المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثالث والعشرون: في بيان ما يندفع به دعوى المدعي وما لا يندفع
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منها: في دعوى الملك المطلق، ودعوى المدعى عليه كون المدعى في يده وديعة من جهة غيره أو عارية أو إجارة أو رهناً، أو ما أشبه ذلك هذا النوع ينقسم أقساماً.

القسم الأول إذا حقت الدعوى في العين حال قيامه
قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل ملكاً مطلقاً، أو داراً أو ثوباً أو ما أشبه ذلك، وأقام بينة على دعواه، فقال ذو اليد: إن هذه العين لفلان الغائب أودعنيها، أو قال: أجرنيها، أو قال: ارتهنتها منه، أو قال: اغتصبتها منه، فإن أقام بينة على دعواه فلا خصومة بينهما، وإن لم يقم، فهو خصم للمدعي في ظاهر رواية أصحابنا.

ووجهه: أن الخصومة قد توجهت على صاحب اليد بظاهر يده لأنه حال بين المدعي وبين المدعى به، ولهذا كان على القاضي إحضاره وتكليفه بالجواب، فهو بدعواه هذه يريد إبطال الخصومة المتوجهة عليه فلا يقدر على ذلك من غير حجة، وبعد إقامة الحجة طريق اندفاع الخصومة أن صاحب اليد ببينته يثبت شيئين: الملك للغائب وهو ليس بخصم فيه، وإسقاط الجواب عن نفسه، ولا تقبل بينته فيما ليس بخصم فيه وهو إثبات الملك للغائب.
وعن أبي يوسف أنه رجع عن هذا حين ابتلي بالقضاء ووقف على أحوال الناس وقال: إذا كان المدعى عليه معرفاً بالافتعال والتزوير، ووقع في قلب القاضي أنه قصد الافتعال بهذا ليبطل حق المدعي لا تندفع الخصومة عنه بهذه البينة، لأن مثل هذا الافتعال يوجد فيما بين الناس، فالإنسان يأخذ مال غيره غصباً، ثم يدفعه سراً إلى من يريد أن يغيب عن البلدة حتى يودعه علانية بشهادة الشهود.
حتى إذا جاء المالك وأراد أن يثبت ملكه، فالمدعى عليه يقيم بينة على الإيداع من الغائب، ويدفع خصومة الملك بذلك، والقاضي يصير ناظراً للمسلمين، فينبغي أن ينظر في حق المدعي، وذلك بأن لا يلتفت إلى بينة المدعى عليه إن عرف بالافتعال والتزوير، ووقع في رأيه أنه قصد بهذا الإضرار بالمدعي، وهذا الذي ذكرنا في جواب ظاهر الرواية: إذا عرف شهود صاحب اليد المودع باسمه ونسبه ووجهه فأما إذا قالوا: أودعه رجل لا نعرفه أصلاً، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، فلا تندفع خصومة المدعي من صاحب اليد بالإجماع.

(9/201)


أما على (211أ4) قول محمد فلأنهم لو قالوا: نعرف المودع بوجهه، ولا نعرفه باسمه ونسبه، لا تقبل الشهادة، ولا تندفع الخصومة عنه عند محمد، فهاهنا أولى.
وأما على قولهما فلأن بهذه الشهادة لم يثبت وصول العين إلى صاحب اليد من جهة غير المدعي بيقين، لجواز أن يكون الدافع هو المدعي، وعلى هذا التقدير لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، فلا تندفع الخصومة من ذي اليد بالشك والاحتمال، وإن قالوا: نعرف المودع بوجهه ولانعرفه باسمه ونسبه:

فعلى قول محمد: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الخصومة على ذي اليد توجهت بظاهر يده فلا تندفع عنه الخصومة إلا بالحوالة على رجل يمكن اتباعه ليكون تحويلاً للخصومة لا إبطالاً، ولم توجد الحوالة على رجل يمكن اتباعه لأن الغائب لا يعرف إلا بالتسمية والنسب، فإذا كان المدعي بوجهه والشهود لم يذكروا اسمه ونسبه لا تتحقق الحوالة، وعندهما تقبل الشهادة لأن حاجة صاحب اليد إلى دفع الخصومة عن نفسه، وإنما تندفع الخصومة عنه إذا أثبت أن يده ليست بيد ملك وخصومة، وقد حصل ذلك هاهنا؛ لأنا علمنا أن العين وصلت إلى يد صاحب اليد من غير هذا المعين بيقين، وبه فارق ما إذا قال: لا نعرفه أصلاً.
ولو قال الذي في يديه: أودعنيه رجل لا أعرفه، وقال الشهود: أودعنيه فلان بن فلان.
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا تندفع الخصومة عن ذي اليد؛ لأن دعوى المدعى عليه الإيداع هاهنا غير صحيحة لجهالة المودع، والشهادة لا تقبل من غير دعوى صحيحة، ولو أقر المدعي أن رجلاً دفعها إليه والمدعي لا يعرفه، فلا خصومة بينهما لأنه ثبت بإقرار المدعي أنه وصل العين إلى المدعى عليه من جهة غير المدعي بتفسيره.

وكذلك لو شهد شهود صاحب اليد على إقرار المدعي أن رجلاً دفعها إليه؛ اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً، ولو قال شهود المدعى عليه: نعرف المودع باسمه ونسبه، ولا نعرفه بوجهه، فهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لجواز أن يكون الدافع هو المدعي، وقال بعضهم: تندفع، وهكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأن القاضي سأل المدعي هل هو بهذا الاسم والنسب؟ فإن قال: لا، ظهر أنه غير المودع، وظهر بهذه البينة وصوله إلى يده من جهة غير المدعي.
ولو قال الذي في يديه: أودعنيها فلان لرجل معروف، وشهد شهود أن رجلاً أودعها إياه، قالوا: لا تقبل هذه الشهادة لعدم الموافقة بين الدعوى والشهادة، والاحتمال أن الدافع هو المدعي.
ولو قال شهود صاحب اليد: نعرف المودع بوجهه واسمه، ونسبه، ولكن لا نشهد به لا تندفع الخصومة أيضاً، لأنهم أخبروا أن عندهم شهادة ولم يشهدوا، وبإخبار الشاهد

(9/202)


أن عنده شهادة لا يثبت شيء شهد به، ولو شهد شهود صاحب اليد أن فلاناً دفعها إليه، ولم يقولوا: إنها ملك فلان، أو قالوا: لا ندري لمن هي اندفعت الخصومة عن ذي اليد؛ لأنه ثبت بهذه الشهادة أنه وصل إليه من جهة فلان، وأن يده يد نيابة، ويد النيابة ليست بيد خصومة.

وكذلك لو شهدوا على إقرار المدعي أن فلاناً دفعها إليه؛ اندفعت الخصومة عن ذي اليد؛ لأن بإقرار المدعي يثبت أن يد صاحب اليد ليست بيد خصومة.
وكذلك لو شهدوا على إقرار المدعي أنها لفلان، ولم يزيدوا على هذا وذو اليد يقول: فلان أودعنيها، اندفعت الخصومة عن ذي اليد لأن إقراره أنها لفلان ينقض دعواه الملك لنفسه، ولو شهد شهود ذي اليد على إقرار المدعي أنها لفلان إلا أن صاحب اليد لم يقبل بعد ذلك أن فلاناً أودعنيها، لم يذكر محمد هذا الفصل أيضاً.

قالوا: ويجب أن تندفع الخصومة عن صاحب اليد؛ لأنه لا يثبت وصول العين إلى صاحب اليد من جهة فلان وظهر بإقرار المدعي أن خصومة المدعي كانت مع فلان، فبعد ذلك أن يحول ملك الرقبة إلى صاحب اليد تتحول الخصومة إليه، وما لا فلا تتحول الخصومة إليه بالشك والاحتمال، وإن أقر المدعي أنها كانت في يد فلان ولكن قال: لا أدري أدفعها إلى هذا أو لا؟.
أو شهد الشهود على إقرار المدعي أنها كانت في يد فلان، ولا أدري دفعها إلى فلان أم (لا) فلا خصومة بينهما لأنهما اتفقا على أنها كانت في يد فلان والآن يراها في يد صاحب اليد ولم يعرف يد ثالث، فالظاهر أنها وصلت إلى يده من جهة فلان، فثبت تصادقهما على وصولهما إلى هذا من جهته أنها لفلان.
ولم يشهدوا أن فلاناً أودعها إياه فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة؛ لأنها قامت على إثبات الملك للغائب، وصاحب اليد ليس بخصم عنه في إثبات الملك له؛ لأنه لا حاجة له إلى إثبات الملك للغائب، إنما حاجته إلى وصول الثمن إلى يده من جهة فلان والشهود لم يشهدوا بذلك، فلا تندفع عنه الخصومة.
ولو أقام المدعي بينة في هذه المسائل على سبيل دفع بينة صاحب اليد أن صاحب اليد ادعاها لنفسه، لم تقبل من صاحب اليد بينة على الإيداع أصلاً؛ لأنه ثبت ببينة المدعي إقرار ذي (اليد) بكونه خصماً فصاحب اليد ببينته على الإيداع بعد ذلك يريد إخراج نفسه عن الخصومة بعدما علم كونه خصماً فلا يقدر عليه.
وذكر في «المنتقى» : مسألة تدل على أن المودع ينتصب خصماً.

وصورتها: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله: عن رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره وقدمه إلى القاضي، وصيره القاضي خصماً له إلا أنه لم يقم بينة، ثم أن المدعى عليه ذهب وباع الدار وسلمها إلى المشتري، ثم المشتري وكل فيها وكيلاً وغاب، ثم عزل هذا القاضي أو مات وولى قاضٍ آخر فتقدموا إليه، وأقام المدعي بينة أنه قد كان خاصمه إلى القاضي الأول، ثم باعها، فهذا القاضي يجعل الوكيل خصماً فيه.

(9/203)


قال الحاكم أبو الفضل: لم يرد بقوله؛ وكل فيها وكيلاً الوكيل بالخصومة وإنما أراد به الوكيل بالحفظ، والوكيل المودع مع هذا جعله خصماً للمدعي.
قالوا: وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة في «الجامع» : تدل على أن المودع ينتصب خصماً للمدعي.
وصورتها: رجل مات وترك ثلاثة بنين، وداراً فغاب اثنان منهم، وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وترك ميراثاً لي ولأخوي، فلان وفلان، فاقتسمنا الدار بيننا أثلاثاً، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما.
فقال المدعي: هذه الدار كانت في يد أبيكم إلى أن مات قسمتم الدار بينكم، ثم إن أخواك أودعاك نصيبهما ولكن الدار لي، وأقام المدعي البينة أن الدار داره قبلت بينته، وقضى بالدار للمدعي، وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر، ويد المودع ليست يد خصومة، وليس الأمر كما قالوا، والوجه لمسألة «الجامع» : أن كون المودع غير خصم في حق المدعي، من حيث إنه مودع لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً ثم إن المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك الشيء، ثم قامت البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته.

وفي مسألة «الجامع» ما يحصل الابن الحاضر خصماً في كل الدار؛ لأن الدعوى في الحقيقة على الميت، والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت بخلاف المسائل التي تقدم ذكرها في أول هذا النوع؛ لأن هناك لم يوجد ما يوجب كون المدعي خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لم يصلح خصماً.

ومما يتصل بهذا النوع
دار في يدي رجل ادعاها أنها داره وأقام البينة على ذلك، وقال ذو اليد: إنها دار فلان وأنه (211ب4) أسكنيها، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أن الدار التي في يد هذا داره، وأنه أسكنها هذا الذي في يديه، فلا خصومة بينهما لأنه ثبت وصول الدار إلى يد المدعى عليه من جهة من غاب على وجه لا يفيد الملك في الرقبة؛ لأن الإسكان والإعارة سواء، والإعارة لا تفيد الملك في الرقبة، ولم يشهدا أن فلاناً أشهدنا أن الدار التي في يد هذا داره، وأنه أسكنها هي في يديه، إلا أنا لم نره دفع الدار إليه أم لا؛ لكن علمنا أن الدار كانت في يد هذا الذي في يديه اليوم يومئذٍ، فلا خصومة بينهما أيضاً حتى يحضر الغائب، لأن الشهادة بالإسكان، والدار في يد الساكن يوم الإسكان شهادة بالتسليم.
كما أن الشهادة بالهبة، والدار في يد الموهوب له يوم الهبة شهادة بالهبة والتسليم، حتى أن الشهود إذا شهدوا أن هذا الرجل وهب هذا لهذا المدعي وكان العبد في يد المدعي يوم الهبة يجب القضاء بالهبة؛ كما لو شهدوا بالهبة والتسليم، فصار هذا الوجه نظير الوجه الأول.

(9/204)


وإن شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه الدار اليوم، ولم نعلم يوم الإسكان أن الدار في يد من، ونعلم الآن أنها في يد هذا المدعي عليه، فلا خصومة بينهما أيضاً حتى يحضر الغائب، لأنهم شهدوا بالإسكان، والقبض ثابت للمشهود له معاينة، ولم يعرف لثبوت يده جهة أخرى سوى ما شهد به الشهود، وهو الإسكان، فيحال به على ذلك بالإسكان.

وهو معنى قول المشايخ: إن القبض إذا ظهر عقيب عقد يحال به على ذلك العقد مالم يعرف له سبب آخر، وإذا أحلنا بالقبض على الإسكان صار كأنهم شهدوا بالإسكان والتسليم.
وهو نظير ما ذكر في كتاب الهبة، لو أن رجلاً في يديه عبد ادعى أن فلاناً وهب هذا العبد منه، ولم يزيدوا على هذا، فالقاضي يقبل شهادتهم ويجعل كأنهم شهدوا بالهبة مع القبض كذا هاهنا، ولو شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه اليوم، ونحن علمنا يوم الإشهاد أنها لم تكن في يد المسكن ولا في يد هذا الساكن بل كانت في يد فلان، يعني به إنسان آخر، وفي هذا الوجه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن الشهود إنما شهدوا بإسكان باطل، لأن الإسكان إنما يصلح بالقبض من جهة المسكن، ولم يثبت القبض من جهة المسكن لا بالشهادة ولا بالمعاينة أما بالشهادة فظاهر.
وأما بالمعاينة، فلأن القبض المعاين للذي الدار في يديه ثابت من حيث الظاهر من جهة من شهد الشهود أنها كانت في يده لا من جهة المسكن، فتكون هذه الشهادة بإسكان باطل، فيكون وجوده والعدم بمنزلة، فإن قال المدعي في الوجه المتقدم وهو ما إذا شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه الدار، ولم يعلم يوم الإسكان أن الدار في يدي أنا أقيم البينة أن هذه الدار يوم الإشهاد على الإسكان كان في يدي رجل آخر غير الذي أشهدهم على الإسكان، يريد بذلك إبطال الإسكان حتى لا يخرج الذي في يديه الدار من أن يكون خصماً للمدعي، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة.

واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، فعبارة بعضهم أن المشهود له باليد في هذه الشهادة لو حضر وأقام البينة أن هذه الدار كانت في يده، لا تقبل منه هذه البينة ولا ينقض يد ذي اليد؛ لأن يد ذي اليد ثابتة معاينة، فإن كان يد فلان يد ملك يجب نقض ذي اليد، فلا يجب نقض يده بالشك، وإذا كانت هذه الشهادة لا تقبل من المشهود له في هذه الشهادة؛ فلأن لا تقبل من المدعي أولى، وعبارة بعضهم أنه ليس غرض المدعي من هذه الشهادة إثبات اليد لغير المسكن؛ لأنه ليس بخصم عنه في إثبات اليد له، وإنما غرضه نفي اليد عن

(9/205)


المسكن يوم الإشهاد على الإسكان والشهادة على النفي لا تقبل.
وحكي أن مشايخ بخارى سئلوا: عن رجل ادعى أن أرضه هذه حرة، وأقام على ذلك بينة، فأجاب أكثرهم بقبول هذه الشهادة، وأجاب بعضهم بعدم قبولها، وقاسه على هذه المسألة، وهذا لأن مقصود الشهود في مسألة الأرض في شهادتهم على حرية الأرض، نفي الخراج عن الأرض، كما أن قصد المدعي في مسألتنا نفي اليد عن المسكن يوم الإشهاد، فكانت هذه الشهادة قائمة على النفي، فنظر إلى المقصود فرجعوا إلى قول هذا القائل، واتفقوا على عدم قبول هذه الشهادة.
وأنا أقول: هذه العبارة الثانية، وجواب مسألة الخراج يشكل بالشهادة القائمة على الإفلاس، فإنها مقبولة بلا خلاف، مع أنها قامت على النفي نظراً إلى ما هو المقصود.
وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل ادعى داراً في يدي رجل فقال الذي في يديه: إن فلاناً أودعنيها، فقال المدعي: قد كان فلان أودعكها، ولكنه وهبها لك بعد ذلك أو باعكها، فإن القاضي يستحلف الذي في يديه بالله ما وهبها فلان لك ولا باعها منك بعدما أودعها منك، فإن نكل عن اليمين جعله خصماً فيها.
قال: ألا ترى أن المدعي لو أقام بينة أن فلاناً باعها من الذي في يديه بعدما كان أودعها إياه قبلت بينته وجعل الذي في يديه خصماً له فكذا إذا نكل عن اليمين قال: ولا يشبه هذا الوكالة.

وصورتها: رجل آتى رجلاً وقال: إن لفلان عندك ألف درهم، وأنا وكيله في قبضها منك، وقال المدعى عليه: صدقت لفلان عندي ألف درهم وديعة إلا أنك لست بوكيل في قبضها؛ لم يكن للمدعي أن يحلفه على الوكالة لأنه يدعي لغيره، وإنما استحلفه في الأول؛ لأنه ادعاه لنفسه فادعى أن هذا خصمه فيه.
رجل في يديه وديعة لرجل وادعى أنه وكيل المودع بقبضها، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه الوديعة بينة أن المودع قد أخرج هذه من الوكالة، قبلت بينته، وكذا إذا أقام بينة أن شهود الوكيل عينه.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل في يديه داراً ادعاها رجل فأقام الذي في يديه الدار بينة أن فلاناً الغائب ادعى هذه الدار واستحقها من يده، ودفعها إليه القاضي، ثم إن المستحق أخرجها من الذي في يده؛ فإنه لا تقبل منه هذه على ما ادعى.
علل فقال: لأنها في يديه وهي لا تدفع عن نفسه الخصومة بها، والوجه في ذلك أن صاحب اليد لما قال: إن فلاناً الغائب ادعى هذه الدار واستحقها من يده، فقد أقر أن يده يد خصومة في هذه الدار، ثم بقوله أخذها فلان مني يريد إخراج نفسه عن الخصومة، فلا يصدق على ذلك، ولا تسمع بينته عليه والله أعلم.

القسم الثاني إذا وقعت الدعوى في العبد بعد هلاكه
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا كان العبد في يدي رجل مات جاء رجل وأقام بينة أنه عبده، وأقام الذي مات العبد في يديه أن العبد كان وديعة في يديه من جهة فلان، أو كان بإجارة في يديه من جهة فلان أو عارية، فإنه لا تندفع الخصومة ويقضي القاضي بقيمة العبد للمدعي، فرق بين هذا وبين ما إذا وقع الدعوى في العين حال قيام العين، وباقي المسألة بحالها فإنه تندفع الخصومة عن ذي اليد.

(9/206)


والفرق: أن العين إذا كان قائماً، والدعوى تقع في العين، والمدعى عليه إنما ينتصب خصماً له في العين بظاهر يده، فإن ظاهر اليد تدل على الملك، إلا أنه يحتمل أنه ليس بذلك، وبإقامة البينة على أن العين وديعة عنده ظهر أن يده ليست يد ملك فيندفع عنه الخصومة، أما إذا كان العين هالكاً فالدعوى تقع في الدين، ومحل الدين الذمة فالمدعى عليه ينتصب خصماً للمدعي بذمته، وإنما أقام المدعى عليه من البينة أن العين كانت في يده وديعة لا يتبين أن في ذمته لغيره، فلا تتحول الخصومة عنه.
ألا ترى أن القاضي يقضي بالقيمة على مودع الغاصب وإن كان يده في العين يد غيره.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يقضي القاضي بقيمة العبد هاهنا؛ لأنه لا يمكن القضاء بقيمة العبد للمدعي إلا بعد القضاء له بملك العبد له لا يجوز أن يكون قيمة العبد لإنسان (212أ4) ويكون الملك في العبد لغيره وقد تعذر القضاء هاهنا للمدعي بملك العبد؛ لأن ذا اليد أثبت أن يده في العبد ليست يد ملك، وأن الملك في العبد للغائب.
كما قال محمد في عبد في يدي رجل ذهب عبده يده لو فقيت عينه أو قطعت يده أقام الرجل بينة أن هذا العبد عبده، وأراد أن يأخذ العبد وأن يضمن الذي العبد في يده نصف قيمة العبد، فأقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً قد كان أودع هذا العبد إياه قبل ذهاب العين واليد؛ فإنه يندفع عنه الخصومة في أرش اليد والعين وإن ادعى الأرش ديناً في ذمته؛ لأنه لا يمكنه القضاء بالأرش إلا بعد القضاء بملك العبد للمدعي؛ لأنه لا يجوز أن يكون الأرش لإنسان، والعبد لغيره، فإذا تعذر القضاء بملك العبد؛ لأن صاحب اليد أثبت أن يده في يد غيره تعذر القضاء بالأرش كذا هاهنا.

قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في الجواب عن هذا الإشكال، فعبارة بعضهم أن هذا الإشكال إنما يتأتى إذا تعذر القضاء بملك العبد للمدعي كما في المسألة التي وقع الإشهاد بها؛ لأن هناك تعذر القضاء بملك العبد للمدعي؛ لأن العبد حي قائم، وقد ثبت ببينة ذي اليد أن الملك في العبد للغائب فلو قضينا بالعبد للمدعي كان في هذا استحقاقاً على الغائب، والاستحقاق على الغائب لا يجوز.

وإذا تعذر القضاء بالعبد للمدعي تعذر القضاء بالعين الفائتة للمدعي إذ يستحيل أن يكون العبد لإنسان ويكون عينه لآخر، وإذا تعذر القضاء بالعين الغائبة للمدعي تعذر القضاء بالأرش له، أما في مسألتنا أمكن القضاء بالعبد للمدعي، وإن ثبتت ببينة ذي اليد أن العبد للغائب، فيكون القضاء بالعبد للمدعي قضاءً على الغائب إلا أن القضاء على الغائب إنما لا يجوز إذا كان فيه استحقاق شيء له، وإيجاب شيء على الغائب، فأما إذا لم يكن فيه استحقاق شيء على الغائب يجوز القضاء على الغائب لأن العبد ميت، والميت لا يمكن أن يستحق على الغائب فظهر الفرق بين الفصلين من هذا الوجه.
وعبارة بعضهم: ليس من ضرورة القضاء بقيمة العبد للمدعي، القضاء بملك العبد للمدعي إذ يجوز أن يكون العبد لإنسان وبدله لغيره.

(9/207)


ألا ترى إلى ما قال أصحابنا في رجل قال لغيره: بعت منك هذا العبد الذي في يديك بألف درهم، ولي عليك ألف درهم، فقال ذلك الرجل: ما بعته مني، وما اشتريته أنا؛ وأنا بريء مما تقول لا علم لي به قط، فأقام المدعي بينة على ذلك وجب على المنكر ثمن العبد ولم يكن العبد ملكاً له.
وكذلك قالوا في رجلين ادعى كل واحد منهما على رجل واحد؛ أني بعت منك هذا العبد بألف درهم، وكانت الدعوى منهما في عبد واحد بعينه، وأنكر المدعى عليه ألفا درهم، لكل واحد منهما ألف درهم.

ولو كان وجوب البدل باعتبار العين لوجب ألف درهم بينهما، فعلم أن وجوب البدل ليس باعتبار العين، فلم يكن من ضرورة القضاء بالقيمة القضاء بملك العبد، فأما من ضرورة القضاء بالأرش للمدعي بالعين الفائتة له، ومن ضرورة القضاء بالعين الفائتة له القضاء بكل العبد له، إذ يستحيل أن يكون كل العبد لإنسان وعينه تكون لآخر، وتعذر القضاء بكل العبد للمدعي؛ لأن فيه قضاء على الغائب.
ثم إذا قضى القاضي بالقيمة للمدعي، وأخذ المدعي القيمة من المدعى عليه؛ حضر الغائب وصدق المدعى عليه فيما كان ادعى أن العبد كان عبده وديعة، أو إجارة أو رهناً من جهته، كان له أن يرجع بما ضمن من القيمة على الغائب الذي حضر، وهذا الجواب لا يشكل في الرهن والوديعة، لأن المودع في قبض الوديعة عامل للمودع من كل وجه، فإن منفعة الحفظ عائدة إليه من كل وجه.
والأصل: أن من عمل لغيره عملاً ولحقه بذلك غرم يرجع بالغرم على المعمول له، إنما يشكل في الإجارة لأن المستأجر في قبض المستأجَر عامل لنفسه من كل وجه؛ لأنه قبضه ليستوفي منفعته، فكان يجب أن لا يرجع بما ضمن على الآجر كالمستعير والغاصب إلا أن الجواب عنه أن المستأجر كما هو عامل لنفسه فهو عامل للآجر إنما يجب ويتأكد استيفاء المنفعة، إلا أن ما للآجر من المنفعة أكثر؛ لأنه يحصل له الأجر وإنه عين مال.

والحاصل للمستأجر المنفعة، والعين خير من المنفعة، فكان الرجحان لجانب الآجر، فاعتبر قبض المستأجر واقعاً للآجر من هذا الوجه، بخلاف ما إذا كان العبد في يد صاحب اليد بعارية أو غصب حيث لا يرجع بما ضمن على الغاصب؛ لأن الغاصب في القبض عامل لنفسه من كل وجه.
وكذلك المستعير في القبض عامل لنفسه من كل وجه، لأن منفعة كل واحد منهما حاصلة له من كل وجه.

ومن عمل لنفسه عملاً ولحقه بذلك عهدة كان قرار العهدة عليه هذا إذا صدق الغائب صاحب اليد في إقراره أن العبد وصل إليه من جهته، فأما إذا كذبه في إقراره أن

(9/208)


العبد وصل إليه من جهة بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فلا رجوع له على الغائب ما لم يقم البينة على ما ادعى من الإجارة أو الوديعة أو الرهن؛ لأنه يدعي لنفسه ديناً على الغائب بسبب عمل عمل له، والغائب منكر ذلك.
ادعى عبداً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: هذا العبد وديعة في يدي من جهة فلان، فقال المدعي: سلم العبد إليَّ وأحضر فلاناً حتى أقيم البينة عليه، فدفع العبد عليه، وذهب ليجيء بفلان، فمات العبد في يد المدعي ثم جاء فلان وأقام بينة أنه عبده كان أودعه صاحب اليد، وأقام المدعي بينة أنه عبده، فالبينة بينة فلان؛ لأن فلاناً يثبت الضمان ببينته محتجاً بالأخذ بغير حق، والمدعي ينفي ذلك، ولو كان العبد حياً يؤمر المدعي بدفع العبد إلى مكان المقر له ويقال للمدعي: أقم البينة عليه.

القسم الثالث إذا وقعت الدعوى في العبد بعد إباقه
عبد في يدي رجل أبق من يده جاء رجل وادعى أنه عبده، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة على أنها وديعة في يديه من جهة فلان إلى آخر المسألة، فالجواب فيه؛ كالجواب في فصل الموت، لأن الإباق يوجب ضمان القيمة كالهلاك؛ دليله: المغصوب إذا أبق، فكل جواب ذكرناه في الموت فهو الجواب في الإباق.
ثم في فصل الإباق إذا قضى القاضي بقيمة العبد للمدعي على الذي كان العبد في يديه ثم عاد العبد من الإباق.
ففي فصل الوديعة والإجارة والرهن يعود على ملك الغائب، وفي الغصب والعارية يعود على ملك الذي كان في يده، لأن الملك في المضمون إنما يثبت لمن كان قرار الضمان عليه، وفي الوديعة والإجارة والرهن قرار الضمان على الغائب، وفي العارية والغصب قرار الضمان على الذي كان العبد في يديه.

فإن قيل: كان ينبغي أن يؤمر الذي كان العبد في يديه برد العبد على الغائب في فصل الغصب والعارية؛ لأنه لما أقر أنه غصب من الغائب أو استعار منه، فقد أقر أن رده واجب عليه إلا أنه كان عاجزاً عن الرد مادام آبقاً، فإذا عاد إلى يده وقدر على الرد لزمه الرد عليه.
g
فهذا كما قالوا فيمن اشترى عبداً قد أقر أنه ملك البائع، واستحق العبد من يد المشتري بالبينة، ثم إنه عاد إليه بسبب من أسباب الملك إن كان بعدما قضى القاضي بفسخ البيع لزم المشتري رد العبد على البائع، وإن كان قبل أن يقضي القاضي بفسخ البيع، فإن المشتري يرد الثمن على البائع إن كان قد رجع على البائع بالثمن.
قلنا: الأمر كما قلت إلا أن القاضي لما قضى على صاحب اليد بالعبد للمدعي حين قضى عليه بقيمة العبد، فقد كذبه في إقراره أن عليه رد العبد على الغائب بسبب

(9/209)


الغصب، وقضاء القاضي بالعبد للمدعي في هذه (212ب4) الصورة نفذ ظاهراً وباطناً؛ لأن صاحب اليد أقر بالغصب من الغائب، للإقرار بالملك للغائب؛ لأن الإنسان كما يغصب من المالك؛ يغصب من غير المالك.
كالمودع والأب والوصي والغاصب. وإذا تصور الغصب من غير المالك لم يكن في زعم صاحب اليد أن العبد ملك الغائب، وأن شهود المدعي شهود زور امتنع نفاذ القضاء بها بالملك المرسل للمدعي باطناً، فنفذ القضاء ظاهراً وباطناً بالعبد للمدعي، وثبت تكذيب القاضي في إقراره أن رد المعيب واجب عليه والإقرار يبطل بتكذيب القاضي بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك المشتري أقر بملك العبد للبائع نصاً، فكان في زعمه أن شهود المدعي شهود زور، وقد قامت على ملك مرسل.

والقضاء بشهادة الزور في الأملاك المرسلة لا ينفذ باطناً، وإذا لم ينفذ قضاء القاضي باطناً ثمة في زعم المشتري لم يصر المشتري مكذباً من جهة القاضي، فيما أقر من الملك للبائع بزعمه، فبقي إقراره صحيحاً كما كان، فوجب الرد على البائع إذا وصل إلى المشتري بحكم إقراره.
وزان مسألة المشتري من مسألتنا؛ أن لو اشترى ولم يقر بالملك للبائع نصاً، وهناك إذا عاد العبد إلى يد المشتري يوماً من الدهر لا يؤمر بتسليمه إلى البائع؛ والله أعلم.

القسم الرابع وإذا وقعت الدعوى في العين بعدما وهب طرف من أطرافه؛ إذا وقعت الدعوى في الجارية بعدما ولدت وماتت الجارية
صورة الأول: عبد في يدي رجل ذهبت عينه عنده فأقام رجل البينة أنه عبده، وأراد أخذ العبد، وأن يضمن الذي في يديه العبد نصف قيمة العبد بذهاب العين في يده، فأقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً أودعه إياه قبل ذهاب عينه، فلا خصومة بينهما، ولا في الأرش حتى يحضر الغائب، وقد مر الوجه فيه.
صورة الثانية: جارية على يدي رجل ولدت ولداً وماتت الجارية، وأقام رجل البينة أن الجارية جاريته، وأنها ولدت هذا الولد في ملكه، وأقام الذي كانت الجارية في يده أن فلاناً أودعها إياه قبل أن تلد فولدت عنده، فإن القاضي يقضي بقيمة الجارية للمدعي على ذي اليد لما مر، ولا يقضي بالولد له، حتى يحضر الغائب؛ لأن الولد عين في يده، فهو إنما ينتصب خصماً في الولد بحكم اليد، وقد أثبتت بينته أن يده في الولد يد أمانة.
قال محمد رحمه الله: عقيب ذكر هذه المسألة: ولا يشبه الولد في هذا أرش العين؛ لأن الولد يجوز أن يكون لإنسان والجارية لآخر، ولا يجوز أن تكون الجارية لإنسان، وأرش عينها لآخر؛ يريد بهذا أن القضاء بملك الجارية للمدعي يمكن بدون الولد لا يجوز أن تكون الجارية لإنسان والولد لآخر.

ألا ترى أن من أوصى بما في بطن الجارية لإنسان صحت الوصية، وكانت الجارية

(9/210)


للموصي، والولد للموصى له، فلم يكن من ضرورة تعذر القضاء بالولد، تعذر القضاء بالجارية، ولا من ضرورة القضاء بالجارية، القضاء بالولد.
وكان بمنزلة ما لو ادعى عبدين أحدهما غير متولد من الآخر، وقد هلك أحدهما في يده دون الآخر، فأقام المدعي بينة على دعواه، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً أودعها إياه، فإنه يقضي عليه بقيمة ما هلك في يده للمدعي، ولا يقضي له بالقائم بالطريق الذي قلنا؛ كذا هاهنا.
أما القضاء بملك العبد للمدعي بدون الأرش غير ممكن؛ إذ لا يتصور أن يكون العبد لإنسان وأرش عينه لآخر، فكان من ضرورة تعذر القضاء بالعبد، تعذر القضاء بالأرش على ما بينا.
فإن قيل: من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية بالبينة للمدعي القضاء بولدها للمدعي. ألا ترى أن من ادعى جارية في يد إنسان ملكاً مطلقاً، وأثبت ذلك بالبينة ولها ولد، فإنه يستحق الجارية مع الولد؟ فدل أن من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية للمدعي بالبينة القضاء بالولد للمدعي، وإذا تعذر القضاء بالولد للمدعي؛ لأنه أثبت كونه مودعاً في الولد؛ يجب أن يتعذر القضاء بملك الجارية للمدعي أيضاً.

قلنا: من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية للمدعي بالبينة، القضاء بولدها للمدعي إذا كان الولد في ملك المقضى عليه بالجارية من حيث الظاهر وقت القضاء بالجارية.
قلنا: إذا لم يكن في ملكه بأن كان باع الولد أوهبه من غيره، فإنه يقضى بالجارية، ولا يقضى بالولد، وهذا لأن القضاء بمطلق ملك الجارية إنما يكون قضاء بالولد؛ لأن القضاء بمطلق ملك الجارية قضاء بأولية الملك، وإذا قضى بأولية الملك في الجارية كان الولد متولداً من ملكه إلا أن القضاء المطلق بالملك في الجارية إنما يكون قضاء بأولية الملك في الجارية في حق من كان مقضياً عليه بالجارية؛ لا في حق من لم يكن مقضياً عليه بالجارية.

ألا ترى أن غير المقضي عليه إذا ادعى الجارية بعد ذلك ملكاً مطلقاً يسمع دعواه؟ قلنا: والمقضى عليه بالجارية من قامت عليه البينة بالجارية أن من لم تقم عليه البينة بالجارية، والذي صار الولد له بالبيع أو الهبة قبل القضاء بالجارية للمدعي لم تقم البينة بالجارية، فلم يصر مقضياً عليه بالجارية، فلا يظهر القضاء بأولية الملك في الجارية للمدعي في حقه، فلا يظهر لولد الولد من ملك المدعي في حقه؛ فشرطنا كون الولد في ملك المقضى عليه بالجارية وقت القضاء بالجارية لصيرورة الولد مقضياً به من هذا الوجه.
إذا ثبت هذا فنقول في مسألتنا: الولد ليس في ملك المقضي عليه بالجارية وقت القضاء بالجارية للمدعي؛ لأنه أثبت الإيداع من الغائب في الولد فلم يبق الولد في ملكه من حيث الظاهر، فأمكن القضاء بملك الأم دون الولد، والله أعلم.

(9/211)


القسم الخامس من هذا النوع
جارية في يدي رجل قتلها عند رجل، فأقر الذي الجارية في يده أنها لفلان الغائب أودعها إياه؛ كان له أن يخاصم مولى العبد الجاني بالدفع أو الفداء، وهذا لأن المودع ينتصب خصماً من المودع فيما يستحقه المودع لأنه أمر بالحفظ والخصومة فيما يستحق للمودع من حفظ الوديعة فينتصب خصماً فيه.
ألا ترى لو غصب الوديعة منه غاصب كان له أن يخاصم الغائب، ويسترد الوديعة من يده، وطريقه: أن استرداد الوديعة من الغاصب من باب الحفظ، والمودع مأمور بالحفظ، فإن دفع مولى العبد؛ العبد بالجناية ثم أقام رجل البينة أن الجارية كانت جاريته، وأقام الذي كانت الجارية في يديه أنها كانت وديعة عنده من جهة فلان، فالقاضي يقول للمدعي: ماذا تريد؛ أخذ العبد أو تريد أخذ قيمة الجناية؟ وإنما خيره لأن المدعي لما أقام البينة أن الجارية ملكه ظهر أن ذا اليد كان غاصباً لها، والجارية المغصوبة إذا قتلها عبد في يد الغاصب، وأخذ الغاصب العبد كان لمولى الجارية الخيار؛ لأنه لم يجد عين ماله كذا هاهنا.

وإن قال: أريد أخذ عين العبد فلا خصومة بينهما؛ لأن العبد المدفوع بالجناية يقوم مقام الجارية لحماً ودماً كأنه هي، ولو كانت الجارية قائمة في يد ذي اليد، وأقام ذو اليد بينة على الإيداع من الغاصب لم يكن ذو اليد خصماً له؛ فكذا إذا أقام العبد مقامها.
وإن قال: أريد أخذ القيمة كان خصماً له ويقضى له بقيمة الجارية؛ لأنه ادعى ديناً في الذمة بسبب عين كان في يده، وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وإن أقام البينة على الإيداع، وقد مر هذا من قبل.
وإذا قضى القاضي بقيمة الجارية على ذي يد، وأخذها المدعي من ذي اليد ثم حضر الغائب، وأقر بالوديعة أخذ العبد من يد ذي اليد؛ لأنه قام مقام ملكه، ويرجع ذو اليد على الغائب بما ضمن للمدعي من قيمة الجارية.
ولو أن الجارية لم يقتلها العبد، ولكن قطع يدها ودفع العبد باليد والمسألة بحالها لم يكن بينهما خصومة حتى يحضر الغائب لا في الجارية، ولا في العبد، أما في الجارية فظاهر، وأما في العبد لأن العبد بدل اليد فكان كالأرش (213أ4) وذكرنا أنه متى تعذر القضاء بملك الأصل يتعذر القضاء بملك الأرش.

النوع الثاني من هذا الفصل
أن يدعي المدعي مع دعوى الملك المطلق فعلاً، وهذا النوع ينقسم أقساماً أيضاً:

القسم الأول
أن يدعي الفعل على ذي اليد بأن قال ذو اليد: هذا العين ملكي غصبته مني، أو قال: أودعنيه منك، أجرته منك، أو ما أشبه ذلك، وقال ذو اليد: إنه لفلان وصل إلى

(9/212)


يده بجهة كذا على نحو ما بينا، وفي هذا الوجه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد فرق بينما إذا ادعى فعلاً على ذي اليد، وبينما إذا ادعى ملكاً مطلقاً، ولم يدع الفعل على ذي اليد، فإن هناك إذا أقام ذو اليد بينة على أنه لفلان الغائب وصل إليه بوديعة أو إجارة أوما أشبه ذلك، فإنه تندفع الخصومة عن ذي اليد.

والفرق: أن في دعوى الملك المطلق صاحب اليد انتصب خصماً بيده؛ لأن دعوى الملك المرسل لا يصح الا على ذي اليد.
فإنه لو ادعى داراً في يدي رجل وليس في يده دار، لا تصح دعواه فعلم أن في دعوى الملك المطلق صاحب اليد إنما انتصب خصماً بحكم يده ويده تردده بين أن يكون له فيكون خصماً وبين أن يكون لغيره، فلا يكون خصماً وبما أقام من البينة أثبت أن يده يد غيره إنها وليست بيد خصومة، إنما هي يد حفظ.
أما في دعوى الفعل، صاحب اليد إنما ينتصب خصماً بدعوى الفعل عليه وهو الغصب لا بحكم اليد، ألا ترى أن دعوى الغصب كما يصح على ذي اليد يصح على غير ذي اليد حتى أن من ادعى على آخر أنه غصب عبده وليس في يده عبد، صحت دعوته ويلزمه القيمة، قال: وفعله لا يتردد بين أن يكون لغيره حتى يقال: بهذه البينة تبين أن فعل صاحب اليد فعل غيره؛ بل فعله مقصور عليه، وبهذه البينة لا يتبين أن الفعل لم يكن موجوداً، فلهذا قال: لا تندفع الخصومة.
عبارةٌ أخرى: في الفرق أن بينة صاحب اليد إنما تقبل إذا كانت بينته تحيل خصومة المدعي إلى غيره، أما إذا كان ببينته تبطل خصومته فلا تقبل بينته، لأن اليد للإحالة لا للإبطال إذا ثبت هذا فنقول: إذا وقعت الدعوى في الملك المطلق فالمدعي ببينته يثبت استحقاق ملك الرقبة، فإذا أقام ذو اليد البينة أن الرقبة لغيره، فإن يده في الرقبة يد غيره تتوجه الخصومة على ذلك الغير.
فمتى قبلنا هذه البينة كان في هذا إحالة الخصومة إلى غيره وذلك صحيح، أما إذا وقعت الدعوى في الغصب على صاحب اليد، فالمدعي ببينته لا يثبت استحقاق الرقبة، وإنما يثبت وجوب الرد على صاحب اليد، فإن موجب الغصب وجوب الرد على الغاصب، والرد الواجب على الغاصب مما لا يمكن إحالته على غيره، فمتى قبلنا هذه البينة كان في هذا إبطال خصومة المدعي أصلاً، وإنه لا يجوز.

يوضحه: أن الدعوى إذا وقعت في الغصب، فالمدعي على صاحب اليد فعله، وهذه الدعوى لا تصح على غيره، فلا يصح إحالته على غيره، أما الدعوى إذا وقع في الملك المطلق فالمدعي رقبة العين وهذه الدعوى صحيحة على غيره فيصح إحالته عليه.

عبارة أخرى: الفرق أن الدعوى إذا وقعت في الفعل على صاحب اليد، فالمدعي ببينته يثبت على صاحب اليد أخذاً منه أو قبول عقد منه، وذلك كله يناقض دعواه أن فلاناً أودعه، أما إذا وقع الدعوى في الملك المطلق، فالمدعي ببينته يثبت ملك الرقبة لنفسه، وذلك لا يناقض دعوى صاحب اليد غيره، ثم إذا لم تندفع الخصومة عن صاحب اليد في

(9/213)


هذا الفصل وقضى القاضي بالدار ثم حضر الغائب وأقام بينة أنها داره كان دفعها إلى صاحب اليد وديعة، فالقاضي يقضي للذي حضر بالدار، لأن الذي حضر لم يصر مقضياً عليه بالقضاء على صاحب اليد، لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد إنما يتعدى من ذي اليد إلى من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد أو إلى من كان ذو اليد خصماً عنه في الخصومة في الملك، والذي حضر لا يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليدز
وكذلك ذو اليد لم يكن خصماً عن الذي حضر، فلا يتعدى القضاء إلى الذي حضر، وكذلك أن صاحب اليد لو لم يقم بينة على ما ادعى؛ لأن ما يقبل وجوده مثل عدمه.
ثم إن محمداً رحمه الله: صحح دعوى القضاء في هذا الفصل قيل: إنه قول محمد، وقيل: إنه قول الكل، وكذلك فيما إذا وقعت الدعوى في الملك المطلق لو لم يقم صاحب اليد بينة على ما ادعى من الإيداع، وقضى القاضي بالدار للمدعي، لو حضر الغائب، وأقام بينة على أن الدار داره كان دفعها إلى صاحب وديعة، فالقاضي يقضي بالدار للذي حضر وطريقه ما قلنا.

قال: عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبد فلان أودعه إياه، فالقاضي يقضي بعتق العبد ولا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بما أقام من البينة إما لأن صاحب اليد انتصب خصماً للعبد بدعوى الفعل عليه وهو الإعتاق، وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد، بأقامة البينة على الإيداع من الغير.
أو لأن بينة المدعي أثبت إعتاق صاحب اليد، وإعتاقه ينقض دعواه أنه عبد فلان أودعه إياه، ثم يقضي القاضي بالملك لصاحب اليد حتى يقضي عليه بالعتق، وإن كان هو يجحد الملك لنفسه؛ لأن العبد يدعي العتق من جهة ذي اليد ولا يتمكن من إثبات العتق من جهة ذي اليد؛ إلا بإثبات الملك لذي اليد، فكان للعبد إثبات الملك في رقبته لذي اليد، وإن كان ذو اليد منكراً، ثم إذا قضى القاضي بعتق العبد لو حضر الغائب وأقام البينة على أنها داره، قبلنا بينته وقضينا بالدار له، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن البينة حجة شرعية فيجب العمل بها ما لم يضمن ذلك إبطال بينة اتصل بها قضاء القاضي، لأن البينة التي اتصل بها قضاء القاضي صارت حجة كاملة ليرجح جهة الصدق فيها على جهة الكذب، فلا يجوز إبطالها.

إذا ثبت هذا، فنقول في مسألة العتق: لو قضينا للغائب ببينته تبطل البينة التي أقامها العبد على العتق ضرورة؛ لأن العتق لم يبق محلاً لحدوث الملك فيه، فلو قضينا بالملك للغائب لظهر أن العتق لم يكن، فيظهر بطلان تلك البينة ضرورة، وقد اتصل بها القضاء فلا يجوز إبطالها، هذا المعنى في الملك المطلق، فإنا لو قضينا ببينة الغائب لا يظهر بطلان تلك البينة إذ لا يظهر أن الملك لم يكن ثابتاً للمدعي، ولعل كان الملك للمدعي، ثم صار للغائب وقت إقامة البينة، فلهذا افترقا.
والثاني من الفرق: أن القضاء بالعتق على ذي اليد قضاء على الناس كافة، وبيان ذلك من وجوه:

(9/214)


أحدها: أن العبد بالعتق يستحق رق نفسه؛ والرق واحد في حق الناس أجمع؛ لأنه محل الملك، وإنما يختلف حكماً باختلاف سببه، وسبب الرق لا يختلف بل هو شيء واحد وهو الشيء الأول والولادة من رقيقه.
ألا ترى أن الحكم المتعلق بالملك يبطل بتحديد سبب الملك كالرد بالعيب، فإنه إذا باع المشتري ثم اشتراه لا يرد على البائع الأول بعيب كان في يده، والحكم المتعلق بالرق يعود.
ألا ترى لو حلف بعتق عبده ثم باعه ثم اشتراه، ثم حنث؛ عتق العبد، وإذا كان واحداً وقضي به للمدعي يتناول قضاء الناس أجمع لأنه واحد، فلا يتصور مقضياً به للمدعي في حقه غير مقضي به في حق غيره مع كون الحجة حجة في حق الناس أجمع، والملك إذا اختلف جاز أن يقضي للمدعي بما كان لزيد، ويبقى فيه ما كان لعمرو غير مقضي به.
والثاني: القضاء بالعتق قضاء بسقوط مالية المحل؛ وهذا لا يتصور أن يكون ثابتاً في حق زيد دون عمرو، وكان قضاءً على الكل، وأما القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء بعدم الملك لذي اليد، وليس من ضرورة عدم الملك لذي اليد أن لا يكون ثابتاً لغيره.
والثالث: العتق، تعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة من أهلية الشهادة، وثبوت الولايات وغير ذلك فانتصب ذو اليد (213ب4) خصماً عن الناس كافة، فصار الغائب مقضياً عليه والإنسان متى صار مقضياً عليه في حادثة؛ لا يتصور أن يصير مقضياً له في تلك الحادثة، أما الملك المطلق لم تتعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة فلم يكن القضاء به على ذي اليد قضاء على الناس كافة فبقي الغائب على دعواه.
والرابع: في دعوى العتق حق الله تعالى؛ لأن حق الله تعالى يزداد بسبب العتق من إقامة الجمعة والأعياد والحدود، والزكاة والحج، ولهذا لا يجوز استرقاق الحر برضاه؛ لأن فيه حق الله تعالى وجمع الناس، كالنائبين عن الله تعالى في إثبات حقوقه من حيث إنهم عبيده.

كالورثة نائبين عن الميت في إثبات الحقوق له عليه من حيث إنهم خلفاؤه، ثم بعض الورثة ينتصب خصماً عن الباقين فيما يدعي على الميت وله، فكذا هاهنا وجب أن يكون كذلك، فبهذا الاعتبار ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، ويصير الغائب مقضياً عليه بالقضاء على الحاضر، إلا أن في دعوى العتق دعوى إزالة الملك عن العبد، والملك في العبد من حق العبد، وبعض الناس لا ينتصبون عن الباقين في إثبات حقوقهم إلا بالتوكيل، أو بأن يدعي على الغائب ما يكون سبباً لثبوت ما يدعي على الحاضر، ولا يؤخذ هاهنا واحد منهما، فلا ينتصب ذو اليد خصماً عن الغائب، فلا يصير الغائب مقضياً عليه بهذا الاعتبار، فإذاً الغائب بأحد الاعتبارين صار مقضياً عليه، وباعتبار الآخر لم

(9/215)


يصر مقضياً عليه، ولا يمكن أن يجعل مقضياً عليه، وغير مقضي عليه لما بينهما من التنافي فلا بد من ترجيح أحدهما، فنقول: ترجيح حق الله تعالى أولى لوجهين:
أحدهما: أن في مراعاة حق الله تعالى حق العبد، وهو صيرورته أهلاً للملك والشهادة، وفي مراعاة جانب الملك مراعاة حق واحد وهو حق مولى العبد.
والثاني: أنه اجتمع هاهنا ما يوجب الحرية، وما يوجب الرق، فترجح ما يوجب الحرية، كما لو اجتمعت هاتان البينتان في الابتداء، أما دعوى الملك المطلق فليس دعوى فيه حق الله بل هو دعوى حق العبد، وفي حقوق العباد لا ينتصب البعض خصماً عن البعض إلا بالطريق الذي قلنا، ولم يوجد ذلك هاهنا، فاقتصر القضاء على ذي اليد، ولم يصر الغائب مقضياً عليه.
واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب» : لإيضاح ما قلنا فقال: ألا ترى لو أن رجلاً ادعى عبداً في يدي رجل أنه عبده، وأقام البينة على ذلك وقضى القاضي بعتقه ثم جاء آخر وأقام بينة أنه عبده لم يقض ببينته؛ لأن في الفصل الأول (و) الثاني لم يصر مقضياً عليه ببينة الأول، وفي الفصل الثاني: صار مقضياً عليه ببينة الأول على ما ذكرنا.

قال: عبد في يدي رجل جاء رجل، وأقام بينة أنه عبده اشتراه من ذي اليد بألف درهم ونقد الثمن، وأقام صاحب اليد بينة أنه وديعة عنده من جهة فلان؛ لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن ذا اليد انتصب خصماً للمدعي بدعوى فعل عليه وهو البيع، فصار كما لو انتصب خصماً له بدعوى الغصب عليه.
فقد وضع محمد رحمه الله: هذه المسألة فما إذا ذكر المدعي في دعواه نقد الثمن، ولم يذكر قبض المبيع لا في دعوى المدعي ولا في شهادة شهود المدعي، ولا شك أن في هذه الصورة لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن المدعي ادعى عليه قولاً وهو الشراء، وهو باقٍ حكماً لبقاء حكمه، وهو وجوب تسليم المبيع إلى المشتري، فيبقى دعوى الفعل معتبراً، وذو اليد متى انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه لا يدفع الخصومة عنه بإقامة البينة على الإيداع من الغائب.

يوضحه: أن المدعي يدعي عليه وجوب التسليم وهو فعل في ذمته، والأفعال الواجبة في الذمة لا يتصور تحويلها إلى غيره، فلا يقدر على تحويل هذه الخصومة إلى غيره، فأما إذا ادعى الشراء والقبض منه، وقد شهد الشهود بالشراء والقبض من ذي اليد، والباقي بحاله هل تندقع الخصومة عن ذي اليد؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في مسألة العبد.
وقد اختلف المشايخ فيه، حكى القاضي الإمام أبو الهيثم عن القضاة الثلاثة: أبي حازم، وأبي سعيد اليزدي، وأبي طاهر الدباس رحمهم الله؛ أن الخصومة تندفع عن ذي اليد. وغيرهم من مشايخنا قالوا: لا تندفع.
وقد وضع محمد رحمه الله هذه المسألة في الدار في باب ما يكون الرجل فيه خصماً، وما يندفع عن نفسه، ونص في هذا الفصل على أنه تندفع الخصومة عن ذي اليد

(9/216)


كما هو مذهب القضاة الثلاثة.g
ووجه قول القضاة: أن دعوى الشراء مع القبض دعوى الملك المطلق، إلا أن يرى أن إعلامه ليس بشرط لصحة البينة، حتى إن من قال لغيره: بعت منك عبداً بألف درهم وسلمته إليك، وأقام البينة على ذلك قبلت بينته، وإن كان العبد مجهولاً لأنه أقام البينة على البيع والتسليم؛ فكان دعوى الثمن لا غير، وهذا لأن الشراء ينتهي بالقبض، وبعد انتهائه لا يبقى
حتى يكون دعوى العقد فثبت أنه دعوى مطلق الملك وهذه الدعوى تندفع عن صاحب اليد بإحالة اليد إلى غيره، وجه قول غيرهم من المشايخ من وجهين:
أحدهما: وهو الفعل المذكور، وهو الشراء بقي معتبراً، ولم يصر كدعوى ملك مطلق، ولهذا لا يقضي القاضي للمدعي بالزوائد المنفصلة، ولا يرجع الباعة بعضهم على البعض، ولو جعل بمنزلة دعوى الملك المطلق لكان الأمر بخلافه.
الوجه الثاني: أن المدعي ببينته أثبت الشراء من صاحب اليد، وبيع صاحب اليد العبد من المدعي إقرار أن العبد مملوك له، فإن البيع قد صح، وإن العبد صار ملكاً للمشتري فيصير متناقضاً في دعوى الإيداع من الغائب، فإذا صار متناقضاً لا يسمع دعواه الإيداع، ولا يعتبر بالبينة بدون الدعوى فصار وجودها والعدم بمنزلة.

ولو انعدمت البينة على الإيداع أليس أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد؟ كذا هاهنا، ثم إذا لم تندفع الخصومة عن صاحب اليد في هذه المسألة على ما هو موضوع محمد، وهو ما إذا ذكر المدعي نقد الثمن ولم يذكر قبض البيع، ولم يشهد الشهود بقبض البيع أيضاً، ووجب القضاء بالعبد لمدعي الشراء، فقبل أن يقضي القاضي لمدعي الشراء بالعبد حضر المقر له، وصدق ذا اليد فيما أقر له به، فإن القاضي يأمر ذا اليد بدفع العبد إلى المقر له، ثم يقضي بالعبد لمدعي الشراء على المقر له، ولا يكلف مدعي الشراء إعادة البينة على المقر له، إنما يؤمر صاحب اليد بدفع العبد إلى المقر له؛ لأن الإقرار من صاحب اليد يكون العبد ملكاً للمقر له وحده في حال العبد ملكه ظاهراً بحكم يده، فاعتبر إقراره في حق نفسه فأمر بتسليم العبد إلى المقر له.

وأما لا يكلف مدعي الشراء إعادة البينة على المقر له؛ لأن بينته قد صحت ظاهراً، يكون صاحب اليد خصماً له من حيث الظاهر، واستحق هو القضاء بهذه البينة، فصاحب اليد بإقراره يريد إبطال البينة القائمة عليه، ويريد إبطال استحقاقه القضاء بهذه البينة، فلا يقدر عليه، واعتبر إقرار صاحب اليد في حق نفسه دون المدعي، وصار الغائب عند حضرته بمنزلة الوكيل بالخصومة عن ذي اليد، وهذا لأن صاحب اليد لما أقرَّ بالملك للغائب، والخصومة أبداً تكون إلى المالك، فقد فرض الخصومة إليه.
وصار حاصل مسألتنا في حق المدعي كان المدعي أقام البينة على ذي اليد فقبل أن يزكي شهوده، وقضي له بالعبد، وكَّل ذو اليد رجلاً بخصومة المدعي، ودفع العبد إليه، وهناك إذا زكيت الشهود يقضى بالعبد للمدعي، ولا يكلف المدعي إعادة البينة، كذا هاهنا.

(9/217)


ويكون المقضي عليه في هذه الصورة صاحب اليد دون المقر له، لأن المقر له بمنزلة الوكيل عنه، ولأجل هذا المعنى ظن بعض مشايخنا أن ما ذكر من الجواب في «الكتاب» قولهما؛ لا قول أبي حنيفة، لأنهما يريان جواز التوكيل، ولزومه من غير خصم، وأبو حنيفة لا يرى ذلك قصداً، والتوكيل هاهنا لا يثبت قصداً، وإنما يثبت حكماً للإقرار بالملك، وكم من شيء ثبت حكماً، ولا يثبت قصداً، فلهذا قضى القاضي للمدعي على صاحب اليد من غير إعادة البينة (214أ4) فإن قال المدعي: أنا أعيد البينة على المقر له كان له ذلك، وكان المقضي عليه في هذه الحالة المقر له لا ذا اليد.
بخلاف ما إذا قال المدعي: لا أعيد البينة، فإن المقضي عليه في هذه الصورة ذو اليد المقر لهز
والفرق: أن المدعي إذا لم يرضَ بإعادة البينة لم ينفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي كي لا يلزم إعادة البينة فكان وجود إقراره كعدمه، ولو عدم منه البينة كان المقضي عليه ذو اليد؛ لأن البينة قامت عليه، وهو لم يكن وكيلاً عن المقر له، فأما إذا قال: أنا أعيد البينة، فقد رضي ببطلان ما أقام على ذي اليد من البينة، فنفذ إقرار ذي اليد على المدعي، وثبت الملك للمقر له في حق المدعي، وصار المقضي عليه في هذه الحالة المقر له لا صاحب اليد.
فلو أن القاضي لم يقضِ بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام الذي حضر بينة على المدعي أن العبد عبده كان أودعه من صاحب اليد أو أقام البينة أن العبد عبده، ولم يقم البينة على الإيداع قبلنا بينته وقضينا بالعبد له وأبطلنا بينة مدعي الشراء؛ لأن الذي حضر أثبت بينته أن مدعي الشراء أقام البينة على غير الخصم.

فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل بينة الذي حضر على مدعي الشراء؛ لأن العبد في يد الذي حضر، وذو اليد إذا أقام بينة على أن ما في يده ملكه لا تقبل بينته لاستغنائه عن إقامة البينة يكون الملك ثابتاً له بظاهر اليد.

قلنا: بينة الذي حضر عندنا لا تقبل لإثبات الملك لنفسه وإنما تقبل بإبطال بينة مدعي الشراء؛ لأن الذي حضر بينته يثبت أن المدعي أقام البينة على غير الخصم، وبينة ذي اليد على مقبولة كما لو أقام المدعي بينة بعد ذلك على إقرار المقر له؛ قبلت بينته، ويقضى بالعبد لأنه خارج، والمقر له ذو اليد والخارج مع ذي اليد؛ إذا أقاما البينة والخارج يدعي الشراء من خارج آخر تقبل بينة الخارج، ويقضى له على ذي اليد كذا هاهنا هذا إذا أقام المقر له بينة قبل القضاء للمدعي.
فأما إذا أقام بينته بعد القضاء للمدعي لكن بالبينة التي قامت على صاحب اليد بأن لم يعد المدعي بينته على صاحب اليد قبلت بينته أيضاً، ويقضى له بالعبد على المدعي؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه، إنما المقضي عليه ذو اليد على ما مرَّ، فقبلت بينته.
فإن قال مدعي الشراء: أنا أقيم البينة على المقر له أن العبد كان لصاحب اليد، وإني اشتريته منه، فهذا على وجهين: إما إن أعاد البينة بعد ما قضى القاضي للذي حضر

(9/218)


ببينته أو قبل ذلك، فإذا أعاد بعد القضاء لا تقبل بينته؛ لأن المدعي صار مقضياً عليه من جهة الذي حضر ببينة أقامها عليه وبينة المقضي عليه فيما صار مقضياً عليه لا تقبل، وإن أعاد قبل القضاء قبلت ببينته، وقضي بالعبد له لأنه لم يصر مقضياً عليه فينبغي أن تقبل بينته.
فإن قيل: كيف تقبل بينة المدعي في هذه الصورة؟ وإن الملك قد ثبت له بقضاء القاضي فكان مقيماً البينة على إثبات ما هو ثابت.

قلنا: إنما قبلت بينته ليصير المقر له مقضياً عليه بهذه البينة، فلا تقبل بينة المقر له بعد ذلك على هذا المدعي لا لإثبات الملك له مقصوداً بالبينة، ألا ترى أنه إذا أعاد البينة على المقر له قبلت، وإن لم يكن المدعي محتاجاً إلى البينة لإثبات الملك إنما قلت: ليصير المقر له مقضياً عليه، فلا يقبل بينته بعد ذلك على المدعي كذا هاهنا، ثم إن محمداً رحمه الله قال في الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام الذي حضر بينة أن العبد عبده كان أودعه من صاحب اليد قبلنا بينته؛ وقضينا بالعبد له، وأبطلنا بينة مدعي الشراء.
حكي عن الفقيه محمد بن حامد أنه كان يقول: ينبغي أن يقضى بالعبد بين الذي حضر وبين مدعي الشراء نصفان.

ووجه ذلك: أن اليد التي للذي حضر في العبد غير معتبرة، ألا ترى أن بينته قبلت على مدعي الشراء؟.
ولو كانت يده معتبرة لما قبلت بينته لأن بينة ذي اليد على دعوى الملك المرسل لا تقبل خصوصاً إذا كان ثمة بينة يعارضها أو نقول بعبارة أخرى: العبد وإن كان في يد الذي حضر حقيقة، فهو في يد صاحب اليد الأول حكماً.
ألا ترى أن المدعي لا يكلف إعادة البينة على الذي حضر، ولولا أنه جعل في الحكم كان في يد المقر، وألا يكلف إعادة البينة، فثبت بأن العبد إذا كان في يد الذي حضر حقيقة، فهو في يد صاحب اليد الأول حكماً، وإذا كان هكذا كان الذي حضر خارجاً في العبد كمدعي الشراء، وقد أقام كل واحد منهما البينة على أن العبد له، فينبغي أن يقضي بينهما نصفان.
وقال الفقيه محمد بن حامد: هذا بلغني أن ابن سماعة كتب بهذا إلى محمد بن الحسن، واحتج عليه بمسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله، وكتب في الجواب: إن الصحيح أن يقضي بالعبد بينهما نصفان.

حكي عن الشيخ الإمام أبي نصر الصفار أنه كان يقول: إن شيخنا أبا الهيثم ما كان يحكي لنا الطعن لكلام ابن سماعة في هذه المسألة، وإنما يحكي مما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وكان يقول ما ينبغي أن يكون في هذه المسألة طعن؛ لأن أكثر ما في الباب إنما يجعل الذي حضر خارجاً حكماً، والمدعي خارج حقيقة مع هذا القضاء ببينة الذي حضر أولى، ويجوز أن يترجح أحد الخارجين على الآخر على ما عرف.
وبيان وجه الترجيح هاهنا: أن مدعي الشراء يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد

(9/219)


الأول، والذي حضر يدعي الاستحقاق على صاحب اليد الأول، ولهذا يثبت الترجيح لبينة الذي حضر؛ لأن الذي يدعي الاستحقاق على صاحب اليد يثبت بطلان تصرف صاحب اليد، وبيعه من المدعي، فبينته تثبت زيادة على بينة المدعي.
ونظيره ما قالوا: في عبد في يدي رجل، جاء رجل وأقام بينة أنه عبده ورثه من أبيه كانت بينة مدعي الشراء أولى؛ لأنه يدعي الاستحقاق على العبد، وهذا يدعي الاستحقاق من جهة الأب كذا هنا.
قال: فإن كان مدعي الشراء أقام شاهداً واحداً على الشراء من ذي اليد فأقر صاحب اليد أن العبد الغائب أودعنيه، وقبل أن يقيم شاهداً آخر حضر فلان وصدق صاحب اليد فيما أقر، وأمر بتسليم العبد إلى الذي حضر على ما مر، ثم إن المدعي أقام شاهداً آخر على الشراء قضى بالعبد له، ولا يكلف إعادة الشاهد الأول على الذي حضر، لأن إقامة الشاهد الأول على ذي اليد صح من حيث الظاهر، واستحق المدعي القضاء بشهادته عند انضمام شاهد آخر إليه، فلا يبطل هذا الاستحقاق بإقرار ذي اليد للمقر له ويكون المقضي عليه صاحب اليد لا الذي حضر؛ لأن الشاهد الثاني منضم إلى الشاهد الأول، أما الشاهد الأول غير منضم إلى الشاهد الثاني.

بيانه: أن الشاهد الأول قام على من هو خصم من حيث الظاهر؛ وهو صاحب اليد، والشاهد الثاني قام على الذي حضر وأمكن أن يجعل الذي حضر مانعاً لصاحب اليد؛ لأن صاحب اليد وصي بتفويض الخصومة إليه فيمكن القضاء حينئذٍ، فضممنا الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول.
وجعلنا الشاهد القائم على الذي حضر كالقائم على صاحب اليد، وجعلنا الذي حضر كالوكيل عن صاحب اليد، أما لو ضممنا الشاهد إلى الشاهد الثاني لا يمكن القضاء؛ لأن الذي حضر لم يرض بخصومة صاحب اليد، فلم يكن أن يجعل صاحب اليد بيعاً للذي حضر، فلهذا ضممنا الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول، وإذا جعلنا كذلك صار كأن المدعي أقام الشاهدين على صاحب اليد، وهناك المقضي عليه صاحب اليد الذي حضر كذا هاهنا.
وما يقول محمد في «الكتاب» : إنه يقضى بشهادة الشاهدين على رب العبد أراد به القضاء في حق الأخذ، والانتزاع من يديه لا في حق الملك بدليل أنه ذكر بعد هذا أن الذي حضر (214ب4) وهو المقر له لو أقام البينة أن العبد عبده؛ قبلت بينته، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته، ولو أن مدعي الشراء لم يقم على صاحب اليد على الشراء لا شاهدين ولا شاهداً واحداً حتى أقر صاحب اليد أن هذا عبد فلان أودعنيه، ثم حضر المقر له وصدق صاحب اليد فيما قال، ودفع العبد إليه، ثم أقام المدعي شهوداً على المقر له أن هذا العبد كان لصاحب اليد، وإني اشتريته منه، وقضى القاضي بذلك لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .
قيل: وينبغي أن يكون المقضي عليه في هذه الصورة المقر له؛ لأن إقرار صاحب اليد قبل إقامة المدعي البينة أصلاً صحيح في حق المدعي؛ إذ ليس فيه إضرار بالمدعي،

(9/220)


فصح فصار الثابت بالإقرار كالثابت بالبينة، ولو ثبت بالبينة أن العبد للمقر له، وقضى القاضي له بالعبد.
ثم أقام مدعي الشراء بينة أن العبد كان لصاحب اليد، وأنه اشتراه منه، وقضى القاضي لمدعي الشراء كان المقضي عليه المقر له دون ذي اليد؛ كذا هاهنا.

بخلاف الفصل الأول والثاني؛ لأن ثمة إقرار ذي اليد لم يصح في حق المدعي أصلاً، لأنه لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة، فيتضرر به المدعي بإعادة البينة، أما هاهنا فبخلافه.
قال محمد رحمه الله: في دار في يدي رجل فأقام رجل البينة أنها داره اشتراها من ذي اليد، ونقده الثمن، وقبض الدار، وأقام الذي في يديه بينة أنها دار فلان أودعنيها، فلا خصومة بينهما وهي المسألة التي تشهد للقضاة الثلاثة في مسألة العبد، ولو لم يشهد شهود المدعي على قبض المبيع، وباقي المسألة بحالها، لم تندفع الخصومة عن ذي اليد، ويقضي القاضي بالبيع عليه، ويأمره بتسليمها إلى المدعي.

قال: ولو ادعى الشراء على صاحب اليد، الشراء، والقبض وصدقه صاحب اليد في ذلك، ثم ادعى صاحب اليد أنها وديعة لفلان وأقام البينة، فلا خصومة بينهما؛ لأن الثابت بتصادقهما كالثابت بالبينة، ولو ثبت الشراء والقبض بالبينة، وباقي المسألة بحالها قد ذكرنا أنه لا خصومة بينهما، فكذا إذا ثبت بالتصادق.
ولو ادعى المشتري على صاحب اليد الشراء بدون القبض، وصدقه صاحب اليد في ذلك، ثم أقام صاحب اليد بينته على أنها وديعة عنده من جهة فلان، لا تندفع عنه الخصومة لأنه لو ثبت الشراء بدون القبض بالبينة، وباقي المسألة بحالها؛ لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد؛ فكذا إذا ثبت بالتصادق.
يوضح الفرق بينهما: أن تصديق صاحب اليد المدعي في الشراء والقبض لا يناقض دعواه الإيداع من الغائب لجواز أنه اشتراها من صاحب اليد، ثم أجرها من الغائب أو رهنها منه، أو باعها منه، ثم إن الغائب أودعها من صاحب اليد، وإذا لم يوجب ذلك تناقضاً في دعواه الإيداع من الغائب لا يمنع ذلك سماع دعوى الإيداع من الغائب.

أما تصديق صاحب اليد المدعي في الشراء بدون القبض يناقض دعواه الإيداع من الغائب؛ لأن المشتري لا يملك التصرف في الميراث قبل البيع، فبعد البيع منه قبل التسليم لا يتصور الإيداع من الغائب، فيكون هو متناقضاً في هذه الدعوى، فلا تسمع دعواه؛ حكي هذا الفرق عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري.
لكن هذا الفرق إنما يستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن وضع المسألة في الدار، والتصرف في العقار قبل القبض إنما لا يجوز على قول محمد، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ التصرف في العقار قبل القبض جائز، فلا يستقيم هذا الفرق على قولهما.
وإذا ادعى داراً في يدي رجل أن صاحب اليد وهبها منه أو أجرها منه، أو رهنها منه، أو تصدق بها عليه، وأنه قبضها منه؛ وأقام ذو اليد البينة أنها دار فلان أودعها إياه،

(9/221)


فإنه لا تندفع عنه الخصومة؛ هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» .
روى الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ في «شرح الجامع» : عن القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة أن ما ذكر في «الكتاب» : أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد قول محمد في الرهن والإجارة، فأما في الهبة والصدقة ينبغي أن تندفع الخصومة عن ذي اليد؛ لأن في الرهن والإجارة ادعى عليه فعلاً، ولم يقع الفراغ عن أحكامها، فإن من حكمها إدامة القبض، وأنه لو عاد إلى يد الراهن أو الآجر يسقط حكم الرهن والإجارة، فبقي دعوى الفعل معتبراً.
فأما في الهبة والصدقة: وقع الفراغ من حكمها لأن شرط صحتها أصل القبض لا إدامة القبض، فإنها لو عادت إلى يد الواهب المتصدق لا يبطل حكم الهبة والصدقة فسقط اعتبار دعوى الفعل، ومن المشايخ من قال: ما ذكر جواب الكل، وهو الظاهر، فإن محمداً رحمه الله جمع بين الكل وذكر عقيبها جواباً، والظاهر أنه أراد به جواب الكل.

ووجه ذلك: أن ذا اليد انتصب خصماً للمدعي بدعوى الفعل عليه، ولم يسقط اعتبار دعوى الفعل إليه، وإن استوفى أحكامه ولم يصر بمنزلة دعوى ملك مطلق بدليل أنه لا يقضي للمدعي بالزوائد المنفصلة، ولا يرجع الباعة بعضهم على بعض، فبقي دعوى الفعل معتبراً، ولا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثبات الإيداع من الغائب.

القسم الثاني من هذا النوع أن يدعي المدعي الفعل على صاحب اليد
صورته: ادعى عيناً في يدي رجل أنه له غصبه منه فلان، والجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يدع الفعل أصلاً، هكذا ذكر في شرح «الجامع» .
وذكر محمد في كتاب «العلل» : إذا ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ثوبه سرقه من فلان الغائب؛ لا تندفع الخصومة عن ذي اليد ويقضى بالثوب للمدعي، وهذا استحسان.
والقياس: أن يندفع كما لو قال: هذا ثوبي، غصبه مني فلان، وأقام صاحب اليد بينة على أنه وديعة عنده من جهة فلان الغائب.
وجه الاستحسان: أنا لو دفعنا الخصومة عن صاحب اليد بهذا يصير ذلك سبباً لوجوب الحد على الغائب، لأن المدعي ببينته، وثبت السرقه عليه، ويقضى عليه بالقطع لأنه ظهر سرقه قبل أن وصل العين إلى المالك، فأما إذا لم تندفع الخصومة عن ذي اليد وقضينا بالثوب للمدعي، لا يجب القطع على الغائب بعد ذلك؛ وإن ظهر سرقته، لأنه إنما يظهر سرقته بعدما وصل العين إلى المالك، ويحتال لدرء الحد ما أمكن، فلم تدفع الخصومة عن ذي اليد بهذه الصورة احتيالاً لدرء الحد، خرج عن هذا مسألة الغصب، لأن هناك لو دفعت الخصومة عن ذي اليد إذا أثبت المدعي بعد ذلك على الغائب؛ لا يلزم الغائب حد.
وفي «الكتاب» علل أيضاً: رجل ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ثوبه غصبه منه فلان

(9/222)


الغائب وأقام على ذلك بينة، وقال صاحب اليد: فلان ذلك أودعنيه فلا خصومة بينهما، وإن لم يقم صاحب اليد بينة على الإيداع.

وفي «الجامع» من هذا الجنس في: رجل ادعى دابة في يدي رجل، وقال في دعواه: هذه الدابة كانت دابة فلان، وقد اشتريتها منه، وقال ذو اليد: فلان ذلك أودعنيها، فلا خصومة بينهما، ولو لم يقم ذو اليد بينة على دعواه لأنهما تصادقا على أن يده يد غيره المدعى عليه يدعي ذلك صريحاً، والمدعي يدعي ذلك في ضمن دعوى الشراء منه، لأن الشراء لا يصح إلا من صاحب اليد، فدعواه الشراء من الغائب إقرار منه باليد للغائب، والآن يراها في يد صاحب اليد، فالظاهر وصولها إلى ذي اليد من جهة فلان، فعلم أن كون هذا اليد يد غيره ثبت بتصادقهما؛ فاستغنى عن إثباته بالبينة.
عبد في يدي رجل أقام بينة على ذي اليد أنه عبد فلان، وأن فلاناً أعتقه، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً ذلك أودعه إياه، فالقاضي لا يقضي بعتق العبد، لأن العبد مع صاحب اليد تصادقا على أنه ملك فلان، وأن بينة العبد على العتق غير مقبولة عليه، لأنه بينة على العتق قامت على غير خصم، لأن صاحب اليد ليس بخصم عن الغائب في دعوى العتق عليه، فصار وجود هذه البينة، والعدم بمنزلة، ولكن القاضي يقف العبد ويحول بينه (215أ4) وبين صاحب اليد، وهذا استحسان.

والقياس: أن لا يحول؛ وجه القياس في ذلك: بأن العبد قد أقر على نفسه بالرق، فإنه أقر أنه كان لفلان، فلو وجبت الحيلولة؛ إنما وجبت إذا ثبت العتق بهذه البينة، ولم يثت على ما ذكرنا وجه الاستحسان؛ أن في هذه البينة سببين:
أحدهما: العتق وذو اليد ليس بخصم فيه، والآخر: قصر يد صاحب اليد فهو خصم في ذلك، وأحدها منفصل عن الآخر لجواز أن يكون عبداً ولا يكون لصاحب اليد حق إمساكه، فيقبل البينة فيما هو خصم فيه؛ وهو قصر يده، وإن كان لا يقبل فيما ليس بخصم فيه وهو العتق.

ونظير هذا ما لو وكل رجلاً بنقل امرأته إلى موضع، فأقامت المرأة البينة أنه طلقها، والموكل غائب، فإنه تقبل هذه البينة في حق قصر يد الوكيل على نقلها للمعنى الذي ذكرنا؛ كذا هاهنا، فلم يجعل دعوى العين في هذه المسألة دعوى على ذي اليد، وفي المسألة المتقدمة جعل القضاء بالعتق على ذي اليد قضاءً على الغائب، وجعل ذا اليد خصماً عن الغائب في الإنكار.
والفرق: أن في دعوى العتق على الغائب أمكن مراعاة الحقين من غير إبطال الحرية للعبد بأن يقصر يد ذي اليد عن العبد باعتبار حق الله تعالى، حتى لا يستعمل ذو اليد حراً على كره منه، فلا يقضي بالعتق باعتبار ما للمولى في العبد من الحق، وهو الملك حتى يحضر الغائب، وليس في مراعاة الخصمين إبطال حق العبد في الحرية، بل فيه تأخير إلى أن يحضر الغائب، فيقيم البينة عليه، فيقضي له بالعتق.
k
فأما في دعوى العتق على ذي اليد متى راعينا جانب الملك، ولم يجعل الغائب

(9/223)


مقضياً عليه، أولى إلى إبطال حق الله تعالى، وحق العبد في الحرية، فإنه يرد رقيقاً بعدما حكمنا بعتقه على ذي اليد بحيث لا يمكنه إثبات العتق بعد ذلك، فتعذر مراعاة الحقين ووجب مراعاة أحدهما، فكان مراعاة حق الله تعالى أولى، ثم في هذه المسألة إذا حال القاضي بين العبد وبين صاحب اليد؛ يستوثق من العبد بكفيل؛ لأن من الجائز أن العبد كان محتالاً في هذه الدعوى، وأنه قصد بهذا أن يزيل يد صاحب اليد عن نفسه؛ حتى يستوثق منه بكفيل صيانة لحق الغائب، وإذا حضر الغائب كلف القاضي العبد إعادة البينة؛ لأن البينة الأولى لم تكن معتبرة على ما مرَّ، فإن أعاد قضى بعتقه وإلا دفع إلى مولاه.

وكذلك لو أقام بينة أنه عبد فلان لإنسان آخر دفعه إليه وديعة أو إجارة أو رهناً، لا يقضي القاضي بعتقه، وفي الحيلولة قياس واستحسان على ما مر، ولو زعم ذو اليد أنه عبد فلان الغائب أودعه إياه، وقال العبد: كنت عبداً له إلا أنه أعتقني، أو قال العبد: كنت عبداً لفلان الآخر أعتقني، لا يقبل قول العبد فرق بين هذا وبينما إذا قال: أنا حر الأصل حيث يقبل قوله في ذلك.

والفرق: أن في دعوى الإعتاق أقر على نفسه بالملك والرق، وادعى زواله بالإعتاق، فلا يصدق إلا بحجة، وقوله: أنا حر الأصل إنكار ثبوت الملك والرق، واليد على نفسه، والقول قول المنكر في الشرع.
ألا ترى أن فلاناً لو كان حاضراً، وادعى أن العبد ملكه، وقال العبد: أنا حر الأصل، فالقول قوله؛ لأن الأصل في الآدمي الحرية، فكان منكراً ثبوت الملك، واليد على نفسه، ولو قال: كنت عبداً له إلا أنه أعتقني لا يقبل قوله؛ لأنه ادعى زوال الملك بعدما أقر به؛ كذا هاهنا في قوله: أنا حر الأصل؛ ينبغي أن يكون القول قول ذي اليد؛ لأن العبد في يدي ذي اليد من حيث الحقيقة، وقول الإنسان فيما في يده مقبول.
ألا ترى أنه لو كان في يده ثوب أو دابة يقبل قوله في أنه لفلان، وطريقه ما قلنا.
قلنا: نعم، في يد ذي اليد حقيقة إلا أنا نعلم بيقين أن يده على العبد حادثة؛ لأن يد الملك على الآدمي تكون حادثة لا محالة، لأن الأصل في الآدمي الحرية، وإنها تنفي يد الغير، فيكون القول قول من كان اليد له في الأصل، لا قول من كان في يده في الحال.
كثوب عرفناه في يدي رجل، ثم رأيناه في يدي رجل آخر، وتنازعا فيه كان القول قول من كان اليد في الأصل له، لا قول من له اليد في الحال، لأنا تيقنا بحدوث يده كذا هاهنا.
ولو قال العبد: أنا حر الأصل وأقام الذي في يديه بينة أنه عبد فلان قضيت له، عبداً لفلان، ودفعته إلى الذي هو في يديه.
فرق بين هذا وبينما إذا ادعى رجل هذا العبد ملكاً مطلقاً، وأقام ذو اليد البينة أنه عبد فلان، أودعه إياه، واندفعت الخصومة عن ذي اليد، فإنه لا يصير العبد مقضياً به للغائب حتى لو حضر، وأنكر أن يكون العبد له لا يلزمه العبد، وهاهنا لو حضر الغائب،

(9/224)


وأنكر أن يكون العبد له لزمه العبد.
والفرق وهو: أن هناك العبد في يد ذي اليد حقيقة؛ لأنه مملوك مرقوق، محل لثبوت يد غيره عليه، ولو ثبت يد صاحب اليد عليه حقيقة فيمكنه حفظه، فلا حاجة إلى إثبات الملك للغائب في حق ذي اليد، ليمكنه الحفظ، وإنما حاجة ذي اليد إلى دفع الخصومة عن نفسه، ويمكنه ذلك بإثبات وصول العين إليه من جهة الغائب، فلا ضرورة إلى إثبات الملك للغائب.
أما في مسألتنا: العبد بدعوى حرية الأصل صار في يد نفسه، وزال عنه يد ذي اليد، لما مر أن القول قوله، في أنه حر الأصل، وذو اليد محتاج إلى إعادة يده عليه، ليمكنه إقامة ما هو مأمور به وهو الحفظ، ولا يمكنه إعادة يده عليه إلا بعد إثبات الملك للغائب، فصار مأموراً من جهة الغائب بإثبات الملك له، لأن الآمر بالشيء أمر به، وبما لا بد له منه، فصار وكيلاً عن الغائب في إثبات الملك له بالبينة القائمة من ذي اليد، كالبينة القائمة من الغائب، أما في تلك المسألة فلا حاجة إلى إثبات الملك للغائب، فلم تكن البينة القائمة من ذي اليد كالبينة القائمة من الغائب، فيقضى بالملك للغائب هاهنا، ولم يقض به هناك لهذا.

وفرق أيضاً: بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى رجل هذا العبد بأنه له، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه عبد فلان أودعه، فالقاضي لا يقضي ببينة المدعي، ولم يجعل إقامة البينة على ذي اليد بالملك بمنزلة إقامة البينة على المالك، وفي هذه المسألة جعل إقامة البينة من ذي اليد على رق العبد بمنزلة إقامة البينة من المالك.

والفرق وهو: أن المودع خصم فيما يستحق عليه، وإقامة البينة على رق العبد استحقاق لهف صح من المودع، وإقامة البينة من العبد استحقاق على المودع، فلا يصح على المودع.
بيان هذا الكلام: أن المودع مأمور بالحفظ، فيملك ما يرجع إلى الحفظ، ولا يملك ما لا يرجع إلى الحفظ، والاستحقاق عليه ليس من الحفظ في شيء فلا يكون نائباً عنه في ذلك، فأما الاستحقاق له من الحفظ، فيكون نائباً عنه في ذلك.
قال: ولو أقام ذو اليد بينة أن فلاناً أودعه إياه، ولم يشهدوا أنه لا يلتفت إلى هذه الشهادة حتى لا يعاد العبد إلى يده؛ لأن الثابت بهذه البينة مجرد الإيداع، والإنسان كما يودع ولده عند صديقه، وقد يطلب منه أن يحفظه فلم يثبت الرق في هذه الشهادة، فبقيت الحرية الثابتة بالظاهر.
ولو أقام ذو اليد بينة أنه عبد فلان أودعه إياه، أو أجره، أو رهنه، وأقام العبد بينة أنه حر الأصل لم يملك قط؛ لا يقضى بعتق العبد، كما لو أقام العبد البينة على العتق العارض على الغائب على ما مرَّ، وفي الحيلولة قياس واستحسان كما بينا، فإذا حضر المقر له، فإن أعاد العبد البينة عليه أنه حر الأصل يقضى بكونه حر الأصل، وإن لم يعد بقي رقيقاً، ولا يكلف المقر له إعادة (215ب4) البينة أنه عبده لما مرَّ أن المودع خصم

(9/225)


عنه في إثبات الملك لحاجته إليه ليتهيأ له الحفظ، فكأنه أقام البينة لنفسه، فرق بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى العبد على صاحب اليد أنه اعتقه، وقضى القاضي بعتق العبد، فإن هناك لا يقضي بكونه عبداً.
والفرق: أن هناك قد قضينا بحرية العبد على صاحب العبد؛ لأن العبد ادعى العتق عليه، ولما قضينا بالعتق عليه كان هذا قضاء على الناس كافة، أما هاهنا لم يقض له بالعتق؛ لأنه لا يدعي، ولكنه يدعي كونه حر الأصل، وذو اليد ليس بخصم في هذا؛ فلا يقضي ببينته، وإذا لم يقض بحريته هاهنا قبل دعوى الذي من الغائب.
قال محمد: رجل في يديه دار؛ أقام رجل بينة أنها داره، اشتراها من عبد الله بألف درهم ونقد الثمن، وقال ذو اليد: أودعنيها عبد الله الذي يدعي الشراء منه، فإنه لا خصومة بينهما حتى يحضر عبد الله، ولا يكلف الذي في يديه بينة على ما ادعى لأن المدعي أقر بالملك لعبد الله، وادعى الاستحقاق عليه بألف، والدعوى لا تسمع إلا بخصم، وذو اليد ليس بخصم له في ذلك.

يوضحه: أن المدعي يدعي تلقي الملك من جهة عبد الله، وذو اليد ليس بخصم لعبد الله في هذا العين بعدما أقر به لعبد الله، ألا ترى أنه لو حضر عبد الله يؤمر بالتسليم إليه من غير بينة ولا يمين، وإذا لم يكن خصماً لعبد الله كيف يكون خصماً لمن يدعي تلقي الملك من جهته؟ ولأنه ثبت وصول الدار إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله بتصادقهما على ذلك من حيث الظاهر، لأن المدعي لما ادعى الشراء من عبد الله، فقد أقر أنها كانت في يده، لأن الشراء لا يصح إلا من صاحب اليد.
وذو اليد لما أقر بالإيداع من عبد الله فقد أقر له باليد أيضاً؛ لأن الإيداع من عبد الله لا يتصور إلا بعد أن يكون في يده، وإذا ثبتت اليد لعبد الله بتصادقهما ثبت تصادقهما على الوصول إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله من حيث الظاهر، لأنا لا نعرف يداً ثالثة فيها تحيل وصولها إلى يد ذي اليد من يد ثالث، فتعين وصولها إلى يده من جهة عبد الله.

فهو معنى قولنا: إنهما تصادقا على وصول هذا العين إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله من حيث الظاهر، وهذا بخلاف ما لو قال ذو اليد: أودعنيها عمر وكيل عبد الله، حيث لا تندفع الخصومة ما لم يقم البينة عليه، لأنه لم يثبت وصول هذه الدار إلى يده من جهة عبد الله بوجه ما، لأن المدعي إن حصل مقراً من حيث الظاهر بوصول الدار إلى يده من جهة عبد الله لما ادعى الشراء منه، إلا أن صاحب اليد كذبه في ذلك وقال: ما وصل إليَّ من جهة عبد الله، ولم يثبت الوصول إلى يده من جهة عمرو بإقرار ذي اليد لإنكار المدعي ذلك؛ بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
وإن قال المدعي للقاضي: حلف الذي في يديه الدار أن عبد الله أودعها إياه، كما قال فالقاضي يستحلفه بالله؛ لقد أودعك هذه الدار عبد الله، وفيه نوع إشكال أنه قبل قول الذي في يديه الدار من غير يمين.

(9/226)


والجواب: يجوز أن يحلف الإنسان..... أن القول فيه قوله، كالمودع إذا ادعى رد الوديعة كان المعنى فيه أنا إنما دفعنا الخصومة عن ذي اليد لوصول الدار إلى يده، من جهة عبد الله، أو من جهة وكيل عبد الله، فيصح منه دعوى وصول الدار إليه من جهة غاصب عبد الله، أو من جهة وكيله، وذو اليد لو أقر أنه وصل إلى يده من جهة غاصب غصبها من عبد الله كان خصماً للمدعي؛ إلا أن يقيم البينة على ذلك، فقد ادعى على ذي اليد معنىً، لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف فإن حلف فلا خصومة بينهما، وإن نكل جعله القاضي خصماً للمدعي.
فإن قيل: ينبغي أن لا يحلفه القاضي؛ لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة، ودعوى المدعي أنها وصلت إلى صاحب اليد من جهة غير عبد الله بعد دعواه الشراء من عبد الله وقع فاسداً، لأنه بدعوى الشراء من عبد الله صار مقراً بوصولها إلى صاحب اليد من جهة عبد الله، فيصير بدعوى الوصول من جهة غيره متناقضاً، والمتناقض يمنع صحة الدعوى.

وأما إقرار المدعي بوصول الدار من جهة عبد الله ثابت من حيث الظاهر مع احتمال الوصول من جهة غيره، فلا يصير بدعوى الوصول من جهة الغير بعد ذلك متناقضاً؛ لأنه ادعى ما هو المحيل، فيصح دعواه ويترتب عليه الاستحلاف، فلو أن القاضي حين استحلفه قال: ما أودعنيها عبد الله، ولكن قال: غصبتها من عبد الله، وحلف على ذلك جعله القاضي خصماً له؛ لأنه مناقض في الدعوى من حيث إنه ادعى الإيداع أولاً، ثم الغصب، لأن الإيداع غير الغصب والمتناقض لا يسمع كلامه، فيجعل كأنه لم يوجد منه دعوى الوديعة، ولا دعوى الغصب، ولو لم يوجد واحد منهما لكان القاضي يجعله خصماً، فكذا هاهنا.
فإن قيل: كيف يجعله القاضي خصماً هاهنا، وقد وصل الدار إلى يده من جهة عبد الله بتصادقهما ظاهراً، لأن المدعي يدعي الشراء من عبد الله أقر بوصول الدار إليه من جهة عبد الله، إلا أنهما اختلفا في جهة الوصول، ولا يعتبر باختلاف الجهة بعد الاتفاق على الأصل.
كما في باب الإقرار إذا قال الرجل: لفلان عليَّ ألف درهم من قرض، وقال المقر له: لا بل هو من غصب، فالقاضي يقضي على المقر بالألف؛ لأنهما اتفقا على أصل الدعوى واختلفا في الجهة، فكذلك هاهنا.
قلنا في مسألة الإقرار: الكلامان حصلا من اثنين، فلا ينقض أحدهما الآخر؛ لأن الإنسان لا يملك نقض كلام غيره، إلا أن المقر أقر بوصول الألف إليه من جهة المقر له، فيكون القول قول المقر له أنه بأي جهة وصل، فلهذا لا يصير رداً لإقراره، وهاهنا الكلامان حصلا من واحد، والإنسان يملك نقض كلامه، وبين الكلامين مناقضة من حيث

(9/227)


الظاهر، فنقض كل واحد منهما صاحبه، ويجعل كأنه لم يوجد منه دعوى الوديعة ولا دعوي الغصب.

ونظير هذه المسألة مسألة الوديعة، إذا قال المودع: هلكت الوديعة، ثم قال: لا بل رددتها كان ضامناً، وإن كان كل واحد من الأمرين، لو كان لا يكون ضامناً؛ لأنه لم يثبت واحد منهما لكونه متناقضاً، فكذا هاهنا لم يثبت كل واحد من الأمرين لمكان المناقضة وجعل كأنه سكت، ولم يدع واحد منهما.
ثم إذا جعله القاضي خصماً للمدعي ببينته، ثم قدم عبد الله، وادعى أن الدار له كان أودع هذا الذي كانت في يده، وأراد أن يأخذها من المدعي حتى يعيد المدعى عليه البينة؛ لم يكن له ذلك لأن الشراء من عبد الله صار مقضياً به لما جعل القاضي صاحب اليد خصماً للمدعي، وقضى عليه ببطلان يده.
ولو قال الذي في يديه الدار: أودعنيها عمرو وكيل عبد الله لا تندفع الخصومة عنه ما لم يقم البينة عليه، وقد ذكرنا وجه ذلك، فإن أقام ذو اليد بينة، فشهدوا أن عبد الله دفعها إلى عمرو، وقالوا: لا ندري دفعها عمرو إلى هذا الذي في يديه أم لا؛ فهو خصم للمدعي؛ لأن الدافع لخصومة المدعي عنه، دفع عمرو الدار إليه، لا دفع عبد الله إلى عمرو، ولم يثبت دفع عمرو بهذه البينة، فإن قال الذي في يديه الدار للقاضي: استحلف المدعي ما دفعها إلى عمرو، فالقاضي يحلف المدعي على ذلك؛ لأن الذي في يديه الدار ادعى عليه، يعني: لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول.

ألا ترى أن في المسألة الأولى جعلنا الذي في يديه الدار بدعوى المدعي، وإنما جعلنا لأن المدعي ادعى عليه، يعني: لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر استحلف رجاء النكول كذا هاهنا، إلا أن في المسألة الأولى استحلف الذي في يديه الدار على الثبات، وهذا يستحلف المدعي على العلم؛ لأن هاهنا المدعي يستحلف على فعل الغير من كل وجه؛ لأنه يستحلف على دفع عمرو الدار إلى ذي اليد، ولا فعل للمدعي في ذلك، وهناك يستحلف ذي اليد على الإيداع عبد الله الدار منه له اتصال به، وهذا القدر كافٍ لاستحلاف على الثبات كما لو ادعى أنه اشتراه منه.
ولو أن الذي في يديه الدار أقام البينة أن عمرو أودعها إياه، وقالوا: لا ندري من دفعها إلى عمرو، وقال (216أ4) الذي في يديه الدار: دفعها إلى عبد الله فلا خصومة بينهما؛ لأنه ثبت وصول الدار إلى ذي اليد من جهة غيره، وإنه كافٍ لدفع خصومة المدعي، ولا يمين على الذي في يديه الدار؛ لأنه أثبت وصول الدار إلى يد ذي اليد، من جهة غيره، وإنه كافٍ لدفع خصومة المدعي، ولا يمين على الذي في يديه الدار لأنه أثبت ما ادعاه بالبينة، فهو نظير المودع إذا ادعي الرد وأثبته بالبينة، وهناك لا يمين على المودع؛ كذا هاهنا.

القسم الثالث من هذا النوع
المدعي إذا ادعى الفعل إلا أنه لم يسم فاعله بأن قال: هذا العين لي سرق مني،

(9/228)


وأخذ مني، أو قال: غصب مني، وأقام صاحب اليد بينة على أن هذا العين وديعة في يدي من جهة فلان، ففيما إذا قال: غصب مني، أخذ مني، تندفع الخصومة عن ذي اليد بلا خلاف؛ لأن دعوى الفعل على المجهول باطل، والتحق بالعدم، فينفي هذا دعوى الملك المطلق، وفيما إذا قال: سرق مني.

القياس: أن تندفع الخصومة عن صاحب اليد إذا أقام البينة على ما ادعى، وهو قول محمد؛ في الاستحسان لا تندفع وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وجه القياس ما ذكرنا أن دعوى الفعل على المجهول باطل فالتحق بالعدم، وصار كما قال: غصب مني، أخذ مني، وللاستحسان وجهان.
أحدهما: أن الغاصب له يد صحيحة، والسارق ليست له يد صحيحة، ألا ترى أن السارق من الغاصب يقطع؛ لأنه أزال يداً صحيحة، والسارق من السارق لا يقطع؛ لأنه ما أزال يداً صحيحة؟.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا ادعى المدعي الغصب فقد أقر بيد صحيحة لغيره فيه، وذو اليد ببينته أثبت أن ذلك للغائب، وأن يده ليست بيد خصومة بل هي يد حفظ على الغائب.
وإذا ادعى المدعي السرقة فما أقر بيد صحيحة للغير في هذا العين ليقال بأن صاحب اليد ببينته أثبت أن ملك اليد للغائب، فإن يده ليست بيد خصومة، وقد توجهت الخصومة على ذي اليد بدعوى الفعل، فلذلك افترقا، هذا هو طريق العامة وإنها مشكلة عندي.
والوجه الثاني: أن المدعي لما لم يسمِّ السارق فهذا بمنزلة تعيين صاحب اليد للسرقة، ولو عينه لذلك أليس أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وإن أقام ذو اليد بينة على ما ادعى؟ فهاهنا كذلك.
بيان هذا الكلام: أن المدعي إذا لم يسم السارق احتمل أن السارق ذو اليد إلا أن المدعي أراد الستر عليه ابتداءً إلى ما ندب الشرع إليه، ويحتمل أن السارق غيره إلا أنه يرجح احتمال كون ذو اليد سارقاً لوجهين.
أحدهما: أن في جعله سارقاً احتيال لدفع الحد؛ لأنا إذا جعلناه سارقاً؛ لا تندفع الخصومة عنه، وقضى القاضي بالعين للمدعي ويسلم العين إليه، فإذا ظهر السارق بعد ذلك يتعين لا تقطع يده؛ لأنه إنما ظهر سرقته بعد وصول المسروق إلى المالك.

ولو لم يجعله سارقاً تندفع الخصومة عنه، ولا يقضى بالعين للمدعي، فمتى ظهر السارق بعد ذلك يتعين تقطع يده؛ لأنه ظهر سرقته قبل أن وصل العين إلى المالك، فكان في جعله سارقاً احتيالاً للدرء ونحن أقررنا به، فكان تعيينه سارقاً أولى من غيره.

بخلاف ما إذا قال: أخذ مني غصب؛ لأن هناك ليس في تعيين ذي اليد أخذاً احتيالاً، درء الحد إذ لم تتعلق به عقوبة سوى الضمان، أما في السرقة فبخلافه على نحو ما بينا.

(9/229)


الوجه الثاني: إن في تعيين ذي اليد سارقاً إيصال الحق إلى مستحقه.
بيانه: أن من عادة السارق أنه إذا سرق يتوارى ولا يخرج للخصومة خوفاً من القطع، فلو لم يتعين صاحب اليد سارقاً تندفع الخصومة عنه، والمدعي لا يحد السارق على ما عليه عادة السراق، فلا يصل المدعي إلى حقه، أما إذا كان سارقاً لا تندفع الخصومة عنه فيصل الحق إلى المدعي، ونحن أمرنا بإيصال الحق إلى أربابها، فكان تعيين ذي اليد سارقاً أولى؛ بخلاف دعوى الغصب والأخذ، لأن هناك لو لم يتعين صاحب اليد غاصباً وآخذاً؛ لا يبطل حق المدعي، إذ ليس من عادة الغاصب في الأخذ الاختفاء والتواري، بل من عاداتهم الخروج للخصومة، فيجد المدعي ويتخاصم معه، فلا يؤدي إلى إبطال حق المدعي لو لم يجعل صاحب اليد غاصباً وآخذاً فلهذا افترقا.

نوع من هذا الفصل
فرع على النوع من هذا الفصل: إذا ادعى المدعي أن هذا عبده، وأقام عليه البينة، وقال صاحب اليد: هو عبد فلان أودعنيه ولا بينة؛ حتى لم تندفع الخصومة عنه بمجرد قوله على ما مرَّ، ولو أن القاضي لم يقض للمدعي ببيته حتى حضر المقر له، وصدق صاحب اليد فيما قال، ودفع العبد إلى المقر له، وقضى القاضي للمدعي بالعبد، بتلك البينة على ما مرَّ كان هذا قضاء على صاحب اليد لما ذكرنا، فإن أقام المقر له بينة على المدعي أنه عبده كان أودعه من صاحب اليد قبلت بينته، ويقضى بالعبد له وتبطل بينة المدعي هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» .
حكى أبو الهيثم عن القضاة الثلاثة أن ما ذكر من الجواب ليس بصحيح أنه يقضي بالعبد بين الذي حضر وبين المدعي نصفان، قال القاضي أبو الهيثم رحمه الله: بلغنا أن ابن سماعة كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله في هذه المسألة، فكتب إليه محمد أن الصحيح أنه يقضي بالعبد بينهما.
قال القاضي الإمام أبو الهيثم رحمه الله: والطعن في هذه المسألة أقوى من الطعن في تلك المسألة، لأن الوجه الذي ذكرناه في فساد الطعن في تلك المسألة لا يتصور هاهنا؛ لأن في هذه المسألة؛ كل واحد منهما يدعي ملكاً منهما، فلا يمكننا أن نقول: هذا مدعي الملك من جهة صاحب اليد، وذلك يدعي مدعي الملك من جهة صاحب اليد، وذلك يدعي الملك لا من جهة صاحب اليد، فهو أولى، ثم إذا أقام المقر له بينة على دعواه، ويطلب بينة المدعي، فالقاضي يقول للمدعي: أعد بينتك على الذي حضر، وإلا فلا حق لك.
فرق بين هذه المسألة وبين ما تقدم: وهو ما إذا ادعى المدعي الشراء من صاحب اليد، فإن هناك وإن أقام الذي حضر بينة على ما ادعى، لا يكلف المدعي إعادة البينة.

والفرق: أن هاهنا المدعي لم يستحق القضاء علي بهذه البينة على الثبات، بدليل أن ذا اليد لو أقام هذه البينة يبطل به استحقاق المدعي، وإذا بطل استحقاقه يكلف إعادة البينة؛ بخلاف ما تقدم، لأن هناك المدعي فلا يستحق القضاء بهذه البينة قطعاً على كل حال.

(9/230)


ألا ترى أن ذا اليد لو أقام البينة على أنه ملك المقر له لا تندفع الخصومة عنه ولا يبطل به استحقاقه، فكذا المقر له إذا أقام هذه البينة يبطل استحقاق المدعي أيضاً، فلهذا لا يكلف المدعي إعادة البينة ثانياً، ولو أن القاضي سمع من المدعى عليه البينة على الذي العبد في يديه فلم يقض بشهادتهم حتى أقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً دفعه إليه؛ فإن القاضي لا يلتفت إلى ذلك، وقضاؤه ماضٍ، فرق بين ما قبل القضاء، وبين ما بعد القضاء.

والفرق في وجوه: أحدها: أن صاحب اليد صار مقضياً عليه بالملك، واليد في هذا العين بقضاء القاضي به للمدعي، ودعوى الخصم لا تقبل؛ وهذا المعنى لا يتأتى قبل القضاء.
الثاني: أن قبل القضاء إنما قبلت بينة صاحب اليد على ما ادعى؛ لأنه بهذه البينة يدفع الخصومة عن نفسه، وهذا المعنى لا يتأتى بعد القضاء؛ لأن الخصومة قد انتهت بقضاء القاضي بالعبد للمدعي، فلا يحتاج هو إلى دفع الخصومة عن نفسه.
الثالث: أن كونه مودعاً من جهة الغائب لا ينتفي شراء المدعي إذ يجوز أن يملك هو الوديعة من جهة صاحبها بوجه من الوجوه أن المدعي يشتري ذلك منه بعدما يملكه، فيكون خصماً، فبعد القضاء لا ينقض (216ب4) القضاء بالشك، وقبل القضاء لا يجوز القضاء بالشك.
ولو حضر المقر له وأقام بينة على أن العبد له كان أودعه من صاحب اليد، وذلك بعدما قضى القاضي للمدعي قبلت بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه؛ لأن القضاء للمدعي بالبينة الأولى وقع على صاحب اليد لا على الذي حضر؛ فيقبل بينة الذي حضر، لهذا.

نوع آخر في مسائل الدفع على دعوى أخر
في «أدب القاضي» : إذا ادعى رجل على رجل إنما اشتريت منك هذا العبد بكذا؛ والبائع يجحد البيع، فأقام المدعي بينة على الشراء فقال البائع في دفع دعواه: إنك قد رددت عليّ هذا العبد بالعيب، وأقام على ذلك بينة صح منه دعوى هذا الدفع، وسمعت بينته عليه؛ إنما صحت منه هذه الدعوى؛ لأنه لو لم يصح إنما لم يصح لمكان التناقض؛ لأنه جحد البيع، وإنه تناقض دعوى الرد بالعيب ولا تناقض؛ لأن جحود البائع فسخ للعقد في حقه، فكأنه ادعى الفسخ، ثم أقام البينة عليه؛ فمن أين يتأتى التناقض.
اشترى داراً لابنه الصغير من نفسه وأشهد على ذلك شهوداً، فكبر الابن ولم يعلم بما صنع الأب، ثم إن الأب باع كل الدار من رجل وسلمها إليه، ثم إن الابن استأجر الدار من المشتري؛ ثم علم بما صنع الأب، فادعى الدار على المشتري، وقال: كان أبي اشترى هذه الدار من نفسه لي في صغري؛ وإنها ملكي، وأقام على ذلك بينة.
فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إنك متناقض في هذه الدعوى؛ لأن استئجارك الدار مني إقرار أن الدار ليست لك، فدعواك بعد ذلك الدار لنفسك يكون متناقضاً، فهذه المسألة صارت واقعة الفتوى.

(9/231)


وقد اختلفت أجوبة المفتين في هذا؛ والصحيح أن هذا لا يصلح دفعاً لدعوى المدعي، ودعوى المدعي صحيحة وإن ثبت التناقض منه؛ إلا أن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، فإن الأب يستبد بالشراء للصغير، وعسى لا يعلمه بعد البلوغ، فلا يعرف الابن كون الدار ملكاً له، فيظن صحة بيع الأب بعد ذلك، فيقدم على استئجار الدار من المشتري ظناً منه أن الدار ملك المشتري؛ وفي الحقيقة الدار ملكه، ثم بعد ذلك يعلم ما صنع الأب وكون الدار مملوكة له فيدعيها.
فهو معنى قولنا: إن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، والتناقض في مسألة لا تمنع صحة الدعوى.

ألا ترى أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مال، ودفعت المال إليه، ثم أنها ادعت أن زوجها كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع، وأقامت على ذلك بينة؛ قبلت بينتها ولها أن تسترد بدل الخلع، وقد صارت متناقضة، فإن إقدامها على الخلع إقرار منها بقيام النكاح، فيصير بدعوى وقوع الثلاث قبل ذلك متناقضة، ولكن قيل لأنها تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن الزوج يستبد بإيقاع الثلاث؛ فلعل أوقع الثلاث ولم يعلم المرأة بذلك، فأقدمت على الخلع ظناً منها أن النكاح قائم، ثم علمها بعد الخلع بوقوع الثلاث سابقاً على الخلع، فادعت ذلك.

وكذلك إذا أعتق الرجل عبده على مال ودفع العبد المال إلى المولى، ثم إن العبد ادعى بعد ذلك أن المولى كان أعتقه قبل ذلك، وأقام البينة علىه قبلت بينته، وله أن يسترد بدل العتق، وقد صار متناقضاً؛ مع هذا قبلت بينته؛ لأن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن المولى يستبد بإيقاع العتق على نحو ما بينا في مسألة الخلع كذا في مسألتنا.
وفي «فتاوى النسفي» : سئل عمن ادعى داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان، وصاحب اليد يدعي الشراء من فلان ذلك أيضاً، ولكن تاريخ الخارج سابق، وأقاما البينة فقال صاحب اليد في دفع دعوى الخارج: إن دعواه باطل من قبل أن شراءه بذلك التاريخ وقع باطلاً؛ لأن الدار كانت رهناً في ذلك الوقت من جهة فلان الذي ادعيا تلقي الملك من جهته في يدي فلان وفلان المرتهن حتى يلقاه شراء هذا الخارج هذه الدار لم يرض به، وأبطله فلم يصح شراؤه وصح شرائي؛ لأن شرائي كان بعدما فك فلان الرهن؛ هل يكون هذا دفعاً؟.
قال: لا؛ لأنه لا حق لذي اليد في ذلك الرهن، والمرتهن لم يدع ذلك فكيف تصح دعوى الرهن؟ وهذا الجواب صحيح، وله علل أحدها ما ذكرنا.
والثانية: أن بيع المرهون ينعقد بوصف الصحة فيما بين الراهن والمشتري، وليس للمرتهن حق الفسخ.

والثالثة: أنه لما أقر بفكاك الرهن فقد أقر بنفاذ البيع السابق؛ لأن البيع كان منعقداً بوصف الصحة فيما بين الراهن والمشتري، لكن امتنع البقاء في حق المرتهن لحقه، فإذا بطل الرهن بعد ذلك في حق الناس كافة.

(9/232)


وفي «مجموع النوازل» : رجل ادعى على آخر أنه اشترى مني جارية صفتها كذا كذا، بكذا درهماً، وقبضها واستهلكها، ووجب عليه أداء هذا الثمن إليّ، وهو قد أقر بذلك، وشهد الشهود على المدعى عليه بذلك بعد إنكاره، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه يبطل في دعوى الاستهلاك؛ لأن الجارية قائمة في يده، وهي في بلدة كذا في يدي فلان، وأقام شهوداً شهدوا أنا رأيناها حية قائمة في بلدة كذا، هل يصير ذلك دفعاً لدعوى المدعي؟ قال: لا؛ وطول الكلام في بيان العلة، ولم يتضح لنا وجهها.
والوجه في ذلك: أن الاستهلاك أمر زائد في إبطالية البائع المشتري بالثمن، ومجرد القبض يكفي؛ أكثر ما فيه أن دعوى الاستهلاك قد بطل دعوى القبض، وأنه كان في المطالبة بالثمن.
ادعى داراً في يدي رجل شراءً من رجل آخر بشرائط، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إني كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعي فقال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا (أقلنا) البيع الذي جرى بيني وبين هذا المدعى عليه، فهذا دفع صحيح.

وكذلك لو كان المدعي من الابتداء ادعى الدار على صاحب اليد ملكاً مطلقاً؛ وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إني كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعي فقال المدعى في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا أقلنا البيع الذي جرى بينه، وبين هذا المدعى عليه، كان هذا دفعاً صحيحاً.
وكذلك إذا قال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: إنك قد أقررت أنك اشتريتها مني كان هذا دفعاً صحيحاً.

نوع آخر في دعوى الميراث

رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً له، وإن أبي مات، وهذه الدار في يديه، وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد بينة في دفع دعوى المدعي، أن أب هذا المدعي أقر في حال حياته أن هذه الدار ليست له، فهذا يبطل شهادة شهود المدعي، هكذا ذكر محمد رحمه الله في آخر «الجامع الكبير» ، وهذا لأن حاجة الوارث إلى إثبات الملك لمورثه في الدار عند موته حتى يخلفه فيها إرثاً، وقد ثبت بينة المدعى عليه إقرار الوارث أن الدار ليست له.
وإقرار المورث بهذه الصفة تمنع المورث عن دعوى الملك لنفسه بنفسه، بعد ذلك فيمنع الوارث عن دعوى الملك المطلق لمورثه عند موته، وكذلك لو شهد شهود المدعي عليه أن الوارث أقر قبل موت المورث، أو بعد موته أنها لم تكن لأبيه، كان ذلك دفعاً لبينة الوارث لما ذكرنا أن حاجة الوارث إلى إثبات الملك للمورث عند موته، فكان مدعياً أنها كانت لأبيه يوم الموت، وقد ثبت بينة المدعي عليه إقرار الوارث أنها لم تكن لأبيه، فجاء التناقض.
وكذلك لو شهد شهود المدعى عليه على إقرار الوارث أن أباه مات والدار ليست

(9/233)


له، كان ذلك دفعاً لبينة الوارث، وأما إذا قال شهود المدعى عليه: إن الوارث قال: مات أبي والدار ليست له، لأنه وهبها لي في حياته وصحته، وباعها في حياته وصحته، لم يكن ذلك دفعاً لبينة المدعي؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً.
ولو (217أ4) عاينا إقرار الوارث أن أباه مات وهذه الدار ليست له، لأنه وهبها لي، وباعها مني في حال حياته وصحته، ثم ادعى الميراث من الأب بعد ذلك؛ تسمع دعوى الميراث منه، لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، لأنه يمكنه أن يقول: لي تلك الهبة أو البيع، وعجزت عن إثباته بالبينة فبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً، أو صار ميراثاً لي عنه ظاهراً، وقد مرَّ جنس هذا في كتاب الشهادات، يوضح ما ذكرنا: أن الكلام تم بآخره.

وإذا وصل بقوله: مات أبي والدار ليست له؛ لأنه باعها مني، علمنا أنه لم يرد بأول الكلام نفي ملك الأب من الأصل، فيمكنه دعوى الميراث بعد ذلك، بخلاف ما إذا قال: ليست لأبي وسكت، لأن ظاهر هذا الكلام، يوجب نفي الملك للأب فيه من الأصل فلا يمكنه دعوى الميراث بعد ذلك.
دار بيدي رجل؛ جاء رجل وادعى أن أباه مات وترك هذه الدار ميراثاِ له، وأقام بينة شهدوا أن أباه مات، وهذه الدار في يديه، وأخذ هذا الرجل هذه الدار من تركته بعد وفاته، أو شهدوا أن هذا الرجل أخذ هذه الدار من أبي هذا المدعي حال حياته، وأقام ذو اليد البينة أن الوارث، أو أبوه أقر أن الدار ليست له، فالقاضي يقضي بدفع الدار إلى الوارث؛ لأن ما أثبته ذو اليد بالبينة من إقرار الوارث، أو المورث أن الدار ليست له.

لو كان معايناً للقاضي، فذلك لا يمنعه من إثبات الأخذ بطريق الغصب من يده على ذي اليد بالبينة؛ فكذا إذا ثبت ذلك ببينة ذي اليد، والمعنى في ذلك أن الجمع بين الكلامين يمكن بأن يقول الوارث: قد أقررت أن الدار ليست لأبي وإنما هي لغيره؛ إلا أن ذا اليد غصبها من أبي، فلزمه الرد بعد وفاة أبي عليَّ كما كان يلزمه الرد على أبي حال حياته، لأني قائم مقام أبي في حياته، فصار استحقاق هذه الدار ميراثاً لي، فإذا أمكنه الجمع بينهما لم تكن بينة ذي اليد مبطلة بينة المدعي.
ادعت المرأة على ورثة زوجها المهر والميراث؛ فقال الورثة في دفع دعواها: إن أبانا قد حرمها على نفسه قبل موته بسنتين، قالت هي في دفع دعواهم: إن الزوج أقر في مرض الموت بأني حلال عليه؛ فهذا دفع صحيح.
ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، وأقام المدعى عليه بينة أنه اشترى هذه الدار من هذا المدعي، فقال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا أقلنا البيع الذي كان بيننا فهذا دفع لدعوى المدعى عليه.

مات الرجل وترك أولاداً صغاراً وكباراً، فكبر الصغار وادعوا داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيهم فادعى المدعى عليه في دفع دعواهم: إني اشتريت حصة الكبار منهم، وحصة الصغار من وصيهم من جهة أبيهم، أو من جهة القاضي بثمن مثله، أو بغبن يسير

(9/234)


عند حاجة الصغار، فهذا دفع صحيح، لو أقام عليه البينة تندفع دعواهم.
ولو كان مكان الدار عرضاً لا يشترط ذكر الحاجة، والوصي يملك بيع عروض الصغير من غير حاجة، ولا يملك بيع عقاره إلا لحاجة.
رجل مات عن أولاد، فادعت امرأة ميراثها، وقالت: كنت منكوحة له، وأنكرت الورثة دعواها، وأقامت البينة على النكاح، فقالت الورثة في دفع دعواها: إن أبانا قد كان طلقها ثلاثاً، وانقضت عدتها قبل موته، هل يكون هذا دفعاً لدعواها؟.
ينظر؛ إن أنكروا نكاحها أصلاً بأن قالوا: لم يكن أبانا متزوجها، أو قالوا: ما كانت هي زوجة لأبينا قط، لا يكون هذا دفعاً لدعواها، وإن لم ينكروا نكاحها أصلاً إنما أنكروا ميراثها فقالوا: ليس لها ميراث الزوجات، أو قالوا: ليس لها ميراث بالزوجية، أو قالوا: لم تكن هي زوجة له عند الموت، فهذا دفع لدعواها.
ادعى على غيره أنه كان لأبي عليك كذا وكذا من المال، وأنه قد مات قبل استيفائي من ذلك، وصار جميع ذلك ميراثاً لي، لما أني وارثه، لا وارث له غيري، فقال المدعى عليه: الدين الذي تدعيه قد كان لأبيك عليَّ بحكم الكفالة عن فلان، وفلان ذلك قد أدى جميع ذلك إلى أبيك في حال حياته، فصدقه مدعي الدين أن الدين كان بحكم الكفالة عن فلان إلا أنه أنكر أداء فلان ذلك إليه، فأقام المدعى عليه بينة على دعواه.

فهذا دفع صحيح لدعوى المدعي، وكذلك لو قال المدعى عليه في هذه الصورة: أخرجني أبوك عن الكفالة في حياته، أو قال: أخرجتني عن الكفالة بعد موت أبيك، وأقام بينة على ما ادعى، تندفع دعوى المدعي.
ادعى على غيره أنه كان لأبي عليك كذا وكذا، مات أبي قبل أن يقبض شيئاً من ذلك، وصار جميع ذلك ميراثاً لي من جهة أبي لما أنه لا وارث لأبي غيري، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن أباك قد أحال فلاناً بما كان له عليَّ، وقد قبلت الحوالة ودفعت جميع ذلك إلى المحتال له، وصدقه المحتال له في ذلك كله، لا تندفع دعوى المدعي عنه وخصومته، لأن بإقامة البينة على الحوالة ثبت كون المحتال له وكيلاً من جهة الميت بالقبض، وقد أقر بالقبض معاينة، والوكيل بالقبض إذا أقر بالقبض فصح إقراره عن الموكل ويبرأ الغريم عن الدين.
امرأة ماتت وتركت إخوة وأموالاً في أيديهم؛ جاء رجل، وادعى أن المرأة كانت امرأته، وفى نكاحه إلى يوم موتها، وطلب ميراثها، فقالت الإخوة في دفع دعواه: إنك قلت قبل هذا بالفارسية: اكراين مرده زني من بودي من ميراث بردمي أزوي، وأثبتوا ذلك بالبينة، هل يكون هذا دفعاً؟.
فقد قيل: يكون دفعاً، وقوله: اكرزن من بودي، إقرار منه أنها زن وي بنوده نست.
وقيل: إنه ليس بدفع، وقوله: أكر زن من بودي ميراث بردمي أزوي، ليس إقرار أنها: زن وي بنوده است، كقول الرجل: إن كان فلان في الدار لذهبت إليه، لا يكون إقراراً أن فلاناً ليس في الدار لا محالة، على أن ما ذكرتم مفهوم كلامه، وظاهر المذهب

(9/235)


عندنا أن المفهوم ليس بحجة، وإن ذكر محمد رحمه الله في «السير» أنه حجة، ولكن ما ذكر في «السير» خلاف ظاهر المذهب.
ولو قالوا في دفع دعواه: إنك قلت: إنها كانت امرأتي؛ إلا أني طلقتها، فهذا ليس بدفع، لأن الزوج ببينته أثبت نكاحها يوم الموت، وتطليقه إياها؛ لا ينافي نكاحها يوم موتها لجواز أنه طلقها يوم تزوجها ثم ماتت.

ادعى رجل داراً في يد امرأة أبيه أنها تركة أبيه؛ وقالت المرأة: هذه الدار تركة أبيك إلا أن القاضي باعها مني بمهري، وأنت صغير، كان ذلك دفعاً لدعوى المدعي، وهو الابن، لو أثبت ذلك بالبينة؛ لأن للقاضي ولاية بيع التركة بالدين، إذا كان الوارث صغيراً، ولم يكن للميت وصي.
رجل مات وترك ابنين صغيرين، ولكل ابن قيّم على حدة، وفي يد أحد القيمين دار يزعم أنها دار الصغير الذي في ولايته؛ ادعى عليه قيم الصغير الآخر، أن الدار التي في يديك نصفها ملك الصغير الذي أنا قيمه، بسبب أن هذه الدار كلها كانت ملكاً لوالد الصغيرين مات وتركها ميراثاً للصغيرين، فإذا دفع إليّ نصفها لأقبضه لأجل الصغير الذي أنا قيمه.

فأقام القيّم المدعى عليه بينة أن والد الصغيرين قد أقر في حال (حياته) أن كل هذه الدار ملك الصغير الذي في ولايتي، تندفع عنه دعوى القيّم المدعي، فإن أقام القيّم المدعي بينة لدفع دعوى القيم المدعى عليه وقال: إنك ادعيت قبل هذا نصف هذه الدار لأجل الصغير الذي في ولايتك إرثاً عن أبيه، والآن تدعي كلها للصغير الذي في ولايتك بجهة أخرى، اندفعت دعوى القيم المدعى عليه لمكان التناقض.
سئل نجم الدين النسفي: عمن ادعى ميراث بيت بعصوبة بنوة العم، فأقام البينة على النسب يذكر الأسامي إلى الجد، فأقام منكر هذا النسب والميراث بينة أن جد الميت فلان وصى غير ما أثبت المدعي؛ هل تندفع بهذا دعوى المدعي وبينته؟.
قال: إن وقع القضاء ببينة المدعي فالقضاء ماضٍ (217ب4) ولا تبطل بينة المدعي بهذا، ولا تندفع بينة المدعي بهذا ولا تندفع دعواه، فإن لم يقع القضاء ببينة المدعي، فالقاضي لا يقضي بإحدى البينتين لمكان التعارض، قال محمد رحمه الله: وهو نظير مسألة طلاق المرأة يوم النحر بكوفة من هذه السنة، وإعتاق العبد يوم النحر بمكة من هذه السنة.
وفي «مجموع النوازل» : رجل قدم سمرقند من تركستان، فادعى كرماً في يدي رجل ميراثاً عن جده وأمه وقال: أنا محمد وأمي حُرّة، وإن أبي محمد بن الحارث بن سارح، وهذا الكرم في يد هذا المدعى عليه من تركة أبي الحارث هذا وأنا وارثه لا وارث له غيري؛ فعليه تسليم هذا الكرم إليَّ، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: هذا المدعي يبطل في دعواه هذه من قبل أنه حين قدم من تركستان زعم أنه ابن عائشة، وعائشة بنت علي بن الحسين بن فلان، وهذا الكرم من تركة علي بن الحسين.
ثم غير اسم الأم، واسم الجد، فجعل اسم الأم حرة، وجعل اسم الجد محمد بن

(9/236)


الحارث، وأقام المدعى عليه بينة على دعواه، فأجاب شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السعدي: إن هذا دفع دعوى المدعي.
قال رحمه الله: وهو نظير ما لو ادعى عيناً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، ثم ادعى ذلك العين بعد ذلك ميراثاً عن أمه، وكان القاضي الإمام الأجل شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي في جنس هذه المسائل أنه لا تندفع دعوى المدعي، ولا تقبل بينة المدعي على ما ادعاه وتابعه في ذلك بعض مشايخ زمانه، وبه كان يفتي الإمام ظهير الدين المرغيناني، وهو الصواب عندنا.
وعلى هذا إذا ادعى رجل على رجل أنه كان لأبي علي بن أبي القاسم بن محمد عليك كذا وكذا من المال، وإن أبي مات قبل استيفاء شيء من ذلك، وصار ما كان له عليك ميراثاً لي، وقال المدعى عليه: إنه يبطل في هذه الدعوى؛ لأنه زعم أن والد القاسم محمد، ووالد القاسم أحمد، لا يكون هذا دفعاً لدعوى المدعي على ما هو اختيار شمس الإسلام، وبعض مشايخ زمانه، فلا تقبل بينة المدعى عليه في ذلك، والمسألة كانت واقعة الفتوى.

وهذا لأن بينة المدعى عليه لو قبلت في هذه الصورة؛ إما أن تقبل على إثبات اسم هذا المدعي ولا وجه إليه؛ لأنه ليس بخصم في ذلك، وإما أن تقبل لنفي ما ادعاه المدعي من الميراث، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن البينة على النفي غير مقبولة.
وهو نظير ما لو ادعى رجل على رجل أنه أقرضه ألف درهم في يوم كذا في مكان كذا، وأقام المدعى عليه بينة أنه في ذلك اليوم كان في مكان كذا سمى مكاناً آخر؛ لا تقبل بينة المدعى عليه؛ لأنها في الحقيقة قامت على النفي كذا هنا.
إذا ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه؛ فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: اشتريت هذه الدار في حال صغرك بإطلاق القاضي؛ فهذا دفع صحيح إذا ثبت أن البيع لحاجة الصغير، أو لقضاء دين الميت.
وقد مر جنس هذا في «فتاوى الفضل» : ادعى على أخيه تركة فيما في يده بحق الميراث عن أبيه، فأنكر المدعى عليه دعواه وقال: لم يكن لأبي في هذه الدار حق، ثم ادعى المدعى عليه أنه كان اشترى هذه الدار من أبيه، أو ادعى أن أباه قد أقر له بها فدعواه صحيحة وبينته مسموعة، لأن الجمع بين الكلامين ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لم تكن لأبي بعدما اشتريتها منه، ولو قال: لم تكن لأبي قط، أو قال: لم يكن لأبي فيها حق، لم يسمع دعواه الشراء من أبيه؛ لأنه فيه متناقض، ويسمع دعوى إقرار أبيه له لأنه لا تناقض فيه.
إذا قال المدعي في دعوى الميراث: لا وارث له غيري، فقال المدعى عليه في دعواه: إن لك أخاً أو أختاً، وقد قلت: لا وارث له غيري، حكى فتوى القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أن المدعي لو أقر بذلك تبطل الدعوى والشهادة جميعاً، أما لو أراد المدعى عليه إثباته بالبينة لا يسمع بينته.

(9/237)


ادعى رجل ضيعة في يدي رجل أنها كانت لفلان مات وتركها ميراثاً لي، لا وارث لها غيري، وقضى القاضي له بالضيعة، فقال المقضى عليه بالضيعة بطريق الدفع لدعوى المدعي: إن فلانة التي تدعي أنت الإرث عنها لنفسك ماتت قبل فلان الذي يدعي الإرث عنه لفلانة، فقد قيل: هذا دفع صحيح، وقد قيل: إنه غير صحيح؛ لأن زمان الموت لا يدخل تحت القضاء، فلا يثبت بينة المدعى عليه موت فلانة قبل موت فلان.u
سئل رجل ادعى محدوداً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه له ولأخيه الغائب فلان، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إن مورثك فلان قد أقر في حياته أن هذا المحدود ملكي، فقد قيل: هذا دفع، وقد قيل: إن قال: إن مورثك فلان أقر أن هذا ملكي، وأنا صدقته فيه فهذا دفع، فإن لم يقل: وأنا صدقته فهذا ليس بدفع، وإن حضر الأخ الغائب وادعى في دفع دعوى المدعى عليه الدفع على أخيه.

وقال: إن المدعى عليه أقر بعد موت أبينا أن هذا المحدود تركة أبينا، فهذا دفع لدعوى المدعى عليه، ولو كان المدعى عليه من الابتداء لم يدع إقرار المورث، يكون المحدود ملكاً له إنما ادعى إقرار الوارث المدعي؛ يكون المحدود ملكاً للمدعى عليه.
فالجواب فيه على الخلاف أيضاً، على قول بعض المشايخ: هذا دفع، وعلى قول بعضهم يجب أن تكون المسألة على التفصيل؛ إن قال: إنك أقررت بكون المحدود ملكي، وأنا صدقتك يصح الدفع، وإن حضر الأخ الغائب وادعى في دفع دعوى المدعى عليه وقال: إن المدعى عليه قد أقر بعد موت أبينا أن هذا المحدود تركة أبينا، لا يسمع منه هذا الدفع؛ لأن ما تعلق بالموت يتعلق بجميع الورثة، أما ما يتعلق ببعض الورثة يقتصر.

نوع آخر في مسائل الإكراه

إذا ادعى الإكراه على البيع والتسليم، فقال المشتري في دفع دعواه: إنك أخذت الثمن مني طائعاً، فهذا دفع صحيح؛ لأن قبض الثمن طائعاً إجازة لذلك البيع، وهذا لأن البائع إنما يأخذ الثمن من المشتري ليسلم الثمن له، ولا يسلم الثمن للبائع إلا بإجازة البيع، فكان أخذ الثمن من البائع إجازة للبيع من هذا الوجه.
وكذلك إذا ادعى الإكراه على الهبة فقال الموهوب له في دفع دعواه: إنك أخذت عوض هبتك مني طائعاً فهذا دفع صحيح؛ لأن أخذ العوض طائعاً إجازة منه للهبة.
وفي «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السغدي رحمه الله عن رجل أثبت على رجل بالبينة أنه أقر بكذا طائعاً، وأقام المدعى عليه في دفع ذلك بينة أن إقراره ذلك كان بإكراه هل يكون دفعاً لبينة المدعي؟ قال: نعم، وبينة الإكراه أولى بالقبول، لأن بينة الإكراه ثبتت خلاف الظاهر قيل له: إن البينة على الإثبات أولى من البينة على النفي، وبينة الطوع تثبت الدين، وبينة الإكراه نافية الدين، قال: فإن كان كذلك إلا أن التي تثبت الزيادة من حيث الظاهر هي أولى، وإن كان في المعنى بخلافه، وعلى هذا مسائل أصحابنا في المزارعة.

(9/238)


فقد ذكر محمد في المزارعة مسائل اعتبر فيها إثبات الزيادة صورة، وإن كان فيها إفساد العقد معنىً، فمن جملتها.
إذا ادعى أحد المتعاقدين أنه شرط له النصف وزيادة، وادعى الآخر أنه شرط له النصف، وأقاما على ذلك بينة، فالبينة بينة مدعي الزيادة، ويثبت به فساد المزارعة، واعتبر إثبات الزيادة من حيث الصورة، كذا هاهنا.

رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنك اشتريتها مني، وكنت مكرهاً على البيع والتسليم، وأقام على ذلك بينة، وأراد استرداد الضيعة، فقال المدعى عليه: كان الأمر كما قلت، إلا أن بعدما زال الإكراه بعت هذا البيع مني، يكون على طوع ورضى وأقام على ذلك بينة، فالقاضي يقضي ببينة المدعى عليه، وتندفع دعوى المدعي حتى لا يكون للبائع حق الاسترداد، لأن ببينة المدعي ثبت أن المشتري اشترى شراءً فاسداً، فالمشتري شراءً فاسداً (218أ4) إذا اشتراه المشتري شراءً صحيحاً ينفسخ الشراء الفاسد، ويبطل حق البائع في الاسترداد، كذا هاهنا.
رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنها ملكه اشتراها من الذي في يديه بكذا، وقال المدعي في آخر دعواه: وهكذا أقر الذي في يديه بشرائي إياها منه، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إني كنت مكرهاً في الإقرار بالبيع.
فقد قيل: بأن هذا لا يكون دفعاً وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وكان يقول يحتمل أنه كان طائعاً في البيع مكرهاً في الإقرار بالبيع إكراهاً لا يوجب خللاً في البيع حتى لو أقام البينة على كونه مكرهاً في الإقرا والبيع جميعاً كان الدفع صحيحاً.

نوع آخر في دعوة الدين
إذا قال المدعى عليه في دعوة الدين: أنا أجيء بالدفع، فقال له القاضي: الدفع يكون بالإبراء أو بالإيفاء فأيهما يدعي، قال كلاهما: هل يكون هذا تناقضاً، حكي عن الشخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه قال: لا يكون تناقضاً إذا وفق وبين وجه التوفيق.
ووجه التوفيق أن يقول: أوفيت بعضه وأبرأني عن بعض، أو يقول: أوفيت الكل، فجحدني فتشفعت إليه فأبرأني، أو يقول: أبرأني ثم جحد الإبراء، فأوفيت، وقيل: لا يكون متناقضاً، ولا يبطل دعواه وإن لم يوفق؛ لأن مع إمكان التوفيق لا يتحقق التناقض، فيحمل عليه صيانة للدعوة عن البطلان، وهذا القول يشير إلى أن إمكان التوفيق يكفي.

رجل ادعى على غيره ديناً فأنكر المدعي عليه ذلك، فأقام المدعي بينة على أنك استمهلتك هذا المال منك عشرة أيام، وذلك إقرار منك بهذا المال عليك.
وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك أبرأتني عن هذا المال منذ عشرين يوماً، وأقام على ذلك بينة، فهذا لا يكون دفعاً، لأن ببينة المدعي ثبت إقرار المدعى عليه

(9/239)


بالمال منذ عشرة أيام، وهذا يمنع دعواه الإبراء قبل ذلك الاستمهال من المدعي عليه قبل قضاء القاضي عليه بالمال، والاستمهال بعد قضاء القاضي بالمال، فكذلك عند بعض المشايخ.
رجل ادعى على آخر عشرة دراهم دين، أو عشرة دنانير دين، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: تو إقرار كردهءكه مر أجز دو دينار خاوستني نيست جزدودرم خواستم نست، فهذا ليس بدفع لأن المطالبة ليست من لوازم الدين؛ حتى يكون من ضرورة أن لا مطالبة له بما سوى الدرهمين، أو الدينارين؛ إقراره أن لا دين عليه سوى الدين، أو الدينارين.
ألا ترى أن الدين المؤجل دين على الحقيقة، ولا مطالبة به في الحال.
فإن قيل: هذا المعنى لا يكاد يصح في هذه الصورة لأن الدعوة وقع في الدين والتأجيل في الديون لا يصح.
قلنا: التأجيل في الديون الواجبة بالقرض والإستقراض لا يصح، أما التأجيل في الديون بسبب البيع وما هو في معنى البيع صحيح، وموضوع مسألتنا أن المدعي ادعى الدين أما لم يدع البيع ولا القرض واليمين الواجب بسبب القرض، إن كان لا يتصور انتفاء المطالبة بسبب التأجيل يتصور بسبب آخر، بأن كان مثلاً لعبد الله على محمد دين، ولمحمد على إبراهيم مثل ذلك، فأحال محمد عبد الله على إبراهيم ليقضي إبراهيم دين عبد الله بما لمحمد عليه، فدين محمد عن إبراهيم لا يسقط بهذه الحوالة.

ألا ترى أن عبد الله لو أبرأ محمداً عن دينه كان لمحمد أن يرجع على إبراهيم بدينه، فعلم أن دين محمد لا يسقط عن إبراهيم بمجرد حوالة محمد عبد الله على إبراهيم، مع هذا ليس لمحمد حق مطالبة إبراهيم في الحال بدينه لصيرورة دينه مشغولاً بحق عبد الله بحكم الحوالة، فيجوز انتفاء المطالبة عن دين القرض مع وجوبه ولزومه بهذا الطريق إن كان لا يتصور انتفاء المطالبة عنه بسبب التأجيل.
رجل ادعى على غيره مالاً فأقر المدعى عليه بذلك، إلا أنه بين سبباً لا يصلح سبب الوجوب بأن قال: له علي ألف درهم بسبب القمار، أو قال: لأني اشتريت منه الميت، وكذبه المدعي في ذلك السبب، فإن أقام المدعى عليه على ذلك بينة تندفع عنه دعوى المدعي، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك.
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنه يحلف المدعى عليه، ويكون القول قوله مع اليمين، لأن قوله: له عليَّ ألف درهم لأني اشتريت منه الميت أو لأني قامرت عليه جحود للمال أصلاً، فيكون القول فيه قوله مع يمينه، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: ما ذكر الخصاف أن القول قول المدعى عليه مع اليمين قولهما، أما على قول أبي حنيفة: المال لازم عليه بإقراره، ولا يصدق في قوله: ثمن ميت، أو قال: قامرني، فإن محمداً رحمه الله أورد هذه المسألة في كتاب الإقرار على سبيل الاستشهاد، وذكر فيها الخلاف على نحو ما بينا؛ فكأنه يرد على الخصاف، أو يكون عن أبي حنيفة رحمه الله في المسألة روايتان: وإن قال المدعى عليه: له عليَّ ألف درهم من ثمن خمر،

(9/240)


وأقام على ذلك بينة، لا تندفع عنه دعوى المدعي عند أبي حنيفة، لأن المسلم قد يجب عليه ثمن خمر عنده، بل يوكل ذمياً بشرائها، وعندهما تندفع عنه دعوى المدعي؛ لأن عندهما لا يجب ثمن الخمر على المسلم بحال، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك فعلى قول أبي حنيفة المال لازم على المدعى عليه، وعندهما القول قوله مع يمينه، ولا يلزمه المال.

رجل ادعى على غيره كذا، كذا ديناً من الدراهم، فادعى المدعى عليه الإيفاء، وجاء بشهود شهدوا أن المدعى عليه دفع هذا المال كذا كذا من الدراهم، ولكن لا يدري بأي جهة دفع، هل يقبل القاضي هذه الشهادة؟ وهل تندفع بها دعوى المدعي؟.
حكي عن شيخ الإسلام السغدي أنه قال: لا تقبل هذه الشهادة، ولا تندفع بها دعوى المدعي، وعن بعض مشايخنا: أنه تقبل؛ وتندفع به دعوى المدعي، وهو الأشبه والأقرب إلى القول.
رجل ادعى على رجل ستة دنانير، فقال المدعى عليه في دعوى دفع المدعي: إنه أبرأني من هذه الدعوى، فأقام على ذلك بينة، فادعى المدعي ثانياً أن المدعى عليه قد كان أقر لي بستة دنانير بعد إبرائي إياه؛ هل يصح دفع الدفع؟.

فقد قيل: إن قال المدعى عليه: أبرأتني عن هذه الدعوى وقبلت الإبراء، أو قال: صدقتك في ذلك؛ لا يصح منه دفع الدعوى؛ يعني دعوى الإقرار ثانياً، وإن لم يقل قبلت الإبراء، ولا قال: صدقتك في ذلك، يصح منه دفع الدفع، يعني دعوى الإقرار ثانياً؛ لأن الإبراء يرتد بالرد، وإذا لم يذكر القبول ولا التصديق يحتمل الرد، فيصح دعوى الإقرار ثانياً.
وقيل: لا يصح دعوى الإقرار ثانياً؛ لأن بينة المدعى عليه تثبت إبراء المدعي إياه عن هذه الدعوى، وارتفع أن الذي وجب به الدين على المدعى عليه، فدعوى المدعي إقرار المدعى عليه ثانياً، يكون في الحاصل دعوى المال بشرط الإقرار، ودعوى المال بسب الإقرار غير صحيح، عليه عامة المشايخ.
وقيل: دعوى الإقرار ثانياً صحيح من غير فصل، لأن المدعي يدعي الإقرار ثانياً، يثبت بطلان دعوى المدعى عليه على الإبراء على المدعي فإنه يقول: دعواك الإبراء علي لم تصح، وكنت مبطلاً في ذلك لما أقررت لي بالدنانير بعد ذلك، ودعوى بطلان الدعوى من أي طرف كان ذلك صحيح.

رجل ادعى على آخر خمسين ديناراً؛ فقال المدعى عليه في الدفع: إن المدعي أقر أنه دفع إليه العدالة لكل دينار خمسين، ولكن أخذت الخط بالدنانير صح الدفع، وكذلك لو قال: إنك أبرأتني عن الدعاوى كلها في سنة كذا يصح الدفع.
رجل ادعى على رجل إني دفعت إليك عشرة دراهم قرضاً، فقال المدعى عليه: بل دفعت إلي عشرة دراهم إلا أنك أمرتني أن أدفعها إلى فلان، وقد دفعتها إليه، فإن أقام على ذلك بينة تندفع الخصومة (218ب4) عن صاحب اليد وما لا فلا.

(9/241)


ادعت إمرأة أنها بنت هذا الميت، وأن لها من تركته قد أقرضت بعد وفاة هذا الميت، وقلت: إن مردببودم وي از ادكر ده است مر لا يصح هذا الدفع.
رجل ادعى على آخر دراهم مقدرة بسبب الكفالة عن فلان بأمره أو بغير أمره، فحضر الأصيل ودفع دعوى المدعي، وقال: هذا المال غير واجب على الكفيل المدعى عليه، كما أنه غير واجب علي، وكنت مكرهاً في الإقرار به.
فقد قيل: لا يسمع هذا الدفع لأن المدعي ما ادعى على الأصيل شيئاً، وقد قيل: لايسمع إذا كانت الكفالة بأمر، لأن ضرر هذه الدعوى في المال على الأصيل.
ألا ترى أن من اشترى من آخر جارية وقبضها، واستحقها رجل من يدي المشتري بالبينة، وقضى القاضي بالجارية، ثم إن البائع أقام البيينة على المستحق أنه باعها منه قبل أن يبيعها هو من مشتريه فلان، فالقاضي يقبل بينة البائع ويقضي بالجارية على المستحق، والدعوى من المستحق ما كان على البائع ما كان الطريق سوى أن ضرر هذه الدعوى في المال على البائع، كذا هاهنا.

ادعت امرأه على ورثة زوجها المهر، وأنكرت الورثة النكاح، فأقامت المرأة بينة على النكاح وادعت الورثة في دفع دعواها أنها كانت أبرأت أبانا في حال حياته من المهر، فقد قيل: هذا دفع صحيح.

وقد قيل: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل، إن قالوا: أبرأت أبانا عن دعوى المهر، يصح منهم هذا الدفع ولا تناقض فيه، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده مثل هذا التفصيل في مسألة دعوى الدين وإنكار المدعى عليه، ثم دعوى المدعى عليه الإبراء في شرح كتاب الحوالة والكفالة.

نوع آخر في دعوى الوصاية والوصية
رجل ادعى على غيره أن أباك أوصى لي بثلث ماله، وأنكر المدعى عليه الوصية، فأقام المدعي بينة على دعواه، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن أبي قد كان رجع عن هذه الوصية في حياته، أو قال: إن أبي قال في حياته: رجعت عن كل وصية أوصيت بها، فقد قيل: لا يسمع منه هذا الدفع لمكان التناقض.
وقد قيل: يسمع، وهو الصحيح لأن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، فإن الموصي يستبد بالإيصاء فلعل قد كان أوصى ولم يعلم به الوارث، ورجع ولم يعلم به، فجحد الوصية بحكم أنه لم يعلم بالوصية، ثم أخبر بهذا الجحود بالوصية والرجوع، فادعى الرجوع، والتناقض، في مثل هذا الموضع لا يضره، وكذلك لو أقام البينة على أن الأب جحد الوصية في حياته، كان هذا دفعاً على ما ذكره في «المبسوط» ، فقد ذكر في «المبسوط» : أن جحود الوصية رجوع، وذكر في «الجامع» : أن جحود الوصية لا يكون رجوعاً، قيل في المسألة روايتان؛ وقيل: ما ذكر في «الجامع» : أن جحود الوصية لا يكون رجوعاً قياس، وما ذكر في «المبسوط» استحسان.

(9/242)


رجل ادعى في تركة رجل وصية، ولابنه الصغير بثلث ماله، وأقام البينة على ورثة الميت، وقضي بالوصية لابنه، ثم إن الورثة أقاموا بينة على المدعي بطريق الدفع أنه كان قد أقر قبل الحكم أن على الميت دين مستغرق لتركته؛ كان هذا دفعاً صحيحاً، ويبطل حكم القاضي، وسجله إذ تبين أن المدعي لم يكن خصماً في دعوى الوصية إذ لا وصية مع الدين المستغرق من غير خصم والقضاء بها باطل.

وهو نظير ما لو ادعى رجل عبداً في يدي رجل أنه له، وأقام على ذلك بينة وذو اليد يقول: هذا العبد وديعة عندي من جهة فلان، وأقام بينة أنه عبده قد كان أودعه صاحب اليد، فالقاضي يأخذ العبد من المدعي المقضي له، ويدفعه إلى هذا الذي ادعى الإيداع من صاحب اليد، إذ تبين أن المدعى عليه لم يكن خصماً للمدعي، وأن بينة المدعي قامت على غير الخصم، والبينة على غير الخصم لا تقبل.
رجل أوصى لابني ابنه بثلث، وأحدهما صغير والآخر كبير وأبوهما حيٌّ، ثم مات الموصي، فادعى أبو الصغير على أن إرث الموصي لأجل ابنه الصغير الوصية من جهة الميت، وادعى الكبير الوصية من جهة الميت، وأنكر الوارث وصيتهما، وقال في دفع دعواهما: إن هذا الكبير قد أقر بعد موت الميت أن الميت ما أوصى لي بشيء، وكذلك أب الصغير أقر أن الميت ما أوصى لابني الصغير بشيء، هل يكون هذا دفعاً؟ فقد قيل في حق الكبير: هذا دفع، وفي حق أب الصغير: هذا دفع لدعوى الأب، لا لدعوى الابن، حتى لو كبر الابن وادعى الوصية لنفسه؛ سمع دعواه.
وقد قيل: هذا ليس بدفع أصلاً، وهو الأظهر والأشبه بالفقه، لأنه لو صار دفعاً إنما صار دفعاً لأنه سبق دعوى الوصية إنكار الوصية، فيصير متناقضاً، والتناقض يمنع صحة الدعوى، إلا أن هذا التناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن الموصي يستبد بالوصية، ولا يحتاج فيها إلى القبول، ولعل أوصى ولم يعلم به الموصى له، فنفاه فلما علم به ادعاه.

نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات

يجب أن يعلم بأن دفع الدعوى كما هو صحيح، فدفع الدفع صحيح، وكذلك دفع دفع الدفع، وما زاد على ذلك صحيح هو المختار، وكما يصح دفع الدعوى بعد إقامة المدعي البينة، يصح دفعه قبل إقامة المدعى البينة، وإذا ادعى المدعى عليه الدفع وطلب من القاضي الإمهال، فالقاضي يمهله إلى المجلس الثاني في «الفتاوى» ، وفي «فوائد» شمس الإسلام محمود الأوزجندي: أن دعوى الدفع من المدعى عليه لا يكون تعديلاً للشهود، وإنه ظاهر لجواز أن دفع الطعن في الشهود.
وإذا ادعى المدعى عليه أن هذا العين وديعة عنده من جهة فلان، وأقام على ذلك بينة، وأقام المدعي بينة في دفع دعواه: إنك أقررت قبل هذا أن العين ملكي، فهذا دفع لدعوى المدعى عليه.
وإذا كان أرضاً في يد إنسان، وأقام المدعى عليه بينة أن هذه الأرض في يدي بحكم المزارعة، فهذا دفع دعوى المدعي، كما لو أقام بينة أنها في يدي بإجارة، أو

(9/243)


إعارة، أو وديعة، وإذا قال: لا دفع لي، ثم جاء بدفع.
فقد قيل: يجب أن تكون هذه المسألة على روايتين، أو على الخلاف بين أبي حنيفة، ومحمد على قياس ما إذا قال المدعي: لا بينة لي، واستحلف المدعى عليه، ثم جاء ببينة.
وقيل: في هذه المسألة يجب أن لا يصح دفعه بعد ذلك باتفاق الروايات، لأن معنى قوله: لا دفع لي، ليس لي دعوى الدفع، ومن قال: لا دعوى لي قبل فلان، ثم جاء يدعي عليه لا تسمع دعواه، كذا هاهنا، والأول أقرب إلى الصواب، لأن معنى قوله: لا دفع لي، ليست لي بينة دافعة؛ لأن دعوى المدعي لا تندفع بمجرد دعوى المدعى عليه الدفع، وإنما تندفع ببينة يقيمها على الدفع، وإذا كان معنى قوله: لا دفع لي هذا.

صارت هذه المسألة نظير ما إذا قال المدعي: لا بينة لي قبل المدعى عليه الضيعة أو الدار، إذا أقام بينة أن نصف هذه الضيعة أو نصف هذه الدار في يدي وديعة من جهة فلان الغائب، هل يبطل دعوى في الكل؟ فقد قيل: يبطل، لأن الدعوى واحدة، فإذا بطل بعضه بطل كله، وقيل: لا تبطل في الكل، وإنما يبطل في النصف، قالوا: وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع «الجامع» .
دعوى اتفقت الأئمة على فسادها، ومع ذلك جاء المدعى عليه بدفع لو كانت الدعوى صحيحة كان ذلك الدفع دفعاً له، فالقاضي هل يسمع دفع المدعى عليه؟ أو يأمر المدعي بتصحيح دعواه؟ فقد اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يأمر المدعي بتصحيح دعواه، وقال بعضهم: يسمع دفع المدعى عليه ويقضي به.

ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك أقررت قبل هذا أنك بعت هذه الدار مني، وأراد أن يحلف المدعي فله ذلك، ولو أقام البينة على إقرار المدعي بذلك قبلت بينته، واندفع دعوى المدعي.
وإذا ادعى (219أ4) النتاج في دابة فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إنك تبطل في هذه الدعوى لما أقررت أنك اشتريت هذه الدار من فلان فلا دفع لدعوى المدعي.
رجل ادعى كرماً في يدي رجل، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه أجر نفسه مني ليعمل في هذا الكرم لي، عمل كذا، فهذا دفع صحيح لو أثبته بالبينة تندفع عنه دعوى المدعي؛ لأن إجارة نفسه من غيره للعمل في الكرم الذي في يد ذلك الغير إقرار من الأجير أن الكرم ليس له، فيصير بدعواه أن الكرم له متناقضاً.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى على رجل أنه أخذ منه مالاً وهو كذا وكذا ووصفه بأمر يعرف، فأقام المدعى عليه بينة أن المدعي قد أقر أن هذا المال المسمى المفسر أخذه منه فلان الآخر، والمدعي ينكر، فليس هذا بإبطال لدعوى المدعي، ولا إكذاب لبينته، لأن الإكذاب، والإبطال إنما يثبت لمكان التنافي،

(9/244)


ولا منافاة بين الأمرين إذا لم يكن في الشهادتين ذكر الوقت لجواز أن فلاناً الأجنبي أخذه أولاً، ثم رده عليه، ثم أخذه المدعى عليه، وإذا لم يكن بين الأمرين منافاة أمكن تصحيح البينتين، والبينات حجج الله تعالى، فمهما أمكن تصحيحها لا يلغى أحدهما.
ولو أن المدعى عليه أخذ منه هذا المال، فهذا إبطال لدعوى المدعي، وإكذاب لبينته.
والفرق: أن في هذه المسألة ثبتت بينة المدعى عليه إقرار المدعي بأخذ وكيل المدعى عليه المال منه، لا تصح دعوى المدعي بعد ذلك الأخذ من المدعى عليه، لأن فعل الوكيل فعل الموكل، فيصير المدعي بدعوى الأخذ بعد ذلك على المدعى عليه مدعياً ذلك الأخذ لا أخذاً آخر، ووقت آخر من غير ضرورة.
n
قلنا: وأمكن أن يجعل المدعي مدعياً ذلك الأخذ على المدعى عليه؛ لأن فعل الإنسان ينتقل إلى غيره إذا كان بحكم الوكالة عن ذلك الغير، وإذا صار المدعي مدعياً ذلك الأخذ يصير مدعياً المال على المدعى عليه بأخذ وجد من وكيله.
قلنا: ودعوى المدعى عليه بفعل وجد من الغير باطل؛ لأن الإنسان لا يصير متعدياً بفعل غيره، أما في المسألة الأولى: لا يمكن أن يجعل المدعي مدعياً على المدعى عليه ذلك الأخذ الذي كان من فلان الآخر؛ لأن فعل الإنسان إنما ينتقل إلى غيره بحكم الوكالة عن ذلك الغير وكالة في المسألة الأولى، فكان مدعياً عليه أخذاً آخر بطريق الأصالة، ودعوى المال على غيره بسبب الأخذ منه بطريق الأصالة، دعوى صحيحة، فهذا هو الفرق المنقول عن المشايخ، وإنه مشكل عندي.

وقالوا: المراد من مسألة الوكيل أن لا يكون الموكل، وهو المدعى عليه ذو سلطان، أما إذا كان ذا سلطان كان الضمان فيه على الموكل، وهو المدعى عليه على ما مر قبل هذا، فيستقيم دعوى الضمان عليه بأخذ وكيله على ما مر قبل هذا.
والمراد من الوكالة بالمذكور فيه الأمر لا حقيقة الوكالة، وإذا ادعى على رجل عيناً في يده ملكاً مطلقاً، وأقام البينة وقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: هذه العين ملكي، وقد كنت أيها المدعي اشتريت هذه العين مني ثم أقلنا البيع، واليوم هذه العين ملكي، فأقاما على ذلك بينة، فهذا ليس بدفع لأن المدعي ادعى الملك المطلق لنفسه، وفي مثل هذا البينة بينة الخارج.
وقد قيل: ينبغي أن تقبل بينة صاحب اليد على قول من يقول بأن البينة مع الإقرار إذا اجتمعا، فالقاضي يقضي بالإقرار لا بالبينة.
ووجهه: أن صاحب اليد لما قال للمدعي: قد كنت اشتريت هذه العين مني، فقد أقر بالملك للمدعي، وتطلب بينة المدعي، فعند ذلك صاحب اليد بدعوى الإقالة يدعي الإقالة إلى نفسه ويقيم عليه البينة، ولم يبق للمدعي بينة، فقبل بينة صاحب اليد ضرورة، ولأن صاحب اليد لما ادعى البيع من المدعي والإقالة، وأثبت ذلك بالبينة، فقد ثبت إقرار المدعي أن الملك لصاحب اليد في رواية، وإقراره أنه لا ملك له قبل البيع باتفاق الروايات، ومع إقرار المدعي أن لا ملك له قبل البيع كيف يقضى له بالملك المطلق.

(9/245)


رجل ادعى على رجل آخر مئة منَ من دهن السمسم بسبب صحيح، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه يبطل في هذه الدعوى لأني قد كنت أعطيته عوض هذا الدهن ديناراً من الذهب الأحمر؛ لجواز أن الدهن قد وجب بسبب السلم، فإذا أخذ عوضه ديناراً، فقد استبدل بالمسلم فيه والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، ويبقى الدهن في ذمته على حاله، فلا يصح الدفع، وإن كان الدهن مبيعاً بأن اشترى مقداراً معيناً من الدهن، فإذا أعطاه عوض ذلك من الذهب، وهو قائم بعينه كان بائعاً المبيع قبل القبض، فإنه لا يجوز فلا يصح الدفع أيضاً، فلهذا شرطنا بيان السبب.
وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها على أنه متى لم تصل إليها نفقتها في وقت كذا؛ فهي تطلق نفسها متى شاءت، ثم إن المرأة أرادت أن تطلق نفسها بعد مضي ذلك الوقت، ووقع الاختلاف بينها وبين زوجها في وصول النفقة، وعدم وصولها في ذلك الوقت، فقالت المرأة في دفع دعواه: إنه أقر أنه لم يدفع إليها نفقتها، فهذا لا يكون دفعاً لجواز أنه دفع إليها وكيله حتى لو قالت المرأة: إنه أقر أنه لم تصل إليها نفقتها، وأقامت على ذلك بينة كان ذلك دفعاً صحيحاً.

رجل ادعى على آخر أنه لكز أبي ومات من لكزه، وأقام على ذلك بينة، وأقام الضارب بينة أن أباه قد صح من لكزه، وبرىء من ضربه.
فقد قيل: هذا دفع لدعوى المدعي، وقيل أيضاً: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل: إن كان المدعي ادعى أنه لكزه، ومات من تلك اللكزة، وشهود شهدوا كذلك فهذا دفع لدعوى المدعي، فإن كان ادعى أنه لكزه ومات من لكزه، فهذا لا يكون دفعاً لدعوى المدعي، ويقضى عليه بالضمان، وهذا من باب العمل بالبينتين؛ يجعل كأنه لكزه، وبرىء من لكزه ثم لكزه ثانياً، ومات منه.

وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في كتاب الغصب: إذا أقام الغاصب بينة أنه رد الدابة المغصوبة على المالك، وأقام المالك بينة أنها ماتت من ركوب الغاصب، فالقاضي يقضي على الغاصب بالضمان، وكان ذلك من باب العمل بالبينتين، بأن يجعل، كأن الغاصب ردها على المالك ثم ركبها ثانياً؛ كذا في مسألتنا.
في «فتاوى النسفي» رحمه الله: سئل عمن ادعى على آخر: إني رهنت منك كذا عيناً سماه ووصفه بكذا، وطلب منه إحضار الرهن ليقضي ما له عليه من الدين، ويرد الرهن عليه، والمدعى عليه ينكر الرهن والارتهان، فجاء المدعي بشاهدين على الرهن، وجاء المدعى عليه بشاهدين شهدا أن المدعى عليه اشترى هذه العين من هذا المدعي بكذا ونقده الثمن، وقبض المشتري بتسليمه، فهذا دفع لدعوى المدعي، ويقضي ببينة صاحب اليد لأن بينته أكثر إثباتاً، لأن الشراء آكد من الرهن.
رجل أخذ دابة من يدي رجل وهلكت في يده، فجاء الذي كانت الدابة في يده إلى القاضي، وادعى على الذي أخذ الدابة من يده أنه أخذ دابته بغير حق، وهلكت في يده، وأقام الآخذ بينة أني أخذتها بحق لما أن الدابة ملكي، وكانت في يد صاحب اليد بغير

(9/246)


حق؛ فهذا دفع صحيح، وهذا لأن الدعوى من صاحب اليد في الحاصل دعوى ضمان الدابة، وبينة الأخذ على الوجه الذي بينا صلحت دافعة له.
ولو كانت الدابة قائمة في يد الآخذ، فادعى الذي كانت في يده على نحو ما بينا، وأقام الآخذ بينة أنه أخذها لأنه ملكها، قبلت بينته، لأن الآخذ، وإن كان ذو اليد في الحال ولكن يثبت بتصادقهما أنها كانت في يد الآخذ، وثبت بذلك أن صاحب اليد في الحقيقة الآخر دون الآخذ، فلهذا تقبل بينة الآخذ على الملك له في الدابة.
امرأة ادعت على زوجها أنها محرمة عليه بالطلاق الثلاث (219ب4) وأقامت على ذلك بينة، فقال الزوج في دفع دعواها: إنها أقرت أنها اعتدت بعد طلقاتها الثلاث وتزوجت بزوج آخر، ودخل بها زوجها الثاني ثم طلقها وانقضت عدتها، ثم تزوجها وهي حلال له اليوم هل يصلح هذا دفعاً؟ كان شيخ الإسلام السغدي يقول: لا يصح هذا الدفع؛ لأن أكثر ما فيه أنه ثبت ببينة الزوج إقرارها بالحل، فتناقضها في دعوى الحرمة، إلا أن الدعوة ليست بشرط لسماع البينة على طلاق المرأة وحرمتها، والصحيح أن دعوى الدفع على هذا الوجه صحيح.

وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد: رجل ادعى داراً أو متاعاً في يدي رجل، وأقام بينة عند القاضي بذلك، وقضى القاضي له بما ادعى فلم يقبضه المدعي حتى أقام المدعى عليه بينة أن هذا المدعي أقر أنه لا حق لي في هذا المدعي، قال: إن شهدت شهوده على إقرار المدعي أن شهوده فسقة، أو على إقراره أنه استأجرهم على هذه الشهادة، أو على إقراره أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وادعى المدعى عليه، قبلت شهادتهم، وبطلت شهادة شهود المدعي إذا أقر في غير مجلس القاضي أن هذا العين ملكه بسبب الشراء من فلان، ثم ادعاه عند القاضي ملكاً مطلقاً، فقال المدعى عليه للقاضي في دفع دعواه: إنه أقر مرة أن هذا العين ملكه بسبب الشراء من فلان، فهذا دفع لدعوى المدعي.
رجل ادعى عيناً في يدي إنسان عند قاضي ملكاً بسبب، ولم يمكنه إثباته، فباع المدعى عليه ذلك العين من رجل، وسلمه إلى المشتري، ومضى على ذلك زمان، ثم إن المدعي ادعى ذلك العين على المشتري عند ذلك القاضي، أو عند قاضٍ آخر ملكاً مطلقاً، فقال المشتري في دفع دعواه: إنه مبطل في هذه الدعوة كما أنه ادعى هذا العين على بائعي بسبب الشراء، والآن يدعيه ملكاً مطلقاً، فهذا دفع صحيح.

ادعى عيناً في يدي إنسان ملكاً مطلقاً، وادعى المدعى عليه في دفع دعواه أنه كان ادعى هذا العين قبل هذا بسبب، فقال المدعي: إنما ادعيته الآن بذلك السبب أيضاً، وترك دعوة الملك المطلق، سمع دعواه ثانياً بالسبب أيضاً، وبطل دفع المدعى عليه.
رجل ادعى عبداً في يدي رجل، وأثبت دعواه بالبينة، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك قد بعت هذا العبد من فلان الغائب، وأقام على ذلك بينة.
فعلى ما عليه إشارات «الجامع» و «الزيادات» : لا تقبل هذه البينة من المدعى عليه ولا تندفع دعوى المدعي.

(9/247)


وقد ذكر الناطفي في «أجناسه» : أن القاضي يقبل هذه البينة ويدفع دعوى المدعي، والوجه لما ذكره الناطفي: أن دعوى المدعى عليه بيع المدعي من فلان، وكل بائع مقر بالملك للمشتري منه بمنزلة دعواه إقرار المدعي بأن هذا العين ملك لفلان، ولو ادعى إقرار المدعي أن هذا العين ملك فلان، وأقام على ذلك بينة، يسمع ذلك منه، وتندفع خصومة المدعى عليه؛ كذا هنا.
وعلى هذا القياس: إذا ادعى ديناً على ميت بحضرة وارثه، وأنكر الوارث التركة، فعين المدعى عليه عيناً من الأعيان، وقال: هذا من تركته، فقال الوارث: إن الميت قد كان باع هذا العين في حياته من فلان دفعاً صحيحاً؛ حتى لو أقام البينة على ذلك تندفع دعوى المدعي.

حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي أنه قال: عرض علي محضر فيه دعوى رجل على رجل أرض إنها ملكه وحقه، وإن مورث المدعى عليه أحدث يده عليها بغير حق إلى أن مات، وفي يد وارثه هذا بغير حق أيضاً، فواجب قصر يده عنها وتسليمها إلى هذا المدعي، وأقام على ذلك بينة بعد إنكار المدعى عليه دعواه، وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن مورثنا فلان كان اشترى هذا المحدود من مورث هذا المدعي بيعاً باتاً وتقابضا، وكان في يده بحق إلى أن توفي، ثم صار ميراثاً لي عنه بحق، فقال المدعي في دفع هذا الدفع: إن مورث المدعى عليه كان أقر أن البيع الذي جرى بيننا كان بيع وفاء وارد على الثمن على رد الأرض، وأقام بينة على ذلك؛ هل يصح دفع الدفع على هذا الوجه؟
وقد كان أجاب قاضي القضاة عماد الدين علي بن عبد الوهاب، والشيخ الإمام الزاهد علاء الدين عمر بن عثمان: أنه صحيح، وإني أجيب أنه غير صحيح؛ لأنه ادعى أولاً أنه كان في يده بغير حق؛ وأنا أقول: يجب أن تصح دعوى الدفع على قول من يقول: بأن لبيع الوفاء حكم الرهن؛ لأنه إقرار ببعض ما أنكره له أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، وهذا لأنه لما كان لهذا حكم الرهن كان المبيع على ملك المدعي، إلا أن المدعى عليه حضر، وقد ادعى المدعي أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، فإذا أقر بعد ذلك ببيع الوفاء، فقد ادعى أن الملك له، وادعى أن يد المدعى عليه بحق.
فهو معنى قولنا: إنه أقر له ببعض ما أنكره له أولاً، إلا أن بعدما أقر ببيع الوفاء لا يمكنه مطالبة المدعى عليه بتسليم الأرض، ولا تقبل بينته على تسليم الأرض، وإنما تقبل بينته على ملكية الأرض، وعلى قول عامة المشايخ: إن لم يكن الوفاء مشروطاً في البيع، فالبيع صحيح، ولا يكون هذا دفعاً، وإن كان الوفاء مشروطاً في البيع كان البيع فاسداً، فإن ادعى فسخ العقد يصح الدفع، وما لا فلا.

ذكر شيخ الإسلام في «شرح الجامع» في باب من القضاء: ادعى على آخر داراً في يديه، فأقام المدعى عليه بينة على إقرار المدعي أن الدار ليست ملكاً لي، أوما كانت لي، اندفعت بينة المدعي.

(9/248)


ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكي، وقد أقر صاحب اليد بذلك لي، فأقام المدعى عليه البينة أنه استوهب هذا العين مني يكون ذلك دفعاً لدعوى المدعي لأن الاستيهاب إقرار أنه ليس ملك الموهوب باتفاق الروايات، وهل يكون إقراراً بملك الواهب؟ على رواية «الجامع» : يكون إقراراً، وعلى رواية «الزيادات» : لا يكون إقراراً.

وصار تقدير هذه المسألة، كأن المدعي أقام بينة على إقرار المدعى (عليه) أن لا ملك له في هذا العين على الرواية كلها، أو على إقراره أن هذا العين ملك الواهب على رواية «الجامع» .
وكذلك على هذا إذا أقام المدعى عليه بينة على أن المدعي استامه منه، أو قال بالفارسية: خريده خواستي أين عين را ازمن، فهذا دفع دعوى المدعي، فالإقدام على الاستيام، وعلى الشراء إقرار أنه لا ملك للغير فيه باتفاق الروايات، وهل يكون إقراراً بالملك للبائع؟ فعلى الروايتين أيضاً، وكذلك الإقدام على الإجارة وعلى المزارعة على هذا.
وفي كتاب القسمة في «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً عن رجل تزوج امرأة ثم ادعى أنه اشتراها ممن يملكها، قال: لا أقبل بينته على ذلك حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد التزوج، وكذلك إن ساوم بدار في يدي رجل ثم ادعى أنه اشتراها من فلان، وفلان يملكها لم أقبل ذلك منه، حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد (فقال) في دفع دعواه: إن هذا المدعي مبطل في دعواه كون هذا العين ملكاً له لما أنه استشرى هذا العين من فلان، وهذا منه إقرار أنه لا ملك في المدعي فهذا دفع.

وإذا ادعى نخلاً في يدي رجل فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه استشرى في كونه إقراراً أنه لا ملك للمدعي في المدعى نظير الاستشراء من المدعى عليه، معنى أن من ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه، فقال المدعى عليه: ثمن هذا النخل مني، فهذا ليس بدفع إذ ليس من ضرورة أن لا يكون ثمر النخيل لإنسان أن لا يكون النخل له، وقد مر هذا فيما تقدم.
ادعى محدوداً في يدي رجل وبين حدودها، فقال المدعى عليه: أين محدود كه مدعي دعوى كردانة أين حدود ملك متست، فادعى المدعي دعواه ثانياً في مجلس آخر يعين تلك الحدود، فقال المدعى عليه: در حدود خطا كرده واين حدود كه دردست منست مراست به حدود نيست كه تو دعوي كرده، وأعاد المدعي دعواه ثالثاً في مجلس آخر، فقال المدعى عليه: أين محدود كه تو دعوي كرده تو بفلان فروختا، (220أ4) بودي ينفى أزانك دعوانك دعوى كردي ومن آز فلان خريده أم هل يكون هذا دفعاً لدعوى المدعي فقيل: لا، وينتقض كلامه الثالث بالكلام الثاني، واعتبر كلامه الثاني لنقض كلامه الثالث.
وإن لم يعتبر في حق دفع دعوى المدعي، أما إذا ادعت المهر المسمى على ورثة زوجها، وأقامت على ذلك بينة، فقالت الورثة في دفع دعواها: إنك قد كنت قد أقررت

(9/249)


أن النكاح كان بغير تسمية، وإن الواجب مهر المثل، والآن تدعي المسمى وبينهما تناقض، فقد قيل: هذا دفع، وقد قيل: إنه ليس بدفع وهو الأصح إذ يجوز أن لا يكون في النكاح تسمية، ثم يسمي لها مهراً ويكون ذلك تقدير مهر مثلها.

ادعى المديون القضاء وأنكر رب الدين ذلك وحلف، ثم إن المديون صالح رب الدين من ذلك على شيء، ثم أقام البينة أنه كان قضاه الدين، هل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على القبول.

وصورتها: استعار من آخر دابة وهلكت الدابة تحت المستعير بعد ذلك بينة على العارية، وقال: إنها نفقت؛ قبلت بينته، وبطل الصلح، وإن أراد استحلاف المعير على ذلك فله ذلك.
وفي «المنتقى» : رجل ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما كانت لك عليّ ألف درهم قط، وقد ادعيت هذه الألف أمس فدفعتها إليك، فقال المدعي: ما قبضت منك شيئاً، فإن لي عليك ألف درهم، فصالحه من دعواه على خمسمئة درهم، ثم إن المدعى عليه جاء ببينته فشهدت أنهم رأوا المدعى عليه دفع إلى المدعي أمس ألف درهم، لم ألتفت إلى هذه الشهادة؛ لأن هذا إنما افتدى بينته بها.
ولو أن المدعى عليه قال للمدعي: صدقت؛ قد كان لك علي ألف درهم، وكذا قد قضيتها أمس، فقال المدعي: ما قضيتني شيئاً، فدفع الألف إليه أو صالحه على خمسمئة، ثم شهدت الشهود للمدعى عليه أنه دفع إليه الألف بالأمس، كان له أن يرجع عليه بما أعطاه والصلح باطل.
وفي «المنتقى» : قال هشام: سمعت محمداً يقول في رجل ادعى على رجل مالاً، وصالحه وجحد المدعى عليه وأعطاه إياه، أو صالحه من دعواه، ثم أقام المدعى عليه بينة أن المدعي قال قبل القضاء أو قبل الصلح: ليس لي قبل فلان شيء، فالقضاء والصلح ماضيان، وإن أقام بينة أنه أقر بذلك بعد الصلح والقضاء، أبطلت الصلح والقضاء، ولو كان القاضي قد قضى عليه بالمال ببينته، ثم أقام المدعى عليه بينة أن المدعي أقر قبل أن يقض القاضي أنه ليس عليه شيء أبطلت المال عنه.
رجل ادعى داراً في يدي رجل، فصالحه المدعى عليه على ألف على أن يسلمها للمدعى عليه، ثم إن المدعى عليه أراد أن يقيم بينة أنها له ليرجع في الألف، فليس له ذلك.
وكذلك إن أقام بينة أنها كانت لأبيه فلان مات أبوه وتركها ميراثاً له، هكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف.

وعلل فقال: لأنه كان القول فيها قوله، فإنما افتدى يمينه بما يدل، فلا يستطيع أن

(9/250)


يرجع فيه، ولو أقام بينة أنه كان اشتراها من المدعي قبل الصلح قبلت ببنته، وبطل الصلح، ولو لم يقم بينة على الشراء، وإنما أقام بينة على صلح صالحه قبل هذا الباب، أمضيت هذا الصلح الأول وأبطلت الثاني.
وفي «المنتقى» : ادعى داراً في يدي رجل إرثاً عن أبيه، ثم اصطلحا على شيء، ثم إن المدعى عليه أقام بينة أنه كان اشترى الدار من أب هذا المدعي حال حياته، أو أقام بينة أنه كان اشتراها من فلان، وفلان كان اشتراها من أب هذا المدعي، لا تقبل بينته، لأنه ساعي في نقض ما تم به، لأنه لو ظهر ذلك يبطل الصلح.

وإذا ادعى على آخر مالاً معلوماً، فادعى المدعى عليه الصلح إن كان الصلح على جنس الحق، لا حاجة إلى ذكر القبض بدل الصلح، وإن كان الصلح على خلاف جنس الحق لا بد من ذكر قبض بدل الصلح، ومن ذكر قبضه في مجلس الصلح، وهل يشترط بيان بدل الصلح؟ بعض المتأخرين قالوا: يشترط، وبعضهم قالوا: لا يشترط.
وذكر يعني عن بيانه؛ ادعى داراً في يدي رجل، فادعى المدعى عليه الصلح، ولم يقم له على ذلك بينة، وقضى القاضي بالدار للمدعي، وباعها المدعي من رجل، ثم إن المدعى عليه الدار أراد أن يحلف المدعي بالله؛ ما صالحتني عن دعواك في الدار قبل قضاء القاضي بالدار فله ذلك، فإذا حلفه ونكل عن اليمين كان للمدعى عليه الخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن وإن شاء ضمنه.
ادعى على رجل داراً في يده، وصالحه المدعى عليه على دراهم مسماة، يدفعها المدعى عليه إلى المدعي ودفع، ثم إن المدعى عليه أقام بينة على أن المدعي قال بعد الصلح: حكونه أوردم كه جندين مال بباطل أذرى بستدم، دفع بينته وبطل الصلح، وكان له أن يسترد من المدعي ما دفعه إليه، وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا ينبغي أن لا يسمع بينته لأنه افتدى يمينه بما يدل، فلا يكون له أن يرجع فيه.

وفي «المنتقى» : ادعى ثوباً في يدي رجل، فصالح المدعى عليه المدعي على عشرة دراهم يدفعها إلى المدعي، ودفع ثم إن المدعى عليه أقام بينة على إقرار المدعي أنه لا حق له في هذا الثوب، إن شهدوا على إقراره قبل الصلح، فالشهادة باطلة والصلح جائز، لأن المدعى عليه قد صالح وهو منكر، فإنما افتدى يمينه بما يدل.
وكذلك لو كان المدعى عليه حلف المدعي عليه فنكل، وقضى القاضي عليه بنكوله بالثوب للمدعي، ثم جاء المدعى عليه ببينة يشهدون على إقرار المدعي قبل القضاء أنه لا حق له في الثوب، لا يلتفت إلى شهادته، وإن أقام المدعى عليه بينة على إقراره بعد الصلح أنه لم يكن له في الثوب حق أبطلت الصلح.
رجل ادعى على ميت ديناً في تركته بحضرة أحد ورثته، أو ثبت الدين بالبينة، فجاء وارث آخر غير الذي قامت عليه البينة، وصالح مع المدعي على بعض ما ادعاه، ثم إن هذا المصالح أقام بينة على المدعي أن المورث قد أوفاك هذا المال، وكنت مبطلاً في هذه الدعوى لا تسمع بينته، ولو أقام غير المصالح من ورثة الميت بينة على أن المورث قد كان أوفاك هذا الدين يسمع.

(9/251)


رجل ادعى نكاح امرأة وأقام بينته على دعواه، فأقامت هي بينة على وجه الدفع أنه قد خالعها، فهذا دفع إذا لم يوقتا، أو وقت أحدهما دون الآخر وإن وقتا، وتاريخ الخلع سابق، فهذا ليس بدفع، وبينة المرأة مردودة.

أمة في يدي رجل ادعاها رجل، وقال: إنها أمتي وقد غصبها ذو اليد مني، وأقام ذو اليد بينة أنها كانت أمة فلان، وقد أعتقها فلان منذ عشرين سنة، وإنما تزوجتها، فهذا دفع.
m
وإذا ادعى نكاح امرأة وهي تدعي إقرار المدعي بحريتها فهذا دفع، وكذلك إذا ادعت هي النكاح، وادعى هو الخلع فهذا دفع.

وإذا ادعى نكاح امرأة، وادعت أنها منكوحة فلان الغائب فهذا ليس بدفع، فرض القاضي على الزوج النفقة، فطلبها وادعى على وجه دفع الفرض أنها محرمة علي هذه الحالة، فهذا ليس بدفع، ولا يبطل فرض القاضي؛ لأنه ليس من ضرورة كونها محرمة أن لا يكون لها عليه النفقة، وأنها لو كانت في عدتها، فهي محرمة ولها عليه النفقة، ونفقة النكاح ونفقة العدة، فهذا لا يصلح دفعاً، ولو كان ادعى الخلع على المهر ونفقة العدة فهذا دفع.
رجل ادعى على زيد مثلاً بحضرته إني استأجرت من صالح محدود كذا إجارة طويلة مرسومة بكذا، وقبضت المحدود، ثم أجرته مقاطعة من زيد هذا الذي أحضرته بكذا مدة كذا، وبين جميع الشرائط في العقدين جميعاً ثم قال: ومضت مدة المقاطعة، وصار مال المقاطعة ديناً لي على زيد هذا وذلك كذا، فقال زيد في دفع دعواه: إني اشتريت هذا المحدود من صالح صاحب المحدود بكذا في يوم كذا، ونفذ البيع في أيام الفسخ، وذلك كذا، وسقط مال المقاطعة عني من وقت كذا، وذلك كذا، وهذا المدعي مبطل في دعواه جميع مال المقاطعة عليّ، فأقام بينة على ما ادعاه، وكان ذلك بعينه صالح صاحب المحدود؛ هل تسمع هذه البينة؟ وهل تندفع دعوى (220ب4) المدعي، فقد اختلف مشايخ زماننا فيه، والأظهر أنه يسمع البينة، وتندفع دعوى المدعي.
رجل ادعى على آخر أنه كسر سنه العليا، فقال المدعى عليه بطريق الدفع: إنه لم يكن له هذا السن أصلاً، وأقام على ذلك بينة فهذا ليس بدفع، وهذه البينة مردودة لأنها قامت على النفي.

وقعت في زمانننا أن رجلاً ادعى على رجل أن لفلان بن فلان عندك كذا وكذا، وإنه صبي، وجعل القاضي فلان أبا فلان وصياً لهذا الصبي، وهذا الصبي في ولاية هذا القاضي، ثم إن أبي فلاناً وكلني بقبض مال الصغير هذا منك وذلك كذا وكذا، وقضى القاضي بوكالة المدعى بشرائطه، وقبض المدعي المال، ثم إن هذا المدعى عليه بعد ذلك..... ادعى على هذا الوكيل أن هذا الصبي فلان بن فلان قد أدرك ووكلني بقبض

(9/252)


ماله أيها الوكيل عن الوصي، فقال الوكيل عن الوصي: بعثت المال إلى الصبي؛ هل يصدق؟ وقد قيل: لا يصدق أصله الوكيل بالبيع إذا قال بعدما عزل الموكل: بعته أمس؛ الوكيل يقبض إذا أثبت وكالته بالبينة، وقضى القاضي بوكالته، ثم إن المطلوب ادعى أن الطالب قد مات قبل دعواه وليس له حق القبض، فهذا دفع؛ لو أقام البينة عليه تندفع دعوى المدعي.

حانوت استحق من يد رجل بالبينة، ورجع المستحق عليه على بائعه بالبينة، فأقام بائعه بحضرته وبحضرة المستحق أن المستحق أقر أن هذا الحانوت كان ملك أبي؛ مات وتركه ميراثاً لي لا وارث له غيري، وإن ولي قال في حياته وصحته: جميع هذا الحانوت ملكي بسبب صحيح، وفي يدي بحكم الإجارة لا ملك لي فيه، وقد كنت صدقته في هذا الإقرار، ثم بعته بعد ذلك من المستحق عليه، وإن قضى القاضي للمستحق وقع باطلاً، فهذا دفع صحيح.

ولو أن البائع لم يقل هذا، وإنما قال: إن المستحق قد كان قبل دعوى الحانوت التي في يد فلان ملك فلان بن فلان، والأب يدعي الحانوت لنفسه، وهذا تناقض، فهذا دفع لدعوى المدعي إذا ادعى أرضاً في يدي رجل، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن المدعى مبطل في هذه الدعوى لما أنه طلب مني أن أدفع هذه الأرض إليه مزارعة، أو قال: طلب مني أن أؤجره هذه الأرض منه، فهذا دفع لدعوى المدعي؛ دلال دلالى كردم مردي راتا خانه خريده زمردي بازاين دلال هميم خانه دعوى سنكيد يد هميم مشتري بملكي مشتري دفع سيكويد كه أين خانه رادلالي، كرده امرأته آز فلان خريدم، هل يكون هذا دفعاً قال: ينظر؛ إن كان الدلال قال للمشتري: اشتره فإنه ملك هذا البائع، فهذا دفع، وإن لم يقل: فإنه ملك هذا البائع، فهذا لا يكون دفعاً.
رجل ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: اشتريتها من فلان، وأنت أجزت هذا البيع، فهذا لا يكون إقراراً بالملك للمدعى عليه، ولا يكون دفعاً لدعوى المدعي.
قال في «الأقضية» : رجل ادعى داراً في يدي رجل، وأقر ذو اليد أنها كانت للمدعي، ثم قال بعد ذلك: إنها لفلان أودعنيها، إن أقام البينة على الإيداع اندفعت عنه الخصومة سواء بدأ بالإقرار للمدعي، ثم بني بالإيداع، أو على الغائب لأن أكثر ما في الباب أنه أقر بابتداء كلامه بكون الدار ملكاً للمدعي، إلا أن كونها ملكاً للمدعي لا ينافي كون يد صاحب اليد يد أمانة، لجواز أن المقر له أجرها من الغائب أو أعارها، ثم إن الغائب أودعها عنده، وإذا ثبت أن كونه ملك المدعي لا ينافي كون يده يد أمانة يقبل بيانه، وإن لم يكن له بينة أن بدأ بالإقرار للمدعي وبنى بالإيداع؛ يؤمر بالتسليم إلى المدعي بعد ذلك إن حضر الغائب وصدقه، لا ينزع الدار من يد المدعي؛ لأن حقه كان أسبق، لكن يقال للمقر له: أقم البينة على أن الدار لك، وإن بدأ بالإيداع، وبنى بالإقرار يؤمر بتسليم الدار إلى المدعي، لأنه ثبت حق المدعي، وحق الغاصب موهوم؛ لأنه قد صدق المدعي وعسى يكذبه الغائب، وعلى تقدير التكذيب؛ لا يثبت حق الغائب، ولو لم

(9/253)


يقم البينة على الإيداع، ولكن علم القاضي أن الغائب أودعها إياه لم يجعل بينهما خصومة، وكذا لو أقر المدعي بذلك، ولو علم القاضي أنها للمدعي، وأقام الذي في يديه البينة أن فلاناً الغائب أودعها؛ لا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب، ولو علم القاضي أن الغائب غصبها من المدعي وأودع ذا اليد، فإنه يأخذها من ذي اليد، ويسلم إلى المدعي، وذكر في باب اليمين أن ذا اليد لو قال: أودعنيها الغائب، ولم يكن له بينة يحلف، إن حلف برىء، وإن نكل لزمه ولو جاء المقر له الأول كان له أن يأخذ من المدعي؛ لأن الإقرار له سابق، ثم يقال للمقر له الثاني، أو الناكل له: أثبت على خصومتك مع المقر له الأول إن أقام البينة أخذه، وإن لم يكن له بينة يحلف، إن حلف برئ وإن نكل لزمه.

بائع العبد إذا طلب الثمن من المشتري، وقال المشتري: إنك مبطل في هذه الدعوى لأنك بعت الحر، فإنك حلفت وقلت: إن اشتريت عبداً فهو حر، ثم اشتريت هذا العبد بعد يمينك، وعتق عليك وبعته مني، فهذا دفع لو أثبته بالبينة، وكذلك لو قال: حلفت وقلت: كل عبد اشتريته فهو حر، ثم اشتريت هذا العبد بعد اليمين مني عليك، ثم بعته مني.
كذلك لو قال: أعتقت هذا العبد قبل أن تبيعه مني، فهذا كله دفعاً صحيحاً، ذكر الفصل الأخر في «الزيادات» من غير ذكر خلاف، وذكر الفصل الآخر عن أبي يوسف، وأبي حنيفة أن بينة المشتري لا تقبل على البائع بذلك حتى لا يسترد المشتري الثمن من البائع، ولكن يعتق العبد على المشتري لإقراره بذلك؛ والله أعلم.

الفصل الرابع والعشرون: في دعوى الوصية، وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك، وإقراره بالوصية لرجل آخر
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيره، وترك أباً لا وارث له سواه، فأقام رجل بينة أن الميت أوصى له بعبده هذا الذي يقال له: سالم، وأنكر الوارث ذلك وقال: لم يوص الميت لك بشيء، إنما أوصى لهذا الرجل الآخر بعبده هذا الذي يقال بزيع، وصدقه المقر له بذلك، فالقاضي يقضي لصاحب البينة بسالم، ولا يقضي للمقر له من بزيع شيئاً؛ لأنه تعذر تنفيذ الوصيتين لأنهما يزيدان على الثلث، ومحل تنفيذ الوصايا عند عدم إجازة الورثة الثلث، وقد عدم إجازة الورثة هاهنا فيما زاد على الثلث، لما زعم الوارث أن الميت أوصى بزيع لا غير.

وتعذر تنفيذ كل وصية بمقدار النصف حتى يكون تنفيذ الوصايا بقدر الثلث، لأن وصية بزيع لم تثبت في حق صاحب البينة؛ لأن وصية بزيع تثبت بالإقرار، والإقرار حجة

(9/254)


قاصرة، فإذا تعذر القضاء بالوصيتين بكمالهما، وتعذر القضاء بالشركة لا بد من القضاء بأحدهما، فكان القضاء بما ثبت بالبينة، والبينة حجة في حق الناس كافة أولى من القضاء بما ثبت بالإقرار، وإنه حجة قاصرة.
فإن قيل: ينبغي أن يقضى للمقر له بجميع بزيع، لأن بزيعاً في يد الوارث، وقد أقر الوارث أن جميعه للمقر له.
قلنا: الوارث ما أقر بزيع إقراراً مطلقاً، إنما أقر به بجهة الوصية، والوصية تنفذ في الثلث، والقاضي لما قضى بسالم بحكم الوصية لأن القضاء يكون على وفق الدعوى، وصاحب البينة ادعاه بحكم الوصية، وإذا تعين سالم محلاً للوصية؛ خرج بزيع من أن يكون محلاً لها، فالإقرار من الوارث بزيع حصل في غير محله، فلم يصح.
يوضحه: أن الإقرار ببزيع لما حصل بجهة الوصية، ومحل الوصايا الثلث كان الإقرار بزيع من الوارث بشرط أن يسلم للوارث ضعف بزيع، وبعدما قضى القاضي بسالم، لو قضينا ببزيع بإقراره لا يسلم الوارث ضعفه، فلا يكون تنفيذ إقراره كما أقر به.
فإن قيل: لمَ لا يقضى للمقر له من بزيع بقدر ثلث ما بقي من التركة سوى سالم بحكم إقرار الوارث؟
وبيان ذلك أن في زعم الوارث أن صاحب البينة مبطل في دعواه، وأنه أخذ سالم بغير حق، فصار سالم بمنزلة الهالك حكماً، ولو هلك حقيقة، وقال الوارث: إن (221أ4) الميت أوصى ببزيع، تنفذ الوصية في بزيع بقدر ثلث ما بقي من التركة وهو ثلث العبدين؛ فكذا هاهنا.

والجواب عن هذا أن يقال بأن القاضي لما قضى بوصية سالم، فقد قضى بجميع ما يملك الموصى الإيصاء به، لأن القاضي إنما يقضي بالوصية بقدر الثلث، فإذا قضى بوصية سالم، وسالم ثلث ماله، فقد امتاز ما يملك الميت الإيصاء به، ولم يبق في يد الوارث شيء مما يملك الميت الإيصاء به فجعل الابن مقراً له بالوصية بما لا يملك الميت الإيصاء به، فرفع إقراره لغواً، ثم إذا قضى القاضي بسالم لصاحب البينة لو اشترى الوارث سالماً بزيع، جاز الشراء وكان ينبغي أن لا يجوز؛ لأن من زعم الوارث أن صاحب البينة أخذ سالم بغير حق، وأنه لم يصر ملكاً له بل بقي على حكم ملك الميت، وصار ملكاً للمقر له، وصار الوارث مشترياً ما هو يملكه بملك غيره أولى.
قلنا في زعم الوارث: أن سالماً صار ملكاً لصاحب البينة ظاهراً عند محمد، وإحدى الروايين عن أبي حنيفة فإن في القضاء بالوصية بشهادة الزور روايتان؛ عن أبي حنيفة في رواية ينفذ ظاهراً لا باطناً كما في الأملاك المرسلة، وفي رواية ينفذ ظاهراً وباطناً، وإذا صار سالم ملكاً لصاحب البينة ظاهراً وباطناً بقي بزيع على ملك الوارث ظاهراً وباطناً حتى لا تزداد الوصية على الثلث.
ولهذا لو باع الوارث بزيعاً من غيره يجوز وطريقه ما قلنا؛ ولما كان هكذا كان في زعم الوارث أنه يشتري ما هو ملك غيره ظاهراً، وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً، ولو كان في

(9/255)


زعم الوارث أن شراء سالم فاسد، ففي زعم بائعه أن شراءه صحيح.
والحكم في مثل هذا يبنى على زعم البائع؛ كما لو اشترى عبداً أقر بحريته، وكذلك لو كان الوارث اشترى سالماً بألف درهم كان الشراء جائزاً، لما ذكرنا أنه اشترى ما هو مملوك لغيره ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً، إلا أن التفاوت ما بين الفصلين؛ أن في الفصل الأول يضمن الوارث قيمة بزيع للمقر له بزيع.

وفي الفصل الثاني: يؤمر الوارث بتسليم بزيع إلى المقر له، وهذا الجواب مستقيم على قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله بأن في زعم الوارث أن سالماً بقي على ملك الميت باطناً عند محمد، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأنه وصل إليه بحكم الميراث لا بحكم الشراء، وأن الشراء منه كان تخليصاً للمغصوب فإذا وصل سالم إلى الوارث فقد وصل إليه بحكم الميراث ثلثا ملك الميت بزعمه، فيجب تنفيذ وصية بزيع فيه، لأن المانع من تنفيذ وصيته عدم سلامة ضعفه للوارث، وقد زال هذا المانع لما سلم سالم للوارث بحكم الميراث، غير أن في الفصل الأول عجز الوارث عن تنفيذ وصيته في عينه، فينفذها في قيمته، وفي الفصل الثاني؛ قدر على تنفيذ وصيته في عينه فيسلم عينه إلى المقر له.
رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم؛ لا مال له غيره، فأقر الوارث أن الميت أوصى بهذا العبد لفلان، وإني أجزت وصيته بعد موته، وأقام رجل بينة أن له على الميت ألف درهم، وجحد الوارث دينه، فإن القاضي يبيع العبد بالدين ويقضي الدين من ثمنه؛ لأن الدين والوصية لو كانا ثابتين بالبينة كان الدين مقدماً على الوصية، فإذا كان الدين ثابتاً بالبينة، والوصية ثابتة بالإقرار؛ لأن تقدم الدين كان أولى، وإنما شرط محمد رحمه الله إجازة الوارث وصية الميت لكون الوصية حاصلة بجميع مال الميت، فإذا باعه القاضي بدين ألف درهم، وقضى دين الغريم من ثمنه، ثم إن الوارث اشترى العبد أو رجع العبد إليه بهبة أو وصية أو ميراث، فأراد المقر له أن يأخذه من الوارث بإقراره له بالوصية لا سبيل له عليه.
فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة؛ فإن في المسألة المتقدمة؛ إذا قضى القاضي بسالم لصاحب البينة، ثم وصل إلى الوارث سالم بشراء أو هبة أو وصية، فإنه يؤمر الوارث بدفع بزيع إلى المقر له بالوصية بزيع.

والفرق: أن في مسألتنا القاضي يبيع العبد حول حق الموصى له من العبد إلى ثمنه، وله هذه الولاية.
بيانه: أن للقاضي ولاية بيع الموصى به إذا كان منقولاً على الموصى له للحفظ عليه حال عجز الموصى له عن الحفظ بنفسه بالغيبة، وما أشبه ذلك لما عرف أن حفظ الدراهم أيسر من حفظ العين، وهاهنا الموصى له عجز عن الحفظ بنفسه؛ لأن القاضي حال بينه وبين العبد بسبب دين الغريم، فقد حصل بيع القاضي عن ولاية شرعية فنفذ ظاهراً وباطناً، فظهر العبد عن الوصية، وتحولت الوصية إلى بدل العبد.

(9/256)


ولهذا لو ظهر أن الشهود على الدين كانوا عبيداً يبطل قضاء القاضي، ويدفع بزيع إلى المقر له؛ لأنه لم يسلم له بالميراث منفعة، فإذا وصل إليه سالم فقد سلم له منفعة، فيلزمه رده إلى المقر له.
ولو أن الغريم مات بعدما قبض الثمن وورثه وارث الميت الأول، فإن ورث تلك الألف بعينها، فللمقر له أن يأخذها، وإن ورث مالاً آخر غير تلك الألف يباع منه بقدر ألف درهم، ويدفع ذلك إلى المقر له؛ لأن في زعم الوارث والمقر له أن الوصية تحولت إلى ثمن العبد، وأن الغريم حين أخذ الثمن صار غاصباً له، وصار ذلك ديناً عليه والدين مقدم على الميراث وزعمهما حجة في حقهما، ولو لم يرثه وارث الميت، ولكن أوصى الميت للمقر له بتلك الألف بعينها، على الوارث أن يردها على المقر، وإن كان قد أوصى له بمال آخر يعطي من ذلك للمقر له قدر ألف درهم. وصار الجواب في الوصية نظير الجواب في الميراث؛ لأن الدين كما يقدم على الميراث يقدم على الوصية أيضاً.

وإن لم يكن شيء من ذلك ولكن وهب الغريم للمقر له تلك الألف بعينها، أو ألفاً أخرى إن كانت الهبة في حالة المرض، فالجواب فيها كالجواب في الوصية، لأن الهبة في مرض الموت وصية، وإن كانت الهبة في حالة الصحة؛ إن كان الموهوب تلك الألف بعينها أمر بالتسليم إلى الغريم؛ لأنه وصل إليه عين ما أقر به. وإن كان الموهوب ألفاً أخرى لا يؤمر بالتسليم إلى الغريم؛ لأنه لم يصل إليه ما أقر له به. ولا ما تعلق به حقه لأن دين الحر الصحيح لا يتعلق بماله على ما عرف.
ولو أن القاضي لم يبع العبد من الأجنبي بالدين، لكن أعطاه الغريم بدينه، فقال: هذا العبد بيع لك بدينك، أو قال: جعلته لك بدينك فأخذه الغريم على هذا، ثم إن الوارث اشتراه منه، أو وهبه الغريم أو تصدق به عليه، فلا سبيل للمقر له على العبد، وهذا لو باعه من الأجنبي سواء؛ لأن بيع القاضي إنما يصح على المقر له بطريق الحفظ، وفي هذا المعنى البيع من الأجنبي ومن الغريم سواء؛ فصح بيع القاضي من الغريم، وانتقل حق الموصى له المقر به إلى الثمن.
وهذه المسألة دليل على أن البيع ينعقد بلفظ الجعل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه ينعقد لوجود معنى البيع وهو تسليم العين بدل، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ، ألا ترى أن من قال لغيره: جعلت لك ابنتي بألف درهم؛ كان نكاحاً لوجود معنى النكاح؛ كذا هاهنا.
قال: ولو أن القاضي لم يبع العبد من الغريم ولكن جعله صالحاً للغريم من ماله؛ بأن قال: هذا العبد صلح لك من مالك وسلمه إليه، ثم وصل العبد إلى الوارث يوماً من الدهر يؤمر الوارث بتسليمه إلى الموصى له المقر به بخلاف ما لو باعه من الغريم ثم وصل إلى الوارث، فإن هناك لا يؤمر الوارث بتسليمه إلى الموصى له المقر له.

والفرق: وهو أن الصلح يتعلق بالدين المضاف، ولهذا لو صالح مع غيره على دين له عليه ثم ظهر أنه لا دين كان الصلح باطلاً، وفي زعم الوارث أنه لا دين للغريم على

(9/257)


الميت، وأن الصلح وقع باطلاً، وأن حق المقر له في عين العبد باقٍ على حاله، فإذا وصل العبد إليه، يؤمر بتسليمه إلى المقر له عملاً بزعمه، أما البيع لا يتعلق بالدين المضاف إليه (221ب4) ولهذا إذا باع شيئاً من غيره بالدين الذي له عليه، ثم ظهر أنه لا دين؛ لا يبطل البيع، فيتحول حق الموصى له المقر به من العين إلى الثمن بزعم الكل، فلهذا لا يؤمر الوارث بتسليم العين إلى المقر له متى وصل العين إليه.
رجل مات وترك ثلاثة أعبد قِيَمُهم على سواء لا مال له غيرهم، شهد شهود أن الميت أوصى بهذا العبد الأكبر لهذا الرجل؛ وجحد الوارث في ذلك، وأقر أن الميت كان أوصى بهذا العبد الأصغر لهذا الرجل الآخر؛ فلم يقض القاضي بشهادة الشهود حتى أعتق المقر له العبد المقر به نفذ عتقه؛ لأنه أعتق ملك نفسه؛ لأن الوارث أقر بالأصغر، وصح إقراره لأنه ملكه ظاهراً، ألا ترى أن الوارث لو أعتقه بنفسه صح إعتاقه، فصح إقراره به للمقر له، فملكه المقر له فنفذ عتقه.

فإن قضى القاضي بعد ذلك للمشهود له بالعبد المشهود به، يؤمر المقر له بتسليم قيمة العبد المقر به إلى الوارث؛ لأن الوارث ما أقر بالعبد الأصغر له مطلقاً إنما أقر له به وصية، وحين قضى القاضي للمشهود له بالمشهود به، فقد بطلت وصية المقر له، لأن محل الوصية الثلث، والثلث صار موضوعاً في يد المشهود له بولاية القضاء فيلزمه رد العبد الأصغر، وتعذر رده صورةً بالإعتاق، فيجب رده معنىً برد القيمة.

فإن قيل: إذا بطلت الوصية للمقر له ينبغي أن يبطل إعتاقه؛ كما لو كان الوارث أقر بوصية الأكبر لهذا الرجل، وأعتق المقر له الأكبر، ثم قضى القاضي لمدعي الأكبر بالبينة، فإنه يظهر أن العتق باطل في الأكبر، ويسلم الأكبر للمقضي له.
قلنا: في تلك المسألة قضى بعين العبد المقر به لغير المقر له، فيظهر أنه أعتق ملك الغير، وهاهنا ما قضى بعين المقر به لغير المقر له؛ لأن المقضي به العبد الأكبر دون الأصغر، إلا أنه في معنى البدل عن الأصغر؛ لأنه ما لم يسلم الأكبر للمقر لا يسلم الأصغر للمقر له، فكان في معنى البدل عنه من هذا الوجه.
واستحقاق بدل العتق لا يوجب بطلان العتق؛ لأنه لا يظهر أنه أعتق ما لا يملك؛ لأن بدل المستحق بعد القبض مملوك للقابض ملكاً فاسداً على ما عرف، فإذا لم يبطل العتق وبطلت وصيته، وعجز عن رد عين العبد وجب رد القيمة.
فإن قيل: القيمة لو وجبت وجبت للوارث، وفي زعم الوارث أنه أعتق نفسه، وأنه لا قيمة عليه.
قلنا: القاضي لما قضى للمشهود له بالمشهود به وصية، فقد كذب الوارث فيما زعم، فالتحق زعمه بالعدم؛ ألا ترى أن المشتري عند الاستحقاق يرجع بالثمن على البائع، وإن كان في زعم المشتري أن المشترى ملك البائع؛ إلا أن القاضي لما قضى بالملك للمستحق، فقد كذب المشتري في زعمه، فالتحق زعمه بالعدم كذا هاهنا.
ولو أن المقر له لم يعتق العبد المقر به حتى قضى القاضي بالعبد المشهود به

(9/258)


للمشهود له؛ بطلت وصية المقر له، فإنما أعتق ما ليس بمملوك، فلا يصح إعتاقه، ولا كذلك ما قبل قضاء القاضي للمشهود له؛ لأن قبل قضاء القاضي وصية المقر له على الصحة، فإنما أعتق المقر له ملك نفسه، فإن وصل العبد المشهود إلى يد الوارث يوماً من الدهر بوجه من الوجوه، يؤمر بتسليم المقر به إلى المقر له، لأن في زعم الوارث أن هذا العبد لم يكن موصىً به، وأنه في يد المشهود له بحكم الغصب.l

فإذا وصل إليه بطريق من الطرق؛ كان واصلاً إليه بحكم الميراث، فيؤمر بتسليم المقر به إلى المقر له؛ لأن قبل هذا إنما كان لا يؤمر به مع إقراره أنه موصى به لانعدام شرطه وهو سلامة ضعفه له، فإذا وصل إليه المشهود به بحجة الميراث، فقد سلم له ضعف المقر به فأمر بالتسليم إلى المقر له.

فإن قيل: أليس إنكم قلتم: إن القاضي لما قضى للمشهود له بالمشهود به، فقد أبطل وصية المقر له في المقر به، وبعدما بطل حقه في المقر به كيف يؤمر بتسليم المقر به إليه؟.
قلنا: معنى قولنا: أبطل وصية المقر له أنه امتنع من تنفيذ وصيته في المقر به لانعدام شرطه، وهو سلامة ضعفه للوارث، وقد جعل هذا الشرط بوصول سالم إليه، فيجب تنفيذ وصية المقر له، ويجوز أن يمتنع نفوذ الوصية لمعنى من المعاني، ثم يجب تنفيذه عند زوال ذلك المعنى.
ألا ترى أن من أوصى بعبد لإنسان ثم مات وعليه دين مستغرق، فإنه لا يجب تنفيذ الوصية في العبد لمكان الدين، فإن سقط الدين بمعنى من المعاني نحو الإبراء أو ما أشبهه، فإنه يجب تنفيذ الوصية فيه لزوال المانع كذا هاهنا.
أو نقول: بأن القاضي وإن أبطل وصية المقر له إلا أن الوارث مصر على إقراره بالوصية له، فأمر بالتسليم بحكم هذا الإقرار.
ثم قال: ولا يعتق العبد المقر به على المقر له بذلك الإعتاق السابق، فلم يصحح هذا العتق من المقر له على سبيل التوقف، وإنه وجد بعد سبب الملك له، وهو إقرار الوارث، والعتق مما يتوقف على المعتق إذا وجد بعد وجود سبب الملك.
أما عند محمد، فإنما لم يتوقف هذا العتق على المقر له؛ لأنه لا توقف على مالك ظاهر وهو الوارث، فإن المقر به ملك الوارث ظاهراً، ولهذا لو أجاز الوارث هذا العتق ينفذ عليه.

والأصل عند محمد: أن العتق متى توقف على إجازة مالك ظاهر لا يتوقف على غيره كما في المشتري من الغاصب إذا أعتق، فإنه لا يتوقف عليه، لأنه توقف على إجازة مالك ظاهر، فلا يتوقف على غيره وهو المشتري.
وبهذا الحرف يقع الفرق في مسألتنا ومسألة المشتري من الغاصب على مذهبه، وبينما إذا أوصى الرجل بعبده لإنسان، ثم مات الموصي، وعليه دين يحيط بماله، ثم إن الغرماء أبرؤوا الميت عن الدين، فإن العتق ينفذ على الموصى له، لأن هناك ما توقف

(9/259)


العتق على إجازة أحد سوى الموصى له، فإن الغرماء أو الورثة لو أجازوا ذلك العتق لا ينفذ، فجاز أن يتوقف على إجازة الموصى له.
وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف: فإنما لا يتوقف هذا العتق على المقر له؛ لأنه وجد قبل سبب الملك أو بعد وجود سبب قاصر، والعتق عندهما قبل وجود سبب الملك، أو بعد وجود سبب قاصر لا يتوقف.
بيان ذلك: العتق من المقر له، إنما حصل بعدما أبطل القاضي وصيته، وكذب الوارث في إقراره بالقضاء بالشهود به للمشهود له، وهو السبب المتيقن لملك المقر له؛ إلا أن الوارث مصر على إقراره، فأمر بتسليم المقر به إلى المقر له بالإقرار الموجود بعد الإعتاق، فكان الإعتاق حاصلاً قبل سبب الملك، وإن لم يبطل السبب بقضاء القاضي لا أقل من أن ينتقض السبب.

والأصل عندهما: أن العتق إنما يتوقف بعد وجود تمام سبب الملك، وبهذا الحرف خرج مسألة المشتري من الغاصب؛ لأن هناك العتق وجد بعد تمام سبب الملك على ما عرف في تلك المسألة، أما ههنا بخلافه، والله أعلم.

الفصل الخامس والعشرون: في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر ودعوى كل واحد منهماالإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما، وفي دعوى الرجل عيناً في يدي رجل وإقرار صاحب اليدبالعين له، ثم دعوى صاحب اليد الإيداع من جهة غيره
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد في يدي رجل ادعاه رجلان كل واحد منهما يدعيه أنه عبده أودعه (عند) الذي هو في يديه وذو اليد يجحد ولا يقر بل يسكت، فالقاضي يسمع بينتهما عليه؛ لأن الساكت أنزل منكراً حتى يصل المدعي إلى إثبات حقه، وهذا لأن المدعي استحق الجواب عليه إما بنعم أو لا، والسكوت محتمل الأمرين، فأثبتا الإنكار؛ لأنه احتيج في الاستحقاق به إلى قرينة أخرى وهي البينة.
فلو أن القاضي سمع شهادة شهودهما إلا أنه لم يقض بشهادة الشهود لعدم ظهور عدالتهم يقضي بالعبد بينهما نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بجميع العبد للذي لم يقر له ذو اليد؛ لأن ذا اليد لما أقر به لأحد المدعيين، فقد صار العبد مملوكاً له رقبة ويداً، ونزل المقر له مع غير المقر له منزلة ذي اليد مع الخارج إذا أقاما البينة على الملك المطلق، وهناك قضي بكل العبد للخارج واعتبره بما إذا أقر لأحدهما قبل إقامتهما البينة، ثم أقاما البينة وهناك يقضى بالعبد لغير المقر له بالطريق الذي قلنا.

والجواب وهو الفرق بينما قبل إقامة البينة، وبينما بعدها أن التزكية لا تجعل الشهادة حجة، بل تظهر كونها حجة موجبة للاستحقاق من وقت (222أ4) وجودها،

(9/260)


فإذا كانت الشهادة قبل وجود الإقرار حجة، فعند ظهور العدالة يظهر الاستحقاق قبل الإقرار ويتبين أنَّ الإقرار كان باطلاً في شخص وهو ليس بمالك، ومتى ظهر الإقرار بطل التصديق، لأنه ينبني عليه صار وجودهما، والعدم بمنزلة، ولو لم يوجد أيقضي بينهما، فكذا إذا صار وجودهما والعدم بمنزلة، فأما إذا كانت الشهادة بعد الإقرار، فعند ظهور العدالة لا يظهر الاستحقاق قبل الإقرار فلا يتبين أن الإقرار كان باطلاً، وإذا لم يبطل الإقرار صار المقر له صاحب يد وغير المقر له خارج، فيقضي ببينة الخارج، عبارة أخرى للفرق بينهما، أنهما إذا أقاما البينة بعد الإقرار فقد استحق كل واحد منهما القضاء بجميع العبد عند تركته ببينته على الإنفراد، ونصف العبد عبد تركته ببينته وبينة صاحبه، فهو بإقراره لأحدهما، يريد إبطال الاستحقاق الثابت لكل واحد منهما عليه، أما استحقاق المقر له؛ فلأنه يقول له من حيث المعنى: أنا مقر لك بالملك في العبد، والبينة إنما تسمع على الجاحد لا على المقر فبطل استحقاقه عليه بالبينة. وأما استحقاق الآخر فلأنه يقول له من حيث المعنى: العبد ملك المقر له، وفي يدي أمانة، ويد الأمانة ليست بيد خصومة، وليس له ولاية إبطال الاستحقاق الثابت لكل واحد منهما بإقراره، فصاروجود هذا الإقرار منه والعدم بمنزلة، والتقريب ما ذكرنا، فأما إذا أقر قبل إقامة البينة، فليس في هذا الإقرار إبطال الاستحقاق لهما عليه، لأن كل واحد منهما لم يستحق عليه شيئاً قبل إقامة البينة، لأن مجرد الدعوى لا يصلح سبباً للاستحقاق، فصح إقراره، وصار المقر له صاحب يد والتقريب ما ذكرنا، وكذلك لو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً على دعواه، ثم إن صاحب اليد أقر بالعبد لأحدهما، فالقاضي يدفع العبد الى المقر له لما

ذكرنا، ولا يبطل ما أقام كل واحد منهما من الشاهد الواحد، حتى لو أقام كل واحد منهما بعد ذلك شاهداً آخر يقضى بالعبد بينهما، لأن كل واحد منهما استحق القضاء بهذا العبد منذ تمام الحجة، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال استحقاق كل واحد منهما فلا يقدر عليه.
يوضحه: أن كل واحد منهما قصد إثبات ملك مؤكد بالحكم والإقرار لا يدركه ذلك، فصار وجود إقراره فيما هو مقصود والعدم بمنزلة، فإن أقام غير المقر له شاهداً آخر، قضى بالعبد؛ لأن شهادة الشاهد الأول لما لم تبطل تنضم شهادة الثاني الى شهادة الأول، فتمت الحجة في حق غير المقر له، ولم تتم الحجة في حق المقر له، فقضى بجميع العبد لغير المقر له، لهذا، فإن لم يقض القاضي لغير المقر له في هذه الصورة، حتى أقام المقر له شاهداً آخر قضى بالعبد بينهما، لأن الحجة قد تمت في حق المقر له أيضاً وهما خارجان من حيث المعنى، ولارجحان لأحد هما على صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الاستحقاق على صاحب اليد، ولم يدع أحدهما الاستحقاق من جهة صاحب اليد كما في ما تقدم، فلم يترجح أحدهما على الآخر، فيقضى بالعبد بينهما، فإن لم يقض القاضي بالعبد بينهما نصفان في هذه الصورة، حتى قال غير المقر له: أنا أعيد شاهدي الأول على المقر له، على أن العبد لي وأعاد، فالقاضي يقضي بكل العبد لغير المقر له؛ لأنه لما أقام شاهده الأول على المقر له فقد ترك الاستحقاق الثابت له بحكم

(9/261)


شهادة الشاهد الذي شهد على صاحب اليد وأبطل شهادة ذلك الشاهد، وعند ذلك ينفذ إقرار المقر؛ لأن عدم نفاذ إقراره قبل هذا كيلا يبطل ما أقام غير المقر له من الشهادة، فإذا رضي ببطلانه، فقد زال المانع فنفذ إقرار المقر، فصار المقر له صاحب يد ووقع الدعوى بين الخارج، وبين صاحب اليد، فيقضى بالعبد للخارج، فإن قال المقر له: أنا أعيد شاهدي الأول أن العبد عبدي، لم يلتفت إليه لأنه صار مقضياً عليه، ولأنه لا يتصور في حقه أن

يترك الاستحقاق الثابت له بما أقام من الشاهد على ذي اليد، ويستأنف الخصومة استئنافاً من غير المقر؛ لأنه صاحب يد فلا تسمع منه البينة على الملك المطلق، فإن قال غير المقر له: قد مات شاهدي الأول أو غاب، يقال له: هاتِ بشاهد آخر فأقمه على المقر له حتى يقضى لك بكل العبد، وهذا لأن شهادة الشاهد الأول لا تبطل بموته، ولا بغيبته، فكان موته وغيبته وبقاؤه حياً سواء، فإذا أقام شاهداً آخر، انضم الشاهد الثاني الى الشاهد الأول فيقضى له بالعبد كله، إلا أن يقيم المقر شاهداً آخر مع شهادة الأول، قبل القضاء لغير المقر له فحينئذٍ يقضى بالعبد بينهما؛ لأن هذه الخصومة بناء على الخصومة الأولى وهما خارجان في تلك الخصومة، من حيث أن المعنى.
قال: أو يقيم المقر له شاهدين مستقبلين، فيقضي بينهما كما لو أقام كل واحد منهما شاهداً آخر، وهذه المسألة من المسائل التي كتب محمد بن سماعة الى محمد بن الحسن رحمه الله يستفرقه بينهما وبين المسألة التي فيها طعن القضاة الثلاثة، فكتب إليه محمد رحمه الله أن الصحيح أن يقضى بالعبد بينهما، ثم بينما لو أقام غير المقر له شاهدين مستقبلين على المقر له، وبينما أقام المقر له شاهدين مستقبلين على غير المقر له فقال: إذا أقام غير المقر له شاهدين مستقبلين يقضى بكل العبد له، وقال: إذا أقام المقر له شاهدين مستقبلين يقضى بالعبد بينهما.

والفرق بينهما هو أن: لغير المقر له أن يستأنف الخصومة مع المقر له أن ما يدعيه غير المقر له في يد المقر له، فصار المقر له خصماً وهو ذو اليد، وغير المقر له خارج، فيقضى بالعبد للخارج، فأما المقر له فلا يمكنه أن يجعل الذي ليس بمقر له خصماً فيستأنف الخصومة معه، لأنه لا بد لغير المقر له فاعتبر إقامة الشاهدين بناء على الخصومة الأولى كأنه أقامها على ذي اليد فبقيا خارجين، فيقضى بالعبد بينهما، لهذا، فإن قيل: أنه لم يمكن أن يجعل إقامته شاهدين مستقبلين من المقر له على سبيل استئناف الخصومة مع المدعي لاستحقاق العبد عليه، يمكن أن يجعل هذا منه إبطالاً لما أقام غير المقر له من الشاهد الأول الذي أقامها على المقر، كما جعل فيما تقدم وهو ما ادعى ذو اليد أنه لفلان أودعه، فقبل أن يقضي القاضي ببينة مدعي الشراء.
حضر فلان وأقام البينة أنه له أودعه من ذي اليد كما أقر، حيث تبطل به بينة مدعي الشراء، فههنا يجب أن يكون كذلك، والجواب ثمة أمكن قبول بينته على إبطال بينة المدعي للشراء، لأن المقر له ببينته يثبت أن مدعي الشراء أقام البينة على مودعه وهو غائب، وبينة المدعي على المودع حال غيبة المودع باطلة، فأمكن قبول بينته لإبطال بينة

(9/262)


المدعي، أما في مسألتنا: لا يمكن قبول بينة المقر على إبطال ما أقام غير المقر له من الشاهد، لأن أكثر مافي الباب أنه يثبت أن غير المقر له أقام البينة على المودع، لكن المقر له حاضر، وبينة المدعي على المودع حال حضرت المودع مقبولة، فلهذا افترقا.

قال محمد رحمه الله: عبد في يدي رجل ادعاه رجلان، كل واحد منهما أقام بينة أنه عبده أودعه الذي في يديه وصاحب البينة جاحد، أو ساكت، وقضى القاضي بالعبد بين المدعيين لاستوائهما في الحجة، ثم إن أحد المدعيين أقام بينة أن العبد عبده، لم ينتفع بتلك البينة، ولا يقضى على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد من المدعيين صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه؛ لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه، يقضى له بكل العبد، وإنما حرم كل واحد عن النصف ببينة صاحبه، وصار هو مقضياً عليه في شيء، لا يصير مقضياً له في عين ذلك الشيء.
فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي صار لصاحبه، ولم يكن له (222ب4) في ذلك النصف ملك قبل القضاء.

قلنا: إن لم يكن له فيه ملك كان له حق الملك، لأنه أقام البينة أن الكل له وأنها توجب حقيقة الملك عند إيصال القضاء بها، فوجب حق الملك وحق الملك معتبر بحقيقة الملك، ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه كذا ههنا، ولو عدلت بينة أحدهما ولم يعدل بينة الآخر، أو لم يقم الآخر شاهداً واحداً، فقضى به لمن عدلت بينته، ثم جاء الآخر ببينة عادلة، قضي له به؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه به من جهة صاحبه، لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك، ولا حق الملك لانعدام الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت له، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له، كيف يتصور إزالته فعلم أنه لم يصر مقضياً عليه فسمع دعواه، وبينته بعد ذلك، ولو أقام أحدهما البينة، فلم يزل ببينته حتى أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه، ودفع القاضي العبد إلى المقر له، ثم زكيت بينة الذي أقامها، وأخذ صاحب البينة العبد من المقر له، ثم إن المقر له أتى ببينة أنه عبده أودعه إياه ذو اليد، قبلت بينته، وقضي له بالعبد، لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر له قامت على ذي اليد، وجعل المقر له كالوكيل عنه على ما مر قبل هذا.

فإن قيل: الملك ثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وجعل المقر له كالوكيل عنه وتصديق المقر له إياه ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي فيجعل المقر له مقضياً عليه.
قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي بينته على ذي اليد وعند ظهور عدالة الشهود ثبت الاستحقاق في وقت الشهادة، فظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً؛ لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقراره بطل تصديق المقر له لكونه بناء عليه وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجودهما والعدم بمنزلة ولو عدما، وباقي المسألة بحاله كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده دون المقر له كذا ههنا.

وكذلك لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحبه ببينته يقضى للمقر

(9/263)


له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن بينة صاحبه قامت على مودع المقر له، وهو ليس بخصم، والبينة متى قامت على غير خصم كان باطلاً.
فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على المودع، المقر له إنما يبطل إذا كان المقر له غائباً وقت إقامة البينة على مودعه، أما إذا كان حاضراً كانت مقبولة كما فيما تقدم، ويكون إقامة البينة على مودع المقر له، وههنا المقر له كان حاضراً وقت إقامة المدعي البينة.
قلنا: المقر له وإن كان حاضراً وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يديه حقيقة ههنا، لكنه غائب حكماً؛ لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يديه حقيقة ههنا لكنه غائب حكماً لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة، لأنه لم يكن للمقر له في العبد لا ملك ولاحق، ولم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يقضى له، فصار غائباً حكماً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إن لم يكن للمقر له حقيقة الملك، ولا حق الملك بإقامة الشاهد الواحد، ولكن له زيادة خصوصية في هذا العبد من بين سائر الأجانب، لأنه صار بحال يستحق هذا العبد بإقامة شاهد واحد، فكانت خصوصية معتبرة، واعتباره بخلاف ما نحن فيه على مامر، فإن قال غير المقر له: أنا أعيد شهودي على المقر له، هل تقبل بينته، فهذا على وجهين: إن كان ذلك بعد ما قضي ببينة المقر له، لا تسمع بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه ببينة المقر له، وإن كان ذلك قبل القضاء ببينة المقر له، قبلت بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه، ثم يقضى له بجميع العبد، لأنه أعاد البينة فقد أبرأ ذا اليد عن الخصومة ورضي بنفاذ إقراره، واستأنف الخصومة مع المقر له على ما مر، فتقررت يد المقر له، واجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد، فكانت بينة الخارج أولى.

قال محمد رحمه الله في «لجامع» : دار في يدي رجل ادعاها رجل أخر، قال الذي في يديه الدار: أنها كانت للمدعي وفلان أودعنيها، وأقام البينة على ذلك، فلا خصومة بينهما فإقرار صاحب اليد أنها كانت للمدعي، لا يناقض دعواه الإيداع من فلان الآخر، لأن الجمع بينهما ممكن، فلعل أنها كانت للمدعي ثم صارت لفلان الآخر بوجه من الوجوه، ثم إن فلاناً أودعها صاحب اليد، وإذا لم يكن بين الكلامين تناقض يجب قبول بينته على ما ادعى من الإيداع، وإن لم يقم البينة على ما ادعي، لا تندفع عنه الخصومة لأنه أقر بالملك للمدعي، وتوجهت عليه الخصومة باعتبار يده، ولم يثبت ما يخرجه من الخصومة، وهو كونه مودعاً من جهة غيره فلا تندفع الخصومة عنه ويؤمر بتسليمها إلى المدعي بحكم إقراره، فإن حضر فلان وصدق صاحب اليد فيما قال، لا ينزع الدار من يد المدعي حتى يقيم الحاضر بينة أنها له، لأن صاحب اليد أقر بالدار للمدعي أولاً، وصح إقراره من حيث الظاهر، وصارت مستحقة للمدعي وإنما أقر للغائب بعد ذلك، فكان الإقرار للغائب لاغياً ملك المدعي، فلا يصح ويقال للغائب: إن شئت أن تأخذ الدار من المدعي أقم البينة عليه.

(9/264)


وكذلك لو أن صاحب اليد بدأ بالإقرار بالوديعة بأن قال: هذه الدار أودعنيها فلان وهي لهذا المدعي، إن أقام البينة على الإيداع تندفع عنه الخصومة، وإن لم يقم لا تندفع عنه الخصومة ويؤمر بتسليمها الى المدعي، وإن أقر أولاً للغائب ثم للمدعي فالأصل عندنا أن من أقر بعين لغائب ثم لحاضر، وصدقه الحاضر في إقراره، يؤمر المقر بتسليم العين الى الحاضر، لأن تصديق الحاضر اتصل بإقراره، ولم يتصل تصديق الغائب بإقراره وعسى لا يصدقه، فلا يتعطل هذا الإقرار والتصديق لأمر موهوم، فإن حضر المقر له بالوديعة البينة أنها داره، لأن تصديقه استند الى وقت إقراره، وكان إقراره بالوديعة أولاً، فظهر أن استحقاقه كان سابقاً، وأن الإقرار للمدعي لا في حق صاحب الوديعة فوقع باطلاً فيؤمر المدعي بتسليم الدار إليه، ويقال له: إن شئت أخذ الدار فأقم البينة، ولوأن المدعي صدق صاحب الوديعة وأنها وديعة فلان فلا خصومة بينهما اعتباراً للثابت بالتصادق بالبينة معاينة.
ولو علم القاضي أن الدار لرجل فصارت للمدعي يدي آخر، فخاصمه الذي كانت الدار له الى القاضي، فقال الذي الدار في يديه: إن فلاناً أودعنيها، وأقام على ذلك بينة فلا خصومة بينهما، ولا تخرج الدار من يد الذي كانت الدار في يده، حتى يحضر فلان؛ لأن الثابت بالبينة العادلة إذا قبلت كالثابت عياناً، ولو عاين القاضي هذا دفع الخصومة تكون الدار للمدعي في زمان لا يجعل الذي في يديه الدار متناقضاً في دعوى الإيداع من الغائب، بجواز أنها كانت للمدعي، ثم باعها أو آجرها أو رهنها من فلان من الذي في يديه، ولو علم القاضي أن فلاناً غصبها من الذي كانت له وأودعها الذي في يديه، أخذها من الذي في يديه، ودفعها الى الذي علم أنها كانت له، لأنه علم أن يد ذي اليد مبطلة، بخلاف ما لو علم أن فلاناً أودعها هذا الذي في يديه، ولم يعلم أنه غصبها من المدعي، لأن هناك لم يعلم بكون ذي اليد مبطلة بل شك في ذلك يجوز أن يكون المدعي باع من فلان، ثم إن فلاناً أودعها من ذي اليد، فتكون يده مبطلة فيجب نقضها، فلا يجب نقضها بالشك، ثم إن محمداً رحمه الله اعتبر علم القاضي في هذه المسألة حتى قال: إذا علم القاضي أن فلاناً غصبها من المدعي، يأخذها من صاحب اليد ويدفعها (223أ4) الى المدعي، وهذا جواب رواية «الأصول» . وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أن القاضي بعلمه يقضي، قال ابن سماعة: رجع إلى هذا القول في آخر عمره القاضي لا يقضي بعلمه، وإن استفاد العلم في حالة القضاء حتى يشهد معه شاهد واحد، قال: لعل القاضي غالط فيما يقول، فشرط مع علمه شهادة شاهد آخر حتى يصير علمه مع شهادة شاهد آخر في معنى شاهدين، والله أعلم بالصواب.