المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الوضوء
في فضل الوضوء
...
كتاب الوضوء
وفيه عشرون حديثا
في فضل الوضوء
فيما روى عن عثمان رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: "من توضأ مثل وضوئي هذا ثم أتى المسجد فركع ركعتين غفر الله له ما تقدم من ذنبه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا" يعني فتذنبوا على رجاء أن تفعلوا كذلك ليغفر لكم فإنه يجوزان لا توفقوا أو تخترموا.

(1/11)


في غسل اليد ابتداء
روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل
يده قبل أن يدخلها في الإناء فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده أو فيم باتت يده" وفي رواية: "فليغسل يده مرتين أو ثلاث" وفي بعضها: "فليغسل يده ثلاثا" والمعنى أنهم كانوا يكتفون بالأحجار فكان يحتمل وقوع يدهم في النجاسة لا سيما أن عرقوا أو غرقوا في نومهم فأمروا بغسل اليد احتياطا ليتيقنوا بطهارتها وإن كانت الطهارة الثابتة باقية حتى يتحقق انتقالها إلى ضدها بدليل ما روى في الذي يخيل إليه وهو في الصلاة أنه يجد شيئا من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرف حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا" فلهذا قلنا غسلها مندوب لا واجب ومعارضة قين الأشجعي لأبي هريرة لقوله إذا أتينا مهراسكم هذا بالليل كيف نصنع فقال: "أعوذ بالله من شرك يا قين" هكذا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم لذهوله عن معنى الندب إلى الوجوب فإنه إذا لم يقدر كان معذورا في ادخال يده في المهراس وكان على يقينه الأول من طهارة يده حتى يعلم يقينا نجاسة يده فلا يدخل الإناء مطلقا وبهذا ينتفي التضاد عن هذه الآثار ونعوذ بالله من حملها على ما يوجب تنافيها وتضادها.

(1/12)


في اسباغ الوضوء
روى عن لقيط بن صبرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "واسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع" يستدل به على وجوب تحريك الخاتم في الوضوء لسعة ما بين الأصابع وضيق ما بين الخاتم والاصبع ولقول عمر رضي الله عنه لمتختم كيف يتم وضوءك وهذا عليك فنزعه فألقاه وذهب بعض إلى عدم وجوبه منهم مالك رحمه الله وفيما روى عن لقيط قال صلى الله عليه وسلم له: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" والأمر بالمبالغة في حال الإفطار دون الصيام يدل على عدم وجوبه إذ الصوم لا يدفع الوجوب ونهيه عنها في الصوم يدل على فساده بدخول الماء حلقه ولو كان خطأ ثم في قول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية وفي حديث لقيط الأمر بالتخلل والمبالغة في الاستنشاق قالت طائفة من أهل العلم إن ذلك إصابة الفضل في مباشرة الأفعال المأمور بها من الوضوء والتيمم فإن ولى ذلك غيره من نفسه أو انغمس في ماء حتى مر على جميع

(1/12)


أعضائه المأمور بغسلها أجزأه منهم أبو حنيفة وأصحابه وقالت طائفة منهم أن ذلك لا يجزيه حتى يمر المتولي ذلك بنفسه من نفسه منهم مالك والقول الأول أولى بتأويل الآية لأنهم لا يختلفون أن مقطوع اليد من مرفقيه عليه أن يولي غيره من نفسه ليكون بذلك كفاعله بيديه فدل ذلك على أن الفرض إنما هو في فعل ذلك في نفسه إما بنفسه أو بفعل غيره ولو كان الفرض في ذلك فعله إياه بيديه لكان قد سقط الفرض الذي كان عليه أن يفعله بهما ولم يكن عليه سواه من فعل غيره ذلك به إذ ليس في الآية ذلك ولا في السنة التي ذكرنا آنفا.
قال القاضي: والمعلوم من مذهب مالك خلاف ما نقل عنه اولا غير أنه لا يجوز عنده أن يفعل به من غير علمه لعدم النية منه حينئذ وأما الانغماس في الماء دون إمرار اليد لا يجوز عند مالك في المشهور عنه ولو قيل أن من ولى ذلك من نفسه غيره من غير ضرورة لا يجزيه لأنه نوع استنكاف عن عبادة الله وتهاون بها لكان قولا حسنا.

(1/13)


في الوضوء من النوم
روى عن ابن عباس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر ثم نام وهو ساجدا وجالس حتى غط أو نفخ ثم قام إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت؟ فقال: "إنما يجب الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا فعل ذلك استرخت مفاصله" وروى عنه أنه بات عند ميمونة خالته فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شنة معلقة قال: فوصف وضوءه وجعل يقلله بيده ثم قام ابن عباس فصنع مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جئت فقمت عن شماله فأخلفني فجعلني عن يمينه فصلى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم أتى بلال فأذنه بالصبح فصلى ولم يتوضأ.
لا تضاد بين القول والفعل لأن المقصود في الحديث الأول اعلام ابن عباس بما يحتاج إلى علمه من حكم النوم في نفسه وسائر الناس فجعل له ما به الحاجة إلى معرفته وأخر حكم نوم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث

(1/13)


الثاني وبينه بفعله بحضرته ليعلم أن حكمه في ذلك مبائن لحكم أمته فاجتمع له بقوله وفعله جواب ما سأله عنه من حكم النوم في نفسه وغيره وإنما افترق حكمه وحكم أمته فيه لقوله أن عيني تنامان ولا ينام قلبي والوضوء لا يجب إلا من نوم فيه استرخاء المفاصل وإذا لم ينم قلبه لم تسترخ مفاصله ولعل القول والفعل كانا في ليلة واحدة وروى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" فجعل يقظة العين مثل الوكاء للقربة فإذا نامت العين استرخى ذلك الوكاء فكان منه الحدث وروى أنما العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء كنى بهذا اللفظ عن الحدث وخروج الريح وهذا من أحسن الكنايات وألطفها فعرفت أن الطهارة لا ينقضها منه إلا ما كان معه استرخاء المفاصل دل قوله عليه السلام: "إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" وكذا قوله صلى الله عليه وسلم عند رؤيته حبلا ممدودا بين ساريتين في المسجد ما هذا الحبل فقالوا فلانة تصلي فإذا خشيت أن تغلب أخذت به فقال: "فلتصل ما عقلت فإذا غلبت فلتنم" ففيهما صحة الصلاة مع مخالطة النوم لغير المسترخي وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام القوم ثم استيقظوا فجاء عمر فقال: يا رسول الله الصلاة الصلاة, قال: "فصلوا" ولم يذكر أنهم توضؤا وكان ابن عمر ينام قاعدا ولا يتوضأ وإذا نام مضطجعا توضأ وعلى هذا كان الصحابة في زمانه وبعده وعلى هذا يحتمل قول أبي هريرة من استحق نوما فقد وجب عليه الوضوء دفعا للتعارض والتنافي.

(1/14)


غسل الذكر من المذي
روى أن عليا أمر عمارا ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال: "يغسل مذاكيره ويتوضأ", فالأمر بغسل الذكر ليتقلص المذي وينقطع كالأمر بنضح ضرع الهدى بالماء لئلا يسيل اللبن وليس بواجب دل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترا من قوله فيه الوضوء فأخبر بالواجب وفيه ما ينفي أن يكون فيه واجب سواء.

(1/14)


في المسح على الخفين
وروى عن ابن عباس قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم الخفين فسئل أقبل المائدة أو بعدها؟ فقال: والله ما مسح بعد المائدة ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلي من أن أمسح عليهما ولا تعلق لمانعه" فيه لأنه صح قبل نزول المائدة وليس فيه نهي عن ذلك بعد النزول ونفي ابن عباس محمول على عدم رؤيته بنفسه واختياره بترك المسح في خاصته لأنه من قوم قد اختصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الناس بثلاث اسباغ الوضوء ومنع أكل الصدقة ومنع انزاء الحمار على الفرس فيكون المسح عنده لغيره من الناس باقيا على حكمه كما كان له أيضا غير أن لزوم ما اختصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به من غيره يدل على هذا ما روى عنه أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة" والذي يصحح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه بعد نزول المائدة أن جرير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه فقالوا: بعد نزول المائدة فقال: إنما أسلمت بعد نزولها وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح إلا بعد ما نزلت.
وما روى من إسلامه قبل وفاته بأربعين يوما لا يكاد يصح لأن بعثه صلى الله عليه وسلم إياه لتخريب ذي الخلصة وكان بيتا في خثعم يسمى الكعبة اليمانية معه مائة وخمسون فارسا من أحمس ودعاءه له بقوله: "اللهم اجعله هاديا مهديا" وضربه بيده على صدره ليثبت على الخيل ثم انطلاقه إليها وتحريقها وتركها كأنها جمل أجرب مشهور يدل على قدم إسلامه وكذا قوله صلى الله عليه وسلم له في حجة الوداع استنصت الناس ثم قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا

(1/15)


يضرب بعضكم رقاب بعض" كان في ذي الحجة وهو مسلم ثم عاش إلى اثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول يدل عليه.

(1/16)


في التيمم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أرسلت إلى الناس عامة وكان من قبلي إنما أرسل إلى قومه ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر ملئ منا رعبا وأحلت لي الغنائم وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أين ما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم والخامسة هي مس ألتي قيل لي سل فإن من قبلك قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله".
واستدل بهذا على أن ما كان من الأرض مسجدا منها طهورا وممن ذهب إليه أبو حنيفة وخولف فيه وحمل على الانقسام على أن المراد بعضها مسجدا وبعضها طهورا وممن خالفه أبو يوسف واحتج بحديث حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت لنا تربتها طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأعطيت الآيات من آخر سورة البقرة من تحت العرش لم يعط منه أحد قبلي ولا يعطى منه أحد بعدي.
وروى أن عمرو بن العاص حين أمر على جيش فيهم عمر بن الخطاب احتلم في ليلة باردة فتوضأ لما أشفق على نفسه الهلاك وأم أصحابه فلما قدموا شكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمنا جنبا فأعرض عنه وقال لعمرو: "أصليت جنبا؟ ", فقال: نعم أصابني احتلام في ليلة باردة لم يمر علي وجهي مثلها قط فخيرت نفسي أن أغتسل فأموت أو أقبل رخصة الله فقبلت رخصة الله وعلمت أن الله

(1/16)


أرحم بي فتوضأت ثم صليت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنت ما أحب أنك تركت شيئا صنعت لو كنت في القوم لصنعت كما صنعت". ذهب بعض إلى جواز استعمال الوضوء مكان التيمم للجنب بل هو أولى له منهم أحمد بن صالح وهو فاسد لأن الله تعالى جعل التيمم بدلا من الغسل كما جعله بدلا من الوضوء فلا يجزئ في ذلك الوضوء ويحتمل أن قضية عمرو كانت قبل نزول آية التيمم حين كان الفرض على عادم الماء الصلاة بلا طهارة دل عليه عدم انكاره صلى الله عليه وسلم على أسيد بن حضير ومن معه لما صلوا بغير وضوء في مسيرهم طالبين لقلادة عائشة في منزل نزلوه فحضرت الصلاة وليس لهم ماء وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية التيمم.

(1/17)


في العرق
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيل عند أم سليم وكان كثير العرق فاعتدت له نطعا يقيل عليه فتجعله في قارورة فقال: "ما هذا يا أم سليم؟ " فقالت: عرقك يا رسول الله اجعله في طيبي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منها ولم ينكر عليها علم بذلك طهارة العرق لطهارة اللحم وكذا كل مأكول لحمه طاهر عرقه وما لا يؤكل لحمه لتحريم أو لكراهة لعرقه حكم لحمه.

(1/18)


الاناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الاولى بتراب" وروى في الهرة غسل مرة أو مرتين شك فيه قرة فهذا اخبار بنجاسة سور الكلب والهر ولا يضره توقيف ابن سيرين هذا الحديث على أبي هريرة لعلمه أن كل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم اشتباه أمره على الناس ولا يعارض هذا بما روى عن عائشة "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من الاناء الواحد وقد أصابت الهر منه قبل ذلك" لأن رواية حارثة بن أبي الرجال وهو متكلم فيه ولا بما روى عن أم داود بن صالح بن دينار أن مولاة لعائشة ارسلتها بهريسة وهي تصلي فأصابت هرة منها فلما انصرفت عائشة قالت للنساء كلن فاتقين موضع فم الهرة فدورتها عائشة ثم أكلت من حيث أكلت الهرة ثم قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم" وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها لأن أم داود هذه ليست ممن يؤخذ عنها ولأن قوله ليست بنجس يحتمل أنه أراد في كونها في البيوت وفي مماستها الثياب لا في طهارة سورها وكان ابن عمر يجعل سور الهر كسور الكلب وعن أبي هريرة يغسل الاناء من الهر كما يغسل من الكلب أراد تمثيله في وجوب الغسل لا في العدد إذا التشبيه لا يعمم كقوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ولأن لحمه حرام فالقياس حرمة سوره.

(1/18)


سور الدواب والسباع
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: "إذا بلغ الماء قلتين فليس يحمل الخبث" وفي رواية "وما ينوبه من السباع والدواب فيه ما يدل على أن ما دون القلتين يحمله ولا يعارضه ما روى عنه صلى الله عليه وسلم لها ما في بطونها وما بقي فهو لنا طهور جوابا لمن قال: يا رسول الله تردها يعني الحياض التي بين مكة والمدينة السباع والكلاب والحمير لأن مداره على عبد الرحمن بن زيد وحديثه عند أهل الحديث في نهاية الضعف يؤيد ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طهور

(1/17)


في الارواث
قد استدل من رآى أرواث ما يؤكل لحمه طاهرا بالحديث المشهور الذي رواه ابن مسعود كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت فقال ملأ قريش: أيكم يأخذ هذا الفرث بدمه فيضعه على ظهره إذا سجد؟ فانبعث أشقاها فأخذ فرث جزور نحر ووضعه على ظهره وهو ساجد فجاءت فاطمة تسعى فأخذته من ظهره فلما فرغ من صلاته دعا عليهم ثلاث مرات وسمى رجالا

(1/18)


قلبوا أكلهم في قليب بدر قتلى وعن ابن مسعود أنه صلى وعلى بطنه فرث ودم فلم يعد الصلاة منهم مالك والثوري وزفر والحسين بن صالح وخالفهم أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم بما روى زكرياء وشعبة عنه أن الذي ألقى على ظهره صلى الله عليه وسلم في صلاته سلا جزور وهو وعاء الولد مما لا فرث فيه ولا دم كسائر لحمها ورواية الاثنين أولى من رواية على بن صالح ولانه إذا تعارضا وجب الرجوع إلى النظر عند عدم دليل قوته والأصل المتفق عليه أن دماء الأنعام كدماء بني آدم غير راجعة إلى حكم لحومها فوجب أن يكون أرواثها كذلك لا يرجع فيها إلى حكم لحومها بل يكون كغائط بني آدم ويحتمل عدم إعادة ابن مسعود صلاته لقلة مقدار النجس ولا يقال فقد كان سلاها جزء ميتة لأن ذبائحهم غير مذكاة لأنهم وثنيون فيجوز صلاة حاملي نجاسة من ميتة وغيرها لأنه كان في أول الإسلام قبل تحريم ذبائحهم.

(1/19)


في الاستحاضة
روى عن حمنة ابنة جحش أنها استحيضت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني استحضت حيضة منكرة شديدة فقال لها: "احشي كرسفا" فقالت: إنه أشد من ذلك إني أثج ثجا قال: "تلجمي وتحيضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي غسلا وصومي وصلي ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين أو أخري الظهر وقدمي العصر واغتسلي لهما غسلا وأخري المغرب وقدمي العشاء واغتسلي لهما غسلا وهذا أحب الأمرين إلي" المعنى في هذا أنه أمرها أن تتحيض في علم الله ما أكثر ظنها أنها فيه حائض بالتحري منها لذلك لا أنه رد الخيار إليها من غير تحر منها كما أمر من دخل عليه شك في صلاته أن يتحرى أغلب ذلك في قلبه فيعمل عليه وهذا إنما يكون عند نسيانها أيامها التي كانت تحيض فيها فأمرت بالتحري كمن شك في صلاته ولم يعلم كم صلي

(1/19)


ستة أيام أو سبعة أيام شك من الراوي وإنما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأحد العددين الذي أخبرت أنه كان عدد أيامها وذهب عنها موضعها من الشهر لا أنه خيرها في أحدهما.
وقوله: "فأخري الظهر وقدمي العصر" فهو على الرخصة لها من الجمع بين الصلاتين لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلا احتمل أن تكون فيه حائضا أو طاهرا يجب عليها الغسل أو مستحاضة يجب عليها الوضوء فكان عليها أن تغتسل لوقت كل صلاة حتى يخرج عن العهدة بيقين فلما عجزت عن ذلك جعل لها أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد بتأخير الأولى منهما إلى وقت الأخرى وتغتسل للصبح غسلا وهذا أحسن ما تقدر عليه في صلاتها وإنما أمرت أن تصليها في وقت الآخرة منهما دون الأولى منها لمعنيين.
الأول لو صلتهما في وقت الاولى منهما لصلت الآخرة قبل وقتها والثاني أنها إذا صلت بالغسل عند دخول الآخرة فقد صلتهما بطهارة محققة إلى آخر الوقت ثم مجموع ما قيل في المسألة أربعة أقوال الغسل لكل صلاة وثلاث مرات في اليوم ومرة في كل يوم ومرة واحدة في كل شهر والأول أشق ثم وثم والأجر على قدر المشقة وروى عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي" فيه اعتبار دم الحيض بلونه وهو حديث لم يروه عن عروة عن عائشة إلا محمد بن المثنى وقد أنكر ذلك عليه لرواية من خالفه في ذلك وأن أوقفه على عروة بن الزبير وكل من روى هذه القصة أتى بها خالية عن لون الدم ويؤيده النظر الصحيح على سائر الأحداث فإن ألوانها غير معتبرة كالغائط والبول وإنما الأحكام لها في أنفسها لا لألوانها.
وأهل العلم في دم العرق على مذهبين ليس بحدث عند أهل الالمدينة وحدث عند غيرهم وليس أحد منهم اعتبر لونه فكان مثل ذلك النظر

(1/20)


في دم الحيض بكون حكمه حكم نفسه لا حكم لونه وروى عن سليمان بن يسار عن أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم لتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتستثفر1 بثوب ثم لتصل"
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لتنظر إلى عدد الليالي والأيام" ما يدل على أن الحيض ليال وأيام وهو ثلاثة أيام لا أقل منها وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه فإن عورض بفساد الإسناد بتوسط مجهول بين سليمان وأم سلمة فقد وجدنا من حديث ابن عمر وأبي هريرة مسند أما ما يدل على أقل الحيض وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة منهن ما لنا يا رسول الله قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين اغلب لذي لب منكن" قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا من نقصان العقل وتمكث ليالي ما تصلي وتفطر رمضان فهذا نقصان الدين" واللفظ لابن عمر وفي حديث أبي هريرة: "تمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي" قال الطحاوي: ولا نعلم شيئا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدار قليل الحيض غير ما ذكرناه فوجب القول به وترك خلافه.
__________
ن – ولتستذفر.1

(1/21)


في اتيان الحائض
روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: "ليتصدق بدينار أو بنصف دينار" هذا حديث مضطرب اوقفه بعضهم على ابن عباس ورفعه بعضهم وقال بعضهم: "فإن لم يجد فبنصف دينار" وقال بعضهم: "إن كان في الدم العبيط فدينار وإن كان في الصفرة فبنصف دينار"

(1/21)


وروى عن عمر وكانت له امرأة تكره الجماع فكان إذا أرادها اعتلت بالحيض فوقع عليها ظانا كذبها فإذا هي حائض فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمره أن يتصدق بخمسين دينارا ثم الصدقة التي أمر بها قيل أنها قربة إلى الله تعالى كالصدقة عند كسوف الشمس ويحتمل أنها كفارة والقربة أولى لأن الكفارات المأمور بها قد خلط فيها الصوم بغيره كجزاء الصيد وفدية الأذى أو جعل بدلا منها ككفارة اليمين والظهار والقتل والفطر في رمضان عامدا وهذه ليست كذلك.

(1/22)


في ترك الجمعة
روى عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك الجمعة في غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار" فيه أن من تركها بعذر لا شيء عليه وأنها صدقة لا كفارة لأنها تجب بفعل ما يوجبها بعذر وبغير عذر لأن الفرق بينهما في الإثم لا في الكفارات قلت فعلى هذا يلزم أن تكون الصدقة في باب الحيض كفارة لأن عمر أمر بها مع كونه معذورا فافهم.

(1/22)


في وجوب غسل المرأة إذا احتلمت
روى أن حبرا من أحبار اليهود قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك عن الولد قال: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلى منى الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنث بإذن الله" فقال اليهودي صدقت وأنت نبي ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألني عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله عز وجل به" وروى أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها غسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا رأت بللا" فقالت: وتفعل ذلك المرأة فقال: "ترب 1 جبينك وأنى يكون شبه الخؤولة إلا من ذلك أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت إلى الشبه" لا تعارض بين
__________
1 ن – تربت.

(1/22)


الحديثين لأن في الأول الأذكار والايناث بعلو أحد المائين الآخر وفي الثاني الشبه بسبق أحد المائين الآخر إلى الرحم فلكل حديث معنى وكذا لا يعارض الأول حديث حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم أربعين ليلة فيقول يا رب ماذا أشقي أم سعيد فيقول الله فيكتبان فيقول ذكر أم أنثى فيكتبان رزقه وعمله ومصيبته ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص" وروى عنه أيضا أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله عز وجل إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وعظمها" ثم قال: "يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك عز وجل ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقض ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج بالصحيفة في يده فلا يزيد على أمر ولا ينقص" لأن الحديث الأول إنما هو على المني قبل أن يكون نطفة مما قدر الله فيه أن يكون ذكر أو أنثى مع علو أحد المائين ثم في حديث حذيفة شق السمع والبصر بعد تلك المدة وسؤال الملك مستعلما عما تقدم من الله فيه أذكر أم أنثى ليكتب في الصحيفة وقد تقدم علم الله قبل ذلك فلا تعارض ثم الحديث الثاني لحذيفة إذا مر بالنطفة اثنان وأربعون ليلة وقع كالتفسير لما أبهم في قوله في الأول بعد ما يستقر في الرحم أربعين فافهم.

(1/23)