المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الصلاة
في تفضيل المساجد
...
كتاب الصلاة
وفيه ثمانية وتسعون حديثا
في تفضيل المساجد
روى عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض قبل؟ قال: "المسجد الحرام" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم المسجد الأقصى" قال: قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد" لا يشك أن باني المسجد

(1/23)


الحرام إبراهيم كما لا يشك بأن باني المسجد الأقصى داود وابنه سليمان من بعده وكان بين إبراهيم وبينهما من المدد ما يتجاوز عن الأربعين بأمثالها ولكن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما كان بين وضعهما لا عن مدة ما بين بنائهما فيحتما أن يكون واضع المسجد الأقصى بعض الأنبياء قبل داود وسليمان ثم بناه داود وابنه في الوقت الذي بنياه فيه وكذلك يجب أن يحمل تأويل مثله عليه قال علي رضي الله عنه إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فظنوا برسول الله اهناه وانقاه واهداه وبالله التوفيق.

(1/24)


في فضل المكتوبة في المساجد
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لصلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" وروى عن عمر: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه مائة صلاة" وهذا مما لا يعرف رايا وعن ابن الزبير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في هذا.
وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فيما سواه" كأنه يعني مسجده صلى الله عليه وسلم فعقلنا بهذا أن أفضل المساجد الثلاثة المسجد الحرام لأن الصلاة فيه كمائة ألف صلاة وفي مسجد المدينة كألف ثم طلبنا لنقف على فضل الصلاة في المسجد الأقصى فلم نجد ما يدل على فضل له على غيره من المساجد سوى الثلاثة المذكورة في هذه الآثار غير ما روى عن أبي ذر سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في مسجدك أفضل أم الصلاة في بيت المقدس؟ فقال: "في مسجدي مثل أربع

(1/24)


صلوات في مسجد بيت المقدس ولنعم المصلى هو أرض المحشر" أو "أرض المنشر" فيه ما يدل على أن الصلاة فيه كمائتي صلاة وخمسين صلاة في غيره وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة" ففيه أن الصلاة في مسجد المدينة كصلاتين في مسجد القدس وروت ميمونة مولاته صلى الله عليه وسلم أنها قالت افتنا في بيت المقدس فقال: "أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره" ففيه أن فضله كفضل مسجد المدينة فوقفنا بذلك على أن الله تعالى من على عباده زيادة منه بتفضيل الصلاة في مسجد القدس درجة فدرجة إلى أن ساواه في الفضيلة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي أعمال المطي إليه وإعطاء الثواب عليه.

(1/25)


في فضل النافلة في البيت
روى زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة" ففيه أن صلاة النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المساجد الثلاثة فيكون التفضيل السابق للصلاة في المساجد الثلاثة في الفرائض لا غير ويعلم به فقه من قال: لو نذر أن يصلي لله صلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة أو مسجد الأقصى فصلاها في بيته أنها تجزئه لأنه صلاها في موضع صلاته إياها فيه أفضل من صلاته إياها في الموضع الذي عينه وأوجبه على نفسه وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد وقول أبي يوسف فيه مضطرب.

(1/25)


في مسجد قباء
روى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء ماشيا وراكبا ة وروى عنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي شيئا من المساجد إلا مسجد قباء وكان ابن عمر يفعله ففيه أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه لم يقل أنه أتى وفيه تحضيض أصحابه على إتيانه وروى ذلك عنهم كما ذكر في حديث نافع عن ابن عمر قال كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين

(1/25)


الأولين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد ابن عامر وكان سالم أكثرهم قرآنا وفيه ما يخالف رواية المعرور بن سويد أنه كان مع عمر رضي الله عنه بطريق مكة فرأى ناسا يذهبون مذهبا فسأل عنهم قالوا: يأتون مسجدا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بأشباه هذا يتبعون آثار نبيهم فاتخذوها كنائس وبيعا من أدركته الصلاة في شيء من المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها" إلا أن يقال: محمل كلام عمر على موضع صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الصلاة أدركته فيه لا لفضيلة فيه والناس قصدوه لتعظيمه وتفضيله على غيره من المواضع فيؤول إلى اتباع من كان قبلهم من الأمم فيما فعلوه فلذلك نهاهم بخلاف مسجد قباء فإن له فضيلة كما سيجيء وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مسجد قباء فصلى فسمعت به الأنصار فجاءوا فسلموا عليه فأشار عليهم بيده ردا لسلامهم وعنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء ليصلي فيه فسمعت الأنصار الحديث ولا يقال: أن صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة فكيف كان يترك الأفضل ويتجثم المسافة إلى ما هو دونه لأنه يحتمل أن ذلك لما وجب عليه صلى الله عليه وسلم أن لا يجلس فيه حتى يصلي فيه قبل الجلوس كما أمر الناس بتحية المسجد لا لما سواه وأما التطوع في بيته فأفضل من الصدقة في قباء لأنه لما فضلها على الصلاة في مسجده وهو فوق مسجد قباء في الفضل كانت أحرى أن تكون في البيوت أفضل منها في قباء وإن كان لمسجد قباء أيضا فضيلة يؤتى من أجلها دل عليها ما ذكر الله تعالى في شأنه وشأن المسجد الذي زعم الذين بنوه أنهم بنوه ليكون كمثله وشتان ما بينهما ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه لمواصلة الأنصار والاجتماع لهم فيه لا لصلاة فريضة ولا نافلة لأن الفريضة في مسجده والنافلة في بيته أفضل وما روى أنه كان يأتي مسجد قباء ليصلي فيه فهو كلام قاله الراوي لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيه ليجلس فيه إلا صلى فيه قبل الجلوس قال القاضي ولو قيل

(1/26)


أن للصلاة فيه فضلا على ما سوى المساجد الثلاثة لمن لم يكن من أهل هذه الثلاثة ولمن كان منتابا لا بيت له لكان صوابا والله أعلم.
وعن أبي سعيد الخدري أن رجلا من بني خدرة ورجلا من بني عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال العوفي: هو مسجدنا بقباء وقال الخدري هو هذا المسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: "هو هذا المسجد مسجد رسول الله" وفي ذلك خير كثير وعن عروة هو مسجد قباء الذي أسس على التقوى لبنيان رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه روى عن عائشة أول من حمل حجر قبلة مسجد قباء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حمل أبو بكر آخر ثم حمل عمر ثم حمل عثمان فقلت يا رسول الله ألا ترى هؤلاء يتبعونك فقال: "أما إنهم أمراء الخلافة بعدي" ويؤيد ما ذكر عن سعيد بن جبير أن بني عمرو بن عوف ابتنوا مسجد قباء وصلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فحسدهم بنو غنم بن عوف وبنوا مسجد الضرار وقصدوا بذلك التفريق بين المؤمنين لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في قباء فيغتص بهم وأرصدوه لمن حرب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاسق وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه كما صلى في مسجد بني عمهم فنزلت الآية فأمر جماعة فيهم وحشي قاتل حمزة بتخريبه وتحريقه وجعل مكانه كناسة يلقى فيه الجيف وما روى بحديث متصل من رواية جابر وأنس وغيرهما أنه لما نزلت {فِيهِ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم؟ " قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل للجنابة ونستنجي بالماء, قال: "هو ذاك فعليكموه" فدل أنه مسجد قباء دون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأن الرجال هم الأنصار دون من سواهم ولقائل أن يقول مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم فالتخصيص بالأنصار تحكم وحديث سعيد بن جبير منقطع لا يقاوم حديث أبي سعيد الخدري والله أعلم.

(1/27)


في بناء المسجد
عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة" أو "بنى له مثله في الجنة" وروى "أو بنى له أوسع منه في الجنة"
ومن روى "بنى له مسجدا في الجنة" يعود بالتأويل الصحيح إلى ما رواه الجماعة وذلك أن المساجد إنما تبنى بيوتا ثم تعود مساجد بالصلاة فيها وإذا أثاب الله الباني مثل ما بناه والذي بناه بيت حتى يصلي فيه فيصير مسجدا كذلك يبني له بيتا والجنة ليست بدار صلاة ولا عمل فيبقى ما بناه الله له فيها بمثل اسم المسجد الذي بناه قبل أن يصلي فيه وقوله كمفحص قطاة على التقليل لا على التحقيق كقوله في العقيقية ولو بعصفور وفي الزانية بيعوها ولو بضفير وفي السارق يسرق البيضة وقوله بنى له مثله المراد مماثلته في التسمية لا غير كقوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} .

(1/28)


في مسجد الدار
عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمساجد أن تبنى في الدور وأن تنظف وتتطيب لا حجة فيه لمن ذهب إلى جعل مسجد الدار الذي يغلق بابها ويحال بينه وبين الناس في حال ماوان كان إذن للناس بالصلاة فيه زائلا ملك مالكه عنه كسائر المساجد والحق أنه لا يصير مسجدا بذلك القدر وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لأنه يحتمل أنها أرادت المواضع التي فيها الدور لا التي يغلق عليها الأبواب ويكون المسجد في خلال الدور وفي أفنيتها لا في داخل شيء منها فيما يغلق عليه أبوابها لأن ما جمع الدار من المواضع يسمى بجملته دارا لأن السكنى فيه لا تتهيأ إلا به قال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} فدل أن البلدة تسمى دارا وتسمى ديارا ومنه خير دور الأنصار دار بني النجار الحديث وإذا احتمل هذا التأويل سقط الاحتجاج به ووجب ألا يعطى له حكم المساجد في رفع الملك عنه ودخول غير أرباب الدور فيه إلا بإذن جديد وأن يجري التوارث فيه والله أعلم.

(1/28)


في الأذان
روى معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة" معناه أن الناس تطاول أعناقهم إلى ثواب أعمالهم يوم الجزاء وبينهم تفاضل والمؤذنون لكثرة مرجوهم أطول أعناقا من سائرهم ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا كما تخضع أعناق أهل المعاصي يومئذ فظلت أعناقهم لها خاضعين قال القاضي ويحتمل أن يكون مجازا عن زيادة أمنهم يوم الفزع الأكبر بحيث يشتهر أمرهم في الأمن فلا يخفى على أحد لاشتهار عملهم في الدنيا ومنه فلان يمشي بين الناس طويل العنق إذا لم يخف على نفسه في زمان يستريب الناس فيه بالخوف على أنفسهم من الظلمة قلت الأول لكونه أقرب إلى الحقيقة أحسن.

(1/29)


في الأجرة على الأذان
روى عثمان بن أبي العاص قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ مؤذنا لا ياخذ على أذانه أجرا" ليس فيه دلالة على جواز أخذ الأجرة على الأذان بالعقد بل فيه جواز أخذ أجر يكون كالمثوبة والتنويل على الأفعال التي يحمد فاعلوها ليدوموا عليها ويقوى باعثهم عليها منه قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وقال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} مع أن من لا يقبل ذلك أفضل ممن يقبله لعلمه بالسبب الذي من أجله أعطى فأمر عثمان أن يتخذ أفضل المؤذنين وأعلاهم رتبة في ثواب الآخرة بترك التعوض من الدنيا الدنية على الأمور الدينية ثم القياس أيضا يمنع من استحقاق الأجر على الأذان بالعقد لأن مستأجره لا يملك بمقابلة الأجر الذي يبذله منافع الأجير ملكا خاصا يبين به

(1/29)


دونه وهو شرط في كل عقد إجارة قضية للمعاوضة فينبغي ألا تجوز الإجارة عليه قال القاضي شرط صحة الإجارة أن يكون المعقود عليه من الأفعال المباحة للأجير فإن الواجب والحرام لا يعقد عليه شرعا والأذان مباح أو مندوب وليس تملك المستأجر منفعة الأجير شرطا للاجماع على جواز الاستئجار على بناء المساجد.
قلت: يملك المستأجر بناء المسجد أولا ثم يصير مسجدا على ملكه إذ وقف ما لا يملك غير صحيح كالاعتاق اتفاقا وكفاك فارقا تسمية المستأجر بانيا للمسجد ولا يسمى مؤذنا وإن وجد التسبب فيهما.

(1/30)


في الصلاة خير من النوم
روى أبو محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه في الأذان الأول من الصبح الصلاة خير من النوم وروى عنه كنت غلاما صبيا فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل: الصلاة خير من النوم" ففيه تحقيق للصلاة خير من النوم في الصبح وروى مثله عن أنس وعن ابن عمر وروى عن حفص أن جده سعد المؤذن كان يؤذن لأهل قباء في عهده صلى الله عليه وسلم حتى نقله عمر في خلافته فأذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سمع من أهله أن بلالا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر بعدما أذن فقيل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم فنادى بأعلى صوته الصلاة خير من النوم فأقرت في تأذين الفجر ثم لم يزل الأمر على ذلك فيحتمل أن ما كان من بلال متقدم لما في حديث أبي محذورة فصار من سنة الأذان ثم علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان واختلف الفقهاء فيه فمنهم على تركه واضطرب فيه قول الشافعي وحجته في تركه أنه لم يكن فيما علم أبا محذورة وقد ذكرنا ذلك عن أبي محذورة غير أنه لم يوجد في رواية الشافعي له عمن رواه عنه من أصحاب ابن جريج ولكن فقهاء الحجاز والعراق على ما رويناه أولا من الاستعمال في أذان الصبح.

(1/30)


في الصلاة في الرحال
خطب ابن عباس في يوم الجمعة فلما أذن المؤذن فبلغ حي على الفلاح قال: ناد الصلاة في الرحال, فنظر بعضهم إلى بعض قال: فقد فعله من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني كرهت أن أحرجكم فعلم بهذا أن هذا مما يجب إدخاله في الأذان عند الحاجة إليه وروى نافع عن ابن عمر أنه وجد بردا شديدا في سفر فأمر المؤذن أن يؤذن معه بأن صلوا في رحالكم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر مثل ذلك إذا كان مثل هذا.

(1/31)


في أمانة المؤذن
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم ثبت الأئمة واغفر للمؤذنين أو أرشد اللهم الأئمة واغفر للمؤذنين" على ما روى عنه من ذلك يعني مؤتمن على الأوقات الخمسة فيعتمده الناس في صلاتهم وفطرهم وفي أورادهم التي وظفوها والإمام ضامن لأن صلاة المقتدين مضمنة بصلاته صحة وفسادا وسهوا حتى لو صلى محدثا أو جنبا أو باديا عورته متعمدا وهم متطهرون مستترون تفسد صلاتهم بالاتفاق والقياس أنه إذا كان ذلك كذلك في العمد يكون في السهو مثله كما في حكم نفسه يستوي سهوه وعمده في فساد صلاته.
قلت فعلى هذا الإمام ضامن يعني تضمن صلاته صلاة المقتدي والكلام سيق لبيان فضيلة الإمامة وفضيلة الأذان وتأويل القاضي يحتمل الإثم عنهم فيما إذا صلى على غير طهارة أو أخل بشيء من الفرائض حتى أفسدها وهم لا يعلمون فيكون مأخوذا به دونهم على حكم الضمان اخراج للكلام عن المدح إلى الذم وتقييد لا طلاقة بحالة نادرة من أحواله من غير حاجة مع أن المؤذن المؤتمن إذا قصد اضلال الناس عن الوقت وإفساد عباداتهم الموقتة عليهم يتحمل الإثم

(1/31)


عنهم أيضا فلا وجه لتخصيص الضمان بالإمام حينئذ ودعاه النبي صلى الله عليه وسلم بالتثبيت والارشاد للأئمة وبالمغفرة للمؤذنين مما يصحح التأويل الأول يؤيده ما روى عن عقبة بن عامر الجهني قال صلى الله عليه وسلم: "من أم الناس فأتم الصلاة وأصاب الوقت فله ولهم وان انتقص من ذلك شيء فعليه ولا عليهم" وما روى عن أبي شريح العدوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام جنة فإن أتم فلكم وإن نقص فعليه التقصير ولكم التمام" فإن تحمل الإمام إثم الجماعة إذا قصر يفهم منه صريحا فكان في حمل الإمام ضامن عليه أيضا تكرار والتأسيس أولى من التأكيد ثم في هذا الحديث أن الإقامة إلى الإمام دون المؤذن فكان عليه بالتقصير عن وقتها الاثم خاصة كما كان الإثم على المؤذن بالتقصير في طلب وقت الأذان وروى ذلك عن علي رضي الله عنه أنه قال المؤذن أملك بالاذان والإمام أملك بالإقامة.

(1/32)


في التنافس على الأذان
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فارشد اللهم الأئمة واغفر للمؤذنين" فقالوا يا رسول الله تركتنا نتنافس على الأذان قال: "كلا إن بعدكم زمانا يكون مؤذنوهم سفلتهم" ففيه أنه سيكون زمان يترك أشراف الناس فيه الأذان وينتدب إليه من دونهم في النسب فتعلو بذلك مراتبهم وهذا مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن: "أن الله يرفع به أقواما ويضع بتركه آخرين" وروى أن عمر لما استعمل نافع بن الحارث على مكة فتلقاه بعسفان فسأله عمن استخلفه فقال: استخلفت عليهم ابن أبزى مولى لنا فقال: استخلفت عليهم مولى قال: إنه قاري لكتاب الله عالم بالفرائض قاض فقال عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين", وإني لأرجو أن يكون ممن رفع بالقرآن" فكذا يحتمل أن يرفع بالأذان من لم يكن رفيع.

(1/32)


في حضور الجماعة
روى عن عتبان بن مالك قلت: يا رسول الله إني ضرير وإن السيول تحول بيني وبين المسجد فهل لي من عذر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع النداء؟ " فقال نعم فقال: "ما أجد لك عذرا إذا سمعت النداء" رواه الشافعي عن ابن عيينة عن ابن شهاب عن محمود عن عتبان قال الشافعي وقدوهم فيه فيما نرى والدليل عليه أن مالكا أخبرنا عن ابن شهاب عن محمود بن الربيع أن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تكون الظلمة والمطر والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي في مكان أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أين تحب أن تصلي" فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف أهل العلم في وجوب حضور الجماعة على الضرير كوجوبها على الصحيح فطائفة جعلوه كمن لا يعرف الطريق فلم يعذر بجهله إياه عن التخلف وعذره طائفة والقولان مرويان عن أبي حنيفة والصحيح وجوب الحضور عنده وإلى ذلك كان يذهب محمد ولا يحكي فيه خلافا وقد خاطب ابن أم مكتوم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلا {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قبل} إنزال غير أولي الضرر بأن قال له: لو أستطيع الجهاد لجاهدت فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل له إنك أعمى ولا فرض على الأعمى فدل على أن ما يستطيعه الأعمى يكون فيه كالبصير وحكم وجوب الحج عليه إذا وجد إليه سبيلا وقائدا موصلا كذلك.

(1/33)


في التنفل قبل المغرب
روى عن عبد الله بن مغفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة لمن شاء" ليس فيه دلالة إذ أن المغرب وإقامتها صلاة لأن المذكور بين كل أذانين لا بين كل أذان وإقامة ولا شك أن بين أذان الفجر وأذان الظهر صلاة وهي ركعتا الفجر وما يتطوع به بعد طلوع الشمس بعد حلها وكذا بين أذان الظهر وبين أذان العصر

(1/33)


صلاة لمن شاء وبين أذان العصر وأذان المغرب صلاة قبل صلاة العصر وكذا بين المغرب والعشاء فهذا ظاهر الحديث ومن ادعى غيره فعليه بيانه وحديث عبد الله المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين", ثم قال: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" قد اختلف في إسناده ومتنه لأنه قال في الثالثة: "لمن شاء" كراهة أن يحسبها الناس سنة وروى عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عند كل أذان ركعتين ما خلا صلاة المغرب" فإن كان الحديثان واحدا يكون التالي مبينا أنها ما سوى صلاة المغرب وإن كانا متغايرين يكون ناسخا لأن الأمر والنهي إذا اجتمعا كان النهي أولى وما روى عن أنس كنا نصلي الركعتين قبل المغرب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يرانا لا يأمرنا ولا ينهانا يحتما أنه كان ثم نسخ وكذا ما روى عن عمرو بن عامر عن أنس كان إذا نودي بالمغرب قام لباب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري يصلون الركعتين فإنه يحتمل أن هؤلاء لم يعلموا الذي علمه بريدة ولا يستبعد عدم العلم عن هؤلاء الجلة كما خفي على ابن مسعود رضي الله عنه مع جلالته نسخ التطبيق وكان يفعله إلى أن مات وخفى على علي رضي الله عنه إباحة لحوم الأضاحي بعد ثلاث على ما روى عنه أنه خطب به لما صلى بالناس وعثمان محصور نهاهم أن يأكلوا من الأضاحي فوق ثلاث ومثله كثير يجزي ما جئنا به عن بقيته وعن قتادة قلت لسعيد بن المسيب أن أبا سعيد الخدري كان يصلي الركعتين قبل المغرب قال كان ينهى عنهما ولم أدرك أحدا من الصحابة يصليهما غير سعد بن مالك ففيه أن من لم يكن يصليها هو أكثر الصحابة عددا وقد روى عن إبراهيم أنه قال الركعتان قبل المغرب بدعة لم يصلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر روى ذلك محمد عن أبي حنيفة عن حماد عنه قال محمد وبه نأخذ وموضع إبراهيم من العلم موضعه وخبرته بالصحابة خبرته وكان العمل بعد ذلك في المساجد الثلاثة على تركها وفقهاء الأمصار على ذلك.

(1/34)


في وقت القيام إلى الصلاة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" فيه نهي للناس عن الدخول في الصلاة قبل إمامهم فكان قيامهم قبل حضوره فضلا لا حاجة بهم إليه فنهوا عن ذلك وقال أبو خالد الدالاني أتاني علي رضي الله عنه وقد أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره فقال: ما لي أراكم سامدين والسمود اللهو فنهوا أن يكونوا لاهين.

(1/35)


في وقت تكبير الإمام
روى عن بالا قال: اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسبقني بآمين فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاته بعد دخوله فيها طائفة من الفاتحة قبل فراغ بلال من أذانه وفيه دليل على صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله عنه من شروع الإمام إذا بلغ المؤذن قد قامت الصلاة ومثله روى عن عمر ومثله عن قيس بن أبي حازم على كثرة من بقى من الصحابة وذهب اكثر العلماء إلى أنه لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من إقامته محتجين بحديث أنس أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أقيمت الصلاة فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا إني لأراكم من وراء ظهري" وبحديث البراء إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا وقال: "راصوا المناكب بالمناكب والأقدام بالأقدام فإن الله يحب في الصلاة ما يحب في القتال كأنهم بنيان مرصوص" غير أنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم ليفعلوا ما أمرهم به والذي كان عليه قبل ذلك وبعده ما ذكرنا في حديث بلال والأحسن في هذا أن يكون الأمر واسعافيه.

(1/35)


في التوجيه
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: "وجهت وجهي" الآية {قُلْ إِنَّ صَلاتِي} إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} يعني أول المسلمين من القرن الذي بعث فيهم وكذا قول موسى: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . أي

(1/35)


مؤمني زمانه الذين آمنوا به إذا كان قبلها أنبياء ومؤمنون وروى عنه بعد ما ذكرنا أنه كان يقول: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحس الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك" قوله: "الشر ليس إليك" أي أنه غير مقصود به إليك إنما يقصد الله تعالى بالخير وإن كان الكل من عند الله فييسر أهل السعادة للخير ليثبتهم وأهل الشقاوة للشر فيعاقبهم عليه إلا أن يعفو عنهم فيما عدا الشرك.

(1/36)


في رفع اليدين
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا أراد أن يركع ويصنعه إذا رفع من الركوع ولا يرفع يديه في شيء من الصلاة وهو قاعد وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر قال الطحاوي: لا نعلم أحد روى هذا الحديث غير عبد الرحمن بن أبي الزناد فلا يخلو أن مجيئه بهذه الزيادة غلط أو عن حقيقة فإن كان الأول فلا حجة في الغلط وإن كان عن حقيقة فإنا قد وجدنا عليا فيما كان عليه يخالف ذلك روى عن عاصم بن كليب عن أبيه أن عليا كان يرفع يديه في أول تكبيرة الصلاة ثم لا يرفع بعد ولا يفعل علي رضي اله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم خلافه إلا بعد قيام الحجة عنده على نسخ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله وعن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع في أول تكبيرة ثم لا يعود وقيل لإبراهيم حديث وائل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع من الركوع فقال إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك واحتمل هذا عن إبراهيم وان كان لم يسم من بينه وبين عبد الله لقوله للأعمش إذا قلت لك: قال عبد الله لم أقل ذلك

(1/36)


حتى حدثني به عنه جماعة وإذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني.
وروى ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكان لا يفعل ذلك في السجود رواه عنه مالك وسفيان وإليه ذهب الشافعي وروى ابن شهاب عن عبد الله1 بن عمر فزاد فيه الرفع عند القيام من الركعتين فمن حاج من لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى بحديثي مالك وسفيان عن الزهري فهو محجوج بما في حديث عبيد الله بن عمر عنه من الرفع بعد القيام من القعود إذ يلزمه في ترك ما رواه عبيد الله ما يلزم خصمه في ترك ما رواه مالك وسفيان إذ ليس عبيد الله بدون مالك ولا سفيان مع أنه وجد الحديث من رواية نافع ابن عمر موافقا لما رواه عبيد الله وزائدا عليه الرفع في غيرهما وهو ما رواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود بين السجدتين ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يقال فقد رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر فلم يذكر فيه الرفع إلا عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع لأن تقصير الراوي عن بعض ما رواه العدل لا يلتفت إليه وروى عن أيوب قال رأيت طاووسا ونافعا يرفعان أيديهما بين السجدتين وروى عن أيوب أنه كان يفعله ففعل نافع يدل على صحة الرواية عنه وتمسك أيوب بذلك دال على أن الأمر قد كان عنده فيه كذلك عن نافع فقصر عن ذكره فمن لا يرفع غير تكبيرة الافتتاح اعذر في ذلك إذ كان قد روى عن مجاهد أنه قال صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى فكان رد الأمر إلى ابن عمر أولى بهؤلاء المختلفين لأنه لم يكن يترك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ما قد كان يفعله إلا لما يوجب له من نسخ ولا يقال أن طاوسا روى عن ابن عمر خلافه لأن تصحيح الروايات هو الأولى فيكون طاوسا رأى ابن عمر يرفع ثم قامت الحجة عنده مما يوجب نسخ ذلك فتركه.
__________
1 كذا وفيهنظر – ج.

(1/37)


وصار إلى ما رآه مجاهد عليه فالأولى بنا حمل الآثار على هذا المعنى لا سيما وقد روى الأسود قال رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان كذلك وعن أبي بكر بن عياش أنه قال ما رأيت فقيها قط يرفع يديه في غير التكبيرة الأولى وإذا كان عمر وعلي وابن مسعود وموضعهم من الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعهم على ذلك ثم ابن عمر بعدهم على مثله لم يكن شيء مما روى في القبول أولى مما رووه عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه وكان يقول صلى الله عليه وسلم: "ليتني منكم أولوا الأحلام والنهى" وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذاء منكبيه وإذا ركع فعل مثل ذلك وعن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه ففي هذا ما قد شد ما رواه عبيد الله عن الزهري وعن نافع.

(1/38)


في قراءة الفاتحة
روت عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" يقال لمن كان ناقصا في مدة حمله خداج ومخدج ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد سمى صلاة أخرى خداجا على ما روى المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة مثنى مثنى وتشهد في كل ركعتين وتبأس وتمسكن وتقنع بيديك وتقول: اللهم اللهم فمن لم يفعل ذلك فهي خداج" وعن الفضل بن عباس مثله "وتقنع بيديك" أي ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول: يا رب يا رب ففي الحديثين ذكر الخداج وهو النقص فذهب بعض إلى أن من صلى بغير فاتحة

(1/38)


الكتاب في كل ركعة أنها لم تجزئ وجعلوا النقص إبطالا وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم وذهبوا إلى أن الخداج لا يذهب به الشيء الذي تسمى به لأن النقص لا يوجب الاعدام ولكنها مع نقصانها موجودة إذ ليس كل من نقصت صلاته لمعنى تركه منها يجب به فسادها كترك اتمام ركوعها وسجودها فلا يستبعد أن تنقص الصلاة بترك الفاتحة ولا تفسد وقد وجدنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد دل على ذلك وهو ما روى ابن عباس لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض موته وهو في بيت عائشة قال: "ادع لي عليا" فقالت: ألا ندعو لك أبا بكر؟ قال: "ادعوه" قالت حفصة: ألا ندعو لك عمر؟ قال: "ادعوه" قالت أم الفضل: ألا ندعو لك العباس عمك؟ قال: "ادعوه" فلما حضروا رفع رأسه ثم قال: "ليصل بالناس أبو بكر" فتقدم أبو بكر فصلى بالناس ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج يهادي بين رجلين فلما أحسه أبو بكر ذهب يتأخر فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم مكانك فاستتم رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث انتهى أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يأتم به أبو بكر ويأتم الناس بأبي بكر ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل وقد قرأ أبو بكر الفاتحة أو بعضها ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة ولا شيئا منها فدل أن الفاتحة بتركها أو ترك بعضها لا تفسد به الصلاة فلا يكون قراءتها شرطا للجواز والحاصل من الحديثين أنه لا ينبغي ترك الفاتحة ولا تفسد الصلاة بتركها ثم الشارطون لا يفرقون بين الإمام والمأموم ومن دخل في صلاة الإمام وهو راكع فكبر لدخوله فيها ثم كبر لركوعه فركع ولم يقرأ الفاتحة خوفا لفوت الركعة يعتد بتلك الركعة وجازت الصلاة بدونها ولا يقال أنها سقطت للضرورة لان الضروره لا تسقط فرضا ألا ترى أنه لو ركع ولم يقم قبل الركوع قومه لم تجز صلاته وإن اضطر إلى ذلك لأن القومة قبل الركوع فرض وإن قلت لا يقال كيف يظن بالرسول صلى الله عليه وآله

(1/39)


وسلم ترك قراءة الفاتحة مع أنه موجب للنقص لأن قراءة أبي بكر في تلك الركعة منعت نقصها والله أعلم.

(1/40)


في مقدار القراءة فيها
عن قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة يطيل في الأولى ويسمعنا الآية وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وقال في حديث آخر وكان يطيل أول ركعة من الظهر والغداة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القراءة في الأولى من الظهر على القراءة في الثانية منها واختلف فيه فذهب بعضهم منهم محمد إلى ما في هذا الحديث وبعضهم إلى التسوية بين القراءة في الركعتين الأوليين في الصلاة كلها إلا في الصبح فإنها تطال على القراءة في الثانية اتفاقا وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه اجتمع ثلاثون من الصحابة وقاسوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخافت فيه بقدر ثلاثين آية في الركعتين الأوليين من الظهر وفي أخرييهما على النصف من ذلك وفي العصر في الأوليين نصف أولي الظهر وفي أخرييهما قدر نصف أخرى الظهر وما اختلف منهم رجلان ففيه التسوية بين الأوليين ظهرا أو عصرا وهو الأولى عندنا لأن الرباعية تنقسم قسمين أوليين وأخريين فكما استوى القراءة في الأخريين فكذلك ينبغي أن تستوي في الأوليين يؤيد ذلك ما كان من سعد بن أبي وقاص وقد شكا عليه أهل الكوفة أمورا من جملتها أنه لا يحسن يصلي جوابا لعمر في قوله: فأما أنا فأمد في الأوليين واحذف في الأخريين وما آلو ما اقتديت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر ذلك الظن بك.
فأخبر أنه كان يطيل في الأوليين ويحذف في الأخريين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعقول أن الأخريين إذا استوتا في الحذف تكون الأوليان استوتا في المد وفيما روينا بأن القراءة في أخريي العصر قدر نصف اخريي الظهر.

(1/40)


دليل على أن في الأخريين من العصر والظهر زيادة على فاتحة الكتاب التي هي سبع آيات لا غير لأن نصف الخمسة عشر سبع آيات ونصف يقرأ في كل من اخريي الظهر ونصف هذا النصف في كل من اخريي العصر مع الاختلاف الظاهر بين أهل العلم في الركعتين الأخريين من هاتين الصلاتين فبعضهم يقول إن شاء المصلي زاد فيهما على الفاتحة مما معناه دعاء وإن شاء سبح فيهما ولم يقرأ فيهما بشيء من القرآن منهم أبو حنيفة والثوري وأصحابهما ومنهم من يقول لا بد من قراءة الفاتحة فيهما من غير زيادة عليها وهم فقهاء الحجاز وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بالفاتحة وسورة ولا يقرأ في الأخريين بشيء وعن جابر أنه كان يقرأ في الأخريين بالفاتحة.
وعن عائشة مثله وتقول إنما هو دعاء يعني كانت تقرأها على أنها دعاء لا قراءة قرآن كما في سواهما. وعن أبي عبد الله الصنابحي صليت المغرب خلف أبي بكر في خلافته فلما قام إلى الركعة الثاثلة دنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته قرأ بأم القرآن {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية. وروى عن مكحول والله ما كانت قراءة لكنها كانت دعاء فدل على أن صحة ما قيل أن القراءة في الأخريين إنما هي دعاء وتسبيح لا كالقراءة في الأوليين ومثل هذا القول لا يقال استنباطا بالرأي بل توفيقا محضا فلا يصح خلافه وروى عن إبراهيم النخعي أنه قال التسبيح أحب إلي في الركعتين الأخريين وكذلك كان الثوري يقول وأما أبو حنيفة وأصحابه فيذهبون إلى أن القراءة فيهما أحب إليهم من التسبيح فيهما.

(1/41)


في تطويل الأركان
روى المسعود عن الحكم قلت لابن أبي ليلى ما رأيت أطول قياما من أبي عبيدة في الصلاة فقال سمعت البراء بن عازب يقول كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه رأسه من الركوع وسجوده ورفعه رأسه من

(1/41)


السجود سواء احتج جعفر الهاشمي به على أن القيام في الركوع والرفع منه والسجود والرفع منه والجلوس والرفع منه والجلوس بين السجدتين بمنزلة سواء في التطويل ولا حجة له فيه إذ قد يحتمل أن ركوعه ورفع رأسه منه وسجوده ورفع رأسه منه سواء على أن ما بعد الركوع من الرفع منه إلى آخر السجدتين يفي بالقيام والركوع ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أم الناس فليخفف بهم الصلاة فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة".
وقد روى الحديث عن الحكم من هو أثبت من المسعودي وهو شعبة بن الحجاج فقال كان أبو عبيدة يطيل الركوع وإذا رفع أطال القيام قدر ما يقول: اللهم ربنا لك الحمد ملأ السموات وملأ الأرض وملأ ما شئت من شيء بعد فذكرت ذلك لابن أبي ليلى فحدثني عن البراء أن ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامه إذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين كان قريبا من السواء فعرفنا بذلك أن إطالة أبي عبيدة القيام إنما كان مقدار ما يقول فيه الكلام الذي ذكره وكان ما سواه من الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين هذا المقدار سوى جلوس التشهد فإنه مقدار التشهد الذي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وكانت الأئمة من الصحابة على التخفيف اقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو رجاء العطاردي للزبير ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة قال نبادر الوسواس يعني وسوسة الشيطان حتى لا يدركهم فيها.

(1/42)


في معرفة المقبول من الصلاة
روى عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فخفف فيها فقيل له لقد صليت وخففت فيها قال هل انتقصت شيئا من حدودها قيل لا قال عمار بادرت وسواس الشيطان إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد لينصرف من صلاته وما كتبه منها إلا عشرها أو تسعها أو ثمنها أو سبعها أو سدسها أو خمسها أو ربعها أو ثلثها أو نصفها" المعنى فيه أن المصلي إذا حافظ على أركان صلاته وسننها وآدابها وخشوعه فيها واقباله عليها بترك التشاغل عنها بسواها يؤتيه الله تعالى على ذلك خيرا كثيرا وعند الصباح يحمد القوم السرى وإذا قصر تقصيرا يوجب نقصانها لا إبطالها يوجب تنقيص أجره وانحطاط قدره عما كان لو كملها يؤيد ما ذكرنا لا صلاة إلا بحضور القلب.

(1/42)


في السجود
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ولكن يضع يديه ثم ركبتيه".
لا يقال أن ما نهى عنه في أوله قد أمر به في آخره إذ بروك البعير أيضا بيديه أولا ثم برجليه لان المنهي المعنى هو الخرور على الركبتين أولا وركبتا ابن آدم في رجليه لا غير بخلاف كل ذي أربع فإن في يديه ركبتين أيضا والمأمور به أن يخر على يديه أولا ثم ركبتيه لئلا يشابه البعير في وضع الركبتين أولا إذ البروك هو الخرور على الركب فبان بحمد الله أن لا احالة كما ظنه بعض ثم فيما روى عن حكيم بن حزام من قوله بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما اختلاف.
فمنهم من قال معناه أن يكون سجوده إلا خرورا من قيام خوفا من الله تعالى فإنه لا ينظر إلى صلاة من لا يقيم صلبه من الركوع.
ومنهم من قال أنه اخبار بأنه بايع على أن لا يموت إلا وهو قائم على إيمانه وإسلامه بالعزم والثبات عليه من قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} .
ومنهم من قال أنه بايعه صلى الله عليه وسلم على الموت ولا يبايع على الموت غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتوهم منه زوال الحالة التي لأجلها عقدت البيعة معه عليها بخلاف غيره.

(1/43)


في إقامة الصلب من الركوع
روى ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1/43)


"لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود" يريد به نفي الكمال لا نفي الجواز مع أن فيه تضييع حظ نفسه بتقصيره عن إتيانه بها على أعلى مراتبها وحرمان نفسه عن ثوابها كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" وهو من باب التغليظ ومثله "لا وضوء لمن لم يسم" وما روى "لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه إذا رفع رأسه من الركوع والسجود" يحتمل أنه لا تجزيه الاجزاء الذي هو أعلى مراتب الاجزاء وهو أولى ما حمل عليه توفيقا بين معاني الروايات وهو مذهب الإمام أبي حنيفة ومحمد فإنهما قالا أساء وتجزيه صلاته وقال أبو يوسف لا تجزيه وعليه إعادتها والقياس قولهما لأن السجود الذي هو أعلى أركانها فيه ذكر ولا قراءة فيه ومن رفع رأسه من السجود يرجع إلى جلوس ليس من صلب صلاته حتى أن من سها عنه لا تبطل صلاته اتفاقا بخلاف الجلوس بعد السجدتين فإنه مختلف في وجوبه فلما كان الجلوس الأول بين السجدتين من السنن لا من صلبها كان مثل ذلك القيام الذي يخرج من الركوع إليه من السنن لا من صلبها إذ الركوع أيضا ركن فيه ذكر وليس فيه قراءة.

(1/44)


فيما يقال في السجود
روى عن حذيفة أنه قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل تطوعا فقال: "الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" ثم قرأ البقرة ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه فكان الذي يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثم رفع رأسه فقام قدر ما ركع فكان الذي يقول: "لربي الحمد لربي الحمد" ثم سجد فكان نحوا من قيامه يقول: "سبحان ربي الأعلى" وبين السجدتين نحوا من سجوده "رب اغفر لي رب اغفر لي" فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام ففيه أنه كان يقول بين السجدتين "رب اغفر لي" مكررا في كل ركعة ولا يعلم عن أحد من الصحابة

(1/45)


فعل ذلك غير علي رضي الله عنه فإنه كان يفعله وكذا لا يعلم من التابعين ومن بعدهم من يذهب إلى ذلك غير بعض من ينتحل الحديث ولا شك في حسنه بل فيه إحياء سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤيده القياس فإن الصلاة مشتملة على أفعال كل فعل لا يخلو عن قراءة فيه أو ذكر كالتكبير في الدخول فيها ثم القيام وفيه الاستفتاح والقراءة ثم الركوع وفيه التسبيح ثم الرفع منه وفيه التسميع والتحميد ثم السجود وفيه التسبيح ثم الرفع منه وقد روينا فيه سؤال المغفرة مرتين ثم الجلوس وفيه التشهد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء فكان القياس أن يكون حكم القعدة بين السجدتين كحكم غيرها من أفعال الصلاة ويكون فيها ذكر.

(1/46)


حصل الظن وروى عن أبي حنيفة قال ذكرت الجدود عند النبي صلى الله عليه وسلم فقيل جد فلان في الإبل وقيل في الخيل فسكت فلما قام يصلي ورفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا ولك الحمد ملأ السموات وملأ الأرض وملأ ما شئت لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وروى عنه انه كان يقول بين السجد تين رب اغفر لي رب اغفر لي فقد يكون يطيل ذلك في بعضها حتى يتجاوز ما جرت عليه عادته حتى يظن أنه قد أوهم والله أعلم.

(1/46)


فيما يقال في الركوع
عن ثابت كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم قال الطحاوي والله أعلم أنه كان يقول إذا رفع من الركوع اللهم ربنا لك الحمد ملأ السموات وملأ الأرض وملأ ما شئت من شيء بعد على ما روى عن علي وابن أبي أوفى وغيرهما لا يقال أن قوله حتى نقول قد أوهم يوهم أن العادة جرت على خلافه لأنه يحتمل أنه كان يفعله مرة ويتركه مرة ويحتمل أنه كان يمد صوته كما كان يستعمله بعد سلامه من وتره سبحان الملك القدوس يطول صوته بالثالثة من ذلك فيختلف ما يمكنه ذلك فيها من الزمان حتى يظن أصحابه في ذلك ما كانوا يظنونه.
وقد روى عن أبي سعيد الخدري ما روى عن علي وابن أبي أوفى وابن عباس آنفا وزاد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد فيكون يقول هذا مرة يتركه مرات فلذلك

(1/45)


في الركوع دون الصف
في الركوع دون الصف
...
في الركوع دون الصف
عن أبي بكرة قال: جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع وقد حفزني النفس فركعت دون الصف ثم مشيت إلى الصف فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "أيكم الذي ركع دون الصف" قال أبو بكرة أنا قال: "زادك الله حرصا ولا تعد" فالنهي محمول على السعي الى الصلاة وقد حفزه النفس وقيل مصروف إلى الركوع دون الصف حتى يأخذ مقامه منه يؤيده ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف" والمعنيان مما يجوز إرادتهما بالنهي.
لا يقال: قد صح عن زيد بن ثابت أنه دخل المسجد والناس ركوع فكبر وركع ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف وروى عنه أنه كان يركع على عتبة المسجد ووجهه إلى القبلة ثم يمشي معترضا على شقه الأيمن ثم يعتد بها أن وصل إلى الصف أو لم يصل ولا يظن بمثله الاقدام على المنهي لأنا نقول المكروه فعل ذلك للواحد لا للجماعة لأن الواحد بذلك كالمصلي وحده في صف وهو فاسد عند بعض وجائز مكروه على الصحيح ويؤيد ما روى عن ابن مسعود ركوعه دون الصف مع غيره قال طارق كنا مع

(1/46)


ابن مسعود جلوسا فبلغه خبر الإقامة فقام وقمنا فدخلنا المسجد والناس في الركوع فكبر وركع ومشى وفعلنا مثل ما فعل فيحتمل أن زيد فعل ما فعل وقد كان معه غيره فكان بذلك جماعة ويجب الحمل على هذا رفعا للخلاف بين فعل زيد وبين ما روى من النهي بقوله لا تعد ولا يعارض قوله أيكم الذي ركع دون الصف ما روى عن أنس قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أقيمت الصلاة قبل أن يكبر فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا إني لأراكم من وراء ظهري" ولا ما روى عنه أنه جاء رجل بعد قيام الرسول صلى الله عليه وسلم فأسرع المشي فانتهى إلى الصف وقد حفزه النفس فقال الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه منها: "من المتكلم؟ " أو من القائل المكلمات فسكت القوم فقال مثلها قال: "من هو فإنه لم يقل بأسا" أو قال إلا خيرا فقال الرجل جئت يا رسول الله فأسرعت المشي فانتهيت إلى الصف وقد حفزني النفس فقلت الذي قلت قال لقد رأيت اثنى عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها ثم قال: "إذا جاء أحدكم الصلاة فليمش على هينته فليصل ما أدركه وليقض ما سبقه" وإن كان فيه استعلام من الغير ما كان خلفه لأن الرؤية قد تكون بالعلم كما تكون بالعين قال تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي علمتموه لأن الموت لا يعاين بالعين وقوله تعالى: حكاية عن شعيب {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي أعلمكم لأنه كان أعمى فمثله قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأراكم من وراء ظهري أعلم ما أنتم عليه في صلاتكم من خشوعكم فيها بما يلقيه الله تعالى في قلبه من ذلك ويعلمه به" فلا معارضة في شيء من ذلك والحمد لله.
قلت وفيه نظر لأن التعارض لا يندفع حينئذ للزومه بين قوله: "أيكم الذي ركع" وبين قوله: "إني لأعلم من وراء ظهري" إذا استعلام المعلوم محال كاستعلام المرئي أيضا ولا يندفع بما يقال قد لا يعلم إذا لم يعلمه الله تعالى ويكون عاما مخصوصا أي أعلم من وراء ظهري إلا في حال عدم إعلام الله تعالى لي لحكمة أرادها لأن الكلام سيق لتنبيه المخاطبين على لزوم الأدب فلو لم يكن

(1/47)


إني لأراكم على عمومه لا يفيد فائدته وأيضا لا وجه الى للعدول إلى المجاز فإن تخصيص التعميم يرد فيه أيضا لو تم جوابا لأن الآراء أيضا تتعلق بإرادة الله تعالى فقد لا يريه لحكمة اقتضته والحق أن الاستفهام في قوله: "أيكم الذي ركع؟ " وفي قوله: "من القائل؟ " ليس على حقيقته بل هو انكار للفعل المستفهم عنه بدليل قوله: "لا تعدو" قوله: "فليمش على هينته" وبدليل سكوت القائل عن الجواب خوفا من محظور غضبه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فإنه لم يقل بأسا" توطينا لقلوبهم وتثبيتا لجأشهم لعلمه بأنهم خافوه ولهذا بشره بقبول مقوله أيضا فلا تعارض حينئذ لأن رؤيته أو علمه بحالهم متحققة دائما وما استفهم ليعلم بل جرى على جميل عادته المستمرة في عدم خطاب الخاطي بما يكره مواجهة وإن كان يعلمه حقيقة وكان يخاطبهم على العموم لئلا يخجل صاحبه لا لأنه كان غير عالم بحاله والله أعلم.

(1/48)


في جلسة الاستراحة
روى عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه كان يقول لأصحابه ألا أريكم كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ذلك لفي غير صلاة فقام فأمكن القيام ثم ركع فأمكنه ثم رفع رأسه وانتصب قائما هنيهة ثم سجد ثم رفع رأسه فتمكن في الجلوس ثم انتظر هنيهة ثم سجد قال أبو قلابة ورأيت شيخنا عمرو بن سلمة يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها استوى قاعدا ثم قام وفيما روى عنه أيضا قال أخبرني مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا. هذه مسألة اختلف فيها فطائفة تأمر المصلي بهذه الجلسة منهم الشافعي ومن سواهم من الكوفيين وفقهاء الحجاز لا يعرفون هذه الجلسة ولا يأمرون بها وروى عن عباس بن سهل وكان في مجلس فيه أبوه وهو صحابي وأبو هرير

(1/48)


وأبو حميد وأبو أسيد الساعدي والأنصار تذاكروا فيه الصلاة فقال أبو حميد أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعت ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: فأرنا فقام فصلى وهم ينظرون فكبر ورفع يديه أول التكبيرة ثم ذكر حديثا طويلا ذكر فيه أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك.
فكان في هذا الحديث ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القعود بعد رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى وقد روى هذا الحديث جماعة كثيرة وروى رفاعة بن رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك قال: بينما رجل كالبدوي دخل في المسجد فصلى فأخف الصلاة ثم انصرف فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل" ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الرجل: فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ, قال: "أجل إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد ثم كبر فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله تعالى وكبره وهلله ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع فاعتدل قائما ثم اسجد فاعتدل ساجدا ثم جلس فاطمئن جالسا ثم اسجد فاعتدل ساجدا ثم قم فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك" فكان في هذا الحديث أيضا أمره صلى الله عليه وسلم الرجل بعد فراغه من هذه السجدة بالقيام بلا قعود أمره قبله به.
وحديث مالك يحتمل أن يكون ما ذكر فيه مما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان فعله لعلة كانت به صلى الله عليه وسلم حينئذ لا لأن ذلك من سنة صلاته يدل عليه قلة مقام مالك عنده فإنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في أناس ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما رفيقا فلما ظن أن قد اشتهينا أهلنا واشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال صلى الله عليه وسلم: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا عندهم وعلموهم ومروهم" والنظر أيضا يوجب عدم الجلوس لأن من شأن الصلاة التكبير والتحميد عند كل خفض

(1/49)


ورفع وانتقال من حال إلى حال فلو كان بينهما جلوس لاحتاج أن يكبر عند قيامه من ذلك كما يكبر عند قيامه من القعدة الأولى وإذا انتفى التكبير انتفى الجلوس هذا مع ما قد شهد له من الآثار التي لروايتها من العدد ما ليس لمن روى ما يخالف ذلك.

(1/50)


فيمن ركع أو سجد قبل إمامه
روى محمد بن أبي سفيان عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: "لا تبادروني إلى الركوع والسجود فإني قد بدنت وإني مهما اسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت فيه أن المأموم إذا سبقه الإمام بشيء من الركوع أنه يقضيه في حال قيامه خلف الإمام".
ومثل ذلك ما روى عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم فتلك بتلك" وعن عمر رضي الله عنه: "إذا رفع أحدكم رأسه والإمام ساجد فليسجد فإذا رفع الإمام رأسه فليمكث قدر ما رفع" وعن ابن مسعود: "لا تبادروا أئمتكم بالركوع والسجود وإذا رفع أحدكم راسه قبل الإمام فليضع رأسه ثم يمكث بقدر ما رفع قبله" ويلزم المأموم إذا ترك من القيام شيئا أن يؤمر بقضائه على هذا مع أنه لا يؤمر فيما إذا ركع قبل الإمام فأدركه الإمام بالركوع أن يرفع رأسه ليقضي ما فاته من القيام مع الإمام وكذا إذا لم يدركه الإمام فرجع إلى القيام لا يؤمر أن يثبت بعد ركوع الإمام بمقدار ما فاته من القيام وكذا إن رفع رأسه قبل الإمام فرجع ثم رفع الإمام رأسه ومكث في الركوع لا يؤمر بقضاء ما فاته من القيام الذي بعد الركوع ولكن الفرق واضح بين القيام والركوع وإن كان كل منها ركنا ألا ترى من أدرك أمامه في الركوع يكبر ويركع معه وليس عليه قضاء ما شبقه الإمام من القيام ولو فاته الركوع مع الإمام لا يعتد بما بقي من تلك الركعة من السجود والقعود وعليه قضاء الركعة بكمالها فإذا كان

(1/50)


فوات القيام بتمامه لا يضر بباقي الركعة ويكتفي بالركوع الذي بعده عنه كذلك فوت بعض القيام مع الإمام إما بسبقه الإمام بالركوع أو بتشاغله بقضاء ما سبقه به الإمام من ركوعه لا يجب عليه قضاؤه ويجزيه ركوعه مع الإمام الذي ركعه معه أو بعده وكان ذلك بخلاف الركوع الذي لا يكون مدركا للركعة إلا بإدراكه إياه مع الإمام.
قال القاضي هذا الفرق غير صحيح إذ ليس من فاته القيام بكماله يجزيه منه الركوع لأنه لا يكون مدركا لتلك الركعة حتى يدرك أن يقوم فيها ولو قدر ما يوقع فيه تكبير الاحرام ثم يدرك التمكن من الركوع مع الإمام بل الفرق هو أن الركوع شرع فيه التطويل وكذا السجود فأمر أن يقضي ما فاته منه مع الإمام والقيام بعد الركوع لم يشرع فيه التطويل فلم يؤمر بقضاء ما فاته وكذلك لا يؤمر بقضاء ما فاته من الجلوس بين السجدتين.
قلت لا أثر لمشروعية التطويل في إيجاب القضاء إنما القضاء يبتني على الوجوب والقيام بعد الركوع واجب فيجب قضاؤه والجلسة بين السجدتين ليست بواجبة فلا يجب قضاؤها ويلزمه أيضا القيام قبل الركوع فإنه ركن شرع فيه التطويل ولا يلزمه قضاؤه فلا أثر للتطويل فيه وإنما هو تطويل من القاضي رحمه الله والفرق ما ذكره الطحاوي آنفا.

(1/51)


في إدراك ركعة منها
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها" الظاهر أن فضلها زائد لترك أكثر الرواة إياه ولأن معنى إدراكها إدراك فضلها إذ لو كان إدراكا لنفس الصلاة لم يجب عليه قضاء بقيتها وقد جعل كثير من العلماء المدرك لهذا القدر مدركا لها في وجوب قضاء ما فاته منها على مثل صلاة الإمام فيقضي في الجمعة إذا أدرك ركعة منها ركعة أخرى ومن أدركه من وقتها كالمغمى عليه يفيق

(1/51)


والحائض تطهر والكافر يسلم يكون به مدركا لوجوبها عليه بخلاف ما دون هذا المقدار وهم أهل الحجاز.
وخالفهم العراقيون وأوجبوا بإدراك تكبيرة الاحرام فما فوقها من وقت الصلاة واستدلوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العبد المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم عمد إلى المسجد لم يرفع رجله اليمنى إلا كتب له بها حسنة ولم يضع رجله اليسرى إلا حط عنه بها خطيئة حتى يبلغ المسجد فليقرب أو ليبعد فإن أدرك الصلاة في الجماعة مع القوم غفر له ما تقدم من ذنبه وإن أدرك منها بعضا وسبق ببعض فقضى ما فاته فأحسن ركوعه وسجوده كان كذلك وإن جاء والقوم قعود كان كذلك".
وممن قاله أبو حنيفة وأبو يوسف غير أن محمدا خالفهما في الجمعة ووافق الحجازيين فيها والمذكور هو وجه النصفة ولا يقال يحتمل أن يكون الحديث الذي احتج به العراقيون منسوخا لأنه إذا لم يعلم التاريخ فالأولى أن يجعل ناسخا للحديث الآخر لأن فيه زيادة فضل وإذا تفضل الله تعالى على عباده بثواب على عمل لم ينقصهم منه إلا بذنب محيط كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} ولأنا إذا جعلنا هذا الحديث متأخرا يتأتى العمل بالحديثين وإذا جعلناه سابقا يلزم إهماله والعمل بالدليلين ولو بوجه أولى من الاهمال ثم لو خلينا والقياس لكان الواجب في الحائض وشبهها عدم الوجوب عليهم إلا بإدراك وقت مقدار صلاة كاملة كما يجب عليهم من الصيام إلا ما أدركوا وقته بكماله وهو قول زفر غير أن ما دل على خلافه من الحديث أولى عندنا.

(1/52)


في التشهد
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض التشهد السلام على الله السلام على جبرئيل وميكائيل قال رسول الله صلى الله

(1/52)


عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا فإن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات الطيبات" إلى آخره لم يقل أحد من رواته فلما فرض التشهد غير ابن عيينة والفرض يحتمل أن يكون المصطلح وهو الذي يكون جاحده كافر قال الله تعالى: بعد ذكره الزكاة {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} الآية وقد يكون بمعنى التقدير كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أي حددنا فيها الحلال والحرام وقد يكون فرض الاختيار كقول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر كالوجوب على الاختيار في قوله: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" وقد يكون الفرض بمعنى الاعطاء قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي إن الذي أعطاك القرآن لرادك إلى مكة وعلى هذا يكون التشهد عطية من الله تعالى لهذه الأمة فيه شهادتهم له بالتوحيد ولرسوله بالرسالة ليثيبهم عليه بما شاء أن يثيبهم إياه عليه ولأن التشهد في الصلاة ذكر فيها كالاستفتاح وتسبيحات الركوع والسجود وهذه الاذكار وإن تفاضلت في أنفسها ليست بمفروضة فكان التشهد مثلها.
وروى عن ابن مسعود قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفى بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن "التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله" وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام على النبي.
من قوله: بين ظهرانينا إلى على النبي منكر لا يصح لأنه يوجب أن يكون التشهد بعد موته عليه السلام على خلاف ما كان في حياته وذلك مخالف لما عليه العامة ولما في الآثار المروية الصحيحة وقد كان أبو بكر وعمر يعلمان الناس التشهد في خلافتهما على ما كان في حياته صلى الله عليه وسلم من قولهم السلام عليك أيها النبي وإنما جاء الغلط من مجاهد وأمثاله وقد قال أبو عبيد إن مما أجل الله به رسوله أن يسلم عليه بعد وفاته كما كان يسلم عليه في حياته وهذا من جملة

(1/53)


خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد استنبط جوازه مما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى المقبرة ويقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" فإنه إذا أجاز ذلك في أهل المقبرة كان في النبي صلى الله عليه وسلم أجوز وهذا حسن قال القاضي لكن قول أبي عبيد أحسن لأنه عليه السلام سلم على أهل القبور بحضرتهم وقد جاء أن الأرواح قد تكون بأفنية القبور.

(1/54)


في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
عن أبي مسعود الأنصاري أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس فقال له بشير بن سعد أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد" والسلام كما قد علمتم.
وروى عن كعب بن عجرة قال لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} الآية جاء رجل فقال يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة قال: "قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" ثم روى عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبرهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
ولم يوجد في غير هذا الحديث وعلى أزواجه وذريته إلا ما روى عن طاوس عن أبي بكر رضي الله عنه بزيادة وعلى أهل بيته أيضا ومتمسك أهل المدينة حديث أبي مسعود وأهل الكوفة حديث كعب بن عجرة ولم يتعلقوا بما سواهما وسائر أهل العلم على هذين الأثرين باستعمالهم في صلاتهم وفيما سواها على الاختيار بحيث

(1/54)


لا تفسد الصلاة بترك ذلك غير الشافعي فإنه ذهب إلى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض بحيث لا تجزي صلاة إلا بها وإن موضعها من التشهد الذي يتلوه السلام وذهب في كيفيته إلى حديث أبي مسعود الأنصاري لكن كان يلزمه على أصله الأخذ بحديث أبي حميد للزيادة التي فيه على أزواجه وذريته وأهل بيته في الصلاة عليه كما ذهب إلى حديث ابن عباس في التشهد لزيادة والمباركات فيه على ما في غيره من الآثار المروية في التشهد في بعض الآثار على إبراهيم وفي بعضها على آل إبراهيم لا يوجب الاختلاف لأن ذكر الآل يدخل فيه من هم آله ومنه: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} لأن آله لما استحقوا العذاب باتباعه كان هو أشد استحقاقا لذلك بدعائه إياهم إليه وبإمامته إياهم فيه.
وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال كنا نقول خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصلاة إذا جلسنا السلام على الله وعلى عباده السلام على جبرئيل وميكائيل السلام على فلان وفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله هو السلام فلا تقولوا هكذا ولكن قولوا التحيات لله والطيبات السلام عليك إلى عباد الله الصالحين" "فإنه إذا قالها نالت كل عبد صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم ليختر أطيب الكلام أو ما أحب".
وروى عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم يصلي على النبي ثم يدعو بما شاء".
ففي حديثي ابن مسعود وفضالة ما ينفي قول من قال أنه لا بد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة بعد وقوفه على ترك الصلاة عليه بل فوض الأمر إلى مشيئة المصلي.

(1/55)


ولو كانت صلاته غير مجزية بدون الصلاة عليه لأمر بالإعادة كما أمر المصلي الصلاة الناقصة في حديث رفاعة بن رافع إذ قال له "ارجع فصل فإنك لم تصل" مرتين أو ثلاثا الحديث.
ولا حجة لمن أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الآخر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} لأن ذلك يدل على وجوب الصلاة قولا وغيرها مثل قوله واذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه الآية فلو ترك رجل في صلاته التسبيح لم تفسد صلاته بذلك وإن كان فيه ترك فضيلة فكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بتركها يكون المصلي تاركا لحظه في الفضيلة وكذا لا دليل فيه لمن أوجبها في التشهد الذي يتلوه السلام بقوله تعالى: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} لأنه يحتمل أن يكون المراد به التسليم له صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه في الصلاة وغيرها كما في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} إذ لا خلاف من المخالف في تأويل هذه الآية والله أعلم.

(1/56)


في النهي عن الاقعاء
روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التورك والاقعاء في الصلاة اختلف في الاقعاء المنهي عنه فذهب أبو حنيفة وجماعة إلى أنه جلوس الرجل على عقبيه في صلاته لا على إليتيه محتجين بما روى عن علي رضي الله عنه إني أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لها لا تقع على عقبيك في الصلاة وبما روى عن أبي هريرة قال نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اقعي في صلاتي اقعاء الذئب على العقبين يعني عقبي نفسه لأن الذئب ليس له عقبان وقال أهل الحديث هو أن يضع الرجل اليته في صلاته على الأرض ناصبا فخذيه لما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بينما راع يرعي

(1/56)


بالحرة انتهز الذئب شاة فحال الراعي بين الذئب والشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال للراعي: ألا تتقي الله وتحول بيني وبين رزق ساقه الله تعالى إلي فقال الراعي: لعجب من ذئب يقعى على ذنبه يكلمني كلام الإنس فقال الذئب للراعي: ألا أحدثك بأعجب مني رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق, فساق الراعي غنمه حتى أتى المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بما قال الذئب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال للراعي: "أخبر الناس بما رأيت" فقام الراعي فحدث الناس بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الراعي ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع الإنس والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الناس وتكلم الرجل شراك نعله وعذبه سوطه ويخبره فخذه بما أحدث بعده أهله".
ولما روى عبد الرحمن بن شبل قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير وكل واحد من التفسيرين يجوز أن يكون محمل النهي فلا ينبغي للمصلي أن يفعل واحدا منهما ولا تضاد بين الحديثين ولا تدافع فإن قيل روى عن العبادلة أنهم يقعون في صلاتهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم يراهم ولا ينهاهم عن ذلك فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حجة الله على خلقه ويحتمل أن يكون هؤلاء العبادلة لم يبلغهم هذا النهي ولو بلغهم لما خالفوه ولا خرجوا عنه.

(1/57)


في العقص
روى عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أحب لك ما أحل لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي لا تصل وأنت عاقص شعرك فإنه كفل الشيطان" هذا مما لا ينبغي أن يفعله المصلي في صلاته بل يرسل

(1/57)


شعره حتى يسجد بسجوده وكذلك يفعل في ثيابه.
وأما ما روى عن سعيد المقبري أنه رأى أبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحل ضفيرة الحسن بن علي المغروزة في قفاه وهو يصلي وقال له لا تغضب لما التفت إليه الحسن مغضبا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذلك كفل الشيطان" أي مقعده فهو مدفوع لأن أبا رافع مات في زمن علي وكان علي وصيا له على ولده ووفاة المقبري في سنة خمس وعشرين ومائة وبينه وبين وفاة علي خمس وثمانون سنة وموت أبي رافع قبل ذلك بما شاء الله فهذا يدفع أن يكون رآه والله أعلم.

(1/58)


في مس الحصى
روى أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يحرك الحصى فإن الرحمة تواجهه" وروى عنه سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مس الحصى فقال: "واحدة أو دع".
فيه جواز المرة الواحدة عند الحاجة وقدور دإن كنت لابد فاعلا فمرة واحدة وجاء في حديث آخر: "لأن يمسك أحدكم يديه عن الحصى خير له من أن يكون له مائة ناقة كلها سود الحدق فإن غلب أحدكم الشيطان فمرة واحدة" وينبغي للمصلي أن يسوي الحصى قبل دخوله فيها حتى يستغني بذلك فلا يحتاج إليه في صلاته ولا يشتغل قلبه به وإن فاته حتى دخل في صلاته واحتاج إلى ذلك يمسح مرة حتى ينقطع شغل قلبه فإنه أيسر من تماديه على مغالبة شيطانه.

(1/58)


في التنحنح والتسبيح
عن علي بن أبي طالب قال كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح.
قد روى هذا الحديث على خلاف هذا قال علي رضي الله عنه كانت لي

(1/58)


ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان في صلاة سبح وهذا أولى لأن الآثار التي روتها العامة فيما ينوب الرجال في الصلاة مما يستعملونه فيه هو التسبيح ومالك سوى بين الرجل والنساء فيه ومن سبح في صلاته جوابا تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف والحق أن التصفيق للنساء فيما ينوبهن اتباعا للأثر وأن لا فرق بين التسبيح ابتداء وجوابا في أنه لا يقطع الصلاة كما لا فرق في الكلام أنه قاطع ابتداء أو جوابا.

(1/59)


في وجوب الجواب على المصلي
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي فالتفت ولم يجبه وخفف صلاته ثم انصرف فقال: السلام عليك يا رسول الله, فقال: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ " قال: يا رسول الله كنت في الصلاة, قال: "أفلم تجد فيما أوحى الله إلي أن {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} " قال: بلى, يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله, ولا يستنكر أن تجب إجابة الأم إذا دعته وهو يصلي لأنه يستطيع ترك صلاته وإجابة أمه لما عليه أن يجيبها والعود إلى صلاته لأن الصلاة لها قضاء وبر الأم إذا فات لا يقدر قضاؤه اعتبارا بوجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم واحراز الفضيلة بالخروج من الصلاة والعود إليها ودل على ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريج الراهب حين نادته أمه وهو يصلي فقال: اللهم أمي وصلاتي وكان ذلك منهما ثلاث مرات فدعت عليه بأن لا يموت حتى ينظر في وجه المياميس وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم فولدت, فقيل لها ممن هذا فقالت: من جريج, الحديث فعوقب بترك إجابة أمه لما دعته وتمادى في صلاته ولا يعاقب إلا بترك الواجب.

(1/59)


في المرور بين يدي المصلي
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي

(1/59)


ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه" المراد به أربعين سنة والله أعلم لأنه قد روى عنه من رواية أبي هريرة أنه قال: "لو يعلم الذي يمر معترضا بين يدي أخيه وهو يناجي ربه لكان أن يقف مكانه مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها" وهذا متأخر لأن فيه زيادة في الوعيد وهو لطف بالعاصي ليمتنع عن اقتراب سببه والذي يروى عن المطلب بن أبي وداعة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه ليس بينه وبين القبلة شيء.
ويروى عنه ليس بينه وبين الطواف سترة لا يعارض ما روى من النهي عن المرور ونهى المصلي عن الامتناع من الدفع لأن حديث المطلب إنما هو في الصلاة إلى الكعبة مع المعاينة والنهي عن المرور فيمن يتحرى الصلاة إلى الكعبة إذا غابت عنها ويحتمل في المعاينة ما لا يحتمل في المغايبة فإن الناس إذا تحلقوا الكعبة وصلوا جماعة لا بد أن تستقبل وجوه بعضهم بعضا ولا كراهة فيه بخلاف من غاب وصلى مستقبل وجوه الرجال فإنه يكره فكما اتسع لهم الصلاة مع استقبال الوجوه اتسع لهم بين يديه المرور تخصيصا للكعبة بهذا الحكم لأن الغالب استيلاء شرفها على القلوب بحيث يذهل عن الالتفات إلى غيرها فليس الخبر كالعيان.

(1/60)


في وقت العشاء
عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلم بوقت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعشاء الآخرة كان يصليها لسقوط القمر ليلة الثالثة فيه أنه كان يؤخر العشاء عن أول وقتها إلتماسا لوقت الفضل من وقتها كما كان يصلي غيرها في أفضل أوقاتها وكان يصلي الظهر في أيام الشتاء معجلا لها وفي الصيف مؤخرا والمغرب دائما معجلا وأما صلاة الصبح والعصر فكان يختلف في الساعتين اللتين كان يصليهما فيهما مثل الساعة التي كان يصلي فيها العشاء الآخرة لأنها

(1/60)


ساعة الفضل من وقتها وسقوط القمر لثلاث يكون بمضي ساعتين ونصف ساعة ونصف سبع ساعة من الليل.

(1/61)


في تسميتها العتمة
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إنما هي العشاء ولكنهم يعتمون عن إبلهم" فيه أن اسم هذه الصلاة العشاء وأن الذين يسمونها العتمة هم الأعراب وما روى معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم".
ليس فيه تسمية الرسول صلى الله عليه وسلم إياها بالعتمة وإنما فيه أمرهم بالاعتام بها أي بالتأخير لها كما يقال أمسيت بالعصر ليس المساء اسم لها ولكن اخبار منك أنك أمسيت بها واسمها غير مشتق من المساء بها وحديث أبي هريرة مرفوعا لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا قد رواه ابن مسعود بخلافه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما من الفضل لأتوهما ولو حبوا".
وتصحيح الحديثين أن الذي تعرفه العرب في اسمها العتمة لا غير وتسميتها في حديث أبي هريرة بناء على ما عهدته العرب وألفته ثم سماها الله تعالى بالعشاء في قوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} فعلم أن ما حكاه ابن مسعود في اسمها متأخرا عما حكاه أبو هريرة وسبب تسميتها بالعشاء أنها تصلى بعد أن تعشى الأبصار بالظلام الطاري عليها كما سميت الصبح لأنها تصلى عند الاصباح والفجر لأنها تصلى بقرب الفجر والظهر لأنها تصلى في الظهيرة والعصر لأنها تصلى عند الاعصار وهو التأخير ومنه قولهم عصرني حقي إذا أخره عن وقت أدائه والمغرب لأنها تصلى عند الغروب وما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى العصرين

(1/61)


دخل الجنة".
وقوله عليه السلام لفضالة: "حافظ على العصرين" قلت: وما العصران؟ قال: "صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها" فالمراد بهما الفجر والعصر من باب التغليب فانتقلت أسماء الصلوات الخمس لأوقاتها التي تصلى فيها وارتفع التضاد والاختلاف بحمد الله ومنه.

(1/62)


في الوتر
روى عن عمرو بن العاص قال أخبرني رجل من الصحابة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قد زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح الوتر الوتر" ألا وإنه لو بصره الغفاري قال أبو ذر يا أبا بصرة أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر الوتر الوتر" فقال أبو بصرة: نعم, قال: أنت سمعته؟ قال: نعم قال: أنت سمعته؟ قال نعم.
قوله: صلاة الصبح يحتمل نفس الصلاة فيجوز أداء الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاتها وقد روى عن علي الوتر ما بين الصلاتين ويحتمل أن يكون وقت صلاة الصبح الذي يعقب صلاة العشاء ويفسره الحديث الآخر الذي استفسره أبو ذر من أبي بصرة وقال خارجة بن أبي حذافة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل قد أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الوتر الوتر"
روى ابن عمر مرفوعا: "إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر اوتروا قبل الفجر" وحديث أبي بكر وعمر مشهور قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "أخذت بالحزم" حين قال: أوتر من أول الليل وقال لعمر: "أخذت بالقوة" حين قال أوتر آخره.

(1/62)


وعن ابن مسعود الوتر ما بين صلاة العشاء إلى الفجر وروى عنه سئل هل بعد الأذان وتر فقال نعم وبعد الإقامة وفي هذا ما دل على أنه مطلق عنده في الزمان كله وأهل العلم في ذلك على قولين فأبو حنيفة وأصحابه على أنه يقضي مطلقا كسائر الفوائت.
وقال مالك والشافعي إنه يصلى فيما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح ولا يصلى بعد ذلك والحق أنه إذا صلى بعد خروج الليل فيما قرب منه وجب أن يصلي فيما بعد منه لأن الصلوات منها لا تقضى بعد خروج وقتها في قرب ولا بعد كالجمعة ومنها ما تقضى بعد ذهاب وقتها في قرب وبعد وهي المكتوبات فينبغي أن يكون الوتر كذلك.

(1/63)


في القنوت
روى عن عبد الله بن مسعود قال: بت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يقنت في وتره فقنت قبل الركوع ثم بعثت أم عبد فقلت لها بيتي مع نسائه فانظري كيف يقنت فأتتني فأخبرتني أنه يقنت قبل الركوع قد كان ابن مسعود على ذلك روى علقمة عنه وروى جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع.
منهم أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث ركعات لا يسلم فيهن حتى ينصرف يقرأ فيها سورة الأعلى وقل يا أيها الكافرون والاخلاص ويقنت قبل الركوع وبعد الانصراف يقول: "سبحان الملك القدوس" مرتين يرفع صوته ويجهر بالثالثة ومنهم عبد الله بن عباس في حديثه عن مبيته عند خالته ميمونه والقياس يشهد لهذا القول لأن القنوت زائد فيه على غيرها من الصلاة كالتكبير الذي هو زائد في صلاة العيد على غيرها وأنه قبل الركوع وكان علي وابن مسعود يقنتان قبل الركوع ويكبران قبل القنوت ولا يعلم هذا إلا توقيفا وروى طارق قال صليت خلف عمر صلاة الصبح فلما فرغ من القراءة في الثانية كبر ثم قنت ثم كبر

(1/63)


فركع والذي روى من فعل هؤلاء الثلاثة الأعلام أولى بالأخذ مما روى عائشة: علمني الحسن بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من القراءة في الثالثة من الوتر قال قبل الركوع: "اللهم اهدني فيمن هديت" الحديث لأن من حفظ شيئا كان أولى ممن قصر عنه.

(1/64)


في سنة الفجر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتركوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل" وعن عائشة قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الصبح وعنهما مرفوعا: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وينبغي أن يصليهما في البيت لمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاهما في المسجد روى عبد الله بن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة وابن القشب يصلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكبه وقال: "يا ابن القشب تريد أن تصلي الصبح أربعا أو مرتين؟ " عن عائشة رضي الله عنها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقيمت الصبح فرأى ناسا يصلون ركعتي الفجر فقال: "أصلاتان معا؟ ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وأوقفه بعضهم وفيما تقدم من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يصلوا ركعتي الفجر في المسجد ما يغني عنه لأنه إذا منع عن صلاتها في المسجد قبل أن تقام الصلاة فالمنع من ذلك بعد الإقامة أوكد فالواجب علينا امتثال ما أمرنا به من صلاة ركعتي الفجر في منازلنا قبل أن نأتي المسجد ما لم تدع إلى ذلك ضرورة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس صلى بعد أذان بلال لها ركعتي الفجر ثم صلى صلاة الفجر في موطن واحد.
فدل على إباحة صلاتهما في الموطن الذي يصلى فيه الفرض عند مثل

(1/64)


هذه الضرورة وروى أن سعيد بن العاص طلب أبا موسى وحذيفة وابن مسعود قبل أن يصلي الغداة فسألهم كيف نصلي صلاة العيد فأجابه عبد الله بما أجابه ثم خرجوا من عنده وقد أقيمت الصلاة فجلس عبد الله إلى اسطوانة من المسجد فصلى الركعتين ثم دخل في الصلاة.
وذلك والله أعلم أنه دعاهم من الليل وامتد بهم الأمر إلى وقت لم يكونوا يظنون به فدعته الضرورة إلى أن صلاهما في المسجد خشية الفوات وعن أبي الدرداء أنه قال إني لأجيء إلى القوم وهم في الصلاة فأصلي الركعتين ثم انضم إلى الصفوف.
وذلك عندنا على ضرورة دعته إليه والآثار بمنها في المسجد ستجيء في باب التنفل بعد الجمعة وما روى الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس بن فهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ولم يكن صلى ركعتي الفجر فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فركع ركعتي الفجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فلم ينكر ذلك عليه فهو من الأحاديث التي لا يحتج بمثلها لعله في روايته ذكرت مفصلة في المطول.
وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد أحسن من هذا أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاتته ركعتا الفجر صلاهما إذا طلعت الشمس وروى عن ابن عمر والقاسم بن محمد أنهما كانا يفعلان ذلك.

(1/65)


في صلاة القاعد
روى عن عمر أن ابن حصين أنه قال كان به باسور فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تقدر فقاعدا فإن لم تقدر فعلى جنب" وفيما روى عنه أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدا فقال: "من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم

(1/65)


ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد".
لا اختلاف بين الحديثين لأن الأول في الفرائض والثاني في النوافل ثم المتطوع إذا صلى قاعدا مع قدرته على القيام له نصف أجر القائم ولو لم يكن له قدرة على القيام يكتب ثوابها وهو قاعد كما كان يصليها وهو قائم وقوله: "من صلى نائما" يعني يقدر على الصلاة قاعدا ولا يقدر على السجود لأن الذي يقدر على السجود فليس له أن يصلي نائما على جنبه فعقلنا بذلك أنه النائم القادر على أن يصلي قاعدا يومي بالركوع والسجود فصلى نائما يومي بهما اختيارا منه لذلك فاستحق بذلك نصف أجر القاعد وهو ربع أجر القائم

(1/66)


في هيئة القعود
روى عن مجاهد عن مولى السائب عن السائب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القاعد على النصف من صلاة القائم غير متربع" فيه ما يدل على نقص صلاة القاعد متربعا عن قاعد غير متربع ولا يحتج بمثله لأن مولى السائب مجهول والراوي له عن مجاهد إبراهيم بن مهاجر وليس بالقوى وكذا ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه لأنه أجلس على رضفين أحب إلي من أن أتربع في الصلاة.
لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون المراد التربع في القعود للتشهد وهو منهي عنه وقد روى عن عائشة رضي الله عنها بإسناد صحيح قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى متربعا فكان هذا الحديث أولى من حديث مولى السائب وروى الحسن عن أمه أنها رأت أم سلمة تصلي متربعة من رمد كان بها. وعن إبراهيم بن أبي عبلة أنه رأى أم الدرداء تصلي متربعة ويؤيد النظر وهو تحصيل الفرق بين القعود الذي هو بدل من القيام وقعود التشهد كما فرق بين الإيماء للركوع وبين الإيماء للسجود وفيما ذكرنا صحة قول أبي حنيفة وصاحبيه في أمرهم العاجز عن القيام في الصلاة أن يتربع بدلا من قيامه خلاف ما يقول زفرا بالتسوية بينهما.

(1/66)


فيمن نام عن حزبه
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل" لما تفضل الله تعالى بنسخ فرض قيام الليل تخفيفا محضا بقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} لم يحلهم من الحض على قيامه وأخذ الحظ منه بقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ} ندبا فإنه قال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} .
فإذا كان في حقه نافلة كان لأنته أحرى أن يكون نافلة ثم زاد في التفضل بأن وسع الأمر عليهم في نيل ثوابه واستنجاز وعده المحمود إذا قطعهم عن ذلك مرض أو سفر أو عائق وأقام طائفة من النهار مقام طائفة من الليل وجعل القراءة فيها كالقراءة فيها والقيام فيها كالقيام فيها رحمة منه لهم واشفاقا عليهم.

(1/67)


في الأوقات المكروهة
روى زر عن عبد الله قال: كنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعن غروبها ونصف النهار.
وروى عن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها أو نقبر فيها موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تنصب الشمس للغروب حتى تغرب وخرج الآثار بذلك من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة ومعان متفقة في بعضها فإن الشمس تطلع بين قرني الشيطان وهي ساعة صلاة الكفار فدع الصلاة حتى ترتفع ويذهب شعاعها.

(1/67)


وفي بعضها حتى ترتفع قدر رمح لا خلاف أن التطوع كله قد دخل في النهي المذكور في هذه الآثار غير أن مالكا رحمه الله ذهب إلى أن الصلاة غير منهي عنها عند قيام الشمس لأنها كما تقوم تميل من غير أن يتخللها زمان يتهيأ فيه صلاة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحجة ولم ينه إلا عن ممكن وقد وجدناها تقوم وتكون شبه المضطربة مدة ما ثم تزول وأبا يوسف والشافعي استثنيا يوم الجمعة عند قيام الظهيرة واحتجا في ذلك بآثار فيها استثناء يوم الجمعة من النهي لم نجد لها صحة ولا رويت عن ثبت ممن يؤخذ عنهم العلم وإنما هي آثار منقطعة لا أسانيد لها وما كان مثل هذا لم يجز الاحتجاج به وقد احتج لهما بعض بأنه لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابراد بصلاة الظهر في الحر ولم يأمر بذلك في يوم الجمعة علم أن يوم الجمعة مخصوص بمعنى لم يوجد في سائر الأيام ورد بأن الابراد بعد الزوال والوقت المنهي عن الصلاة فيه عند قيام الشمس وهما مختلفان لكل منهما حكم غير حكم صاحبه.
واختلف أهل العلم في قضاء المكتوبات في هذه الساعات فقيل لا يجوز فيها شيء من المكتوبات إلا عصر اليوم الذي يصلى فيه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله لأن آخر وقت العصر غروب الشمس فأخرجوها من عموم النهي في ذلك الوقت والقياس أن يكون آخر وقتها تغير الشمس لأن كل وقت سوى ذلك الوقت يجوز أن تصلى فيه الفرائض يجوز أن تصلى فيه النوافل وما لا فلا وهذا قول أبي بكرة الصحابي روى عن ابنه يزيد أنه قال: واعدنا أبو بكرة إلى أرض له فسبقنا إليها فأتيناه ولم يصل العصر فوضع رأسه فنام ثم استيقظ وقد تغيرت الشمس فقال: أصليتم العصر؟ فقلنا: لا قال: ما كنت أنتظر غيركم فأمهل عن الصلاة حتى غابت الشمس ثم صلاها فهذا هو القياس في هذا الباب وذهب مالك والشافعي إلى أن المنهي عنه هو التطوع لا غير والقياس يرد ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أوقات كما نهى عن الصيام في أيام من العام

(1/68)


فكما لم يجز الصيام في الأيام الخمسة تطوعا وفرضا لا يجوز أن تقضى تلك الأوقات صلاة فريضة ولا يصلى فيها تطوع.
فإن قيل ورد النهي بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب وخص بالتطوع اتفاقا وصح قضاء الفائتات فيهما فليكن النهي في هذه الأوقات كذلك لأن أحكام الصلاة بأحكام الصلاة أشبه من الصيام قلنا: النهي فيهما لمعنى في الصلاة بدليل أن من صلى العصر أو الصبح ليس له أن يصلي فيهما التطوع ومن لم يكن صلاهما له أن يصلي فيهما والوقت بالنسبة إليهما واحد في الأوقات الثلاثة النهي لمعنى في الوقت لاستواء جميع الناس فيه كالمانع من الصيام في الأيام الخمسة هو الوقت لا ما سواه فلذلك صح قياس الصلاة في تلك الأوقات على الصيام في تلك الأيام ولم يصح قياسها على الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وما روى من قوله عليه السلام: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح أو فليصل إليها أخرى ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب فقد أدرك العصر" يحتمل أن يكون النهي في هذه الأوقات ناسخا لذلك ويحتمل أن يكون منسوخا بهذا وإذا احتملا ارتفعا ورجع الأمر فيه إلى ما يجب الرجوع إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة والاجماع وهو القياس الذي ذكرنا وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنه في الأوقات الثلاثة ما يدل على أنه لا تصلى فيها نافلة ولا فريضة وهو أنه منع الصلاة على الجنازة فيها وهي فرض كفاية وأجازها بعد صلاة الصبح والعصر إذا صليتا لوقتهما المختار بحيث يبقى من وقتها ما يصلى فيه على الجنائز كذلك روى نافع عنه.

(1/69)


فيمن نام عن صلاة
عن أبي قتادة رضي الله عنه سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في

(1/69)


غزوة وعرسنا فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل منا يثب جزعا دهشا فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا فارتحلنا من مكاننا حتى ارتفعت الشمس ثم نزلنا فقضى القوم حوائجهم ثم أمر بلالا فأذن فصلى ركعتين فأقام فصلى الغداة الحديث مذكور بطرق كثيرة بمعان متفقة وزيادات في بعضها وفيه من تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح إلى ارتفاع الشمس ما يدل على أنه لا يصلى الفوائت عند الطلوع لأنه لا يظن به التأخير مع جواز فعله حينئذ وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه وخالفه في ذلك الشافعي وغيره وقالوا سبب تأخيره حضور الشيطان إياهم في ذلك الوادي على ما ورد فيه من قوله عليه السلام: "تحولوا عن هذا المكان الذي أصابتكم فيه الغفلة" ومن قوله: "ليأخذ كل واحد منكم برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" وما أشبه ذلك ورد بأن حضور الشيطان لا يصلح مانعا إذ قد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فلم يخرج منها حتى أتمها وقال: "لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان المدينة".
والحديث مشهور في الصحاح فاستحال أن يكون التأخير لذلك سيما وفي حديث أبي قتادة أنه أخر الصلاة إلى أن ارتفعت الشمس ثم صلاها ففيه أن تأخيره إنما كان ليحل وقت الصلاة لا لما سواه وما ورد من قولهم فما أيقظنا إلا حر الشمس لا دليل فيه على الارتفاع قبل الاستيقاظ إذ يحتمل أن يكون طلعت بحرارتها كما هو موجود بالحجاز في حرها إلى الآن ثم ممن روى هذا الحديث عمران بن الحصين قال عرسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نستيقظ إلا بحر الشمس فاستيقظ منا ستة ثم استيقظ أبو بكر رضي الله عنه فجعل يمنعهم أن يوقظوه ويقول: لعل الله تعالى أن يكون احتبسه في حاجته فجعل أبو بكر يكبر حتى استيقظ.
ففيه أنه صلى الله عليه وسلم نام نوما ذهب عنه به الفهم بقلبه وفي ذلك نوم قلبه إذ لو لم يكن كذلك لما خفي عليه استيقاظ الجماعة ولا احتاج أبو بكر

(1/70)


إلى متابعة التكبير حتى يوقظه وهو يخالف ما قال لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" ظاهرا ولكن الذي أخبر به عن نفسه لعائشة هو الذي كان الأمر عليه وهو علم من أعلام النبوة أبانه الله تعالى به عمن سواه من خلقه, وكان نومه في الوادي كنوم من سواه لمعنى أراد الله سبحانه به أن يكون سببا لما يفعل من بعده في مثل تلك الحال لما روى أنه قال: "لو شاء الله لم تناموا ولكن أراد أن يكون سنة لمن بعدكم فيمن نام أو نسي" إذ يجوز أن يقال: كان ينبغي أن تسقط بعد خروج الوقت كالجمعة أو لا تجب الصلاة على النائم لأن وقتها لم يمر عليه إلا والقلم مرتفع عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" فعلموا بذلك من فعله ومن قوله, ما لم يكونوا علموه قبل ذلك فبان بحمد الله أن لا تضاد في شيء من هذه الآثار.

(1/71)


في التنفل بعد صلاة العصر
عن وهب بن الأجدع قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة" وذكره من طرق وليس هذا بخلاف لما روى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سبح بعد العصر ركعتين في طريق مكة فتغيظ عليه عمر رضي الله عنه وقال والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عنها.
لأنه يحتمل أن يكون علي رضي الله عنه صلى والشمس عنده مرتفعة الارتفاع الذي يبيح الصلاة وكان عند عمر رضي الله عنه على خلاف ذلك فالاختلاف بينهما حينئذ يكون في الارتفاع المبيح لا فيما علمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان النهي عن الصلاة بعد العصر وإن كانت مرتفعة حتى تغيب فوقف عمر رضي الله عنه عليه ولم يبلغ ذلك عليا وكان على ما روى وهب عنه وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: شهد عندي رجال مرضيون وارضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع

(1/71)


الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب وسئلت عائشة رضي الله عنها كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الظهر والعصر قالت كان يصلي الهجير ثم يصلي بعدها ركعتين ثم يصلي العصر ثم يصلي بعدها ركعتين فقيل لها: إن عمر يضرب رجلا يصلي بعد العصر ركعتين فقالت: لقد صلاهما عمر رضي الله عنه ولكن قومك أهل اليمن طغام فكانوا إذا صلوا الظهر صلوا بعدها إلى العصر وإذا صلوا العصر صلوا بعدها إلى المغرب فقد أحسن فيحتمل أن يكون الأمر عند عائشة رضي الله عنها كما كان عند علي رضي الله عنه وما وقفت على ما كان عند عمر رضي الله عنه من النهي بعد صلاة العصر حتى تغرب والأخذ بما عند عمر رضي الله عنه أولى مما كان عندهما لأنه قد دخل فيه ما كان عندهما وزاد عليه ما لم يكن عندهما والزيادة أولى ويكون النهي المتأخر ناسخا والله أعلم.

(1/72)


في الإشارة في الصلاة
روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الصبح فأومى إليهم أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر ماء فصلى بهم ورواه أنس أيضا كذلك وعن غيرهما من الصحابة أن الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ قيامه قيام المصلي لا أنه دخل بتكبير قال: أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام مقامه ثم ذكر أنه لم يغتسل فقال: "مكانكم" فانصرف إلى منزله فاغتسل ثم خرج حتى قام مقامه ورأسه يقطر ماء ورواه أبو هريرة رضي الله عنه فهذا الاختلاف إنما هو من حكايات الصحابة ونحن نجيب عنهم بما يرفعه ويعود إلى الوفاق فنقول معنى دخل في الصلاة على معنى قرب دخوله فيها كما قال تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} الآية إذا لا مساك بعد انقضاء العدة لا يكون ومثله تسمية ابن إبراهيم ذبيحا لقربه من الذبح والله أعلم.

(1/72)


في إمامة أبي بكر رضي الله عنه
...
في إمامة أبي بكر
روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه بلال يؤذنه الصلاة فقال: "ائتوا أبا بكر فليصل بالناس" قالت: فقلت: يا رسول الله لو أمرت عمر أن يصلي بهم فإن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقوم مقامك لا يسمع الناس, قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فأمروا أبا بكر فصلى بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فقام يهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض فلما سمع أبو بكر حسه ذهب ليتأخر فأومى إليه أن "صل كما أنت" فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم والناس يقتدون بأبي بكر وعنهما رضي الله عنهما من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قالت ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فومى إليه أن لا تتأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله" فدخلت على ابن عباس فعرضت حديثها عليه فما أنكرت من ذلك شيئا في الحديث الأول عود أبي بكر مأموما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إماما والناس كلهم مقتدون بصلاته صلى الله عليه وسلم وفي الحديث الثاني استمراره على إمامته التي كان قبل حضور النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد والحديثان عن عائشة والثاني عن ابن عباس أيضا وإذا تعارضا فما روى عن عائشة رضي الله عنها ارتفع وثبت ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روى عنها قالت: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفى فيه خلف أبي بكر قاعدا

(1/73)


وروى عنها أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالصف ففي هذين الحديثين أنه صلى الله عليه وسلم كان مصليا بصلاة أبي بكر مأموما فيها ثم نظرنا في قول ابن عباس وعائشة فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فوجدنا محتملا أن المراد كان يصلي بقدر طاقته صلى الله عليه وسلم عليها للمرض الذي كان فيه إذ طاقة المريض ليس كطاقة الصحيح وقد كانت السنة التي أمر الأئمة بها أن يصلوا بصلاة أضعفهم قال عثمان بن أبي العاص: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤم الناس وأن أقدرهم بأضعفهم فإن فيهم الكبير والسقيم والضعيف واذا الحاجة وكان هذا أولى مما حمل لأن الناس في تلك الصلاة لم يكن لهم إمامان ولما كان أبو بكر رضي الله عنه هو الإمام فيها بالناس وجب أن يكون هو الإمام فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم أيضا وحقق ذلك ما روى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة خلف أبي بكر واستدلال بعض على أن الإمام كان النبي صلى الله عليه وسلم بما روى عنها وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي أبي بكر يصلي قاعدا وأبو بكر يصلي بالناس والناس خلفه غير متضح إذ من أهل العلم من يجوز للمأموم أن يصلي بين يدي الإمام كما يصلي خلفه منهم مالك مع ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالف بين طرفيه فكانت آخر صلاة صلاها وكيف يجوز أن يكون احد إماما لغيره في صلاة قد دخل فيها ذلك الغير قبله ثم يلزم من كون أبي بكر إماما وجوب سجدة السهو عليه ووجوب القراءة عليه ومن كونه مأموما يلزم عدم وجوب السجود بسهوه وعدم وجوب القراءة فكيف يخرج من صلاة هذا حكمها إلى صلاة أخرى حكمه ضده بلا تكبير يستانفه لها وكيف يظن ذلك بأبي بكر وقد كان من السنة أن لا يسبقوا الأئمة بالركوع والسجود في الصلاة التي يصلونها

(1/74)


معهم وأن يكونوا مقتدين بهم لا مخالفين لهم فيه فإن قيل أليس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر بالناس في صلاة ثم تذكر أن عليه غسل فأومى إليهم أن يكونوا مكانهم حتى مضى واغتسل ثم رجع فصلى بهم ففيه دخول القوم في الصلاة قبل دخول إمامهم فيها.
قلنا: قد ذكرنا أنه ما دخل فيها حقيقة بل قام مقام المصلي فلا يصح الاستدلال بذلك وما روى أن معاذا لما صلى العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجع على عادته يؤم قومه فقرأ سورة البقرة فتنحى رجل من خلفه فقيل له أنافقت فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من معاذ ومنه فقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أفتان أنت؟ " مرتين لا دليل فيه على جواز خروج المأموم من صلاة نفسه بغير استئناف تكبير إذ يحتمل أنه صلى بتكبير استأنفه لها وكذا لا دليل فيما يحتج به من حديث يزيد بن رومان في صلاة الخوف بذات الرقاع أنه صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعة إذ كانت الطائفة الأولى قد خرجت من الائتمام إلى صلاة أنفسهم فأتموها قبله لأنه روى عن جابر قال أقيمت الصلاة هناك فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين وتأخروا وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائفة الأخرى ركعتين فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان وهذا خلاف ما في حديث يزيد بن رومان وإذا تكافأت الروايتان ارتفعتا ولم يكن في واحدة منهما حجة على من خالفه.

(1/75)


في إمامة الجالس
لا يحتج على متابعة الإمام في الجلوس وإن كان للمأموم قدرة على القيام بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاك فصلى جالسا فصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" وفي رواية جابر قال بعد الانصراف: "كدتم

(1/75)


أن تفعلوا فعل فارس والروم بعظمائهم ائتموا بأئمتكم فإن صلوا قياما فصلوا قياما وإن صلوا جلوسا فصلوا جلوسا" وخرجه من رواية أنس وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بزيادة ألفاظ في بعضها على بعض مع اتفاقها على أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الإمام في الجلوس لأنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حاله في مرضه الذي توفى فيه خلاف ما في هذه الآثار فكان ناسخا لها وروى أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة فقال: "ادعوا لي عليا" إلى أن قال: "ليصل بالناس أبو بكر" فتقدم أبو بكر فصلى بالناس ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين فلما أحسه أبو بكر ذهب يتأخر فأشار إليه أن مكانك فاستتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث انتهى أبو بكر من القراءة وأبو بكر قائم ورسول الله جالس فائتم أبو بكر برسول الله وائتم الناس بأبي بكر فما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حتى ثقل فخرج يهادي بين رجلين وإن رجلاه1 لتخاطان بالأرض فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ففيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جالسا وأبو بكر قائما والناس كذلك فدل ذلك على نسخ ما كان منه في تلك الآثار.
فإن قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صلاته كان مأموما لا إماما قالت عائشة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفى فيه خلف أبي بكر قاعدا وروى عن أنس مثله قلنا الأصل أن تحمل الآثار على الاتفاق ولا تحمل على التنافي مهما أمكن وكان أبو بكر يصلي بالناس أيام تخلفه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها لمرضه فما في حديث عبيد الله عن عائشة وابن عباس دل على أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام وما كان في حديث أنس وعائشة ففي صلاة أخرى صلاها خلف أبي بكر مأموما فعقلنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان صلى بالناس جالسا ومن خلفه قيام وحقق ذلك ما في
__________
1 كذا.

(1/76)


حديث الأرقم من أخذه صلى الله عليه وسلم في القراءة من حيث انتهى أبو بكر ولا يكون ذلك إلا وهو الإمام ودل بما انتهى إليه أبو بكر في القراءة أنها صلاة يجهر فيها بالقراءة لأن المأموم لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه بالقراءة إلا ما قالت طائفة أنه يقرأ بالفاتحة خاصة وفي حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن جلوسه كان عن يسار أبي بكر وذلك مقام الإمام لأن أبا بكر عاد بذلك عن يمينه وجلوسه عن يسار أبي بكر دليل على أنه أراد الإمامة لا الائتمام فيها بغيره إذ لو أراد الائتمام بأبي بكر لجلس خلفه كما فعل في يوم بني عمرو بن عوف لما ذهب ليصلح بينهم فجاء وأبو بكر يصلي بالناس وساق الحديث من طرق وكذلك فعل إذ ذهب لحاجته فجاء وعبد الرحمن بن عوف يؤمهم وقد صلى بهم ركعة فصلى خلفه ركعة وقضى الركعة التي فاتته ومذهب الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والشافعي تجويز إمامة القاعد الراكع والساجد القوام الذين يركعون اتباعا عالما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقة للقياس الصحيح لأن القعود لما كان بدلا من القيام كان فاعل البدل كفاعل والذي يروى من المبدل منه فجاز أن يكون القاعد إماما للقائم ومذهب مالك ومحمد عدم الجواز والذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا به وليس لأحد من أمته سواه قلنا الأصل عدم التخصيص عند عدم التوقيف.

(1/77)


فيمن هو أحق بالإمامة
عن أبي مسعود الأنصاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" وروى مرفوعا: "يؤم القوم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا فإن كانوا في ذلك سواء فأقرؤهم وروى يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء

(1/77)


فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا". وروى "ليؤمكم أقرؤكم فإن كانت القراءة واحدة فأقدمكم هجرة فإن كانت الهجرة واحدة فأعلمكم بالسنة فإن كانت السنة واحدة فأقدمكم سنا ولا يؤم الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" والحديث الأول أولى لأن النظر يعضده لأن الإمامة مدارها على أربع مراتب وهي الأقرأ والأعلى والأقدم والأكبر لكن القراءة والسنة مضمنة بالصلاة لا بد لها منهما والهجرة والسن ليس كذلك وإنما يستعملان فيها أدبا لا فرضا بدليل جواز صلاة من أم مهاجريا ومن فوقه في السن وإن كان الأولى أن يؤتم بهما ولا يؤمهما ثم الهجرة على المرتبتين الثانيتين فكذا القراءة أعلى المرتبتين الأولين.
قال القاضي: قدم السن إنما يعتبر إذا تساويا في الإسلام حتى لا يقدم الأقدم في السن على الأقدم في الإسلام لأن لقدم الإسلام زيادة فضيلة ليست لقدم السن مع عدم الإسلام وقد يقدم الأسن مطلقا في التكلم وما أشبهه من أمور الدنيا ويتوخى في تقديم من يكون أدعى إلى بلوغ الغرض المقصود من ذلك إذا الأسن قد يكون السن والحن بمعانيه انتهى.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤم أمير في إمارته" فقد دخل تحت إطلاقه صلاة الجنازة أيضا كمذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لا يصلى على الجنازة إلا الأمير إذا حضر لما روى أن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال لسعيد بن العاص يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنهما تقدم فلولا أنها سنة ما تقدمت وهو القياس لأنها من الفروض العامة التي تسقط عنهم بقيام الخاصة لأن على المسلمين الصلاة على جنائزهم كما عليهم غسلهم ومواراتهم فمن قام بذلك منهم سقط عن بقيتهم فوجب أن يكون الأمير أحق به إذا حضرها كالإمامة في المكتوبات في المساجد إذا حضرها لأن إقامة الجماعة في المساجد واجبة على المسلمين ومن قام بذلك منهم سقط عن بقيتهم وخالفهم الشافعي في صلاة الجنازة لأنها عنده من الفروض الخاصة.

(1/78)


في إمامة الصبي
عن عمرو بن سلمة قال كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا جاؤا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون قال رسول الله وقال رسول الله وكنت غلاما حافظا فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا فوفد أبي في ناس من قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهم الإسلام وقال: "ليؤمكم أقرؤكم" فلم يكن في القوم أحد أقرأ مني فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان وعلي بردة لي فكنت إذا سجدت انكشفت فمرت بنا ذات يوم امرأة وأنا أصلي بهم فقالت: واروا عنا عورة قارئكم هذا, فاشتروا لي قميصا يمانيا فلم أفرح بشيء بعد الإسلام ما فرحت بذلك القميص, وله طرق كثيرة ذهب قوم منهم الشافعي إلى إجازة إمامة الصبيان الرجال إذا عقل الصلوات الخمس بهذا الحديث وخالفهم جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه فلم يجيزوا صلاة من عليه تلك الصلاة خلف من ليست عليه لأن تقديم عمرو لم يكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان بتقديم قومه لقلة علمهم دل عليه ائتمامهم به مكشوف العورة ولا يقال كان في عهده صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقف عليه فلم يكن حجة ألا ترى أن رفاعة الأنصاري وهو من جلة الصحابة ومن نقباء الأنصار وممن شهد بدرا لما ذكر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنهم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلونه يعني الاكسال ثم لا يغتسلون على ما كانوا يرون أن لا ماء إلا من الماء فقال عمر أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لا فقال لئن أخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكنه عقوبة بعد أن اختلف عليه في ذلك الصحابة فأصفق أكثرهم على أن الماء لا يكون إلا من الماء فأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسئلهن عن ذلك فقالت عائشة: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فإذا لم يكن رفاعة بن رافع فعلمهم إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة إذ لم يعرف أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه فحمده منهم فأحرى أن لا يكون تقديم عمرو وهو صغير حجة.

(1/79)


في قصر الصلاة
روى عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت من المدينة إلى مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتمت وأفطرت وصمت قال: "أحسنت يا عائشة" وما عاب علي قد احتج بهذا من أباح الاتمام وهو حديث يبعد في القلوب مع أنه روى على خلاف هذا قالت خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فلما قدمنا مكة قلت: يا رسول الله أفطرت وصمت وقصرت وأتممت.
والمعروف عنها عمن هو فوق عبد الرحمن في الجلالة وهما عروة بن الزبير ومسروق أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيدت في الحضر قال الزهري فقلت لعروة فما بال عائشة كانت تتم في السفر قال إنها تأولت ما تأول عثمان رضي الله عنه.
فعلى ما روينا عنها فرض السفر ركعتان كما فرضها في الحضر أربعا فكما كان من صلى ثمانيا في الحضر غير محسن لأنه خلط الفرض بالنفل كذلك من صلى بالسفر أربعا ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية من صلى مكتوبة أن يصلي بعدها حتى يتقدم أو يتكلم وإن كان سلم كان نهيه لمن فعل ذلك وهو لم يسلم أوكد وكان فاعله في خلاف ما أمره به أكثر ولا يظن بعائشة رضي الله عنها المخالفة وموضعها من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يجب أن يكون عليه مثلها كيف وقد وافقها ابن عباس رضي الله عنه قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين فكما يتطوع في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر قبلها وبعدها فانتفى بما ذكرنا حديث عبد الرحمن عنها وثبت عنها حديثا مسروق وعروة.
ولا يقال أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" يدل على أنها كانت في السفر أربعا لأنه لا يضع إلا ما قد كان ثابتا.

(1/80)


لأن وضعه تعالى إنما هو تركه فرض ما وضعه عمن وضعه عنه وإن لم يكن مفروضا عليه نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة" الحديث ولم يكن ما رفع عنهم كان مكتوبا قبل ذلك عليهم وإنما معناه لم يكتب عليهم فكذا وضع الشطر عن المسافر عدم الكتابة عليه لا أنه كان مكتوبا قبل وضعه.

(1/81)


في اتمام عثمان
روى أن عثمان رضي الله عنه صلى بأهل منى أربع ركعات فلما سلم أقبل إليهم فقال: إني تأهلت بمكة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل في بلدة فهو من أهلها فليصل أربعا" فلذلك صليت أربعا.
وإنما قال ذلك لما أنكر الناس عليه الاتمام وفيه ما يدل على ما يقوله أبو حنيفة وأصحابه والشافعي رضي الله عنهم أن الإمام إذا كان من أهل مكة وكذا غيره من الحاج لا يقصرون الصلاة بمنى لأنهم في سفر لا يقصر في مثله وإليه ذهب عطاء ومجاهد وهما إماما الناس في الحج والنظر أيضا يوجب ذلك لأن قصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما الصلاة بمنى في حجهم لا يخلو من ثلاثة معان لا رابع لها إما أن يكون للموطن الذي كانوا به وذلك منتف لاجماعهم أن من لم يكن حاجا ولا مسافرا يتم في ذلك الموطن وأما أن يكون للحجيج وهو منتف أيضا لاجماعهم أن الحاج من أهل منى يتمون الصلاة بمنى فلم يبق إلا أن يكون للسفر الذي يقصر في مثله وكان مالك رحمه الله يقول في الحاج من أهل منى أنهم يتمون بمنى ومن أهل مكة وأهل عرفة يقصرون بمنى وأهل منى يقصرون بعرفة وإذا انتفى أن يكون قصر الصلاة إلا للسفر انتفى قول من قال أن غير المسافر يقصر بمنى حاجا كان أو غير حاج نقل عن مالك وابن القاسم في أحد قوليهما أن الحاج يقصر بمنى وإن لم يكن مسافرا لأنه منزل سفر وغير الحاج لا يقصر إذا لم يكن مسافرا اجماعا.

(1/81)


في سبب إتمام عائشة
روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لنسائه: "هذه الحجة ثم عليكن بظهور الحصر" وكن يحججبن غير زينب وسودة تقولان لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي واقد الليثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجة الوداع: "هذه حجة الإسلام ثم ظهور الحصر" فزعم زاعم أن عائشة كان سبب تركها للقصر في أسفارها بعد النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من قوله لهن: "عليكن بظهور الحصر" وهو تأويل فاسد لأن عائشة رضي الله عنها كانت أعلم بالله وأحكامه من أن تخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وتترك القصر من أجل ذلك بل إنما تركته لأنها كانت لا تراه واجبا على أحد أو كانت تتأول كما تأول عثمان آنفا وكان تأويلها أنها أم المؤمنين فحيث ما حلت فهو دارها لأنها ما كانت تنزل إلا عند أولادها فكانت تعد نفسها مقيمة كما عد عثمان نفسه مقيما بمكة لما تأهل بها ثم الوجه في خروج بعضهن إلى الحج بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم لهن ما في هذين الحديثين وترك الخلفاء الانكار عليهن والله أعلم أنه قد روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "جهادكن أو حسبكن الحج" وإنها قالت: يا رسول الله ألا نخرج نجاهد معكم فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل منه؟ قال: "لا إن لكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور".
يعلم منه دوام الحج لهن كدوام الجهاد فاحتمل أن يكون ذلك بعد الحديثين الأولين فوقفت على ذلك هي ومن سواها فأطلق لها ولمن وقفت على ذلك الحج ولم تقف على ذلك سودة ولا زينب فلزمتا الحصر وكلهن رضوان الله عليهن على ما كن عليه محمودات وكذلك الخلفاء وسائر الصحابة رضي الله عنهم في تركهم الخلاف عليهن محمودون لعلمهم ما علموا

(1/82)


من ذلك ولا يجوز أن يحمل الأحاديث على ما قلنا لأن في ذلك السلامة وحسن الظن بخلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه صلى الله عليه وعليهم ونعوذ بالله من إساءة الظن فيهم.
قال القاضي: تحقيق القول فيه أن اختلافهن فيما سبيله الاجتهاد وهن من أهله وكانت كل واحدة منهن متعبدة بما أداها الاجتهاد إليه ولم يكن للخلفاء عليهن في ذلك حكم لأنه لا يلزمهن الرجوع إلى اجتهاد أحد من خليفة ولا غيره.
قلت هن من أهل الاجتهاد ولكن المحل ليس بمحله لظهور النص فيه وهو قوله: "عليكن بظهور الحصر" ولا اعتبار للاجتهاد مع وجود النص بخلافه فالقول ما قالت حذام بأن سكوتهم عن الانكار على من حجت بعد ذلك لعلمهم بالنسخ كعلمهن به بالتوقيف كما ذكرنا آنفا.

(1/83)


في سجدة التلاوة
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ "ص" وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تهيأ وا أو كلمة نحوها للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تهيأتم" أو "تشزنتم" أو كلمة نحوها "للسجود" فنزل وسجد.
فيه أنها ليست من عزائم السجود وإنما هي لمعنى كان ذلك إلى النبي داود صلى الله عليه وسلم دونهم فعقلنا بذلك أنه إذا كان من الله تعالى إلى أحدهم ما هو من جنس ذلك كان مباحا له السجود عنده وفيه ما قد دل على إباحة سجدة الشكر كما يقوله محمد بن الحسن والشافعي رحمهما الله.
وفيه أن السجود منه عزيمة لا بد منه وما ليس كذلك يؤيده ما روى عن علي رضي الله عنه قال: عزائم السجود "الم", "تنزيل", و"حم", و"النجم", و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إذ لا يكون ذلك استنباطا منه فالعزيمة واجبة وما لم يكن عزيمة فتاليه وسامعه

(1/83)


مخير وعند أبي حنيفة وأصحابه سجود التلاوة أربع عشرة سجدة واجب منها ص وقد كان مالك يقول إنها إحدى عشرة سجدة فيها ص وإنها عزائم وكان أبو حنيفة ومالك وأصحابه لا يعدون في الحج إلا السجدة الأولى والشافعي يعدها ويخرج ص ويقول أنها أربع عشرة أيضا وما دل عليه الحديث وأيده قول علي رضي الله عنه أولى مما قالوه جميعا وما روى عن مجاهد أنه سئل ابن عباس عن سجدة ص فقال أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فوجهه أن يقتدي به في أن يسجد كما سجد داود عليه السلام شكرا وما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه سجد فيها يحتمل أن يكون قصد بذلك الشكر لله فيما كان منه إلى نبيه داود صلى الله عليه وسلم من توبته عليه فيكون مذهبة أن لا سجود فيها إلا لمن قصد هذا المعنى بخلاف حكم سائر سجود القرآن ويحتمل أن يكون سجدها عن تلاوته إياها كسائر سجود القرآن.
وما روى عن سعيد بن جبير أن عمر رضي الله عنه قال له: أتسجد في ص؟ قلت: لا, قال: فاسجدها فيها فإن الله تعالى قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ظاهره أنه أمره بالسجود فيها اقتداء بداود عليه السلام لا أنها سجدة التلاوة خاصة وقد اختلفت الروايات فيها عن ابن عباس رضي الله عنه فعنه أنها من عزائم السجود وعنه أنها ليست منها وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.

(1/84)


في السجدة في المفصل
فيما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} سجدتين وعن ابن عباس رضي الله عنه لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من المفصل فيجوز أن يكون ابن عباس لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله بعد أن قدم المدينة فكان من رآه فعله أولى وروى عنه أنه قال

(1/84)


صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين وأنه قال قدمت المدينة ورسول الله بخيبر ورجل من غفار يؤم الناس فسمعته يقرأ في الصبح في الركعة الأولى بمريم وفي الثانية بويل للمطففين الحديث واثبات الأشياء أولى من نفيها وما روى عن زيد بن ثابت أنه قرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم "النجم" فلم يسجد فيها لا دلالة له فيه على نفي السجود من المفصل وإن كان ذلك أيضا بالمدينة لأنه يجوز أن يكون الترك لكونه على غير طهارة حالئذ أو كان في وقت النهي أو لأنه عنده كان ندبا كما روى عن غير واحد من الصحابة منهم سلمان أنه مر بقوم قد قرأ واسجد فقيل ألا تسجد إنا لم نقعد لها ومنهم عبد الله بن الزبير قرأ السجدة فلم يسجد فسجد الحارث ثم قال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تسجد إذ قرأت فقال إني إذا كنت في صلاة سجدت.
وإذا احتمل حديث زيد هذه المعاني كما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه من اثبات سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر سجوده فيه بالمدينة أولى منه ومن حديث ابن عباس ولا حجة للشافعي فيما روى عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه لا سجود في شيء من المفصل استدلالا بأنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أمرت أن أقرأ عليك القرآن" قال: قلت: سماني لك ربك؟ قال: نعم, فقرأ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} الآية.
وفي رواية فقرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيكون هو أعرف بحال ما فيه سجود وما لا سجود فيه قال ابن أبي عمران هذا كلام فاسد لأنه يعارض ما روى عن ابن مسعود حضر عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبرئيل في كل عام مرة وفي عام الوفاة مرتين فعلم ما نسخ منه وما تقرر عليه وأبي لم يقرأ عليه إلا سورة واحدة لا سجود فيها أو آية واحدة ويجوز اطلاق القرآن على آية أو سورة قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} والمسموع بعض القرآن وكذا المقروء بلا خلاف.

(1/85)


في فضل الجمعة
روى عن سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما يوم الجمعة؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "أتدرون ما يوم الجمعة؟ " قلت: الله ورسوله أعلم, قال: قلت في الثانية أو الرابعة هو الذي جمع فيه أبوك وأبوكم قال: "لكني أخبرك بخير يوم الجمعة ما من مسلم يتطهر ثم يمشي إلى المسجد ثم ينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت كفارة ما بينه وبين الجمعة التي قبلها ما اجتنبت المقتلة" فيه حض على الانصات بين الخطبة وبين الصلاة وهو مذهب أبي حنيفة وجماعة وخالفه أكثر أهل العلم منهم أبو يوسف ومحمد فلم يروا بالكلام بين الخطبة وبين الصلاة بأسا لما روى عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينزل عن المنبر وقد أقيمت الصلاة فيعرض له الرجل فيحدثه طويلا ثم يتقدم إلى الصلاة.
فيحتمل أن يكون الحديث الأول على الأفضلية وكثرة الثواب لا على وجوب السكوت كما في حال الخطبة فإنه فرض والكلام فيها لغو لكن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم تسهيلا على الناس وإن كان غيره أفضل منه كما توضأ مرة وإن كان مرتين مرتين أفضل منه وثلاثا ثلاثا أفضل منها فترك الأفضل إعلام منه صلى الله عليه وسلم لأمته أن ذلك مباح لهم غير حرام عليهم فيرتفع التضاد بين الحديثين. وما روى عن ثعلبة بن أبي مالك أن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام وقال إنهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر على المنبر فإذا قام عمر على المنبر لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبته كلتيهما ثم إذا نزل عمر رضي الله عنه عن المنبر وقضى خطبته تكلموا يحتمل أن يكون على التوسعة التي ذكرنا لا على ما سواها وإن كان غير ذلك أفضل منه وأعظم أجرا.

(1/86)


في الاحتباء يوم الجمعة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام

(1/86)


يخطب وروى عن جماعة أنهم كانوا يحتبون والإمام يخطب منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ومثل هذا النهي يبعد أن يخفى على الجماعة فالتوفيق والله أعلم أن النهي محمول على استئناف الحبوة في حال الخطبة لأن في ذلك اشتغالا عن الخطبة بغيرها والصحابة كانوا يحتبون قبلها فيخطب الإمام وهم على ما كانوا عليه من الاحتباء ففعلهم غير الذي نهى عنه.

(1/87)


في التنفل بعد الجمعة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا أو من كان مصليا فليصل قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا".
وروى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الجمعة صلى بعدها ركعتين ثم أربعا يحتمل أن يكون الأمر بالأربع لمن صلى في المسجد وصلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم أربعا في بيته بعد انصرافه من المسجد لما روى أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتين بعد الجمعة فدفعه وقال أتصلي الجمعة أربعا وكان ابن عمر يصليهما في بيته ويقول كذا السنة.
وعن السائب بن يزيد قال: صليت الجمعة مع معاوية فلما فرغت قمت لأتطوع فأخذ بثوبي فقال لا تفعل حتى تتقدم أو تتكلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك ففيه إباحة التنفل بعد الجمعة في المسجد بخلاف حديث ابن عمر فالوجه إن الذي حظره ابن عمر هو التطوع بركعتين هما شكل للجمعة في عدتها فنهى عن فعلها في المكان الذي صلى فيه الجمعة كما أمر من يقصد المسجد لصلاة الصبح أن يصلي ركعتي الفجر في بيته ونهى عن أن يصليهما في المسجد والذي أمر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن يصلي أربعا لأنها من غير شكل الجمعة بعد أن يكون منه الكلام أو تقدم فالحاصل جواز التطوع في المسجد بعد الجمعة بما لا يشبه الجمعة في عددها بعد الكلام أو التقدم والمنع أن يصلي بعدها مثلها في العدد وأمر أن يكون ذلك بعد النصراف عن المسجد فيما سواه من المنازل

(1/87)


وما روى أن عليا رضي الله عنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين أو أربعا فمحمول على أنه كان يقدم الأربع لأنها ليست من شكل الجمعة ثم يصلي الركعتين توفيقا بين الأحاديث فإنه صح عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال قدم علينا عبد الله بن مسعود وكان يصلي بعد الجمعة أربعا والواو لا تفيد الترتيب فإن العرب قد تذكر الشيئين فتقدم بالذكر منهما ما كان مؤخرا في الفعل وفي التنزيل يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وكان من سننه صلى الله عليه وسلم فيمن صلى صلاة من الخمس ثم أراد أن يتطوع بعدها في المسجد الذي صلى فيه أن لا يفعل حتى يتقدم أو يتكلم.

(1/88)


في خطبة العيد
روى عن عبد الله بن السائب قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما صلى قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يرجع فليرجع".
فيه اعلام بالفرق بين خطبة الجمعة والعيد فإن الأولى موعظة قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} فلما كان هو مأمورا بالموعظة كان الجماعة مأمورين بالاستماع إليها والانصات لها ولهذا جعلت الصلاة مضمنة بها لا تجوز إلا بعد تقدمها عليها وخطبة العيد ليست كذلك إنما هي تعليم لوجوب صدقة الفطر ووقت إخراجها وعلى من تجب ولمن تجب وممن تجب وكذا عيد الأضحى تعليم بما يجزي فيها وبوقتها وما أشبه ذلك مما يستغني عنه كثير من الناس إما لعلمهم به أو لعدم الوجوب عليهم فهذا وجه الفرق ألا ترى أن خطب الحج التي هي لتعليم أمر الحج لا اختلاف بين أهل العلم في سعة التخلف عنها وترك الاستماع إليها.

(1/88)


في تكبير الطريق إلى المصلى
عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/88)


أن نلبس أحسن ما نجد وأن نضحي بأسمن ما نجد البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة وأن نظهر التكبير وعلينا السكينة والوقار. فيه الأمر بإظهار التكبير في العيد مطلقا وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتى يوم الأضحى ببغلته فركبها فلم يزل يكبر حتى الجبانة وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى فيكبر ويرفع بذلك صوته حتى يجيء المصلى ولا يخرج حتى تطلع الشمس وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلى وعن ابن الزبير أنه خرج يوم العيد فلم يرهم يكبرون فقال ما لهم لا يكبرون أما والله لإن فعلوا ذلك لقد رايتنا في عسكر ما يرى طرفاه فيكبر فيكبر الذي يليه حتى يرتج العسكر وإن بينكم وبينهم كما بين الأرض السفلى إلى سماء الدنيا.
ففي هذا الحديث عن ابن الزبير في التكبير في الطريق إلى المصلى كما في حديث علي وابن عمر وأبي قتادة رضي الله عنهم فدل ذلك على الحال التي يكون فيها التكبير المأمور بإظهاره في حديث الحسن المذكور وأما قول ابن عباس حين سمع الناس يكبرون ما شأن الناس أيكبر الإمام فقيل لا فقال أمجانين الناس يحتمل أن يكون إنكاره تكبير من قفي المصلى وليس لهم إلا أن يكبر الإمام فهذا من أحسن محامله.
وما روى عن النخعي أنه سئل عن التكبير يوم الفطر فقال: إنما يفعله الحواكون فإسناده غير متصل به لأن علي بن حيي رواه عنه ولم يلقه ولا سمع منه وقد روى عن زيد بن أسلم في {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال التكبير يوم الفطر - وروى عن عطاء أنه سنة فيجب التمسك به وترك خلافه.

(1/89)


في اجتماع عيدين
عن إياس بن رملة قال سمعت معاوية يسأل زيد بن أرقم هل شهدت

(1/89)


مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ , فقال: نعم, قال: فكيف صنع؟ قال: صلى ثم رخص في الجمعة, فقال: "من شاء أن يصلي فليصل" وفي حديث آخر رخص في الجمعة "من شاء أن يجلس فليجلس" استعظم بعض رخصة ترك الجمعة وقد قال تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ولكن المرخصون أهل العوالي الذي منازلهم خارجة عن المدينة ممن ليست لهم جمعة لأنهم في غير مصر وعن علي رضي الله عنه لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ويتحقق أنه لم يقله رأيا بل توقيفا فلا استبعاد حينئذ ثم قيل أهل العوالي كان لهم التخلف عن الجمعة وعن الأعياد وكانوا إذا حضروا الأمصار لصلاة العيد كانوا بموضع على أهله حضور صلاة الجمعة فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس عليهم أن يقيموا به حتى يدخل وقت الجمعة فيجب عليهم الجمعة كما تجب على أهل ذلك الموضع وجعل لهم أن يقيموا به اختيارا حتى يصلوا فيه الجمعة أو ينصرفوا عنه إلى أماكنهم التي تجب عليهم الجمعة فيها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليهوآله وسلم في يوم فقال أيما شئتم أجزأكم فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بذلك قبل يوم العيد ليفعلوا في يوم العيد وقد روى هذا الحديث بألفاظ أدل على هذا المعنى من الحديث وهو ما روى عن ذكوان قال: اجتمع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عيدان فقال: "إنكم قد أصبتم خيرا وذكروا أنا مجتمعون فمن شاء أن يجمع فليجمع ومن شاء أن يرجع فليرجع" ففيه ما يكشف عن المعنى الذي ذكرنا أولا وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان أمر أهل العوالي بمثل ذلك في يوم اجتمع فيه عيدان في خلافته.
روى أن عبيد قال: شهدت العيد مع عثمان في يوم جمعة فصلى ثم انصرف فخطب فقال: إنه قد اجتمع لكم عيدان في يومكم هذا فمن أحب من أهل العاليه أن ينتظر الجمعة فلينتظر ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له وهذا يؤيد ما حملنا عليه.

(1/90)


في صلاة السكران
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أقيمت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران فيه أنهم نهوا وفيهم بقية عقل يعلمون به ما نهوا عنه فالسكران ليس هو الذي لا يعقل الأرض من السماء ولا المرأة من الرجل كما كان أبو حنيفة يقول ذلك ولكنه يخلط من أجل السكر الذي صار من أهله كما قاله أبو يوسف يدل عليه قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} نزلت فيمن خلط في صلاته وقد شرب الخمر قبل تحريمها وكذا ما روى من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ماعز لما اعترف بالزنا بقوله: "هل تنكرون من عقله شيئا؟ " فقالوا: ما نرى به بأسا ولا ننكر من عقله شيئا ولم يخص شيئا مما ينكر فيه من عقله من سكر ومن غيره دال أنه إذا أنكر من عقله شيء خرج بذلك من أحكام من يقبل إقراره إلى من سواهم ممن لا يقبل اقراره كالمجنون وروى أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماعز أبه جنون فقال لا فسأله أشربت خمرا فقام رجل فاستنكهه فلم يجد فيه ريح خمر فقال صلى الله عليه وسلم: "أثيب أنت؟ " فقال: نعم فأمر به فرجم ففيه أن السكر يمنع اقراره بالزنا في وجوب الحد عليه وإن السكر الذي معه التخليط الذي لا يملكه من نفسه داخل في أحكام من معه التخليط بالجنون وروى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ليس للمجنون ولا للسكران طلاق وما روى عن معاوية أنه قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه, وعن على: من طلق أجزنا طلاقه إلا طلاق المعتوه ليس بخلاف لما روى عن عثمان رضي الله عنه: لأن العته قد يكون من الجنون وقد يكون من السكر كما يكون من الجنون ولا وجه لمن فرق بأن السكران أدخل على نفسه السكر بفعله بخلاف

(1/91)


المجنون لأنا رأينا أن أحكام الجنون لا تختلف باختلاف أسبابه فقد يكون سبب جنونه مباشرة فعل أداه إليه كتناول شيء يذهب عقله وقد يكون بسبب لا دخل له فيه ولا فرق في سقوط الفرض عنه وارتفاع العمد في جنايته حتى تكون الدية على عاقلته في الصورتين فكذلك المراعي في ذهاب عقول الأصحاء ذهب عقولهم لا الأسباب التي ذهبت من أجلها فالعلة فالسكر أن ذهاب عقله لا السبب الذي به ذهب عقله فيكون في حكم من لا عقل له بالجنون وغيره ومثله العاجز عن القيام يصلي جالسا سواء كان عجزه بفعله بأن كسرتا ساق نفسه أو بجناية غيره أو بآفة سماوية في أنه لا إعادة عليه وكذلك السكران كالمجنون الذي لم يدخل الجنون على نفسه في طلاقه وأقواله وأفعاله خلافا لأبي حنيفة وأصحابه والشافعي وقال مالك: لو أعلم أنه لم يكن يعقل ما أجزت طلاقه لكنه يلزمه أن لا يطلق بالشك لأن ما علم يقينا لا يرتفع إلا بيقين مثله وكذلك فرائض الله تعالى في عباداتهم كلها وفيما سواها وهو القول عندنا الذي لا يجوز خلافه ولا يسع ذا فهم أن يتقلد غيره.

(1/92)


في ترك الصلوات
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ولم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" فيه أن تارك الصلاة غير مرتد ولا مشرك لأن الله تعالى لا يغفر لمشرك ولا يدخله الجنة {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وما روى: "بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك ترك الصلاة" وأكثر الرواة "بين الكفر" ليس المراد الكفر بالله بل تغطية إيمان تارك الصلاة وستره قال لبيد:
في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني غطى غمامها النجوم ومنه {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} يعني الزراع المغيبون بذرهم في الأرض ومنه "ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا: لم يا رسول الله؟ قال:

(1/92)


"بكفرهن" قالوا: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان" ومنه "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" لم يكن ذلك على الكفر بالله ولكنه على ما غطى إيمانه بقبيح فعله وقد اختلف أهل العلم في تارك الصلاة فجعله بعضهم مرتد أو يستتاب فإن تاب وإلا قتل منهم الشافعي وبعضهم جعله من فاسقي المسلمين أهل الكبائر منهم أبو حنيفة وأصحابه والنظر الصحيح يؤيده لأن الصلاة فرض موقت كالصيام مفروض في وقت بعينه ثم تارك الصوم الفرض غير جاحد لفرضه عليه ليس بكافر ولا مرتد كان مثله مثل ترك الصلاة حتى يخرج وقتها لا يخرج عن الإسلام ولهذا نأمره أن يصلي ولو كان كافرا لأمرناه بالإسلام إذ لا يؤمر كافر بالصلاة حتى يسلم كيف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المفطر عمدا في نهار رمضان بالكفارة وفيها الصيام والصوم لا يصح إلا من المسلم وأيضا لما كان الرجل بالإقرار مسلما قبل أن يأتي الصلاة الصيام كذلك يكون كافر بجحوده ذلك لا بتركه إياه بغير جحود منه له ولا يكون كافرا إلا بترك ما كان به مسلما لا يقال قوله عليه الصلاة والسلام: "من لم يحافظ على الصلوات الخمس كان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي صاحب العظام" يدل على كفر تاركه كفر القوم الذين ذكره معهم لأن جهنم دار العذاب يجمع الكافرين والمنافقين والعاصين من المسلمين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .

(1/93)


في الصلاة بغير طهارة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسئل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فجلد جلدة واحدة فامتلأ عليه قبره نارا فلما ارتفع عنه أفاق قال: علام

(1/93)


جلدتموني؟ قال: إنك صليت بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره فيه" ما يدل على أنه لم يكن كافرا بترك الصلاة حتى خرج وقتها لأنه لو كان كافرا لكان دعاؤه داخلا في قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} .

(1/94)


في ترك الجمعة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه" ففيه أنه بتركه لم يصر كافرا أول مرة ويدل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على أعواد المنبر: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات" أو "ليختمن الله على قلوبهم" أو "ليكونن من الغافلين" ثم التقييد بثلاث مرات على عادة لطف الله ورحمته في تأنيه به ثلاثا ليرجع إليها ويتوب فلا يطبع على قلبه أو يتمادى في تركها ثلاثا فيطبع على قلبه وإن كان قد استحق العقاب بتركه إياها وكذا المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم آمر برجال لا يشهدون الصلاة أن يشعل عليهم بيوتهم نارا" رواه عبد الله بن مسعود صلاة الجمعة بدليل ما روى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مفسرا: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال بيوتهم يتخلفون عن الجمعة" ولأن الله تعالى بين فرض صلاة الجمعة بقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ودل أن السعي إلى الصلاة بقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} فأطلق بعد الصلاة ما كان حظره عليهم قبلها من البيع ولأنه لا يسقط الفرض فيه عن أحد بفعل غيره بخلاف غسل الموتى والصلاة عليهم ودفنهم ولذا لحق الوعيد المتخلفين عنها ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عاقبهم على التخلف باحراق بيتهم نكالا لهم ويحتمل أن يكون ذلك في وقت كانت العقوبات على الذنوب في الأموال كما في أول الإسلام ثم نسخت من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في مانعي الزكاة: "فإنا آخذوها وشطر ماله

(1/94)


غرمة من غرمات ربنا" وقوله في حريسة الجبل: "أن فيها غرم مثليها وجلدات نكال والاجماع" على نسخ ذلك واشكاله وردت العقوبات على ترك ما يفعل من الواجبات وفعل المحرمات إلى الأبدان فقط.

(1/95)


في فوت العصر
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله" معناه كأنما نقص ماله وأهله ومنه {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينقصكم وفيه أيضا ما يدل على أنه لم يكن بذلك كافرا لأن ما نقصه بذهاب إيمانه لو كان كافرا أكثر مما نقصه بذهاب أهله وماله فكان القصر إلى ذكر ذلك لكونه أكثر وعيدا أولى.
ثم اعلم أن في مذهب المعتزلة يصير تارك الصلاة كافرا حقيقة لأن الإيمان في الشريعة فعل جميع فرائض الدين وترك جميع المحظورات فإن الإيمان قد نقل من مقتضى اللغة إلى ذلك وأما من سواهم من القائلين بقتله فليس نفس الترك عندهم كفرا حقيقة وإنما عومل به معاملة الكفار في القتل وعدم توريث ورثته المسلمين منه فهو كافر حكما لا حقيقة ومنهم من قال أنه يقتل حدا فيورث ورثته من المسلمين وهو المختار عندهم فيمن ترك عمدا دون عذر ولا علة ولا جحود فإن جحد فهو كافرا جماعا.

(1/95)


في التخلف عن الجماعة
روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن بها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو اومر ماتين حسنتين لشهد العشاء" وخرج من طرق الصلاة المسكوت عنها هي صلاة العشاء الآخرة والله أعلم بدليل ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله

(1/95)


عليه وسلم أنه أخر العشاء حتى كان ثلث الليل أو قربه ثم دار في الناس وقدرهم عشرون فغضب غضبا شديدا ثم قال: "لو أن رجلا ندب الناس إلى عرق اومر ماتين لأجابوا له وهم يتخلفون عن هذه الصلاة لهممت أن آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أتخلف على أهل هذه الدور الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأضرمها عليهم بالنيران".
فإن قيل: كيف كان هذا الوعيد من الرسول صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجماعة وهي في سائر الصلوات فرض كفاية بقيام البعض يسقط عن الباقين؟ قلنا: كان هذا قبل سقوط الفرض عنهم فكلهم بعد مأمورون بالاجتماع مأخوذون به حتى تقام الصلاة ويؤدى كما ينبغي ومما يحققه ما روى عن ابن أم مكتوم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فرأى في الناس رقة فقال: "إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على رجل يتخلف في بيته عن الصلاة إلا حرقت عليه" فقلت: يا رسول الله بيني وبين المسجد نخلا وشجر أوليس كل حين أقدر على قائد أفأصلي في بيتي فقال: "تسمع الإقامة؟ " قلت: نعم, قال: "فأتها".
وفي رواية: "أليس تسمع النداء فإذا سمعت النداء فامش إليه؟ " فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما أجابه مع ما به من الضرر كالرجل الذي لا يعرف الطريق فلا يسقط عنه بذلك حضور الجماعات فعلم بذلك أنه واجب على المطيقين له وإن ذلك مما يخاطب به جميع أهله قبل سقوط فرضه بقيام البعض وكان الوعيد لما رأى في الناس رقة فلم تكن الجماعة التي حضرت لتلك الصلاة الجماعة المطلوبة لمثلها وروى عن أبي الزبير قال سألت جابرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا شيء لأمرت رجلا يصلي بالناس ثم لحرقت بيوتا على ما فيها" قال جابر إنما قال ذلك من أجل رجل بلغه عنه شيء, فقال: "لئن لم ينته لأحرقن بيته على ما فيه".
ولا ينكر مجيء الوعيد عاما لأجل ما بلغه عن رجل واحد لأن دأبه

(1/96)


صلى الله عليه على ما جبل عليه من الخلق العظيم عدم مخاطبة من صدر منه هفوة وبلغته وكان إذا بلغه عن أحد شيء يقول ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا ولا يقول ما بال فلان لئلا يلحقه في ذلك ما يبغضه عند غيره بل يحصل الانزجار عما كان منه بوقوفه ودخوله في العموم روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا رخص فيه فتركه قوم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني أعلمهم بالله وأشهدهم له خشية" ولا يستبعد إضافة ما كان من الواحد إلى الجماعة لأنه جاء بمثله القرآن وهو قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} وإنما قاله عبد الله بن أبي فإن زيد بن أرقم شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه سمع عبد الله يقول في غزوة بني المصطلق لئن رجعنا إلى قوله الأذل فجاء عبد الله فاعتذر وحلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبت الأنصار زيد فأنزل الله تعالى: {يَقُولُونَ} الآية تصديقا لقول زيد فدعا زيد بن أرقم وهو في منزله فأخذ بيده وقال هذا الذي أوفى الله بإذنه يقول بما سمع فأضاف الله تعالى القول إلى الجماعة وإن كان المتكلم واحدا إذ كانوا لم يردوه عليه وكذا الذي تخلف في بيته قد وقف عليه بعض جيرانه فلم ينكروا عليه ماكان منه فكانوا مثله وإن كانوا لم يتخلفوا بأنفسهم فلذلك عمهم جميعا بالوعيد في الحديث الذي ذكرناه.

(1/97)


في فضيلة الجماعة
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا أنه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا" والمعنى أن الله تعالى جعل

(1/97)


لصلاة الجماعة من الفضل أولا على صلاة الفذ خمسا وعشرين ثم زاد اله في فضلها جزئين آخرين فضلا منه ورحمة وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيتم لو كان بفناء أحدكم نهر يجري فيغتسل منه كل يوم خمس مرار ما كان مبقيا من درنه؟ " قالوا: لا شيء قال: "فإن الصلوات تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن" تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم محو الذنوب بالصلوات بغسل الماء الدرن يدل على استعمال تشبيه الأشياء بغيرها من أمثالها ومن ذلك تضمين المتلفات بأمثالها إن كان لها مثل وبقيمتها إن لم يكن لها مثل واستعمال تشبيهها بأجناسها من الأشياء التي هي منها.

(1/98)


في صون المساجد
عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" ولا يقال: أنه صح أنه اعتكف وضرب له خباء فيه وأخبية لمن اعتكف معه من نسائه وفي ذلك استعماله لغير ما ذكر لأن الاعتكاف سبب لذكر الله على الدوام فيكون داخلا فيما ذكر والمعتكف محتاج إلى ما يكنه من الحر والبرد والأخبية كانت تحجب أمهات المؤمنين عن الناس وتهيئ لهن ما يحتجن إليه مما لا بد منه من طعام وشراب ولم يكن ما فعل بقاطع للناس عن الصلاة في بقية المسجد وما روى من ضرب قبة في المسجد لسعد بن معاذ يحتمل أن يكون أراد بذلك صلى الله عليه وسلم زيادة فضل لسعد بأن لا ينقطع عن الصلاة في مسجده بما أصابه مع قربه من عيادته والوقوف على أحواله وفي ذلك أيضا موافقة الحديث الأول.

(1/98)


فيمن نام حتى أصبح
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي ينام من أول الليل إلى آخره قال: "ذلك الذي بال الشيطان في أذنه"

(1/98)


وروى عنه ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقلت أن فلانا نام الليلة حتى أصبح ولم يصل فقال: "ذلك رجل بال الشيطان في أذنه" أو أذنيه وسبب بول الشيطان في أذنه هو تضييع فرض العشاء وفعل مكروه النوم قبلها ومخالفة ربه وإطاعة شيطانه وهو كناية عن ما ألقى في أذنه من ثقل النوم والعرب تسمي ذلك ضربا على أنه ومنه قول الله تعالى {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} وأضيف الفعل هنا إلى الشيطان لأنه مما يرضاه كقوله صلى الله عليه وسلم: "يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد" الحديث لا يريد بذلك حقيقة العقد التي يعقدها بنو آدم وإنما هو على الاستعارة لأن العقد التي يعقدها بني آدم تمنع من يعقدونها من التصرف فيما يحاول التصرف فيه فكان مثله ما يفعل الشيطان بالنائم يمنع النائم من قيامه إلى ما ينبغي أن يقوم إليه من ذكر الله والصلاة ومعنى بال أي فعل به أقبح ما يفعل بالنوام.

(1/99)


في الإراحة بالصلاة
عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار فحضرت الصلاة فقال: يا جارية ائتيني بوضوء لعلي أتوضأ فأستريح فكأنه رآنا أنكرنا ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة" لا يتوهم أن فيه طلب الاراحة من الصلاة وإنما فيه أن يراح بالصلاة من غيرها إذا الصلاة قرة عينه فأمر أن يراح بها مما ليس بمنزلتها إذ لا شيء عنده صلى الله عليه وسلم مثلها يشتغل به عنها.

(1/99)


في الصلاة الوسطى
عن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كل واحدة منهما أمرت كاتب المصحف لها أن يزيد فيه وصلاة العصر عند قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وذكرت أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فيه أنه نسخ من القرآن وأعيد إلى السنة والدليل عليه ما روى عن البراء ابن

(1/99)


عازب رضي الله عنه قال: نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ثم نسخ فأنزل {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وكذلك كل ما روى من القرآن ولا نجده في مصاحفنا فهو مما كان قرأنا ونسخ فأخرج من القرآن وأعيد إلى السنة فصار منها قال القاضي: فيحتمل أنهما أمرتا الكاتب لأنهما لم يتعلما نسخ ذلك أو أمرتا بالكتابة على أنه سنة لا على أنه قرآن والله أعلم.

(1/100)


في حمل المصلى صغيرة
عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها وله طرق كثيرة في بعضها سمعت أبا قتادة يقول بين نحن جلوس في المسجد ننتظر الصلاة فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه ابنة ابنته أمامة ابنة أبي العاص وأمها زينب فكبر وهي على عاتقه فلما ركع وضعها بالأرض فلما قام أعادها على عاتقه حتى قضى صلاته وهو يفعل ذلك.
فيه جواز مثل هذا الحمل والوضع لأمته أيضا ولكن بإجماع الفقهاء لا يجوز فعله وأهل العلم لا يجتمعون على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثبوت نسخ ذلك لأنهم مأمونون على ما فعلوا كما كانوا مأمونين على ما رووا وقد كانت أشياء فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته لا يصلح للناس فعلها في صلاتهم فمن ذلك مده يده لأخذ العنقود الذي رآه من الجنة وهو يصلي وما كان منه في إبليس وهو يصلي على ما روى أبو الدرداء أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك" ثم قال: "ألعنك بلعن الله عز وجل" ثلاثا ثم بسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ قالوا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك وبسطت يدك. فقال: "إن

(1/100)


عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي" الحديث ولا خلاف بين أهل العلم أنه لا ينبغي للمصلي أن يفعل مثل هذا في صلاته فعقلنا أن هذه الأشياء من الأقوال والأفعال كانت مباحة ثم نسخت يؤيده ما روى عن جابر رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى قوما يصلون وقد رفعوا أيديهم فقال: "ما لي أراكم ترفعون أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في صلاتكم" وأبين من ذلك ما روى عن زيد بن أرقم قال كنا نكلم في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت والقنوت هو الخشوع والإقبال على ما فيه القانت غير متشاغل عنه بغيره من فعل أو قول وذلك جرى عليه عمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي قد أخبر أن الله تعالى لن يجمعهم على ضلالة وفيما ذكرنا من هذا كفاية.

(1/101)


في تشبيك الأصابع
عن أبي ثمامة لقيت كعب بن عجرة وأنا أريد الجمعة وقد شبكت بين أصابعي ففرق بينهما وقال: أنا نهينا أن يشبك أحدنا أصابعه في الصلاة قلت إني لست في الصلاة قال ألست قد توضأت وأنت تريد الجمعة قال قلت بلى قال فأنت في صلاة وعن كعب بن عجرة قال صلى الله عليه وسلم: "لا يتطهر رجل في بيته يريد الصلاة إلا كان في صلاة حتى يقضي صلاته فلا يخالف بين أصابع يديه في الصلاة" وروى عنه ايضا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا توضأ أحدكم وخرج يريد المسجد فهو في صلاة ما لم يشبك بين أصابعه" وروى عنه قال يا كعب بن عجرة إذا توضأت فأحسنت الوضوء ثم خرجت إلى الصلاة فلا تشبك بين أصابعك فإنك في صلاة وروى عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من شبك بين أصابعه في المسجد فليتوضأ".

(1/101)


ففي هذه الآثار النهي عن تشبيك الأصابع في طريقه إلى الصلاة ففهم بذلك أن مريد الصلاة في حكم من هو فيها إلا ما أباح الله تعالى له من النطق ومن المشي إليها دون أن يتجاوز ذلك إلى السعي يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" والأمر بالسكينة في الاتيان إلى الصلاة هو معنى ما في حديث كعب من النهي عن التشبيك في حال الإرادة لها كالنهي لمن قد دخل فيها.

(1/102)


في انتظار الإمام من يجيء بعد شروعه فيها
روى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وفيمن تنحنح له وهو يصلي فانتظر المتنحنح أن صلاته فاسدة قال: وأخشى عليه أي بأن يكون قد عمل بعض صلاته لغير الله فيكون بذلك كافرا وقد وجدنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدفع هذا القول وهو ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه سمع صوت صبي وهو في الصلاة فخفف.
فإن قيل لا حجة فيه لأنه من كلام أبي هريرة بناء على ظنه أن التخفيف كان من أجله يؤيده قول أنس سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاء صبي وهو في الصلاة فظننا أنه خفف رحمة لبكاء الصبي إذ علم أن أمه معه في الصلاة قلنا روى عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشى وهو حامل أحد ابنيه الحسن أو الحسين فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع الغلام عند قدمه اليمنى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي: فرفعت رأسي بين الناس فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وإذا الغلام راكب ظهره فعدت وسجدت فلما صلى قالوا: يا رسول الله إنك قد سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها أشيء أمرت به أم كان يوحى إليك؟ قال: "كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته مني" فلم يكن

(1/102)


انتظاره ابنه حتى يقضي حاجته منه مفسدة صلاته ولا مخرجا له عنها فدل أن مثل هذا لحاجة دعت أو لضرورة حلت غير مفسد ولا مكروه من المصلي وكيف يفسدها وهو أخف من قتل الحية والعقرب في الصلاة وقد أطلق ذلك للمصلي فمثل ذلك من انتظر غيره ليدخل فيها وليدرك من فضلها ما قد طلبه من إتيانها والحق أن عند أبي حنيفة يكره هذا الفعل ولا يفسد لأن غيره ممن سبقه إليها أولى بأن يفعل معه ما يتبع فيه إمامه ممن قصر من إتيانها وأبطأ فيه وهو مذهب مالك ومعنى قول الشافعي واستعمال ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وجهه على ما لا زيادة فيه من المتنحنح له تضر من خلفه في صلاته التي قد سبق إليها وتحرم بها ونقول لا بأس بفعل ذلك إذا كان لا ضرر فيه على المصلين معه ولا يكون بفعله يسمى متشاغلا بخلاف صلاته ويكون في إصلاحه إصلاح صلاة غيره كما يكون في إصلاحه إياها لنفسه من التقدم من صف إلى صف ليسد الخلل الذي فيه روى عن خيثمة بن عبد الرحمن أنه قال صليت إلى جنب ابن عمر فرأى في الصف خللا فجعل يغمزني أن أتقدم ويمنعني من التقدم الضن بمكاني إذا جلس أن أبعد منه فلما رأى ذلك تقدم هو فإذا كان هذا مباحا للمصلي في أمر نفسه كان مباحا منه لغيره مما يكون في فعله إصلاح لصلاته.

(1/103)


في البداءة بالعشاء قبل العشاء
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء" هذا مخصوص بالصائم دون من سواه روى ابن شهاب عن أنس سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم". دل هذا على أن المقصود من المخاطبين الصوام وقال الشافعي رحمه الله: هذا ترخيص عام في التخلف عن الجماعة لكل ذي حاجة كالحاقن يحتاج إلي

(1/103)


تجديد وضوء وقد أقيمت الصلاة فيرخص في ترك الجماعة وتجديد الوضوء لأن صلاة من يدافع الأخبثين منهي عنها وكذا حضور العشاء لمن له توقان إلى طعام يشغله عن الاقبال إليها ويحمله على العجلة عن الاكمال صائما كان أو غيره قال صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان الغائط والبول.
قال القاضي: فالحق أن الأمر بالابتداء بالعشاء ليس على إطلاقه وإنما معناه عند حاجته إلى الطعام صائما كان أو غير صائم لكن طعامهم ما كان على مقدار طعامنا اليوم في الكثرة بل على القصد والقناعة بما فيه البلغة فيبتدئ المحتاج بقدر ما يدفع توقانه ويتفرغ قلبه للاقبال على صلاته وإتمامها.

(1/104)