصابة حالة واحدة في ظاهر الرواية، فكأنها تعتق في حال وترق في حال فَيُعتق نصفها، وسعت في نصف قيمتها.

قالوا: ما ذكر في الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة في حق الجملة إذا كانت العلة في إلغاء العتق الذي أثبت من جهة الأم في المسألة المتقدمة أن العتق من جهة الأم يثبت للولد تبعاً، ومن جهة نفسه ثبت مقصوداً؛ لأن السفلى تعتق في الأحوال الثلاثة من جهة نفسها مقصوداً؛ لأنها ابنة المدعي أو ابنة ابنته أو ابنة ابنة ابنته، وابنة الابنه، وابنة بنت الابنه، تعتق من جهة نفسها؛ لأنها أماً إن أثبت المدعي، أو ابنة ابنته، أو أم ولده، وابنة الابنة تعتق من جهة نفسها كالابنة وأم الولد تعتق من جهة نفسها أيضاً مقصوداً لا تبعاً لغيره؛ ألا ترى أنه مقصود عتقها بدون عتق الولد، بأن استولد جارية بحكم النكاح، ثم اشتراها دون الولد، ثم مات المستولد فإنها تعتق بموته، فاعتبار الجهات ممكن في هذه المسألة بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأن هناك الأصغر نصيبه العتق في حال من جهة نفسه، وفي حالين من جهة الأم تبعاً، ألا ترى أن الأصغر لا يعتق ما لم تعتق الأم، وكذلك الأوسط على هذا، وبين الجهتين تنافٍ، فلا يمكن اعتبارهما، أما ههنا بخلافه.
فأما إذا كانت علة إلغاء العتق على قول أبي حنيفة في تلك المسألة أن العتق الذي يصيب الابن من جهة نفسه منجز يثبت في الحال، والذي يثبت له من جهة أمه يثبت في ثاني الحال، فما ذكر من الجواب مستقيم على قوله في حق السفلى؛ لأنه نصيبها عتق منجز في الأحوال؛ لأنه إنما يصيبها العتق إما لأنها ابنة المدعي، أو ابنة ابنته، أو ابنة ابنة ابنته، والعتق بهذه الأسباب يقع منجزاً، أما لا يستقيم في حق الوسطى؛ لأن الوسطى تعتق في حال تعتق الأم في الثاني، فيجب إلغاء هذه الجهة، وباعتبار الجهة التي توجب العتق منجزاً للوسطى تعتق في حالين؛ بأن كانت هي المرادة أو العليا، ولا تعتق في حال بأن كان المراد هي السفلى، وأحوال الأصالة حالة واحدة في ظاهر الرواية، فكأنها تعتق في حال دون حال، فيعتق نصفها، وكذلك لا يستقيم هذا الجواب في حق العليا، ويجب أن يعتق منها ثلثها؛ لأن ما يصيبها من العتق بسبب أمومية الولد ساقط الاعتبار، وباعتبار الجهة التي يصيبها العتق من جهة نفسها تعتق في حال إن كان المراد هي، وترق في حال إن كان المراد هي السفلى أو الوسطى، وأحوال الحرمان أحوال باتفاق الروايات، فينبغي أن يعتق ثلثها وتسعى في ثلثي قيمتها.

قال: أمة في يدي رجل ولدت ابناً من غير زوج، ثم ولدت ابنين في بطن آخر من

(9/367)


غير زوج، فنظر المولى إلى الابن الأكبر، وإلى أحد الابنين وقال في صحته: أحد هذين ولدي، ثم مات (242أ4) قبل البيان فإنه لا يثبت نسب واحد منهما لما مر، وعتقت الجارية كلها؛ لأنا تيقنا بعتقها، أراد بالدعوى الابن الأكبر أو أحد الابنين، وعتق الأكبر نصفه وسعى في نصف قيمته؛ لأن الأكبر يصيبه العتق من جهة نفسه، ولا يصيبه من جهة أمه؛ لأن ولادته قبل ولادة الابنين، وباعتبار جهة نفسه يعتق في حال ويرق في حال، فيعتق نصفه، ويعتق الأصغر كله بلا خلاف؛ لأنه لا يصيبه العتق من جهة نفسه، لأنه لم يدخل تحت الدعوى أصلاً، وإنما يصيبه العتق من جهة الأم، وأبو حنيفة يعتبر العتق من جهة الأم إذا كان لا يصيبه العتق من جهة نفسه، وباعتبار عتق الأم يعتق على كل حال، لأنه ولد أم الولد على كل حال، فيعتق بموت المولى، ويعتق من كل واحدة من الابنتين نصفها، وسعت في نصف قيمتها عند أبي حنيفة رحمه الله؛ هكذا ذكر في ظاهر الرواية.
وروي في غير رواية «الأصول» : أنه يعتق من كل واحدة منهما ربعها، وسعت كل واحدة في ثلاثة أرباع قيمتها.
وجه هذه الرواية: أن الدعوى إذا لم يثبت بها النسب يجعل كأنه عن حكمها وهو الحرية، فكأنه جمع بين الابن الأكبر وبين إحدى الابنتين وقال: أحدكما، فتثبت حرية كاملة للأكبر وبين إحدى الابنتين؛ نصفها للأكبر، ونصفها لإحدى الابنتين، وليست إحداهما * لتعينها للحرية * بأولى من الأخرى، فيكون ذلك النصف بين الابنتين لكل واحدة الربع.

وجه ما ذكرنا في ظاهر الرواية: أن الدعوى متى لم توجب النسب تجعل كناية عن حكمه، وهو الحرية لو ثبت النسب على الحقيقة، ولو ثبت النسب على الحقيقة كان من حكمه حرية الأكبر أو حرية الابنتين؛ لأنهما توأمان لا يختلفان في حق النسب والحرية، فتثبت بهذه الدعوى لو ثبت النسب على الحقيقة، إما حريته أو حرية الابنين لا حرية أحدهما، فإذا لم يثبت النسب على الحقيقة يجعل كناية عن هذا كأنه قال: هذا حر أو هذان، فيكون لهما حريتان في حال، ولا شيء في حال، فيكون لهما حرية كاملة في ضمان، ولا شيء في حال، فيكون له النصف.
وعلى قول محمد رحمه الله: عتق الابنتان جميعاً؛ لأنه إن كان المراد بالدعوى إحداهما عتقا من جهة أنفسهما، وإن كان المراد هو الأكبر عتقا من جهة أمهما؛ لأنهما ولدا أم الولد، ومحمد رحمه الله يعتبر الأحوال في العتق (و) يعتبر الجهتين.
ولو نظر إلى الابن الأكبر وإلى الابن الأصغر وقال: أحد هذين ابني ثم لم يبين؛ لم يثبت نسب واحد منهما لمكان الجهالة، ويعتق من الأكبر نصفه، ويسعى في نصف قيمته عندهم جميعاً؛ لأن الأكبر لا يصيبه العتق إلا من جهة نفسه، وباعتبار هذه الجهة هو يعتق في حال ولا يعتق في حال، وأما الأصغر فعلى قول أبي حنيفة: يعتق نصفه، وإن كان يعتق هو من جهتين؛ من جهة نفسه ومن جهة أمه؛ لأن أبا حنيفة لا يعتبر العتق من جهة الأم في حال

(9/368)


ما يصيبه العتق من جهة نفسه؛ باعتبار هذه الجملة، يعتق في حال إن كان المراد هو فيعتق.
وعلى قول محمد: يعتق الأصغر كله؛ لأنه يعتبر العتق بالجهتين، وباعتبار الجهتين هو حر يتعين ويعتق من الابنتين، من كل واحدة منهما نصفها بلا خلاف؛ لأنه لا يصيبها العتق إلا من جهة الأم؛ لأنهما ما دخلتا تحت الدعوى أصلاً، وباعتبار عتق الأم هما يعتقان في حال إن كان المراد بالدعوى الأكبر، وإذا كان المراد بالدعوى الأصغر لا يعتقان أصلاً، فيعتق من كل واحدة نصفها.

أمة في يدي رجل ولدت ثلاثة أولاد في (بطون) مختلفة من غير زوج، فنظر المولى إلى الأكبر منهم وقال: هذا ابني ثبت نسبه منه، وينتفي نسب الآخرين عند علمائنا الثلاثة، ونسب ولد أم الولد لا ينتفي إلا بالنفي، ولم يوجد النفي، ولنا: أن نفي الاثنين وجد دلالة؛ لأن تخصيص بعض الأولاد بدعوى نسبه دليل نفي الباقين، وهذا لأن الشرع أوجب على المولى إظهاراً لنسب هو ثابت منه بالدعوى فيكون تخصيص البعض، والحالة هذه دليل نفي الباقين، ودليل النفي كصريح النفي، ونسب ولد أم الولد ينتفي بمجرد النفي والله أعلم.

(نوع آخر) يتصل (بهذا) النوع
وإذا كان للرجل منكوحة حرة وأمة، جاءت كل واحدة منهما بغلام، ثم ماتت المنكوحة والأمة، فقال الرجل: أحدهما ابني ولا أعرف من هو فإنه لا يثبت واحد منهما، لأن هذا الإقرار لا حكم له؛ لأن أحدهما ابنه بدون إقرار، فصار وجوده والعدم بمنزلة. وإن انعدم هذا الإقرار ولا يعلم ولد المنكوحة من ولد الأمة؛ لا يقضى بنسب واحد منهما؛ لأن الثابت نسب أحدهما، وهو ولد المنكوحة، وإنه ليس بمعلوم، وإثبات نسب المجهول لا يمكن؛ لأن المقصود من النسب الشرف بالانتساب، وذلك لا يحصل بالمجهول، ولكن يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأن أحدهما حر بيقين، وهو ولد المنكوحة، وعند الاشتباه ليس أحدهما لتعيينه للحرية بأولى من الآخر، فنسخ العتق فيهما، فيعتق من كل واحد نصفه، فهذه الجملة من «الأصل» .

وفي «المنتقى» : بشر عن «أمالي» عن أبي يوسف: رجل له أمة ولها ثلاثة أولاد في بطون متفرقة، قال المولى في صحته: أحد هؤلاء ولدي من هذه الأمة، قال: يعتق الأسفل كله، وتعتق الأم، وأما الولد الأكبر والأوسط فيعتق من كل واحد منهما ثلثه كأنه قال؛ أو كما مر فإنما يعامل في العتاق بهذا الوجه مع من لم يعتق منهم على كل حال، وأما الذي يعتق على كل حال لا بد من عتقه عليه، وهذا الجواب ظاهر في حق الأول والأسفل، مشكل في حق الأوسط.
وفيه أيضاً: رجل له أمة ولها ثلاثة أولاد ولدوا في ملكه في بطون مختلفة، فأشهد المولى في صحته على أحد الأولاد بعينه أنه ابنه من هذه الأمة، ثم مات ونسي الشهود أيهم هو، وشهدوا بالشهادة وقالوا: لا نحفظ الذي أرانا يومئذٍ، قال أبو يوسف: إني أعتق الأم والأصغر، أما الأم فلأنه أقر لها بأمية الولد، وأما الأصغر فلأنه يعتق على كل

(9/369)


حال، أشهد عليه أو على الأكبر أو على الأوسط، وأما الأكبر والأوسط فرقيقان؛ لأنهما يعتقان في حال ولا يعتقان في حال، فلا أعتقهما بهذه الشهادة، وقال: ألا ترى أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه أعتق أحد عبيده بعينه، وقد نساه أني أبطلت الشهادة.

(نوع آخر) ما يجب اعتباره في هذا النوع
أن دعوى المدعي في حق ثبات النسب إنما تصح من غير تصديق المالك إذا كان العلوق في ملك المدعي كما في البائع، وفي حق الملك للمدعي، ولصاحب الحق ولاية حق استلحاق النسب على المالك كما في المكاتب، فإن دعوى المكاتب ولد جارية من أكسابه صحيحة من غير تصديق المولى؛ لأن للمكاتب ولاية إبطال حق استلحاق النسب على المولى بالبيع من غيره، ولو ادعى المولى نسب ولد جارية المكاتب لا يصح من غير تصديق المكاتب؛ لأنه ليس للمولى ولاية إبطال حق استلحاق النسب على المكاتب بالبيع من غيره.

إذا ثبتت هذه الجملة جئنا إلى مسائل الباب فنقول: إذا ولدت جارية الرجل ولداً وادعى نسب هذا الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق من الأب؛ لأن العلوق لم يحصل في ملك الابن ولا في حق الملك له، وليست له ولاية إبطال حق استلحاق النسب على الأب أيضاً؛ بأن يبيع أمته من غيره، فكان الابن وأجنبي آخر في ذلك على السواء، والأجنبي لو ادعى لا يصدق إلا بتصديق المالك، فكذا الابن، وكذلك لو ادعى الابن أنه تزوجها لا يصدق إلا بتصديق الأب، لا يدعي ملك بضع الأمة على الأب فلا يصدق؛ كما لو ادعى ملك رقبة الأمة عليه، فإن أقام الابن بينة على التزويج برضا الأب أو بغير رضاه؛ فإن نسب الولد ثبت منه، ويعتق لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي أنه تزوجها نكاحاً صحيحاً برضى المولى، أو فاسداً بغير رضاه، ثم جاءت بولد في مدة تلد الأمة (242ب4) لمثلها؛ فإنه يثبت نسب الولد منه، ويحكم بعتقه؛ لأنه ملك ابن أمته.

نوع آخر في إقرار المريض بالولد
قال محمد رحمه الله: ملك عبداً في صحته، وأقر في مرضه أنه ابنه (لمثله) ، وليس له نسب معروف فهو ابنه، ويعتق ويرثه، ولا يسعى في شيء وإن لم يكن له مال غيره، وكان عليه دين يحيط بقيمته، وهذا لأن المرض لا يزيل أملاك المريض عنه، ألا ترى أن تصرفات المريض كلها نافذة، فالدعوى صادفت ملكه، ولم يكذب فيما ادعى لا حقيقة؛ لأن مثله يولد لمثله ولا حكماً؛ لأنه مجهول النسب من غيره فصحت دعوته كما في حالة الصحة، وعتق العبد عليه؛ لأنه ملك ابنه، ولا يسعى العبد وإن لم يكن له ما غيره، وكان على المريض دين يحيط بقيمته؛ لأن هذا عتق الصحة ومعتق الصحة لا يسعى لأحد.

(9/370)


بيانه: أن العتق ههنا ثبت حكماً لبيان النسب، والنسب لا يمكن إثباته مقصوراً على الحال؛ إنما يثبت مستنداً إلى وقت العلوق، كان يجب أن يستند العتق منه إلى وقت العلوق؛ لأنه حكمه إلا أن إسناد العتق إلى ما قبل الملك غير ممكن فيستند العتق إلى حالة التملك، والتملك كان في حالة الصحة فيعتق من ذلك الوقت، فهو معنى قولنا: إنه معتق الصحة، وهذا بخلاف ما لو أقر المريض أنه أعتق هذا العبد في صحته، فإنه يعتبر هذا عتق المريض، وأن ملكه في حالة الصحة؛ لأن إثبات العتق في الحال ممكن، فأثبتناه للحال ولم نصدقه في حق الإسناد لحق الورثة، فأما إثبات النسب مقصوراً على الحال غير ممكن فثبت مستنداً إلى وقت العلوق، وإذا استند السبب إلى وقت العلوق استند العتق إلى وقت العلوق أيضاً، وكذلك إذا ملك معه أمه وقد ملكها في حالة الصحة لا سعاية على الأم؛ لأن الأم لا تسعى لو ملكهما في حالة المرض لما تبين فههنا أولى.
هذا إذا ملك العبد في حالة الصحة وحده أو مع المرض وادعى نسب الولد ثبت الولد منه وعتق عليه، وهل يجب على الولد السعاية؟ فهذا على وجهين.
الأول: أن لا يكون للمريض مال يخرج العبد من ثلثه، وفي هذا الوجه تجب السعاية بخلاف ما لو ملكه في حالة الصحة لأنه متى ملكه في المرض كان معتق المرض، لما ذكرنا أن العتق يستند إلى وقت التملك، والتملك كان في حالة المرض فيكون معتق المرض، ومعتق المرض يعتبر عتقه من الثلث، فأما إذا ملكه في حالة الصحة كان معتق الصحة على ما ذكرنا فيعتبر عتقه من جميع المال.
ثم إذا وجب عليه السعاية في هذه الصورة ففي أي قدر يسعى؟ ذكر أن على قول أبي حنيفة: يسعى في ثلثي قيمته، وعندهما: يسعى في جميع قيمته إلا قدر ما يخص الميراث وهذا لأن المستسعى عندهما حر مديون، وليس بمنزلة المكاتب فيكون وارثاً ولا وصية للوارث، فكان عليه أن يسعى في جميع القيمة رداً للوصية إلا قدر ما يخصه من الميراث، فإن ذلك يطرح عنه لأنه يستحيل أن يسعى لنفسه، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: فالمستسعى بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يرث، فكانت الوصية صحيحة له بقدر الثلث فيسعى في ثلثي قيمته عند أبي حنيفة لهذا ولا يرث.

هذا إذا كان للمريض مال يخرج العبد من ثلث ماله، فأما إذا لم يكن للمريض مال يخرج العبد من ثلث ماله، فعلى قولهما: يرث منه ويسعى في قيمته إلا قدر ما يصيبه من الميراث، وهذا لما ذكرنا أن المستسعى حر مديون فيكون وارثاً ولا وصية للوارث، فيلزمه السعاية في جميع القيمة رداً للوصية إلا قدر ما يخصه من الميراث لما ذكرنا، فأما على قول أبي حنيفة: يرث ولا يسعى في شيء من قيمته، فقد جمع أبو حنيفة بين أمرين متغايرين، فإنه قال: يرث ولا يسعى، ومتى ورث يجب أن يسعى رداً للوصية؛ لأنه لا وصية للوارث، فإذا سعى لا يكون وارثاً؛ لأن المستسعى بمنزلة المكاتب، فقد جمع بين أمرين متضادين من هذا الوجه، وإنما فعل كذلك ضرورة الدور.

(9/371)


بيانه: أنه متى أوجبنا السعاية لا يرث؛ لأنه يكون بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة، والمكاتب عنده لا يورث، وإذا لم يرث تصح الوصية له ويعتق كله فيرث، وإذا ورث لا تصح الوصية له فصحت السعاية فلا تزال تدور هكذا، وسبيل الدور أن يطرح من حيث يقع، وإنما يقع الدور بإيجاب السعاية عليه، فلهذا قال: لا يسعى، فأما الجارية فإنها تعتق بموته، ولا سعاية عليها وإن ملكها في حالة المرض عندهم لأن المحتبس عندهما بالإعتاق مال غير متقوم في حق الغرماء والورثة؛ لأن أمومية الولد في حق الغرماء والورثة كما لو كان الاستيلاد معاشاً، فكان المحتبس عندهما بالإعتاق مالية متقومة؛ لأنه لم يحدث فيه قبل العتق ما يسقط قيمته في حق الغرماء فإنما احتبس عنده بالإعتاق مالية متقومة، وإنه معتق المرض، فيجب عليه السعاية كما لو أعتقه.
وزان مسألة أم الولد من مسألتنا ما لو ملكها في حالة المرض بدون الولد، وقال: إنها أم ولدي ثم مات، وهناك تسعى للغرماء والورثة إذا لم يكن معها ولد؛ لأنه لم يثبت بمجرد إقراره، ولا وجه إليه فاعتبر هذا في حق الغرماء والورثة بين اثنين، فكان المحتبس عندهما مالية متقومة، أما ههنا بخلافه.

قالوا: ولو أن مريضاً وهب له ابن معروف النسب منه ولا مال له غيره وعليه دين يحيط بقيمته، فعليه أن يسعى في جميع قيمته عندهم، لأنه معتق المرض وقد احتبس عنده مالية متقومة ولا وصية مع الدين، فكان عليه أن يسعى في جميع قيمته. وإن كانت قيمة الابن أكثر من الدين بأن كان الدين ألفاً، وقيمة الابن أربعة آلاف لا شك أنه يسعى بقدر الدين؛ لأنه لا وصية في مقدار الدين، ومتى وجبت السعاية بقدر الدين يصير في معنى المكاتب عند أبي حنيفة، والمكاتب لا يرث، فتصح الوصية بمقدار ثلث الباقي وذلك ألف درهم، ويسعى في ثلثي الباقي وذلك ألفا درهم، وعندهما يسعى في جميع قيمته؛ لأن المستسعى عندهما حر مديون فيرث، ولا وصية للوارث فيسعى في جميع القيمة رداً للوصية إلا قدر ما يخصه من الميراث على ما ذكرنا.
ولو وهب للمريض أم ولد معروفة لا سعاية عليها لما مر أن المحتبس عندهما مالية غير متقومة، ولو كان اشترى أم ولد معروفة لا سعاية عليها لا للغرماء ولا للورثة لما ذكرنا وإن كان في البيع محاباة بأن كانت قيمة الابن أقل من الألف وقد اشتراه المريض بألف درهم ولا مال له غيره، وعليه دين يحيط بجميع ماله، فإن البائع يرد الفضل على القيمة، وهو مقدار المحاباة، لأن المحاباة في مرض الموت وصية، والوصية مؤخرة عن الدين؛ وإن لم يكن عليه دين ولا مال غير ذلك يسلم للبائع من المحاباة قدر ثلثها بطريق الوصية، ورد الباقي على الورثة، ولا يجبر البائع وإن لزمه زيادة ثمن؛ لأن الرد متعذر لأنها صارت أم ولد للمريض، فلا يفيد التخيير. [

(نوع منه) في الشهادة على الولادة من الوارث

وإذا كان رجل وامرأته مسلمين، ولدت المرأة ولداً وادعت أنه ابنها منه، والزوج يجحد ذلك، فشهد على الزوج ابنه أو أخوه أنه أقر أنه ابنه من هذه المرأة قبلت الشهادة،

(9/372)


أما شهادة الأخ، فلأنه يشهدعلى أخيه لابن أخيه، فإن الولد ابن أخيه في زعمه وشهادة الإنسان على أخيه ولابن أخيه مقبولة، وأما شهادة الابن فلأنه يشهد على أبيه لأخيه، وشهادة الإنسان على أبيه ولأخيه مقبولة.
فإن قيل: الابن كما يشهد على أبيه لأخيه يشهد لامرأة أبيه أولاً فيما إذا وقعت هذه الدعوى بين الزوج وبين أمه، وشهادة الإنسان لأمه وامرأة ابنه غير مقبولة.
قلنا: الأم في هذه الدعوى نائبة عن الولد، لأن منفعة هذه الدعوى للولد، فتكون نائبة عن الولد في الدعوى، فتكون دعواها كدعوى الابن لو كان كبيراً، ولو كان المدعي هو الابن دون (243أ4) الأم كانت هذه الشهادة مقبولة لأنها قامت على الأب للأخ كذا ههنا، ولو شهد على إقرار الزوج بذلك أب المرأة أو جدها لا تقبل شهادته ادعت المرأة أو جحدت، وأما الجد فلأنه يشهد لمناقلته إن ادعت ولولد ناقلته إن جحدت، وكذلك لو شهد بذلك أب الزوج أو جده لم تقبل شهادتهم ادعى الزوج أو جحد.

نوع آخر في دعوى العبد التاجر

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : العبد المأذون له في التجارة إذا اشترى أمة ووطئها وولدت ولداً، ثم إن العبد ادعى نسب هذا الولد، صحت دعوته، صدقه المولى في ذلك أو كذبه؛ لأن العبد في أكسابه من تأويل الملك ما للأب من مال الابن وزيادة، أما أصل التأويل فلأن النبي عليه السلام أضاف كسب العبد إلى العبد بقوله: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع» ، كما أضاف مال الابن إلى الأب بقوله: «أنت ومالك لأبيك» ، وأما زيادة التأويل فلأن الكسب حصل بتصرف العبد، والعبد في حق التصرف بمنزلة الحر لا بمنزلة النائب عن المولى، لما عرف أن العبد بعد الإذن يتصرف بحكم فك الحجر لا بحكم النيابة عن المولى، وإذا كان العبد في التصرف بمنزلة الحر يجب أن يكون المستفاد له حقيقة الملك كما بعد العتق، فإن لم تثبت له حقيقة الملك؛ لأنه ليس من أهل حقيقة الملك لا أقل من أن يثبت له زيادة تأويل ملك، بسبب كونه أصلاً في التصرف.
فهو معنى قولنا: إن للعبد في كسبه من تأويل الملك ما للأب في مال الابن وزيادة، فمن حيث أصل التأويل تصح دعوته من غير تصديق المولى، ومن حيث زيادة التأويل لم يحتج إلى التملك لثبات النسب بخلاف الأب ويملك العبد بيع الولد؛ لأنه لما ثبت النسب منه صار في مثل مال الأب، وإذا ملك بيع الولد ملك بيع الأم بطريق الأولى.

(9/373)


قال: ولو زوج المولى هذه الأمة من هذا العبد صح النكاح؛ وثبت النسب منه إذا ولدت ولداً؛ كما لو زوجه أمة أخرى، وكذلك لو أن هذا العبد تزوج هذه الأمة بغير إذن المولى ثبت نسب الولد منه إذا أقر بالولد، فقد شرط إقراره بالولد، وإنه ليس بشرط مع النكاح سواء كان النكاح جائزاً أو فاسداً، فكأنه ذكر الإقرار اتفاقاً لا شرطاً.
وكذلك لو ادعى هذا العبد ولداً من امرأة حرة نكاحاً صحيحاً أو فاسداً ثبت النسب منه إذا صدقته المرأة؛ لأن العبد من أهل أن يثبت النسب ببينته، وإقراره بالنسب لا يمس حق المولى، وفيما لا يتناول حق المولى إقرار العبد به كإقرار الحر، كما في الإقرار بالقود والطلاق.
وإذا ادعى ولد أمة لغيره بنكاح جائز أو فاسد؛ إن صدقه المولى في النكاح * يعني: مولى الأمة * يثبت النسب منه كذبه في الولد أو صدقه؛ لما ذكرنا أن العبد في دعوى النسب بمنزلة الحر، والجواب في الحر هكذا.
قال: للعبد المأذون إذا كان مديوناً فاشترى (جارية) ووطئها وولدت له ولداً؛ وادعى نسب الولد، وكذبه مولاه صحت دعوته، وثبت نسب الولد منه؛ لأن الوطء حصل في تأويل الملك، ألا ترى أنه لا يعتبر تكذيب المولى إذا لم يكن على العبد دين، فإذا كان عليه دين أولى، وكذلك إذا ادعى العبد أن المولى أحلها له، وكذبه المولى لأن الإحلال إن لم يثبت في تكذيب المولى بقي له تأويل الملك في كسبه، وإنه يكفي لثبات النسب على ما مر.

ولو ادعى ولد أمة لمولاه لم يكن من جارية وادعى أن مولاها أحلها له، أو زوجها إياه، فإن كذبه المولى في ذلك لا يثبت النسب منه؛ لأنه في حق جارية المولى كأجنبي آخر، وإن صدقه المولى في ذلك ففي دعوى النكاح يثبت النسب؛ وفي الاستحسان: لا يثبت، وجه القياس في ذلك: الإحلال في هذا المحل غير قابل للإحلال، والإحلال (هنا لا يثبت إلا) بعقد، بل هو بمنزلة الرضا، فكأنه ادعى أنه زنا بها برضا مولاه، وبهذا لا يثبت النسب، وجه الاستحسان: أن الإحلال نظير النكاح من وجه؛ فإن ملك النكاح يسمى ملك الحل، ولا يثبت له ملك النكاح بملك عينها ومنافعها، إنما يحل له وطؤها، فكان الإحلال مورثاً الشبهة من هذا الوجه.

والنسب يثبت في موضع الشبهات؛ إلا أنه في دعوى النكاح يشترط تصديق المولى في النكاح خاصة، وفي دعوى الإحلال يشترط تصديق المولى في أنه أحلها له، وفي أنها ولدت منه، وهذا لأن النكاح عقد والعقد يثبت في المحل، فلا يثبت النسب به ما لم ينضم إليه إقرار المولى أن الولد منه، ولو لم يكن العبد ادعى نسب الولد المولود من أمته؛ ولكن المولى ادعى نسب هذا الولد صحت دعوته أيضاً، أما إذا لم يكن على العبد دين، فلأنه مالك كسب العبد حقيقة، وأما إذا كان عليه دين، فلأن المولى يملك

(9/374)


استخلاص كسبه لنفسه بقضاء الدين فيصير بدعوى النسب والله أعلم.

نوع آخر في دعوى المكاتب في الأمة من كسبه، وفي دعوى المولى ولد مكاتبة، أو ولد أمة مكاتبة
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا ولدت أمة المكاتب ولداً، وادعى المكاتب نسبه صحت دعوته؛ لأن ما للمكاتب في كسبه أقوى مما للعبد المأذون في كسبه، لأن للمكاتب في كسبه حق الملك؛ حتى لو تزوج بجارية من كسبه لا يجوز، وينقلب ذلك الحق حقيقة بعتقه، وليس للعبد المأذون مثل هذا الحق، فإذا صحت دعوى المأذون أولى أن تصح دعوى المكاتب، ويستوي إن صدق المولى المكاتب في دعوته أو كذبه فيها.
فرق بين المكاتب والمولى: فإن المولى إذا ادعى نسب ولد أمة المكاتب، فإنه لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب، والفرق: وهو أن حق التصرف في كسب المكاتب للمكاتب، وليس للمولى إبطال التصرف عليه في إكسابه من غير رضاه، ومتى صحت دعوى المولى يبطل على المكاتب حق التصرف، فشرط تصديق المكاتب حتى لا يبطل عليه حق التصرف من غير رضاه، وليس في تصحيح دعوى المكاتب إبطال حق التصرف على المولى، إذ ليس للمولى في أكساب المكاتب حق التصرف، فلم يشترط تصديق المولى لهذا، ويصير هذا الولد بمثل حال المكاتب مكاتباً؛ لأن الكتابة حق لازم في المكاتب، ومثل هذا الحق يسري إلى الولد، ولا يتبع الابن ولا الأم، أما الابن فلأنه صار مكاتباً، وأما الأم فلأن للمكاتب في الأم حق الملك إن لم يكن له فيها حقيقة الملك، ولو كان له فيها حقيقة الملك يثبت لها حق العتق، ويمتنع بيعها، فإذا كان له فيها حق الملك لا حقيقة الملك امتنع بيعها لمكان أصل الحق، ولم يثبت لها حق العتق لانعدام حقيقة الملك.
وإذا اشترى المكاتب أمة فولدت عنده ولداً لأقل من ستة أشهر، فادعاه المكاتب صحت دعوته؛ ولو كان مكان المكاتب عبداً مأذوناً لا تصح دعوته، والفرق: أن دعوى المكاتب إنما صحت باعتبار ما له من حق الملك في أكسابه، والحق يلحق بالحقيقة، وحقيقة الملك في أحد الطرفين: إما طرف العلوق وإما طرف الدعوى يكفي لصحة الدعوى؛ فكذا في حق الملك، أما دعوى العبد إنما تصح باعتبار ما له من تأويل الملك في أكسابه لا باعتبار حق الملك؛ وصحة الدعوى متى كانت باعتبار تأويل الملك يشترط قيامه في الطرفين في طرف العلوق والدعوى كما في الأب.

ونظير هذا ما قالوا في المكاتب: إذا باع جارية له فولدت عند المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر صحت دعوته وانتقض البيع؛ ولو ادعاه العبد وباقي المسألة بحالها لا تصح دعوته؛ لأن دعوى العبد باعتبار تأويل الملك فشرط قيامه في الطرفين ودعوى المكاتب باعتبار حق التملك، فيكتفي بقيامه في أحد الطرفين.

(9/375)


الأمة إذا كانت بين مكاتب وحر ولدت، فادعى المكاتب نسب الولد حتى ثبت نسبه منه؛ ضمن نصف قيمة الجارية، ونصف عقرها لشريكه.
والأمة إذا كانت بين حر وعبد تاجر؛ ولدت ولداً؛ فادعى العبد نسب هذا الولد حتى يثبت نسب الولد منه لا يضمن العبد من قيمة الجارية لشريكه شيئاً، والفرق: أن العبد بدعوته لم يفسد على شريكه نصيبه في الجارية؛ لأنه لا يمتنع بيع الجارية في نصيب العبد بالاستيلاد حتى يمتنع البيع (243ب4) في نصيب الشريك، فأما المكاتب بدعوته أفسد على شريكه نصيبه من الجارية؛ لأن نصيب المكاتب من الجارية صارت أم ولد له وامتنع بيعها، فيمتنع البيع في نصيب الشريك أيضاً، فصار مفسداً على شريكه نصيبه فيضمن قيمة نصيبه.
وإذا ادعى المكاتب أمة ابنه والولد حر أو مكاتب بعقد على حرة لم يثبت النسب من المكاتب إلا بتصديق الابن، بخلاف ما إذا كان الأب حراً، فإن عتق المكاتب وملك هذا الولد يوماً من الدهر مع الجارية ثبت نسب الولد منه، وصارت الجارية أم ولد له، وإن كان الابن قد ولد للمكاتب في حال مكاتبته، أو كان المكاتب قد اشتراه فولدت أمة هذا الابن ولداً، وادعاه المكاتب صحت دعوته وصارت الأمة أم ولد له، ولا يضمن مهراً ولا قيمتها؛ لأن كسب الولد المولود في الكتابة والولد المشترى بمنزلة كسبه حتى ينفذ تصرفه فيه، ولو ادعى ولداً من كسبه صحت دعوته، ويثبت النسب منه، ولم يلزمه مهر ولا قيمة كذا ههنا.
إذا ادعى الرجل الحر ولد مكاتبته وليس للولد نسب معروف، ولا للمكاتبة زوج، صحت دعوته صدقه المكاتب أو كذبه، وإنما صحت دعوته لأن رقبة المكاتبة مملوكة لمولاها، فرقبة ولدها تكون مملوكة أيضاً، ودعوى الإنسان في ملك نفسه دعوى صحيحة، ولأنه ليس في تصحيح هذه الدعوى إلا إثبات حق العتق للأم، وحقيقة العتق للولد، والمولى يملك إثبات حقيقة العتق للاخر بالدعوى من طريق الأولى؛ لأن الدعوى أسرع نفاذاً من الإعتاق حتى صحت الدعوى من البائع ومن الأب، ولم يصح الإعتاق منهما، وتخير المكاتبة؛ لأنه ثبت لها جهتا عتق: عتق بجهة الاستيلاد آجلاً بغير بدل، وعتق بجهة الكتابة عاجلاً بعوض، فإن شاءت مضت في الكتابة، وإن شاءت فسخت.
وإن ادعى ولد أمة مكاتبته لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتبة؛ لأن للمولى حق ملك في أكساب المكاتبة، وإنه كافٍ لصحة الدعوى؛ لأن مال المكاتبة في أكسابها من الحق راجح على حق المولى؛ لأن المولى في أكسابه حق الملك، وليس له حق التصرف، وللمكاتب حق الملك، وإذا كان الرجحان لحق المكاتبة كانت العبرة لحق المكاتبة فيشترط تصديق المكاتبة بخلاف ما لو ادعى ولد مكاتبته حيث تصح دعوته من غير أن تصدق المكاتبة؛ لأن حق المولى إذا رجح على حق المكاتبة في نفسها وولدها، فإن الثابت للمكاتبة في نفسها وولدها حق الملك، والثابت للمولى في رقبتها ورقبة ولدها حقيقة الملك؛ حتى ملك إعتاقهما. وإذا كان الرجحان في رقبتها ورقبة ولدها له كانت

(9/376)


العبرة لجانب المولى، فلا يشترط تصديق المكاتبة؛ وهذا الذي ذكرنا جواب ظاهر الرواية.

وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه تصح دعوى المولى ولد أمة المكاتب من غير تصديق المكاتبة، وقاسه على دعوى الأب جارية أبيه فإنه يصح من غير تصديق الابن.

وجه ذلك: أن للمولى في أكساب مكاتبه حق الملك وهذا الحق أقوى من حق الأب في مال الابن، حتى أن المولى لو تزوج بجارية من أكساب مكاتبة لا يجوز، والأب إذا تزوج بجارية ابنه يجوز، ثم الأب إذا ادعى ولد جارية ابنه تصح دعوته من غير تصديق الابن، فلأن تصح دعوة ولد مكاتبه من غير تصديق المكاتب أولى.
وجه ظاهر الرواية: وهو الفرق بين دعوى الأب، وبين دعوى المولى، إن صحة دعوى الأب ما كانت باعتبار حق الملك، فإنه ليس للأب في مال الابن حق الملك عندنا، ولهذا لو تزوج بجارية ابنه يجوز، وإنما جاز باعتبار أن للأب ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، وقد مست الحاجة إلى التملك ههنا صيانة لمائه، فثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته، فتبين أنه استولد ملك نفسه، فلا تتوقف صحة دعوته على تصديق العبد؛ أما المولى فليس له بملك شيء من أكساب المكاتب للحاجة لتصير الجارية ملكاً له مقتضى الاستيلاد، فتبين أنه استولد ملك نفسه، ألا ترى أنه لو أراد أن يأخذ شيئاً من أكسابه لحاجة المأكول والملبوس لا يقدر عليه، فبقيت الجارية مملوكة للمكاتب، لو صحت دعوته إنما صحت باعتبار ما له فيها من حق الملك؛ ولا وجه إليه فيها لأن حقه لا يظهر بمقابلة حق المكاتب؛ لأن حق المكاتب راجح، لأن له حق الملك وحق التصرف، وللمولى حق الملك لا غير، فلا يظهر حقه إلا بتصديق المكاتب.
وفرق بين هذه المسألة وبين البائع: إذا ادعى ولد الجارية المبيعة، وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فإن دعوته تصح من غير تصديق أحد، والفرق: أن دعوى البائع إنما صحت لحصول العلوق في ملكه حتى لو توهم أن العلوق لم يكن في ملكه بأن جاءت لستة أشهر فصاعداً من وقت البيع لا تصح دعوته، وعلى هذا التقدير يظهر أنها أم ولده، وأنه باع أم الولد فلم يصح بيعه، فبقيت على ملكه، فكان مدعياً ولد جاريته، فلم يحتج إلى تصديق أحد، أما ههنا العلوق لم يكن في ملك المولى فتصح دعوته بناءً على ذلك؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا اشترى المكاتب أمة وحبلت في ملكه حتى لو كان العلوق في ملك المولى، بأن كانت الجارية من كسب العبد قبل الكتابة، كاتبه المولى على رقبته وأكسابه، فجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الكتابة، فادعاه المولى صحت دعوته من غير تصديق أحد فثبت أنه لا يمكن تصديق دعوته بناءً على كون العلوق في ملكه لو صحت دعوته إنما تصح باعتبار ما له فيها من حق الملك، لكن حقه لا يظهر بدون تصديق المكاتب على ما مر، فشرط تصديقه لهذا.

فإذا صدقه المكاتب ثبت النسب منه لأن الحق لهما لا يعدوهما، فإذا تصادقا عليه فيما بينهما بهذا الطريق؛ قلنا: إذا ادعى نسب هذا الولد أجنبي وصدق المكاتب الأجنبي

(9/377)


على ذلك يثبت النسب من الأجنبي، ولأنه لما صدق المولى في ذلك فقد ثبت الوطء من المولى بتصادقهما، وبعدما ثبت الوطء بتصادقهما تصح الدعوى من المولى، ويثبت النسب منه؛ لأنه صار مغروراً لما نبيّن بعد هذا إن شاء الله تعالى. وولد المغرور ثابت النسب منه، وعن هذا قال أصحابنا: إذا كان الوطء ظاهراً من المولى جاءت دعوته، صدقه المكاتب في ذلك أو كذبه، وكان الولد حراً بالقيمة، ويغرم المولى قيمة الولد للمكاتب، ويغرم عقرها للمكاتب أيضاً.

فرق بينه وبين الأب: إذا ادعى نسب ولد جارية ابنه، فإنه لا يغرم قيمة الولد ويغرم العقر إلا رواية رواها ابن سماعة أن آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف أن الأب يضمن قيمة الولد، ويضمن العقر كما في المكاتب بمعنى جامع وهو الغرور، فإن الأب صار مغروراً في هذا الاستيلاد لاعتماده دليل الملك في المكاتب وهو ملك الرقبة، وحكم الغرور ما ذكرنا.
أصله: إذا اشترى جارية واستولدها فاستحقت من يده، ووجه الفرق على ظاهر الرواية: أنه ليس للأب في جارية الابن ما يكفي لثبات النسب من حقيقة الملك، أو حق الملك أو دليل الملك أو دليل الحق، إنما الثابت مجرد تأويل باعتبار ظاهر الإضافة، وأنه يكفي لإسقاط الحد، أما لا يكفي لثبات النسب، فلا بد من إثبات الملك في الجارية ليثبت النسب، ولا ملك بدون التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته فتبين أنه وطأ ملك نفسه، والولد يعلق حر الأصل من غير قيمة، ولا يلزمه عقر الجارية، فأما المولى فله في جارية المكاتب ما يكفي لثبات النسب وهو حق الملك، وقد ظهر ذلك الحق بتصديق المكاتب، فلا حاجة إلى إثبات التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه، بل بقيت الجارية على ملك المكاتب، فكان واطئاً ملك المكاتب معتمداً على وجود سبب الملك، ظاناً أنها ملكه، وحكم الغرور ما ذكرنا.
ولا تصير الجارية (244أ4) أم ولد للمولى في الحال إلا رواية رواه ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه فإنها تصير أم ولد له، والفرق على ظاهر الرواية ما ذكرنا أن الأب يملك الجارية مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه، فتبين أنه استولد ملك نفسه فتصير أم ولد له ولا كذلك المولى، فإنه لم يملك الجارية بل يثبت على ملك المكاتب، فلهذا لا تصير أم ولد له للحال، وليس من ضرورة ثبات النسب ثبوت أمية الولد للحال.

قال: وتعتبر قيمة الولد يوم الولادة، فرق بينه وبين ولد الغرور، فإن في ولد المغرور تعتبر القيمة يوم الخصومة.
والفرق وهو أن في مسألتنا لما صدق المكاتب المولى في دعوى الاستيلاد، فقد زعم أن الحرية تثبت من وقت العلوق لأن للمولى حق الملك في أكساب المكاتب، فظهر ذلك عند تصديق المكاتب، وحق الملك كحقيقة الملك في دعوى الاستيلاد، فصار المولى متلفاً الولد على المكاتب من وقت العلوق، ولكن لا يمكن اعتبار قيمته قبل

(9/378)


الولادة إذ لا قيمة للولد قبل الولادة، فيعتبر قيمته في أول أوقات الإمكان، وذلك وقت الولادة؛ لأنه أول وقت لحم له قيمة، فأما المستحق لم يصدق المشتري في الدعوى، والولد علق رقيقاً في حق المستحق إلا أن الشرع أثبت للمشتري ولاية المنع بالقيمة، فكان وقت تقرير النسب، ووقت المنع وقت الخصومة، فاعتبرت قيمته يوم الخصومة.
وفرق بين مسألتنا هذه وبين مسألة المغرور من وجه آخر، فإن هناك لو علم المشتري بحال البائع أنه غاصب لا يثبت الغرور لزوال نسب المغرور، وهو نفاذ الشراء بزعمه، وههنا لو علم المولى بحال الجارية أنها لا تحل له يثبت الغرور أيضاً لبقاء سبب الغرور؛ وهو قيام الملك للمولى في رقبة المكاتب هذا الذي ذكرنا.
إذا جاءت الأمة بالولد لستة أشهر منذ اشتراها المكاتب حتى لو كان العلوق في ملك المكاتب، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها المكاتب فادعاه المولى لا تصح دعوته، ولا يثبت النسب بدون تصديق المكاتب، وإذا صدقه المكاتب حتى ثبت النسب كان عبداً على حاله.
وكذلك إذا اشترى المكاتب غلاماً من السوق، وادعى المولى نسب هذا الغلام؛ لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب، وإذا صدقه وثبت النسب كان عبداً للمكاتب على حاله.

فرق بين هذا وبين الوجه الأول وهو ما إذا كان العلوق في ملك المكاتب، فإن العلوق في ملك المكاتب ما كان لأجل ثبوت النسب بالمولى؛ لأن العتق بالقرابة كالعتق بالإعتاق، ولو أعتق المولى عبداً من أكساب مكاتبه لا يعتق، فكذا إلا بعتق القرابة بهذا الطريق، قلنا: المكاتب إذا اشترى ابن مولاه وهو معروف النسب منه أنه لا يعتق، ولكن حرية الولد باعتبار الغرور، فإنه بنى الاستيلاد على سبب الحق في الجارية وهو يملك الرقبة في المكاتب، وولد المغرور حر بالقيمة، أما إذا لم يكن العلوق في ملك المكاتب، فالمولى لا يصير مغروراً لأنه بنى الاستيلاد على سبب الحق في الجارية، فلهذا لم يعتق الولد.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى عبداً وكاتبه ثم إن المكاتب كاتب أمة له، ثم ولدت المكاتبة ولداً، فادعاه مولى المكاتب فالمسألة على وجوه؛ أما إن كانا صدقاه في ذلك يعني المكاتب والمكاتبة، أو كذباه في ذلك، أو صدقه أحدهما وكذبه الآخر، وأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت أو لأكثر، فإن صدقاه في ذلك أو صدقته المكاتبة يثبت النسب منه، وإن كذباه في ذلك أو كذبته المكاتبة لا يثبت النسب، فالعبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة؛ لا لتصديق المكاتب؛ بخلاف الفصل الأول، فالعبرة هناك لتصديق المكاتب دون أمة المكاتب.

والفرق: أن ولد المكاتبة من كسبها، وقد صارت هي أخص بنفسها ومكاسبها بل المولى أحق بها، فكانت العبرة لتصديق المولى، وإذا صدقه في ذلك ثبت النسب؛ لأن مولى المكاتب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، ولو ادعى أجنبي نسب هذا الولد وصدقه

(9/379)


المكاتب ثبت النسب منه، فههنا أولى، ولأن المكاتبة قادرة على اكتساب سبب يثبت به النسب بأن تزوج نفسها منه، فيثبت به النسب، وهي قادرة على ذلك، فيثبت به النسب، ويجب العقر بها إن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت كتابتها.u
وإن ولدت لأقل من ستة أشهر فالعقر للمكاتب بحصول العلوق في ملكه، ثم هذا الولد يكون مكاتباً مع أمها، ولا يكون حراً بخلاف ولد أمة المكاتب، والفرق أن حرية ولد أمة المكاتب إنما كانت لأجل الغرور ولا غرور هنا، وهذا لأن رقبة المكاتب وإن كانت مملوكة للمولى في الفصلين إلا أن ملك الرقبة إنما يكون سبباً لملك الكسب إذا كان الكسب محلاً للملك، والأمة محل الملك، فإذا صح النسب في محله، وامتنع الحكم لمانع ثبت الغرور، فأما المكاتبة فليست بمحل الملك، فيبطل النسب ههنا لوقوعه في غير محله، فلا يثبت الغرور، ولو ثبت الغرور ههنا إلا أنه لا يمكن القول بحرية الولد ههنا؛ بخلاف ولد أمة المكاتب.
بيانه: وهو أن حرية ولد المغرور تثبت بالقيمة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وتعذر إيجاب القيمة ههنا، لأنها لو وجبت إما أن تجب للمكاتب أو للمكاتبة لا وجه إلى الأول، لأن المكاتب صار كالأجنبي عن أكساب مكاتبته، وولدها من كسبهما، ألا ترى أنه لو قيل: هذا الولد فالقائل يغرم القيمة للمكاتبة لا للمكاتب، ولا وجه إلى الثاني، لأنه لو وجبت القيمة لها وجبت لأجل العتق، فيجب لها ضمان العتق في أولادها، والمكاتب لا يجب له ضمان العتق في أولاده لأن المكاتبة بعقد الكتابة تسعى لتحصيل مقصودها، فكيف تستوجب القيمة لأجلها بخلاف ولد أمة المكاتب؛ لأن هناك لو أوجبنا القيمة للمكاتب بعتق ولد أمته والمكاتب لا يسعى لتحصيل العتق لولد أمته.

فإن قيل: لا بل إيجاب القيمة للمكاتبة ممكن مع تحصيل مقصودها في حرية الولد؛ ألا ترى أن المكاتبة إذا غرت رجلاً فزوجت نفسها منه، على أنها حرة فولدت ولداً كان الولد حراً بالقيمة، وكانت القيمة لها، قلنا: ليس في حرية الولد تحصيل مقصودها؛ لأن مقصودها أن تعتق هي ولدها على وجه تصير وولدها مولى لمولاها، وهناك إذا وجبت القيمة وحكم بحرية الولد بحكم الحرية من الأصل من غير ولاء فلا يكون الولد مولى لمولاها، فلا يكون فيه تحصيل مقصودها فيمكن إيجاب القيمة لها.

فإن قيل: هذا المعنى ليس بصحيح، فإنا إذا أوجبنا القيمة في مسألتنا وحكمنا بحرية الولد حكمنا بحريته من الأصل من غير ولاء، فلا يكون فيه تحصيل مقصودها أيضاً، قلنا: لا بل هو صحيح، لأن مولاه هنا المكاتب، والمكاتب ليس من أهل الولاء، فلم تكن هي قاصدة أن يكون ولدها مولى مولاها، بل تقصد عتق الولد لا غير؛ وإنه حاصل فقد حصل مقصودها فيتعذر إيجاد القيمة بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك مولى المكاتبة من أهل الولاء، فكانت قاصدة عتق ولدها على وجه تصير هي وولدها مولى لمولاها، وهذا المقصود هناك مما لا يحصل، أما هنا بخلافه.
وإذا ثبت أن الولد يكون مكاتباً مع الأم فالمسألة بعد ذلك على وجهين: إن أدت

(9/380)


الأم بدل الكتابة عتقت وعتق الولد معها تبعاً لها، وإن عجزت وردت إلى الرق أخذ المولى ابنها بالقيمة (244ب4) ؛ لأنها لما عجزت صارت أمة للمكاتب والمكاتب من أهل أن يستحق قيمة ولد أمته، فتجب القيمة وهبت الحرية على ما مرَّ، غير أن ههنا لا يحتاج إلى تصديق المكاتب وإن ثبت الحق له لوجود التصديق يوم الدعوى ممن إليه التصديق وتعتبر قيمة الولد ههنا يوم العجز؛ لأن قيمة الولد إنما تجب بمنع الولد واستهلاكه، وذلك لثبوت الحرية في الولد ووقت ثبوت الحرية في الولد وقت عجز المكاتبة، فتعتبر قيمته يوم عجز المكاتبة لهذا قال: ولو كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب لما بينا أن العبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة ولم توجد، ويكون الولد مكاتباً مع أمه إن أدت بدل الكتابة عتقا، وإن عجزت وردت في الرق ثبت النسب من المولى؛ لأنها لما عجزت وردت في الرق صارت أمة للمكاتب، وقد وجد التصديق من المكاتب وظهر أن ولاية التصديق والتكذيب له؛ لانفساخ الكتابة من الأصل وإن كان الولد حراً بالقيمة؛ لأنه لما انفسخت الكتابة من الأصل ظهر تأويل الملك للمولى في الجارية وقت العلوق، وظهر أنه صار مغروراً، غير أنه إن ولدته لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت تعتبر قيمة الولد يوم الولادة، وإن جاءت به لستة أشهر منذ كوتبت تعتبر قيمة الولد يوم العجز.
والفرق: أن في الوجه الأول تيقنا أن العلوق كان في ملك المكاتب سابقاً على عتق المكاتبة، لأن حقها ثبت بالكتابة، والعلوق كان قبل الكتابة، فعند ثبوت النسب يصير المولى مستهلكاً الولد على المكاتب من ذلك الوقت، إلا أنه لا يمكن اعتبار قيمة الولد حال كونه مستحقاً، واعتبرناه في أول أوقات الإمكان وهو ما بعد الولادة.

فأما في الوجه الثاني حصل العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة وبعدما صار المكاتب كالأجنبي عنها فلم يصر المولى مستهلكاً عليه وقت ثبوت حقه، وهو وقت العجز، فاعتبرت قيمته يوم العجز، لهذا يوضح الفرق أن في الوجه الأول لما كان العلوق سابقاً على حق المكاتبة كان العلوق في زمان المكاتبة غير محجور عن التصرف فيها، فعند زوال حق المكاتبة بالعجز يمكن إسناد التصديق إلى وقت العلوق فيثبت النسب وتثبت الحرية من وقت العلوق فصار مستهلكاً الولد من ذلك الوقت.

أما في الوجه الثاني: لما كان العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة كان العلوق في زمان المكاتبة محجوراً عن التصرف فيها، فلا يمكن إسناد التصديق إلى ذلك الوقت بل يبقى مقصوراً على وقت ثبوت حق المكاتب، وهو وقت العجز، فاعتبرت قيمته يوم العجز لهذا، هذا إذا صدقه أحدهما دون الآخر.
وإن كذباه لا يثبت نسب الولد؛ لأن في تكذيبهما تكذيب المكاتبة وزيادة، وقد ذكرنا أن المكاتبة لو كذبته بانفرادها لا يثبت النسب؛ لأنها لما عجزت صارا مملوكين للمكاتب ولا يثبت النسب منه، فههنا أولى.
ويكون الولد مع الأم مكاتبين للمكاتب إن ردت بدل الكتابة عتقاً، وإن عجزت

(9/381)


صارا مملوكين للمكاتب، ولا يثبت النسب لأنها لما عجزت صارا مملوكين، فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، فلا يثبت النسب إلا بتصديق المكاتب، ولم يوجد ههنا تصديق من المكاتب أصلاً.
وأما إذا صدقاه جميعاً ثبت النسب من المولى؛ لأن في تصديقهما إياه تصديق المكاتبة وزيادة، ولو صدقته المكاتبة بانفرادها قد ذكرنا أنه يثبت النسب منه فههنا أولى، بعد هذا ينظر؛ إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كاتبها المكاتب حتى كان العلوق في ملك المكاتب كان الولد حراً بالقيمة؛ لأنهم تصادقوا على أن الولد علق حراً بحكم الغرور، وتكون قيمة الولد للمكاتب لوجوبها بسبب كان قبل الكتابة الثالثة، وتعتبر قيمته يوم الولادة لما قلنا قبل هذا بأن جاءت به لستة أشهر منذ كاتبها المكاتب، والولد مكاتب معها لما مر أنه لا يمكن إثبات الحرية في ولد مكاتبة المكاتب ما دامت مكاتبة تعجز بعد، فإن عجزت حينئذٍ يأخذ المولى الولد بالقيمة، وتعتبر القيمة يوم العجز على ما مر.
عاد محمد رحمه الله إلى الوجه الثاني: وهو ما إذا صدقه المكاتب وكذبته المكاتبة حتى لم يثبت النسب، ثم تعجز المكاتبة بعد ذلك، ولكن أدى المكاتب بدل الكتابة وعتق، فإن كانت المكاتبة جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت ثبت النسب من المولى ويكون حراً بالقيمة، لأن المكاتب لما صدقه في الدعوى وقد جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت فقد أقر أن العلوق حصل حال قيام ملك المكاتب، وحال قيام حق الملك للمولى، وهو إقرار بحرية الولد لمكان الغرور على ما بينا؛ إلا أنه لم يعمل إقراره لأنه مكاتب، والمكاتب لا يملك تحرير ولد مكاتبه، وبعدما ادعى وعتق فهو مصر على ذلك الإقرار، فيعمل إقراره لأن المولى الحر يملك إعتاق ولد مكاتبه، فيملك الإقرار بحريته أيضاً، فيعتق الولد بإقراره ويثبت النسب من المولى؛ لأن الولد لما عتق صار في يد المكاتب المعتق، وقد صدق المكاتب المولى في الدعوى.

ومن ادعى صبياً حراً في يدي إنسان وصدقه صاحب اليد في ذلك يثبت النسب منه ويضمن المولى قيمة الولد، ويكون ذلك للمكاتب لأنه أقر بإتلاف ملك المكاتب عليه وصدقه المكاتب فقد حصل هذا الإتلاف قبل ثبوت حق المكاتبة لما جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت، وهذا إذا كان الولد صغيراً لأنه لا يعبر عن نفسه، فإن كان قد كبر ثم ادعى المولى نسبه وصدقه المولى المكاتب، فالولد حر لما قلنا، ويرجع في حق النسب إلى قول الولد؛ لأن النسب تمحض نفعاً في حقه، وقول من يعبر عن نفسه معتبر فيما ينفعه.
وإن كانت جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ كوتبت لا يعتق الولد، بل يكون مكاتباً مع أمه، ولا يثبت نسبه من المولى أيضاً، أما لا يعتق؛ فلأن العتق في الوجه الأول وهو ما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر إنما جاءت حكماً لإقرار المكاتب بعتق الولد، والمكاتب ههنا لم يصر مقراً بعتق الولد لأنه يحتمل أن العلوق كان بعد الكتابة، والعلوق إذا كان بعد الكتابة لا يثبت حكم الغرور لانعدام محله على ما مرَّ، فلا

(9/382)


يصير مقراً بعتق الولد مع الاحتمال، وإذا لم يعتق الولد لم يصر في يد المولى بل بقي في يد المكاتبة، فيعتبر تصديقها لثبوت النسب بخلاف الوجه الأول، لأن هناك لما عتق الولد صار في يد المكاتب المعتق فيعتبر تصديقه، فقد وجد فثبت النسب، أما ههنا بخلافه.
وإن عجزت المكاتبة بعد ذلك وردت في الرق كان الولد حراً بالقيمة ثابت النسب من المولى؛ لأنها لما عجزت وردت إلى الرق انفسخت الكتابة من الأصل وولد العلوق في التقدير في أمة المكاتب فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، وهي المسألة التي تقدم ذكرها، وإن لم تعجز ولكنها أدت بدل الكتابة عتقت وعتق الولد معها، ولا يثبت نسب الولد من المولى؛ لأن تصديق المكاتب لما لم يعمل قبل عتقها في حق ثبات نسب الولد من المولى فبعد عتقها أولى، إلا أنه إذا كبر الابن وصدق المولى في ذلك فحينئذٍ يثبت نسبه من المولى بتصديقه، ولا تلزمه القيمة لأن الولد حين تعتق الأم لا بدعوى المولى وبعدما عتق بعتق الأم لا تجب قيمته على من ثبت نسبه منه، كمن ادعى نسب معتق إنسان وصدقه المعتق حتى يثبت نسبه منه لا يجب على المدعي قيمته كذا ههنا.
عاد محمد رحمه الله إلى أصل المسألة فقال: المكاتب إذا كاتب أمته، ثم أدى المكاتب بدل الكتابة وعتق، ثم ولدت المكاتبة ولداً فادعاه المولى، فإن ولدت لأقل (245أ4) من ستة أشهر من وقت العتق ولأكثر من ستة أشهر منذ كوتبت فهذا؛ وما لو ولدت قبل عتق المكاتب سواء، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت العتق فادعاه أحدهما؛ لا يثبت نسب الولد من المولى أصلاً؛ لأنه استولدها وليس له فيها حق التملك، ولا تأويل الملك؛ إذ ليس للإنسان في مكاتبة معتقه حق الملك ولا تأويل الملك فكان هذا الولد حاصلاً من الزنا لا يثبت النسب.

وإن زعم المولى أنه تزوجها بعد عتق المكاتب ثبت النسب، أما إذا صدقاه جميعاً فلأنهما يملكان إثبات الفراش عليهما، فكان تصديقهما إياه بمنزلة اكتساب نصيب الفراش، وهما يقدران عليه، فيثبت به النسب، وأما إذا صدقته المكاتبة؛ فلأنها تملك على نفسها بأن تزوج نفسها، ويثبت به النسب وإن كان فاسداً، فصار تصديقها بمنزلة اكتساب سبب الفراش، وهي قادرة عليه، فيثبت به النسب ويعتق الولد لأنه استولد مكاتبة معتقه بحكم النكاح، ومن استولد مكاتبة معتقة بحكم النكاح لا يعتق الولد، بل يكون مكاتباً تبعاً للأم، فإن أدت بدل الكتابة عتقت وعتق الولد معها، وإن عجزت كانت أمة للمكاتب، وولدها عبد للمكاتب لا يأخذه المولى بالقيمة، كما لو كان النكاح ظاهراً وعجزت المكاتبة.
وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب؛ لأنه لا يملك إثبات الفراش عليها أصلاً، ولا يعتبر تصديقه، وإن عجزت المكاتبة بعد ذلك وردت في الرق صارت أمة للمكاتب المعتق، فينفذ إقراره عليها بالنكاح لأنه يملك إنشاء النكاح عليها ويثبت النسب، ولكن لا يعتق الولد كما لو كان النكاح ظاهراً، وإن زعم المولى أن هذا الولد ابنه بوطء كان منه قبل عتق المكاتب، فإن صدقاه جميعاً يثبت النسب من المولى ويكون

(9/383)


مكاتباً مع أمه لأنهم تصادقوا أن العلوق كان والمكاتب مكاتب، ومن ادعى ولد مكاتبة المكاتب واتصل بها التصديق من المكاتبة ثبت النسب وكان الولد مكاتباً مع أمه كذا ههنا، فإن عجزت بعد ذلك وردت في الرق انفسخت الكتابة من الأصل، وتبين أن الدعوى في ولد أمة المكاتب وقد اتصل بها التصديق من المكاتب.

وإن صدقته المكاتبة وكذبه المكاتب ثبت النسب؛ لأن الحق في التصديق لها، وقد وجد والولد رقيق لما مر، وإن عجزت وردت في الرق كان الولد مع أمه مملوكين للمكاتب؛ لأن المكاتب منكر كون العلوق سابقاً على عتقه فيكون منكراً كون المولى مغروراً، وبعد العجز صار الملك له في الجارية والولد، فكانت الجارية المكاتبة بتصديق المولى فيما ادعاه من يده إبطال ملك استحقه المكاتب في الولد، وهي لا تملك ذلك، وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب لما مر، فإن عجزت المكاتبة وردت في الرق أخذ المولى الولد بالقيمة؛ لأن المكاتب مصدق في حق نفسه، وبعد العجز جعلت الحق له، فيعمل تصديقه فيأخذ المولى الولد بالقيمة، وتعتبر قيمته يوم العجز لما مرَّ، وكثير من جنس هذه المسائل، ذكرناها في كتاب المكاتب والله أعلم.
نوع آخر في دعوى أهل الإسلام وأهل الذمة الولد
قال محمد رحمه الله: أمة بين مسلم وذمي جاءت بولد فادعياه، فهو ابن المسلم؛ لأن الدعوى عند اتصال العلوق بالملك بمنزلة البينة، ألا ترى أنه لو انفرد أحدهما بالدعوى يثبت ما ادعاه، كما لو أقام البينة بأن كان الصبي في يد غيرهما، كانت بينة المسلم أولى؛ لأنها أكثر إثباتاً لأنها يثبت النسب بجميع أحكامه ويثبت إسلام الولد، وبينة الكافر تثبت النسب ببعض أحكامه فكذا ههنا فإن كان الذمي قد أسلم ثم جاءت الأمة بولد فادعياه، فهو ابنهما يرثهما ويرثانه سواء كان العلوق بالجارية قبل إسلام الذمي أو بعده؛ لأنهما استويا وقت الدعوى، لأن كل واحد منهما بدعوته يثبت نسب الولد بجميع أحكامه، وإسلام الولد والعبرة بحالة الدعوة، وقد استويا حالة الدعوة، فيقضى بالولد بينهما.

وإذا كانت الأمة بين مسلمين ارتد أحدهما والعياذ بالله ثم جاءت بولد فادعياه، فهو ابن المسلم منهما، علقت قبل ارتداد الآخر أو بعده، لأن العبرة لحالة الدعوى ولا مساواة بينهما حالة الدعوى؛ لأن بينة المسلم تثبت إسلام الولد حقيقة وحكماً، وبينة المرتد تثبت إسلام الولد حكماً لا حقيقة، لأن المرتد إن اعتبر مسلماً في حق بعض الأحكام، فهو كافر على الحقيقة، وإذا صار المسلم أولى بالولد صارت الجارية أم ولد له، وضمن للمرتد قيمتها؛ لأنه يملك عليه نصيبه ويتقاصان في العقر؛ لأن كل واحد منهما أقر بوطء جارية مشتركة.
وإذا كانت الأمة بين مسلم وذمي، ارتد المسلم والعياذ بالله وجاءت الأمة بالولد فادعياه فهو ابن المرتد، لأن المرتد يثبت إسلام الولد حكماً إذا كان لا يثبته حقيقة،

(9/384)


والذمي لا يثبت إسلام الولد لا حقيقة ولا حكماً، فصار المرتد أولى وضمن للذمي نصف قيمتها، لأنه يملك نصيب الذمي، وفي العقر يتقاصان لما ذكرنا.
وإذا كانت الأمة بين يهودي ونصراني ومجوسي جاءت بالولد فادعوه، فهو ولد النصراني واليهودي يرثهما ويرثانه؛ لأن دعواهما أكثر إثباتاً، لأنهما يثبتان للولد بعض أحكام الإسلام من حل الذبيحة والمناكحة.
وإذا كانت الأمة بين مجوسي حر، وبين مكاتب مسلم، فجاءت بولد فادعياه، فهو ابن المجوسي وإن كان ينبغي أن يكون ابنهما؛ لأن في دعوى كل واحد منهما زيادة إثبات ليست في دعوة الآخر، فالمجوسي يثبت النسب بجميع أحكامه، إن كان لا يثبت إسلام الولد، والمكاتب يثبت إسلام الولد إن كان لا يثبت النسب بجميع أحكامه، والجواب: أن الزيادة في جانب المجوسي في نفس ما وقع فيه الدعوى؛ لأن الزيادة في جانبه أحكام النسب، والدعوى وقعت في النسب وأحكامه، والزيادة في جانب المكاتب إسلام الولد، وإنه ليس من أحكام النسب والترجيح أولاً يعتبر بالزيادة فيما وقع فيه الدعوى، ثم عند الاستواء في ذلك يعتبر الترجيح بالزيادة في شيء آخر.

قال: وإذا كانت الأمة بين رجلين مسلمين علقت، ثم إن أحدهما باع نصيبه من الآخر فولدت ولداً بعد البيع لأقل من ستة أشهر فادعياه، فهو ابنهما فقد صحح دعوى المشتري مع دعوى البائع، وفيما إذا كانت الجارية كلها لرجل باعها من إنسان فولدت في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فادعياه؛ كان دعوى البائع أولى.
والفرق: وهو أن تلك المسألة إنما كانت دعوى البائع أولى، لأن دعوته سابقة معنى؛ لأنها دعوى استيلاد إذ العلوق في ملكه؛ ودعوى المشتري دعوى تحرير، إذ العلوق لم يكن في ملكه، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير تقتصر على الحال، وفي هذه المسألة استويا في الدعوى ولم تسبق دعوى أحدهما على دعوى صاحبه، لأن دعوى كل واحد منهما دعوى استيلاد، فإذا استويا في الدعوى في النسب؛ فإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته، ويثبت النسب منه وبطل البيع منه، واشترى المشتري الثمن من البائع، وغرم البائع نصف قيمتها ونصف عقرها والله أعلم.

نوع آخر
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أمة أبقت إلى رجل وأخبرته أنها حرة، وتزوجها أنها حرة، فولدت لها أولاداً، ثم جاء مولاها وأقام البينة على أنها أمته؛ قضى القاضي له بالجارية وبالأولاد إلا أن يقيم الزوج البينة على أنها تزوجته على أنها حرة،

(9/385)


أما القضاء بالجارية؛ لأن الجارية عين ماله، وأما القضاء بالأولاد، فلأن الأولاد فرع الجارية وجزؤها فتكون مملوكة لصاحب الجارية إلا أن يظهر سبب حرية الجزء وذلك (245ب4) ههنا الغرور، غير أن الغرور لا يثبت بمجرد دعوى الزواج بل يشترط إقامة البينة علىه، فإذا أقام الزوج البينة على أنها حرة، فقد ثبت الغرور، فلا يقضى بالأولاد للمولى بل يجعلهم أحراراً بالقيمة؛ لأن ولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة، وهذا لأن ولد المغرور علق حراً في حق المستولد؛ لأنه لم يرضَ برق مائه، وعلق رقيقاً في حق المستحق لأنه متولد من ذات مرقوق، فجعله الشرع حراً بالقيمة نظراً من الجانبين ومراعاة للطريقين.
وطريقه: أن ولد المغرور علق رقيقاً في حق المستحق، فصار الزوج بما ثبت فيه من الحرية حقاً للزوج مانعاً الولد عن المستحق، ومنع الملك على المالك بعد الطلب سبب وجوب الضمان، ولهذا تعتبر قيمة الولد يوم الخصومة؛ لأن وجوب الضمان على المستولد باعتبار منع المملوك عن المالك، والمنع إنما يتحقق عند الخصومة، فتعتبر القيمة يوم الخصومة لهذا؛ وتكون قيمة الولد على المستولد، ولا يكون على الولد ولا في ماله؛ لأن سبب الضمان إنما وجد من المغرور لا من الولد؛ لأن سبب الضمان منع الولد بالحرية، وحرية الولد إنما تثبت من جهة المستولد، وهو اشتراط الحرية عند العقد، فلهذا كان الضمان على المستولد في ماله.

ومن مات من الأولاد قبل الخصومة لا يضمن المستولد شيئاً من قيمته؛ لما ذكرنا أن ولد المغرور علق رقيقاً في حق المستولد، ولو علق رقيقاً في حق المستحق والمستولد بأن كان غاصباً لا يضمن من مات من الأولاد قبل الخصومة، والطلب إنما يضمن من مات منهم بعد الخصوم والطلب فههنا أولى.
ومن قتل منهم خطأ فقضي للأب بديته وقبضها فإنه يقضي عليه بقيمته؛ لأنه سلم له بدل الولد لما قبض الدية، وسلامة البدل كسلامة المبدل، ويضمن قيمة الولد يوم القتل، وكان ينبغي أن يضمن قيمته يوم الخصومة؛ لأن المنع بعد الطلب إنما يتحقق يوم الخصومة ومنع البدل. والجواب: أن يقول: إيجاب القيمة يوم الخصومة ويوم منع البدل متعذر؛ لأنه لا قيمة للولد يوم الخصومة ويوم منع البدل لأنه ميت، والميت لا قيمة له، فاعتبرنا قيمته في آخر يوم يمكن تقويمه إذا منع البدل، وذلك يوم القتل، بخلاف ما لو كان الولد قائماً تقويمه ممكن يوم الخصومة، ويوم المنع ثمة، أما ههنا بخلافه.

وإذا كان لم يقبض شيئاً من دية الولد لا يقضى عليه بقيمة الولد؛ لأنه لم يسلم له الولد لا بنفسه ولا ببدله، فلم يصر هو مانعاً الولد لا بنفسه ولا بمنع بدله، فلهذا لا يقضى عليه بقيمة الولد، وإن قبض من الدية قدر قيمة الولد فإنه يقضي عليه بقيمة الولد لأنه رقيق في حق المستحق حكماً واعتباراً، فإنما يشترط لإيجاب الضمان على المستولد للمستحق أن يسلم له بدله رقيقاً، وقد سلم له ذلك متى قبض قدر قيمته، وإن مات المستولد وعليه ديون كان المستحق أسوة لغرمائه لأن قيمة الولد دين للمستحق على

(9/386)


الميت كسائر الديون، فيكون أسوة لسائر غرمائه.w

قال: ولا يكون ولاء الولد لمولى الجارية، وإن علق رقيقاً في حق مولى الجارية؛ لأنه إنما اعتبر رقيقاً في حق المستحق ليمكن إيجاب الضمان على المستولد لأنه اعتبر حراً في حقه لا يمكن إيجاب الضمان على المستولد، فإنما يظهر رقه على حق المستحق في حق حكم الضمان لا غير، والولاء ليس من إيجاب الضمان في شيء، فلا يظهر رقه في حق هذا الحكم في حق المستحق.
فالحاصل: أن ولد الغرور حر في حق غير المستحق في جميع الأحكام، وفي حق المستحق رقيق في حق حكم الضمان حر في حق ما سواه من الأحكام، وعن هذا قلنا: إن للمستحق أن يضمن المستولد قيمة الولد وإن المستحق ذا رحم محرم من الولد، ولا يجعل حراً من جهة المستحق بالقرابة حتى لا يضمن المستولد أنه إنما اعتبر رقيقاً في حق المستحق في حق حكم الضمان لا غير، وأن يعتق عليه بحكم القرابة ليس من الضمان في شيء فيعتبر حراً في حق هذا الحكم فلا يعتق عليه بالقرابة.
قال: ولو لم يكن للزوج بينة على أنها حرة وطلب يمين المستحق حلفته على ذلك على العلم؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يستحلف فيكون الاستحلاف على العلم؛ لأن هذا استحلاف على فعل الغير.

قال: وإذا اشترى الرجل أمة شراءً فاسداً أو جائزاً أو ملكها بهبة أو صدقة أو وصية فولدت له أولاداً، ثم استحقها رجل فإنه يقضى للمستحق بالجارية وأولادها؛ لأن الأولاد فرع ملكه، فيكون له إلا إذا ثبت من غرور المتولد، ولا بد لذلك من البينة على الشراء أو الهبة أو ما أشبه ذلك، فإذا أقام المشتري بينة على ذلك ثبت غرور المستولد؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه بناءً على دليله وهو الشراء أو الهبة، وهذا هو حد الغرور، وولد المغرور حرّ بالقيمة، فيقضي القاضي للمستحق بالجارية وبقيمة الولد، ويقضي له بعقر الجارية أيضاً، لأن المستولد وطئ ملك الغير وقد سقط الحد لمكان الشبهة فيجب العقر، ولا يرجع المشتري على ملكها بالعقر بائعاً كان أو واهباً عندنا، وهل يرجع عليه بقيمة الولد؟ ففي الشراء يرجع، وفي فصل الهبة ونظائرها لا يرجع.

وعلى هذا إذا نقض المستحق بناء أحدثه المشتري في الأرض المشتراة، أو قلع الأشجار التي غرسها المشتري في الأرض المشتراة هل يرجع بقيمة ذلك على مملكه؟ ففي الهبة وأشباهها لا يرجع، وفي الشراء يرجع.
فالحاصل: أن مجرد الغرور ليس يصلح سبباً للضمان والرجوع، ألا ترى أن من قال لغيره: اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلك وأخذ ماله لا ضمان على المخبر، فقد حصل الغرور، إنما الموجب للضمان والرجوع ضمان السلامة إما نصاً بأن قال لغيره: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فإن أخذ مالك فأنا ضامن لذلك، أو في عقد المعاوضة كما في الشراء وأشباهه من عقود المعاوضات، وهذا لأن البائع بالبيع ضمن سلامة المبيع للمشتري؛ لأن المشتري ضمن له سلامة الثمن فيكون هو ضامناً للمشتري سلامة المبيع؛

(9/387)


لأن هذا عقد معاوضة ومقابلة.

ولأجل ذلك يثبت للمشتري حق الرد بالعيب، ويكون سلامة المبيع ضماناً لسلامة الزوائد بطريق التبعية، ولم يعلم الزوائد للمشتري لما ضمن قيمتها للمستحق، فيرجع على البائع بذلك بحكم الضمان، فأما الواهب، فلم يضمن سلامة الموهوب له ليصير ضامناً سلامة الزوائد بطريق التبعية؛ لأن سلامة المبيع من البائع بمقابلة ضمان صاحبه سلامة البدل، ولا بدل في عقود التبرع حتى يثبت ضمان سلامة المعقود عليه بمقابلته، وإذا لم يثبت ضمان السلامة من الواهب في ضمن العقد ولا لصاحبه، ولم يقل: ضمنت لك سلامة الموهوب لو ثبت حق الرجوع للموهوب له، ثبتت بمجرد الغرور، ومجرد الغرور لا يصلح لذلك.
وإن كان المشتري باع الأمة من رجل آخر وولدت للمشتري الثاني أولاداً ثم استحقها رجل وأخد الجارية، وقيمة الأولاد من المشتري الثاني ورجع المشتري الثاني على بائعه وهو المشتري الأول بالثمن وبقيمة الأولاد رجع المشتري الأول على بائعه بالثمن بلا خلاف، وهل يرجع عليه بقيمة الأولاد؟ فعلى قول أبي حنيفة: لا يرجع، وعلى قولهما: يرجع، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب «البيوع» في فصل الاستحقاق.
قال: وإذا اشترى الرجلان جارية، ثم إن أحدهما وهب نصيبه من شريكه، وولدت له أولاداً، واستحقها رجل وأخذها المستحق، وقيمة الأولاد، رجع المستولد بنصف الثمن، فينصف قيمة الأولاد على بائعه ولا يرجع على الواهب بشيء؛ لأن المستولد صار مغرماً في النصف من جهة البائع فيرجع بنصف الثمن، وبنصف قيمة الأولاد عليه اعتباراً للبعض بالكل، وفي النصف صار مغروراً من جهة الواهب فلا يرجع عليه في ذلك النصف بشيء، كما لو صار مغروراً في الكل من جهته، ويرجع الواهب على بائعه بنصف الثمن؛ لأن المبيع لم يسلم له، ولا يرجع عليه بشيء من قيمة (246أ4) الأولاد؛ لأن الواهب لم يغرم شيئاً من قيمة الأولاد للأخذ.

قال: وإذا اشترى الرجلان أمة من رجل وولدت ولداً وادعاه أحدهما وغرم نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه ثم استحقها رجل قضى القاضي بها للمستحق وبقيمة الولد والعقر لأنه صار مغروراً، والغرور كما يتحقق بقيام الملك في الكل يتحقق بقيام الملك في النصف؛ لأن قيام الملك في نصف الجارية يكفي لصحة الاستيلاد في حرية الأصل للولد، ثم يرجع المستولد على بائعه بنصف الثمن وبنصف قيمة الولد؛ لأنه في نصف الجارية صار مغروراً من جهته ويرجع على شريكه بما أعطاه من نصف قيمة الجارية ونصف عقرها؛ لأن الاستحقاق أظهر أن شريكه أخذ ذلك منه بغير حق، ولا يرجع عليه بنصف قيمة الولد وإن صار شريكه مانعاً نصف الجارية منه؛ لأن هذا البيع من الشريك من غير صنعه، وبيع بيت من غير صنع لإنسان لا يصير البائع به ضامناً سلامة الأولاد للمشتري؛ لأن ضمان سلامة الأولاد كضمان الكفالة، والكفالة لاتثبت في موضع من غير صنع من المالك، أما البيع قد ثبت من غير صنع الملك، فأثبتنا البيع ولم نثبت

(9/388)


الكفالة لهذا ويرجع شريك المستولد على بائعه بنصف الثمن؛ لأنه لم يسلم له المشتري من جهته.
قال: وإذا أخبر الرجل غيره عن امرأة أنها حرة وتزوجها ذلك الغير على أنها حرة وولدت له ولداً، ثم استحقها رجل وجعل القاضي الولد حراً بالقيمة بالطريق الذي مر، فهذه المسألة على وجهين: إن تزوجها المخبر على أنها حرة؛ فالمستولد يرجع بقيمة الولد على المخبر لأنه ضمن له سلامة الولد في ضمن عقد المفاوضة، وإن لم يكن المخبر زوجها منه ولكن المرأة زوجت نفسها على أنها حرة فالمستولد يرجع عليه بقيمة الولد للمعتق، أما أصل الرجوع عليها؛ لأنه صار مغروراً من جهتها، وأما الرجوع عليها بعد العتق؛ لأن ضمان الغرور ضمان قول والأمة محجور عليها، والمحجور لا يؤاخذ بضمان القول للحال وإنما يؤاخذ به بعد العتق.

قال: وإذا اشترى أمّ ولد لرجل أو مدبرة أو مكاتبة من أجنبي غير المولى فوقع عليها فجاءت بولد، فإن على المستولد قيمة الولد والعقر لمولى المدبرة ولمولى أم الولد، وعليه قيمة الولد والعقر لمكاتبه، وهذا الجواب ظاهر في حق المدبرة؛ لأن ولد المدبرة في حق المستحق يصير مدبراً حكماً ضرورة إمكان إيجاب الضمان له كما اعتبر ولد القنة فيما في حق المستحق ضرورة إمكان إيجاب الضمان له فيضمنه المغرور؛ لأن المدبر يضمن بالمنع والغصب، وضمان المغرور ضمان منع وغصب في حق المستحق لا ضمان إعتاق، ولهذا وجب على المغرور قيمة الأولاد موسراً كان أو معسراً.

وفي حق أم الولد هذا الجواب ظاهر أيضاً على قولهما؛ لأن ولد أم الولد يعتبر ولد أم الولد في حق المستحق، وولد أم الولد يضمن بالمنع والغصب، فيضمن بالغرور أيضاً (وهذا) مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن ولد أم الولد لا يضمن بالمنع والغصب عنده كأم الولد، فكيف يضمن بالغرور، وفي المكاتبة هذا الجواب يشكل على قولهم جميعاً؛ لأن ولد المكاتبة في حق المكاتبة يعتبر مكاتباً بمثل حال الأم، إلا أن المستولد قد حصل للمكاتبة ما هو مقصودها من عقد الكتابة في حق الولد، فإن مقصود المكاتبة من عقد الكتابة عتقها وعتق ولدها، ولهذا قلنا: إن المولى إذا أعتق ولد المكاتبة لا يضمن للمكاتبة شيئاً عندهم جميعاً.
وكان يجب أن لا يضمن المغرور للمكاتبة قيمة الولد؛ لأنه حصل للمكاتبة ما هو مقصودها من عقد الكتابة، والجواب: إيجاب ضمان الولد بالغرور ثابت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجمعوا على أن ولد المغرور حر بالقيمة بلا تفصيل، إلا أن إيجاب ضمان الولد في بعض المواضع حصل على موافقة القياس كما في ولد العبد والمدبرة لأن المستولد منع مالاً متقوماً عن المستحق فكان ضامناً بالنص وبالقياس، وفي أم الولد الضمان على قول أبي حنيفة، وفي المكاتبة على قولهم ثابت بإجماع الصحابة، بخلاف القياس من الوجه الذي قلنا، وإثبات الحكم أيضاً بخلاف القياس جائز.
وإن كانت المكاتبة هي الغارة بأن زوجت نفسها منه على أنها حرة، فظهر أنها

(9/389)


مكاتبة، فإن المستولد يضمن للمكاتبة في قول أبي يوسف الآخر، وكان أبو يوسف يقول أولاً: لا يضمن للمكاتبة شيئاً، ووجه ذلك: أن المستولد لو ضمن للمكاتبة قيمة الولد لكان له أن يرجع على المكاتبة ثانياً؛ لأنها هي الغارة، فإيجاب الضمان لها لا يفيد، ثم رجع عن هذا وقال: يضمن قيمة الأولاد لأن التضمين يفيد؛ لأن المستولد يضمن لها للحال لأن ما يجب على المغرور من ضمان الأولاد يجب حالاً، وما يجب على المكاتب من الضمان للمغرور يجب مؤجلاً؛ لأنه ضمان لزم المحجور بالقول؛ لأن هذا الضمان ثبت بالنكاح والمكاتبة محجور على النكاح عند علمائنا الثلاثة، وكل ضمان يلزم المحجور بالقول، فإنه يتأخر إلى ما بعد العتق، فيكون الضمان معتداً.

قال: وإذا باع المكاتب أو العبد المأذون أمة في يدي رجل، فوطئها المستولد ثم ولدت له ولداً، ثم استحقها رجل وجعل القاضي الولد حراً بالقيمة، فإن المشتري يرجع بقيمة الولد على البائع بالكفالة، والمكاتب والعبد المأذون لا يؤاخذان بالكفالة للحال والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة أصلاً؛ لأن هذا الضمان إنما يثبت نسبة البيع، فيكون في حكم ضمان البيع، فكان كالمأذون إذا اشترى جارية ووطئها، ثم استحقت فإنه يضمن العقر للحال، وإن كان المأذون لا يؤاخذ بالمهر للحال؛ لأنه يثبت نسبة الشراء، فكان حكمه حكم الثمن كذا ههنا.

قال وأهل الذمة والمسلمون سواء في الغرور؛ لأن الذمة خَلَفٌ عن الإسلام في أحكام الدنيا وهذا من أحكام الدنيا فيكون الذمي والمسلم فيه سواء.
قال: وإذا ورث الرجل أمة من أبيه، فوطئها فولدت منه ولداً ثم استحقها رجل، فإنه يقضى له بالأمة وبقيمة الولد؛ لأنه حصل مغروراً؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه، وظهر أنها لم تكن ملكه، فإن كان الأب قد اشتراها من رجل كان للأب أن يرجع بالثمن وبما ضمن من قيمة الولد على بائع أبيه.

فرق بين الوارث وبين الموصى له إذا صار مغروراً وضمن قيمة الولد للمستحق، فإنه لا يرجع على بائع الموصي بشيء لا بالثمن ولا بقيمة الولد، والفرق أن الرجوع بالثمن وبقيمة الولد إنما يكون للمشتري أو لنائب المشتري، والموصى له ليس بمشترٍ ولا نائب عن المشتري لأن الموصى له لا يقوم مقام الموصي في حقوقه كأنه هو، ألا ترى أنه لا يرد بالعيب ولا يرد عليه بالعيب، وإذا لم يكن مشترياً ولا نائباً عن المشتري حكماً لم يكن له أن يرجع على بائع الموصي بشيء، وكان هو في الرجوع وأجنبي آخر عن المشتري سواء، فأما الوارث إن لم يكن مشترياً فهو نائب عن المشتري؛ لأن الوارث يقوم مقامه في الحقوق كأنه هو، ألا ترى أنه يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب كالميت سواء، وإذا كان نائباً عنه حقيقة بأن كان وكيلاً عنه.
قال: وإذا أقر المريض في مرضه الذي مات أن هذه الجارية لفلان ووديعة عندي، فوطئ الوارث الأمة بعد موت المورث منه ثم استحقها رجل، فإنه يقضي للمستحق بالجارية وبالولد؛ لأن الوارث لم يصر مغروراً ههنا؛ لأنه وطأ الجارية مع علمه أنها ملك

(9/390)


المقر له، فإن إقرار المريض بكونها عنده لفلان وفلان أجنبي منه صحيح، ولو لم يقر بالجارية لفلان، ولكن قال: هي لي إذ لم تقل: هي لي وعليه دين يحيط بماله، فوطئها الوارث فولدت منه تباع الجارية في الدين ويضمن الوارث قيمة الولد والعقر للغرماء، أما تباع الجارية؛ لأنها لم تصر أم ولد للوارث؛ لأن النائب للوارث في تركة المورث إذا كان عليه دين مستغرق حق الملك لا حقيقة الملك وبحق الملك للمستولد في الجارية لا تصير الجارية أم ولد له، ألا ترى (246ب4) أن المولى إذا ادعى ولد أمة المكاتب وصدقه المكاتب حتى صحت دعوته لا تصير الجارية أم ولد له، بل يثبت فيه للمكاتب بيعها، وإذا لم تصر أم ولد صار الحال بعد الاستيلاد وقبله سواء. وقيل: الاستيلاد تباع الجارية في الدين كذا ههنا، وأما يضمن المستولد قيمة الولد؛ لأنه صار مغروراً؛ لأن بين العلماء خلافاً ظاهراً في وقوع الملك للوارث في التركة المستغرقة بالدين وإن لم نقل بثبوت حقيقة الملك، فقلنا: بثبوت حق الملك ولهذا ملك الوارث استخلاصها لنفسه من موضع آخر.

ولو كان في التركة جارية فتزوجها الوارث لا يصح، وهذا لأن سبب الملك قد تحقق للوارث، وهو ثبوت المورث عن مال إلا أنه لم عمل عمله في حق إيجاب حقيقة الملك للوارث لمانع وهو الدين، فثبت له حق الملك، فيكفي لتحقق الغرور، ألا ترى أن المولى يصير مغروراً في جارية المكاتب، وإنما يصير مغروراً لما لزمها من حق الملك؛ لأن للمولى سبب الملك في أكساب المكاتب، وهو ملك رقبة المكاتب لكن لم يعمل عمله في إفادة حقيقة الملك، وعمل في إفادة الحق، فعلم أن حق الملك يكفي لتحقق الغرور لها بغرم العقر؛ لأن حق الملك لا يسقط العقر، إنما يسقط الحد كما في أمة المكاتب.
ولو جاء رجل وأقام بينة أنها له، قضيت له بالجارية وبالعقر وبقيمة الولد، لأن الوارث مغرور، هذا إذا كان على الميت دين مستغرق. ولو كان الدين على الميت غير مستغرق وباقي المسألة بحالها، فالمستولد لا يضمن قيمة الولد؛ لأن الدين إذا لم يكن مستغرقاً لا يمنع وقوع الملك للوارث في التركة، فكان مستولداً أمة نفسه، فلا يضمن قيمة الولد وإن تعلق بالجارية حق الغير، كالراهن إذا استولد الجارية المرهونة ولكن يضمن قيمتها وعقرها لأن الجارية إن كانت ملكاً للوارث، إلا أنه تعلق بها حق الغريم، فإن الدين بعد الموت يتعلق بالتركة.
ويجوز أن يضمن المالك يتصرف بخدمته في ملكه إذا تعلق به حق الغير، ألا ترى أن الراهن إذا عتق المرهونة أو وطئها، فإنه يضمن جميع قيمتها إذا كان الدين مثل قيمتها أو أكثر، فأما إذا كان الدين أقل من قيمتها، فإنه يضمن بقدر الدين، لأن حق الغريم في قدر الدين، هكذا ذكر في «الكتاب» .

وطعنوا على محمد رحمه الله في المسألة فقالوا: لا معنى لقول محمد: يضمن جميع قيمتها إذا كان الدين مثل قيمتها، وينبغي أن يضمن بقدر ما يتعلق بها من الدين،

(9/391)


فإن بعض الدين يتعلق بها وبعضه يتعلق بغيرها، وهذا بناء على أن الدين إذا لم يكن مستغرقاً للتركة لا يعتبر كل جزء من أجزاء التركة مشغولاً بالدين لأنه لو كان مشغولاً بالدين لكان لا يقع الملك للوارث في التركة كما لو كان الدين مستغرقاً.
والجواب: أن الدين مع أنه لا يكون مستغرقاً فكل جزء من أجزاء التركة يصير مشغولاً بالدين، كأنه ليس معه غيره، لأن احتمال هلاك البعض وتعين الباقي لقضاء الدين قائم، فكان ينبغي أن لا يملك الوارث شيئاً من التركة، كما لو كان الدين مستغرقاً وهو القياس، لكن لم يعتبر هذا الشغل في حق وقوع الملك للوارث ضرورة، فإن الإنسان قل ما يخلوا عن قليل الدين عليه، فلوا اعتبرنا هذا الشغل مانعاً جريان الإرث أدى إلى أن لا يقع الملك في التركات إلا نادراً، وفيه فساد عظيم، فأما فيما عدا وقوع الملك للوارث لا ضرورة، فيعتبر كل جزء من أجزاء التركة مشغولاً بالدين، كأنه ليس معه غيره، ولو لم يكن معها شيء آخر أليس أن الوارث يضمن جميع القيمة إذا استولدها؟ كذا ههنا.

رجل اشترى جارية مغصوبة وهو يعلم بكونها مغصوبة، أو تزوج امرأة على أنها حرة وهو يعلم بكونها أمة واستولدها؛ فالولد رقيق ويأخذها صاحب الجارية، لأن المستولد لم يصر مغروراً ههنا حيث علم بحقيقة الحال.

ولو اشتراها وهو يعلم بكونها ملك غيره، فقال البائع: إن صاحبها وكلني ببيعها أو مات وأوصى إلي، فباعها منه على ذلك، فاستولدها ثم حضر المالك وأنكر الوكالة؛ فله أن يأخذها وقيمة الولد؛ لأن المشتري صار مغروراً ههنا، لأنه وطئها على تقدير أنها ملكه؛ لأن قول الواحد حجة في المعاملات وما أخبر به لو كان حقاً كانت الجارية مملوكة للمشتري، ثم يرجع المشتري على البائع بالثمن، وبما غرم من قيمة الولد؛ لأن البائع صار ملتزماً له سلامتها وسلامة أولادها بالطريق التي تقدم ذكرها فيما أخبر أنه سمع ملكه.
ولو أن رجلاً وكل رجلاً أن يشتري له جارية فاشتراها ونقد الثمن من مال الموكل، فاستولدها الموكل ثم استحقت أخذها المستحق وأخذ قيمة الولد وعقر الجارية من المستولد لا من الوكيل؛ لأن الموكل من وجه كالمشتري من الوكيل باعتبار الملك؛ لأن الوكيل نائب عنه في حق الملك. ومن وجه كالمشتري من الوكيل باعتبار الحقوق، ولأن الوكيل بالشراء في حق الحقوق كأنه اشترى لنفسه ثم باع من موكله، وأي الأمرين ما اعتبرنا، فإن المستحق يضمن المستولد، ويرجع المستولد وهو الموكل بالثمن، وقيمة الولد على البائع، والوكيل هو الذي يلي الخصومة في ذلك مع البائع، لأن الموكل كالمشتري بنفسه من البائع من وجه.
فمن حيث إنه كالمشتري بنفسه من البائع يستحق الضمان في ذمة البائع، لا في ذمة الوكيل، ومن حيث إنه كالمشتري من الوكيل، يكون الطالب بائعاً ذلك هو الوكيل توقيراً على الأمرين حفظهما بقدر الممكن، فإن أنكر البائع البيع من المستولد، أوقال: لم يشتر هذا مني، فأقام المستولد بينة أن فلاناً اشترى هذه الجارية من هذا الرجل بأمري، ونقد

(9/392)


الثمن من مالي، صار المشتري مغروراً من جهة البائع، وكان له الرجوع على البائع بالثمن، وقيمة الولد والوكيل هو الذي يلي الخصومة في ذلك.

وإن شهد الشهود للمستولد على الشراء، أو لم يشهدوا على أن المستولد أم المشتري بذلك، وإنما شهدوا أن المشتري أقر أنه اشتراها لفلان، فهذا على وجهين:
الأول: أن يشهد الشهود أن المشتري أقر قبل الشراء أو في حالة الشراء أنه يشريها لفلان، وفي هذا الوجه يصير المستولد مغروراً من جهة البائع، وكان له الرجوع بقيمة الولد على البائع؛ لأن الإقرار بالتوكيل حصل في حال يصح التوكيل، فصح الإقرار به، وإذا صح الإقرار به صارت الوكالة الثابتة بالإقرار كالثابت بالبينة، ولو ثبتت الوكالة بالبينة كان للمستولد أن يرجع بقيمة الولد كذا ههنا.
الوجه الثاني: أن يشهد الشهود أن المشتري أقر بعد الشراء أنه اشتراها لفلان، وفي هذا الوجه لا يكون للمستولد الرجوع على البائع بالثمن وبقيمة الولد، لأن إقرار المشتري بالوكالة في هذا الوجه لم يصح؛ لأنه أقر بها في حال لا يصح التوكيل، وإذا لم يصح هذا الإقرار لم يثبت الأمر، فلم يصر المستولد مشترياً من البائع بوجه من الوجوه، فلا يصير مغروراً من جهته، فلا يكون له حق الرجوع على البائع لا بالثمن ولا بقيمة الولد.
رجل استولد أمة واستحقها رجل فقال المستولد: اشتريتها من فلان بكذا وكذا ونقدته الثمن، وصدقه فلان في ذلك، وكذبهما المستحق فالقول قول المستحق؛ لأن استحقاق غير الولد ظاهر للمستحق، وهو استحقاق الجارية، فالمستولد مع البائع يريدان إبطال حقه عن غير الولد، فلا يصدقان على ذلك، ولكن يحلف المستحق بالله ما يعلم أنه اشتراها من فلان؛ لأنه لو أقر به كان الولد حراً بالقيمة، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول الذي هو إقرار.
ولو أن المستحق أقر بهذا الشراء وجحده البائع كان الولد حراً، وعلى المستولد قيمة الولد؛ لأن المستحق مع المستولد تصادقا على حرية الولد وعلى وجوب قيمته على المستولد وتصادقهما حجة في حقهما، ولكن لا يرجع المستولد على البائع بشيء.

ولو جحد المستولد والبائع البيع والشراء وأقر به المستحق؛ كان الولد حراً بإقرار المستحق، فلا يجب على الأب قيمة الولد؛ لأن المستحق أقر بحرية الولد، وإنه إقرار على نفسه يصح، وما كان على غيره لا يصح.
m
وإذا كان للرجل ألف درهم في يدي رجل مضاربة بالنصف، فاشترى المضارب بها جارية (247أ4) تساوي ألف درهم، فوقع عليها المضارب فولدت، ثم استحقها رجل كان الولد حراً بالقيمة، فيأخذ المستحق عين الجارية، ويأخذ عقرها وقيمة الولد من المضارب؛ لأن المضارب وطئها على حسبان أن ربعها وذلك حصته من الربح ملكه وإنه يكفي لعلوق الولد حر الأصل، فلم يصر راضياً برق ماله فكان مغروراً، ثم يرجع المضارب على البائع بالثمن، وذلك ألف ويكون على المضاربة كما كان؛ لأنها مال بدل المضاربة، ويرجع أيضاً بقيمة الولد على البائع؛ لأنه صار مغروراً من جهة البائع في ربع

(9/393)


الجارية؛ لأنه اشترى الربع منها لنفسه، ويكون ذلك للمضارب خاصة، ولا يكون على المضاربة؛ لأنه عوض عما أدى بمقابلة الولد، وما أدى بمقابلة الولد كان ماله ولم يكن مال مضاربة، ولا يرجع المضارب بثلاثة أرباع قيمة الولد على البائع؛ لأنه اشترى بثلاثة أرباع الجارية من البائع لنفسه، والمضارب اشترى من ربعها، ولو كان كذلك لكان لا يرجع بذلك المضارب على البائع إلا بربع قيمة الولد كذا ههنا.

وأما لا يرجع بذلك على رب المال وإن اشترى ثلاثة أرباع الجارية من رب المال؛ لأن هذا الشراء ثبت بينهما لا بصنع من جهة رب المال، وفي مثل هذا لا يصير البائع ضامناً سلامة الأولاد للمشتري على ما مر.

وإذا لم يكن للمضارب أن يرجع على رب المال بشيء من قيمة الولد؛ لأنه لم يوجد منه شيء من قيمة الولد، هذا إذا كان في قيمة الجارية فضل على رأس المال بأن كانت قيمة الجارية ألف درهم وباقي المسألة بحالها، فإن المستحق يأخذ الجارية وولدها؛ لأن المضارب لم يصر مغروراً ههنا؛ لأنه وطىء الجارية مع علمه أنه لا ملك له فيها؛ هذا إذا استولدها رب المال، ثم استحقت الجارية كان الولد حراً بالقيمة، سواء كان فيها فضل على رأس المال بأن كانت قيمتها ألفي درهم أو لم يكن بأن كانت قيمتها ألف درهم؛ لأن المولى وطئها على أن جميعها ملكه إن لم يكن فيها فضل، وعلى أن ثلاثة أرباعها ملكه إن كان فيها فضل فصار مغروراً، ثم يرجع على البائع بالثمن وبجميع قيمة الولد إن لم يكن لها فضل، والمضارب هو الذي يلي الخصومة في ذلك؛ لأن المضارب صار مشترياً كل الجارية لرب المال إذا لم يكن فيها فضل وهذا وفضل الوكيل سواء.
ثم إذا رجع المضارب على البائع بالثمن وبقيمة الأولاد فقيمة الأولاد لا تكون للمولى خاصة، والثمن يكون على المضاربة، وإن كان فيها فضل فرب المال يرجع عليه بالثمن وبثلاثة أرباع قيمة الولد؛ لأن المملوك له من جهة البائع هذا القدر، وذلك قدر رأس المال وحصته من الربح، فأما الربع الآخر فقد اشتراه المضارب لنفسه، وإنما صار رب المال مغروراً من جهة البائع في ثلاثة أرباع الجارية، فيرجع عليه بقيمة ثلاثة أرباع الولد لهذا، ويكون ذلك لرب المال خاصة.
رجلان اشتريا أمة من وصي يتيم واستولدها أحدهما، ثم استحقت الجارية كان الولد حراً بالقيمة ورجع المشتري على الوصي بنصف قيمة الولد؛ لأنه صار مغروراً من جهته في نصف الجارية؛ لأنه اشترى منه نصف الجارية، ولا يرجع بنصف قيمة الباقي من الولد على شريكه وإن صار مشترياً النصف الباقي من شريكه؛ لأن البيع بينهما حصل من غير صنع من الشريك، ثم يرجع الوصي بذلك في مال اليتيم؛ لأنه كان عاملاً لليتيم في هذا البيع.

وكذلك الجواب فيما إذا كان البائع أب الصغير، فهو والوصي في حكم الرجوع في مال الصغير على السواء، وكذلك الجواب فيما إذا كان البائع وكيلاً أو مستبضعاً كان له

(9/394)


الرجوع بما لحقه من العهدة على من وقع البيع له.

وكذلك إذا كان البائع مضارباً ولم يكن في الجارية فضلاً، رجع بجميع ما لزمه من قيمة الولد على رب المال، فأما إذا كان في الجارية فضل فإنما يرجع على رب المال من قيمة الولد (للمشتري) بقدر رأس المال، وحصته من الربح؛ لأن بذلك القدر صار عاملاً لرب المال في بيع الجارية، أما بقدر حصة المضارب من الربح، فالمضارب عامل فيه لنفسه فلا يرجع بذلك على رب المال.
قال: ولو كفل رجل للمشتري بما أدرك به من درك لم يرجع على الكفيل بشيء من قيمة درك في الولد لأبي الجارية، وهو لم يكفل به حتى لو كفل به بأن قال: كفلت لك ما أدركك في الولد والجارية يرجع عليه بذلك أيضاً.
قال: ولو أن أمة غرت من نفسها رجلاً أخبرت أنها أمة لهذا الرجل، واشتراها منه على ذلك واستولدها ثم استحقت، رجع المستولد بالثمن وقيمة الأولاد على البائع دون الأمة؛ لأن رجوع المستولد بحكم التزام ضمان السلامة في ضمن البيع، والمباشر للبيع البائع دون الأمة، الموجود من الأمة مجرد الاختيار، وإنه لا يوجب الرجوع على ما مر.

قال: حرة ولدت ولدين في بطن واحد فكبرا واكتسبا مالاً، ثم مات أحدهما وترك ابناً، ثم جاء رجل وادعى أنه زوج المرأة وأنهما ابناه، وأقرت المرأة بذلك وجحد الابن الباقي وابن الابن، فإن الرجل والمرأة يصدقان على أنفسهما دون غيرهما، فثبت النكاح بينهما بتصادقهما ويدخل في نصيب من الميراث، فإن أقر الابن الباقي بدعوى الرجل ثبت نسبه بإقراره، ومن ضرورة ثبوت نسبه ثبوت نسب الميت، لأنهما توأمان، فيثبت نسبهما، ولكن لا يرث هذا مع ابن الميت شيئاً، لأن الابن الباقي غير مستحق بشيء من ميراث الميت، فتصديقه في حكم الميراث وتكذيبه سواء، والميراث ينفصل عن الميت في الجملة، ألا ترى عند الرق واختلاف الدين النسب ثابتة والميراث غير ثابت، وألا ترى أن أحد الأخوين إذا أقر بأخ فالشركة في الميراث ثابت، والنسب غير ثابت، وإذا كان أحد الحكمين منفصلاً عن الآخر في الجملة لم يكن من ضرورة ثبوت النسب بإقراره استحقاق الإرث.
وإن أقر ابن الابن الميت بدعوى الرجل وقد احتلم، ثبت نسب ابنه من الرجل المدعي، لأنه في التصديق قائم مقام ابنه، وثبوت نسب ابنه يقتضي ثبوت نسب الابن الحي ضرورة، ويرث الرجل مع ابن الميت؛ لأن الحق في الميراث لابن الابن الميت،

(9/395)


وقد أقر له ببعض ما أصابه من ميراث ابنه، فيؤمر بتسليمه إليه.
ولو أن أمة ولدت ولدين في بطن واحد، فاشترى رجل أحدهما وأعتقه، ثم مات المعتق فورثه مولاه، ثم اشترى رجل آخر الابن الباقي من أمه فادعى أنه ابنه ثبت النسب منه، وإن كان كبيراً لا يقر بذلك؛ لأنه عبده فلا يحتاج إلى تصديقه في إثبات النسب منه، ويثبت نسب الميت منه أيضاً، ولا يكون له الميراث الذي أقره المولى، أورد هذا أيضاً.... لعدم أنه ليس من ضرورة النسب استحقاق الإرث.

في «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ورث جارية أبيه، ولم يكن يعرف حالها عند الأب لم يكن يعرف أنه اشتراها، فأولدها الابن ثم استحقها رجل، فإنه يأخذها ويأخذ ولدها معها كذا ههنا، وقد مر قبل هذا بخلاف هذا.
وكذلك قال في رجل عنده أمة لا يعرف حالها عنده باعها من رجل، ثم ذلك الرجل باعها من رجل آخر، ثم اشتراها الأول وأولدها ثم استحقها رجل، أخذها المستحق وولدها من قبل أنه ليس بمغرور، إنما خرج الأصل عنه.
وفي «المنتقى» : رجل أمر رجلاً بأن يشتري (247ب4) له جارية ثم إن الآمر وهب الجارية للمشتري، فولدت ولداً ثم استحقت أخذها المستحق وعقرها وقيمة ولدها، ولا يرجع الواطىء على البائع بشيء؛ لأنه اشتراها لغيره.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى أمة ولدت منه ولداً، فجاء رجل، وأقام بينة أن هذه الأمة له ولفلان، وقضى القاضي لهذا الرجل بنصف الأمة وبنصف عقرها، وبنصف قيمة ولدها، ثم جاء شريكه وقد ماتت الأمة، فإنه يأخذ من الذي كانت الأمة في يده نصف قيمة الأمة ولا عقر له إذا أخذ نصف القيمة، ثم يأخذ المهر والله أعلم.

نوع آخر
ادعى رجل أرضاً في يدي رجل بهذه العبارة: إن هذه الأرض كانت في يدي، وإن صاحب اليد أحدث يده عليها وأخذها مني، وأنكر ذو اليد إحداث اليد، فأقام المدعي بينة...... عليها وأخذها منه، فقصر القاضي يده عن الأرض وسلمها إلى هذا المدعي، ثم إن كان الذي كانت الأرض في يده........ وحقّه، وفي يد هذا الذي أخذه الآن بغير حق وأقام على ذلك بينة؛ فالقاضي يقضي بالأرض له، ويعيدها......... هذه البينة.
هكذا حكى فتوى بعض مشايخ سمرقند، وهذا لأن القاضي لو لم يقضِ له إنما لم يقضِ لأنه صار مقضياً عليه، إلا...... (1) صار مقضياً عليه بالملك في الأرض إنما صار مقضياً عليه بإحداث اليد، وههنا الحاجة إلى القضاء له بالملك، وهو ما صار مقضياً عليه بالملك.

(9/396)


سئل نجم الدين النسفي رحمه الله: عن رجل ادعى أرضاً في يدي رجل أنها ملكه، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: هي ليست بملكي، إنما هي وقف على كذا وأنا متوليها، فطلب القاضي من المدعى عليه بينة على ما قال، فلم يمكنه إقامة البينة على ما قال، فأمر القاضي المدعى عليه بتسليم الأرض إلى المدعي لتكون في يده، إلى أن يقييم البينة على ما قال، قال: كل ذلك خطأ، ليس ينبغي للقاضي أن يطلب البينة من المدعى عليه على مقالته، ولا أن يأمر المدعى عليه بتسليم الأرض إلى المدعي، وإنما على المدعي إقامة البينة على دعواه الملك على المدعى عليه، وبينته على ذلك على المدعى عليه مقبولة، لأنه متولٍ بزعمه، والمتولي خصم لمن يدعي الملك لنفسه في الوقف.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله قال هشام: سألت محمداً عن رجل في يده دار ادعاها رجل وقدم صاحب اليد إلى القاضي، فأقر صاحب اليد أنه اشترى هذه الدار من هذا المدعي وادعى أنّ له بينة، هل يؤمر صاحب اليد بتسليم الدار إلى المدعي بحكم هذا الإقرار؟
قال: أما في القياس فنعم، ولكن أدع الدار في يده استحساناً، وآخذ منه كفيلاً وأؤجله إلى ثلاثة أيام، فإن أحضر بينة وإلا قضيت عليه.
وفيه أيضاً قال خلف بن أيوب: سألت شداداً عمن مات وترك مئتي درهم، فأقام رجل البينة بمئة درهم، وقضى القاضي له بها، ثم جاء رجل آخر وادعى مائة درهم على الميت، وأنكر الورثة ذلك، ولا بينة للمدعي، فأقر الذي قضي له بالمئة لهذا المدعي الذي أنكرت الورثة، ما حكم هذه؟ قال: المائة التي أخذها المقضي له تكون بينهما نصفين؛ لأن المقضي أقر أنه غريم مثله، وأن دينهما سواء وإقراره حجة في حقه، قال خلف: وبه أخذ والمسألة مسطورة في الكتب

في «فتاوى أبي الليث» أيضاً: رجل في يديه نصف دار؛ جاء رجل وادعى أنه وقف هذه الدار وكانت له يوم وقفها، وشهد الشهود بوقفيته جميعاً، والشهود شهدوا على موافقة دعواه، أكثر ما فيه أن في يد المدعى عليه نصفها، ولكن هذا النصف دخل في الدعوى ودخل في الشهادة أيضاً فتقبل الشهادة عليه، وهو نظير دار في يدي رجلين، ادعى رجل على أحدهما ملكية جميع هذه له، وشهد له الشهود بذلك تقبل شهادتهما على ما في يد هذا المدعى عليه، وطريقه ما قلنا.
وفيه أيضاً: رجل زوج ابنه امرأة وسمى لها منزلاً، وباعها منه بيعاً صحيحاً، ثم إن هذا الرجل مات، وادعى ورثته أن أباهم باع هذا المنزل من فلان قبل أن يسميه لها، فإنهم لا يصدقون على ذلك والميراث لها، وعلى فلان أن ما يقم البينة على ميراثه بتاريخ قبل تاريخ شراء المرأة، ولا تقبل شهادة الورثة في ذلك، لأنهم بشهادتهم يريدون إبراء أنفسهم عن عهدة شراء المرأة، فإن المرأة لو وجدت المنزل عيناً ردته عليه وخاصمتهم، فكانوا متهمين في هذه الشهادة.

(9/397)


في «فتاوى الفضلي» : ادعت مهرها على ورثة زوجها، وأنكر الوارث ذلك، فالقاضي يسأل عن مقدار مهر مثلها، ويذكر ذلك المقدار للورثة، ويقول: أكان مهرها كذا، فإن قالوا: لا، فالقاضي لا يصدقهم على ذلك ويقضي عليه بذلك المقدار؛ لأن ذلك القدر ثابت بحكم الظاهر، ويحلفهم على الزيادة، قال: وهو نظير ما لو أقر رجل بغصب مال، فالقاضي يقول: أهو درهم؟ فإن قال: نعم، فالقاضي يصدقه، ويقضي عليه بذلك ويحلفه على الزيادة كذا ههنا.

شاهدان شهدا على رجل بقرض ألف درهم، وشهد أحدهما أنه قضاها، وقال المدعي: لم يقضها، فالشهادة على القرض جائزة، ويقضي القاضي للمدعى عليه بالقرض، كذا ذكر في «الجامع الصغير» . وذكر الطحاوي عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا يقضى بالقرض؛ لأن الذي شهد بالقضاء لم يشهد بمال واجب في الحال. وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن القضاء لا يتصور إلا بعد سابقة الوجوب، فهما اتفقا على القرض والوجوب، فثبت ذلك باتفاقهما عليه، ثم تفرد أحدهما بالقضاء فلم يثبت القضاء.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي: عمن يدعي على رجل مالاً، وشهد له شاهدان بالمال وبقضائه، والمدعى عليه لا يدعي القضاء، قال: القاضي يقضي على المدعى عليه بالمال، وعلى قياس ما ذكره الطحاوي: ينبغي أن لا يقضى؛ لأنهما ما شهدا بمال واجب في الحال.
وفي «مجموع النوازل» : رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنه له، ولم يقم البينة حتى باعه صاحب اليد من رجل بيعاً صحيحاً بمحضر من الشهود، ولم يسلم العبد إلى المشتري حتى أقام المدعي البينة على المدعى عليه، وقضى القاضي له بالعبد، فلو أن هذا المشتري باع هذا العبد من المدعى عليه أو وهبه منه جاز، وهذا هو الحيلة لدفع العبد إلى المدعى عليه.

هكذا ذكر المسألة في «مجموع النوازل» ، وما ذكر من المدعى عليه إذا أقام البينة أن العبد عبده اشتراه من المدعى عليه تقبل بينته، ويقضى بالعبد له خطأ لا وجه إلى تصحيحه؛ لأن المشتري يدعي تلقي الملك من جهة المدعى عليه، والمدعى عليه صار مقضياً عليه بالملك المطلق، والقضاء بالملك المطلق على إنسان قضاء عليه، وعلى من تلقى الملك من جهته، والإنسان متى صار مقضياً عليه في حادثة كيف يصير مقضياً له في عين تلك الحادثة؟ فقبول البينة من المشتري في هذه الصورة خطأ، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في الباب الثاني من «دعوى الجامع» .
ادعى مال من أحدهما معلوم والآخر مجهول، والشهود شهدوا بالمالين جميعاً، لا شك أنه لا تقبل الشهادة على المجهول، وهل تقبل على المال المعلوم؟ اختلف المشايخ فيه.
الشهادة إذا قامت على الإثبات (248أ4) وفيها نفي، نحو أن يقول في باب

(9/398)


النكاح: هذا غلام نتج عنده، هذه الدابة نتجت عنده، ولم يزل ملكاً له، هل تقبل؟ فيه اختلاف المشايخ، والأصح أنها تقبل.
استحق دابة من يدي رجل، وقال المستحق في دعواه: غابت الدابة مني منذ سنة، فقبل أن يقضي القاضي بالدابة للمستحق أخبر المستحق بائعه عن القصة، فأقام البائع بينة أن الدابة ملكه منذ عشرين سنة قضى القاضي بالدابة للمستحق؛ لأن المستحق ما ذكر تاريخ الملك في الدابة، إنما ذكر تاريخ غيبة الدابة، بقي دعواه الملك من غير تاريخ، والبائع ذكر تاريخ الملك، ودعواه دعوى المشتري؛ لأن المشتري تلقى الملك من جهة، فصار كأن المشتري ادعى ملك بائعه بتاريخ عشرين سنة، غير أن التاريخ لا عبرة له حالة الانفراد عند أبي حنيفة، فسقط اعتبار ذكر تاريخ غيره، وينفي الدعوى في الملك المطلق، فيقضي بالدابة للمستحق لهذا.
وكذلك إذا قال المستحق في دعواه: غابت الدابة مني منذ سنة، وقال المدعى عليه: إنها كانت في يده منذ عشر سنين أو ما أشبه ذلك، وأقاما البينة قضي بالدابة للمستحق، لأنهما ذكرا تاريخ الملك في الدابة، وكان دعواهما في الدابة دعوى مطلق الملك، فيقضى بها للمستحق لهذا.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل مات وترك ابنين ودارين، فادعى رجل إحدى الدارين أنه غصبها أبوهما وحلفهما على ذلك، فحلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين، قال: أقضي للمدعي بنصف الدار حصة الذي نكل عن اليمين ووسَّع المدعي حصة الناكل عن اليمين من الدار الأخرى، فيأخذ من ذلك نصف قيمة الدار التي ادعاها من قبل، لأن نكوله إقرار أن أباه غصب الدار، وأن على ابنه ديناً في.... ولا ميراث له من الأخرى حتى يؤدي ما أقر به من غصب أمه، ولو لم يدع المدعي غصباً، وادعى أن الدار له لم يكن له على الناكل ضمان النصف الأخرى.

وفي كتاب «الرقبات» : أن ابن سماعة كتب إلى محمد بن الحسن في رجل ادعى عبداً في يدي رجل، وأقام بينّة أن هذا العبد كان لفلان بن فلان وسمى رجلاً غائباً، وأن فلاناً أقر أنّه لهذا المدعي، والذي في يديه العبد منكر دعواه ويدعي رقبة العبد، والمدعي يقول: صدق الشهود قد أقر فلان لي بالعبد، ولكني ملكته من جهته بهبة أو صدقة أو شراء منه، قال محمد: لا يستحق بهذا شيئاً حتى يقيم البينة على هبة أو قبض أو شراءٍ بثمن معلوم، فإذا أقام البينة على ذلك نفذ القاضي الثمن وقضى له بالعبد، وكذلك إن قال المدعي: صدق الشهود، ولم يزد على ذلك، ولم يدع هبة ولا شراء.
ولو كان المقر حاضراً والعبد في يده فقال المدعي: قد كان هذا الغلام لهذا الذي في يديه، وقد أقر لي به فقال الذي في يديه: صدق لم (يستحق) المقر له بذلك شيئاً حتى يقر له بهبة أو قبض أو ما أشبه ذلك.

(9/399)


ادعى محدوداً في يدي رجل وقال: إنها خمس دبرات أرض وبين حدودها، فإذا في يدي المدعى عليه محدود بهذه الحدود، إلا أنها أربع دبرات أرض؛ لا تبطل الدعوى لجواز أن هذا المحدود وقت الدعوى كانت خمس دبرات أرض في الوجه الذي قاله؛ إلا أن المدعى عليه بعد ذلك هدم المستساب، فصارت أربع دبرات أرض، وبمثله لو ادعى محدوداً في يدي رجل، وقال: إنها خمس دبرات أرض خالية من الأشجار، فأذن في يد المدعى عليه خمس دبرات أرض فيها الأشجار، أو على المستساب الأشجار، ولكن هي بهذه الحدود لا تسمع الدعوى، ولو كان قال: فيها الأشجار فإذا هي خمس، وأن لا أشجار فيها؛ تسمع الدعوى لجواز أنه كان في هذا المحدود أشجار وقت الدعوى، إلا أن المدعى عليه قلع الأشجار ثم إن المدعى عليه غرس الأشجار وكثرت الأشجار، ويعرف عن هاتين المسألتين كثير من المسائل.
عين في يدي رجل جاء رجل واستحق هذا العين من يدي صاحب اليد، وأراد صاحب اليد أن يرجع على بائعه بالثمن، ثم إن صاحب اليد قال لابن البائع: قد كنت اشتريت منك هذه العين بكذا، وأرجع عليك بذلك الثمن، تسمع دعواه الثاني، ويرجع عليهما بالثمنين جميعاً لجواز أنه اشترى من البائع، ثم جاء ابن البائع وادعى العين لنفسه، فاشترى منه ثانياً، فعند الاستحقاق يرجع بالثمنين جميعاً، وإن كان الصحيح أحد الشراءين إلا أن الرجوع بالثمن عند الاستحقاق يعتمد صورة الشراء ودفع الثمن، لا صحة الشراء لا محالة.

وفي «مجموع النوازل» : امرأتان ولدت كل واحدة منهما ابناً في ليلة مظلمة، ثم ادعيا ابناً واحداً بعينه، وقالت كل واحدة: هذا هو الابن الذي ولدته، فإن الولد الذي ادعياه ابنهما، والولد الآخر يربى من بيت المال هكذا ذكر، وإنه مشكل عندنا، وقد ذكر في كتاب «الدعوى» من الأصل، وفي كتاب اللقيط: أن المرأتان إذا ادعتا نسب ولد وأقامت كل واحدة رجلين، أو رجل وامرأتين فعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يثبت نسبه من واحدة منهما، وعلى قول أبي حنيفة يثبت نسبه منهما. وإذا أقامت كل واحدة منهما امرأة واحدة ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقضى لواحدة منهما بهذه الحجة عند أبي حنيفة، وذكر في رواية أبي حفص أنه يقضى بالولد بينهما، ولو لم يكن لواحدة منهما حجة لا يقضى بنسب الولد بينهما بلا خلاف، وقد أثبت النسب منهما ههنا بمجرد الدعوى، فما ذكر في «مجموع النوازل» يخالف الرواية.

قال في «مجموع النوازل» : ولو كان أحد الولدين ذكراً والآخر أنثى ادعت كل واحدة منهما الابن، وبقيت الابنة، يوزن لبنهما، فيجعل الابن للتي لبنها أثقل.
وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف: في رجل ادعى عبداً في يدي رجل

(9/400)


وقال: بعتني هذا العبد بألف درهم ونقدتك الثمن، وجحد البائع البيع وقبض الثمن، وشهد شاهدان على إقرار البائع بالبيع وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد، ولكن البائع قال لنا: اسم عبدي زيد، فشهد شاهدان آخران أن هذا العبد زيد وشهدا على إقرار البائع أنه زيد، أو أقر البائع أن هذا العبد زيد، فإن العبد لا يتم بهذه الشهادة، ويحلف البائع فإن حلف يرد الثمن.v

فإن شهد شاهدا البيع أن البائع أقر أن عبده زيد المولد، أو نسبوه إلى صناعة أو حلية أو ما أشبه ذلك من أمر معروف يعرف به، فوافق ذلك العبد، فهذا والأول سواء في القياس، ولكن استحسن في هذا أن يجيزه، وكذلك الأمة، وكذلك كتاب القاضي في هذا بالشهادة على الإقرار. ولو شهدا على إقراره بالعبد بعينه، وسمياه ووصفاه وقالا: أراناه يومئذٍ، وسمى لنا ولكن لا نعرفه اليوم بعينه، فهذا باطل من قبل أنهما شهدا على معروف، ثم جهلا بشهادتهما.
وفي كتاب البيوع من «المنتقى» : رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها داره اشتراها من الذي في يديه بألف درهم، وادعى الذي في يديه أنها داره اشتراها من المدعي بألف درهم، ولا بينة لهما، فإن الدار للذي في يديه الدار، فإن أنكر تلك المقالة وشهد على إقرارهما بذلك شهود، كل واحد منهما يدعي الدار لنفسه، وينكر تلك المقالة التي شهدت الشهود عليها، فإن الدار للمتكلم الأول وهو الخارج؛ لأن الخارج لما ادعى الشراء من صاحب (248ب4) اليد فقد أقر أن الدار كانت لصاحب اليد، ولم يثبت شراءه من صاحب اليد، وصاحب اليد لما ادعى الشراء بعد ذلك من الخارج فقد أقر أن الدار كانت للخارج، ولم يثبت شراءه من الخارج، وبطل إقرار الخارج لصاحب اليد حكماً؛ لإقرار صاحب اليد للخارج بعد ذلك.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن غلام في يدي رجل ادعاه رجلان أقام أحدهما بينة أنه اشتراه منه بألف درهم منذ سنة، وأقام آخر بينة أنه اشتراه منه بمئة دينار منذ خمسة أشهر، وصاحب اليد يقول: بعته من صاحب المئة، وقضى القاضي بالغلام لصاحب الألف لما أن وقته أول وسلم الغلام إليه، فوجد بالغلام عيباً، ورده على المقضي عليه بقضاء القاضي فجاء صاحب المئة وقال: أنا آخذ الغلام لأنك أقررت أنك بعته مني بمئة دينار، وصاحب اليد يأبى ويقول: إن القاضي فسخ العقد بيني وبينك، لا يكون فسخاً وله أن يأخذ بإقرار البائع أنه باعه منه، ولم يبعه من ذلك.

وإن قال البائع لصاحب المئة: خذ الغلام إنما هو فللبائع أن يلزمه، وإن قال صاحب المئة حين قضى القاضي بالغلام لصاحب الألف وقام من مجلس القاضي: فسخت البيع بيننا، لم يكن فسخاً إلا أن يقول البائع: أجيبك إلى ذلك أو يفسخ القاضي العقد بينهما.
وفي «المنتقى» : رجل ادعى على رجل أني قد بعتك هذا الطيلسان لي، وأنا كنت أودعتك فرددتها علي، يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، ويرد الطيلسان على

(9/401)


الذي ادعى البيع؛ لأن الذي في يديه الطيلسان أقر أن الطيلسان كان في يد مدعي البيع. قال: وهذا في اليمين بالمدعى عليه، وعلل فقال: لأنهما لو أقاما البينة كانت البينة بينة الآخر.
رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره، اشتراها من صاحب اليد قبل هذا التاريخ بشهر، وأنكر المدعى عليه دعواه، فأقام المدعي بينة على دعواه، فقال المدعى عليه: الدار كانت لي إلا أني قد كنت بعتها قبل هذا من امرأتي بتاريخ ثلاثة أشهر؛ وصدقت امرأة المدعى عليه المدعى عليه في ذلك، وقالت: قد كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعى عليه قبل هذا بثلاثة أشهر، وأقامت بينة على دعواها على المدعي، وكان ذلك قبل القضاء بالدار للمدعي، فالقاضي لا يقبل بينتها.
ولو أقامت المرأة بذلك على زوجها قبلت بينتها، وقضي بالدار لها، وإن أقر الزوج لها بذلك؛ لأن إقرار الزوج لها ببيع الدار منها بعدما أقام المدعي البينة على دعواه لم تصح؛ إذ لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة وإنه لا يجوز، وإذا لم يصح إقرار المدعى عليه بذلك صار وجوده والعدم بمنزلة، وصارت مسألتنا أن المدعي ادعى الشراء من صاحب اليد بتاريخ شهر، وامرأة صاحب اليد ادعت الشراء منه بتاريخ ثلاثة، فيقضى بالدار بتاريخها.

المحبوس بالدين إذا أقام بينة أنه معسر، وأقام رب الدين بينة أنه موسر، فالقاضي يقبل بينة رب الدين، وإن لم يبينوا مقدار ملكه حتى يخلده في السجن ببينة رب الدين وفيه إشكال؛ لأن تخليده في السجن لا يستحق إلا باليسار، واليسار لا يثبت إلا بالملك، وتعذر القضاء بالملك لجهالة قدره، ألا ترى إلى ما ذكر في كتاب الشفعة أن المشتري إذا أنكر جوار الشفيع وأنكر ملكه في الدار التي في يديه بجنب الدار المشتراة، وأقام الشفيع بينة أن له نصيباً في هذه الدار، ولم يبينوا مقدار النصيب فالقاضي لا يقضي بهذه الشهادة، وطريقه: أن حق الشفعة إنما تثبت لمدعيها إذا ثبت له الملك في الدار التي يدعي الشفعة بها، والقضاء بالملك له، فهذه الشهادة غير ممكنة لمكان الجهالة، فههنا يجب أن يكون كذلك.

والجواب وهو الفرق بين المسألتين: أن في مسألة المحبوس القضاء بالملك له غير ممكن لجحوده لا لجهالته، بل الملك لنفسه، ألا ترى أن الشهود إن بينوا مقدار الملك له، فالقاضي لا يقضي له بالملك مع أن المشهود به معلوم لجحوده الملك لنفسه، وإذا تعذر القضاء بالملك لجحوده لم يشترط القضاء باليسار إمكان القضاء له بالملك، فأما في مسألة الشفعة؛ القضاء بالملك للشفيع ممكن؛ لأنه يدعي الملك لنفسه، وإذا أمكن القضاء له بالملك كان إمكان القضاء بالملك شرطاً لثبوت الشفعة؛ لأن الشفعة لا تستحق إلا بالملك، أو ليس إذا سقط شرط من شرائط صحة القضاء في موضع العجز يدل على أنه يسقط في موضع آخر من غير العجز.
وإذا أقام المدعي بينة على أن قاضي بلد كذا فلان قضى له على هذا الرجل بألف

(9/402)


درهم، وأقام المدعى عليه بينة أن ذلك القاضي يقضي له بالبراءة عن هذه الألف، فالقاضي يقضي بالبينة التي قامت على البراءة، ولا يقضي ببينة المدعي؛ لأن المدعى عليه لما ادعى البراءة صار مقراً، فوقع الاستغناء عن قبول بينة المدعي على الدين لإقرار المدعى عليه بالدين، فصار كأن المدعي لم يقم البينة على الدين، ثم إن المدعى عليه أثبت براءته بالبينة، فتقبل بينته، ويقضى له بالبراءة لهذا.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل ادعى على رجل أنه تصدق بهذه الدار عليه وقبضها، أو اشتراها منه بألف درهم، وقبضها أو وهبها منه على عوض ألف وقبضها، وأنكر صاحب اليد ذلك، فأقام المدعي بينة أن صاحب اليد أقر بهذه الدار لهذا المدعي، قال: أقبل ذلك وأجعلها للمدعي، فبعد ذلك إن ادعى صاحب الدار الثمن أو العوض الذي أقر به أمرته بدفعه إليه، وإن لم يدع ذلك فلا حق له فيه.
وإذا قال المدعى عليه: هذه الضيعة ليست في يدي، وأراد المدعي أن يحلفه على اليد، له ذلك حتى يصير مقراً باليد، ثم إذا صار مقراً باليد يحلفه القاضي بالله ما هي ملك هذا المدعي، حتى يصير مقراً له بالملك، وإذا صار مقراً له بالملك يترك التعرض إذا كان بعض التركة في يد الغاصب، فالغريم لا يكون خصماً للغاصب في ذلك، حتى لو أراد الغريم الدعوى على الغاصب في ذلك لا تسمع دعواه في أول وصايا «الجامع» ، ولكن حق الدعوى للوارث إن كان، وإن لم يكن فللموصي، فإن كان للميت وارث وامتنع عن الخصومة مع الغاصب، فالقاضي ينصب وصياً ليخاصم مع الغاصب نظراً للغريم الدعوى في عتق الأمة، وفي الطلقات الثلاث، وفي الطلاق البائن ليس بشرط لصحة القضاء والمسألة معروفة، قالوا: وكذلك في الطلاق الرجعي الدعوى لا تكون شرطاً لصحته أيضا، لأن حكمه حرمة الفرج بعد انقضاء العدة، وأنه حق الله تعالى.

جارية في يدي رجل جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أن الجارية ملكه، باعها من ذي اليد بألف درهم على أنه بالخيار، وأقام على ذلك بينة، فإن أمضيا العقد كان لكل واحد منهما على ذي اليد جميع الثمن، وإن لم يمضيا فالجارية بينهما، وإن أمضى أحدهما دون الآخر كان له نصف الثمن.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع أمة له وبها حمل، فقال البائع: ليس هذا الحمل مني بل هو من عبدي، فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر، فادعاه البائع جازت دعوته وردت الجارية والولد إليه؛ لأن هذا حق الولد.
هشام عن محمد: في رجل اشترى مملوكاً وباعه من آخر، وباعه الآخر من آخر أيضاً، ثم اشتراه الأول، وادعى أنه ابنه، فهو ابنه وتبطل البيوع كلها، وإن كان هو لم يشترِ وادعاه فدعوته باطلة.
رجل أعتق جارية ولها ولد، ثم ادعى ولدها بعدما أعتقها قال: يلزمه وعليها العدة.
رجل قال في مرضه: هذا الغلام ابني من (249أ4) إحدى هاتين الجاريتين ثم مات، قال محمد رحمه الله: يعتق الغلام من جميع المال؛ لأن نسبه قد ثبت، وتسعى

(9/403)


كل جارية في نصف قيمتها، ويعتق نصفها من الثلث.
ابن سماعة في «نوادره» : رجل أعتق جارية وتزوجت زوجاً وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه الزوج والسيد قال: أيهما صدقته فهو ابنه، قال: لأن علمي قد أحاط أن الولد كان قبل التزويج، فإن صدقه الزوج وادعى نكاحاً فاسداً أو وطأ شبهة لزمه ذلك، وكذلك السيد ليس له دعوى بدون تصديقها؛ لأنه لا عدة له عليها.
محمد بن (سماعة) عن أبي حنيفة: إذا عالج الرجل جاريته فيما دون الفرج، فأنزل فأخذت الجارية ماءه في شيء واستدخلته فرجها في حرمان ذلك، فعلقت الجارية وولدت ولداً، فإن الولد ولد الرجل، وتصير الجارية أم ولد له.
ابن سماعة عن محمد: في رجل وطء جارية مشتركة بين ابنه وبين أجنبي فولدت، قال: عليه نصف قيمة الأم للابن، وعليه للآخر نصف قيمتها، ونصف عقرها، لأنه يملك نصيب الابن سابقاً على الاستيلاد؛ شرطاً لصحته ويملك نصيب الأجنبي بعد الاستيلاد حكماً لصحته، فالاستيلاد في نصيب الابن صادف ملك الأب فلا يوجب العقر، وفي نصيب الآخر صادف ملك الغير فيلزمه العقر.
ذكر في «المنتقى» : في عبد ادعى لقيطاً أنه ابنه من امرأته هذه وهي أمته، ثبت نسبه من العبد، ويكون حراً ولا يكون ابن امرأته، وقال في نصراني مات وترك ابناً فأسلم الابن بعد موته، ثم جاء نصراني وأقام بينة من النصارى أنه ابن الميت قضيت ببينته، ولم أعطه شيئاً لما في يد الابن المسلم، وإن ظهر للميت بعد ذلك مال؛ كان ذلك المال للابن المسلم؛ وإن مات الابن المسلم ورث أخاه منه إن كان قد أسلم قبل موته، لأن نسبه قد ثبت، وعن محمد أن القاضي لا يقضي بنسب الابن النصراني في هذه الصورة، ولا يقبل بينته أصلاً.

ولو ترك النصراني ابنين فأسلم أحدهما بعد موته، فجاء نصراني وأقام بينة من النصارى أنه ابن الميت، قال أبو يوسف: أقبل بينته على النسب، وأجعله شريك الابن النصراني، ولا يشارك الابن المسلم في نصيبه، وقال محمد: أثبت نسبه، وإذا أثبت نسبه أشركته فيما في أيديهما.
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: في امرأة مع رجل لها منه أولاد، وهي معه في منزله يطأها وتلد له بنيناً، ثم أنكرت أن تكون امرأته قال: إذا أقرت أن هذا الولد ولده منها فهي امرأته، وإن لم يكن منها ولد وإنما كان معه على هذا الحال، فالقول قولها.

بشر عن أبي يوسف في عشرة ادعوا نكاح امرأة، قال: إن كان دخل بها أحدهم فهي امرأته، وإن ادعت هي واحداً منهم، فهو زوجها، فإن كان واحد منهم دخل بها ولم تدع هي واحداً منهم، ولا يدري الذي دخل بها، فلها على كل واحد منهم نصف مهر، وإن ماتوا كان لها عشر مهر على كل واحد منهم، ولها عشر ميراث امرأة من كل واحد، وإن ماتت هي كان على كل واحد منهم عشر منهم ولهم ميراث زوج بينهم إذا تصادقوا أنهم لا يعلمون.

(9/404)


هشام عن محمد: امرأة مدركة زوجها أبوها من رجل فمات زوجها، فجاءت تدعي الميراث قال: إن قالت: كنت أمرت أبي بالتزويج ثبت النكاح وورثت، وإن قالت: لم آمره، ولكن حين بلغني تزويجه إياي أمرت، فعليها البينة وكذلك هذا فيمن باع عبد غيره ومات العبد في يد المشتري ثم ادعى البائع الأمر أو الإجارة.
وفي «المنتقى» : رجل توفي فادعى رجلان ميراثه يدعي كل واحد منهما أن الميت مولاه أعتقه ولا وارث له غيره، وأقام البينة على ما ادعى ولم يؤقتوا للعتق وقتاً، فالميراث بينهما، ولو وقت للعتق وقتاً فصاحب الوقت الأول أولى. وإذا كان الصبي في يدي رجل أقام رجل بينة أنه ابنه ولد من أمته هذه منذ سنة والصبي مشكل السن، فالبينة بينة الذي في يديه، وهذا مخالف للعتق؛ لأن الولادة لا تكون إلا مرة وقد يجوز أن يعتق الإنسان عبده ثم يغصبه منه غاصب ويكون عبد الغاصب فيعتقه بعد ذلك، فيعاين كل فريق عتقاً فيمكن القضاء لأول الوقتين.
ادعى عيناً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: اشتريته من هذا المدعي بنزع الدار من يده حتى يقيم البينة على الشراء وهذا قياس، وفي الاستحسان: تترك العين في يده ثلاثة أيام، ويؤخذ منه كفيل حتى يقيم البينة على الشراء، هكذا ذكر في «الفتاوى» ، والقياس كان يفتي الشيخ الإمام طهر الدين المرغيناني، وعلى هذا: المديون إذا ادعى الإيفاء يؤمر بالقضاء، ثم بإثبات الإيفاء.
رجل ادعى نصف دار في يدي رجل، فأقر المدعى عليه، إلا أنه لم يدفعه إليه وغاب، فجاء رجل وادعى نصف الدار لنفسه، فالمقر لا يكون خصماً له لأنه ليس في يده شيء، ولو غاب المقر له والمقر حاضر فهو خصم لهذا المدعي الثاني، ولو أن رجلاً ادعى نصف دار في يدي رجل وقضي له بما ادعى بالبينة ولهذا المدعي أخوان، كل واحد منهما يدعي بعد ذلك أن له نصف الدار، وإن قبض الأول ما ادعى قضي بالدار بين أخويه نصفان؛ لأن القضاء في هذه الصورة على الأول، وإن لم يقبض الأول ما ادعى قضي بالدار بينهما أثلاثاً.
ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكي لما أنه كان ملكاً لأبي رهنه منك ودفعه إليك ثم مات أبي وتركه ميراثاً لي ولا وارث له غيري، فأنكر الذي في يديه العين ملكه ورهن أبيه منه، فجاء المدعي يشهد وشهدوا أن هذه العين ملكه وفي يدي هذا المدعى عليه بغير حق قبلت شهادتهم؛ لأن المرتهن إذا أنكر الرهن فالمرهون يكون في يده بغير حق.
وإذا ادعى جارية في يد إنسان أنها كانت ملكي يوم أخد يد صاحب اليد مني، فإذا ادعى أنه غصب مني هذه الجارية، فدعواه صحيحة وإن لم يقل: ملكي، ولو أقام البينة على أن صاحب اليد غصبها منه، فالقاضي يأمر صاحب اليد بالرد عليه أما لا يقضى له بالملك إذا قال في دعوى البنوة: هذا ابني ولم يقل ولد على فراشي، فهذه دعوى

(9/405)


صحيحة، وإذا أقام البينة سمعت بينته وقضي بثبوته. وإذا قال: هذا الولد ليس مني ثم قال: هو مني صح قوله الثاني، وحكم بثبوت النسب منه، وإذا ادعى أنه ابن عم فلان فلا بد فيه من ذكر الجد.
وإذا ادعى أنه أخ فلان لا يشترط فيه ذكر الجد، هكذا حكي عن القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف في ولد الملاعنة: إذا ادعاه رجل أنه لايثبت نسبه منه، قال: لأنه ولد على فراش الزوج. وفي «المنتقى» : وإذا شهد الشهود لرجل أن زيداً أقر أن هذا المدعي أخوه أو ابن أخته أو مولاه، فليس هذا بشيء حتى يثبتوا، وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنه أقر أنه ابن خاله أو ابن عمه؛ لأن الغالب في هذا النسب ويورث منه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: صبي في يدي رجل لا يعرف نسبه ادعى آخر أنه ابنه، قال: إن صدقه الذي الصبي في يده ثبت نسبه منه، وإن كذبه لا يثبت نسبه منه، والمراد من المسألة: الصغير الذي لا يعبر عن نفسه كانت العبرة بتصديقه وتكذيبه التصديق من في يده وتكذيبه، والله أعلم بالصواب.

(9/406)