المعتصر
من المختصر من مشكل الآثار كتاب جامع مما ليس
في المؤطا
في النهي عن اتخاذ الدواب كراسي
...
كتاب جامع مما ليس في الموطأ
في النهي عن اتخاذ الدواب كراسي
عن أبي هريرة مرفوعا "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر فإن الله إنما
سخرها لكم ليبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس وجعل لكم الأرض
فعليها فاقضوا حوائجكم" وعن سهل عن أبيه مرفوعا أنه قال: "اركبوا هذه
الدواب سالمة وابتدعوها ولا تتخذوها كراسي" وليس النهى مخالفا لجلوسه صلى
الله عليه وسلم على ظهر ناقته للخطبة عليها بعرفة يوم عرفة ويوم النحر بمنى
لأن النهى إنما هو للحديث الذي لا حاجة به فيه إلى ذلك وجلوسه على ظهر
ناقته للحاجة إلى استماع أمره ونهيه وتبليغ دينه وشرعه والأرض ليس كالظهر
في هذا فافترقا.
(2/244)
في مفاصل الإنسان
روي مرفوعا أن ابن آدم خلق على ثلاث مائة وستين مفصلا فإذا كبر الله وهلله
وحمده واستغفره وسبحه وعزل العظم والحجر والشوك عن الطريق وأمر بالمعروف
ونهي عن المنكر عدد ذلك ثلاث مائة قال الطحاوي: وأراه سقط من الحديث وستين
أمسى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار، قال: وهذا من معنى ما روى أنه قال صلى
الله عليه وسلم: "كتب الله على كل عضو حظه من الزنا فالعين تزنى وزناها
النظر واللسان يزنى وزناه الكلام واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني
وزناها المشي والسمع يزني وزناه الاستماع ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه"،
فكما كانت الأعضاء كلها معمومة بالأمر المذموم فكذلك هي معمومة بالأمر
المحمود وعن بريدة سمعت النبي صلى الله
(2/244)
عليه وسلم يقول: "في الإنسان ستين وثلاث
مائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه صدقة" قالوا: ومن يطيق ذلك يا
رسول الله؟ قال: "النخاعة في المسجد تدفنها والشيء تنحيه عن الطريق فإن لم
تقدر على ذلك فركعتا الضحى تجزيك"، فعلم أن بالحديث الأول هو الصدقة على كل
مفصل من تلك المفاصل بما ذكر في هذا الحديث ويؤيده حديث الزنا.
(2/245)
في جري الشيطان مجرى الدم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به رجل وهو مع إحدى نسائه فدعاه
فقال: "يا فلان إنها زوجتي فلانة" فقال: يا رسول الله بمن كنت أظن فإني لم
أكن أظن بك فقال صلى الله عليه وسلم: "أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم"، يحتمل دخوله صلى الله عليه وسلم في عموم ابن آدم ويحتمل خروجه منه
لكن ارتفع الاحتمال بما روى ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه
من الجن فقيل: وإياك قال: وإياي ولكن الله عز وجل أعاني عليه فأسلم فلا
يأمرني إلا بخير وما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه يقول:
"بسم الله وضعت جنبي اللهم أغفر ذنبي واخسأ شيطاني وفك رهاني وثقل ميزاني
واجعلني في الندى الأعلى"، كان قبل أن يسلم شيطانه.
(2/245)
في التحدث عن بني إسرائيل
عن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو
آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، أي لا حرج في ترك الحديث عنهم فأباح
الحديث ليعلم ما كان فيهم من العجائب لأن الأنبياء كانت تسوسهم كلما مات
نبي قام نبي ليتعظوا ورفع الحرج عنهم في تركه بخلاف التحدث عنه صلى الله
عليه وسلم لأنهم مأمورون بالتبليغ عنه فلهذا قال: "بلغوا عني ولو آية".
(2/245)
في فضل بناته صلى
الله عليه وسلم
عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة خرجت
ابنته من مكة مع بني كنانة فخرجوا في أثرها فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل
يطعن بعيرها حتى صرعها فألقت ما في بطنها وأهريقت دما فانطلق بها واشتجر
فيها بنو هاشم وبنوا أمية فقالت: بنوا أمية نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم
أبي العاص بن ربيعة فكانت تقول هند هذا في سبب أبيك فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتجئ بزينب" قال: بلى يا رسول
الله قال: "فخذ خاتمي هذا فأعطها إياه" قال: فانطلق زيد فلم يزل يلطف ويبرك
بعيره حتى لقى راعيا فقال: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص بن ربيعة قال: فلمن
هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد فساق معه شيئا ثم قال: هل لك أن أعطيك شيئا
تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل
غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: وأين
تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فقال لها:
أركبي بين يدي قالت: لا ولكن اركب أنت فركب وركبت وراءه حتى أتت النبي صلى
الله عليه وسلم فكان النبي عليه السلام يقول: "هي أفضل بناتي أصيبت بي"
فبلغ ذلك علي بن حسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تنقص فيه حق
فاطمة فقال عروة بن الزبير: ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأنتقص
فاطمة في حق هو لها وأما بعد فلك علي أن لا أحدث به أحدا.
وإنما بعث زيد بن حارثة إلى زينب وهو ليس بمحرم لها لأنه كان حينئذ في
تبنيه قبل أن ينسخ حكمه بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِنْ رِجَالِكُمْ} وأما تفضيل زينب على سائر بناته فإن ذلك كان ولا ابنة له
يومئذ تستحق الفضيلة غيرها لما كانت عليه من الإيمان والاتباع ولما نزل في
بدنها من أجله ثم بعد ما أقر الله تعالى عينه بفاطمة من توفيقه إياها
للأعمال الزاكية وما وهب لها من
(2/246)
الولد الذي صاروا له ولدا وغير ذلك مما لم
يشركها فيه أحد من بناته سواها وكانت في وقت استحقاق زينب الفضيلة صغيرة
ممن لا يجري لها ثواب بطاعاتها ولا عقاب بخلافها ثم بلغت بعد وسادت بما
فضلها الله أفضل الله أفضل من زينب وغيرها وفي تفضيلها آثار كثيرة.
منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يعودها فقال: "أي بنية
كيف تجدك"؟ قالت: والله يا رسول الله إني لوجعة وأنه ليزيدني وجعا إلى وجعي
أنه ليس عندي ما آكل فبكى صلى الله عليه وسلم وبكت فاطمة وبكى معهما عمران
بن حصين فقال لها: "أي بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين" قالت:
يا ليتها كانت وأين مريم بنت عمران فقال لها: "أي بنية إنها سيدة نساء
عالمها وأنت سيدة نساء عالمك والذي نفسي بيده لقد زوجتك سيدا في الدنيا
وسيدا في الآخرة ولا يبغضه إلا منافق".
ومنها عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط أربعة خطوط ثم قال:
"أتدرون ما هذا"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة
بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"
فإن قيل: روى كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية وفضل
عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام قيل: يحتمل أن يكون هذا قبل
بلوغ فاطمة الرتبة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم فلا تضاد.
(2/247)
في اسم الله الأعظم
روى ابن بريدة عن أبيه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني
أسألك بأنك أحد صمد لم تتخذ صاحبة ولا ولدا" فقال: لقد سأل الله باسمه الذي
إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى.
وعن أنس مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي وهو يقول: اللهم لك
الحمد لا إله إلا أنت يا منان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام
فقال لنفر من أصحابه: "أتدرون ما دعا به الرجل" قالوا: الله ورسوله
(2/247)
أعلم قال: "دعا ربه باسمه الأعظم الذي إذا
دعى به أجاب وإذا سأل به أعطى"، فهذه الآثار توافقت على أن اسم الله الأعظم
هو الله وهو مذهب أبي حنيفة وهو غير مشتق لا يقال: قدر روي أبو أمامة يرفعه
أن اسم الله الأعظم في سور ثلاث البقرة وآل عمران وطه فنظروا فوجدوا فيها
آية الكرسي وفي آل عمران {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ} وفي طه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} لأن هذه
الآيات فيها اسم الله فلم يكن مخالفا لما رويناه بحمد الله والذي في طه قد
يجوز أن يكون الحي القيوم هو الاسم الأعظم ويحتمل أن يكون اسم الله فيها في
قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فيرجع ما في طه إلى ما في البقرة وآل عمران أنه
الله عز وجل.
وعن أسماء سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: "أن في هاتين الآيتين
اسم الله الأعظم {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ} " فكان في هذا الحديث بيان موضع اسم الله من سورة البقرة ومن
سورة آل عمران فليس في إحداهما ذكر الحي القيوم وفيهما جميعا الله عز وجل
فكان في ذلك ما يجب أن يقل أن الذي في سورة طه هو ذلك أيضا وكان فيه موافقة
لمذهب أبي حنيفة لأن قولهم: اللهم أصله يا الله فحذفت ياء وزيدت الميم.
(2/248)
في قو ضعفي
روي مرفوعا قال في الدعاء الذي علمه بريدة الأسلمى: "اللهم إني ضعيف فقو في
رضاك ضعفي" أي: قوما ضعف مني لان الضعف لا يقوم بنفسه ولا يرجع قوة أبدا.
(2/248)
في تكوير الشمس
والقمر
روي مرفوعا أن الشمس والقمر نوران1 يكوران في النار يوم
__________
1 هكذا في الأصل بالنون وفي مجمع بحار الأنوار يجاء بالشمس والقمر ثورين
يكوران في النار أي يلفان ويجمعان ويلقيان فيها ويروى بنون وهو تصحيف- ح.
(2/248)
القيامة أي أنهما يكونان في النار ليعذب
أهل النار بهما لا ليعذبا بالنار بغير ذنب وروى أنهما عقيران وليس العقر
عقوبة لهما وإنما هي استعارة وذلك أنهما كانا يسبحان في الفلك الذي كانا
فيه ثم أعادهما الله موكلين بالنار يوم القيامة فقطعهما عما كانا فيه من
السباحة فصارا كالرميين بالعقر لا على معنى عقرهما.
(2/249)
في التحلل من
المظالم
روي أبو هريرة مرفوعا "من كانت له مظلمة من أخيه من عرضه وماله فليتحلله من
قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه
بقدر مظلمته وإلا أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه" هذا في عقوبة المال أما
ما يجب به عقوبة البدن فالقصاص على بدنه لأنه قائم فيؤخذ بما يجب عليه فيه
من جزاء أو أدب يؤيده ما روى مرفوعا من قذف مملوكه بزنا بريئا مما قاله له
أقام عليه يوم القيامة حدا إلا أن يكون كما قال.
(2/249)
في قوله زعموا
روى مرفوعا بئس مطية الرجل زعموا لم تجئ هذه الكلمة في القرآن إلا في
الأخبار عن قوم مذمومين بأشياء مذمومة فكره للناس لزوم أخلاق المذمومين في
أخلاقهم الكافرين في أديانهم الكاذبين في أقوالهم لأن الأولى بهم لزوم
أخلاق المؤمنين الذين سبقوهم بالإيمان.
(2/249)
في من قتل نفسه
روي مرفوعا "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده في نار جهنم يجأبها في بطنه
في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في
نار جهنم خالدا مخلدا فيها". وروي أن رجلا هاجر إلى المدينة مع الطفيل بن
عمرو فمرض فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل
في منامه في هيئة حسنة ورآه يغطي يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي
بهجرتي إلى نبيه فقال له: أراك تغطي يديك فقال: قيل لي:
(2/249)
لن تصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر"
لا تضاد فيه لأنه يحتمل أن يكون الرجل فعل بنفسه ما فعل على أنه عنده علاج
تبقى له بقية يديه وتسلم نفسه فلم يكن بذلك مذموما كمن خاف أن تذهب نفسه إن
لم يقطعهما فمات فلا إثم عليه وإن لم يقطعهما حتى مات فلا إثم عليه أيضا
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليديه بالغفران إشفاق منه وأعمال الخوف
كدعاء عمران بن الحصين اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما
عمدت وما جهلت وما علمت والخطأ ليس بمؤاخذ به والتخليد المذكور ليس على
ظاهره بل خالدا حتى يخرج بالشفاعة مع سائر المؤمنين المذنبين لأن القتل لا
يحبط إيمانه ولا يبطل أعماله فلابد من مجازاته لقوله تعالى: {وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وجماعة من السلف بإنفاذ الوعيد على قاتل نفسه
عمدا ومنهم من رآه على المشيئة.
(2/250)
في طول اليد بالصدقة
روى عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "تتبعني أطولكن
يدا" فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلا نزال نعمل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش
امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا يدا فعرفنا أنه إنما أراد الصدقة وكانت زينب
صناعة اليد تدبغ وتحرز وتتصدق به في سبيل الله لا يحتاج مع ما عرفته أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم من معنى الحديث إلى تفسيره والله أعلم.
(2/250)
في إنزاء الحمير على الخيل
روى عن علي بن أبي طالب قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة
فركبها فقال علي: لو حملنا الحمير على الخيل كان لنا مثل هذه فقال صلى الله
عليه وسلم: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"، وعنه نهانا النبي صلى الله
عليه وسلم أن نحمل الحمير على البراذين مع ما روى عن ابن عباس ما اختصنا
صلى الله عليه
(2/250)
وسلم بشيء دون الناس إلا بثلاث أسباغ
الوضوء وأن لا نأكل الصدقة وأن لا ننري الحمير على الخيل لا تضاد فيه لأنه
نهى الناس جميعا عن ذلك بقوله: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" أي: قدر
الثواب في ربط الخيل في سبيل الله فيزهدون في ذلك لأن الحمار والبغل لا
ثواب في ارتباطه ولا سهمان لمن غزا عليه وإنما اختص بنو هاشم بالنهي لأن
الخيل كانت فيهم قليلة فأحب أن تكثر فيهم وترغيبا لهم زيادة على سائر الناس
والنهي ندب وإرشاد.
(2/251)
في ما شاء الله وشاء
فلان
روى مرفوعا النهى من قول الأمة ما شاء محمد وأمره إياهم أن يقولوا: ما شاء
الله ثم ما شاء محمد، وفيه آثار كثيرة مع ما في كتاب الله {أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ولم يقل: ثم لوالديك فعلم أن هذا منسوخ بالسنة وكان
مباحا قبل النسخ يعني المتواتر من السنة.
(2/251)
في من سن سنة حسنة
أو سيئة
قوله تعالى: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} الأظهر أنه صلى الله عليه
وسلم قرأها بالنصب لأنه قرأها على الناس إذ حضهم على صلة أرحامهم بالصدقة
بمعنى اتقوا الأرحام أن تقطعوها ومن قرأ بالجر حملها على تساؤلهم بينهم
بالله والرحم ولم تكن التلاوة على التساؤل بل على الحض على التواصل.
عن جرير كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة
عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر فرأيت وجه النبي صلى الله
عليه وسلم قد تغير لما رأى بهم من إضافة ثم دخل بيته ثم خرج فأمر بلال فأذن
وأقام فصلى الظهر ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع
تمره حتى قال: من شق التمرة"، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها
بل قد عجزت ثم تتابع الناس.
(2/251)
حتى رأيت كومين من طعام وثياب ورأيت وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ثم قال: "من سن في الإسلام
سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص من أجورهم شيئا ومن
سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده لا ينقص من
أزوارهم شيئا"، وفي رواية: "كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها وذلك سواء".
وفيه أن لمن سن سنة حسنة من الأجر مثل ما لمن عمل بها وقد ضعفه بعض وقال:
كيف يكون له مثل أجر من عمل بها من بعده ومع العامل من معاناة العمل ما ليس
مع الذي سنها فالمعقول أن يكون في الأجر فوقه واحتج بما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "من سن خيرا فاستن به فله أجره ومن أجور من تبعه
غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به بعده فعليه وزره ومن أوزار
من أتبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا".
واحتج أيضا بما روي عن ابن مسعود يرفعه: لا تقتل نفس ظلما إلا كان علي ابن
آدم الأول كفل منها وهذا كله لا حجة فيه لأن قوله: "من أجور" ومثل أجر
بمعنى واحد ومن صلة كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وحديث
ابن مسعود حجة لنا لأن الكفل المثل قال تعالى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً
سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي: مثل منها وقال تعالى:
{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} يؤيد ما قلنا قوله صلى الله عليه
وسلم: "الدال على الخير كفاعله"، فإذا كان الدال يستحق كالفاعل لمجرد
دلالته كان الذي عمل أولى بذلك ولأن الذي سن دل الناس بعمله عليها ولأن
الثواب فضل من الله تعالى لا يأتي على قياس.
(2/252)
في عمل لا ينقطع بالموت
روى مرفوعا من رواية أبي هريرة: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة:
صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له" لا يعارضه قوله صلى الله عليه
وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده"
(2/252)
لأن السنة المستنة هي من العلم الذي ينتفع
به بعد موته وكذا لا يعارضه ما روى أن العبد يبعث على ما مات عليه لأن حديث
أبي هريرة عمل لم يمت عليه وهذا كان في عمل قطعه عنه الموت فبعث على نيته
كما في المحرم الذي وقع عن بعيره فرض فمات أنه يبعث محرما وكما روى مرفوعا
"ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته
وكان نومه عليه صدقة".
(2/253)
في لو
روي مرفوعا من رواية أبي هريرة: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل
خير أحرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن فاتك شيء فقل قدر الله وماشاء فعل
وإياك ولو فإنها تفتح عمل الشيطان" أعلم أن لو ليست بمكروهة مطلقا هي مباحة
في مواضع منها قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ومنها: ما روى مرفوعا: "مثل الدنيا مثل
أربعة رجل آتاه الله مالا وآتاه علما فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه
الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو أن الله آتاني مثل ما آتى فلانا
لفعلت فيه مثل الذي يفعل فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته
علما فهو يمنعه من حقه وينفقه في الباطل ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما
فهو يقول: لو أن الله أتاني مثل ما آتى فلانا لفعلت مثل ما يفعل" فهما في
الوزر سواء فهي في الأولى مباحة وفي الثاني مكروهة وكذا في قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ثم رد
ذلك بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ}
الآية وهي ههنا مباحة وكذا قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا
مَاتُوا} فهي مكروهة لأن الله تعالى حذر المؤمنين فقال: {لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا} الآية وكذا
في قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لأنه رد عليهم بقوله: {بَلَى قَدْ
جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} فعلم أن فيها مذمومة
وغير مذمومة وكانت العرب تذم لو وتقول احذر لو تريد به قول
(2/253)
الناس لو علمت أن هذا يلحقني لعملت خيرا
وعن سلمان الإيمان بالقدر أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم
يكن ليصيبك ولا تقولن لشيء أصابك لو فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا أو لم يكن
كذا وكذا والله أعلم.
(2/254)
في الحجاب ستر العورة
عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ميمونة قالت:
فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال
صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه" فقلنا: يا رسول الله أليس هو أعمى لا
يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أعمياوان أنتما ألستما
تبصرانه".
وعن عائشة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا
أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية فاقدروا قدر الجارية العربية
الحديثة السن لا تضاد بينهما لأن حديث ميمونة كان بعد نزول الحجاب وهما
بالغتان وحديث عائشة يحتمل أن يكون قبل نزوله أن تكون صغيرة غير مكلفة وكما
يجب حجب الناس عنهن يجب حجبهن عن الناس قيل هذا من خصائص أزواجه صلى الله
عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعتدى عند ابن
أم مكتوم فإنه أعمى لا يبصر تضعين ثيابك"، ولا يعارض حديث عائشة هذا ما روي
عن أنس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما
في الجاهلية فقال: "إن الله قد أبد لكم بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم
النحر"، لأن اللهو في حديثها من جنس ما يحتاج إليه في الحروب فهو لهو محمود
في المسجد وفي غيره والذي في حديث أنس من اللهو الذي لا يقابل بمثله عدو
ولا منفعة فيه للإسلام فهو لهو مذموم، وروى مرفوعا: "لا يحل من اللهو إلا
ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ومن ترك الرمي بعد ما
تعلمه كانت نعمة فكفرها".
روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه، وروى
أنس أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا رجليه في بئرها وبعض
(2/254)
فخذه مكشوف فدخل أبو بكر وعمر وهو على حاله
تلك لم ينتقل عنها حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: "ألا استحي ممن استحيت
منه ملائكة السماء"، ورواية عائشة من طريق آخر أن أبا بكر استأذن على النبي
صلى الله عليه وسلم ورسول الله لابس مرط أم المؤمنين فأذن له فقضى حاجته ثم
خرج ثم استأذن عليه عمر فقضى حاجته ثم خرج فاستأذن عليه عثمان فاستوى جالسا
وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" فلما خرج قالت له عائشة: مالك لم تفزع
لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال: "إن عثمان كثير الحياء ولو أذنت له
على تلك الحال خشيت أن لا يبلغ في حاجته".
قال الطحاوي: الحديثان صحيحان جميعا وكانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
في وقتين مختلفتين أو في مرتين مختلفتين قال في كل واحد من القولين وفيه
اجتماع الفضيلتين لعثمان باستحياء الملائكة منه وبحيائه في نفسه وفي
الحديثين أن الفخذ ليس بعورة وقد روى أن الفخذ عورة جماعة منهم علي بن أبي
طالب وابن عباس ومحمد بن جحش وابن جرهد وأبوه ولما اختلف في حكم الفخذ
نظرنا فوجدنا الفخذ من المرأة عورة لا يحل لذي رحمها المحرم منها ولا لغيره
من الناس سوى زوجها النظر إليه منها كما لا يحل لهم النظر منهم إلى فرجها
وبطنها بخلاف صدرها ورأسها وساقها فإن ذا الرحم المحرم ينظر إليها وإنما
الممنوع الأجانب منها فعقلنا بذلك أن فخذها عورة كفرجها وبطنها لا كرأسها
وساقها وإذا كان كذلك في المرأة كان في الرجل أيضا كذلك فكان فخذه من عورته
ثم نظرنا في الركبة فوجدنا الآثار تدل على أنها ليست بعورة.
عن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو
بكر آخذا من طرف ثوبه حتى ابدى عن ركبته فقال: "أما صاحبكم فقد غامر" فسلم
فقال: أنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، الحديث وعن علي في حديث شار فيه
فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته
ثم
(2/255)
صعد النظر فنظر إلى سرته ثم صعد فنظر إلى
وجهه ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبي- الحديث، وما روى عن أبي موسى الأشعري
أنه قال: لا أعرفن أحدا نظر من جارية إلا إلى ما فوق سرتها وأسفل من ركبتها
لا أعرفن أحدا فعل ذلك إلا عاقبته، ولا يقوله رأيا لأن الوعيد لا مدخل
للرأي فيه يضاد ما روينا آنفا ثم تأملنا فوجدنا الفخذ والساق عضوين موصولين
أحدهما مركب على الآخر وكانا إذا بسطا بدا منهما كالفلكة وهما عظمان أحدهما
في الفخذ والآخر في الساق وتلك الفلكة هي الركبة فكان ما كان منها في الفخذ
له حكمه في كونه عورة وما كان منها في الساق له حكمه في عدم كونه عورة
ولكنه غير مقدور على تفصيله من العظم الذي في الساق ولا على معرفة مقداره
فالأولى أن يحكم له بحكم العورة لا غيرها.
وأما السرة ففي حديث على ما قد دل أنها ليست من العورة وكذلك ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على
وجهه من بين ثدييه ثم على كبده ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
سرة أبي محذورة وهذا أولى مما قاله أبو موسى مع أنه خالفه الحسن بن علي
وابن عمر وأبو هريرة روى أنا أبا هريرة قال للحسن: أدن مني حتى أقبل منك
حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله منك فرفع ثوبه فقبل سرته ولأن
السرة أشبه بالصدر منها بالعورة.
والأقرب إلى الصواب أن ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفخذ هل هو
عورة أو ليس بعورة معناه أنه ليس بعورة يجب سترها كالقبل والدبر وأنه عورة
يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها ولا ينبغي التهاون بذلك في المحافل
والجماعات ولا عند من يستحي من ذوي الأقدار والهيئات فعلى هذا تستعمل
الآثار كلها واستعمالها أولى من طرح بعضها والله أعلم.
وروى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما
نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت
(2/256)
يمينك" قال: قلت: يا رسول الله إذا كان
القوم بعضهم في بعض قال: "فإن استطعت أن لا يراها أحد" قال: قلت: يا رسول
الله إذا كان أحدنا خاليا قال: "فالله أحق أن يستحيا منه من الناس"، مع ما
روي عن عائشة أنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط لا
معارضة بينهما لأنه وإن كان غير محظور إلا أن رتبته العلية الفائقة لجميع
رتب المخلوقات منعته وما روي عن عائشة أنه لما قدم زيد بن حارثة المدينة
فقرع الباب قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا والله ما رأيته
عريانا قبله معناه أن أكثره عريان غير مكشوف العورة لأنه قام يتلقى رجلا
فلا يلقاه وهو مكشوف العورة وإنما رأت عائشة منه ما يجوز أن يراه ذلك الرجل
منه فلا منافاة.
(2/257)
في رفع العلم
روى جبير عن عوف بن مالك الأشجعي نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما
إلى السماء فقال: "هذا أوان يرفع العلم" فقال أنصاري يقال له لبيد: يا رسول
الله يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة" ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى
على ما في أيديهم من كتاب الله تعالى قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث
عوف فقال: صدق عوف ألا أخبرك بأول ذلك؟ يرفع الخشوع حتى لا ترى خاشعا، وبعض
رواة الحديث يقول فيه: وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا وبعضهم
يقول فيه: وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرءه أبناءهم
إلى يوم القيامة وبعضهم يزيد فيه ثم قال: وذهابه بذهاب أوعيته.
قيل: كيف يرفع العلم في زمنه صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي قائم فيه
ليبلغه الناس بعضهم بعضا كما أمروا به فلو رفع العلم في زمنه صلى الله عليه
وسلم ينقطع الإبلاغ لكن الحديث صحيح وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى
وقت
(2/257)
يرفع العلم فيه بعد ذلك الوقت مثل قوله
تعالى: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ليوم لم يجئ بعد
يدل عليه احتجاجه صلى الله عليه وسلم لضلالة أهل الكتابين وعندهم التوراة
والإنجيل وإنما كان ذلك بعد ذهاب أنبيائهم فكذلك ما تواعد به رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمته في هذا الحديث إنما يكون بعد إيابه وبعد ذهاب من تبعه
وخلفه بالرشد والهداية من أصحابه، وقول شداد أول ما يرفع من ذلك الخشوع يدل
عليه لأن الخشوع من صفات الصحابة قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}
الآية فلا يكون إلا بعد انقراضهم والمراد بأوعية العلم العلماء فإن الله
تعالى يقبض العلم بقبض العلماء يؤيده ما روى مرفوعا أنه لا تزال الأمة على
شريعة ما لم يظهر فيهم ثلاث يقبض منهم العلم ويكثر فيهم ولد الخبث ويكثر
فيهم الصقارون وهم قوم تحية بينهم التلاعن عند التلاقي.
(2/258)
في عائشة
روي مرفوعا قال صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "يا أم سلمة لا تؤذيني في
عائشة فوالله ما منكن امرأة ينزل إلي الوحي وأنا في لحافها ليس عائشة"
قالت: فقلت: لا جرم والله لا أوذيك فيها أبدا، لا تضاد بينه وبين حديث توبة
كعب أنها نزلت وهو صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة لأنه يحتمل أن يكون أنزل
عليه ذلك من توبتهم في ليلتها وبينها وهو في غير لحافها.
(2/258)
في نفي شك إبراهيم عليه السلام
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من
إبراهيم عليه السلام إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى ويرحم الله لوطا لقد
كان يأوى إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي"، يعني:
إذا كنا لا نشك فإبراهيم أحق أن لا يشك فالمراد به نفي الشك عنه. قوله:
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بإجابة طلبتي، وقوله: "ويرحم الله لوطا
لقد كان يأوي إلى ركن شديد" لقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}
أي: كقوة أهل الدنيا التي يتناصف بها
(2/258)
بعضهم من بعض {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ
شَدِيدٍ} من أركان الدنيا ومنعة قومه ولهذا ما بعث نبي بعده إلا في ثروة من
قومه وقد كان له من الله الركن الشديد ولكنه ربما أخر عقوبات بعض المذنبين
إذ كان لا يخاف الفوت إلى أن يجئ وقت نزوله في مشيئته كما فعل بآل فرعون
وغيرهم ممن عصى وعاند الرسل وقوله: "ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف
لأجبت الداعي" للاستراحة من السجن ولكنه قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فاسْأَلْهُ} الآية والحق أن ذلك منه كان على التواضع لله أو قبل أن يعلمه
الله تعالى بفضله على جميع الأنبياء والمرسلين.
(2/259)
في النهي عن قوله: خبثت نفسي
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس
أحدكم إذا نام"، الحديث إلى قوله: "وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"، وروي عنه
أنه قال: "لا يقل أحدكم خبثت نفسي وليقل لقست نفسي"، وذلك لأن الخبث هو
الفسق منه قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} فيكره أن يصف
الإنسان نفسه بذلك من غير موجب كترك الصلاة واختيار النوم عليها وروي وإلا
أصبح لقس النفس كسلان واللفظان سواء في اللغة وهي الشراسة وسوء الخلق،
الصحيح الفرق بينهما على ما في الحديث والله أعلم.
(2/259)
في وعد النبي صلى
الله عليه وسلم أم سلمة هدية النجاشي
لما تزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: "إني قد أهديت للنجاشي أواقي
من مسك وحلة وإني لا أراه إلا قد مات ولا أرى الهدية التى أهديت إليها إلا
سترد إلي فإذا أردت فهي لك"، فكان كما قال فلما ردت الهدية أعطى كل امرأة
من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطي الباقي أم سلمة وأعطاها الحلة، قال منكر
هذا الحديث: قد تحقق النبي صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي حتى نعاه
(2/259)
للناس يوم مات فيه وصلى عليه فكيف يقول:
"لا أراه إلا قد مات"، وفيه الوعد بالكل لأم سلمة فكيف يعطيها بعضها وفيه
خلف بعض الوعد وحاشاه من ذلك والجواب أنه يحتمل أن يكون الموعد قبل موته
فلما مات أعلمه الله تعالى بموته فنعاه وصلى عليه ويحتمل أن يكون أنفذ عدته
لأم سلمة فلم تقبلها إلا بإشراك بقية نسائه معها كراهية الاستئثار بها
لجلالة رتبتها وحسن عشرتها كما فعل الأنصار لما أقطع لهم من البحرين قالوا:
لا تفعل حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين.
(2/260)
النهي عن قوله: تعس الشيطان
عن أبي المليح عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعثر بعيري
فقلت: تعس الشيطان فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم
حتى يصير ملء البيت ويقول بقوتي صرفته ولكن قل: بسم الله فإنه يصغر حتى
يصير مثل الذبابة".
وعن عثمان بن أبي العاص قلت: يا رسول الله إن الشيطان يأتيني فيلبس علي
قراءتي فقال: "ذلك يقال له: خنزب فإذا أتاك فأخسئه"، ففعلت فذهب عني، الناس
إنما أمروا بالاستعاذة من الشيطان فيما جعل له سلطان عليهم وهي الوسوسة
لتحبيب الشر وتكريه الخير وانساء ما يذكرون وتذكير ما ينسون وأما إعثار
دوابهم وإهلاك أموالهم فلا سبب له فيها فنهوا عن الدعاء عليه وعند ذلك لأنه
يوهم أن الفعل كان منه ببعيره حتى سقط والواقع بخلافه والتعس السقوط.
(2/260)
في قوله: لا تكون
مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف
جاء عقبة بن مسعود1 إلى علي بن أبي طالب فقال له: يا فريح2
__________
1 كذا والذي في مشكل الاثار 1/61 أبو مسعود عقبة بن عمرو وهو الصواب- ح.
2 في المشكل- يا فريح.
(2/260)
أما أنك تعي الناس فقال: أما أني أخبرهم أن
الآخر فالآخر شر قال: فحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
في المائة قال: سمعته يقول: "لا تكونن مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف" قال:
اخطأت واخطأت في أول فتواك1 إنما قال ذلك لمن هو يومئذ وهل الرجاء والفرح2
إلا بعد المائة، تأول علي ابن أبي طالب بأن المراد فناء ذلك القرن بغير نفي
منه أن يخلفهم قرون إلى يوم القيامة لأن العيان يدفع فناء الناس جميعا لأن
فيه انقراض الدنيا فإن قيل كان في التابعين مخضرمون ممن كان في الجاهلية
وبقي في الإسلام حتى جاوزوا هذه المدة منهم أبو عثمان النهدي قال: أتت علي
ثلاثون ومائة سنة ما من شيء إلا نقص سوى أملي ومنهم سويد بن غفلة توفي وهو
ابن تسع وعشرين ومائة سنة ومنهم زر بن حبيش توفي وهو ابن اثنتين وعشرين
ومائة سنة قد قيل: أن أبا عثمان النهدي توفي وهو ابن أربعين ومائة فالجواب
أن ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون أراد به ممن كان
أتبعه لا ممن سواهم ويحتمل أن يكون وفاة هؤلاء المعمرين في المائة السنة
التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجها وهو أولى ما حمل
عليه3.
__________
1 في المشكل قولك.
2 في المشكل الرخاء والفرج.
3 بل هو الصواب المنصوص في الروايات المبينة.
(2/261)
في الكذب على النبي
صلى الله عليه وسلم
روي مرفوعا: "من كذب علي متعمدا، وجاء من كذب علي مطلقا، وجاء من قال علي
كذبا، وجاء من حدث عني كذبا فليتبوأ مقعده من النار"، ذكر التعمد إنما هو
على التوكيد كما يقال: فعلت كذا بيدي ونظرت إلى كذا بعين وسمعت بأذني لأن
الكذب لا يكون إلا بالتعمد1 وهذا كقوله تعالى:
__________
1 المنصور عند أهل المعاني أن الكذب هو الإخبار بما لا يطابق الواقع وإن
كان المخبر بظنه واقعا وقد جاء استعماله في الأحاديث والآثار في الأخبار
بما خالف الواقع خطا فالصواب أن قوله متعمدا قيد يخرج المخطئ ثم يحمل
المطلق على المقيد- ح.
(2/261)
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} و {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية في أنها لا تكون إلا على التعمد
فلا يكون كاذبا ولا زانيا ولا سارقا ولا محاربا إلا بقصده ذلك وإنما يختلف
العمد وغيره في مثل القتل، وروي: من كذب علي متعمدا ليضل الناس به، وهو
منكر غير صحيح ولو صح فالمراد به التأكيد أيضا مثل قوله تعالى: {فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ} وذكر في سائر المواضع في القرآن بغير ذكره معه هذه
الزيادة والله أعلم والمشيئة في ذكره وتركه1 وروى من حدث علي2 حديثا يرى
أنه كاذب فهو أحد الكاذبين، قال الله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ
مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}
والقول عن الرسل قول على الله والحق هنا كهو في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ} فكل من شهد بظن شهد بغير حق إذا لظن لا يغني من الحق
شيئا فكذا من حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالظن حدث عنه بغير حق فكان
باطلا والباطل كذب فهو أحد الكاذبين عليه الداخلين في قوله: "من كذب علي
فليتبوأ مقعده من النار" ونعوذ بالله من ذلك.
__________
1 عبارة مشكل الآثار 1/175 وذلك عندنا على توكيده حيث شاء أن يؤكد وتركه
ذلك حيث شاء تركه.
2 في مشكل الآثار ج1 ص175- من حدث عني وهو الظاهر- ح.
(2/262)
في السنين الجوادع
روي مرفوعا أن أمام الدجال سنون جوادع يكثر فيها الظن ويقل فيها التثبت
يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق يؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين
وينطق الرويبضة قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال:
(2/262)
"الفوسق يتكلم أمر العامة"، يحتمل أن يكون
لا يؤبه له لحموله لفسقه فلا يمكنه الكلام في أمر العامة ثم يمكنه ذلك في
الدهر المذموم.
(2/263)
في الساعة
عن أنس سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: "ما أعددت
لها؟ " قال: أحب الله ورسوله قال: "أنت مع من أحببت"، وعن عائشة كان
الأعراب يجيئون ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة متى
الساعة؟ فنظر إلى أحدهم فقال: "أن بقي هذا لم يقبله الهرم حتى تقوم عليه
ساعته"، لما سألوا عما قد أخفى الله عنه حقيقته أجابهم بما أجابهم انتهاء
لما أمره به ربه من الانتهاء إليه بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} الآية.
(2/263)
في من أحسن في
الإسلام
روى مرفوعا "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في
الإسلام أخذ بالأول والآخر" أي من أسلم في زمن الإسلام ومن كفر في زمن
الإسلام المراد بالحسنة والسيئة هنا الإسلام والكفر كقوله تعالى: {مَنْ
جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} فلا يضاد ما روي أن الإسلام يجب ما
قبله والهجرة تجب ما قبلها.
(2/263)
في صدق أبي ذر
روي مرفوعا "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر"
أي أنه في أعلى مراتب الصدق فلا ينتفي بذلك أن يكون في الصحابة من هو في
الصدق مثله وإنما ينتفي به أن يكون غيره في مرتبة الصدق أعلى منها.
(2/263)
في الأمر والنهي
روي مرفوعا "إذا نهيتكم عن الشيء فانتهوا عنه وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا
(2/263)
منه ما استطعتم"، المنهيات يمكن تركها لكل
أحد والمأمورات قد يمكن فعلها وقد لا تستطاع فلم يكلفوا إلا بما يطيقونه
منها إذا التكليف بحسب الوسع والطاعة بقدر الطاعة قال عبد الله بن عمر: كنا
إذا بايعنا على السمع والطاعة كان صلى الله عليه وسلم يقول لنا: فيما
استطعتم فهذا هو الفرق بين أمره ونهيه وذلك لأن الأمر بالشيء استدعاء لفعله
وفعل الشيء بعينه قد يعجز عنه فأمر أن يأتي بما استطاع منه والنهي استدعاء
لتركه وتركه بفعل ضده أو أضداده من غير تعيين فلا يتصور العجز عنه.
(2/264)
في كسب الإماء
روي مرفوعا النهي عن كسب الإماء يعني: الكسب المذموم بدليل قوله تعالى:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قيل: هو الصلاح وقيل:
اكتساب المال، وروى أنه نهى كسب الأمة إلا أن يكون لها عمل واصب أو كسب
يعرف، فالمنهي الكسب المذموم لا المحمود فإن قيل: هل يجوز أن يضاف إلى كل
الإكساب ويراد به الخصوص؟ قلنا: إن الأشياء إذا كثرت اعدادها واتسعت جاز أن
يضاف إلى كلها ويراد به بعضها كقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ
وَهُوَ الْحَقُّ} والمراد بعض القوم لا المصدق منهم وكذا قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} والمرد المصدقين منهم لا المكذبين.
(2/264)
في أن الله لا يمل
روي مرفوعا "خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب
الأعمال إلى الله مادام منها وإن قل". يعني: أن الله لا يمل إذا مللتم لأن
الملل ليس من صفاته سبحانه وهذا كما يوصف الرجل بالبراعة والفصاحة فيقال:
أنه لا ينقطع عن خصومه حتى ينقطعوا ليس المراد وصفه بالانقطاع بعد انقطاع
خصومه فكذا هذا يعني: أنكم تملون وتنقطعون والله تعالى بعد مللكم وانقطاعكم
على الحال التي كان عليها قبل ذلك من انتفاء الملل والانقطاع.
(2/264)
في تعبير الظلة في
المنام
عن ابن عباس أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها
بأيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك
أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ
به رجل آخر فانقطع ثم أنه وصل له فعلا قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت
لتدعني فلأعبرنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعبر" قال أبوبكر: أما
الظلة فظلة الإسلام وأما الذي تنطف السمن والعسل فحلاوته ولينه وأما ما
يكتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من
السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه فأخذته فيعليك الله ثم أخذ به رجل من
بعدك فيعلو به ثم يأخذ رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل
له فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" قال: فوالله يا رسول الله لتخبرني
بالذي أخطأت فقال: "لا تقسم". الخطأ في تعبيره هو أن جعل السمن والعسل شيئا
واحدا وهما عند أهل العبارة شيئان مختلفان من أصلين مختلفين يؤيده ما روي
أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى في المنام كان في إحدى أصبعيه عسلا وفي
الأخرى سمنا فكأنه يلعقهما فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: "تقرأ الكتابين التوراة والفرقان" قال: فكان يقرؤهما وقوله: "لا
تقسم" ليس لكراهة القسم لأنه مباح في كتاب الله وعلى لسان رسوله بل لأنه
أقسم عليه وليخبره بحقيقة الخطأ من حقيقة الصواب وذلك غير موكول إليه لأن
العبارة إنما هي بالظن والتحري لا بما سواهما قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} يعني: قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما فكان
تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس أيضا فهذا هو المعنى في
(2/265)
نهيه إياه عن القسم، يؤيده أن أبا بكر
الصديق قد أقسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب إذ عزم
على الخروج للشام فقال له الناس: اتدع عمر يخرج إلى الشام وهو ههنا يكفيك
الشام؟ فقال: أقسمت عليك لما خرجت فلو كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم
إياه عن القسم كراهية اليمين لما أقسم على عمر وكان القسم من الصحابة
مشهورا لا ينكر على من أقسم.
قال القاضي أبو الوليد: سمعت شيخي أن أبا بكر أصاب في تعبيره جميعا وأن
خطأه كان في تقدمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبارة لها
وسؤاله أن يبيح له ذلك وهو تأويل حسن.
(2/266)
في الغرباء
روي مرفوعا "أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء" فقيل: من هم
يا رسول الله؟ فقال: "النزاع من القبائل"، وفي رواية نزاع الناس، وفي بعض
الآثار الذين يصلحون حين يفسد الناس الإسلام طرأ على أشياء ليست من أشكاله
فكان بذلك معها غريبا كما يقال لمن نزل على قوم لا يعرفونه: أنه غريب بينهم
ثم أنه يعود كذلك فيكون من نزع عما عليه الجملة المذمومة إلى ما كانت
الجملة المحمودة غريبا بينهم ومن ذلك ما روي عن ابن العاص أنه قال: ليأتين
على الناس زمان يجتمعون في المساجد وليس فيهم مؤمن.
(2/266)
في أهل البيت
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم
هؤلاء أهلي"، وروي أنه جمع فاطمة والحسن والحسين ثم أدخلهم تحت ثوبه ثم جأر
إلى الله تعالى: رب هؤلاء أهلي قالت أم سلمة: يا رسول الله فتدخلني معهم
قال: "أنت من أهلي" يعني: من أزواجه كما في حديث الإفك: من يعذرني من رجل
بلغني إذاه في أهلى لا أنها أهل
(2/266)
الآية المتلوة في هذا الباب. يؤيده ما روي
عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت في بيتي فقلت: يا رسول الله ألست من أهل
البيت؟ قال: "أنت على خير إنك من أزواج النبي وفي البيت علي وفاطمة والحسن
والحسين".
وما روي أيضا عن واثلة بن الأسقع أنه قال: أتيت عليا فلم أجده فقالت فاطمة:
انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريده قال: فجاء مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فدخلا ودخلت معهما فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن
والحسين وأقعد كل واحد منهما على فخذه وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ثم لف
عليهم ثوبا وأنا منتبذ ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ثم قال:
"اللهم هؤلاء أهلي اللهم هؤلاء أهلي إنهم أهل حق" فقلت: يا رسول الله وأنا
من أهلك؟ قال: "وأنت من أهلي" - قال واثلة: فإنها من أرجى ما نرجو وواثلة
أبعد من أم سلمة لأنه ليس من قريش وأم سلمة موضعها من قريش موضعها فكان
قوله صلى الله عليه وسلم لو اثلة: "أنت من أهلي" لاتباعك إياي وإيمانك بي
وأهل الأنبياء متبعوهم يؤيده قوله تعالى لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فكما حرج ابنه بالخلاف من أهله
فكذلك يدخل المرء في أهله بالموافقة على دينه وإن لم يكن من ذوي نسبته
والكلام لخطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تم عند قوله: {وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} استئناف تشريعا لأهل
البيت وترفيعا لمقدارهم ألا ترى أنه جاء على خطاب المذكر فقال: عنكم ولم
يقل: عنكن فلا حجة لأحد في إدخال الأزواج في هذه الآية، يدل عليه ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح أتى باب فاطمة فقال: "السلام
عليكم أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
(2/267)
في الغول
روي عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له فكانت الغول تجئ فتأخذ فشكا ذلك إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "إذا رأيتها فقل: بسم الله أجيبي رسول
الله" فأخذها فحلفت أن لا تعود فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك"؟ قال: حلف أن لا يعود قال: "كذبت
وهي عائدة" ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا كلما أخذها حلفت أن لا تعود وتكذب
فأخذها فقالت له: إني أعلمك شيئا إذا فعلته لم يقربك شيء آية الكرسي تقرأها
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما فعل أسيرك"؟ فقال: قالت: آية
الكرسي اقرأها فإنه لا يقربك شيء فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت وهي
كذوب"، فيه إثبات الغول وقد روى جابر مرفوعا "لا غول ولا صفر ولا شؤم" ليس
بينهما تضاد لأنه يحتمل أنه كان ثم رفعه الله عن عباده وهذا أولى ما حملت
عليه الآثار المروية في هذا وفيما أشبهه ما وجدنا السبيل إلى ذلك.
(2/268)
في أهل فارس
روي مرفوعا لو كان الإيمان بالثريا أو لو كان الدين بالثريا لنا له أبناء
فارس أولنا له رجال من فارس أو رجال من الفرس، وبعض الرواة قال: رجال من
الأعاجم أو رجال من الفرس على الشك، وروي مثل ذلك في العلم، روي أبو هريرة
ويل للعرب من شر قد اقترب أفلح من كف يده تفرقوا1 يا بني فروخ إلى الذكر
فإن العرب قد أعرضت عنه والله والله إن منكم لرجالا لو أن العلم بالثريا
لنالو هذا على طريق المثل كما يقول الرجل لصاحبه: أنت مني كالثريا يريد في
البعد وأنت نصب عيني يريد في القرب لأن الثريا لا دين ولا إيمان ولا علم
بها ويحتمل أنه لو كان لابد من الوصول إليه بسبب يجعله الله بلطيف حكمته
لمن خلقه للإيمان لأن أهل فارس من أشد الناس طلبا له.
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر- تفرغوا- ح.
(2/268)
في أهل اليمن
روي مرفوعا "أتاكم أهل اليمن هم الين قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يمان
والحكمة يمانية" قيل المراد بهم أهل تهامة وهو قول سفيان بن عيينة ولا يصح
لأن أكثرهم من مضر وروي أنه صلى الله عيه وسلم أشار بيده نحو اليمن فقال:
"الإيمان ههنا ألا وأن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين أصحاب الإبل حيث
يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر"، فدل أن المضاف إليهم الإيمان والحكمة
والفقه أضدادهم الذين ليسوا من ربيعة ولا من مضر.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعيينة بن بدر: "أنا أفرس بالخيل منك"
فقال عيينة: إن تكن أفرس بالخيل فأنا أفرس بالرجال منك قال: وكيف؟ قال: أن
خير رجال لبسوا البرود ووضعوا سيوفهم على عواتقهم وعرضوا الرماح على مناسج
خيولهم رجال نجد فقال صلى الله عليه وسلم: "كذبت بل هم أهل اليمن الإيمان
يمان آل لخم وجذام وعاملة ومأكول حمير"، الحديث.
وروي أيضا أنه قال: "ليأتين أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم
يا رسول الله أقريش؟ قال: "لا أهل اليمن هم أرق أفئدة والين قلوبا" فقلنا:
هم خير منا يا رسول الله؟ فقال: "لو كان لأحد هم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك
مد أحدكم ولا نصيفه وإن فصل ما بيننا وبين الناس هذه الآية {لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} " الآية وفي هذا
ما يدل على خلاف ما ذهب إليه ابن عيينة وقال صلى الله عليه وسلم: "يقدم قوم
هم أرق منكم أفئدة" فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى فجعلوا يرتجزون ويقولون:
غدا نلقي الأحبة ... محمدا وحزبه
فدل على أن أهل اليمن المرادون هم الأشعريون وأمثالهم القادمون من حقيقة
اليمن دون من سواهم.
وروى أن أبا عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله أجد خير منا أسلمنا معك
وجاهدنا معك؟ قال: "نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"،
(2/269)
وعن أبي سعيد الخدري خرجنا مع رسول الله
صلى الله عيه وسلم عام الحديبية فقال: "ليأتين أقوام تحقرون أعمالكم"
الحديث إلى قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ} الآية- وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أمتك خير؟
قال: "أنا واقراني" قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: "ثم القرن الثاني" قال: قلنا:
ثم ماذا؟ قال: "القرن الثالث" قال: قلنا؟ ثم ماذا؟ قال: "ثم يأتي قوم
يشهدون ولا يستشهدون ويحلفون ولا يستحلفون ويؤتمنون ولا يؤدون"، يحتمل أن
يكون المراد بالحديث الأول قوم تقدم إيمانهم وحال بينهم وبين الإتيان إليه
صلى الله عليه وسلم مانع من العدو وغيره ثم أتوه بعد ذلك فلحقوا بمن تقدمهم
في الإتيان إليه وفي القتال معه وكان ذلك قبل الفتح المذكور في الآية
فتساووا جميعا عند التصديق له بظهر الغيب فإنهم فضلوا بذلك من آمن به وكان
معه يرى إقامة الله عز وجل الحجج التي لا يتهيأ لذي فهم إنكارها والخروج
عنها فلا معارضة بينه وبين الحديث الآخرولا خارجا عن الآية المذكورة والله
أعلم غير أن هذا أما بلغه فهمنا منه؟
(2/270)
في أبي بن كعب وزيد
بن ثابت ومعاذ ابن جبل
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: اقرأهم- يعني من أمته- لكتاب
الله أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل،
ليس في هذا الحديث ما يوجب كونهم فوق الخلفاء الراشدين وفوق إجلاء الصحابة
فيما ذكروا به وإنما المعنى إن من جلت رتبته في معنى من المعاني جاز أن
يقال: أنه أفضل الناس في ذلك العنى وإن كان فيهم مثله أو من هو فوقه من ذلك
ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يقتلك أشقاها" يعني:
البرية فقتله عبد الرحمن بن ملجم وكان من أهل التوحيد وأشقى منه المشرك
ولكن لعظيم جرمه وفتكه في الإسلام ما فتكه أطلق عليه الأشقى ومنه ما روي في
وصف الخوارج بالصلاة والصوم ثم قال: "إنهم يمرقون من
(2/270)
الدين مروق السهم من الرمية هم شرار الخلق
والخليقة" مع علمنا أن المشرك وقاتل الأنبياء والقائل بأن له ولدا وصاحبة
شر من هؤلاء وكذلك يجوز إطلاق القول فيمن برع في العلم أنه أعلم الناس وإن
كان لا يعرف جميعا ولا مقدار علومهم.
(2/271)
في سباب المسلم وقتاله
روى مرفوعا "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" الفسوق الخروج عن الأمر المحمود
إلى الأمر المذموم منه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وأما
قتاله ليس بكفر بالله حتى يكون مرتدا ولكنه على تغطية إيمانه واستهلاكه
إياه لأنه بقتله أخاه لا يصير كافرا فبقتاله أولى ومنه قوله: "يكفرن العشير
ويكفرن الإحسان" أي: يغطينه فيسترنه ومنه {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}
ومنه {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ
وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} نزلت في شيء وقع بين الأوس والخزرج إنما كان على معنى
تغطيتهم ما كانوا عليه من الأخوة والائتلاف.
(2/271)
في النملة والنحلة
والهدهد والصرد
روى مرفوعا "أربع من الدواب لا يقتلن النملة والنحلة والهدهد والصرد" وروى
نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع النملة الحديث، وذلك لأن
الهدهد لا يؤكل ولا مضرة منه على الناس فكان قتله عبثا، روى من قتل عصفورة
فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتلها قيل: يا رسول الله وما
حقها؟ قال: "تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها"، وروي ما قتل عصفور
قط عبثا فما فوقه إلا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة فلان قتلني فلا هو
انتفع بي ولا هو تركني فأعيش في حشاراتها. وكذلك قاتل الصرد لا يقدر أن
يجمع من أشكاله ما يتهيأ له ينبسط في أكل لحومها فيعود إلى العبث الموعود
عليه وأما النحلة فقتلها قطع لمنافعها وعدم الانتفاع بها فزاد جرم
(2/271)
قاتلها على جرم قاتل الهدهد والصرد وأما
النملة فلا منفعة معها ولا مضرة وورد أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر
بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم
تسبح.
وروى مرفوعا خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله تعالى فإذا هم بنملة
رافعة بعض قوائمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجعوا فقد استجيب لكم
من أجل هذه النملة". فمن قتل ما هذا سبيله فقد قطع المعنى المحمود منه ودخل
تحت الوعيد المذكور، وروي في النملة إباحة قتلها إذا آذت لما روي نزل نبي
من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فخرج من تحتها فأوحى هلا1
أخذت نملة واحدة، وفي قوله: "أربع لا يقتلن" دليل على أن غيرهن ليس في
معناهن للحصر في العدد وقوله: نهى عن قتل أربع وإن لم يكن فيه حصر لكن
المقصود بالنهي قتلهن فقط حيث لم يعطف عليهن غيرهن.
__________
1 في المشكل ج- 1-373 من تحتها ثم أمر بها فاحرقت في النار فأوحى الله
تعالى إليه فهلا- ح.
(2/272)
في الكبائر
قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية من
فضل الله ونهاية كرمه تكفير السيئات باجتناب الكبائر والوعد بإدخالهم مدخلا
كريما بلا عمل كان منهم فوجب ذلك لهم بوعده وجوده فمن الكبائر ما روي عن
ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال: "أن تجعل لخالقك ندا وقد
خلقك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك" قلت: ثم أي؟ قال:
"أن تزاني حليلة جارك"، ثم نزل القرآن تصديقا له صلى الله عليه وسلم
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} فظهر أن الثلاثة من
الكبائر وأكبرها الشرك ثم قتل الولد ثم المزاناة بحليلة الجار.
وروي عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه
(2/272)
وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال:
"الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "عقوق الوالدين" قال: ثم ماذا؟ قال:
"اليمين الغموس"، فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن
عمرو بن العاص أن الشرك أكبر الكبائر ثم العقوق ثم الغموس فاحتمل أن يكون
قتل الولد وعقوق الوالدين في درجة والغموس ومزاناة حليلة الجار في درجة
تتلوها توفيقا بين الحديثين ويكون أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود
بأحدهما واجبا عبد الله بن عمرو بن العاص بالآخر منهما ومثل هذا من صحيح
الكلام يقال: فلان من أشجع الناس فيقال: ثم من؟ فيقول: فلان لآخر ثم هناك
آخر مثله قد سكت عنه فلم يذكره فلا تضاد.
وروى عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قالوا: بلى قال: "الإشراك بالله وعقوق
الوالدين قال: وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور" - شك
الجريري أحد رواة الحديث- فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت، فكان الذي في
هذا الحديث في الدرجة الأولى من الكبائر كالذي فيها في الحديثين كما يقال:
من أشجع الناس؟ فيقول: فلان وفلان وأحدهما في الشجاعة فوق الآخر.
وروى أبو أمامة عن عبيد الله بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
من أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف
بالله يمين صبر فادخل فيها مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه يوم
القيامة".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع
الموبقات" قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس
المحرمة إلا بالحق وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف الغافلات
المؤمنات"، ولم يذكر غير هذه الستة وسقط فيه السابع وليس في حديث أبي هريرة
تغليظ بعضها على بعض فهي مرتبة على حديث ابن مسعود وابن عمر
(2/273)
وروى أبو أيوب الأنصاري أنه قال: من مات
يعبد الله ولا يشرك به شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويجتنب
الكبائر فله الجنة فسأله رجل ما الكبائر؟ فقال: الإشراك بالله وقتل النفس
التي حرم الله والفرار يوم الزحف.
وسأل رجل من الصحابة يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "تسع أعظمهن الإشراك
بالله وقتل المؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وأكل
الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين واستحلال بيت الله الحرام قبلتكم أمواتا
وأحياء" ثم قال: "لا يموت رجل لم يعمل هذه الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة إلا وافق محمدا صلى الله عليه وسلم في دار محبوبة مصاريعها من ذهب".
وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل
والديه؟ قال: "نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"، وموضعه
موضع العقوق فيما تقدم.
وقد روى أن الكبائر من أول سورة النساء إلى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية وفي هذا زيادة على ما ذكرنا ويحتمل
أن لا تكون كبائر سواها ويحتمل أن تكون سواها لم يطلع الله تعالى عباده
عليها ليكونوا على حذر من الوقع فيها بالاحتراز عن السيئات كلها خوفا من
الوقوع في الكبائر وذلك من نحو ما روى مرفوعا الحلال بين والحرام بين
وبينهما أمور مشتبهات فلم يبينها ليجتنب الشبهات كلها ومن هذا المعنى إبهام
ليلة القدر ليجتهدوا في العمل رجاء موافقتها.
وعن ابن العاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أكبر الذنب- وفي
رواية أن أكبر الكبائر- أن يسب الرجل والديه" قيل: يا رسول الله وكيف يسب
والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"، وهذا يبعد أن
يكون من أكبر الكبائر لأن الشرك أكبر من ذلك.
(2/274)
وعنه جاء أعرابي فقال: يا رسول الله ما
الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين" قال:
ثم ماذا؟ قال: ثم "اليمين الغموس"، وكلا الحديثين بإسناد لا طعن فيه ولا
استرابة بأحد من رواته.
فعاد بذلك أكبر الكبائر الإشراك بالله ثم عقوق الوالدين تاليا للشرك ولكن
قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أكبر من العقوق لا سيما الإبن الذي جعل
الله له من الحق عليه رزقه وكسوته وإن الزنا أكبر من ذلك أيضا لا سيما
الزنا بحليلة الجار فعاد الأمر إلى أن أكبر الذنوب الشرك ثم يتلوه قتل
النفس وإن تفاضلت أحوال المقتولين ثم يتلو ذلك الزنا وإن كان بعضه أشد من
بعض ثم يتلوه عقوق الوالدين ثم شهادة الزور واليمين الغموس والله أعلم.
(2/275)
في ثناء الله على
العبد
روي مرفوعا " إذا رضي الله عن العبد بالأعمال الصالحة أثنى عليه سبعة أضعاف
من الخير لم يعملها" وقال في السخط مثله يعني إذا رضى الله تعالى عن العبد
بأعماله الصالحة يثني عليه سبعة أضعاف من الخير لم يعملها مما قد علم الله
أنه سيعملها في المستقبل وإن كان قد يعمل من الخير في المستأنف أكثر منها
لأنه لم يستوجب الثناء بما لم يعمل بعد فتفضل الله تعالى عليه لمحبته إياه
بأن يثنى عليه من ذلك بالعدد المذكور في الحديث والسخط مثل ذلك.
(2/275)
في القرآن
عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو جعل القرآن في إهاب
ثم ألقى في النار ما احترق"، يحتمل أن يراد بالإهاب قارئه الذي وعاه ويحتمل
الورق الذي يكتب فيه لو ألقى في النار لانتزع الله تعالى منه القرآن تنزيها
له حتى يحترق الإهاب خاليا من القرآن والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
(2/275)
في الريح والرياح
عن القاسم بن سلام ما كان فيها من الرحمة فإنه جماع وما كان من
(2/275)
العذاب فإنه على واحدة والأصل فيه قوله صلى
الله عليه وسلم: "إذا هاجت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" حكاه
أبو عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصل له وكان اللائق بجلالة
قدره أن لا يضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يعرفه أهل العلم
بالحديث عنه وقد ذكر الله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ} فكانت الريح الطيبة رحمة والعاصف عذابا فدل على انتفاء ما رواه
أبو عبيد والله يغفر له.
ومن رواية أبي بن كعب مرفوعا "لا تسبوا الريح إذا رأيتم منها ما تكرهون"
وقولوا: "اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به
ونعوذك من شرها وشر ما فيها وشر ما أمرت به".
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "
اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر
ما فيها وشر ما أرسلت به" وإذا تجلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل
وأدبر فإذا أمطرت سرى عنه فسألته فقال: لعله كما قال قوم عاد {فَلَمَّا
رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية وعن أنس مرفوعا أنه
كان إذا هاجت ريح شديدة قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك من خير
ما أمرت به وأعوذ بك من شر ما أمرت به".
فدل جميع ما روينا أن الريح قد تأتي بالرحمة وقد تأتي بالعذاب وأنه لا فرق
بينهما إلا في الرحمة والعذاب وأنها ريح واحدة لا رياح- وعن وعن ابن عباس
مرفوعا نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور، والصبا ريح واحدة والدبور كذلك
وروى أن رجلا قرأ: وأرسلنا الريح لواقح فقال عاصم: {وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} لو كانت الريح لكانت ملقحة فذكر ذلك للأعمش
(2/276)
فقال: أنه لا تلقح من الرياح إلا الجنوب
فإذا تفرقت صارت رياحا وفيما روينا دليل على أن المختار عند اختلاف القراء
في الريح والرياح الريح لا الرياح.
(2/277)
في الغرف والقباب
...
في الغرق والقباب
روى أن العباس ابتنى غرفة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقها" فقال:
أنا أنفق مثل ثمنها في سبيل الله فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات
ورد العباس عليه ثلاث مرات محمل الكراهة اتخاذ الغرفة التي يستعلى منها على
منازل الناس لقصر منازلهم ويحتمل أن يكون ذلك لكراهية البنيان الذي لا
يحتاج إليه علوا كان أو سفلا.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قبة مشرفة فقال: "ما
هذه"؟ فقال له أصحابه: هذه لرجل من الأنصار فسكت وحملها في نفسه حتى إذا
جاء صاحبها في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب والإعراض
عنه شكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما أدري ما حدث بي وما صنعت قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرأى قبتك فقال: "لمن هي"؟ فأخبرناه فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها
بالأرض فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها فقال: "ما فعلت
القبة التي كانت هنا"؟ فقالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه
فهدمها فقال: "أما أن كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما- إلا ما".
ليس المذموم كل بناء وإنما المراد منه ما بني في ظلم واعتداء يدل عليه قوله
صلى الله عليه وسلم: "من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس في غير
ظلم ولا اعتداء كان أجره جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن"، وهو
المستثنى وما روي في حديث اعتزاله لنسائه صلى الله عليه وسلم أن عمر استأذن
(2/277)
عليه وهو في مشربه له وهي الغرفة الحديث
بطوله إلى قوله ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت اتشبث في الجذع
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ومن رواية أبي
سريحة أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة.
فقال: "ما تذكرون وما تقولون"؟ قال: قلنا: يا رسول الله الساعة قال: "أنها
لن تقوم حتى تروا عشر آيات خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب
ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان والدجال ونزول عيسى ابن مريم وطلوع الشمس من
مغربها ونارا تخرج من قعر عدن تقيل إذا قالوا وتروح معهم إذ راحوا"، وخرجه
من طرق لا يضاد ما روينا في أن اتخاذ الغرف والأسافل مباح في غير ظلم ولا
اعتداء.
(2/278)
في الدخان
روي مرفوعا في تفسير قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ذكر في ذلك ما روي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه
وسلم أن قريشا استعصت وكفرت فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل
له: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} فأخذتهم
سنة حصت عليهم كل شيء حتى العظام والميتة وحتى كان الرجل يرى ما بينه وبين
السماء كهيئة الدخان من الجهد فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا
الْعَذَابَ} الآية ثم قرأ {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ
عَائِدُونَ} فكشف عنهم فعادوا في كفرهم ثم قرأ {يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} فعادوا في كفرهم فأخذهم الله عز وجل يوم بدر ولو
كان يوم القيامة لم يكشف عنهم فكان فيه أن الدخان من الآيات التي مضت في
عهده صلى الله عليه وسلم وروي عن ابن مسعود أنه قال: خمس قد مضين الدخان
والقمر والروم واللزام والبطشة الكبرى.
وما روي عن أبي هريرة مرفوعا بادروا بالأعمال فتنا قبل طلوع الشمس من
مغربها والدخان والدجال والدابة والقيامة مع ما روينا عن أبي سريحة في
(2/278)
إباحة الغرف تأويله على أنه دخان آخر لأن
الله قال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} ثم أتبع ذلك بقوله:
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أي: عقوبة لهم
لما هم عليه من الشك واللعب ومحال أن تكون هاتان العقوبتان لغيرهم أو يؤتى
بها بعد خروجهم من الدنيا وسلامتهم من ذلك الدخان وإنما سماه دخانا مبينا
مجازا وليس بدخان حقيقة وإنما كان سمته قريش دخانا بالتوهم كما روي في قصة
الدجال أنه يامر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت وليس ذلك بمطر ولا نبات
على الحقيقة وإنما يتخيل للناس أنه مطر ونبات ووجه قوله: {يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ} إن الأشياء التي تحل بالناس من الله تعالى تضاف إلى السماء من
ذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ}
فأخبر أن الأمور التي تكون في الأرض مدبرة من السماء إليها وما ذكر في حديث
حذيفة وأبي هريرة من الدخان فهو دخان حقيقي مما يكون بقرب القيامة نسأل
الله خير عواقبه في الدنيا والآخرة.
(2/279)
في الاقتداء بأبي بكر وعمر
روى حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من
بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد"، الاقتداء
بهما هو امتثال ما هما عليه وأن يحذى حذوهما في الدين ولا يخرجوا منه إلى
غيره.
والاهتداء بهدي عمار يعني في الأعمال التي يتقرب بها إلى الله لأن الاهتداء
هو التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة وعمار من أهلها وليس ذلك بمخرج لغيره
من الصحابة عن تلك المنزلة لأن القصد بمثل هذا إلى الواحد من أهله لا ينفي
بقية أهله أن يكونوا فيه مثله كما يقال موضع فلان من العبادة الموضع الذي
ينبغي أن يتمسك به وليس في ذلك ما ينفي أن يكون هناك آخرون في العبادة مثله
أو فوقه ممن يجب أن يكونوا في الاهتداء بهم كالاهتداء به فيه ومما يدل على
ان الهدى العمل الصالح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى رجلا
(2/279)
يصلي يكثر الركوع والسجود عليكم هديا قاصدا
قالها ثلاثا فإنه لن يشاد هذا الدين أحدا إلا غلبه فكان الهدى القاصد في
هذا ما يقدر على مداومته من الأعمال الصالحة المتقرب بها إلى الله.
وقوله: "وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" مأخوذ من قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وكان ابن أم عبد منهم روي أنه كان يشبه
بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته قال حذيفة: المحفوظ من الصحابة1
أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة فلما كان بهذه المنزلة من الهدى والدل
في الدنيا وقرب الوسيلة في الآخرة كان حريا أن يتمسك بعهده الذي عاهد الله
عليه ودام إلى أن توفى ولا يمنع أن يكون في الصحابة من هذه منزلته في
الدنيا والأخرى غيره.
__________
1 كذا وفي المشكل 2/87 لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
وهو الصواب- ح.
(2/280)
في شرة العابد
وفترته
روى مرفوعا "أن لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فأما إلى سنة وأما إلى بدعة فمن
كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك شرة
العابد حدته" فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادة ما دون الحدة
التي لا بد لهم من التقصير عنها والخروج منها إلى غيرها وأمرهم بالتمسك من
الأعمال الصالحة بما يدومون عليه إلى أن يلقوا ربهم فقد كان أحب الأعمال
إليه صلى الله عليه وسلم ما يدوم عليه صاحبه. وذكر عند طاوس الاجتهاد فقال:
تلك حدة الإسلام وشرته ولكل شرة فترة.
(2/280)
في استحقاق المجلس
روي مرفوعا "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" معناه إذا قام
لأمر عرض له على أن يعود إليه وأما إذا قام معرضا ثم بدا له فرجع إليه فلا
يكون أحق به.
(2/280)
المجازاة
روى مرفوعا أن الرجل ليكون من أهل الصلاة والزكاة والحج والعمرة حتى ذكر
سهام الحير وما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله المصلي إذا وفى بما يلزمه
من الخشوع والإقبال التام فهو عاقل لصلاته غير غافل عنها وكذلك المزكي إذا
اجتهد في المستحقين والصائم إذا ترك الرفث والحنا والغيبة والحاج والمعتمر
إذا أقبلا على ما ينبغي وتركا المحظورات فقد عقل ما أتى به ووفى حقه من
نفسه وكذلك سائر أعمال البر فكان جزاؤه على قدر تعقله وتوجهه بخلاف من جهله
حتى أغفله ولم يوفه ما أمر به من حقه وقيل على قدر عقله أي على قدر معرفته
بالله عز وجل أن أهل الإيمان يتفاضلون في ذلك على قدر معرفته بالله عز وجل
لأن أهل الإيمان يتفاضلون في ذلك على قدر عقولهم مع هداية اله تعالى لهم
وشرحه لصدورهم قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
فمعرفة الرجل بالله على قدر عقله الذي به يميز الأدبة التي نصبها لمعرفته
ويفهم معانيها بتوفيق الله تعالى حتى ثبت الإيمان في قلبه ثبوت الجبال
الرواسي وكفى في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ} و {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ} .
(2/281)
في التغني بالقرآن
روى مرفوعا ما يأذن الله لشيء ما يأذن الله لنبي يتغنى بالقرآن الأذن هنا
الاستماع منه {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي ما يستمع لشيء ما يستمع
لنبي يتغنى بالقرآن من تحسينه به صوتا طلبا لرقة قلبه لما يرجو فيه من ثواب
ربه إياه عليه وروي مرفوعا ليس منا من لم يتغن بالقرآن قيل أريد به
الاستغناء عن الأشياء كلها فكل الصيد في جوف الفرى ولا يتوجه إلى عاجل خيره
في الدنيا وقيل أريد به تحسين الصوت ليرق قلبه فقيل لابن أبي مليكة من لم
يكن له خلق حسن قال يحسنه ما استطاع والحمل على الاستغناء أولى لأنه سيق
لذم تاركه ومن قرأ القرآن بغير تحسين صوته مريدا بقراءته
(2/281)
وجه الله متدبرا فيه فهو مثاب غير مذموم
اتفاقا.
وما روي أن في زمان الطاعون قال عبس الغفاري يا طاعون خذني إليك ثلاثا فقيل
له ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند
انقطاع عمله لا يرد فيستعتب؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "بادروا بالموت ست أمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا
بالدماء وقطيعة الرحم ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن
كان أقلهم فقها"، لا يضاد ما روينا لأن النشو المذكور اتخذوا أئمة في
الصلوات لصوتهم فقط وليسوا أهلالها إذ السنة تقديم الأعلم ثم الأقدم هجرة
ثم الأسن وإن لم يكن لهم حسن الصوت ورغبوا عن ذلك إلى حسن الصوت راغبين عن
السنة فذموا فلذا بادر الموت وليس من ذلك من يحسن صوته ليرق قلبه أو قلوب
سامعيه في شيء حتى لو اجتمع مستحقان للإمامة وأحدهما حسن الصوت يقدم على
الذي ليس معه حسن الصوت فلا تعارض كيف وقد وصفه الله تعالى بأنه لا ينطق عن
الهوى وعن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا يا أبا موسى
فيقرأ عنده وكان حسن الصوت.
(2/282)
في قوله: ليس منا من فعل كذا
روى مرفوعا "من حمل السلاح فليس منا ومن رمانا بالليل فليس منا وليس منا من
لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه وليس منا من غشنا وليس منا
من حلق وسلق" يعني تكلم بما لا يحل له من الكلام من، {سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى
الجاهلية" وقال في الحيات ما سالمناهن منذ حاربناهن فمن تركهن خيفتهن فليس
منا وقال: "من رغب عن سنتي فليس منا ومن حلف بالأمانة فليس منا ومن خبب
امرأة امرئ مسلم فليس منا والوتر حق فمن لم يوتر فليس مني" قالها ثلاثا
وقال: سيكون أمراء بعدي فمن دخل عليهم وصدقهم على كذبهم وأعانهم على ظلمهم
فليس مني
(2/282)
ولست منه ولن يرد علي الحوض ومن لم يصدقهم
بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض وقوله: من
وطئ حبلى فليس منا لما اختار الله تعالى لنبيه الأمر المحمود ونفى عنه
المذموم كان من عمل الأمور المحمودة منه ومن عمل المذمومة ليس منه كما قال
حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ
مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} فدل ذلك على أن كل من
يعمل على شريعة نبيه الذي عليه اتباعه فإنه منه ومن عمل عملا تمنع منه
شريعته فليس منه لخروجه عما دعاه إليه وعما هو عليه إلى ضد ذلك.
عن ابن سمعود أنزل الله تعالى على رسوله المفصل بمكة فكنا حججا نقرؤه لا
ينزل غيره فيه أن الحجرات ليست منه وأنها مدنية لأن فيها النهى عن رفع
الصوت عنده صلى الله عليه وسلم وإنما كان في الحين الذي ظن ثابت ابن قيس
أنها نزلت فيه فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من سبب رجوعه
إلى مجلسه ولأن فيها {لا تُقَدِّمُوا} الآية وسبب نزوله اختلاف أبي بكر
وعمر في إشارتهما بتولية الأقرع والقعقاع ولأن فيها {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} وسبب نزوله الذي بعثه
مصدقا على ما روي من شأنه ولم يبعث مصدقا بمكة ولأن فيها {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وسبب نزولها ما وقع بين
الأوس والخزرج وإذا انتفى أن تكون الحجرات من المفصل كان أوله "ق" ومما يدل
عليه سؤال أوس بن حذيفة من الصحابة كيف كنتم تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه
ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة وحزب
المفصل فنظرنا فيه فإذا ثلاث سور من أول القرآن البقرة وآل عمران والنساء
والخمس المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة والسبع يونس وهود ويوسف
والرعد وإبراهيم والحجر والنحل والتسع بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه
(2/283)
والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان
والإحدى عشرة الطواسين والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ
وفاطر ويس والثلاثة عشر الصافات وصاد والزمر وحم يعني آل حم وسورة محمد صلى
الله عليه وسلم والفتح والحجرات وحزب المفصل فتحقق أن المفصل ما بعد
الحجرات إلى آخر القرآن- وما روي عن زرارة أنه قال: كان أول المفصل عند ابن
مسعود الرحمن وذلك لاختلاف تأليف السور من الصحابة الذين تولوا كتابة
القرآن في عهد عثمان وهو الحجة ويحتمل أن في تأليف ابن مسعود بعد سورة
الرحمن ق والذاريات وما سواهما من السور التي بينهما وتكون الحجرات خارجة
من ذلك راجعة إلى مثل ما بقي عليه في تخريب الصحابة1 كما بينا في حديث أوس
بن حذيفة.
__________
1 راجع لترتيب ابن مسعود وغيره النوع الثامن عشر من الإتقان- ح.
(2/284)
في ترك بسملة براءة
عن ابن عباس قلت لعثمان: ما حملكم على الإقران بين الأنفال وهي من المثانى
وبين براءة وهي من المئين ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
ووضعتموها في السبع الطول؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه
الشيء ودخل عليه بعض من يكتب فيقول: "ضعوا هذا في السورة التي ذكر فيها كذا
وكذا"، وإذا أنزلت عليه الآيات قال: "ضعوا هذه الآيات في سورة كذا وكذا"،
وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا
وكانت قصتها شبيهة بقصتها وظننت أنها منها وتوفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يبين لنا أنها منها من أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر
بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطول.
(2/284)
ففيه ظن عثمان أنهما سورة واحدة وتحقيق ابن
عباس أنهما سورتان وأيده حديث أوس بن حذيفة فوجب أن تكونا سورتين وتباينهما
في الوقتين نزولا يدل أيضا على أنهما سورتان لا سورة واحدة لأن الأنفال
نزلت في بدر في سنة أربع وبراءة آخر سورة نزلت- روي عن البراء آخر آية
نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وآخر
سورة نزلت براءة وفيه أن براءة سورة كاملة بائنة من الأنفال لأن مثل هذا لا
يقوله البراء رأيا.
وعن ابن عباس كان جبريل إذا أنزل بسم الله الرحمن الرحيم علم صلى الله عليه
وسلم أن السورة قد انقضت.
وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت مكان
التوراة السبع الطول وأعطيت مكان الإنجيل المثانى وأعطيت مكان الزبور
المئين وفضلت بالمفصل"، ففيه أن كل واحدة منها غير صاحبتها لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أعطى مكان كل واحدة منها شيئا آخر غير الأول وقيل: أنما
ترك البسملة بين الأنفال وبراءة لأنها رحمة وسورة براءة نقض عهود وبراءات
ووعيد وأبانة نفاق فاستحق بذلك ما استحق من العذاب وهو مردود لثبوت البسملة
في أول ويل لكل همزة وتبت فعلم أنها تكتب قبل سورة العذاب وسورة الرحمة،
وقيل: نزلت لأنها من خطاب المشركين ورد بقصة سليمان في كتابه إلى المشركين
وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فكان
فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام
على من أتبع الهدى.
(2/285)
في بر الوالدين
عن أبي عبد الرحمن السلمى قال: أن رجلا منا أمرته أمه أن يتزوج فلما تزوج
أمرته أن يفارقها فارتحل إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك فقال:
(2/285)
ما أنا آمرك أن تطلق وما أنا بالذي آمرك أن
تمسك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الوالدة أوسط باب الجنة فاحفظ ذلك الباب أو ضيعه" -أو كما قال صلى الله
عليه وسلم- لم يقطع بالجواب والحق أن يطيعها.
عن ابن عمر كانت عندي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عبد الله طلق امرأتك"،
فطلقها فإذا كان بر الوالد ذلك ففي الوالدة وحقها أكثر وأوجب.
وعن أبي هريرة جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أولى الناس
بحسن الصحبة مني قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال:
"أبوك"، قيل للأم ثلثا البر، وروى مرفوعا في جواب أي الناس أحق مني بحسن
الصحبة؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" ثلاث
مرات قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"، فعلى هذا للأم ثلاثة أمثال ما للأب وهو
أصح من الأول لأن راوية شجاع وهو أحفظ من سفيان بن عيينة1.
__________
1 شجاع هو ابن الوليد كما في المشكل وقد تكلموا فيه حتى قال له ابن معين
مرة يا كذاب راحع ترجمته في التهذيب 4/313 وابن عيينة احفظ من مائة مثل
الشجاع وعبارة الطحاوي قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفظه
شجاع لأن ابن عيينة إنما كان يحدث من حفظه وشجاع كان يحدث من كتابه وهذه
عبارة لا بأس بها- ح.
(2/286)
في استعمال الفضة
والذهب
عن أنس كان نصل سيف رسول الله صلى الله ليه وسلم وقبيعته فضة وما بين ذلك
حلق فضة فيه جواز استعمالها كما في الخاتم وإنما يكره فيما يستعملها العجم
من الأكل والشرب فيها واتخاذها آنية كما تتخذ من الصفر والحديد لا غير.
عن عمر وأبي بكر والزبير أن سيوفهم كانت محلاة بالفضة ويؤيده
(2/286)
إهداء رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل
أبي جهل وهو بمكة عام الحديبية وكان في رأسه برة من فضة جمل بها وأن عرفجة
أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره
النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب ففعل وكان بعد تحريم الذهب
على الذكران لأنه ما شكا النتن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليبيح له
ما أباح إذ لو كان حلالا لما احتاج إلى التشكي.
واختلف في شد الأسنان بالذهب إذا تحركت فعن أبي حنيفة قولان الكراهة
والإباحة وفي إباحته بالفضة قول واحد وعن جماعة من السلف أنهم ضببوا
أسنانهم بالذهب منهم المغيرة أمير الكوفة والحسن وموسى بن طلحة وعبيد الله
بن الحسن قاضي البصرة وأبو حمزة وأبو نوفل ويزيد الرشك وغيرهم ولا نعلم فيه
خلافا إلا ما ذكرناه عن أبي حنيفة وقوله في الإباحة أولى لما روينا في قصة
عرفجة.
وروي شريك عن حميد قال رأيت عند أنس قدح النبي صلى الله عليه وسلم فيه فضة
أو قد شد بفضة يحتمل أنه كان فعله صلى الله عليه وسلم فكان من أعظم الحجة
على إباحته وإن كان من أنس فقد دل على إباحة الشرب في مثله كما هو مذهب أبي
حنيفة وأصحابه لأنه صار إليه رجل جليل فقيه من الصحابة وهو أنس بن مالك
خلافا للشافعي في كراهته وخلاف ما روي عن ابن عمر وابنه سالم والأولى قول
أنس لاحتمال ما كان في القدح فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسا على
إباحة علم الحرير في ثوب الكتان والقطن وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن
الشرب في آنية الذهب والفضة ولم ينه عن الآنية المفضضة كما نهى عن لباس
الحرير ولم ينه عما كان فيه شيء من الحرير. وعن ابن عمر أنه اشترى جبة فيها
خيط أحمر فردها فسمعت ذلك أسماء فقالت بؤس لابن عمر يا جارية ناوليني جبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرج
بالديباج فكرة ابن عمر الجبة
(2/287)
لما كان خيط الحرير كما كره الآنية وخالفته
أسماء واحتجت عليه بجبته صلى الله عليه وسلم ولم تكن تحاجه إلا وقد وقفت
على استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها بعد نهيه عن لباس الحرير.
وعن ابن عباس إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت يعني
من الحرير فأما السدى أو المعلم فلا وقد أباح الشرب من الآنية المفضضة
جماعة من التابعين إلا أنهم قالوا لا يضع فاه على الفضة.
(2/288)
في النصيحة
روي مرفوعا "الدين النصيحة" ثلاثا قيل لمن يا رسول الله قال "لله عز وجل
ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" لا يخالف هذا قوله تعالى: {إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} لأن النصيحة من الإسلام ويجوز إطلاق
الإسلام عليه لمكانها منه كما يقال الناس العرب وفيهم غير العرب لجلالة
العرب وامتيازهم عن سائر الناس بالخواص التي فيهم فجاز أن يقال هم الناس
ومن ذلك المال النخل لجلالة النخل في الأموال فمثله الدين النصيحة وإن كان
في الدين سواها ومعنى النصح لكتابه أي لمن تعلمونه إياه في تعليمهم ما
يحتاجون إلى علمه من محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وفي التعليم على هذا
الوجه من المشقة ما فيه فأمروا بذلك قال ابن عمر لقد عشنا برهة من دهر
وأحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم
فنتعلم حلالها وحرامها وآخرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما
تتعلمون أنتم اليوم القرآن ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتي أحدهم القرآن قبل
الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ولا يدري ما آخره ولا زاجره ولا ما
ينبغي أن يوقف عنده منه وينثره نثر الدقل.
(2/288)
في المؤمن لا يلدغ
مرتين
روي مرفوعا "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" ولا يلدغ بالجزم في
(2/288)
أكثر الروايات معناه لا تثنى على مؤمن
عقوبة في ذنب أتاه وقيل لا يلدغ بالرفع لأن تخصيص المؤمن يبطل تأويل الجزم
لأن الكافر لا تثنى عليه عقوبة ذنبه وكذلك المنافق أيضا وإنما المقصود أن
المؤمن إذا كان منه ذنب أحزنه ذلك وخاف منه فكان سببا لترك عوده فيه أبدا
فمعنى الحديث لا يذنب ذنبا يخاف عقوبته ثم يعود فيه بعد ذلك أبدا ومعنى لا
يلدغ أي لن يلدغ وكذلك في قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} وقوله تعالى: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} وهذا أشبه الوجهين.
وسئل ابن وهب عن تفسيره فقال الرجل يقع في الشيء يكرهه فلا يعود فيه فهذا
يتمشى على الرفع دون الجزم ويدل عليه قوله تعالى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
تَوْبَةً نَصُوحاً} والتوبة النصوح أن يجتنب الرجل العمل السوء يتوب إلى
الله منه ثم لا يعود فيه أبدا ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الندم
توبة"، لأن الندم مما يمنع العود إلى مثله.
(2/289)
في مائة إبل لا تجد فيها راحلة
روي مرفوعا الناس كإبل مائة لا نجد فيها راحلة هذا عام أريد به الخصوص
كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ} لأن في الناس من يحمل الكل عن غيره كمثل الراحلة التي
تبين بما تحمل عمن سواها من الإبل التي ليست من الرواحل فهي كالذين لا غناء
معهم ولا منفعة عندهم لمن سواهم من الناس والحمد لله في الناس من هو في
هداية الناس وإرشادهم وتعليمهم إياهم أمر دينهم وفي تسديدهم ونفعهم والقيام
لقضاء حوائجهم وحمل أثقالهم كثير وروى الناس كالإبل المائة هل ترى فيهم
راحلة ومتى ترى فيها راحلة فيحتمل أن يكون استفهام نفي كمعنى الأول ويحتمل
أن يكون على وجود ذلك في الوقت البعيد والله أعلم بمراد رسوله من ذلك وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا نعلم شيئا خيرا من مائة من مثله إلا المؤمن"
ومعناه كمعنى الأول.
(2/289)
في النهي عن تسمية
العنب بالكرم
روى مرفوعا "لا تقولوا للعنب الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ولكن قولوا
حدائق الأعناب" مع تسمية العنب كرما في قوله لأصدقة في شيء من الزرع أو
النخل أو الكرم حتى يكون خمسة أوسق فيحتمل أن يكون هذا قبل النهى والأشياء
قبل ورود النهي على الباحة قولا كان أو فعلا فإذا نهى عنها حظر من فعلها
وقولها.
(2/290)
في اللعب في العيد
عن عامر بن قيس ما كان على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم شيء الأوقد
رأيته يعمل بعده إلا شيئا واحدا فإنه كان يقلس "له" يوم الفطر يعني يلعب لا
خلاف بين أهل اللغة أنه اللعب واللهو اللذان ليسا بمكروهين كمثل ما أطلق في
الأعراس منها وذلك ليعلم أهل الكتابين أن في دين الإسلام سماحة وما روى عن
أنس أنه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما
في الجاهلية فقال: "أن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الفطر
ويوم الأضحى"، لا يخالف ما روينا لأنه يحتمل أن يكون أراد بذلك منهم أن
يجعلوا فيهما من اللعب مما كانوا يفعلونه في ذينك اليومين في الجاهلية وذلك
عندنا والله أعلم على اللعب المباح مثله كما أبيح في أعراسهم اللعب المباح
فقط.
روى جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم
فيخطب قائما خطبتين فكان الجواري إذا نكحوا يمرون يضربون بالكبر والمزامير
فيبثوا1 الناس ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعاتبهم الله
تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} فما نهاهم عن اللهو المباح فيما كان ذلك منهم فيه
فكذلك اللعب الذي أباح في الأعياد غير داخل في اللهو المنهي في غير الأعياد
فلا تضاد فيما روينا.
__________
1 كذا ولعله فيثور- ح.
(2/290)
في شيء مباح حرم
بمسئلته
...
في شيء مباح حرم بمسألته
عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا "أن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن
حراما فحرم من أجل مسألته" وذلك لأن الله تعالى قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي: ما نفرط لأن القرآن كان ينزل بعد ذلك كما كان
ينزل قبله فكانوا ممنوعين عن الاستعجال بالسؤال عما أخبر الله تعالى أنه لا
يفرط فيه كما نهى صلى الله عليه وسلم عن استعجال الوحي بقوله تعالى: {وَلا
تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وأمر
بالانتظار فيه ومما يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب لما أنزل الله تحريم
الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيان
شفاء فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . أي: عن السؤال
عن مثل هذا حتى يكون الله نزله على رسوله ابتداء لأن الكتاب لا يفرط فيه
فلما كان السؤال ممنوعا عنه كان السائل ظالما لنفسه لأنه تقدم بسؤاله أمر
الله الذي لا ينبغي له أن يتقدمه وكان فيما عاقب به اليهود بظلمهم قوله:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ} فكان السائل غير مأمون أن يحرم عليه بظلمه ذلك ما قد كان
حلالا له لأن الأشياء كلها على طيبها وعلى حلها حتى يحدث الله فيها التحريم
وإذا عاد المسؤول حراما بمسألته عليه عاد حراما على جميع الناس فكان أعظم
الجرم فيهم.
وليس سؤال عمر أن يبين لهم في الخمر من هذا المعنى المذكور في حديث سعد
لأنه كان فيمن سأل عما كان حلالا فحرم من أجل مسألته وعمر إنما سأل عن شيء
تقدم تحريمه ألا تره يقول لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين فسؤاله
إنما كان لأن يبين الله في الخمر ما تسكن إليه نفوس القوم الذين عظم في
قلوبهم تحريمها فبين الله تعالى أنه إنما حرمها لمصلحتهم لأنها رجس وفيها
الإثم الكبير وتمنع من الصلاة وتوقع العداوة بينهم إذ كانت سببا لما نزل
بسعد عند
(2/291)
شربه هو ونفر من الأنصار إياها وتفاخرهم عن
ذلك حتى قال بعضهم: المهاجرون أفضل وقال بعضهم: الأنصار أفضل فأخذ رجل لحي
جمل ففزر به أنف سعد فكان أنفه مفزورا، ففي سؤال عمر إعلام الله أن في
تحريم الخمر خيرا لهم لا عقوبة وذلك نعمة من الله عليهم سببها سؤال عمر
فافترق المعنيان.
(2/292)
في النهي عن قوله عبدي وأمتي
روي مرفوعا "لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي فكلكم عبيد الله وكلكم إماء الله
ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي" لا يقال: قد قال تعالى:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ} وقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} لأن
المنهي إنما هو إضافة ملاكهم إلى أنفسهم بأنهم عبيدهم لأن فيه استكبارهم
عليهم وما في القرآن فإنما هو بإضافة غيرهم إليهم.
وروى أبو هريرة أراه مرفوعا لا يقولن أحدكم ربي لمالكه وليقل سيدي لا يخالف
هذا قوله تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} يعني
مليكه الذي هو رئيس عليه لأن يوسف عليه السلام إنما خاطبه على ما عند
المخاطب لأنه كان يسميه ربالا أنه عند يوسف كذلك مثل قول موسى عليه السلام
للسامري {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} فخاطبه على ما كان عنده لا على ما هو
عند موسى وليس للمملوك أن يجعل مالكه ربا وجاز ذلك في البهائم والأمتعة كما
ورد في حديث ضالة الإبل دعها حتى يلقاها ربها وقيل: إنما نهى المملوك من
بني آدم عن هذا القول لأنهم دخلوا في عموم {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
بَنِي آدَمَ} إلى قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فكان المملوك
ممن أخذ عليه الميثاق في ذلك بخلاف البهائم.
(2/292)
في حملة الفقه
روي مرفوعا رب حامل فقه إلى من هو افقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه الفقه
هو الفهم ومنه قوله تعالى: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} يؤيده قوله عليه
(2/292)
الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيرا
يفقهه في الدين"، ولا يقال لكل فهيم فقيه لأن الفقه لما جل مقداره وتجاوز
عن مقادير الأشياء من العلو خص أهله بأن قيل لهم فقهاء رفعا لهم عمن سواهم
فلا يطلق لغيرهم يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الفقه يمان"، فسمى
ذلك فقها وأبانه عن سائر الأشياء المفهومة سواه فثبت أن كل فقيه فهيم وليس
كل فهيم فقيها.
(2/293)
في رحى الإسلام
روي مرفوعا "تدور أو تزول رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو لست وثلاثين أو لسبع
وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن بقوا يبقى لهم دينهم سبعين سنة" روي
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن ناجية وعبد الرحمن ابن القاسم
عن أبيه عن عبد الله بن مسعود وروي مسروق عنه أنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة فإن اصطلحوا
بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا وإن يقتتلوا يركبوا سنن
من قبلهم"، قوله: تدور أو تزول يريد به الأمور التي عليها يدور الإسلام
وشبه ذلك بالرحى فسماه باسمها وكان قوله صلى الله عليه وسلم: "بعد خمس أو
ست أو سبع" ليس على الشك ولكن على أن يكون ذلك فيما يشاؤه الله عز وجل من
تلك السنين فشاء عز وجل إن كان ذلك في سنة خمس وثلاثين فتهيأ فيها على
المسلمين حصرا ما مهم وقبض يده عما يتولاه عليهم مع جلالة مقداره لأنه من
الخلفاء الراشدين المهديين حتى كان ذلك سببا لسفك دمه وحتى كان ذلك سببا
لوقوع الاختلاف وتفرق الكلمة واختلاف الآراء فكان ذلك مما لو هلكوا عليه
لكان سبيل من هلك لعظمه ولما حل بالإسلام منه ولكن ستر الله وتلافى وخلف
نبيه في أمته من يحفظ دينهم عليهم.
ثم تأملنا ما بقي من هذه الآثار فوجد في حديث مسروق فإن يصطلحوا فيما بينهم
على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا ووجدنا مكان
(2/293)
ذلك في حديثي عبد الرحمن والبراء بن ناجية
عن ابن مسعود فإن بقوا يبقى لهم دينهم سبعين عاما فكان ذلك قد جاء مختلفا
وكان ما في حديث مسروق أشبههما بما حدث عليه أمور الناس مما في حديثي
الآخرين لأن في حديث مسروق فإن يصطلحوا على غير قتال فتكون المدة التي
يأكلون الدنيا فيها سبعين عاما ثم ينقطع ولكن لم ينقطع مع القتال فكان رحمة
من الله لهم وسترا منه عليهم فجرى على ذلك أن يأكلوا الدنيا بلا توقيت
عليهم فيه وكان ما في حديثي عبد الرحمن والبراء يوجب خلاف ذلك ويوجب انقطاع
أكلهم الدنيا بعد سبعين عاما وقد وجدناهم بحمد الله أكلوها بعد ذلك سبعين
عاما وزيادة كما رواه مسروق فيه لا كما رواه صاحباه لأنه لا خلف لما يقوله
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2/294)
في الحلف في
الجاهلية
روي مرفوعا "لا حلف في الإسلام وإيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام
إلا قوة" لا يعارض هذا ما روي عن أنس بن مالك قال: حالف رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له: أليس قد قال صلى الله
عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام"؟ قال: فقد حالف رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا لأن سفيان بن عيينة فسر ذلك
بالمؤاخاة بينهم فلم يجعل ذلك حلفا وأيضا فإن مؤاخاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار إنما كان حين قدومه المدينة وقوله: "لا
حلف في الإسلام" إنما قال ذلك: يوم الفتح على ما روي عمرو بن العاص فكان
ذلك ناسخا لفعله فلم يكن منه بعد قوله: "لا حلف في الإسلام" حلف إلى أن
قبضه الله عز وجل.
وعن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية قال:
كان المهاجرون حين فدموا المدينة يوارثون الأنصار دون ذوي الأرحام
(2/294)
للأخوة التي أخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بينهم إلى أن نسخها غيرها يعني قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من النصر والنصيحة والرفادة فأخبر ابن عباس أن
الذي بقي للأحلاف هو النصر والنصيحة والوصية وإن الميراث قد ذهب وعن ابن
المسيب خلافه قال إنما نزلت هذه الآية في الذين يتبنون رجالا غير أبنائهم
يرثونهم فأنزل الله عز وجل أن لهم نصيبا في الوصية وجعل الميراث للرحم
والعصبة وأبى أن يجعل لهم ميراثا وأن تعاقدوا عليه وما روي عن ابن عباس
أولى لأن فيها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وكان في التحالف إيمان
ولم يكن في التبني والتدعي إيمان.
(2/295)
في الدعابة
روي أن أبا بكر الصديق خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان1 رجلا مضحاكا مزاحا
فقال: لأغيظنك فذهب إلى ناس جلبوا ظهرا فقال: ابتاعوا مني غلاما عربيا
فارها هو ذو لسان ولعله يقول: أنا حر فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا
تفسدوا علي غلامي فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص فأقبل بها يسوقها وأقبل
بالقوم حتى عقلها ثم قال لهم: دونكم هذا فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك
قال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر قالوا: قد أخبرنا خبرك فطرحوا الحبل في عنقه
فذهبوا به، فجاء أبو بكر فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل علقمة بن مجزز المدلجي على
جيش فبعث سرية واستعمل عليها عبد الله بن حذافة السهمي وكان
__________
1 هنا حذف في القصة لا يتم فهمها إلا به ولفظه كما في رواية لأحمد وسويبط
بن حرملة وكلاهما بدري وكان سويبط على الزاد فقال له نعيمان أطعني قال حتى
يجيء أبو بكر وكان نعيمان ح.
(2/295)
رجلا فيه دعابة وبين أيديهم نار قد أججت
فقال لأصحابه: أليس طاعتي عليكم واجبة قالوا: بلى قال: فقوموا واقتحموا هذه
النار فقام رجل حتى يدخلها فضحك وقال: إنما كنت ألعب فبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: "أما إذ قد فعلوا هذا فلا تطيعوهم في معصية
الله".
ليس في شيء من الحديثين دليل على إباحة المذكور فيهما وضحك النبي صلى الله
عليه وسلم حولا هو وأصحابه كمثل ما كانت الصحابة يتحدثون بأمور الجاهلية
ويضحكون بمحضره صلى الله عليه وسلم من غير نهي منه إياهم عن ذلك مع أن تلك
الأفعال ما كانت مباحا لهم فعلها في الإسلام، عن جابر جالست النبي صلى الله
عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويذكرون أشياء من
أمور الجاهلية فربما يتبسم معهم- ثم قد روي مرفوعا "لأ يأخذ أحدكم متاع
صاحبه لاعبا فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه"، قال الطحاوي: ولو صار
مباحا لنسخه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج غازيا فأخذ بعض
أصحابه كنانة آخر فغيبوها ليمزحوا معه فطلبها الرجل فغيبوها فراعه ذلك
فجعلوا يضحكون منه فخرج صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أضحككم"؟ فقالوا:
والله إنا أخذنا كنانة فلان لنمزح معه فراعه ذلك فذلك الذي أضحكنا فقال صلى
الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما".
(2/296)
في حديث النفس
روي مرفوعا "تجاوز الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو أن
تعمل به يد" وذكر من طرق وأنفسها بالنصب على معنى حدثتها به من غير
اختيارها إياه ولا اجتلابها له منها قالوا أو مما يدل عليه أيضا ما روي أن
الصحابة قالوا: يا رسول الله أن أحدنا يحدث نفسه بالشيء لأن يكون حممة أحب
إليه من أن يتكلم به فقال: "الحمد لله الذي لم يقدره منكم إلا على الوسوسة
والحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة"، قالوا: وإن كان قد قيل فيه أن أحدنا
يحدث نفسه أو أنا نحدث أنفسنا فإن جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم
هو المعتمد عليه
(2/296)
وإليه قصدنا وهو ما ذكره عنه ابن مسعود ذلك
صريح الإيمان ومحض الإيمان يعني التوقي من أن يقول ذلك باللسان ومنع نفسه
منه إيمان وما ذكره ابن عباس الحمد لله الذي لم يقدره منكم إلا على الوسوسة
يعني التي لا تؤاخذون بها وتثابون على توقيكم من النطق بها وفي الحديث دليل
على صحة النصب وهو قوله تجاوز الله والتجاوز لا يكون إلا عما لو لم يتجاوز
عنه لعوقبوا عليه وذلك مما يعقل أنه لا يكون من الخواطر المعفو عنها بل أنه
من الأشياء المجتلبة بالهم بها فالوجه أنه على ما يهم به العبد من المعاصي
ليعملها فتجاوز الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يؤاخذهم به
ولم يعاقبهم عليه ومن ذلك ما روي مرفوعا "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي
بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا وإذا هم عبدي
بسيئة فلم يعملها فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن هو تركها
فاكتبوها حسنة" وزاد بعض الرواة في الحسنة "فاكتبوها إلى سبع مائة ضعف وزاد
في السيئة فإن تركها من خشيتي" فانتفى ما قال أهل اللغة أنفسها بالرفع.
(2/297)
في صدق الله وعتقة
...
في صدقة الله وعتقه
عن أبي وائل أنه كره للرجل أن يدعو فيقول: اللهم تصدق علي بالجنة وقال:
إنما يتصدق من يريد الثواب ومن أباح ذلك فهو محتج بقوله تعالى: {هَبْ لِي
مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} وإذا جازت الهبة من الله جاز دعاؤه بها والهبة من
الآدميين قد يطلب فيها الثواب عليها فكانت الصدقة التي لا يصلح للآدميين
الثواب عليها منه أجوز وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر في قصر الصلاة:
"هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، سمى التخفيف صدقة وفيه دليل
على الإباحة، وروي عن أبي وائل أنه كان يكره أن يقال: اللهم اعتقني من
النار قال: إنما يعتق من يرجو الثواب، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: "من
أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، ففيه إضافة العتاق
إلى الله فيجوز الدعاء للمسلمين بذلك.
(2/297)
في المحدثين من الأولياء
روي مرفوعا قد كان في الأمم قبلكم قوم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر
بن الخطاب المحدث الملهم بالنطق بالحكمة كما كان لسان عمر ينطق بما كان
ينطق به منها وقد قال عمر: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت:
يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل {وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقلت: يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت
أمهات المؤمنين فنزلت آية الحجاب وبلغني شيء من المعاتبة من أمهات المؤمنين
فاستقريتهم أقول: لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله
أزواجا خيرا منكن فنزلت {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية.
وعن ابن عباس أنه كان يقرأ وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا محدث ولا يقال
على هذا فالمحدث مرسل لأن المعنى وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا ألهمنا من
محدث إلا إذا تمنى وهو من باب.
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد بل يحمل فكأنه قال متقلد سيفا وحاملا رمحا والله أعلم.
(2/298)
في مال الوارث أحب إليه من ماله
عن ابن مسعود يرفعه "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" قالوا: يا رسول الله
ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال: "فإن ما له ما قدم ومال
وارثه ما أخر"، وفي رواية قال: اعلموا ما تقولون؟ قالوا: وما نعلم إلا ذلك
يا رسول الله قال: "ما منكم من رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله" قالوا:
كيف يا رسول الله؟ قال: "إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر"، فيه أن
ما ترك الرجل فلم يقدمه فيما يكون ثوابا له عند ربه وزلفى لديه ليس من ماله
أي ليس من ماله الذي هو أعلى أمواله في نفعها له إذ منفعته فيما قدمه
لآخرته لا فيما أخره
(2/298)
فكأنه ليس من ماله وجاز أن يضاف إلى وارثه
الذي عسى يقدمه لآخرته فينتفع به الوارث في معاده وفي هذا المعنى ما روي
مطرف بن عبد الله عن أبيه أنه انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فقال: "يقول ابن آدم ما لي مالي ومالك من
مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت". فعلم أن ماله
إذا لم ينتفع به صار كمال غيره إذ لا منفعة له فيه حينئذ كما لا منفعة له
في مال غيره.
(2/299)
في حفظ أبي هريرة
عن أبي هريرة أنه قال: يقولون: أن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد ويقولون:
ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون بمثل أحاديثه وسأخبركم عن ذلك إن
أخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم وأما أخواني من المهاجرين فكان
يشغلهم صفقهم بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء
بطني فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا ولقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوما: "إيكم بسط ثوبه فأخذ من حديثي هذا ثم جمعه إلى صدره فإنه لا
ينسى شيئا سمعه"، فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتا إلى صدري فما
نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به ولولا آيتان أنزلهما الله تعالى في كتابه
ما حدثت بشيء أبدا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى آخر الآيتين، فيه أنه لم ينس شيئا سمعه من
النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل ما روي أنه حدث بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا عدوى"، ثم سكت عنه فلما وقف عليه أنكره وما روي أنه لما حدث بالخمسة
التي أعطيها دون سائر الأنبياء ومنها أنه أعطي دعوة فادخرها شفاعة لأمته
فقال له صاحبه: قد نسيت أفضلها أو خيرها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وأنا أرجو أن تنال من أمتي من لا يشرك بالله شيئا"، الدالان على نسيانه
كان ذلك مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أني كون منه في أمره ما
ذكره آنفا.
وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: "أن بسط أحدكم ثوبه
(2/299)
حتى أقضى مقالتي هذه ثم يجمع ثوبه إلى صدره
فما ينسى من مقالتي شيئا أبدا"، قال أبو هريرة: فبسطت نمرة ليس علي ثوب
غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ثم جمعته إلى صدري فوالذي
بعث محمد أبالحق ما نسيت من مقالته تلك كلمة إلى يومي هذا، وعن أبي هريرة
قال: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني أو ما كان
أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإني كنت أعي بقلبي
وكان يعيه بقلبه ويكتب بيده استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن
له فيه، فدل هذا على أنه لو كان لا ينسى شيئا مما يعيه بقلبه لما فضله عبد
الله بن عمر وبكثرة الحديث من أجل كتابته بل كان هو الفاضل لاستغنائه عن
الاشتغال بالكتاب فكان الذي مع أبي هريرة مما انتفى عنه النسيان فيه هو ما
كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموطن الواحد لا فيما كان منه
قبله ولا فيما كان منه بعده.
(2/300)
في الآبار
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم في رؤوس النخل فقال: "ما يصنع
هؤلاء"؟ فقيل له: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فقال: "ما أظن هذا يغني
شيئا"، أو لو تركوه لصلح، أو لا لقاح، أو ما أرى اللقاح شيئا- على ما روي
عنه من ذلك كله فتركوه فشيص فأخبر به صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أنا
بزارع ولا صاحب نخل لقحوا"، أو قال: "إن كان ينفعهم فليفعلوه فإني إنما
ظننت ظنا والظن يخطئ ويصيب، أو لا تأخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله
شيئا فخذوه فإني لن أكذب على الله"، لا اختلاف بين الروايات ولا تعارض فإنه
قال من ذلك لقوم بعد قوم يحكى كل واحد منهم ما سمع وما كان صلى الله عليه
وسلم من بلد فيه نخل ولا كان يعاني ذلك فاتسع له أن ينفي بالظن ما توهم
استحالته من أن الإناث من غير الحيوان تنفعل من الذكر أن شيئا ولم يكن ذلك
أخبارا منه عن وحي.
(2/300)
في مناقب علي رضي الله عنه
روى أبو الطفيل واثلة بن الأسقع قال: جمع الناس علي بن أبي طالب في الرحبة
فقال: أنشد بالله عز وجل كل امرئ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
غدير خم يقول ما سمع فقام أناس من الناس فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال يوم غدير خم: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو
قائم"؟ ثم أخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه"، قال أبو الطفيل: فخرجت وفي نفسي منه شيء فلقيت زيد بن أرقم
فأخبرته فقال: وما تتهم أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يلتفت إلى من أنكر خروج علي إلى الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ومروره
في طريقه بغدير خم وقال: قدم علي من اليمن بالبدن لأنه وإن لم يكن معه في
خروجه إلى الحج فكان معه في رجوعه على طريقه الذي كان مروره به بغدير خم
يحتمل أنه كان هذا الكلام في الرجعة يؤيده الحديث الصحيح أنه كان هذا القول
من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه إلى المدينة من حجه.
عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع
ونزل بغدير خم أمر بدوحاته فقممن وذكر الحديث بطوله ثم أخذ بيد علي فقال:
"من كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"، فقلت لزيد:
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا
رآه بعينيه وسمعه بأذنيه والمولى بمعنى الولي وقد فسره الحديث الآخر من كنت
وليه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
وعن علي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن لك كنزا في الجنة
وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية"،
قيل: أراد قرني الجنة يعني: طرفيها وقيل: أراد قرني الأمة فأضمرها وإن لم
(2/301)
يتقدم لها ذكر كقوله تعالى: {مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} يريد الأرض و {حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ} يريد الشمس فمعناه أن عليا في هذه الأمة كذى القرنين في أمته
في دعائه إياها إلى الله عز وجل.
يؤيده ما روي عن علي أنه قال: سلوني قبل أن لا تسألوني ولن تسألوا بعدي
مثلي فقام إليه ابن الكواء فقال: ما كان ذو القرنين أملك كان أم نبي؟ فقال:
لم يكن ملكا ولا نبيا ولكنه كان عبدا صالحا أحب الله وأحبه الله وناصح
فنصحه ضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله عز وجل وضرب على قرنه الأيسر
فمات وفيكم مثله وإليه ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وقوله: فيكم مثله يعني
في دعائه إلى الله عز وجل وقيامه بالحق إلى يوم القيامة كما كان ذو القرنين
والشيء يشبه بالشيء في معنى وإن كان لا يشبهه في غيره منه قوله تعالى:
{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يعني في العدد وأما
قوله: فلا تتبع النظرة بالنظرة يريد أن الأولى تفجأه فلا اختيار له فيها
فهي له والآخرة باختياره فهو مأخوذ بها مكتوبة عليه فليست له.
(2/302)
في الاستعاذة من
القمر
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا القمر يا عائشة
استعيذي بالله من شر هذا هل تدرين ما هذا هذا الغاسق إذا وقب"، استعظمه بعض
فقال: أي شر للقمر وهو خلق مطيع لله تعالى حتى يستعاذ منه والجواب أنه مطيع
لا شر له ولكن الله تعالى جعل الليل والنهار آيتين فمحا آية الليل وجعل آية
النهار مبصرة وكانت آية الليل هي القمر وآية النهار هي الشمس ويكون القمر
للمحو الذي محاه الله فيه سببا للظلمة وأهل المعاصي ينبئون بالليل لما
يخافون من إظهار المعاصي بالنهار فيظهرون المعاصي من أنفسهم بالليل لأنهم
عليها فيه ولله تعالى خلق وهم الشياطين ينبثون في الليل دون النهار كما روي
في الآثار المسندة بطرقها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة
(2/302)
بالاستعاذة من شر القمر مريدا استعاذتها من
شر الأشياء التي تحدث في الليل من شياطين الإنس والجن مما القمر سبب لها
مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها {وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: أهل العير ومثله قوله صلى الله عليه وسلم عند نزول
قرية: "اللهم إني أسألك من خير هذه القرية ومن خير أهلها وأعوذ بك من شرها
وشر أهلها"، والقرية نفسها لا خير لها ولا شر لها فأضافهما إليها لكونهما
فيها فكذا الإضافة إلى القمر هنا.
(2/303)
في الشباب
روى أنس مرفوعا قال صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فإذا بقصر من ذهب
فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لشاب من قريش فظننت أني هو فقلت: من هو؟
فقالوا: عمر بن الخطاب فيا أبا حفص لولا ما أعلم من غيرتك لدختله"، فقال
عمر: من كنت أغار عليه يا رسول الله لم أكن أغار عليك، فيه ما يدل على فساد
قول من ذهب إلى أن الشاب من كانت سنه أربعين سنة فما دونها بعد بلوغه
والنظر الصحيح في قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} يفيد أن نهاية
الطفولية مبينة في قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ
الْحُلُمَ} فما بعد الحلم ضد لما قبله وهو مبدأ الشباب أذلا ثاني للطفولية
غيره فعلم أن من احتلم شاب ثم ينتهي الشباب بقوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ} وبين بلوغ الأشد في آية أخرى بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فهذه نهاية الشباب بدليل قوله
تعالى بعده: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ولكن يحتمل أن تكون بين بلوغهم
الأشد وبين ن يكونوا شيوخا مدة والله أعلم بمقدارها كما في قوله تعالى:
{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني: آدم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: أولاده
وبين الخلقين زمان ما شاء الله فتكون السن التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيها يوم رأى الرؤيا فوق الأربعين ودون الحال التي يكونون فيها
شيوخا والله أعلم، واسنان الكهولة داخلة في سن الشباب لأنه يقال: شاب كهل
فيجعل كهلا وهو شاب ولا يقال: شيخ كهل إنما يكون شيخا بعد الخروج
(2/303)
من التكهل وهو آخر مدة الشباب ومنه قولهم:
اكتهل الزرع إذا بلغ الحال التي يحصد مثله عليها ويدل عليه قوله صلى الله
عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين
إلا النبيين والمرسلين"، رواه أنس وعلي بن أبي طالب والنبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لا تخبرهما بذلك يا علي"، قال: فما حدث بها حتى ماتا.
(2/304)
في من له الأجر
مرتين
روي مرفوعا "ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين رجل آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى
الله عليه وسلم فآمن به وعبد أدى حق الله عز وجل وحق مولاه ورجل أدب جارية
فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" المراد بالنبي الذي كان نبينا صلى الله
عليه وسلم يعقبه هو عيسى فمن كان آمن به ثم آمن بالنبي استحق الأجر مرتين
وإلا فيستحق أجرا واحدا بدخوله في الإسلام وما كان قبل عيسى من دين موسى
وغيره فلا يستحق ذلك لأن عيسى قد كان طرأ على موسى فإذا لم يكن أتبعه خرج
بذلك من دين موسى وخرج من طاعة الله تعالى فإنه كان متعبدا بدين عيسى وعصى
ذلك فعلم أنه إنما يتسحق الأجر مرتين إذا كان متعبدا على الدين الذي كان
تعبده الله من دين النبي الذي كان قبله وهو عيسى حتى دخل منه في دين النبي
صلى الله عليه وسلم يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أن الله
تبارك وتعالى اطلع على عباده فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا أهل الكتاب"،
وهم عندنا والله أعلم الذين بقوا على ما بعث به عيسى ممن لم يبد له ولم
يدخل فيه ما ليس منه وبقي على ما تبعده الله عليه حتى قال النبي صلى الله
عليه وسلم يومئذ هذا القول.
(2/304)
في تعلم كتاب
السريانية
روي عن زيد بن ثابت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحسن
السريانية أنه يأتيني كتب" قال: قلت: لا قال: "فتعلمها" قال: فتعلمتها في
سبع
(2/304)
عشر يوما، وفي رواية أمرني رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن أتعلم كتاب يهود فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وقال صلى
الله عليه وسلم: "والله إني ما آمن يهود على كتابة فلما تعلمت كنت أكتب إلى
يهود إذا كتب إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابتهم"، إنما أمره بتعلم
السريانية لعدم أمنه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم وخيانتهم وليكون كتابه
إذا ورد على اليهود بقراءة عامتهم فيأمن من كتمان ما فيه وتحريفه لا سيما
إن كان الذي يقرأه لهم من عبدة الأوثان الذين في قلوبهم للنبي صلى الله
عليه وسلم ما لا خفاء به ولأهل الكتاب في قلوبهم ما فيها.
(2/305)
في لولا الهجرة لكنت
امرءا من الانصار
...
في لولا الهجرة لكنت امرء من الأنصار
روي مرفوعا "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" سموا أنصارا من النصرة
لاستحقاقهم إياها بنصرهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وكانت
الهجرة قبل ذلك استحقها أهلها بمثل ذلك وبهجرهم دارهم التي كانوا من أهلها
لله عز وجل ولرسوله إلى الدار التي اختارها الله لرسوله ولهم فجعلها لهم
موطنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الفريقين بالشيئين جميعا
وأعلاهم فيهما منزلة، وعن حذيفة بن اليمان خيرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت النصرة وكان صلى الله عليه وسلم لو اختار
النصرة لنفسه وترك الهجرة صار الناس جميعا أنصارا ولم يبق أحد منهم مهاجرا
فلم يجعل نفسه من الأنصار لتبقى الهجرة والنصرة جميعا.
(2/305)
في كراهية طلب
العقوبة في الدنيا
روي أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا قد صار مثل الفرخ فقال:
"هل كنت تدعو الله بشيء أو قال تسأله إياه"؟ قال: يا رسول الله كنت أقول:
اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال: "سبحان الله لا
تستطيعه أولا تطيقه فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار". لا يعارض هذا ما روي مرفوعا "إذا أراد الله
(2/305)
بعبد خيرا عجل الله له العقوبة في الدنيا
وإذا أراد الله بعبد شرا امسك عنه ذنبه حتى يوفيه يوم القيامة" لان رسول
الله صلى الله عليه وسلم اختار لأمته إشفاقا عليهم ورأفة بهم أن يدعوا الله
بالمعافاة في الدنيا وإن يؤتهم في الآخرة ما يؤمنهم من العذاب وهذا على
الأحوال كلها فلا تضاد بين الحديثين.
(2/306)
في لكع ابن لكع
والكريم ابن الكريم
روي مرفوعا يوشك أن يغلب على الدنيا لكع ابن لكع ابن لكع وأفضل الناس مؤمن
بين كريمين اللكع العبدأ واللئيم والكرم التقوى، وروى مرفوعا أن الكريم ابن
الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهم قال تعالى: {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} رد الكرم إلى التقوى وإلى
المنازل الرفيعة من الله لا إلى ما سوى ذلك ومعنى قوله: بين كريمين مؤمن
بين أب مؤمن تقي هو أصله وابن مؤمن تقي هو فرعه فيكون له من الإيمان موضعه
إيمان نفسه وموضعه بإيمان أبيه وإن كان دونه يرفعه الله إلى منزلته لتقربه
عينه على ما روي أن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن إلى منزلته وإن كانوا
دونه في العمل وقرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ويكون له موضعه أيضا بإيمان
ابنه على ما روي أن الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاثة ولد صالح يدعو
له أو علم منه أو صدقة جارية ومن جمع هذه الثلاثة فقد جمع خير الدنيا
والآخرة.
(2/306)
في الأكل متكئا
روي أنه ما رئى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط ولا يطأ عقبه
رجلان وقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا"، وسبب منع إيطاء
عقبه هو ما روي جابر في حديثه الطويل الذي ذكر فيه دخول رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيته قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فخرجوا
بين يديه وكان يقول: "خلوا ظهري للملائكة"، وفي هذا ما قد دل على
(2/306)
إن غيره في ذلك بخلافه وإنه لا بأس به وعن
خالد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأناس يتبعونه فاتبعته معهم
فاتقى القوم بي فأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني أما قال:
بعسيب أو قضيب أو سواك أو شيء كان معه فوالله ما أوجعني وبت بليلة وقلت:
والله ما ضربني رسول الله إلا لشيء علمه الله في فحدثتني نفسي أن آتي رسول
الله إذا أصبحت فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنك راع فلا
تكسر قرون رعيتك فلما صلى الغداة أو قال: أصبحنا قال صلى الله عليه وسلم:
"أن ناسا يتبعوني وأنه لا يعجبني أن يتبعوني اللهم فمن ضربت أو سببت فاجعله
له كفارة وأجرا- أو قال مغفرة".
وسبب ترك الأكل متكئا هو ما روي أن الله تعالى أرسل إليه ملكا ومعه جبريل
فقال الملك: أن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا فالتفت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأشار جبريل بيده أن
تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بل أكون عبدا نبيا"، فما أكل
بعد ذلك طعاما متكئا ويحتمل أن يكون تركه الأكل متكئا لأنه لم تجر به عادة
العرب وإنما هو من زي العجم، وعن عمر رضي الله عنه اخشوشنو واخلولقوا
وتمعددوا فإنكم معد وإياكم والتنعم وزي العجم أما إذا كان في حال إعياء
وتعب بدن أو علة تدعوه إلى الاتكاء فلا بأس به، التمعدد هو العيش الخشن
وكان عادة الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان العجم عليه.
(2/307)
في البطانة
روي مرفوعا "ما بعث الله عز وجل من نبي ولا استخلف من خليفة إلا وله
بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة لا تألوه خبالا فمن وقى شر
بطانة السوء فقد وقى" وهو من التي تغلب عليه منهما، وفي بعض الآثار بطانة
تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا والمعصوم من عصمه
الله الأنبياء صلوات الله عليهم لما لزمهم الشرائع افتقروا إلى مخالطة
الناس
(2/307)
فمن أظهر إليهم منهم خيرا استبطنوه ووالوه
فمن كان باطنه منهم كظاهره فهي البطانه المحمودة التي تأمره بالخير كما وصف
الله تعالى في كتابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
ومن لم يكن باطنه كظاهره فهي البطانة المذمومة التي لا تألوه خبالا إلى أن
يطلعهم الله تعالى من أمرهم ما يوجب مباعدتهم كما في قوله تعالى: {وَمِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ} وقوله: وهو من التي تغلب عليه منهما المراد به غير الأنبياء
من الخلفاء لأن الانبياء معصومون لا يكونون إلا مع من تحمد خلائقه وهذا
شائع في اللغة أن يخاطب الجماعة والمراد به بعضهم نحو قوله تعالى: {يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وقوله
عليه السلام: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا" وقرأ آية المحنة ثم
قال: "فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له"، ونحن نعلم أن من عوقب
بالشرك فليس ذلك كفارة له وإنما المراد بعض الأشياء التي في الآية لا كلها
فكذا قوله: وهو من التي تغلب عليه منهما.
(2/308)
في واعظ الله
روي مرفوعا ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبي الصراط سور فيه أبواب
مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس
ادخلوا الصراط جميعا ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد- كأنهم
يعنون1 رجلا فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه
فالصراط الإسلام والستور حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك
الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق كأنه يعني الصراط واعظ
الله في قلب كل مسلم المراد بالواعظ حجج الله التي تنهاه عن الدخول في
المحرمات باستقرارها في نفسه وبصائره التي يجعلها في قلبه وعلومه التي
أودعها إياه لأن
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر كأنه يعني.
(2/308)
ذلك كله ينهاه عما لا يسوغ له ولأن الواعظ
من الناس هو الناهي عن المنكرات فكذا هذا.
(2/309)
في ابتلاء الأنبياء والأولياء
روى عن سعد قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم
الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه أو على حسب دينه فإن
كان صلب الدين اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر ذلك فما يبرح
البلاء بالعبد حتى يمسي وليست عليه خطيئة"، وصف النبي صلى الله عليه وسلم
الدين بالصلابة والرقة راجع إلى غير الأنبياء وفيه أن من سواهم يحط عنهم
ببلائهم خطاياهم إذا صبروا واحتسبوا والأنبياء لا خطايا لهم في الصحيح من
الأقوال، وعن عبد الله قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه وهو
يوعك وعكا شديدا فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا أن لك أجرين؟ قال:
"أجل ما من مسلم يصيبه أذى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر"، لما
لم ينكر صلى الله عليه وسلم على عبد الله وقال: "أجل" دل على أن ذلك الأجر
يكتب له لما لم تكن له خطايا تحط عنه بما كان يصيبه من الوعك في بدنه.
وعن أبي سعيد الخدري أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو موعوك عليه
قطيفة فوضع يده عليها فوجد حرارتها فوق القطيفة فقال أبو سعيد: ما أشد
حرارتك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء
ويضاعف لنا الأجر"، فدل على أنه وسائر الأنبياء يضاعف لهم الأجر إذ لا ذنوب
لهم ولا خطايا فتحط عنهم، وروي مرفوعا لا تصيب المؤمن نكبة ولا وجع إلا رفع
الله له بها درجة وحط عنه بها سيئة، فيه إثبات الأجر لمن أصابه نكبة أو وجع
مع حط الخطايا عنه.
لا معنى لمن أنكر هذا بأنه لا فعل له ولا نية فكيف يؤجر فإن المسلمين
(2/309)
لم يزالوا يعزون بعضهم بعضا على مصائبهم
بأوليائهم بأن يعظم الله أجورهم وليس لهم فيها فعل سوى الصبر والاحتساب
فكذا الأمراض والأوجاع وكذلك أنكروا ما روي مرفوعا ما من مسلم يبتلى في
جسده إلا كتب له في مرضه كل عمل صالح كان يعمله في صحته وقالوا: كيف يكتب
الأجر لرجل من غير عمل يستحق به؟ قلنا: الأجر إنما يكتب له بحسن النية مع
الصبر والرضا بالقضاء.
ولا يعارض ما ذكرنا قول ابن مسعود أن الوجع لا يكتب به أجر ولكن الله يكفر
به الخطايا لأنه يحتمل أنه أراد اختلاف أحكام الناس فيه فمنهم من له خطايا
تستغرق أجره عليها فيكون ثوابه حط خطاياه لا غير ومن لا خطايا له كالأنبياء
أو كمن سواهم ممن يتجاوز أجره على مرضه حطيطة خطاياه فيكتب له من الأجر ما
يتجاوز قدر خطايها التي حطت عنه وزاد بعض الرواة على نص ابن مسعود من قوله
الأجر بالعمل يعني العمل لا يحط الخطايا ولكن يكتب به الأجر كان لعامله
خطايا أو لم تكن بخلاف الأمراض والأوجاع فإنها تحط بها الخطايا إن كانت
ويكتب بها الأجران لم تكن هناك خطايا ولكن الآثار متظاهرة بخلاف ذلك منها
قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه"، وقوله: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له في اليوم مائة مرة
غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"، وقوله: "من خرج إلى الصلاة فإنه في
صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة وأنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة وتمحى عنه
بالأخرى سيئة"، ودل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من تكفير الخطايا بما
يصيب الإنسان قوله: "لا يصيب المؤمن وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى إلا كفر
عنه به"، وقوله: "ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كانت له كفارة"، وعن
أبي سعيد الخدري أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيب
أبداننا وأجسامنا ما لنا بها قال: "الكفارات" قال أبي بن كعب: وإن قل
(2/310)
ذلك يا رسول الله قال: "وإن شوكة فما
وراءها"، فدعا أبي بن كعب على جسده أن لا تزال حمى مصارعة بجسده ما أبقى في
الدنيا لا تحول بينه وبين حج ولا عمرة ولا جهاد ولا شهود صلاة في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فكان كذلك إلى إن مات، وما روي مرفوعا "ما يصيب
المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها سيئة"، فلا
يخالف ما روينا بل يؤكده لأنه يحط الخطايا إن كانت أو يرفع بها في الدرجات
ويكتب الأجر لمن لا خطايا له ولا ذنوب عليه فلا منافاة.
(2/311)
في التفريق بين
الأمة
روي عن علاقة بن عرفجة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون هنات
وهنات فمن أراد أن يفرق بين أمة محمد وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من
كان"، الهنة كناية عن شيء مكروه وجمعها هنات فأخبر أنه سيكون بعده أمور
مكروهة وبين بعضها بقوله: "فمن فرق بين أمة محمد" الحديث، فكشف لهم بذلك
هنة منها وأمرهم بما يفعلونه عند ذلك وسكت عن الباقيات ليرجعوا فيها إلى ما
قد شرعه في التفريق أو يشرع له في المستقبل.
(2/311)
في أعجب الناس إيمانا
عن ابن عباس أصبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل من ماء هل من ماء هل
من شن" فأتى بالشن فوضع بين يديه صلى الله عليه وسلم ففرق أصابعه فنبع
الماء من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى فأمر بلالا
فهتف بالناس الوضوء فلما فرغ وصلى بهم الصبح ثم قعد قال: "يا أيها الناس من
أعجب الخلق إيمانا" قالوا: الملائكة قال: "وكيف لا تؤمن الملائكة وهم
يعاينون الأمر" قالوا: النبيون يا رسول الله قال: "وكيف لا يؤمن النبيون
والوحي ينزل عليهم من السماء" قالوا: فأصحابك قال: "وكيف لا يؤمن أصحابي
وهم يرون ما يرون ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يخرجون من بعدي يؤمنون بي ولم
يروني يصدقوني ولم يروني
(2/311)
أولائك أخواني"، وروى عنه أنه قال: "أن
خيار أمتي أولها وآخرها وبين ذلك ثبج أعوج ليسوا مني ولست منهم"، فيه أنه
سيأتي بعد المذمومين قوم ممدوحون إذ بقى من أمته المهدي والعصابة التي
تقاتل الدجال وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان ومنهم من
يقتله الدجال على ذلك لتكذيبه به وثباته على الحق.
(2/312)
في إسلام حصين
روي أن حصينا الخزاعي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد كان عبد
المطلب خيرا القومه منك كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت تنحرهم فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ماشاء الله أن يقول" ثم أن حصينا قال: يا محمد
ماذا تأمرني أن أقول قال: "تقول اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وأسألك أن
تعزم لي على رشد أمري" قال: ثم أن حصينا أسلم ثم أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إني سألتك المرة الأولى وإني الآن أقول: ما تأمرني أن أقول قال:
قل: "اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما جهلت وما
علمت"، المراد بالخطأ هو الذي يخطئ به المرء جهة الصواب من قوله تعالى:
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} ليس المراد ضد العمد فإنه لا يؤاخذ به
قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وكذا
المراد بقوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} فإنه المكسوب بقصدهم إليها وتعمدهم
إياها وقوله: "وما جهلت" أي: ما عملته جاهلا بقصدي إليه مع معرفتي به
وجنايتي على نفسي بدخولي فيه وعملي إياه.
(2/312)
في استعمال ما فيمن يعقل
روي مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى قرية يريد نزولها قال:
"اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الرياح وما ذرين ورب الأرضين وما
أقللن ورب الشياطين وما أضللن أسألك من خير هذه القرية ومن خير أهلها وأعوذ
بك من شرها ومن شر أهلها وشر ما فيها"، إنما قال: "رب الشياطين وما أضللن"
لأن ما قد تستعمل في بني آدم نحو قوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}
(2/312)
يريد آدم ومن ولد وقوله: {إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} .
(2/313)
في ثلاثة لا يستجاب لهم
عن أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يدعون الله فلا
يستجاب لهم رجل أعطى ما له سفيها وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ورجل داين بدين ولم يشهد ورجل له امرأة سيئة
الخلق فلا يطلقها"، لما أمرنا بالإشهاد عند التبايع ونهينا عن إيتاء
السفهاء أموالنا حفظا عليها وعلمنا الطلاق عند الحاجة. كان من ترك ما أرشده
الله إليه هو المفرط المقصر فلا يلومن إلا نفسه وكان من سواهم ممن ليس
يعارض للإرشاد مرجوا له الإجابة فيما يدعو ربه فيه وداخلا تحت قوله عز وجل:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ما لم يستعجل الإجابة.
(2/313)
في فعل الله بمن أراد له خيرا
روي مرفوعا أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا عسله قالوا: وكيف يعسله؟
قال: يهديه إلى عمل صالح حتى يقبضه عليه، عسله: أي أماله إلى ما يحب من
الأعمال الصالحة حتى يكون ذلك سببا لإدخاله الجنة من قول العرب: رمح فيه
عسل أي: اضطراب وميل.
(2/313)
في التحذير من السر
عن ابن عمر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشرك بالله شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة
وتحج وتعتمر وتسمع وتطيع وعليك بالعلانية وإياك والسر أن تحكم بين الناس
بما ظهر منهم من الخير ولا تطلب سرائرهم" لأن الله قد نهاه عن ذلك {وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
وروى أن عمر بن الخطاب خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا
كنا نعرفكم إذ ينزل الوحي وإذا النبي صلى الله عليه وسلم بين
(2/313)
أظهرنا وإذ ينبئنا الله من أخباركم فقد
انقطع الوحي وذهب النبي صلى الله عليه وسلم فأنا أعرفكم بما أقول من رأينا
منه خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ومن رأينا منه شرا ظننا به شرا
وأبغضناه عليه سرائركم بينكم وبين ربكم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لقاتل
قائل لا إله إلا الله بعد اعتذاره إليه أنه إنما قالها تعوذا: "ألا شققت عن
قلبه"، أي: أنك غير واصل منه إلى غير ما نطق به لسانه وسمعته منه.
(2/314)
في النجباء والوزراء
والرفقاء من الصحابة
روي عن علي بن أبي طالب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه لم يكن نبي
إلا أعطى سبعة نجباء ووزراء ورفقاء وإني أعطيت أربعة عشر حمزة وجعفر وأبا
بكر وعمر وعليا والحسن والحسين وعبد الله بن مسعود وسلمان وعمارا وحذيفة
وأبا ذر والمقداد وبلالا".
وعن عمر أنه كتب إلى أهل الكوفة أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد
الله بن مسعود وزيرا وهما من النجباء من الصحابة فاسمعوا لهما واقتدوا بهما
وإني قد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي أثرة النجباء هم الرفعاء بما
رفعهم الله به من الأعمال الصالحة وذكرهم في الحديث بالنجابة لا ينافي كون
غيرهم كذلك كقول الرجل لي من المال ألف دينار وألف درهم لا ينفى أن يكون له
من المال آلاف دينار ودراهم.
(2/314)
في ما يسعد به المرء
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من سعادة المرء المسكن الواسع والجار
الصالح والمركب الهنئ لما كان الجار مأمورا بإكرام جاره محرما إيذاؤه عليه
بالنصوص القاطعة فإذا وجد جار صالح يحسن إليه ويكف عنه أذاه فهو نعمة عظيمة
يجب عليه شكر الله على ذلك وأما سعة المنزل بعد الجار الصالح بحيث لا يضيق
عما يحتاج إليه نعمة واسعة لا يخفي وأما المركب الهنئ إذا لم يشغل قلب
راكبه بما يتأذى منه في حركاته ومشيه عن ذكر الله عز وجل فكذلك.
(2/314)
في الصبر على سوء
جاره
روى أبو ذر مرفوعا ثلاثة يحبهم الله عز وجل وثلاثة يشنأهم فأما الذين يحبهم
فرجل لقي فئة أو سرية فانكشف أصحابه فلقيهم بنفسه ونحره حتى قتل أو فتح
الله عليه ورجل كان مع قوم فأطالوا السرى حتى أعجبهم أن يمسوا الأرض
فنزلوها فتنحى فصلي حتى أيقظ أصحابه للرحيل ورجل كان له جار سوء فصبر على
أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن قال: قلت: هؤلاء الذين يحبهم الله فمن
الذين يشنأهم الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "التاجر الحلاف أو البائع
الحلاف- شك الجريري- والبخيل المنان والفقير المختال"، لما كان حق الجار
على جاره إكرامه فإذا منعه وخلطه بأذاه وصبر على ذلك واحتسبه كان من أهل
طاعة الله المتمسك بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فلذلك أحبه الله
تعالى.
(2/315)
التوصية بالجار
روي مرفوعا "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" كان ذلك
والله أعلم في أول الإسلام حين كان الميراث بالتبني وبالحلف فلما وصاه
جبريل بالجار وأكد حقه لم يأمن أن يورثه ثم لما نسخ ذلك بقوله: {مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} و {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} نسخ
هذا الظن أيضا.
(2/315)
في خير الجيران والأصحاب
روي مرفوعا "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله
خيرهم لجاره" لأن الجار لما كان مأمور بالإحسان إلى جاره كان المتمسك به
مستوجبا للثواب فمن كان أكثرهم حظا من ذلك كان أعظمهم ثوابا عليه فكان عند
الله خيرهم.
(2/315)
في الضيافة
عن المقداد بن الأسود قال: جئت أنا وصاحب لي قد كادت تذهب
(2/315)
أسماعنا وأبصارنا من الجوع فجعلنا نتعرض
فلم يضفنا أحد فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أصابنا
جوع شديد فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد فأتيناك فذهب بنا إلى منزله وعنده
أربعة أعنز فقال: "يا مقداد أحلبهن وجزئ اللبن لكل اثنين جزءا".
وعن المقدام أبي كريمة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة
الضيف حق واجب على كل مسلم فإن أصبح بفنائه فإنه دين إن شاء اقتضاه وإن شاء
تركه".
وعن عقبة قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فنمر بقوم فلا يأمرون لنا بحق
الضيف قال: "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فخذوا منهم حق الضيف
فاقبلوا وإن لم يفعلوا الذي ينبغي". وعن أبي هريرة يرفعه أيما ضيف نزل بقوم
فأصبح محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه.
ظاهر الحديث الأول أن الضيافة غير واجبة إذ لم ينكر صلى الله عليه وسلم على
من تخلف عنها وباقي الأحاديث يدل على وجوبها فيحتمل أن يكون الأول على ضيف
قد يستطيع أن يدفع حاجته أما بسؤال أو تصرف في نفسه والباقي فيمن يمر على
قوم في بادية لا يجد من يبتاع منه ولا يجد من الضيافة بدا فيرتفع التضاد
يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب
نفس منه"، وقوله: "ولا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتي
مشربته فتكسر خزانته"، وقوله: "لا يحل لامرىء مسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير
طيب نفس منه"، قال: وذلك يشده ما حرم الله على المسلم من مال المسلم وكل ما
جاء من الأحاديث الدالة على جواز التناول من غير رضا صاحبه أو حضور فذلك
عند الضرورة يؤيده ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال لمولاه عبد الرحمن في
سفر نزلا في قرية دهقان: إن كنت تريد أن تكون مسلما حقا فلا تأكل منها شيئا
فباتا جائعين، وكان ذلك القول منه على أحكام القرى لا البوادي.
(2/316)
في قطع السدر
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الذين يقطعون كأنه
يعني: السدر يصبون في النار على رؤوسهم صبا".
وعن عمرو بن أوس قال: أدركت شيخا من ثقيف قد أفسد السدر زرعه فقلت: ألا
تقطعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إلا من زرع" قال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قطع سدرا إلا من زرع صب الله عز
وجل عليه العذاب صبا"، فأنا أكره أن أقطعه من الزرع ومن غيره، اضطرب رواة
الحديثين في الإسناد وأوقفه بعضهم على عروة بن الزبير لم يتجاوز به إياه
إلى عائشة وإلى من سواها وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقطع السدر
يجعله أبوابا فإن صحا فقد لحقهما نسخ لأن عروة مع جلالة قدره لا يدع شيئا
قد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضده إلا لما يوجب ذلك وقد كان
سفيان ينكره ويأمر بالعمل بضده مع أن سائر الفقهاء على إباحة قطعه.
(2/317)
في البله
روي أنس مرفوعا أن أكثر أهل الجنة البله، البله المرادون فيه هم البله عن
محارم الله تعالى لا من سواهم ممن نقص عقله بالبله يؤيده ما روي مرفوعا
الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وقوله
تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} أي: لا يفقهون
بقلوبهم الخير ولا يسمعونه بآذانهم لما قد غلب على قلوبهم وعلى أسماعهم مما
يمنعهم من ذلك وقيل المراد بالبله عن محارم الله هو الذي لا يخطر المحارم
على قلبه لاشتغالهم بعبادة الله.
قال الطحاوي: ومن ذلك الحديث في أشراط الساعة وإذا رأيت الحفاة العراة
البكم الصم ملوك الأرض فذلك من أشراطها لأن المراد غير
(2/317)
بالبكم والصم بل المراد البكم عن القول
المحمود والصمم عنه ومنه الحديث المروي المتعارف عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر
والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كاحتراق السعفة"،
لأن معناه أن إفهامهم التي يعلمون بها مقادير هذه الأزمان مشغولة بما غلب
عليها مما لا يعلمون معه مقاديرها فيرون أنها قد نقصت عما كانت عليه وهي
بحالها لم تنقص عما كانت عليه في الحقيقة وقد روي عن رجل من أهل العلم أنه
قال: هذا على التشاغل باللذات وهو تأويل حسن موافق لما تأولناه عليه.
(2/318)
في الرزق والأجل والسعادة والشقاء
روي مرفوعا "لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ومن سره
النسأ في أجله ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه"، مع ما روى أن الله عز وجل
إذا أراد أن يخلق نسمة أمر الملك بأربع كلمات رزقها وعملها وأجلها وشقى أو
سعيد فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه- لا تضاد فيما ذكرنا إذ يحتمل أن الله
تعالى إذا أراد أن يخلق النسمة جعل أجلها إن برت كذا وإن لم تبر كذا وإن
كان منها الدعاء رد عنها كذا وإن لم يكن منها الدعاء نزل بها كذا وإن عملت
كذا حرمت كذا وإن لم تعمله رزقت كذا ويكون ذلك مما قد ثبت في الصحيفة التي
لا يزاد على ما فيها ولا ينقص منه وكذلك ما روي أبان بن عثمان أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض
ولا في السماء وهو السميع العليم حين يمسي لم يفجأه فاجئة حتى يصبح وإن
قالها حين يصبح لم يفجأه فاجئة حتى يمسي" - وكان أصابه فالج فقيل له: أين
ما كنت حدثتنا قال: والله ما كذبت ولكني حين أراد الله ما أراد بي أنساني
ذلك الدعاء.
(2/318)
في حين نفخ الروح
عن عبد الله بن مسعود حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
(2/318)
الصادق المصدوق "إن خلق أحدكم يجمع في بطن
أمه أربعين يوما وأربعين ليلة دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل
ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر أن يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد فوالله إن
أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيغلب عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيغلب عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة
فيدخل الجنة" وفي رواية فيسبق عليه الكتاب الذي سبق في الموضعين جميعا وزاد
بعضهم عقب قوله: شقي أو سعيد فوالذي نفس ابن مسعود بيده الحديث فأضافه إلى
ابن مسعودوأخرجه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال بعضهم: فوالذي
نفس محمد بيده الحديث فدل ذلك أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم لا من كلام
ابن مسعود إذ لا يجوز أن يكون من عبد الله كما هو ورسول الله ميت لأنه إنما
يحلف بأنفس الإحياء لا بأنفس الأموات وعلى كل تقدير فالكلام حق ولا يقوله
ابن مسعود رأيا بل توقيفا وقول بعض الرواة فيه ثم ينفخ فيه الروح يبين معنى
ما حده الله عز وجل في مدة الوفاة روي أن أبا العالية سئل لأي شيء ضمت هذه
العشرة إلى الأربعة الأشهر في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} قال: أنه ينفخ فيه الروح في هذه العشرة وقد
استدل محمد بن الحسن في الجارية المشتراة إذا تأخر حيضها لا يحل له حتى
يمضي أربعة أشهر وعشرا بأن الروح ينفخ في تلك المدة إن كانت حاملا فيقف عن
وطئها حتى يتبين حملها فإن لم يظهر وسعه وطئها لأن أمرها بذلك يغلب الظن
على فراغ رحمها.
(2/319)
في المؤمن والفاجر
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن "غر كريم والفاجر خب لئيم" الغر هو
الذي لا غائلة معه ولا باطنة خلاف ظاهره ومن كانت هذه سبيله أمن المسلمون
من لسانه ويده والفاجر على عكسه لأنه يبطن ما يكره ويظهر خلافه
(2/319)
كالمنافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر فكان
مثله الخب الذي يظهر ما يحمده عليه المسلمون ويبطن ما يذمه عليه المسلمون
والفاجر الذي خالف بينه وبين المؤمن.
(2/320)
في صفة قريش
روي مرفوعا أن للقرشي مثلي قوة الرجل من غير قريش ما يراد بذلك إلا تنبيل
الرأي فيكون المراد به قرشي صاحب رأي لا غير لأن الشيء إذا وصف به رجل من
قوم ذوي عدد جاز أن تضاف الصفة إلى أولئك القوم جميعا وإن كان الموصوف بها
خاصا منهم منه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي:
المؤمنين منهم ومنه قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي: من لم يؤمن
به لا جميعهم وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "واشدد وطأتك على مضر"، أي:
على من لم يؤمن منهم ومنه قوله تعالى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}
بالإضافة واختاره أبو عبيد لإجماعهم على {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}
بالإضافة ولم يقل أحد فيه بالتنوين فاحتج عليه بأن هنا لو كان بالإضافة
يلزم النفي عمن سواهم فأجاب أبو عبيد بأن الشيء إذا كثر جاز أن يضاف إلى
إلى كله ما كان من بعضه فيجوز أن يقال لبعض الناصرين ناصروا الله اتفاقا،
وفيما روي عنه صلى الله عليه وسلم "انظروا إلى قريش واسمعوا قولهم وذروا
فعلهم"، ليس على عمومه أي: اسمعوا من ذوي القول منهم الذي يجب سماعه لا من
سواهم ممن ليس بذي القول المسموع شرعا وكذلك وذروا فعلهم أي: من كان من ذوي
الفعل المذموم لا من سواهم من ذوي الفعل المحمود.
(2/320)
في عزاء الجاهلية
روي أن رجلا تعزى بعزاء الجاهلية عند أبي بن كعب فأعضه أبي ولم يكنه فنظر
إليه أصحابه فقال: كأنكم أنكرتموه فقال أبي: أني لا أهاب أحدا في هذا أبدا
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تعزى بعزاء
(2/320)
الجاهلية فأعضوه ولا تكنوه"، وفي حديث آخر
فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا، لا يعارض هذا ما روي مرفوعا: الحياء من الإيمان
والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار، يريد أهله لأن
البذاء المأمور به هو على من يستحقه عقوبة كمن يدعو بدعوى الجاهلية لأنه
يدعو برجل من أهل النار كانوا يقولون: يا آل بكر يا آل تميم فجعل صلى الله
عليه وسلم عقوبة من دعا كذلك أن يقابل بما ذكر في الحديث استخفافا بالداعي
والمدعو إليه لينتهي الناس عن ذلك في المستأنف والبذاء المنهي عنه هو
البذاء على من لا يستحق.
فإن قيل: روى أن مهاجرا كسع أنصاريا فقال المكسوع: يا آل الأنصار وقال
الكاسع: يا آل المهاجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى
الجاهلية"؟ قالوا: يا رسول الله رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار فقال
صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة"، يدل على دفع هذا المعنى إذ لو
كان الأمر على ما في الحديث الأول لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من
ترك ذلك قيل له: أن هذا دعاء بأهل الهجرة وأهل النصرة فلم يكن كالدعاء إلى
رجل جاهل من أهل النار كافر بالله ورسوله وإنما قال: "ما بال دعوى
الجاهلية" لمشابهتها بدعواهم يا آل فلان فكره صلى الله عليه وسلم ذلك القول
ممن قاله إذ كان الله تعالى أوجب لأهل الإسلام على أهل الإسلام النصرة ودفع
الظلم والأذى عنهم وأوعد من مر بمظلوم فلم ينصره.
(2/321)
في الخصال المنهي
عنها
عن أبي ريحانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عشرا الوشر والوشم
والنتف ومكامعة الرجل الرجل بغير شعار ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار
والحرير أن تصنعوه من أسفل ثيابكم كما يصنع العجم والنمر والنهبة والخاتم
إلا لذي سلطان، وروي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن معاكمة الرجل
الرجل إلى آخره عن أبي عبيد المعاكمة هو أن يضاجع الرجل
(2/321)
صاحبه في ثوب واحد أخذ من العكيم وهو
الضجيع ومنه قيل لزوج المرأة: عكيمها1 وروى نهى عن المكاعمة وهو أن يكعم
الرجل صاحبه أخذ من كعام البعير وهو أن يشد فمه إذا هاج يقال: كعمه كعما
فهو مكعوم وكذلك كل مشدود الفم فهو مكعوم وأما المعاكمة فهو مأخوذ من ضم
الشيء إلى الشيء ومنه قيل: عكمت الثياب إذا شددت بعضها إلى بعض ومنه ما روي
أبو هريرة لا تباشر المرأة المرأة ولا الرجل الرجل والوشر هي التي تشر
أسنانها حتى تصلحها وتجددها والوشم ففي اليد تغرز الأبرة بظهر كفها ومعصمها
حتى يؤثر فيه ثم تحشوه بالكحل فيخضر بذلك.
__________
1 كذا والمنقول عن أبي عبيد إنما هو في المكامعة وأنه أخذ من الكميع وزوج
المرأة كميعها كما في النهاية وغيرها والظاهر أن هذا تحريف من النساخ بدليل
أنه سيأتي تفسير المعاكمة ولو كان هذا تفسيرا لها أيضا لكان الفصل خاليا عن
تفسير المكامعة مع ثبوتها في الرواية كما تقدم وهي أثبت الروايات، وفي
النهاية نسبة رواية المعاكمة وتفسيرها بما يأتي إلى الطحاوي فقط- ح.
(2/322)
في الذباب والشراب
روي مرفوعا: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه فإن في
أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء"، وفي رواية:
فليمقله ثم يلقيه أنكره جاهل وقال: لا اختيار للذباب في تقديم جناح وتأخير
آخر ولكن الله تعالى يلهمه لما شاء أن يكون سببا لفعل وكيف ينكره وقد قال
تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي} الآية أي:
ألهمها وقال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى
لَهَا} أي: للأرض و {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَسَاكِنَكُمْ} الآية فألهمت ما كان فيه نجاتها ونجاة ما سواها من سليمان
وجنوده وقصة هدهد مع سليمان أكبر شاهد بإلهام الله عز وجل إياه ذلك.
(2/322)
في القمار
روى مرفوعا: "من قال لأخيه تعال أقامرك فليتصدق" أي: فليتصدق بالقمار وذلك
أن القمار حرام وسبيل المتقامرين إخراج كل من ماله ما يقامر به فأمر أن
يصرف ما أخرجه للمعصية في الطاعة التي هي قربة إلى الله تعالى ووسيلة لديه
ليكون ذلك كفارة لما حاول أن يصرف فيه مما هو حرام لا أن يتصدق من الحاصل
بالقمار فإنه حرام غير مقبول له حكم الغلول وتسميته بالقمار تسمية الشيء
باسم ما قرب منه كتسميتهم ابن إبراهيم ذبيحا ومثله كثير وحكم ما قامر به
الرد إلى صاحبه وإلى ورثته فإن لم يقدر يتصدق به عنه لا عن نفسه والله
أعلم.
(2/323)
في كراهة الوقف قبل
تمام الكلام
عن عدي بن حاتم جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد أحدهما
فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمها فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "بئس الخطيب أنت قم" - الإنكار راجع إلى معنى التقديم والتأخير فيكون
التقدير من يطع الله ورسوله ومن يعصهما فقد رشد وذلك كفر وكان ينبغي الوقف
على فقد رشد ثم يبتدئ ومن يعصهما فقد غوى مثل قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} {وَاللَّائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} وإذا كان هذا
مكروها في كلام الناس ففي كتاب الله أشد كراهة والمنع أوكد.
(2/323)
في التمثل بالشعر
والرجز
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بشعر ابن رواحة
ويأتيك بالأخبار ما لم تزود
وروى مرفوعا: أنه نزل يوم حنين فاستنصر فقال:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وروى أنه صلى الله عليه وسلم خرج في غداة باردة والمهاجرون والأنصار يحفرون
الخندق بأيديهم فقال:
(2/323)
اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر
للأنصار والمهاجرة
فأجابوه
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وعن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب
يوم الخندق حتى وارى التراب شعر صدره وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة
يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فانزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام ان لاقينا
ان الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
يمد بها صوته. وعن أبي هريرة مرفوعا: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكاد ابن أبي الصلت يسلم، وعن جندب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزاة فشكت أصبعه فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
قد أنكر منكر هذه الآثار كلها متمسكا بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وليس في الآية ما يدفعها لأنها نزلت ردا
على المشركين قولهم: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يعني: أن المنزلة
التي أنزله الله تعالى إياها من نبوته وكرامته تجل عن أحوال الشعراء من
المدح والهجاء والغلو وإن يقولوا ما لا يفعلون وفي كل واد يهيمون ونفي
النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه الشعر في قوله: "اللهم إن فلان بن فلان
هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فأهجوه فألعنه عدد ما هجاني"، ثم لما كان في
الشعر حكما وما ذكرنا في الآثار كلها من حكم الشعر أجرى الله تعالى الحكمة
على لسانه لا أنه شعر إرادة وقصدا إليه دل عليه أنه لم يأت منه إلا بما فيه
حاجة من هذا الجنس وقد يتكلم الرجل بكلام موزون
(2/324)
مما لو شاء أن يبني عليه ما يكون شعرا فعل
وليس بشعر ولا قائله شاعر وقد يحكى عن الفقيه من ليس بفقيه ولا يصير بذلك
فقيها ولقد زعم الخليل وموضعه من العربية موضعه إن الأراجيز ليست بشعر فبان
جهل المنكر الذي نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منفيا عنه إذ ما
تكلم به مما في الآثار كلها حكمة علق بلسانه من الشعر فنطق به ولم يكن به
شاعرا.
قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "وهو يعلم إني لست بشاعر فأهجوه" إنه لو
كان شاعر لهجا الهاجي وهذا لا يناسب خلقه العظيم فإنه صح أنه قال لأبي جرى
الهجيمي: "يا أبا جرى لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تصب من دلوك في دلو
المستقى وإن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنه من
المخيلة والله لا يحب الخيلاء" قال: يا رسول الله الرجل يسبني بما في أسبه
بما فيه قال: "لا فإن أجر ذلك لك وإثمه ووباله عليه".
قلت: لا دليل فيه على ما توهمه لأن المقصود أعلام الناس بذلك لأنه ليس
بشاعر مثله كقوله: فيهجوه إذا التهاجي إنما يكون من الأكفاء ولا كفء له من
الناس وكانوا يرفعون أنفسهم عن أن يهاجوا من ليس لهم بكفء أو في ذلك يقول
حسان بن ثابت مخاطبا لأبي سفيان بن حرب1:
هجوت محمدا أفأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخير كما الفداء
__________
1 هذا سهو وإنما هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب- ح.
(2/325)
في زمان لا معنى فيه
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عن أنس قيل: يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال:
"إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل" قيل: وما ذاك؟ قال: "إذا ظهر الإدهان
في خياركم والفاحشة في شراركم ويحول الملك في صغاركم والفقه في أراذلكم".
وعن ابن مسعود وأبي موسى مرفوعا: أن بني إسرائيل كان أحدهم يرى من صاحبه
الخطيئة فينهاه تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وواكله
(2/326)
وشاربه كأنه لم يره على خطيئته بالأمس فلما
رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم
داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والذي نفس محمد بيده
لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد السفيه ولتأطرنه على
الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على رقاب بعض1 ويلعنكم كما لعنهم.
فالزمان الذي يكون أهله ملعونين لا معنى لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر
والإدهان التليين ممن لا ينبغي التليين له قاله الفراء ومنه قوله تعالى:
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي: تلين فيلينوا لك وإدهان الخيار
للشرار هو التليين لهم لأن المفروض عليهم خلاف ذلك وتحول الملك في الصغار
تولي أمور الإسلام من إقامة الجمعة وجهاد العدو وسائر الأشياء التي إلى
الأئمة إقامتها وعلى العامة الاقتداء بهم فيها والفقه في أراذلكم أي: ممن
ليس له نسب معروف قال عليه السلام: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام
إذا فقهوا"، والخيار في الجاهلية بالشرف في الأنساب فإذا فقهوا كانوا خيار
أهله2 وفقه من ليس له نسب ليس كذلك.
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر على قلوب بعض- ح.
2 كذا وعبارة المشكل 4/316 فإذا فقهوا كانوا خيار أهل الإسلام.
(2/327)
في حفظ سر الرسول
صلى الله عليه وسلم
...
في حفظ سر الرسول الله صلى الله عليه وسلم
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى ابنته فاطمة فبكت ثم أسر
إليها فضحكت فسألتها عائشة عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإن رسول الله لما توفي عزمت عليها عائشة أن تخبرها بذلك
فقالت: أما الآن فنعم أنه لما سارني في المرة الأولى قال: "إن جبريل كان
يعارضني القرآن في كل عام مرة وأنه عارضني العام مرتين وإني لا أظن إلا
أجلي قد حضر فاتقى الله فنعم السلف أنا لك"، فبكيت بكائي الذي رأيت ثم
سارني في الثانية فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء
(2/327)
المؤمنين"، فضحكت.
وعن أنس كنت في غلمان فأتى علينا النبي صلى الله عليه وسلم فسلم علينا ثم
أخذ بيدي فبعثني في حاجة له وقعد في الجدار أو في ظل الجدار حتى رجعت إليه
فلما أتيت أم سليم فقالت: ما حبسك؟ فقلت: أرسلني رسول الله صلى الله عيه
وسلم برسالة قالت: ما هي؟ قلت: أنها سر قالت: احفظ سر رسول الله صلى الله
عليه وسلم فما أخبرت بها أحدا بعد.
وعن عبد الله بن جعفر أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه ثم
أسر إلي حديثا أن لا أحدث به أحدا من الناس.
وعن عمر بن الخطاب حين بانت حفصة من زوجها وكان قد شهد بدرا توفي قال عمر:
فلقيت عثمان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في ذلك فلبثت ليالي ثم لقيني
فقال: بدا لى أن لا أتزوج يومي هذا فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فصمت أبو
بكر ولم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك
وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قلت: نعم قال: فإنه لم
يمنعني أن أرجع إليك إلا أني علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها لقبلتها.
إنما جاز لفاطمة الإخبار بما أسر إليها لأن ذلك السر ظهر بموته فخرج من خبر
السر إلى ضده فأطلق لها الأخبار وكذلك اعتذار أبي بكر لعمر لم يكن من إفشاء
ما اؤتمن عليه من السر وأما الذي أسر إلى أنس وعبد الله بن جعفر مما لم
يظهر فكتما لأنه أمانة اؤتمنا عليها فلم يحل لهما الخبر بها وعن جابر
مرفوعا: "إذا حدث الرجل حديثا فالتفت فهي أمانة".
(2/328)
في ترك الإفتخار بالنسب
روي أن أبا الدرداء توفي له أخ من أبيه وترك أخا له لأمه فنكح
(2/328)
امرأته فغضب أبو الدرداء فأقبل إليها فقال:
أنكحت ابن الأمة فرد ذلك عليها فقالت: أصلحك الله إنه كان أخا زوجي وكان
أحق بي فضمني وولده فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه حتى
وقف ثم ضرب على منكبه فقال: "يا أبا الدرداء يا ابن ماء السماء طف الصاع طف
الصاع طف الصاع"، كناية عن تقصيره عن الإملاء ومنه المطفف وقيل: هو أن يقرب
إلى الامتلاء ولما يمتلئ انتقاص أبي الدرداء أخا أخيه لأمه بأنه ابن أمة
يتضمن وصف نفسه بكمال النسب والإسلام أمر بترك الافتخار بالنسب قال صلى
الله عليه وسلم: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها مؤمن تقي أو
فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجلا فخرهم بأقوام إنما هم فحم
من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن".
فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بتساويه معه ومع الناس جميعا في النقصان
بقوله: "طف الصاع" وإن تباينوا في النقصان بقدر أعمالهم المحمودة وأن لا
يدرك أحد بنسبه درجة الكمال وقال صلى الله عليه وسلم: "خياركم في الجاهلية
خياركم في الإسلام إذا فقهوا"، ففيه إعلاء مرتبة الفقه وجلالة مقادير أهله
وعلوهم على من سواهم من المتخلفين عنه وإن كانوا ذوي نسب يؤيده قوله صلى
الله عليه وسلم: "إن سبابكم هذه ليست بمساب على أحد إنما أنتم بنو آدم طف
الصاع لم تملؤه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح بحسب الرجل أن
يكون فاحشا بذيا بخيلا جبانا".
(2/329)
في الستة الملعونين
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسم قال: "ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي
مجاب: الزائد في كتاب الله عز وجل، والمكذب بقدر الله عز وجل، والمتسلط
بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز من أذل الله، والتارك لسنتي، والمستحل
لحرم الله عز وجل، والمستحل من عترتي ما حرم الله عز وجل"، الجبروت
(2/329)
اشتقاقه من الجبر كالملكوت من الملك ومعنى
استحلال الحرم جعله كسائر البلاد من اصطياد صيده والدخول فيه بغير إحرام
وعدم جعل من دخله آمنا وعدم الامتناع من القتال فيه وغير ذلك وقد أعلمنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مكة لا تغزى بعد العام الذي غزاها وأنه لا
يقتل قرشي بعد عامه هذا صبرا لأنه لا يكفر أهلها فيغزون ولا يكفر قرشي بعد
ذلك العام الذي أباح دماء أهلها القرشيين فمن أنزل الحرم هذه المنازل كان
به ملعونا، والعترة: هم أهل البيت الذين على دينه والتمسك بهديه، روي أنه
خطب بماء يدعى خم بين مكة والمدينة فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد
أيها الناس إنما انتظر أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيب وإني تارك فيكم
الثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور فاستمسكوا بكتاب الله عز وجل وخذوا به"
ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله عز وجل في أهل بيتي" فمن أخرج عترته من
المكان الذي جعلهم الله به على لسان نبيه فجعلهم كسواهم ممن ليس من أهل
عترته كان ملعونا والباقي ظاهر.
(2/330)
في قتال العجم على
الدين عودا كما قوتلوا عليه بدءا
عن عباد خطبنا علي على منبر من آجر وصعصة بن صولجان حاضر فجاء رجل يتخطى
رقاب الناس حتى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على
وجهك فضرب صعصعة في ظهري وقال: ليبدين من أمر العرب أمرا قد كان يكتمه ثم
قال: من يعذرني من هذه الضياطرة يتقلب أحدهم على حشاياه ويجهر قوم بذكر
الله عز وجل يأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليضربنكم على الدين عودا
كما ضربتموهم عليه بدءا- الحمراء الموالي" ومنه أرسلت إلى الأحمر والأبيض
والضياطرة الذين يحضرون الأسواق بلا مال معهم فحضورهم كعدم الحضور وأحدها
ضيطار والمعنى: هو أن
(2/330)
العرب قاتلوا العجم حتى أدخلوهم في الإسلام
كما روي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى استغرب فقال: "ألا تسألوني مم
ضحكت" فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: "عجبت من قوم يقادون إلى الجنة
في سلاسل وهم يتقاعسون عنها فما يكرهها لهم" قالوا: وكيف يا رسول الله؟
قال: "قوم من العجم يسبيهم المهاجرون ليدخلوهم في الإسلام وهم كارهون"،
فالعرب أدخلوا العجم بدءا في الإسلام حتى صار فيهم من عقل عن الله تعالى
وعن رسوله شرائع دينه حتى صارت إليه مطالبة من خرج عما عليه إلى ضده
بالرجوع إلى ما خرج منه فكان قتالهم إياه عود ليعودوا إلى ما تركوا منه
كمثل ما كان العرب قاتلوهم على الدخول في الدين بدءا، ويحتمل أن يكون
المراد من العجم من قد وصفه بقوله: "لو كان الدين أو العلم بالثريا لناله
رجال من أبناء فارس"، يدل عليه ما روي عن سهل بن سعد قال: كنت يوم الخندق
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الكرزن فصادف حجرا فضحك فسأل ما
أضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس يؤتي بهم من قبل المشرق في كبول يساقون إلى
الجنة وهم كارهون"، ففهم إنما أراد به من العجم الذي قاله في الحديث وهم
أبناء فارس بناحية المشرق الذين وصفهم بما وصفهم به من الدين والعلم الذين
دخلوا في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي:
بالمذكورين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ} الآية.
(2/331)
في اللاعنة ناقتها
عن عمران بن حصين قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلعنت امرأة ناقتها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا متاعكم عنها فإنها ملعونة"، قال
عمران: فكأني انظر إليها اللعن الطرد والأبعاد فلما قالت: لعنها الله طردها
وأبعدها عن رحمة الله وافقت دعاؤها وقت الإجابة فصارت مطرودة عنها فحرمت
بذلك الانتفاع بها وعادت العقوبة بذلك عليها لا على ناقتها إذ لا ذنب
(2/331)
لها بل عادت تخفيفا عنها بترك الحمل عليها
والركوب لها وقال صلى الله عليه وسلم في غزوة بواط لما قال الأنصاري
لناضحه: لعنك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا اللاعن
بعيره"؟ قال: أنا يا رسول الله قال: "أنزل عنه لا يصحبنا ملعون لا تدعوا
على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم فتوافقوا من الله
ساعة يمتد فيها عطاؤه فيستجيب لكم".
(2/332)
في ما اختص به أبو بكر وعلي
روي أنه قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: "سدوا هذه الأبواب الشوارع في
المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءا أفضل عندي يدا في الصحابة من
أبي بكر وإني لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام
أفضل أو إني رأيت على كل باب منها ظلمة" - وروي أن الباب المستثنى منها باب
علي بن أبي طالب.
عن عمر بن الخطاب لقد أعطي علي بن أبي طالب خصالا لأن تكون في خصلة منها
أحب إلي من أن أعطي حمر النعم قالوا: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجه
فاطمة وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له فيه ما يحل لرسول الله والراية
يوم خيبر.
وعن سعد أنه قال: شهدت لعلي أربعة مناقب لأن تكون في إحداهن أحب إلي من
الدنيا وما فيها سد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب المسجد وترك باب
علي فسأل عن ذلك فقال: "ما أنا سددتها وما أنا تركتها" - وفي حديث آخر
فتكلم في ذلك ناس فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: "أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال قائلكم فيه
والله ما سددت ولا فتحت ولكني أمرت بشيء فأتبعته".
وعن ابن عباس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب
علي كان يدخل المسجد وهو جنب وهو طريقه ليس له
(2/332)
طريق غيره.
وعن عبد الله بن عمر أنه سئل عن عثمان وعلي فقال: أما علي فلا تسألنا عنه
ولكن إلى منزلته1 من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سد أبوابنا في
المسجد غير بابه وأما عثمان فإنه أذنب ذنبا يوم التقى الجمعان عظيما عفا
الله عنه وأذنب ذنبا صغيرا فقتلتموه.
لا تضاد ولا اضطراب فيما روينا إذ يحتمل أن يكون الأمر بالسد في قولين
مختلفين فكان الأول منهما أمره بسد تلك الأبواب إلا الباب الذي استثناه أما
باب أبي بكر وأما باب علي ثم أمر بعد ذلك بسد الأبواب التي أمر بسدها بقوله
الاول ولم يكن منها الباب الذي استثناه بقوله الأول واستثنى بقوله الثاني
الباب الثاني أما باب أبي بكر إن كان المستثنى الأول باب علي أو باب علي إن
كان المستثنى الأول باب أبي بكر فعاد البابان مستثنيين بالاستثنائين جميعا
ولم يكن ما أمر به آخرا رجوعا عما كان أمر به أولا وكان ما اختص به أبو بكر
وعلي كما اختص غيرهما من الصحابة كاختصاص عمر بأنه من المحدثين واختصاص
عثمان باستحياء الملائكة منه واختصاص طلحة بأخباره عنه أنه ممن قضى نحبه
واختصاص الزبير بقوله: "لكل نبي حواري وحواريي الزبير"، والحواري الناصر
واختصاص سعد بن مالك بجمعه له أبويه جميعا بقوله يوم أحدا: إرم فداك أبي
وأمي، وفي أبي عبيدة بن الجراح بأنه أمين الأمة فهذه خصائص اختص بها النبي
صلى الله عليه وسلم من أصحابه من اختصه بها ممن اختصه الله منهم بقوله: {لا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية
فبانت به فضيلتهم وارتفعت به درجاتهم ثم قال: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى} فدخل في ذلك جميع الصحابة فثبت بذلك أن للصحابة فضلا على الناس
جميعا وأنهم يتفاضلون بما كان منهم مما قد ذكره الله تعالى في كتابه أو على
لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
1 هكذا ولعله ولكن انظر إلى منزله- ح.
(2/333)
في كراهة التبرج
بالزينة
روي مرفوعا كراهية التبرج بالزينة قبل محلها في العشرة الأشياء التي كرهها
في حديث ابن مسعود وذلك أن الله تعالى قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية فكان محل التبرج وهو
التبدي بمحضر من في هذه الآية وكان التبدي بمحضر غيرهم منهيا عنه وهو
المكروه والمنهي عنه.
(2/334)
في لعن من لا يستحقه
عن عبد الله بن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن اللعنة
إذا وجهت إلى أحد توجهت فإن وجدت عليه سبيلا أو وجدت فيه مسلكا دخلت عليه
وإلا رجعت إلى ربها عز وجل فقالت: أي رب أن فلانا وجهني إلى فلان وإني لم
أجد عليه سبيلا ولم أجد فيه مسلكا فما تأمرني؟ قال: ارجعي من حيث جئت".
وروي أن ابن مسعود أتى أبا عبيد وكان صديقا له فاستأذن أهله فدخل عليهم
فسلم عليهم واستسقاهم من الشراب فبعثت المرأة الخادم إلى الجيران في طلب
الشراب فاستبطأتها فلعنتها فخرج عبد الله فجلس في جانب الدار فجاء أبو عبيد
فقال: رحمك الله وهل يغار على مثلك ألا دخلت على ابنة أخيك فسلمت عليها
وأصبت من الشراب قال: قد فعلت ولكن لعنت المرأة الخادم فخفت أن تكون الخادم
معذورة فترجع اللعنة فأكون بسبيلها فذلك الذي أخرجني.
لا منافاة بين ما روينا في المرأة اللاعنة بعيرها وفي الرجل الذي لعن بعيره
حيث لم ترجع اللعنة على لاعنيهما مع أنه لا ذنب للبعيرين يستوجبان به اللعن
وبين هذا الحديث لأن اللعن للأشياء التي لا ذنوب لها وليس بمكلف يرجع إلى
معنى الدعاء عليها فيعود ذلك على لاعنه عقوبة عليه يمنع الانتفاع بما لعنه
ويتضرر اللاعن به وأما اللعن للإنسان قد يكون منه الأخلاق المذمومة التي
يكون بها ملعونا فيكون لاعنه غير معنف في لعنه إياه لأن الله عز وجل لعن
الظالمين وقال:
(2/334)
{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ولعن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قنوته من لعن من القبائل وكان ذلك سببا لقتلهم
حتى لم يبق منهم أحد وإن كان الملعون بخلاف ذلك كان لاعنه ممن قد سبه
فاستحق العقوبة على سبه إياه وهي بعود اللعنة إليه.
(2/335)
في من سرته حسنته
وساءته سيئته
...
في من سرته حسنته وساءته سيئة
روي مرفوعا: "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن" يعني: فيرجو ثوابه من
الله ويخاف عقابه فهو مؤمن لأن الرجاء والخوف من الأحوال المحمودة في قوله
تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ} .
وعن أبي هريرة مرفوعا أن رجلا أذنب ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا أو عملت
ذنبا فاغفره فقال عز وجل: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ
به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخرا وقال: أذنبت ذنبا آخر فقال: أي رب إني
عملت ذنبا فاغفره فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ
به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر أو أذنب ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا
فاغفره فقال: عبدي علم أن له ربا يغفر الذين ويأخذ به أشهدكم إني قد غفرت
لعبدي فليعمل ما شاء.
وذلك لأن علم العبد بذنبه وعقابه عليه إن شاء وبمغفرته له إن شاء إيمان منه
به وسبب لرجائه وخوفه فلذلك يسره حسناته ويسوءه سيئاته بخلاف من ظن أن الله
يخفي عليه خافية فإنه كافر قال تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ}
الآية فاستحق النار مع الأشرار.
(2/335)
في الدخول على أهل الحجر
عن محمد بن أبي كبشة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2/335)
في غزوة تبوك فتسارع الناس إلى أهل الحجر
يدخلون عليهم فنودي في الناس الصلاة جامعة، فانتهينا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره فقال: "علام تدخلون على قوم غضب الله عليهم"
فناداه رجل تعجبا منهم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أخبركم بأعجب رجل من أنفسكم يخبركم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم
فاستقيموا وسددو فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ثم يأتي قوم لا يدفعون عن
أنفسهم شيئا". لما كشف صلى الله عليه وسلم المعنى الذي لأجله منعهم من
الدخول دل على أنه لو دخلوا عليهم لغير ذلك جاز لهم، يؤيده ما روي عن عبد
الله بن عمر قال: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا
باكين حذرا أن يصيبكم ما أصابهم" ثم زجر فأسرع حتى خلفها، فقوله: "باكين
حذرا" أي: من أن يخالفوا أمر الله فينزل بهم عند ذلك ما نزل بهم ففي ذلك
الاعتبار منهم.
وعن أبي ذر أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا على واد فقال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنكم بواد ملعون فأسرعوا"
فركب فرسه يدفع ودفع الناس ثم قال: "من كان اعتجن عجينه فليطعمها بعيره ومن
كان طبخ قدرا فليكفأها" - لما غضب الله على أهل ذلك الوادي جعل ماءهم ماء
يضرهم ويضر أمثالهم من المكلفين فأمروا فيما عجنوا بذلك الماء أن لا يأكلوه
وأباح لهم أن يطعموه إبلهم التي لا تعبد عليها ولا ذنوب لها وكان إسراعه
صلى الله عليه وسلم ليقتدي الناس به خوفا منه عليهم أن يؤاخذوا بذنوبهم
هناك كما أخذ من تقدمهم من أهل الوادي هناك والمراد بلعن الوادي لعن أهله
المغضوب عليهم كقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} والمراد: أهلها بدليل قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} وقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .
(2/336)
في المؤمن في ظل
صدقته
روي مرفوعا: "ظل المؤمن يوم القيامة صدقته" أي ثواب صدقته لأن الثواب يدفع
عنه ما يؤذيه يوم القيامة كما يدفع الظل عن الرجل في الدنيا ما يؤذيه من حر
الشمس فهي استعارة.
(2/337)
في عبادة الحنفاء
عن عياض بن حمار سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "أن الله
عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم من دينكم هذا وإن كل مال نحلته عبدي فهو
له حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنه أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن
دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به عليهم
سلطانا"، ومن وجه آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما:
"إلا أحدثكم بما حدثني الله عز وجل في الكتاب أن الله عز وجل خلق آدم وبنيه
حنفاء مسلمين فأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فمن شاء أفنى ومن شاء أحدث
فجعلوا مما أعطاهم الله عز وجل حلالا وحراما وعبدوا الطاغوت فأمرني الله عز
وجل أن آتيهم فأبين لهم الذي جبلهم عليه فقلت لربي عز وجل أخاطبه: إني أن
آتهم به تثلغ رأسي قريش كما تثلغ الخبزة فقال لي: أمضه أمضك وانفق انفق
عليك وقاتل بمن أطاعك من عصاك فإني سأجعل مع كل جيش عشرة أمثالهم من
الملائكة ونافخ في صدر عدوك الرعب ومعطيك كتابا لا يمحوه الماء أذكركه
نائما ويقظانا فأبصروني وقريشا هذه فإنهم قد رموا وجهي وسلبوني أهلي وأنا
أناديهم فإن أغلبهم يأتوني ما دعوتهم إليه طائعين أو كارهين وإن يغلبوني
فاعلموا إني لست على شيء ولا أدعوهم إلى شيء".
الحنف الميل في اللغة وجمع الحنيف حنفاء يعين خلقوا ميلاء إلى ما خلقوا له
وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ} فكانوا بذلك حنفاء وكان في خلقهم كتب بعضهم سعيد أو بعضهم
شقيا فالشقي من أطاع
(2/337)
الشياطين فيما دعته إليه والسعيد من خالفهم
وتمسك بما خلق له من العبادة وترك الميل إلى ما سواه وعن ابن عباس في
تأويل: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قال علي: ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي
وشقوتي وسعادتي فالخلق من الله لعبادته هو ما كتب فيهم من طاعة معصية لا
يخرجون عن ذلك إلى غيره وإن كان أعمالهم السعيدة كانت باختيارهم لها وإن
كان أعمالهم الشقية كانت باختيارهم لها أيضا وكل ذلك مما قد سبق من الله
فيهم أنهم سيعملونها فيسعدون بها أو يشقون بها.
(2/338)
في بيع التالد
روي مرفوعا: "من باع تالدا سلط الله عليه تالفا" وما من عبد يبيع تالدا إلا
سلط الله عليه تالفا التالد عند العرب هو القديم والمعنى والله أعلم أن من
متعه الله بشيء طال مكثه عنده فقد أنعم عليه بذلك فإذا أباعه فقد استبدل به
ضد ما أنعم الله عليه به فيسلط الله عز وجل عليه عقوبة له متلفا لما استبدل
به لأن معنى تالف متلف قال العجاج: ومنزل هالك من تعرجا أي مهلك ومثله ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع دارا أو عقارا ثم لم يجعل ثمنه
في مثله وفي رواية من ثمنه في مثله لم يبارك له فيه وفي رواية فمن أن لا
يبارك له فيه" قال ابن عيينة في قوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا} يعني: الأرض فكان من باع عقارا باع ما بارك الله عز
وجل فيه فعاقبه إذا استبدل بغيره وإن يجعله غير مبارك له فيه.
(2/338)
في لمن خاف مقام ربه
جنتان
عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق فقال
رسول اله صلى الله عيه وسلم الثانية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق فقال الثالثة {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله
(2/338)
قال: "وإن رغم أنف أبي الدرداء"، وعن
مجاهد: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرجل يهم بالمعصية
فيذكر مقام الله فيدعها ومعنى الحديث وإن زنى وإن سرق ثم زال عن تلك الحال
إلى حال الخوف لله فرد السرقة على صاحبها لأن الخوف من الله يمنع من صغير
معاصي الله وكبيرها فهما حالان متضادان فلا يجتمعان فلابد من الانتقال إلى
الحال المحمودة التي يرجو فيها وعده ويخاف وعيده فيجتنب معاصيه ومصداقه
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله: {إِلَّا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ
اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي: مكان سيئاتهم على الخوف كقوله واسأل
القرية كالإيمان مع الكفر والطاعة مكان المعصية.
ومن هذا المعنى ما روي مرفوعا من رواية أبي الدرداء: "من شهد أن لا إله إلا
الله أو مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ولم يدخل النار" قال: قلت: وإن
زنى وإن سرق قال: "وإن زنى وإن سرق وإن رغم أنف أبي الدرداء"، ورواه أبو ذر
وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: أن من قال لا إله إلا الله عارفا
بما يجب على أهلها فقد قالها وهو عارف لمقام الله عز وجل وبما يرجوه أهلها
ويخافونه عند خلافهم أمره والخروج عن طاعته وذلك لا يكون إلا والزنى
والسرقة فيه قد زال عنهما وانتقل منهما إلى ضدهما يؤيده ما في حديث أبي
موسى من قال: لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة أي موفيا لها حقها.
(2/339)
في محقرات الذنوب
قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله
طالبا"، فيه أن الإيمان لا يرفع عقوبة صغائر الذنوب فكيف بكبارها يدل عليه
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ
مِمَّا فِيهِ} الآية.
(2/339)
في عالم المدينة
روي مرفوعا: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما
أعلم من عالم المدينة" قال سفيان: إن كان في زماننا أحد فذلك العمري العابد
(2/339)
العالم الذي يخشى الله واسمه عبد الله بن
عبد العزيز1 قال الطحاوي: اسم العالم يستحق بشيئين بعلم الكتاب والسنة
وشرائع الدين فهو العالم الفقيه والآخر بخشية الله تعالى قال تعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فالمراد بالعالم
في الحديث هو العالم الفقيه لأن آباط الإبل لا تضرب إلا في طلب العلم الذي
هو الفقه لا في طلب العلم الذي هو الخشية فمن كان معه من الفقهاء من خشية
الله تعالى ما ليس مع غيره منهم فهو في أرفع مراتب العلماء ولا يعلم أنه
كان بالمدينة بعد الصحابة وبعد التابعين من اجتمع فيه المعنيان غير هذا
الرجل لأنه كان فقيها زاهدا ورعالا تأخذه في الله لومة لائم وكان يخرج إلى
البادية فيعلم من لا يحضر البلد أمر دينه ويفقهه ويرغبه في القربات ويحذره
من المعاصي فرضوان الله عليه وعلى سفيان أيضا بتنبيهه على هذا الموضع
ومعرفته بأهله وأجمع العلماء أن الرجل إذا كان أعلم فهو أولى بالإمامة من
الأفضل لزيادة فضل العلم على فضل العمل وروي فضل العالم على العابد كفضل
القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
__________
1 سفيان هو ابن عيينة فيما يظهر وقد قال مرة أخرى هو مالك ووافقه عبد
الرزاق وغيره، قال الشافعي: مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين ولا ريب
أن مالكا أعلم من العمرى وألى مالك ضربت أكباد الإبل من أقطار العالم لا
إلى العمرى والعمرى نفع بعض أهل البادية بالتعليم كما سيذكره ومالك نفع
الأمة إلى يوم القيامة بحفظ الحديث وضبطه وغير ذلك ولا تكاد تروى للعمرى
إلا أربعة أحاديث وليس له في الأمهات الست شيء وقد كان لمالك رحمه الله من
العبادة والخشية نصيب وافر رحم الله الجميع- ح.
(2/340)
في مدة مقام أبي بكر في الغار
روي عن طلحة بن عمرو البصري قال: كان الرجل منا إذا هاجر إلى المدينة إن
كان له عريف نزل على عريفه وإن لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة وإني
قدمت المدينة ولم يكن لي بها عريف فنزلت مع أصحاب الصفة
(2/340)
فوافقت رجلا فكان يخرج لنا من عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم مد تمر بين الرجلين1 فصلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعض صلاته فلما سلم ناداه الرجل من أصحاب الصفة يا رسول الله أحرق
التمر بطوننا وتحرقت الجنب2 فمال إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما
لقي من قومه من البلاء والشدة ثم قال: "لقد كنت أنا وصاحبي بضع عشرة ليلة
وما لنا طعام إلا البرير حتى قدمنا على إخواننا من الأنصار فواسونا في
طعامهم وطعامهم هذا التمر وإني والله الذي لا إله إلا هو لو أجد لكم التمر
والخبز لأطعمتكموه فإنه علة3 إن تدركوا زمانا ومن أدركه منكم يلبسون فيه
مثل إستار الكعبة ويغدي ويراح عليهم بالجفان".
ثمر الأراك مرد ثم برير ثم كباث كثمر النخل بلح ثم بسر ثم رطب ينتقل من
بعضها إلى بعض ففيه أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إقامته وإقامة
صاحبه في الغار4 الذي تواريا فيه بضع عشرة ليلة وكان طعامهم فيها الطعام
المذكور فيه وفيه دلالة على شدة الجهد الذي كانا لقيا في تلك المدة.
وروي أن عائشة قالت في حديث طويل: لم أعقل أبواي إلا وهما يدينان الدين
قالت: فلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له:
ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب لقن
ثقف فيدلج من عندهما في سحر فيصبح في قريش بمكة كبائت معهم
__________
1 زاد في المستدرك 2/15 ويكسونا الخنف قال في النهاية هي جمع خنيف وهو نوع
غليظ من أردأ الكتان.
2 لفظ المستدرك وتخرقت عنا الخنف ومثله في مسند أحمد 3/487 ووقع هنا في
الأصل وتحرقت الجنب وهو خطأ- ح.
3 كذا ويمكن أن تكون عله أي لعله ولفظ المستدرك عسى.
4 لم يتقدم في الحديث ذكر الغار ولا هو في رواية المستدرك ولا في رواية
أحمد في مسنده ولكن كأنه وقع في بعض الروايات على ما يظهر من فتح الباري
باب الهجرة فراجعه- ح.
(2/341)
فلا يسمع أمرا يكيدون به إلا وعاه حتى
يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي
بكر غنمه ويريحها عليهما فيبيتان في رسل منحتهما الحديث فلقائل أن يقول:
بين الحديثين اضطراب شديد ولكن الجواب أن هذه الآثار كلها صحيحة لعدل
رواتها فيجوز أن يكون كل من طلحة وعائشة أخبر عن غار غير الغار الذي أخبر
عنه الفريق الآخر كانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في كل
واحد منهما غير إقامته في الآخر منهما وقد شد إقامته مع صاحبه في أحدهما
قول الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، ثم ما روي
عن أبي بكر فيما كان يخافه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على نفسه
في أحد الغارين اللذين كانا فيه حين قام المشركون وهم على رؤوسنا ونحن في
الغار فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدمه أبصرنا تحت قدمه
فقال: "يا أبا بكر ما ظنك بإثنين الله ثالثهما".
وعن عمرو بن ميموم قال: إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه سبعة رهط فسألوه عن
علي فقال: كان أول من أسلم من الناس بعد خديجة ولبس ثوب النبي صلى الله
عليه وسلم وقام فجعل المشركون يرمون كما كانوا يرمون رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهم يحسبون أنه نبي الله فجاء أبو بكر فقال: يا نبي الله فقال
علي: أن نبي الله قد ذهب نحو بئر ميمون فأتبعه فدخل معه الغار وكان
المشركون يرمون عليا حتى أصبح.
كان ذلك من فعل علي لأمر كان من النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك ليكون
سببا لبعد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وليقصر المشركون عن إدراكهم
إياه بدليل ما روي عن ابن عباس قال: قال علي: لما انطلق صلى الله عليه وسلم
ليلة الغار فأقامه في مكانه وألبسه برده فجاءت قريش تريد أن تقتل النبي صلى
الله عليه وسلم فجعلوا يرمون عليا وهم يرون أنه النبي صلى الله عليه وسلم
(2/342)
فجعل يتضور فنظروا فإذا هو علي فقالوا: لو
كان صاحبك لم يتضور ولقد استنكرنا ذلك.
وأعلام علي أبا بكر حين أتى فظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي
قصد إليه لا يكون إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك ليلحق به
وانفرد أبو بكر بالصحبة له صلى الله عليه وسلم والدخول في الخوف معه فكان
الذي كان من على بعض ليلة وكان الذي كان من أبي بكر ثلاث ليال أو بضع عشرة
ليلة والبضع ما بين الثلاث إلى العشر فكان جملة ذلك ستة عشر يوما أو أكثر
انفرد بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقايته بنفسه مع الخوف والجهد
حتى قدما دار الهجرة فاختص أبو بكر بالذكر في كتاب الله تعال وكونه عز وجل
معهما في تلك المدة صلى الله عليه وسلم ورضي عن أبي بكر مؤنسه في الغار
وصاحبه.
(2/343)
في نهي أبي بكرة الأحنف من نصرة علي
عن الأحنف بن قيس أخذت سلاحي وأنا أريد أن أنصر ابن عم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر ابن عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: أفلا أحدثنك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "إذا توجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فهما في النار"
فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد أن يقتل
صاحبه".
لما كان علي رضي الله عنه أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقاتل على
تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله علم به أنه خليفة رسول الله فيه فطلب
المنزلة التي يلحق بها قتال من وعده صلى الله عليه وسلم أنه يقاتله وإن
طلحة والزبير لم يكونا علما ذلك كعلي ولم يكن عندهما على أولى منهما مع
علمهما أنه لابد للناس ممن يتولى أمرهم ليقاتل عدوهم ويقيم جمعتهم ويأخذ
زكاتهم ويصرفها في مصرفها ويحج بهم ويقسم فيئهم إلى غير ذلك مما لا يقوم به
إلا الأئمة فقاتلاه لذلك
(2/343)
ولكن من كان معه توقيف من رسول الله صلى
الله عليه وسلم في ذلك أولى ممن ليس معه ذلك فكل فريق منهم قاتل بالتحري
والاجتهاد والذي كان من أبي بكرة إلى الأحنف لم يكن نهيا بل تنبيها له لئلا
يقع فيما لا يجوز له إذ من قاتل بالتحري دون من قاتل بالنص فعسى تدركه
الحمية بما دخل فيه من القتال فيتمادى عليه فيدخل بذلك في الجنس الذي حدثه
عن النبي صلى الله عليه وسلم بما حدثه عنه من ذلك قول أحد ابني آدم {لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} الآية وكان له مديده ليدفع عن نفسه ولكنه خاف أن
يرجع صاحبه عما كان هم به ويتمادى هو في الدفع حتى يكون في ذلك تلف صاحبه
فخاف الله من أجل ذلك ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا قسمي فيما أملك
فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، مع علمه أن لا مؤاخذة فيما لأي ملك ولكن
على التوقي من الزيادة فيما لا يملك فكان الذي من أبي بكرة للأحنف تنبيها
على ما هو مخوف عليه وكان انصراف الأحنف على الإشفاق منه لعلمه بنفسه
وبأخلاقه التي هو عليها.
(2/344)
في اهتزاز العرش
عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اهتز العرش لموت
سعد بن معاذ"، وروي أن أمه بكت وصاحت لما أخرجت جنازته فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك فإن ولدك أول من ضحك الله
له واهتز له العرش"، واهتزاز العرش لم يبين أي العرش هو؟ فقيل: أنه السرير
الذي حمل عليه عن ابن عمر اهتز العرش لحب لقاء الله عز وجل سعدا فقالوا:
وما العرش؟ قال: سبحان الله لقد تفسخت أعواده أو عوارضه وأنه على رقابنا
فكان آخر من خرج من قبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أن سعدا ضغط في
قبره ضغطة فسألت الله أن يخفف عنه وقرأ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ} " قال: السرير، ومنه ما روي أن أسيد بن حضير لما أخبر بموت
امرأته بكى فقيل له: أتبكي؟ قال: ومالي لا أبكي وقد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
(2/344)
"إن العرش اهتزت أعواده لموت سعد بن معاذ"
وعلى هذا فيحتمل أن الله تعالى ألهمه بعد أن حمل عليه سعد بمكانته ومنزلته
فصار بذلك أهلا للمعرفة فاهتز له كالخشبه التي كان يخطب إليها صلى الله
عليه وسلم إشفاقا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أنه عرش الرحمن، وروي أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش؟
قال: فخرج إلى سعد فإذا سعد قد مات. وروت رميثة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين مات سعد قال: لقد اهتز له عرش الرحمن وكذلك افتخار الأوس على
الخزرج بقولهم: منا غسيل الملائكة حنظلة ومنا من اهتز له عرش الرحمن ومنا
من حمته الدبر ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين مشهور لا يخفى ويحتمل أن
يكون العرشان جميعا اهتزا وقيل: الاهتزاز هو السرور والارتياح فيكون الله
تعالى ألهم العرشين موضع سعد منه فكان منهما ما كان وقيل: الاهتزاز كان من
الملائكة الذين يحملون العرش ويحفون به وأضيف إلى العرش كقوله تعالى:
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}
وهذا جبل نحبه ويحبنا أي: يحبنا أهله وهم الأنصار ونحبهم والله أعلم بمراد
الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.
(2/345)
في المستشار
روي مرفوعا: "المستشار مؤتمن". الرجل إذا استشار أخاه ملتمسا فضل رأيه
مقلدا له في ذلك ليمضيه على نفسه فإن أشار عليه بخلاف الصواب فقد غشه وخانه
والخيانة ضد الأمانة، وروي أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم من استشاره
أخوه فأشار عليه بغير رشد فقد خانه، ففيه أنه لو أشار برشد لوفي أمانته.
(2/345)
في النساء والمال
روي مرفوعا: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"
(2/345)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة فتنة
وفتنة أمتي المال"، ففيه أنه ترك في أمته فتنة غير النساء منها فتنة المال
وهي تعم الرجال والنساء وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة السناء
وفتنة الدنيا بقوله: "أن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر
كيف تعملون فاتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل من
النساء". وفتنة الدنيا أعم من الجميع إذا المال والنساء وغيرهما داخلة
فيها.
(2/346)
في الأعمى البصير
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذهبوا بنا إلى بني واقف نعود
ذلك البصير وكان محجوب البصر"، إنما وصف صلى الله عليه وسلم الأعمى بالبصير
ولم يذكره بالعمى كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} و
{عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} لأن البصر يكون بالقلب
وبالعين فذكره النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن حاليه وهو البصر الذي بقلبه
وإن كان جائزا ذكره بالعمى.
(2/346)
في خير الكافر
عن عائشة قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن جدعان في الجاهلية كان
يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا يا عائشة أنه لم يقل يوما
رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، وعن عدي ابن حاتم قلت: يا رسول الله إن أبي
كان يفعل كذا وكذا ويصل الرحم قال: "إن أباك أراد أمرا فأدركه"، يعني: كان
ذلك لقصد منه قد بلغه، وعن سلمان بن عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أن أبي كان يقري الضيف ويفعل ويفعل وأنه مات قبل الإسلام قال: "لن
ينفعه ذلك"، فلما ولي قال: "على الشيخ" فلما جاء قال: "إن ذلك لن ينفعه
ولكن في عقبه إنهم لن يفتقروا ولن يذلوا ولن يخزوا"، يحتمل إنما رده لأن
الملك نزل في أمر أبي سلمان كما في حديث أبي قتادة هل
(2/346)
يكفر الله خطاياه بالقتل في سبيل الله؟
قال: "نعم" ثم قال له: "أردده إلا الدين" كذلك قال جبريل وما روي عن حكيم
بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها
في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم هل لي فيها من أجر؟ قال: "أسلمت على
ما سلف لك من خير"، أراد بالخير ما يحمد عليه مثله على ما كان منه وإن كان
لا أجر له فيه فلا يخالف ما تقدم من الآثار وجملة الأمر فيه الرجوع إلى
مراد العامل بعمله لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنية" الحديث، وإذا
كانت الأعمال في الإسلام لغير الله لا يكون لعاملها إلا ما قصد بها فأحرى
أن تكون الأعمال في الجاهلية لا يثاب فاعلوها ولا يحصل لهم إلا ما قصدوا
بها من أسباب دنياهم.
(2/347)
في الأكل بغيره
عن المستورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم أكلة فإن
الله عز وجل يطعمه مثلها من جهنم ومن اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله عز وجل
يكسوه مثله من جهنم ومن قام برجل مسلم مقام سمعة فإن الله عز وجل يقوم به
مقام سمعة يوم القيامة"، وذلك على الرجل يأكل بارجل أموال الناس كالذي ياخذ
أموالهم ليسد بها فقره ويأخذ لنفسه وهو مثل ما يقال فلان يأكل بدينه وفلان
يأكل بعمله ومثله من اكتسى برجل مسلم ومعنى من قام برجل مسلم أي من قام من
أجله مقام سمعة لا لمعنى استحق به ذلك ولكن ليفضحه به ويسمع به فيه كان من
أهل الوعيد المذكور.
(2/347)
في الخيلاء المحمودة
عن جابر بن عتيك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن من الخيلاء ما يحب
الله تعالى ومنها ما يكره فأما الخيلاء التي يحب الله عز وجل اختيال المرء
بنفسه عند الصدقة وعند القتال والخيلاء التي يكره الله عز وجل فالبغي
والفخر"، الاختيال عند القتال هو: احتقار قرنه واقتداره عليه وقلة اكتراثه
(2/347)
به فيلقي بذلك الرعب في قلب عدوه ومثله
الخيلاء عند الصدقة فإن الشيطان يعارضه فيها كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية فيري باختياله شيطانه قلة اكتراثه بوسوسته
لقوة يقينه وثقته بالجزاء عند ربه فيقهره ويخالف هواه.
(2/348)
في قصة أيوب عليه السلام
روي أنس مرفوعا أن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة فرفضه القريب
والبعيد إلا رجلين من أخوانه كانا من أخص أخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان
فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من
العالمين فقال له صاحبه وما ذاك قال منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف
ما به فلما راحا إليه فلم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب لا أدري ما
يقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران
الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله عز وجل إلا في خير
وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات
يوم أبطأ عنها وأوحى إلى أيوب في مكانه اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب
فاستبطأته فتلقته تنظر وأقبل عليها قد أذهب الله عز وجل ما به من البلاء
وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا
المبتلى والله ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو وكان
له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله عز وجل سحابتين فلما كانت
إحداهما على اندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى منهما في
أندر الشعير الورق حتى فاض.
قوله: فاكفر عنهما لا يجوز أن يكون كفارة يمين لأنه لا يجوز أن يكفر أحد عن
يمينه قبل الحنث ولا بعده وهو حي ولكن هذا على الكفارة عن الكلام الذي ذكر
الله عز وجل فيه بما لم يكن يصلح أن يذكر فيه والكفارة مغطية لما كفرت به
عنه ولكن التغطية قد تكون بفناء المغطى كالبذر في الأرض
(2/348)
يغطي بالطين ولا ينبت إلا بعد فناء البذر
ولأجله سمى الزارع كافرا وقد تكون ببقاء المغطى وظهوره بعد ذلك قال الشاعر:
في ليلة كفر النجوم غمامها
تأويل كفارة أيوب ما كان من ذكر الله من الرجلين بما لا يصلح أن يذكر كان
خطيئة قد ظهرت وما ظهر من الخطايا إن لم يغير يعذب الله الخاصة والعامة
عليها كما روي مرفوعا "أن الله لا يهلك العامة بعمل الخاصة ولكن إذا رأوا
المنكر بين ظهرانيهم فلم يغيروه عذب الله العامة والخاصة" فلذلك تلاقاه
أيوب بما يدفع به عذاب الله من الصدقة التي تكفر الذنوب وتدفع العقوبات من
غير أن يكون للرجلين في ذلك كفارة تغطي معصيتهما أو تفنيها ومثله قوله
تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} والاستغفار ما كان من
الجميع ولكنه كان من بعضهم ودفع به العقوبة عمن كانت منه المعاصي وعمن لم
تكن منه وهذا أحسن ما تؤول كفارة أيوب عن الرجلين به والله أعلم.
(2/349)
في الأخوة والصحبة
روي عن طلحة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما اشرفنا
على حرة وأقم إذا نحن بقبور قلنا: يا رسول الله هذه قبور إخواننا قال: "هذه
قبور أصحابنا" فلما جاء قبور الشهداء قال: "هذه قبور أخواننا"، وعن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: "السلام
عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت
إخواننا"، قالوا: يا رسول الله لسنا بإخوانك قال: "بل أنتم أصحابي وأخواني
الذين يأتون من بعدي وأنا فرطهم على الحوض".
الأخوة هي المصافاة التي لا غش فيها ولا باطن لها يخالف ظاهرها قال عز وجل:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} ومنه: لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا
عباد الله إخوانا والصحبة قد تكون بظاهر يخالفه الباطن الذي كان مع أصحابها
بخلاف الأخوة.
(2/349)
في الجدل
عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقة وفاطمة ابنة رسول الله فقال:
"ألا تصلون"؟ قال: فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن
يبعثها بعثها فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع
إلى شيئا ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم كراهة لقول علي
ولا إنكارا منه عليه بل أعجل بالسرعة جوابه الصائب.
ومنه قول بلال وقد وكله بصلاة الصبح ليلة التعريس أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك
فلم ينكر ذلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما تلاه ما يدل على أن
الإنسان قد يكون معه من الجدل ما يحسن من الجواب بما هو محمود منه.
(2/350)
في حلاوة المال
وخضرته
عن سعيد المقبري عن خولة قال: جئناها لنسألها عن حديث سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب فحلف عليها بعده رجل من
بني زريق فجاء زوجها ونحن عندها فقال: ما جاء بكم؟ قلنا: جئنا لنسألها عن
حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: انظري ما تحدثين عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كذبا على رسول الله ليس كالكذب قالت:
أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل على عمه يعوده يقول:
"أن هذا المال حلوة خضرة فمن أخذه بحقه بورك له فيه ورب متخوض فيما اشتهت
نفسه من مال الله ورسوله له النار يوم القيامة" لم يقل خاضرا حلوا وهو مذكر
لأنه رده إلى الدنيا إذ كان المال لا يكون إلا فيها.
(2/350)
في استخلاف عمر من
بعده من الصحابة
روي أن عمر خطب يوما فقال: إني رأيت فيما يرى النائم ديكا أحمر
(2/350)
نقر في معقد ازاري ثلاث نقرات وإني استعبرت
أسماء بنت عميس فقالت: يقتلك رجل من العجم وإني أخشى أن يكون موتي فجأة
وإني أشهدكم إني أن أهلك ولم أعهد فالأمر إلى هؤلاء النفر الذين توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد
الرحمن وروي مثله بمعناه عمرو بن ميمون ومعدان بن أبي طلحة وهم أئمة العلم
عدول فيه مأمونون عليه مقبولة روايتهم فلا يجوز لذي عقل أن يتعلق برواية
أبي مخرمة الذي لا يعرف ولا يعد من أهل العلم ولا يعرف له لقاء عمر فيما قد
خلفه فيه وبالله التوفيق.
(2/351)
في تعليم القرآن
وتعلمه
روي مرفوعا: "خياركم من تعلم القرآن وعلمه أو خيركم من تعلم القرآن وعلمه"
فيه أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير القرن الذي هم منه من تعلم
القرآن وعلمه ويجوز أن يكونوا متفاضلين بمعنى زائد على المعنى المذكور من
العلم بالأحكام التي في كتابه والتي أجراها على لسان رسوله ممن ليس بقيتهم
فيها كذلك فيكون بذلك أفضل ممن سواه من أهل قرنه ثم كذلك كلما تعالوا بمعنى
من المعاني المحمودة يفضلون من سواهم ممن هو في طبقته حتى يتناهى إلى من هو
أعلاهم في تلك المعاني فيكون خيرهم وكذلك الحكم في كل قرن لأن الله تعالى
فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم وفضل القرن الذي بعث فيها
على بقيتها ثم الذي يليه وهلم جرا إلى أخر الزمان.
(2/351)
في طول العمر
عن أبي بكرة سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ أو قال: خير-
قال: "من طال عمره وحسن عمله" قيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء
عمله"، ظاهره العموم والمراد به الخصوص لأنه معلوم أنه ليس أفضل من
الأنبياء ولا من الصحابة والمراد من خير الناس مثله قوله
(2/351)
تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} و
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} والمراد بهما بعض الأشياء
ومثله ما روي عن درة قالت: كنت عند عائشة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: "أيتوني بوضوء" فابتدرت أنا الكوز فتوضأ ثم رفع طرفة أو عينه إلى
فقال: "أنت مني وأنا منك" فأتاه رجل وكان سأله على المنبر من خير الناس؟
قال: "أفقههم في دين الله عز وجل"، فيه جلالة درة بنت أبي لهب لأنها كانت
من المهاجرات فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى نفسها لا إلى
أبيها لأن الله تعالى قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فكان
الذي من أبي لهب لا يتعداه إلى ولده ولا إلى غيره والذي اكتسبته ابنته من
الخير لا يتعداها إلى من سواها من أب ولأعبره.
(2/352)
في ما اجتمع لأبي
بكر وابنه وابن ابنه من المبايعة
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه
روحه مر به ابن لعبد الله أو عبد الرحمن بن أبي بكر1 ومعه إراكة خضراء فلحظ
إليه فدعوته فأخذتها منه فناولتها إياه فوضعها على فيه وكان رأسه بين سحري
ونحرى فبينما نحن كذلك إذ رفع رأسه فظننت إنه بعض ما يريد من أهله وكانت
ريحا باردة فقبض الله عز وجل روحه وما أشعر.
__________
1 الثابت في صحيح البخاري وغيره من رواية جماعة عن عائشة دخل عبد الرخمن بن
أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري ومع عبد الرحمن
سواك رطب وفي رواية ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة ولم يذكر
الحافظ في فتح الباري ما يخالف ذلك والله أعلم، نعم ذكروا أن محمد بن عبد
الرحمن بن أبي بكر ولد على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال موسى بن
عقبة له رؤية وقال ابن شاهين كان أسن من عمه يعني محمد بن أبي بكر ومحمد بن
أبي بكر ولد في طريق المدينة إلى مكة في حجة الوداع- ح.
(2/352)
علمنا بهذا الحديث أنه قد كان لعبد الله
ولعبد الرحمن ابن ومحال أن يكون حينئذ في حال من يسعى إلا وسنه متقدمة لفتح
مكة وكان الناس بمكة جاؤوا بأبنائهم الصغار إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى يبايعوا مع آبائهم كما بايع من لم يبلغ قبل ذلك كالزبير وعلي فكان
ابن عبد الله وابن عبد الرحمن كذلك وكان الناس يأتونه بصبيانهم فيمسح على
رؤوسهم ويدعو لهم فيكون ابن ابن أبي بكر من أولائك ويحتمل أنه كان عقل
البيعة فبايعه ويكون أبو بكر ممن تفرد بالبيعة من نفسه يومئذ وبالبيعة من
ابنه وبالبيعة من ابن ابنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعلم اجتماع
ذلك لأحد من الناس سواه.
(2/353)
في فضل أهل بدر
عن رافع بن خديج أتى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أو قال: ملك عظيم
فقال: كيف أهل بدر فيكم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم عندنا أفضل
الناس" قال: الملك كذلك عندنا من شهد بدرا من الملائكة لا يعارض هذا قوله:
جميعا وهم في أنفسهم متفاضلون بأسباب تختص ببعضهم كالأنبياء أفضل الناس
وفيما بينهم متفاضلون فأهل بدر يفضلون أهل قرنهم بشهودهم بدرا واختصاصهم
بهذا.
(2/353)
في أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه
وسلم
عن أسامة بن زيد قال: مررت فإذا علي والعباس قاعدان فقالا: يا أسامة استأذن
لنا فقلت: يا رسول الله إن عليا والعباس بالباب يستأذنان فقال: أتدري ما
جاء بهما قلت: لا قال: لكني أدري ائذن لهما فدخلا فقال: علي يا رسول الله
أي الناس أحب إليك؟ قال: "فاطمة" ابنة محمد قال: إني لست أسألك عن النساء
إنما أسألك عن الرجال قال: "من أنعم الله عليه وأنعمت عليه؟ أسامة بن زيد"
قال علي: ثم من؟ قال: "ثم أنت"؟ وفي رواية فدخلا فقالا: يا رسول الله
(2/353)
نسألك عن أحب أهل بيتك إليك فقال: "فاطمة"
قالا: لسنا نسألك عن النساء إنما نسألك عن الرجال قال: "أسامة" فقال العباس
شبه المغضب ثم من يا رسول الله؟ قال: "ثم علي" فقال: جعلت عمك آخر القوم
فقال: يا عباس إن عليا سبقك بالهجرة،
وما روى ابن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فطعن بعض
الناس في إمرته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في
إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وإيم الله أنه كان خليقا
للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعد"، لا
يعارض ما ذكرنا لأنه لما سأله علي عن أحب الناس إليه وعن أحب أهل بيته إليه
فقال: "فاطمة" دل أنها في المحبة فوق أسامة وقوله: في أسامة من أحب الناس
يريد من أحب الرجال.
وما روي عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشه على ذات
السلاسل قال: فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال "عائشة": قلت: فمن الرجال؟ قال:
"أبوها" قلت: ثم من قال "عمر": فعد رجالا يحتمل أن يكون عمرو علم مزية أهل
البيت في المحبة على جميع الناس فكان سؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أحب الناس من سوى أهل البيت وعلم صلى الله عليه وسلم مراده فأجابه عليه
وأجاب عليا بما أجابه من أحب الناس من أهل بيته وأسامة كان حينئذ من أهل
بيته لأن أباه كان يدعي زيد بن محمد ثم نسخ بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ} الآية ولكن محبة أسامة بعد أهل البيت مقدم على غيرهم.
وما روي عن عائشة أنها سألت أي أصحاب رسول الله كان أحب إليه؟ قالت: أبو
بكر قيل: ثم من؟ قالت: عمر قيل: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح قيل: ثم
من؟ فسكتت يحتمل أنها أخبرت على ما وقع في قلبها وفي ظنها فقد روي عن عائشة
أنه ذكر لها علي فقالت: ما رأيت رجلا كان أحب إلي رسول الله صلى الله عليه
وسلم منه ولا امرأة أحب إليه صلى الله عليه وسلم من امرأته
(2/354)
فالتوفيق أنها كانت علمت أن أحدا لا يذهب
عنه تقدم أهل البيت في محبته صلى الله عليه وسلم فأجابت أولا بما أجابت
ولما سألت عن علي أجابت بما أجابت به فيه يحققه ما روي عن النعمان بن بشير
أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة تقول
والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي مرتين أو ثلاثا فاستأذن أبو بكر
فدخل فأهوى إليها وقال يا بنت فلان ألا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة ما
قالته من ذلك فخرج بحمد الله معانى الآثار خروجا لا تضاد فيه ولم يكن تقدم
علي في المحبة على أبي بكر بأفضل من تقدم أبي بكر في الفضل عنده صلى الله
عليه وسلم فلكل واحد منهما موضعه من محبته ومن فضله رضوان الله عليهم
أجمعين.
(2/355)
في عثمان وخلافته
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد يوما ألما فأرسل إلى عثمان
أن الله عز وجل سيقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه فقيل لها فأين
كنت لم تذكري هذا قالت نسيته فيه ما يدل على أن أوصافه التي بها استحق
الخلافة وأجمع الناس على استحقاقه من أجلها لم تتغير عما كانت عليه لأنه لو
أحدث ما لا يصح معه بقاؤه على الخلافة على زعم بعض لما أمره صلى الله عليه
وسلم بالتمسك بها.
(2/355)
في أما بعد
روى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في ابتداء خطبته أما بعد في حديث
المسور بن مخرمة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما بعد فإن
بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب" الحديث
والمعنى فيه أن العرب من عادتها ألا يجازوا الاختصار في الكلام بالإيماء
إلى ما يفهم به من مخاطبة مراده وكانت عادتهم استفتاح الكلام
(2/355)
باسم الله وحمده والثناء عليه فكان معنى
قولهم أما بعد أما بعد ذي كان منهم من التسمية والحمد والثناء كان كذا وكذا
فيذكرون حاجتهم مع حدفهم ذكر ما أرادوه من ذلك ولهذا يرفعون بعد إذ كان
المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ولو جاؤا بالكلام لنصبوا بعد فقالوا أما
بعد كذا وكذا لأنها صفة فلو حذفوا رفعوا بعد وهو الذي يسمى غاية ومنه قوله
تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ومنه أعطيتك درهما
لا غير ولو ذكروا لنصبوا غير فقالوا أعطيتك درهما لا غيره.
(2/356)
في شفاعة الأولياء
عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة
جمع الله عز وجل أهل الجنة صفوفا وأهل النار صفوفا فينظر الرجل من صفوف أهل
النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول يا فلان ألا تذكر يوم اصطنعت إليك
معروفا فيقول: اللهم إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفا فيقال له: خذ بيده
وأدخله الجنة برحمة الله عز وجل"، فيه إن الشفاعة قد تكون من ذوي المنازل
العليا وإن لم يكونوا أنبياء لكن في أهل التوحيد من المذنبين فضلا من الله
على عباده الصالحين فيشفعون على قدر منازلهم كما أن الأنبياء يشفعون فيما
يشفعون فيه لعلو منازلهم.
(2/356)
في موضع سوط من
الجنة
روي مرفوعا: "موضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها" أي موضع سوط مما
أوتي من أدخل الجنة خير من الدنيا وما فيها إذ لا منفعة في ذلك المقدار من
الجنة كما يقول الرجل شبر من داري أحب إلي من كذا وكذا ليس على أنه ليس له
الإشبر منها وإنما يعني ذلك المقدار من الدار التي هي له فقد روي أن أدنى
أهل الجنة منزلة يعطى مثل الدنيا وعشرة أمثالها.
(2/356)
في العزلة
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير
(2/356)
الناس منزلا"؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال:
"رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله حتى يقتل أو يموت وأخبركم بالذي يليه"؟
قلنا: نعم يا رسول الله قال: "رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة
ويعتزل شرور الناس وأخبركم بشر الناس منزلا"؟ قلنا: نعم يا رسول الله قال:
"الذي يسأل بالله عز وجل ولا يعطي به"، لا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:
"المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط
الناس ولا يصبر على أذاهم"، لأن قوله: "خير الناس" عام أريد به الخصوص يعني
من خير الناس كقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله
وخياركم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ} ولم تؤت مما اختص الله تعالى به سليمان وكذا قوله: "أخبركم بالذي
يليه" يحتمل أن المراد به من خير أهلها ويحتمل أن يكون بين المنزلتين منزلة
فيكون من يخالط ويصبر أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم باعتزاله
شرورهم وانقطاعه عنهم ولعلها فوق المنزلة التي هي قبلها وتكون هذه تليها
على حاله يؤيده حديث أبي ذر فيما تقدم في الثلاثة الذين يحبهم الله ذكر
فيهم رجل له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يفرج الله له منه أما
بموت وأما بغيره فإذا نال هذه الدرجة بصبره على أذى رجل واحد فالذي بذل
نفسه للناس ويصبر على أذاهم ويخالطهم بذلك أولى.
ويحتمل أن يكون المخالطة في وقت أفضل والاعتزال عن الناس في وقت آخر أفضل
من المخالطة يؤيده حديث أبي ثعلبة الخشني سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}
الآية فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا
مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه رأيت أمرا لابد منه
فعليك نفسك إياك أمر العوام"، الحديث، فيكون اعتزال الناس أفضل من المخالطة
فلا تضاد.
ومما يدل على صحة هذا التأويل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنها
ستكون فتن تكون فتنة المضطجع فيها خير من القاعد والقاعد فيها خير من
(2/357)
القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي
فيها خير من الساعي فإذا وقعت فمن كانت له أرض فليلحق بأرضه ومن كانت له
إبل فليلحق بابله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه" فقال رجل: يا رسول الله
فمن لم يكن له أرض ولا إبل ولا غنم قال: فليغمد سيفه ثم ينج إن استطاع
النجاة ثم قال: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فاشهد فقال رجل: يا رسول الله
فإن أكرهت حتى يذهب بي فأصير بين الصفين فيجئ الرجل فيقتلني قال: يبوء
بإثمك ويكون من أصحاب النار، فاعتزال الناس في هذا الحال مرتبة عالية
فيحتمل أن تكون هي المرادة في الحديث الأول.
(2/358)
في المرأة تقبل في
صورة شيطان
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فدخل على زينب بنت جحش فقضى
حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال لهم: "أن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في
صورة شيطان"، لم يرد الصورة التي هي الخلقة لأن الله تعالى شبه رؤوس
الشياطين بالشجرة التي تخرج في أصل الجحيم لقبح ما هي عليه وفظاعته وشبهت
المرأة بالشيطان لأنه يخالط قلوب الناس من الفتنة المؤدية إلى العقوبة في
الدنيا والخزي في الآخرة كما تخالط قلوب الناس بإلقاء الشياطين ما يغويهم
ويزين لهم الآثام والقبائح قال تعالى: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ
كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الآية فكان مثل ذلك ما يكون
رؤيتهم المرأة مما يوقع في قلوبهم ما لا خفاء به مما يكون مثل ما يوقعه
الشيطان بقلوبهم.
(2/358)
في مثقال حبة من الكبر أو الإيمان
عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من
كان في قبله مثقال حبة من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من
إيمان"، وخرجه من طرق يعني لا يدخل النار دخول تخليد كالكافر لأن الآثار
تظاهرت بدخول المؤمنين المذنبين وخروجهم منها بالشفاعة يؤيده حديث أنس قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من قال: لا إله إلا الله وكان
(2/358)
في قلبه من خير ما يزن ذرة".
"ولكل نبي دعوة دعا بها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"
وعن عبد الله بن مسعود مرفوعا "أني لأعلم آخر أهل النار خروجا من النار
وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا فيقال له: ادخل الجنة
فيدخل وقد أخذ الناس مساكنهم فيخرج فيقول: أي رب لم أجد فيها مسكنا فيدخل
ثم يخرج فيقول: رب لم أجد فيها مسكنا فيقول الله عز وجل له: فإن لك مثل
الدنيا وعشرة أضعافها أو قال: هل ترضى أن يجعل لك مثل الدنيا وعشرة
أضعافها، فيقول: أي رب أتسخر بي وأنت الملك قال: فضحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم عند ذلك حتى بدت نواجذه ولا يخرج من النار إلا من كان دخلها".
فإن قيل: أفيجوز أن يقال: لا يدخل النار من يدخلها فقلت: جاء القرآن بمثله
قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} فلم يكن ذلك على كل من أشرك بل على من بقي على شركه
حتى خرج من الدنيا أما من تاب من شركه حتى خرج من الدنيا وهو مؤمن فلا
يتناوله لقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}
الآية إلى قوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}
فكذا حديث ابن مسعود فيه نفي دخول معه تخليد وإثبات دخول بغير تخليد.
والمراد بالكبر هو الترفع عن الناس ووضع الرجل نفسه في موضع لم يضعه الله
فيه وغمصه الناس بإنزالهم دون المواضع التي جعلهم الله فيها وفي ذلك خلاف
لحكم الله تعالى فيهم وفيه الوعيد من الله غير مستنكر في ذلك يبين ما قلنا
ما روي عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل
النار مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: يا
رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال: "الكبر بطر الحق
وغمص الناس".
(2/359)
وعن ثابت بن قيس قال: ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم الكبر فشدد فيه وقال: "إن الله عز وجل لا يحب من كان مختالا
فخورا" فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله إن ثيابي لتغسل فيعجبني
بياضها ويعجبني شراك نعلي وعلاقة سوطي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس ذلك من الكبر إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس".
والمعنى فيما روينا أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر أنه لا
يدخل الجنة قبل دخول النار إلا أن يغفر الله له لأنه دون الشرك ويحتمل أن
الحديث عام يراد به الخصوص وهو من سبق في علم الله تعالى أنه لا يغفر له
فيكون معناه أنهم لا يدخلون الجنة قبل أن يدخلوا النار وإنما يدخولنها بعد
أن يخرجوا من النار لأنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره إنهم لا يدخلون أبدا إذ
لا يخلد في النار إلا الكفار وكذا قوله: "لا يدخل النار من في قلبه مثقال
حبة خردل من إيمان"، عام أريد به خاص وهو من سبق في علم الله تعالى أنه
يغفر له من الموحدين المذنبين.
(2/360)
في الأمر بأخذ
القرآن عن أربعة
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا
القرآن من أربعة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى
أبي حذيفة"، سبب اختصاص الأمر بالأخذ منهم دون غيرهم مع مشاركتهم لهم في
حفظ جميع القرآن كزيد بن ثابت وأبي زيد هو أن من يجمع القرآن قد يصلح لأن
يؤخذ عنه لضبطه إياه ولحسن أخذه على من يقرأه عليه وقد يجمعه من لا يكون
كذلك فاحتمل أن يكون الأربعة يصلحون لذلك ويقدرون عليه من أنفسهم ويقدر
الناس عليه منهم ومن سواهم يقصر عن ذلك فأمر الناس أن يأخذوه عن الذين لا
تقصير معهم فيما يحتاج إليه في أخذه عنهم دون من يقصر عن ذلك.
(2/360)
في قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم على أبي
عن أبي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقرأ القرآن عليك"
قال: قلت: سماني لك ربك عز وجل قال: نعم فقرأ علي {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
، بالتاء جميعا أي: بعض القرآن لا كله يؤيده رواية قتادة عن أنس أنه لما
قال: الله سماني لك قال: "الله سماك لي" فجعل أبي يبكي قال قتادة: نبئت أنه
قرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذا كما يقال: سمعت القرآن أي:
بعضه وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ومن
قرأ شيئا منه مأمور بالاستعاذة ولا وجه لإنكار منكر بأن القارئ يقرأ على من
فوق رتبته ليأخذ عنه لحاجته إليه لأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
ليوقفه على ما يقرأ عليه حتى يكون آخذا له من فيه كقراءة الشيخ الحديث على
من سمعه منه وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: "إن
الله أمرني أن اقرئك" قال أبي: وقد ذكرت عنده قال: نعم، فاغرورقت عيناه
وجعل يبكي، وفي رواية عبد الرحمن بن ابزي عن أبي أن الله أمره أن يقرئه
سورة من القرآن لا أن يقرأ عليه القرآن.
فإن قيل: فهل لأحد من الصحابة من الرتبة في القرآن مثل ما لأبي منها؟ قلنا:
لعبد الله بن مسعود زيادة على ما وجدناه لأبي وذلك ما روي عن أبي ظبيان
قال: قال عبد الله بن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة
ابن أم عبد قال: بل هي الآخرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
القرآن على جبريل في كل عام مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه
مرتين فحضر ذلك عبد الله بن مسعود فعلم ما نسخ وما بدل فكان فيه حضوره
لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل ونحن نحيط علما أن
تلك المرتبة لم يبلغها ابن مسعود إلا بأمر الله عز وجل إياه أن يبلغه
إياها.
(2/361)
وعن علقمة جاء رجل إلى عمر بعرفات فقال:
جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب فغضب عمر وانتفخ
قال: ويحك من هذا؟ قال عبد الله بن مسعود: قال: فوالله مازال يطفأ ويذهب
عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها ثم قال: والله ما أعلم أحدا من
الناس هو أحق بذلك منه وسأحدث عن ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسمر عند أبي بكر في أمر المسلمين وأنا معه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم وخرجنا معه فلما دخلنا المسجد إذا رجل قائم يصلي فقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويسمع قراءته فلما كدنا أن نعرف الرجل قال: "من سره أن يقرأ
القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، ثم جلس الرجل يدعو
فقال صلى الله عليه وسلم: مثل قوله فقلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه فغدوت
إليه فوجدت أبا بكر سبقني إليه فبشره ولا والله ما سابقته إلى خير إلا
سبقني إليه ففيه حلف عمر أنه لا يعلم أحدا من الناس أحق بما ذكر له من ابن
مسعود وأبي وغيره حي خلا سالم فإنه كان مات وخلا أبي زيد فإنه قد يجوز أن
يكون مات قبل ذلك لأن موته كان في أيام عمر وعن أبي وائل قال: خطبنا عبد
الله على المنبر فقال: والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء
نزل وما أحدا علم بكتاب الله مني وما أنا بخيركم ولو إني أعلم أحدا يبلغه
الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته قال أبو وائل: فلما نزل من المنبر جلست
في الحلق فلم ينكر أحد ما قال وفي سكوت الصحابة من الإنكار عليه دليل على
متابعتهم له فيه.
(2/362)
في الأعلام بحال عائشة
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "أيتكن صاحبة
الجمل إلا دبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثير ثم
تنجو بعد ما كادت"، قيل فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف على
أي
(2/362)
أزواجه يكون ذلك منها وليس كذلك فإنه صح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنه سيكون بينك وبين عائشة أمر"؟
قال: نعم قال: أنا من بين أصحابي؟ قال: نعم قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله،
قال: "لا فإذا كان ذلك فأرددها إلى مأمنها"، ولا تضاد بينهما إذ يجوز أن
يكون أعلم الله تعالى نبيه إحدى زوجاته إجمالا ثم بينها له بيانا شافيا
فخاطب عليا بما خاطبه بعد ذلك.
(2/363)
في التفدية
روي أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي
الله جعلنا الله فداك ما يصلح لنا من الأشربة فقال: "لا تشربوا في النقير"
قالوا: يا نبي الله أتدري ما النقير؟ قال: "نعم الجذع ينقر وسطه ولا في
الدباء ولا في الحنتم".
وعن أبي عبد الرحمن الفهري قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في
فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الرواح يا رسول
الله فقال: "أجل ثم قال: يا بلال فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر فقال:
لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال: أسرج لي فرسي"، الحديث.
قيل: كيف يقبل هذا وقائله غير قادر عليه وغير مجاب إليه كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة لما قالت: اللهم متعني بزوجي رسول الله وبابي
أبي سفيان وبأخي معاوية سألت لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة وآثار معلومة لا
يعجل منها شيء قبل حله ولا يؤخر بعد حله.
والجواب أن السائل والمسؤول له يعلمان أنه غير مجاب إليه ومعناه لو وصل إلى
ذلك وقدر عليه لفعله فلم يكره ذلك من قائله لما فيه مما يوجب المودة من
بعضهم لبعض ويؤكد الأخوة وذلك كدعاء بعضهم لبعض بطول البقاء وزيادة العمر
والنسئ في الأجل وهو معروف عرفا غير مستنكر نصا.
(2/363)
وعن محمد بن سيرين قد علم المسلمون أن لا
دعوة لهم في الأجل وعن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول لسعد يوم أحد: "إرم فداك أبي وأمي"، وعن سعد بن أبي وقاص لقد جمع لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبويه وقال صلى الله عليه وسلم للحسن
والحسين: "بابي أنتما وأمي من أحبني فليحب هذين"، يعني: لو كنت أقدر على أن
أجعل أبي وأمي لمن جعلتهما فداء له لفعلت لما قد بلغ مني نهاية مبلغه.
(2/364)
في نسبة الرجل إلى موضع استيطانه
عن أنس مرفوعا: قال: ليصيبن قوما سفع من النار عقوبة بذنوب عملوها ثم
ليدخلنهم الله الجنة بفضل رحمته وشفاعة الشافعين يقال لهم: الجهنميون سموا
جهنميون وإن لم يولدوا بجهنم لأنهم حلوها وأقاموا بها وهو مذهب أبي يوسف أن
من حل بموضع فاوطنه جاز أن يقال أنه من أهله خلافا لأبي حنيفة من أنه أهل
من موضع ميلاده لا غيره من المواضع التي تحول إليها لأنه صلى الله عليه
وسلم تحول إلى المدينة ولم يخرجه من أن يكون من أهل مكة ولكن لأبي يوسف أنه
يقال له: مدني لاستيطانه المدينة وإن لم يكن ولد بها وفيه ما دل على جواز
القول بعد انتقاله من الموضع الذي قد صار من أهله باستيطانه إياه أنه من
أهل الموضع الأول يقال لمن سكن مصر من أهل الكوفة كوفى كما سمي الجهنميون
بعد انتقالهم إلى الجنة ولمن انتصر للإمام أن يقول: إنما سموا الجهنميون
لأن بني آدم لا يولدون في الآخرة ولكن جهنم أول موضع لمن دخلها كمولد الشخص
أول موضع وجد فيها لا لإقامته فيها.
(2/364)
في العجوة والكمأة
عن ابن عباس مرفوعا: "العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن
وفيها أو ماؤها شفاء للعين والكبش العربي الأسود شفاء من عرق النساء يؤكل
من لحمه ويحسى من مرقه" ولا يضاده حديث صلاته صلى الله عليه
(2/364)
وسلم عند المقام مع الجماعة فلما فرغ من
صلاته أهوى بيده بينه وبين الكعبة كأنه يريد أن يأخذ شيئا بيده فقال: "هل
رأيتموني حين قضيت الصلاة أهويت بيدي قبل الكعبة كأني أريد أن آخذ شيئا"
قالوا: نعم يا نبي الله قال: "أن الجنة عرضت علي فرأيت فيها الأعاجيب
والحسن والجمال فمرت بي خصلة من عنب فأعجبتني فأهويت إليها لآخذها فسبقتني
ولو أخذتها لغرستها بين أظهركم حتى تأكلوا من فاكهة الجنة واعلموا أن
العجوة من فاكهة الجنة".
فإن لو امتناع فدل على أنهم لم يأكلوا من فاكهة الجنة لأنه يحتمل أن مراده
بأن العجوة من فاكهة الجنة عن الله تعالى أتحف بعض أوليائه بشيء من عجوة
الجنة فأكل من ذلك وغرس نواة في الدنيا فكان عنه النخيل الذي منه العجوة
وإن انتقلت عما كانت عليه ألا ترى أن النواة من الحجاز إذا غرس في غير
الحجاز أعادتها الأرض المغروس فيها إلى ثمار كلها ويقال: أنها من الحجاز
ويؤيده قوله: "لو أخذته لغرسته" أي لغرست نواة لأن العنقود لا يغرس حتى
تأكلوا من ثمار الجنة ويحتمل أن يكون حتى تأكلوا من ثمار الجنة يريد العنب
الذي في العنقود لا ما سواه وقوله: "العجوة من فاكهة الجنة" يقضي بصحة قول
أبي يوسف ومحمد في أن الرطب من الفاكهة وكذا قوله صلى الله عليه وسلم جوابا
لليهود يا محمد في الجنة فاكهة قال: "فيها فاكهة ونخل ورمان" لاستحالة
إجابة من سأله عن الفاكهة بذكر ما سواها ولا وجه لمن حمل الآية على التأكيد
من باب قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن الحجة قامت في ذلك وفي {وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح} ولم تقم
الحجة بمثل ذلك في الرطب أنه من الفاكهة.
وروى من تصبح كل يوم سبعا من عجوة العالية لم يضره ذلك اليوم سحر ولا سم
وروي من ابتكر سبع تمرات ما بين لأبتي المدينة لم يضره ذلك اليوم سم حتى
يمسي فيه أن المراد بالعجوة في الحديث عجوة في المدينة لا ما سواها من جنس
(2/365)
وعن جابر كثرت الكمأة على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال بعض أصحابه: أن الكمأة من جدري الأرض فامتنعوا من
أكلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عيه وسلم فخرج فصعد المنبر فخطب فقال: "ألا
ما بال أقوام يزعمون أن الكمأة من جدري الأرض ألا وأنها ليست من جدري الأرض
إلا أن الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين إلا أن العجوة من الجنة وفيه شفاء
من السم"، فيه بيان سبب أعلام الرسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في
الكمأة ما علمهم فيها.
(2/366)
في أول نبي بعث
عن أنس مرفوعا: "أول نبي بعث نوح عليه السلام" يعني أول نبي بعث إلى من في
الأرض جميعا في زمنه دل عليه تغريق الأرض كلها عقوبة لهم إذ عتوا ولا يكون
ذلك إلا باستحقاق الجميع عقوبة المخالفة لأن إلياس من المرسلين وهو إدريس
وهو جد نوح1 لأن نوحا هو ابن لأمك بن متوشلح بن
__________
1 لم تقم حجة على أن إلياس هو إدريس ولا أن إدريس هو جد نوح ومع ذلك ففي
كون نوح بعث إلى أهل الأرض نظر ففي الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي الحديث، عد فيهن وكان النبي
يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ويؤيده في نوح أن في القرآن مواضع
في إرساله إلى قومه منها في سورته قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً
إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} وأحسن الأجوبة ما نقله الحافظ في
كتاب التيمم من فتح الباري عن ابن عطية وحاصله بإيضاح وزيادة أن معنى بعث
الرسول إلى قومه خاصة أن يؤمر بالتجرد لتبليغهم وتكلف المشاق في الذهاب
إليهم والتردد عليهم وتجشم الأخطار في ذلك بحسب ما يستطيعه ولا يؤمر بمثل
ذلك في غير قومه بل يكفيه ما تيسر له، وعلى غير قومه إذا بلغتهم دعوته ولم
يكن فيهم ما يغنيهم عنها أن يأتوه ويؤمنوا به ويتبعوه، مثلا هود عليه
السلام بعث إلى قومه خاصة فعليه التجرد لتبليغهم وبذل وسعه في ذلك فأما
بقية الأقوام في عصره على أقسام، الأول من يبلغهم دعوته=
(2/366)
اخنوح وهو إدريس إلا أنه كان مبعوثا إلى
قومه خاصة بدليل قوله تعالى: {إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا} الآية
فلا مخالفة بين الحديث وبين الكتاب كما توهم بعض لأنه لم ينطق عن هوى بل عن
وحي كالقرآن يصدق بعضه بعضا قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافا كثيرا}
__________
= أصلا فهؤلاء لا كلام فيهم، الثاني من بلغتهم دعوته ولكن لهم نبي آخر حي
بين أظهرهم أو قد مات ولكن شريعته محفوظة عندهم حفظا يوثق به فهؤلاء يكفيهم
ما عندهم ولا يلزمهم أن يأتوا هودا، الثالث من بلغتهم وليس لهم نبي حي ولا
شريعة محفوظة فهؤلاء يلزمهم أن يأتوا هودا ويتبعوه إذ لا يعقل أن يعلموا
أنهم على غير هدى وأن هناك نبيا لله يمكنهم الوصول إلأيه ثم لا يلزمهم ذلك
ولا يخفى أنهم إذا جاؤه وتيسر له إرشادهم لزمه ذلك إذ لا يعقل أن يقول لهم
ابقوا على كفركم وجهلكم ولا شأن لي بكم إنما بعثت إلى غيركم، هذا محال إذا
تقرر هذا فنوح عليه السلام بعث إلى قومه خاصة كما دل عليه القرآن وحديث
أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي.. ولكن إن كان بقية الأقوام في عصره كلهم من
الفسم الثالث لم يكن في قوم منهم نبي حي=
(2/367)
في النهي عن
المبالغة في الحلب
عن ضرار بن الأزور قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقوح من أهلي
فقال: "أحلبها" فذهبت لأجهدها فقال: "لا تجدها دع دواعي اللبن".
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أخلاق العرب فيما لم يؤمر بخلافها
وكان عادتهم في حلب الناقة تبقية شيء من اللبن في ضرعها فإذا احتاجوا لضيف
نزل بهم أو لحاجة احتلبوا مما كانوا قد أبقوه في الضرع وإن قل ثم خلطوه
بماء بارد ثم ضربوا به ضرعها وأدنوا منه حوارها أو جلده محشوا إن كانوا
نحروه فتلحسه فتدر عليه من اللبن ملء ضرعها فيصرفون فيما يحتاجون إلى صرفه
من أضيافهم ومن أنفسهم فأمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك لهذا المعنى والله
أعلم.
(2/367)
في لا وحي إلا القرآن
عن ابن عباس لا وحي إلا القرآن ما قاله رأيا بل توقيفا وليس فيه ما يدفع أن
يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة ليست في القرآن ويكون معنى
قوله: لا وحي إلا القرآن أي: القرآن نفسه وما أمر به القرآن مما لم يقله
إلا بالقرآن لأن الله عز وجل قال لنا فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ} الآية ويكون هذا مراد ابن عباس كما كان مراد علي بن أبي طالب في
جواب سؤال أبي جحيفة عنه هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى
القرآن قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم سوى القرآن إلا أن يؤتي الله فهما في القرآن وما في الصحيفة
قال: قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر
فحلف بما حلف ومعه من السنة ما قد كان معه التي منها الوحي الذي يوحي إليه
مما ليس هو بقرآن لأن ما كان معه من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل
في القرآن إذ كان قبولهم إياه منه صلى الله عليه وسلم بأمر القرآن إياهم به
يحتمل أن يكون قوله: لا وحي سوى القرآن من باب لا عالم سوى فلان يعني هو في
أعلى مراتب العلم وكل عالم سواه
__________
= ولا شريعة محفوظة وبلغتهم كلهم دعوة نوح لطول عمره وقلة أهل الأرض في
زمانه وتقارب بلدانهم فلزمهم كلهم اتباعه أن يبذلوا وسعهم في تعرف دعوته
وتعلم شريعته فلما اتفق هذا أن يقال أنه بعث إلى أهل الأرض جميعا ولكن هذا
المعنى غير المعنى في بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الأرض
جميعا ولزمهم جميعا اتباعه حتى لو كان في عهده أنبياء لزمهم اتباعه كما في
الحديث لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وكذلك من كان من الأقوام عندهم
شريعة يرونها محفوظة لم يغنهم ذلك بل عليهم اتباع محمد صلى الله عليه وآله
وسلم وشريعته وقد قام صلى الله عليه وآله وسلم بما أمكنه من التبليغ بنفسه
وبرسله وبكتبه ثم أمر أمته بتبليغهم ذلك والله الموفق. اليماني.
(2/368)
دون رتبته لا أن لا عالم أصلا سواه ومثله
لا زاهد إلا عمر بن عبد العزيز وفي الدنيا زهاد كثير إلا أنهم لم يقدروا من
الدنيا على مثل ما قدر هو فرسه فيها.
(2/369)
في أن عثمان داخل في بيعة الرضوان
عن المسور ومروان بن الحكم في حديث الحديبية وقد كان بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم خداش ابن أمية إلى مكة وحمله على جمل له يقال له: الثعلب
فلما دخل عثرت به قريش فأرادته ومنعته الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى أهل مكة فقال: يا رسول الله إني
أخاف قريشا على نفسي وليس بها من عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش
عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت
بحرب وأنه إنما جاء زائر لهذا البيت معظما لحرمته فخرج عثمان حتى أتى مكة
فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه ورد فيه وأجاره
حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى اتى أبا
سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به
فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف
به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، فكانت بيعة الرضوان وكانت بيعتهم
على أن لا يفروا ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر
عثمان باطل.
فكان عثمان هو السبب في البيعة الرضوان وبايعهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيها على ما لم يبايع من قبل على مثله وقول من قال: أن عثمان كان
غائبا فلم ينل فضيلتها قول جاهل بالآثار وبمناقب الصحابة بل كان له أجل ما
كان لأحد ممن كان حاضرا تلك البيعة يؤيده قول ابن عمر أن رسول الله صلى
الله
(2/369)
عليه وسلم قال يوم بدر: إن عثمان انطلق في
حاجة الله عز وجل وحاجة رسوله فضرب بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره وبعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عثمان يوم بيعة الرضوان وهو يريد أن يدخل مكة
فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله عز وجل وحاجة رسوله وإني أبايع الله له
فصفق إحدى يديه على الأخرى فبان بحمد الله أنه كان لعثمان في تلك البيعة مع
غيبته عنها ما لم يكن لأحد شهدها سواه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بايع له وصفق يده على يده فأي فضيلة كهذه الفضيلة.
(2/370)
في عشرة من الصحابة
فيهم سمرة آخركم موتا في النار
عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه فيهم سمرة: "آخركم
موتا في النار"، وعنه كنت أنا وابن عمر وسمرة انطلقنا نطلب النبي صلى الله
عليه وسلم فقيل: توجه نحو مسجد التقوى فأتيناه فإذا هو قد أقبل واضعا يده
على منكب أبي بكر والأخرى على كاهل عمر فلما رأيناه جلسنا فقال: "من
هؤلاء"؟ فقال أبو بكر: هذا أبو هريرة وعبد الله بن عمر وسمرة فقال: "أما ان
آخرهم موتا في النار"، فمات أبو هريرة وابن عمر ثم مات سمرة وعنه أنه قال
لي ولحذيفة ولسمرة: آخركم موتا في النار وكان يسأل بعضهم عن موت بعضهم وكان
آخرهم موتا سمرة.
يحتمل أنه أراد به نار الآخرة ولكن لما كان موحدا يؤول أمره إلى الخير
ويحتمل نارالدنيا وأنه موته في النار لا أنه من أهل النار كما أجاب محمد بن
سيرين لما سأل عن أمره قال أصابه كزاز شديد فكان لا يكاد يدفأ فأمر بقدر
عظيمة فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ هو فوقها مجلسا فكان يصعد إليه فيجد
حرارتها فتدفئه فبينا هو كذلك إذ خسف به فظن أن ذلك هو لذلك فعلم أن النار
المذكورة في أره كانت من نيران الدنيا فعاد إلى الأعلام بفضيلة سمرة وأنه
من جملة الشهداء الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم شهداء
بالحريق
(2/370)
فكان هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم
لنسوانه: "أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا" فلما توفيت زينب ابنة جحش وكانت
قصيرة صناعا تصنع بيدها ما تخرجه في سبيل الله علمن أنها كانت أطولهن يدا
بالخير وبان لهن بعد موته صلى الله عليه وسلم كما بان للناس أمر سمرة بعد
موته رضي الله عنه.
(2/371)
في الدعاء للأنصار وأبنائهم
عن زيد بن أرقم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر
للأنصار"، وعنه أنه كتب إلى أنس بن مالك يعزيه بمن أصيب من ولده وقومه يوم
الحرة وأبشر وابشرك ببشرى من الله عز وجل سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار
ولنساء أبناء الأنصار ولنساء أبناء أبناء الأنصار"، وكان أبو بكر محمد بن
عمرو بن حزم يقول: أنا آخر من بقي من أهل هذه الدعوة ما بقي أحد غيري قيل
فيه ما دل على أن أبناء الأنصار لم يدخلوا في الأنصار ولهذا ذكرهم ثانيا
وقيل بل هذا من باب قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} بعد دخولهم في النبيين ولا يقال: كيف
يدخلون في الأنصار ولم يكن منهم نصرة لأنه صلى الله عليه وسلم حين تلمظ عبد
الله بن أبي طلحة قال: حب الأنصار التمر ففيه أنه من الأنصار ولم يكن منه
نصرة وكان صلى الله عليه وسلم أخذ من تمرات العجوة ومضغه بريقه فأوجره إياه
فتلمظ الصبي وقيل له سمه يا رسول الله قال: هو عبد الله.
فإن قيل فلم لا يسم ابن المهاجر مهاجرا قلنا لأن المهاجرين أسلموا في دارهم
فمن هاجر بنفسه كان مهاجرا والأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة
فبايعوه على أن يمنعوه فيما يمنعون منه أنفسهم وأبنائهم فعقدوا له النصرة
على أنفسهم فدخل في تلك البيعة أبناؤهم كدخولهم فيها كما يدخل أبناء أهل
الحرب فيما يصالح الإمام إياهم عليه مما يجري عليه أمورهم في المستقبل
ومثله صلح عمر نصارى بني تغلب على ما كان صالحهم عليه من تضعيف الصدقة حتى
دخل فيه
(2/371)
من حضر صلحة منهم ومن لم يحضر منهم ودخل
فيه من يولد منهم بعد ذلك إلى يوم القيامة فمثل ذلك الأنصار الصالحون على
النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه عليهم ذلك فدخل فيه من حضر منهم
ومن كان غائبا منهم ومن سواهم ممن يولد إلى يوم القيامة.
(2/372)
في لا ينجى أحد إلا عمله
عن أبي هريرة مرفوعا: "لن ينجي أحدا منكم عمله" فقال رجل: ولا إياك يا رسول
الله؟ فقال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ولكن سددوا"، هذا
قبل نزول قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآية
بالحديبية فعلم حاله التي لم يكن عالما بها قبل نزوله وكذا أنزل عليه في
أصحابه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية ذكر
لهم الجنة ولم يذكر فيما أنزل عليه في نفسه وذلك على عادة الفصاحة في
الاقتصار على ما يفهم به المخاطب المراد لأن الصحابة إنما استحقوا الجنة
بصحبتهم له صلى الله عليه وسلم وأجابتهم له إلى ما دعاهم إليه من الطاعة
التي كان يفعلها وزيادة من جنسها وإذا كانوا بتقصيرهم عما هو عليه يستحقون
الجنة كان صلى الله عليه وسلم لمجاوزته إياهم وزيادته عليهم بالجنة أولى
وبدخوله إياها أحرى.
(2/372)
في سحر اليهود
سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل
عليه بالمعوذتين وقال: أن رجلا من اليهود سحرك في بئر بني فلان فأرسل عليا
فجاء به فأمر أن يحل العقد ويقرأ آيته فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي صلى
الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال فما ذكر لذلك اليهودي شيئا مما صنع به
ولا رآه في وجهه فيه ما دل عليه بقاء السحر إلى ذلك الوقت فجاز بقاء عمله
بعد ذلك أيضا.
(2/372)
في قراءة الرواي على
المروي كقراءة المروي على الراوي
...
في قراءة الراوي على المروي كقراءة المروي على الراوي
عن أنس بينا نحن جلوس في المسجد دخل رجل على جمل وأناخه في المسجد وعقله ثم
قال: إياكم رسول الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين أظهرنا قلنا:
هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب فقال له رسول
الله: "قد أجبتك" فقال: إني يا محمد سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجدن
على في نفسك فقال: "سل ما بدا لك" فقال الرجل: أنشدك بربك وبرب من قبلك
الله أرسلك إلى الناس كلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم"
قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال:
"اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن
تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "اللهم نعم" فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي
قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أحد بني سعد بن بكر.
ففي ما روينا أن الجواب بنعم ككلام المجيب بتلك الأشياء بلسانه وقد وجدنا
في هذا الباب ما هو فوق هذا وهو ما في كتاب الله من قوله تعالى: {وَنَادَى
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً
قَالُوا نَعَمْ} فقولهم: نعم كقولهم وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وفيه ما دل أن
المقروء عليه الحديث كخطاب القارئ له إياه وقوله: أسمعت فلانا أخبرك فلان
حدثك فلان بكذا إذا قال: نعم إنه يكون بذلك كقوله تلك الأشياء بلسانه حتى
سمعت منه ومن ذلك إجماع أهل العلم أن الرجل إذا قيل له أشهد عليك بكذا كذا؟
فيقول: نعم أنه يسعه بذلك أن يشهد عليه به وإن يقول أشهد عليه أنه أقر عندي
بكذا وأنه أشهدني بكذا.
(2/373)
في التوديع
عن قزعة قال: كنت عند عبد الله بن عمر فأردت الانصراف فقال: كما أنت حتى
أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فصافحني ثم قال:
أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك.
وعن موسى بن وردان قال: أتيت أبا هريرة أودعه لسفر أردته فقال أبو هريرة:
ألا أعلمك يا ابن أخي شيئا علمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوله عند
الوداع فقلت: بلى فقال: قل استودعك الله الذي لا يضيع ودائعه.
في الحديث تقصير عما في الحديث الأول والمكمل أولى وعن يزيد الخطمي كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شيع جيشا بلغ ثنية الوداع فقال: "استودع
الله عز وجل دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم"، فيه أن موضع الأمانة لموضع
الإيمان الذي هو الدين فإنه روي مرفوعا لا إيمان لمن لا أمانة له فعقلنا
بذلك أن كل واحدة منهما مضمنة بصاحبتها فاستودعتا جميعا.
(2/374)
في مرحبا وسهلا
عن أبي جحيفة أن نفرا من بني عامر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم:
"مرحبا"، وروي أن عليا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "مرحبا
وأهلا"، وقال لفاطمة: "مرحبا"، وقال للأنصار: "مرحبا"، والرحب المكان
الواسع قال تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ} وأما الأهل فالمراد أنك نزلت منزلة الرجل في أهله في الإكرام
والراحة عندهم وعن بريدة قال: قال نفر من الأنصار لعلي عندك فاطمة فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حاجة ابن أبي طالب" فقال: يا رسول
الله ذكرت فاطمة ابنة رسول الله فقال: "مرحبا وأهلا"، لم يزده عليهما فخرج
على أولائك الرهط وهم ينتظرونه فقالوا: وما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه
قال لي: "مرحبا وأهلا" فقالوا: يكفيك
(2/374)
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاك
الأهل وأعطاك الرحب فلما كان بعد ما زوجه قال: "يا علي لابد للعرس من
وليمة" فقال سعد: عندي كبش وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة فلما كان
ليلة البناء قال: لا تحدث شيئا حتى تلقاني فدعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على علي فقال: "اللهم بارك فيهما وبارك
عليهما وبارك لهما في نسلهما"، قال ابن غسان: النسل من النساء وما في هذا
من قوله صلى الله عليه وسلم لعلي دليل على ما تأولنا عليه هاتين الكلمتين.
(2/375)
في شهوده صلى الله
عليه وسلم حلف المطيبين
عن عبد الرحمن بن عوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت مع عمومتي
حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم" وإني أنكثه حلف المطيبين عند أهل
الأنساب كان قبل عام الفيل بمدة طويلة وكان ذلك الحلف في ثمانية أبطن من
قريش وهم هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل وعبد مناف وتيم بن مرة وأسد بن عبد
العزى وزهرة بن كلاب والحارث بن فهر لما حاول بنو عبد مناف إخراج السقاية
واللواء من بني عبد الدار فتحالفت هذه الأبطن على ذلك وبعثت إليهم أم حكيم
ابنة عبد المطلب بجفنة فيها طيب فغمسوا فيها أيديهم ثم ضربوا بها الكعبة
توكيدا لحلفهم فسموا بذلك مطيبين ثم تركوا ما بأيدي عبد الدار على حاله لما
خافوا وقوع القتال بينهم وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك
عام الفيل.
عن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه ولدت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم
عام الفيل فجرى الأمر على ما ذكرنا حتى قدم مكة رجل من زبيد بتجارة له
فباعها من العاص بن وائل السهمي فمطله بها وغلبه عليها فحمله ذلك على أن
أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم أنشأ يقول.
(2/375)
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... بطن مكة نائى
الأهل والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... أمسى يناشد حول الحجر والحجر
هل مخفر من بني سهم يقول لهم ... هل كان فينا حلالا مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما سمعت ذلك قريش تحالفوا عند ذلك حلف الفضول وكان تعاقدوه قبائل اجتمعوا
في دار عبد الله ابن جدعان بنو هاشم وبنو المطلب وأسد بن عبد العزي وزهرة
بن كلاب وتيم بن مرة فتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ومن
غيرهم ممن دخلها إلا قاموا معه وكانوا على الظالم حتى يردوا عليه مظلمته
فسمت قريش ذلك حلف الفضول وكان أهله المذكورون مطيبين جميعا لأنهم من
المطيبين الذين كان الحلف الأول الذي ذكرناه فيهم وهو المراد به بقوله صلى
الله عليه وسلم: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين" هو حلف الفضول الذي تحالفه
المطيبون الذي لم يشهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا فبان بحمد الله
جهل من قال أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد فكيف شهده قال صلى الله عليه
وسلم: "شهدت حلفا في دار ابن جدعان بنو هاشم زهرة وتيم وأنا فيهم ولو دعيت
به لأجبت وما أحب أن أخيس به وإن لي حمر النعم"، قال: وكانت محالفتهم على
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا يدعو الأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه
وبذلك سمي حلف الفضول وكان ذلك الحلف أشرف حلف في الجاهلية ولذا شهده رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسمي أيضا حلف المطيبين إذ كان أهله مطيبون جميعا.
(2/376)
لا يقال للمنافق سيد
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولن للمنافق
سيد فإنه إن يكن سيدكم فقد اسخطتم ربكم"، السيد هو المستحق للسؤدد وهو
الأسباب العالية التي يستحق بها ذلك كسعد بن معاذ الذي قال فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لقومه: "قوموا إلى سيدكم"، وقال صلى الله عليه وسلم
لبني سلمة: "من سيدكم"؟
(2/376)
قالوا: جد بن قيس ثم ذكروه بالبخل فقال:
"ليس ذلك سيدكم ولكن سيدكم البراء بن معرور".
قال جابر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا والمنافق لما كان موصوفا
بالنقائص لا يستحق هذا الاسم فتسميته بذلك وضع له بخلاف المكان الذي وضعه
الله فيه فاستحق السخط بذلك وقيل: معنى قوله: "أن يكن سيدكم فقد أسخطتم
ربكم" يعني لا يكون سيدهم وهو منافق إلا أن يكونوا بمنزلته في النفاق الذي
يستوجب به سخط الله لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
(2/377)
في العبادة في الهرج
عن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهرج
كهجرة إلي الهرج" لما شغل أهله عن غيره مما هو أولى بهم من عبادة ربهم فمن
تشاغل بالعبادة في تلك الحال كان متشاغلا بما أمر بالتشاغل به تاركا لما قد
تشاغل به غيره من الهرج المنهي عن الدخول فيه والكون من أهله فاستحق بذلك
الثواب العظيم.
(2/377)
في ثواب البر وعقوبة
البغي
عن عائشة مرفوعا: "أن أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم وأسرع الشر عقوبة
البغي وقطيعة الرحم"، وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من ذنب هو أجدر أن يعجل الله عز وجل العقوبة لصاحبه في الدنيا مع ما
يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم"، المراد مه من كان منه البغي
وقطيعة الرحم من أهل التوحيد الذي لم يخرج منه بذلك لأنه علم أن الكفر أغلظ
من ذلك والعقوبة عليه أشد.
(2/377)
في الجوامع من
الدعاء
عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي
الصبح فكلمه بكلام كأنه كره أن أسمعه فقال: عليك بالجوامع
(2/377)
الكوامل فقالت عائشة فأتيته فقلت ما قولك
الجوامع الكوامل فذكر هذا الكلام اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله
ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذبك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما
لم أعلم وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب
إليها من قول وعمل وأسألك من الخير الذي سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله
عليه وسلم وأعوذ بك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم
وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدا وله طرق كثيرة صحيحة.
والمراد بالجوامع من الدعاء التقديم لها على ما سواها من الدعاء على أن
مراده التعجيل لعمل الخير خوف ما يقطع عنه مما لا يؤمن على الناس فأمر
بالجوامع من الدعاء لذلك كمثل ما أمر به الناس في الحج أن يتعجلوا إليه خوف
ما يقطعهم عن ذلك من مرض أو حاجة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، فأمر بالجامع من الكلام
خوفا من أن يقطعه عن ذلك ما يقطع عن مثله.
ومنه ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على جويرية
وهي في مصلاها تسبح وتذكر الله فانطلق لحاجته ثم جاء بعد ما ارتفع النهار
فقال لها: "يا جويرية ما زلت في مقعدك"؟ قالت: يا رسول الله مازلت في مقعدي
هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت أربع كلمات أعيدهن ثلاث
مرات هو أفضل من كل شيء قلتيه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه
سبحان الله مداد كلماته سبحان الله زنة عرشه والحمد لله رب العالمين"،
وخرجه من طرق فدل هذا على أن جميع ما يحتاج الناس إلى استعماله من الكلام
الذي يتقرب به إلى خالقهم ينبغي أن يمتثل فيه هذا المعنى وإذا كان ذلك في
الكلام كان في الأفعال التي يفعلونها للقربة إليه أيضا كذلك.
(2/378)
في استحلاف على
الرواة
عن علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
شيئا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف صدقته
وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه ليس من رجل يذنب ذنبا فيحسن الوضوء ثم
يقوم فيصلي ركعتين ويستغفر الله عز وجل إلا غفر له وفي رواية وقرأ: {وَمَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ
اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً- وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية قرأ الآيتين أو أحداهما وفي رواية ثم قرأ:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية قيل: لا يخلو إن كان
الراوي من أهل القبول فلا معنى لاستحلافه وإن لم يكن فلا وجه للاشتغال
باستحلافه وجوابه إن مذهب علي كان في الشهود العدول على حق أنه لا يحكم بها
إلا بعد حلف المشهود له على صدقها فيما شهدت به ففعل في الحديث الذي يحدث
به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ولم يكتف بعدالة الراوي ولا
يقال فكيف ترك استحلاف أبي بكر؟ لأنه إنما ترك استحلافه لما قرأ عليه من
كتاب الله عز وجل ما قامت له به الحجة على صدقه بما صدقه مما لم يكن سمعه
فأغناه ذلك عن طلب يمينه1.
__________
1 في صحة هذا الأثر عن علي عليه السلام كلام للبخاري وغيره راجع ترجمة
أسماء بن الحكم الفزاري من تهذيب التهذيب 1/267 وعلى فرض صحته فهو محمول
أنه عليه السلام إنما كان يحلف لاإذا عرضت له ريبة ولذلك لم يحلف أبا بكر،
بل قد روى عن عمر وعن المقداد وعن عمار وغيرهم ولم ينقل أنه حلف واحد منهم
وعلى فرض أنه كان يحلف فالذي أغناه عن تحليف أبي بكر الصديق هو أن الله
تبارك وتعالى سماه الصديق فأما الآيات التي ذكرها فهي وإن دلت على
الاستغفار والصلاة فإنها لا تدل على مشروعية ركعتين كما في الحديث وما ذكره
من مذهب علي في تحليف المدعي مع شاهديه لا أدري ما صحته ولو صح لم يلزم منه
تحليف الراوي فإن الراوي لا يدعى شيئا لنفسه والله أعلم.
(2/379)
في حبس عمر مكثر
الحديث
عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر حبس1 أبا مسعود وأبا الدرداء
وأبا ذر حتى أصيب وقال: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيما روى عنه أن عمر قال لأبي مسعود وأبي ذر ما هذا الحديث قال: واحسبه
حبسهم حتى أصيب إنما فعل عمر هذا لأن مذهبه كان حياطة ما يروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإن كان الرواة عدولا إذ كان على الأئمة تأمل ما يشهد
به العدول عندهم وكذلك فعل بأبي موسى الأشعري مع عدله عنده في الاستئذان
ووقف على ذلك منه أبي بن كعب ومن سواه من الصحابة فلم ينكروا ذلك عليه ولم
يخالفوه فيه فكان حبسهم لذلك لا لأن يقطعهم عن التبليغ إلى الناس ما سمعوه
منه صلى الله عليه وسلم وكذلك كان أبو بكر قبله يفعل الاحتياط في قبول
الروايات.
عن قبيصة جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها فقال أبو بكر: مالك في كتاب
الله شيء فارجعي حتى أسأل الناس فسألهم فقال المغيرة: حضرت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة
الأنصاري فقال مثل قول المغيرة فأنفذه لها أبو بكر ثم جاءت الجدة الأخرى
إلى عمر فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي
قضى به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئا ولكن هو السدس فإن
اجتمعتما فيه فهو بينكما وأيتكما حلت به فهو لها.
فلم يكتف أبو بكر بشهادة المغيرة مع عدله عنده حتى انضم إليه غيره طلبا
للاحتياط وإشفاقا أن يدخل فيه ما ليس منه إن لم يفعل ذلك ويحتمل أن يكون ما
كان منه في حبس من حبسهم لتجاوزهم الحد حتى خاف أن يقطعوا الناس بذلك
ويشغلوهم به عن كتاب الله تعالى وعن تأمله والاستنباط
__________
1 يريد منعهم عن كثرة الرواية فأما السجن فلم يثبت.
(2/380)
للأشياء منه مما فيه لعلو مرتبة المستنبطين
منه على غيرهم ممن يقرؤه وبقوله عز وجل: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقوله تعالى في غيرهم: {لا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} أي: إلا تلاوة فلم يحمدوا كما حمد
المستنبطون.
يؤيده ما روي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر بن
الخطاب إلى جدار فتوضأ فقال: أتدرون لم مشيت معكم قالوا: نعم نحن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي
بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا
الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امضوا وأنا شريككم فلما قدم قرظة
قالوا: حدثنا قال: نهانا عمر وخرجه من طرق وفي رواية قال قرظة: لا أحدث
حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا فدل هذا على أن قصد عمر أن لا
ينقطع الناس عن كتاب الله بالحديث فإنما كره منهم هذا المعنى لا ما سواه.
(2/381)
في الغنى والفقر
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في ابل له وغنم فأتاه ابنه عمر
فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب فلما انتهى إليه قال: يا أبت
رضيت أن تكون في إبلك وغنمك والناس بالمدينة يتنازعون في الملك فضرب سعد
صدر عمر بيده ثم قال: اسكت يا بني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "أن الله يحب العبد التقي الخفي الغني"، وعن ابن مسعود قال: كان من
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة
والغنى" قيل فيه تفضيل الغنى على الفقر وليس كذلك لأن الغنى المذكور لبس
الغنى بالمال ولا يجوز ظنه بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه أنه قال:
"ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي على ليلة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده
لدين أو أقول به في عباد الله هكذا وهكذا"، بل المراد غنى النفس القاطع عن
المال الذي يقطع عن الطاعات ويشغل القلب به عن الله تعالى فالغنى المحمود
هو الغنى الذي
(2/381)
يتفرغ به القلوب عن الدنيا وعن الاهتمام
بها وعن أبي هريرة مرفوعا ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس
والذي ظن بالمذكور غنى المال فهو ضد المنزلة التي اختارها اله تعالى له من
الأحوال التي كان عليها فكيف يجوز أن يظن به ذلك.
(2/382)
في من نزلت به فاقة
روي ابن مسعود مرفوعا "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم يسد الله فاقته
وإن أنزلها بالله عز وجل أوشك الله له بالغنى" أما أجل عاجل أو غنى عاجل
جعل الأجل العاجل غنى بمعنى غنى عن المال وقوله أو غنى عاجل يريد به الغنى
الذي لا يلهي عن ذكر الله عز وجل وعن أداء الفرائض ويكون مع ذلك قواما للذي
يؤتاه في دنياه حتى يكون نازعا لتلك الأشياء الأخر.
(2/382)
في المال الصالح
عن عمرو بن العاص قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي فقال: "خذ
عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني"، ففعلت فأتيته وهو يتوضأ فصعد البصر في ثم
طأطأه ثم قال لي: "أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله عز وجل ويغنمك وازعب
لك زعبة من المال صالحة" قلت: يا رسول الله ما للمال هاجرت ولكن هاجرت رغبة
في الإسلام وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو نعما
بالمال الصالح للرجل الصالح" لا مخالفة بينه وبين ما ذكرنا قبله لأن قوله
أو غنى عاجل هو على المال الذي يكون قواما للذي يؤتاه وكذا المراد بالمال
الصالح لأن المال لا يكون صالحا إلا وهو مفعول فيه ما أمر الله بفعله فيه
ومن يفعل ذلك فيه بحق ملكه إياه فهو صالح أيضا فلا تضاد ولا اختلاف.
(2/382)
في ما يستدل به على
صدق الحديث
عن أبي حميد وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم
الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم".
(2/382)
قريب فإنا أولاكم به وإذا سمعتم بحديث عني
تنكره قلوبكم وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكر فأنا أبعدكم منه
وكان أبي بن كعب في مجلس فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت فلما فرغوا قال: أي: هؤلاء ما حديث بلغكم
عن رسول الله يعرفه القلب ويلين له الجلد وترجون عنده فصدقوا بقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول: إلا
الخير.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ
إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ} الآية فأخبر الله تعالى عن أهل
الإيمان بما هم عليه من هذه الأحوال عند سماعهم ما أنزل الله والحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم وحي منزل من عند الله ففي حصول الحالة التي تحدث
عند سماع القرآن إذا حصل في سماع الحديث دليل على صدق الحديث عنه وإن كانوا
بخلاف ذلك يجب ترك قبوله والمخالفة بينه وبين ما سواه مما تقدم ذكرنا له.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتم عني حديثا
تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به" قلته أو لم أقله فإني أقول ما يعرف ولا
ينكر "وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما
ينكر ولا يعرف"، يحتمل أن تكون المعرفة منهم بطباعهم كما يعرفون بقلوبهم
الأشياء التي تضرهم أو تنفعهم ويعلمون بقلوبهم تواترها علم طباع لا علم
اكتساب وكانوا علموا أن الله تعالى قد جعل شريعته أجل الشرائع وأحسنها
فالأشياء الحسنة اللائقة الملائمة لأخلاقه ولشرائعه يدخل فيها ما حدثوا به
من ذلك فيجب عليهم قبوله وإن لم يقله بلسانه لهم لأنه من جملة ما قد قامت
الحجة على صدقه وإذا سمعوا عنه الحديث فأنكروه من تلك الجهة وجب عليهم
الوقوف عليه والتحامي لقبوله والحاصل أن الحديث المروي إذا وافق الشرع
وصدقه
(2/383)
القرآن وما تظاهرت به الآثار لوجود معناه
في ذلك وجب تصديقه لأنه إن لم يثبت القول بذلك اللفظ فقد ثبت أنه قال معناه
بلفظ آخر ألا ترى أنه يجوز أن يعبر عن كلامه صلى الله عليه وسلم بغير
العربية لمن لا يفهمها يقال له أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ونهاك
عن كذا وقائله صادق وإن كان الحديث المروي مخالفا للشرع يكذبه القرآن
والأخبار المشهورة وجب أن يدفع ويعلم أنه لم يقله وهذا ظاهر.
(2/384)
الترغيب في تعلم
العلم
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أغد عالما أو متعلما أو محبا أو
مستمعا ولا تكن الخامس فتهلك" قال عطاء قال مسعر بن كدام هذه خامسة زادنا
الله عز وجل لم تكن في أيدينا إنما كان في أيدينا أغد عالما أو متعلما أو
مستمعا ولا تكن الرابعة فتهلك بإعطاء ويل لمن لم تكن فيه واحدة من هذه وكان
ابن مسعود يقول أغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك ولم يقله
إلا توقيفا والأمعة هي الخامسة لأن الأربعة محمودة والأمعة مذمومة وعن ابن
مسعود كنا ندعو الأمعة في الجاهلية الذي يدعي إلى الطعام فيذهب معه بآخر
وهو فيكم المحقب1 دينه الرجال الذي يبيح دينه غيره ينتفع به ذلك الغير في
دنياه ويبقى إثمه عليه كالرجل الذي ينتفع بطعام الغير ويعود عاره على من
جاء به وقال أبو عبيد الإمعة الذي يقول أنا مع الناس يعني يتابع كل أحد على
رأيه ولا يثبت على شيء.
__________
1المحقب الذي يجعل دينه تبعا لدين غيره بلا حجة ولا رواية وهو من الأرداف
على الحقيبة المجمع.
(2/384)
في منتهى الإسلام
روي عن كرز بن علقمة أن رجلا قال: يا رسول الله هل للإسلام من منتهى؟ قال:
"نعم يكون أهل البيت من العرب أو العجم إذا أراد الله
(2/384)
عز وجل بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام" قال
ثم ماذا؟ قال: "ثم تقع الفتن كأنها الظلل" فقال رجل: كلا إن شاء الله فقال:
"لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض".
قال الزهري: الأسود الحية السوداء إذا أرادت أن تنهش ارتفعت ثم أنصبت ولا
يخالفه ما روي عن تميم الداري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل ولا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا
أدخله هذا الدين بعز عزيز يعزبه الإسلام وذل ذليل يذل الله عز وجل به
الكفر".
قال: فهذا على أنه لا ينقطع حتى يعم الأرض كلها به حتى لا يبقى بيت إلا
دخله أما بالعز الذي ذكره ثم تأتي الفتن فيشغل من شاء الله أن يشغله عما
كان عليه من التمسك بالإسلام فيكون حديث تميم على عمومه بالمسافات وما في
حديث كرز على انقطاعه عن بعض الناس بالتشاغل بالفتنة بعد دخوله فيمن عمه
لأنه قد كان في الأرض التي تبلغها الليل فهذا وجه التئام معنييهما فلا تضاد
بينهما والله أعلم.
(2/385)
في مضر
عن عمرو بن حنظلة قال حذيفه: لا يدع مضر عبد الله مؤمنا إلا فتنوه أو قتلوه
ويضربهم الله والملائكة والمؤمنون حتى لا يمنعوا ذنب تلعة فقال له رجل: يا
أبا عبد الله تقول هذا وأنت رجل من مضر فقال: الا أقول ما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم المراد من مضر المذكور المذموم منهم دون من سواهم فمنهم
ظالم ومنهم صالح والعرب في الأشياء الواسعة تقصد بذكر ما كان من بعض أهلها
إلى جملة أهلها والمراد بعضه ممن اتصف بالصفة المذمومة ومنه قوله تعالى:
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
في قنوته: "وأشدد وطأتك اللهم على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف"، وهو
كثير من الصحابة من مضر والمراد من كان منهم على خلاف الطريقة المستقيمة.
(2/385)
في الخلة
روي مرفوعا: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وإن صاحبكم خليل
الله" وعن ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي
فيه عاصبا رأسه بخرقة فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أنه
ليس أحد من الناس أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت
متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا كل خوخة
في المسجد غير خوخة أبي بكر"، فيه أنه لم يكن له خليل عن عاصم قال: قلت
للشعبي: أن حفصة كانت تحدثنا عن أم عطية فتقول: حدثني خليلي يعني: النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: هذا من عقول النساء أو لم يقل صلى الله عليه وسلم
قبل موته: من كانت بيني وبينه خلة فقد رددتها عليه ولو كنت متخذا خليلا من
هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا.
أعلم أن الخليل في كلام العرب قد يكون من الخلة التي هي الصداقة وقد يكون
من اختلال الأحوال والمقصود هنا الأول فإنه روي ابن أبي المعلى لو كنت
متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن ود إيمان مرتين ولكن صاحبكم
خليل الله ومعنى إضافة الخليل إلى الله قيل فقير الله الذي لم يجعل فاقته
إلا إليه وقيل أنه محب الله الذي لا خلل في محبته وقيل هو المختص بالمحبة
دون غيره وقيل أنها الموالاة بأن جعله الله وليا ولاية لا ولاية فوقها ولا
مثلها يؤيده ما روي عن مسروق عن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن ولي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {وَهَذَا النَّبِيُّ}
الآية ولما كان الله له خليلا لم يجز إلا أن يكون من الخلة التي هي نهاية
المحبة فكذا إذا كان هو خليلا لله يكون بهذا المعنى وكذا الولاية منسوبة
لمن يتولاه من خلقه ويتولى الله خلقه قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية و
(2/386)
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ} فإن قيل: لم يتخذ أبا بكر خليلا قلنا: كان بينهما خلة
الإسلام وهو أفضل وكذا ود الإيمان أفضل من مودة تكون بغير إسلام فرد صلى
الله عليه وسلم مكان أبي بكر منه إلى ذلك المعنى وجعله به فوق الخليل.
(2/387)
في أخنع الأسماء
عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخنع الأسماء عند الله
رجل تسمى باسم ملك الأملاك أخنع الأسماء إذ لها لأن الخنع الذل يقال: خنع
الرجل خنوعا إذا خضع والخضوع والذل إنما وقعت في هذا على ذي الاسم لأعلى
الاسم نفسه لأن الاسم لا يلحقه مدح ولا ذم وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ} بمعنى: سبح ربك وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} أي: أهلها وملك الأملاك هو الله
تعالى فمن تسمى به تكبر فرده الله إلى الذلة والخضوع.
(2/387)
في قيام الناس بعضهم
لبعض
عن عبد الله بن كعب سمعت كعب بن مالك يحدث بحديث توبته قال: فانطلقت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة
ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم حوله الناس فقام إلي طلحة يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام
رجل من المهاجرين إلي غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة وعن الحدري لما
طلع سعد ابن معاذ بعد أن نزلت بنو قريظة على حكمه قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم أو إلى خيركم".
وعن أبي هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل بيته
قمنا وعنه قال: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد
بالغدوات فإذا قام إلى بيته لم نزل قياما حتى يدخل بيته ولا يعارضه قوله
صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يستتم له الرجال قياما وجبت له النار" لأن
(2/387)
فيما روينا إطلاق رسول الله صلى الله عليه
وسلم لهم القيام باختيارهم لا بمحبة الذين قاموا لهم إياه منهم وفي هذا
الحديث ذكر المحبة من الذي يقام له بذلك من القائمين فالتوفيق أن القيام
مباح إذا لم يكن ممن يقام له محبة في ذلك ومكروه إذا كان له محبة فيه وقد
روي أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا
إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك.
ففيه أنهم لو لم يعلموا كراهته لقاموا إليه وكراهته كان على سبيل التواضع
منه لا لأنه حرام عليهم فعله ألا ترى أنه أمرهم بالقيام لسعد وقام بمحضره
طلحة بن عبيد الله إلى كعب فلم ينهه وقيام الصحابة بعضهم لبعضهم مشهور لا
ينكر فالمكروه هو محبة القيام بعضهم من بعض لا القيام المجرد وزعم بعض من
ينتحل الحديث أن قوله: "من أحب أن يستتم له الرجال قياما"، إنما هو في
القيام الذي يفعله الأعاجم لعظمائهم من قيامهم على رؤوسهم وإطالتهم ذلك حتى
يسنخوا معه أي تتغير لذلك روائحهم لا طالتهم وليس كذلك لأن معاوية أنكر علي
ابن عامر مجرد القيام بغير إطالة منه وقال: اجلس يا ابن عامر فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يستتم"، الحديث، وقد كان قام
لمعاوية فدل على بطلان تأويل المنتحل وفي انتفائه ثبوت التأويل الأول.
(2/388)
في صلة الشعر
عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة
والمستوصلة. وعن أسماء ابنة أبي بكر مرفوعا لعن الواصلة والمستوصلة وخرجه
من طرق وأهل العلم يبيحون صلة الشعر بغير الشعر من الصوف وما أشبهه ويروون
عن ابن عباس قال: لأباس أن تصل المرأة شعرها بالصوف وعن الليث عن بكير عن
أمه أنها دخلت على عائشة وهي عروس ومعها ماشطتها فقالت عائشة: أشعرها هذا
فقالت: الماشطة شعرها وغيره وصلته
(2/388)
بصوف فما أنكرت ذلك وعائشة إحدى الرواة في
لعن الواصلة والمستوصلة فلم تنكرلعلمها أنها غير مرادة باللعن ولا يظن بأهل
العلم المأمونين على نقله يخرجون من حديث رووه مجملا ما ظاهره دخوله فيه
إلا بعد علمهم بخروجه منه ولولا ذلك لسقت عدالتهم وروايتهم وحاشى لله أن
يكونوا كذلك1.
__________
1 هذه مسألة تخصيص العام بمذهب راويه من الصحابة وفيها خلاف فمن القائلين
بالتخصيص من يشنع على مخالفيه بما ذكره المؤلف ومن مخالفيهم من يشنع عليهم
بأن الحديث من كلام المعصوم وهو النبي صلى الله عليه وسلم فتخصيصه بمذهب
الصحابي إما ذهاب إلى عصمة الصحابي أو رد الكلام المعصوم بكلام من ليس
بمعصوم، ولا يخفى أن التشنيع من الجانبين في غير محله والمسألة مبنية على
أمر آخر يعلم من موضعه- ح.
(2/389)
في أطيط السماء
عن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال
لهم: "هل تسمعون ما أسمع"؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا رسول الله قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها
موضع قدم إلا وعليه ملك أما ساجد وإما قائم"، وعن أبي ذر قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع
إلا وفيه ملك ساجد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، العرب تطلق أن يقال: فلان جالس على
كذا لما يفضل عنه يقولون: فلان جالس على الحصير وهي مقصرة عنه وجلوسه في
الحقيقة عليها وعلى غيرها من الأرض وفلان جالس على الحصير الفاضلة عنه وفي
الحقيقة جلوسه على بعضها لا كلها فمن فهمه يقف على المراد في الحديث من
قوله موضع قدم أو أربع أصابع.
(2/389)
في الرسالة والنبوة
عن البراء بن عازب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا براء ما تقول
إذا أويت إلى فراشك"؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم قال: "إذا أويت إلى فراشك
(2/389)
طاهرا فتوسد يمينك وقل: اللهم أسلمت1 وجهي
إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبه إليك لا ملجأ ولا منجأ
منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت"، وقال: "ونبيك الذي
أرسلت" فقلت: كما قال: غير أني قلت: ورسولك الذي أرسلت قال: فطعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بإصبعه في صدري وقال: "ونبيك الذي أرسلت" ففعلته وذلك
لأن الذي قاله رسالة فقط والذي أمره أن يقول: وهو ونبيك الذي أرسلت بجمع
الرسالة والنبوة جميعا فكان أولى مما قاله.
__________
1 سقط من هنا نفسي إليك ووجهت وهي ثابتة في الصحيح- ح.
(2/390)
في مزمار أبي موسى
عن عائشة وأبي هريرة وسلمة بن قيس وابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله
عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى الأشعري فقال: "لقد أوتي هذا مزمارا من
مزامير آل داود"، وفيما روي عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم
وسمع أبا موسى يقرأ القرآن فقال: "لكأن أصوات هذا من أصوات آل داود".
معنى إضافة صوته إلى صوت آل داود هو أن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} الآية
أي: سبحي وقيل ارجعي معه من لا يأب ولما كانت تلك الأشياء مأمورة بالتسبيح
معه كأن كل مسبح معه إلا له لأتباعهم كقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فسماهم آلا له لاتباعهم فرعون بعمله وبكفره
ومنه قيل آل إبراهيم وآل محمد وإذا كان الآل استحقوا لمتابعتهم إياه كان هو
أولى بالاستحقاق فمثله أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود وهي تسبيحهم
الذي كان داود سببه وإن ما أضيف من المزامير إليهم مضافة إليه فكأنه قال
صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتي مزمارا من مزامير داود" والله أعلم.
(2/390)
في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عن أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان من قبلكم من بني
إسرائيل إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان الغد
جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله ذلك منهم
ضرب قلوب بعض على بعض ثم لعنهم على لسان نبينهم داود وعيسى بن مريم صلى
الله عليهما وسلم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن
بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا
أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم".
حكي عن الخيل أنه قال: أطرت الشيء إذا ثنيته وعطفته وأطر كل شيء عطفه
كالمحجن والمنخل والصولجان، وعن الأصمعي أنه قال: يقال: أطرت الشيء وأطرته
إذا أملته إليك ورددته إلى حاجتك فكان ما في هذا الحديث من قوله: "لتأطرنه
على الحق إطرا" أي: تؤدونه إليه تعطفونه إليه وتميلونه إليه حتى يكون فيما
يفعلونه به من ذلك كالمحجن والمنخل والصولجان الذي لا يستطيع أن يخرج مما
عطف عليه وثنى إليه ورد إليه إلى خلاف ذلك أبدا والله نسأله التوفيق.
(2/391)
في مراتب الخلفاء
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرى الليلة رجل
صالح" أن أبا بكر نيط برسول الله ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر فلما
قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح
(2/325)
فهو رسول الله وأما ما ذكر من نوط بعضهم
ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله عز وجل به نبيه- وفيما روى مرفوعا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الرؤيا ويسأل عنها فقال ذات يوم:
"أيكم رأى رؤيا" فقال رجل: أنا يا رسول الله رأيت كأن ميزانا دلي من السماء
فوزنت فيه أنت وأبو بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن فيه أبو بكر وعمر فرجح أبو
بكر بعمر ثم وزن فيه عمر وعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان فاستاء لها
رسول الله فقال: "خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء".
في هذين الحديثين ما يدل على أن الخلافة في الثلاثة وليس فيه ما ينفى عن
غيرهم بل روى مرفوعا الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون الملك منها سنتان لأبي
بكر وعشر سنين لعمر واثنتا عشرة سنة لعثمان وست سنين لعلي رضي الله عنهم
فالحق أن مدة علي داخلة في خلافة النبوة وإنما لم يذكر في الحديثين لأن ما
فيهما كان في أبي بكر وعمر وعثمان خاصة وكل واحد منهم قد خص بفضائل دون
صاحبه وهم بأجمعهم أهل السوابق والفضائل وينتابون في فضائلهم كأنبياء الله
الذين جمعتهم النبوة وبعضهم أفضل من بعض قال الله تعالى: {وَلَقَدْ
فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} .
(2/326)
|