المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب جامع مما يتعلق بالموطأ
في دعائه لأهل مكة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤه لأهل مكة: أن يبارك لهم في صاعهم ومدهم يعني: في المكيل بصاعهم ومدهم مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .

(2/202)


في البيعة والهجرة
عن عقبة الجهني بلغني قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنيمة لي فربضتها ثم أتيته فقلت: جئت أبايعك قال: "بيعة أعرابية تريد أو بيعة هجرة" قال: قلت: بيعة هجرة قال: فبايعته فأقمت فقال صلى الله عليه وسلم يوما: "من كان ههنا من معد فليقم" فقام رجال وقمت معهم فقال لي: "اجلس" مرتين أو ثلاثا فقلت: يا رسول الله ألسنا من معد؟ قال: "لا" قلت: فممن نحن؟ قال: "من قضاعة".
فيه أن البيعة من المهاجر توجب الإقامة عنده صلى الله عليه وسلم ليتصرف فيما يصرفه فيه من أمور الإسلام بخلاف البيعة الإعرابية فإنها لا توجب الإقامة عنده يؤكده حديث مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ناس ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا واشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم ومروهم" وذكر أشياء أحفظها أولا أحفظها "وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" وكان واجبا على المبايعين على الهجرة الإقامة بدار الهجرة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى يصرفهم هو في حياته ثم خلفاؤه بعده فيما يصرفونهم من غزو من بقي على الكفر

(2/202)


ومن حفظ من أسلم وكان رجوعهم إلى دار أعرابيتهم حراما ويكونون مرتدين عن الهجرة إلى الأعرابية ملعونين.
عن ابن مسعود آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده إذا علموا به والواشمه والمستوشمة للحسن والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنه حديث الأعرابي المستقيل بيعته مرارا حتى خرج من غير إذن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة كالكبر تنفي خبثها وينصع طيبها".
ثم أعلم أن خروج من اسلم من دار الهجرة إلى الدار الأعرابية إنما يصير مذموما إذا ارتد ارتدادا يخرج به من الهجرة التي توجب عليه الطاعة إلى الأعرابية التي لا طاعة معها وأسلم لم يكونوا كذلك على ما روي جابر مرفوعا: "إبدوا يا اسلم" فقالوا: يا رسول الله إنا نخاف أن نرتد عن هجرتنا فقال: "ابدوا فأنتم مهاجرون حيث كنتم" وفي رواية: "ابدوا انتسموا الرياح واسكنوا الشعاب" فدل أن التبدي1 المذموم هو التبدي الذي لا يجيب أهله إذا دعوا فأما التبدي الذي هو بخلاف ذلك فهو كالمقام بالحضرة ألا ترى أن الأعراب ذموا في قوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} ومدحوا في قوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فالمذمومون هم الذين يغيبون حتى لا يعلموا الأحكام من الحلال والحرام والمحمودون من كان على خلاف ذلك كالأسلميين.
وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت بقرية تأكل القرى بالهجرة إلى قرية يغلب أهلها القرى لأن الأكل فيه معنى القدرة على الشيء والغلبة عليه كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} ليس بمعنى الأكل بالفم وكذا قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} .
__________
1 هكذا في المشكل 2/301 ووقع في الأصل "الثوى" في المواضع كلها- ح.

(2/203)


فيقيمون الحجة عليكم فيها فينزعونها منكم لأنفسهم وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "تأكل القرى" أي: يغلبونهم على قراهم فيفتحونها وقد كان ذلك منهم عليه حتى أظهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على الدين كله وذلك علم من جليل من أعلام نبوته.

(2/204)


في اليهود والنصارى
عن عمر يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا يبقى بها إلا مسلم".
وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب"، فجزيرة العرب التي لا يترك اليهود والنصارى يقيمون بها إلا مقدار ما يقضون حوائجهم مكة والمدينة والطائف والوبزة1 ووادي القرى على ما قال محمد بن الحسن وقال أبو عبيدة: ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول فأما العرض فما بين يبرين إلى منقطع السماوة وقيل: الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق والعرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام فيرون أن عمر إنما استخار إخراج أهل نجران من اليمن وكانوا نصارى إلى العراق وأهل خيبر إلى الشام لهذا الحديث ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى بني النضير وفي شأنهم نزلت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى أجلاهم إلى قصرهم فغلب على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للصحابة غلمان يقومون عليها وكادوا لا يفرغون للقيام عليها فأعطاهم
__________
1 هكذا في الأصل- ولعله الربذة- ح.

(2/204)


رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان زمان عمر غشوا المسلمين ورموا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يده فقال عمر: من كان له سهم من خيبر فليحضر حتى نقسمها فقال رئيسهم: لا تغير ما قرره الرسول فقال عمر لرئيسهم: أتراه سقط عني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا وقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما" وقسمها عمر بين من كان شهد الحديبية.
وما روي عن ابن عباس أنه قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث فقال: "اخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، الحديث ففيه غلط عن ابن عيينة لأنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أن يكون جعل مكان اليهود والنصارى المشركين إذ لم يكن معه من الفقه ما يميز به بين ذلك1 وما حفظه الجماعة أولى وخالفهم فيه الواحد.
يؤيده ما روي عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلح قبلتان بأرض وليس على مسلم جزية" فذكر القبلة دل على أنه أراد من يدين بدين وهم اليهود والنصارى لأنهم ذوو قبلة لا المشركون ولأنه صلى الله عليه وسلم إنما أوصى بذلك في مرضه الذي مات فيه وقد كان أفنى الله الشرك وأهله قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 2 فكيف يوصى بإخراج المعدومين بل أوصى بإخراج الموجودين وهم اليهود والنصارى.
__________
1 كذا قال وابن عيينة قال الإمام الشافغي ما رأيت أحدا فيه من جزالة العلم ما في ابن عيينة، وابن وهب أحد الأئمة الفقهاء صحب مالكا والليث بن سعد وغيرهما والله المستعان- ح.
2 تأمل- ح.

(2/205)


في القدر والتفاؤل والتطير
سئلت عائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في القدر؟

(2/205)


فقالت: كان يقول: "كل شيء بقدر" وكان يعجبه الفال الحسن.
وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطير يجري بقدر" وكان يعجبه الفال الحسن.
وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة وخيرها الفال" قيل: ما الفال؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"، ففيها أنه لا معنى للطيرة والأشياء كلها تجري بقدرة الله ولا تأثير للكلام المسموع مكروها كان أو محبوبا وإعجابه الفال الحسن من أجل أنه لا طيرة معه وسامعوه يعدونه بشارة من الله تعالى لهم بما يحبون فيحمدون عليه.
عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع يا راشد يا نجيح ومثله ما روي أنه صلى الله عليه وسلم مر بأرض تسمى عزرة فتطير بها.
وعنه صلى الله عليه وسلم لا طيرة والطيرة على من تطير أي عليه إثم تطيره لأنها نوع شرك وما روي مرفوعا من قوله: "أقروا الطير على مكانتها" 1 معناه ما قاله الشافعي أن أحدهم كان إذا غدا من منزله يريد إمرار طير أول طائر يراه فإن سنح عن يساره فاحتال على يمينه قال: هذه طير الأيامن فمضى لحاجته وإن سنح عن يمينه فمر على يساره قال: هذه طير الأشائم فرجع وإذا لم ير طائرا سانحا ورأى طائرا في وكره حركه من وكره فيطيره ليعلم حاله فقال صلى الله عليه وسلم: "أقروا الطير على مكانتها ولا تحركوها" لأنه لا يصنع شيئا إنما يصنع فيما يتوجهون به قضاء الله عز وجل.
وعن جابر أراد صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بعلاء وبركة وأفلح ونحو ذلك وروي: "لئن عشت إلى قابل لأنهى أن يسمى نافعا ويسارا وبركة" فقبض صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه.
وفيه أنه ليس بحرام إذ لو كان حراما لم يؤخر ذلك إلى قابل فالإباحة
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر- وكناتها أو مكناتها- خ.

(2/206)


بالتسمية بها قائمة إذ لم ينه عنها وما روي سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسم غلامك رباحا ولا أفلح ولا بشير أو يسارا" فيه دليل على أنه إنما نهى عن تسمية بها خوف التطير بها كما نهى أن يورد ممرض على مصح فيصيبه ما أصاب الممرض فيقال: أصابه لأنه أورده عليه ثم نهى عن الطيرة بقوله: "لا عدوى ولا طيرة".
وعن ابن مسعود الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهب بالتوكل يؤكد ما قلنا أنه صلى الله عليه وسلم كان له غلاما يسمى رباحا وإن علاء بن الحضرمي كان عاملا على البحرين وبقيا على اسميهما وما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التسمية ببرة وقال: "لا تزكوا أنفسكم الله اعلم بأهل البر منكم" كان قبل النهي عن الطيرة وعاد بذلك الحكم في الأسماء إلى استعمالها كلها ما لم يكن منها نهى متأخر عن الطيرة لأنها إشارات ليبين به ما يشار إليه بها عما سواه من جنسه.

(2/207)


في التشاؤم
روي مرفوعا "الشؤم في المرأة والدار والفرس" وفي رواية "إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة والدار والفرس" الحديث الأول يقتضي تحقق الشؤم في الثلاثة والثاني لا يقتضيه وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إخبارا عن أهل الجاهلية أنهم كانوا يقولونه غير أنها ذكرته عنه صلى الله عليه وسلم في الطيرة لا في الشؤم والمعنى فيهما واحد وكان ما روي عنها في إضافة الكلام إلى الجاهلية أولى لحفظها عنه في ذلك ما قصر غيرها عن حفظه عنه فيه لا سيما وقد روي اليمن في هذه الأشياء روي معاوية بن حكيم عن عمه محمد بن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا شؤم وقد يكون اليمن في المرأة والفرس والدابة" ويجوز أن يكون مكان الدابة الدار والذي ذكرنا عن عائشة في الطيرة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الطيرة في

(2/207)


المرأة والدار والفرس" 1 فغضبت وطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض وقالت والذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ما قالها رسول الله قط إنما قال: "أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك".
__________
1 قيل ذلك لعائشة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- ح.

(2/208)


في الخلق الحسن
عن النواس بن سمعان سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
وعن وابصة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من الإثم والبر إلا سألته عنه فانتهيت إليه فلما قعدت بين يديه فقال: "تسئل أو أخبرك"؟ قلت: لا بل أخبرني قال: "جئت تسأل عن البر والإثم"؟ قلت: نعم يا رسول الله فجعل ينكث بهن في صدري ويقول: "يا وابصة استفت قلبك- قالها ثلاثا البر- ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في نفسك وتردد في الصدر وإن أفتاك أو أفتوك".
الحديثان راجعان إلى معنى واحد لأن النفس إذا اطمأنت كان منها حسن الخلق والإثم ضد ذلك من انتفاء الطمأنينة ومع ذلك يكون سوء الخلق وما يتردد في الصدر مثله ولا يخرجه فتيا الناس عن صاحبه ومثله ما روى الصدق طمأنينة والكذب ريبة والطمانينة معها حسن الخلق والريبة معها سوء الخلق وما يتردد في الصدر ولا تخرجه فتيا الناس.
وعن أسامة بن شريك قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم والأعراب يسألونه ما خير ما أعطى العبد؟ قال: "حسن الخلق".
لا يقال: العبد يعطي الإيمان فكيف يكون حسن الخلق خيرا منه لأن حسن الخلق مشترك بين لين العريكة وبين السجية المحمودة وبين الدين ومنه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قاله مجاهد والفراء وهو المراد في هذا الحديث

(2/208)


تقديره خير ما أعطى العبد هو الدين الحسن ومنه ما روي مرفوعا "اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي ومثله أن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" يعني وإن لم يقم بالليل ولم يصم بالنهار تطوعا ومنه أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق وقوله: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" المراد هنا السجية التي توجد في بعض المؤمنين دون بعض تفضلا منه ورحمة زائدة وقوله إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق يعني إنما بعث صلى الله عليه وسلم ليكمل للناس دينهم وقد وفي بالقصد إذ نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} والإكمال هو الإتمام يعني بعثت لأكمل مصالح الأديان التي قد كان تعبد من تقدم من أنبيائه بما تعبده به منها ثم أكملها بهذه الآية والدين هو الإسلام.
وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولكنه كان يعفو ويغفر هذه أحسن الصفات من الأخلاق التي هي السجية التي يكون عليها من تحمد سجيته وعنها أنها قالت: كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه وهذا أيضا من أحسنها لأنه لا شيء أحسن من آداب القرآن التي دعانا الله إليها وكان صلى الله عله وسلم غير خارج عنها إلى ما سواه في شيء.
وعن سعد بن هشام قلت لعائشة أخبريني عن خلق الرسول؟ فقالت: كان خلقه القرآن أما تقرأ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قلت: فإني أريد أن أتبتل قالت: لا أما تقرأ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وولد له ومعنى خلقه القرآن أنه ممتثل لأوامره منته عن نواهيه وهذا يؤيد ما أولنا عليه قوله: "خير ما أعطي العبد قال خلق حسن".

(2/209)


في الحياء
روي مرفوعا: "الحياء من الإيمان" لما كان الإيمان الذي هو مكتسب يمنع صاحبه عن اقتراف المعاصي قولا وفعلا والحياء وإن كان غريزة في الإنسان يمنع عن مثل ذلك كان عملهما واحدا وكانا كشيء واحد فكان كل واحد من

(2/209)


صاحبه والعرب تقيم الشيء مقام الشيء الذي هو مثله أو شبهه ويعمل عمله فجاز أن يسمى باسمه كما سمي الدعاء صلاة إذ كان مفعولا فيها وعليه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وقوله عليه السلام: "وإن كان صائما فليصل".

(2/210)


في البذاذة
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "البذاذة من الإيمان" يعني التقشف من سيما أهل الإيمان لأن معهم الزهد والتواضع وكان الأنبياء يلبسون الصوف ويركبون الحمير ويحلبون الشاء.
عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدركنا من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"، وأوقفه بعضهم فيه أعلام بأنه من لم يكن من أهل الحياء صنع ما شاء لا أنه أمر بصنع ما شاء كقوله: "من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار"، ليس بأمر بتبوئه مقعده بل على معنى أنه إذا كذب عليه تبوأ مقعده من النار وقد يكون ذلك على الوعيد أو التهديد كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ - وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ} الآية.

(2/210)


في الغضب
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الصرعة فيكم"؟ قلنا: الذي لا يصرعه الرجال قال: "ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"، وروي: ليس الشديد من غلب الناس ولكن الشديد من غلب نفسه فيه أن المستحق لهذا الاسم هو الذي يملك نفسه فيصرعها عما تدعوه إليه من هواها ولا يمنع إطلاقه على الذي يغلب الناس أيضا لكن الذي يغلب نفسه على هواها أحق بأن يسمى بهذا ومثله قول صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان"، قالوا: فما المسكين يا رسول الله قال: "الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه"، ليس بإخراج للسائل عن كونه مسكينا ولكنه ليس في أعلى رتبة المسكنة.

(2/210)


في التجمل
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "البذاذة من الإيمان". وعن أبي رجاء خرج علينا عمران بن حصين عليه مطرف خز لم أره عليه قبل ولا بعد فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه" الحديثان غير مختلفين لأن المراد بالبذاذة هي التي لا تبلغ بصاحبها نهاية البذاذة التي لا يعرف بها ذو النعمة من غيره والمراد بالحديث الذي بعده على النعمة التي ترى على صاحبها ليس مما فيه الخيلاء ولا السرف ولا الذي يذم لألبسه فاللباس المحمود هو البذاذة التي لا بذاذة أقل منها واللباس الذي لا يدخل به صاحبه في أعلى اللباس فيكون فاعل ذلك داخلا في معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} قال الثوري: البس من الثياب ما لا يشهرك عند الفقهاء ولا يزرأك به السفهاء.
وعن الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشب فقال: "هل لك من مال"؟ قلت: نعم قال: "من أي المال"؟ قلت: من كل المال من الإبل والخيل والرقيق والغنم قال: "فإذا أتاك الله عز وجل مالا فلير عليك"، ثم قال: هل ينتج إبل أهلك صحاحا آذانها فتعمد إلى الموسى فتقطع آذانها فتقول: هذه بحر وتشقها أو تشق جلودها فتقول: هذه صريم فتحرمها عليك؟ قال: نعم قال: "فإن ما أتاك الله حل وساعد الله عز وجل أشد من ساعدك وموسى الله أحد من موساك"، فيه أنه كان مشركا ولم يكن أسلم يومئذ وفي قوله: "إذا آتاك الله مالا فلير عليك" مع أنه مشرك ليعلم أولياء الله أن لا مقدار للدنيا عند الله وليعلموا أنها ليست بدار جزاء إذ لو كانت كان المؤمنون بذلك أولى وإنما جزاء الموحدين في الآخرة يؤيده قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية وليكون المخاطب يعلم ما آتاه الله مما قد منع مثله غيره ممن هو على دينه فيكون ذلك سببا للشكر على ذلك بما يحمده منه من دخوله في الدين الذي دعاه إليه ومن تمسكه بما خلقه لأجله

(2/211)


قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فإذا شكر كان حريا أن يزيده الله من تلك النعمة في الدنيا ويدخر له في العقبى وإن لم يفعل ذلك استحق العقوبة العظمى لكفره بالله ولكفران نعمه بخلاف من لم يؤت نعمة في في الدنيا من الكفار فإن عذابه أخف منه.

(2/212)


في لبس الحرير
عن ابن عمر أن عمر قال: يا رسول الله إني مررت بعطارد أو بلبيد وهو يعرض حلة حرير فلو اشتريتها للجمعة وللوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة"، وحج معاوية فدعا نفرا من الأنصار في الكعبة فقال: أنشدكم بالله ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ثياب الحرير قالوا: اللهم نعم قال: وأنا أشهد فيه النهي عن الحرير مطلقا فاحتمل عموم الرجال والنساء وهو مذهب ابن الزبير، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول: "إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها فلا تلبسنها في الدنيا"، ويؤيده القياس على استعمال آنية الذهب والفضة فإن الحرمة تعم الجنسين لأنهما آنية الجنة فكذا الحرير لباس أهل الجنة قال تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ولكن أكثر الآثار يخالف ذلك.
وعن أنس أنه رأى أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم عليها برد حرير سيراء فإن كان في زمانه صلى الله عليه وسلم ففيه ما يعارض ما ذكرنا وإن كان بعده1 كان دليلا على نسخه.
وعن ابن الزبير وهو يخطب أيها الناس: لا تلبسوا نساءكم الحرير قال عليه السلام: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"، وقال ابن الزبير وأنا أقول: من لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة، وفيه نظر لأنه روى عن أبي سعيد
__________
1 هذا عجيب فإن أم كلثوم توفيت في حياة أبيها صلى الله عليه وسلم بلا خلاف- ح.

(2/212)


مرفوعا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولو دخل الجنة يلبسه أهل الجنة ولا يلبسه هو".

(2/213)


في الحلى
عن عائشة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها مسكتين من ذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بأحسن من هذا لو نزعت هذين وجعلت مسكتين من ورق ثم صفرتهما بزعفران كانتا حسنتين".
وعن ربعى عن أخت لحذيفة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ويلكن يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تتحلين به حتى تتحلين الذهب إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا إلا عذبت به يوم القيامة"، أما حديث عائشة فقد جاء عنها ما دل على نسخه لأنها كانت تلبس بنات أخيها الذهب إذ لا يمكن مخالفتها لما سمعت إلا بعد وقوفها على ناسخ، وأما ربعى فلم يسمع من أخت حذيفة وإنما حدث به عن امرأة عنها وهي مجهولة لا يحتج بمثلها.
وقد روي عن ثوبان جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ من ذهب فجعل يضرب يدها فأتت فاطمة فشكت إليها ما صنع بها أبوها قال ثوبان: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وأنا معه وقد أخذت من عنقها سلسلة من ذهب فقالت: هذه أهداها إلي أبو حسن فقال: "يا فاطمة أيسرك أن يقول الناس: فاطمة ابنة محمد وفي يدك سلسلة من نار" فاشترت بها غلاما فأعتقته فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار"، وهذا أحسن ما روي في تحريم الذهب على النساء.
وعن أبي هريرة أتت امرأة فقالت: يا رسول الله طوق من ذهب قال: "طوق من نار" قالت: سوار من ذهب قال: "سوار من نار" قالت: قرطان من ذهب قال: "قرطان من نار" فرمت بسواريها وقالت: إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده قال: "فما يمنع أحداكن أن تصنع قرطين من فضة ثم تصفرهما".

(2/213)


بالزعفران وهذا حديث لا يحتج به لأنه إنما روي عن أبي هريرة أبو زيد وهو مجهول وكذا ما روي عن أسماء بنت يزيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة تحلت قلادة من ذهب جعل في عنقها مثلها من النار يوم القيامة" الحديث لا يحتج به لأنه رواه عنها محمود بن عمرو هو مجهول.
واحتج بعض من جوز التحلي بالذهب للنساء بما روي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا في يمينه وأخذ ذهبا في شماله ثم قال: "هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها"،وهو فاسد الإسناد، وروي بطرق أن الحرير والذهب حرام على ذكور أمته حل لإناثهم، رواه جماعة من الصحابة كزيد بن أرقم وابن العاص وعقبة وأبي موسى، وروي إباحة الحرير للنساء عن علي بن أبي طالب قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة حرير فبعث بها إلي فلبستها فرأيت الكراهية في وجهه فأمرني فأطرتها خمرا بين النساء.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وإلى أسامة بحلة وأعطي عليا حلة فأمره أن يشقها خمرا بين نسائه قال: فراح أسامة بحلته فنظر إليها نظرا عرف أنه كره ما صنع فقال: "أني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك"، وقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت في حلة عطارد ما قلت وتكسوني هذه الحلة؟ قال: "إني لم أكسكها لتلبسها إنما أعطيتكها لتلبسها النساء" فلا يعارض ما تواتر من هذه الآثار بما يخالفه ولم يتواتر.

(2/214)


في الخاتم
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الخاتم إلا لذى سلطان وهذا لأن الخواتم لم تكن مما تستعمله العرب يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر فقيل: أنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم فاتخذ

(2/214)


خاتما من فضة نقشه محمد رسول الله لحاجته إليه وفيه أن من احتاج إلى مكاتبة الناس جاز له ذلك وكذا من احتاج إليه للختم على أمواله إتباعا له صلى الله عليه وسلم يؤكده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلي كفه فاتخذه الناس فرمى به واتخذ خاتما من ورق أو فضة.

(2/215)


في المشي بنعل واحد
روي مرفوعا: النهي عن المشي في النعل الواحد والخف الواحد وذلك لأن من يلبس كذلك يستهزئ به الناس لأنه ليس بمستحسن عندهم فلو لم يرد فيه نهي لوجب أن ينتهي عنه ولا يعارض بما روي عن عائشة ربما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في نعل واحد لأنه من حديث مندل وليس بثبت في الرواية لا سيما وهو إنما رواه عن ليث بن أبي سليم وهو وإن كان من أهل الفضل ليست روايته عند أهل العلم بالأسانيد قوية.

(2/215)


في الدجال
روي أن امرأة يهودية بالمدينة ولدت غلاما ممسوحة عينه طافية ناتئة فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الدجال فوجده تحت قطيفة يهمهم فآذنته أمه فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم جاء فأخرج إليه فخرج من القطيفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لها قاتلها الله لو تركته لبين" ثم قال: "يا ابن صياد ما ترى"؟ قال: أرى حقا وأرى باطلا وأرى عرشا على الماء فقال: "أتشهد أني رسول الله"؟ فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنت بالله ورسله" فلبس عليه ثم خرج وتركه ثم جاء في الثالثة والرابعة ومعه أبو بكر في نفر من المهاجرين والأنصار فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يسمع من كلامه شيئا فسبقته أمه إليه فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لها قاتلها الله لو تركته لبين" فقال: "يا ابن صياد ما ترى"؟ فقال: أرى حقا وباطلا وأرى عرشا

(2/215)


على الماء فقال رسول الله: "آمنت بالله عز وجل ورسله" فلبس عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن صياد أنا قد خبأنا لك خبيئا فما هو"؟ قال: الدخ فقال رسول الله: "أخس أخس" فقال عمر: ائذن لي فأقتله يا رسول الله فقال: "أن يكن هو فلست صاحبه إنما صاحبه عيسى بن مريم وإن لا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد"، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقا أن يكون هو الدجال.
لما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من عينه وسمع من همهمته ما سمع ووقف على ما في الحديث من الشواهد قال فيه ما قال بغير تحقيق منه أنه هو إذ لم يأته وحي ولم يجزم ما يقوله فيه.
وما روي عن جابر أنه حلف بالله أن ابن صياد هو الدجال وما استثنى فقيل له: تحلف ولا تستثنى فقال: سمعت عمر بن الخطاب يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه.
لا دليل فيه إذ كان محتملا أن يكون هو وفيه نظر إذ لا يصح الحلف إلا على ما يستيقنه المرء ولكنه إنما حلف على غالب ظنه لما رأى به من العلامات واستثنى متصلا بها في غالب ظني أو نوى ذلك وإن لم يحرك به لسانه على القول بجواز الإستثناء بالنية وهو من قبيل ما يكون الاستثناء بغير أداته على ما عرف وقيل يجوز الحلف فيما لا يستيقنه الحالف وهو فاسد لا يلتفت إليه يؤيده قول الأنصار في قتيلهم الذي قتل بخيبر كيف نحلف ولم نشهد ولم نحضر فوداه صلى الله عليه وسلم من عنده ولم يقل لهم أن الحلف سائغ لهم وكذا ما روى عن ابن مسعود والله لأن أحلف تسعا أن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس هو وما روي عن أبي ذر لأن أحلف أن ابن صياد هو الدجال عشرا أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أنه ليس به هو على ما بينا في حلف عمر.

(2/216)


ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما حدثه به تميم الداري أن قوما من بني عم له ركبوا سفينة في البحر فانتهت بهم سفينتهم إلى جزيرة لا يعرفونها فخرجوا ينظرون فإذا هم بإنسان لا يدرون ذكر هو أو أنثى من كثرة الشعر فقالوا: من أنت؟ قالت: أنا الجساسة قالوا: فحدثينا قال: أئتوا الدير فإن فيه رجلا بالأشواق إلى أن تحدثوه فدخلوا الدير فإذا هم برجل موثق بالحديد يتأوه شديدا فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: من أهل فلسطين من جزيرة العرب قال: فخرج نبيهم بعد؟ فقالوا: نعم قال: فما صنع؟ قالوا: اتبعه قوم وفارقه قوم فقاتل بمن تبعه من فارقه حتى أعطوه أهل الحجر قال: فما فعلت بحيرة الطبرية؟ قالوا: هي مملوءة تدفق قال: فما فعلت عين الزغر؟ قالوا: تدفق حافتها قال: فما فعل نخل بين عمان وبيسان؟ قالوا: قد أطعم قال: لو أفلت من وثاقي لوطئت البلدان كلها إلا طيبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلى هذا انتهى فرح نبيكم" ثم قال: "هي طيبة هي طيبة المدينة ما فيها طريق ولا موضع عرق ضيق ولا واسع ولا ضعيف إلا عليه ملك شاهر سيفه لو أراد أن يدخله ضرب وجهه بالسيف". وعن محرر بن أبي هريرة عن أبيه أنه حدثه بهذا وزاد فيه ثم قال: نحو الشام ما هو نحو العراق ما هو ثم أهوى بيده نحو المشرق عن زمره قال: فلقيت عبد الرحمن ابن أبي بكر فحدثته يقال: هل زاد فيه شيئا؟ قال: لا قال: صدق أشهد على عائشة أن عائشة حدثتني بهذا غير أنها زادت فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ومكة مثلها".
سرور النبي صلى الله عليه وسلم بما في هذا الحديث دليل على أنه تحقق الأمر عنده بطريقه ولولا ذلك ما قام في المسلمين خطيبا به فرحانا وابن صياد يومئذ بالمدينة وبقاء ابن مسعود وأبي ذر وجابر على ما كانوا عليه يحتمل أنهم لم يعلموا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيما حدثه به تميم الداري ولأجله كان يدفع عن نفسه ابن الصياد أن يكون دجالا.

(2/217)


عن أبي سعيد الخدري قال: لحقني ابن صياد صادرين من مكة فقال: أن الناس يزعمون أني أنا الدجال وهو لا يولد له وقد ولد لي وهو لا يدخل الحرمين وقد دخلتهما والله إني لأعلم مكانه فما ارتبت أنه هو إلا حينئذ.
وعن أبي بكرة قال: أكثر الناس في شأن مسيلمة الكذاب قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا ثم قام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد في شأن هذا الرجل الذي قد أكثرتم في شأنه فإنه كذاب من ثلاثين كذابا يخرجون قبل الدجال وأنه ليس بلد إلا يدخله رعب الدجال إلا المدينة على كل نقب من أنقابها يومئذ ملكان يذبان عنها رعب المسيح".
وعن سمرة يرفعه: "لن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا كذابا كلهم يكذبون على الله ورسوله آخرهم الأعور الدجال ممسوح العين اليمنى كأنها عين ابن أبي تحيا1" يحتمل أن يكون الكذابون في الحديثين صنفا واحدا ويحتمل أن يكونوا غيرهم فيكونون كذابين ليسوا بدجالين قبل أنما سمى الكذاب دجالا لأنه في كذبه معروف كالدجال وفيه نظر لأن الكذابين في المستأنف لا يحصرون بعدد ثلاثين فالحق أنهم دجالون خلاف الدجال الأعور وأنه غير مشتق لأنه لو اشتق من الدجل وهو السرعة في السير كما ذكره بعض لوجب أن يكون كل مسرع في مشيه دجالا فوجب أن يكون من الأسماء التي ليست مشتقة من شيء فكان العدد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم صنفا له وكان يحتمل لما قد ذكرنا احتماله إياه.
وعن حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نار تحرق ونهر بارد فمن أدركه منكم فلا يهلكن ليغمض عينيه وليقع في
__________
1 كان في الأصل عين ابن أبي يحي وهو خطأ وفي المشكل 4/105 عين بن أبي تحيا والمشهور في كتب الحديث عين أبي تحيا ولأبي تحيا ترجمة في الإصابة ذكر فيها هذا الحديث- ح.

(2/218)


التي يراها نارا فإنها ماء بارد".
وعن جنادة بن أبي أمية عن رجل من الصحابة قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنذركم المسيح قالها ثلاثا ألا وأنه لم يكن نبي قبل إلا قد أنذره أمته وخافه عليها إلا فإنه فيكم أيتها الأمة ألا وأنه آدم جعد ممسوح عين اليسار ألا أن معه جنة ونار ألا وأن جنته نار وناره جنة وأن معه جبلا من خبز ونهرا من ماء الا وأنه يمطر ولا ينبت الأرض ألا وأنه يسلط على نفس فيقتلها ثم يحييها ولا يسلط على غيرها ألا وأنه يمكث فيكم أربعين صباحا يبلغ سلطانه كل منهل لا يأتي أربعة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الطور ومسجد الرسول".
وهذا كمثل ما وقع عن سحرة فرعون قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} يؤيده ما روي عن المغيرة قال: ما سأل أحد عن الدجال أكثر مما سألته عنه فقال: ما يصيبك منه أنه لا يضرك قلت أنهم يزعمون أن معه الطعام والماء قال: هو أهون على الله من ذلك.
وعن جابر يخرج الدجال في خفقة من الدين وأدبار من العلم وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامهم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا فيقول للناس: أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد كل ماء ومنهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها ومعه جبال من خبز وخضرة يسيل1 بها في الناس والناس في جهد إلا من أتبعه وله نهران أنا أعلم بهما معه نهر يقول: الجنة ونهر يقول: النار من أدخل الذي يسميه الجنة فهو النار ومن أدخل الذي يسميه النار فهو الجنة وتبعث معه شياطين تكلم الناس ومعه فتنة عظيمة يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس ويقتل نفسا فيحييها فيما يرى الناس فيقول للناس: هل يفعل هذا إلا الرب؟ فيفر المسلمون
__________
1 هكذا ولعله يسير- ح.

(2/219)


إلى جبل الدخان بالشام فيأتيهم يحاصرون فيشتد حصارهم وجهدهم جهدا شديدا ثم ينزل عيسى صلى الله عليه وسلم فينادى من السحر فيقول: يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون: هذا رجل جنى فيطلعون فإذا هم بعيسى ابن مريم فتقام الصلاة فيقال: تقدم يا روح الله فيقول: ليتقدم أمامكم فيصلي بكم فإذا صلى صلاة الصبح خرجوا إليه فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء فيمشي إليه فيقتله ومن كان معه على اليهودية حتى أن الشجرة والحجر تنادي ثم قطع الحديث.
قيل هذا الحديث يحقق كون هذه الأشياء مع الدجال والحديث الأول يدل على خلاف ما ظنه وذلك أن فيه أمر السماء بالمطر وإحياء النفس فيما يراه الناس على جهة السحر وفي هذا الباب آثار اختصرتها كما اختصر هو أيضا كراهة التطويل والله أعلم.

(2/220)


في الفطرة
روي مرفوعا الفطرة قص الإظفار وأخذ الشارب وحلق العانة وروي مرفوعا "الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" وعنه مرفوعا "من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الأباط والاستحداد والانتضاح والختان" وروي "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الأباط وحلق العانة وانتقاص الماء" ونسي العاشرة إلا أن تكون المضمضة ولا تضاد لأنه يجوز أن تكون الفطرة ولا ثلاثا ثم زاد الله تعالى السنتين ثم زاد الأشياء في الحديث الثالث وفي الرابع التي ليست في الحديثين الأولين فجعلها الله عز وجل عبادة له على خلقه في أبدانهم.

(2/220)


في معا الكافر
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معا واحد والكافر

(2/220)


يأكل في سبعة أمعاء" المؤمن يسمى على طعامه فيكون فيه البركة بخلاف الكافر فلا يكون فيه بركة وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف كافر فأمر بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أمر بأخرى إلى سبع شياه ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها فقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يشرب في معا واحد والكافر في سبعة أمعاء" فعلم أنه كان في رجل معين في حال كفره وإسلامه ويكون الحديث خرج مخرج المعرفة لم يتعد من قصد به إليه إلى من سواه ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فقيل: لا يغلب عسر يسرين لأن العسر معرفة فهي لواحد واليسر نكرة فهما غيران وكذا كل ما يجيء مجيء المعرفة إلا أن يكون فيه دلالة على الصد إلى ما هو أكثر كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} فإن المراد به الجنس لا الإنسان الواحد وسمعت من ابن أبي عمران يقول: حمل قوم هذا الحديث على الرغبة في الدنيا كما يقال: فلان يأكل الدنيا أكلا أي يرغب فيها ويحرص عليها فالمؤمن لزهادته يأكل في معا واحد وهو قدر البلغة والكفار يزيد فيها لرغبته قالوا: لأن المؤمن قد يأكل الطعام أكثر من الكافر وهو ظاهر.

(2/221)


في الشرب قائما
روي مرفوعا النهي عن الشرب قائما من رواية الجارود وأنس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهم وما روي أنه كان يشرب قائما من رواية علي وابن عباس وأنس وأم سليم لا يعارض هذا لأنه كان يشرب قائما إلى أن وقف على المعنى الذي يوجب كراهية فنهى عنه وهو ما روى أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الذي يشرب قائما ما في جوفه لاستقاء"، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب فقام فشرب قائما، فالنهي إشفاق منه على أمته ولكن الأشياء على الإباحة حتى يأتي نهي عنها وروي عن أبي هريرة أنه رأى رجلا

(2/221)


يشرب قائما فقال له: قئ قال: لم؟ قال: أتحب أن تشرب معك الهوام؟ قال: لا قال: قد شرب معك شر من الهوام الشيطان.

(2/222)


في الخيل
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها فامسحوا نواصيها وادعوا لها بالبركة وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار"، الأوتار ههنا الذحول أي لا تطلبوا عليها الذحول التي وترتم بها في الجاهلية وعن محمد بن الحسن أوتار القسي كانوا يقلدونها إياها فتختنق بها قال: ومما يصدق ذلك حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع الأوتار من أعناق الخيل وكانوا يفعلونه مخافة العين عليها فأمروا بقطعها لأنها لا ترد من قدر الله شيئا وهذا كالتمائم وقوله: "وقلدوها" دليل على أنه لم يرد بذلك الندب.

(2/222)


في العين
روى مرفوعا: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا" وعن عائشة أنها قالت: كانوا يأمرون العائن أن يتوضأ فيغتسل به المعين والمحفوظ من أهل اللغة عائن ومعيون وروي أن عامر ابن ربيعة رأى سهلا وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا مخبأة فما لبث أن لبط به فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: أدرك سهلا صريعا فقال: "من تتهمون به"؟ قالوا: عامرا قال: "علام يقتل أحدكم أخاه إذا رأى ما يعجبه فيدعو بالبركة" وأمر عامرا أن يتوضأ ويغسل وجهه ويديه وركبتيه وداخلة إزاره أو يصب عليه ويكفأ الإناء من خلفه زاد بعض الرواة فراح سهل مع الناس ليس به بأس وداخلة الأزار التي تحت الإزار مما يلي الجسد.
قال محمد بن مسلم: والغسل الذي أدركنا عليه علماءنا يصفونه أن يؤتى بالرجل الذي يعين صاحبه بالقدح فيه الماء فيمسك له مرفوعا من الأرض فيدخل

(2/222)


الذي يعين صاحبه يده اليمنى في الماء فيصب على وجهه صبة واحدة في القدح ثم يدخل يده اليسرى في الماء فيغسل في القدح ثم يدخل يديه جميعا في الماء فيغسل بيديه صدره صبة واحدة في القدح ثم يدخل يده اليمنى فيمضمض ثم يمجه في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيغرف من الماء فيصبه على كفه اليمنى صبة واحدة في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفق يده اليمنى صبة واحدة في القدح وهو ثان يده إلى عنقه ثم يفعل مثل ذلك في مرفق يده اليسرى ثم يفعل مثل ذلك في ظاهر قدمه اليمنى من عند أصول الأصابع واليسرى كذلك ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ظهر ركبته اليمنى ثم يفعل باليسرى مثل ذلك ثم يغمس داخلة إزاره اليمنى في الماء ثم يقوم الذي في يده القدح بالقدح حتى يصبه على رأس المعيون من ورائه ثم يكفأ القدح على وجه الأرض وراءه.
وروى في الاغتسال غير ما ذكرناه وروي في حديث سهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فضرب صدره وقال: "بسم الله اللهم اذهب حرها وبردها ووصبها قم بإذن الله" فقام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه شيئا يعجبه فليدع بالبركة فإن العين حق".
فيمكن أنه جمع له الدعاء مع الغسل ويحتمل أنه كان ذلك في مرتين وقد يحتمل أنه كان الاغتسال ثم نسخ بغيره.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان وعين الإنس فلما نزلت المعوذتان أخذهما وترك ما سوى ذلك فظاهر الحديث أنه تركه لما أنزلت عليه المعوذتان وعن عائشة قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن استرقي من العين.

(2/223)


في الرقبة
روي مرفوعا عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة هكذا كان إبراهيم يعوذ إبنيه اسماعيل وإسحاق" الهامة بتشديد الميم هوام

(2/223)


الأرض التي تخاف غوائلها.
وعن أبي هريرة جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لدغت البارحة لم أنم حتى أصبحت فقال له: "أما أنك لو قلت: حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك لدغة عقرب حتى تصبح".
وخرج ذلك من طرق بألفاظ متقاربة ومعان متفقة وعن خولة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه"، أي: يبقى محفوظا بها حتى يرتحل، ولا تعارض إذ الحديث الأول في المقيم والثاني في المسافر وشأن المسافر التخفيف عنه.

(2/224)


في سنة الأكل
عن عمر بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "قل بسم الله وكل بيمينك مما يليك"، وعنه صلى الله عليه وسلم: "أن البركة في وسط الصحفة فكلوا من جوانبها"، من رواية ابن عباس.
وعن أنس أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه فقرب إليه خبز من شعير وقديد فيه دباء فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حول القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ ولا تعارض إذ الأول في الأكل مع غيره والثاني يحتمل أن يكون في الأكل وحده ويحتمل أن يكون في اكل كل واحد منهم مما يليه من نواحيها والثالث في الأكل وحده ليس عليه في أكله من حيث شاء من الصحفة إلا من وسطها.
وعن حذيفة قال: أتى بجفنة فكف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نضع أيدينا حتى يضع يده فجاء أعرابي كأنه يطرد حتى أهوى إلى الجفنه يأكل منها فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فأجلسه ثم جاءت جارية فأهوت بيدها فأجلسها ثم قال: "أن الشيطان يستحل طعام القوم إذا لم يذكروا اسم الله عليه وأنه لما رآكم كففتم عنها جاء بالأعرابي ليستحل به ثم

(2/224)


جاء بالجارية ليستحل فوالذي لا إله غيره أن يده مع أيديهما".
استحلال الشيطان إطلاقه لنفسه واستباحته له لأن الحلال هو المطلق ومنه قولهم: استحل فلان دمي واستحل مالي والتسمية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم على الطعام عند تخميره وإيعائه بقوله: "أوكوا قربكم وإذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم واذكروا الله ولو أن تعرضوا عليه بعود"، لأن يحفظ من الشيطان حتى يحاول أكله فيحتاج حينئذ إلى تسمية أخرى ومن نسي التسمية عند أول طعامه فليقل إذا ذكر بسم الله أولا وآخرا فإنه يمنع الشيطان من البقية ويقئ ما أكل منه فلا ينتفع به روي أن رجلا كان يأكل والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر فلم يسم حتى آخر لقمة فقال: بسم الله أو له وآخره فقال صلى الله عليه وسلم: "مازال الشيطان يأكل معك حتى سميت" فما بقي في جوفه شيء إلا قاء.

(2/225)


في الحمى
روى مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء"، المراد ماء زمزم لا غير يؤيده ما روي عن ابن عباس فأبردوها بماء زمزم وما روي أبو ذر مرفوعا قال في ماء زمزم: "أنه طعام طعم وشفاء سقم" ففهم أن المراد بما ذكر ماء زمزم للشفاء الذي فيه.

(2/225)


في الشعر
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره وكان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم فرق صلى الله عليه وسلم رأسه وروى أن شعره صلى الله عليه وسلم كان دون الجمة فوق الوفرة وروى من كان له شعر فليكرمه قيل لأنس: كيف كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان شعرا رجلا ليس بالجعد ولا بالسبط بين إذنه وعاتقه وعنه أن شعره صلى الله عليه وسلم كان يضرب منكبيه وعن البراء كان شعر

(2/225)


رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه.
لا يقال: أمر بإكرام الشعر واتخاذه فكيف تجوز المبالغة في قصه والعدول إلى ضده من احفاء الشعر لأن وائل ابن حجر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل فقال: "ذناب" فظننت أنه يعنيني فذهبت فجززته ثم أتيته صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عنيتك ولكن هذا أحسن"، وما جعله أحسن لا شك أنه صار إليه وترك ما كان عليه من قبل إذ هو أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس.
فإن قيل: كيف يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقة أهل الكتاب وهم المحرفون المبدلون المشترون به ثمنا قليلا وقال صلى الله عليه وسلم: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم وإذا لم يقبل أخبارهم فكذلك أفعالهم"؟ قلنا: الأشياء التي كان يجب موافقتهم فيها هي التي لم يؤمر فيها بشيء مثل سدل شعره وتفريقه وكان واسعا له فعله وتركه فكان يحب موافقة أهل الكتاب لاحتمال أن يكون ذلك مما أمروا به في كتابهم وأما قوله: "لا تصدقوهم" إلى آخره إنما هو في شيء معين وهو إخبارهم بتكلم الجنازة فيحتمل صدقهم وكذبهم فالطريق في مثله عدم التصديق والتكذيب لاحتمال كل منهما.

(2/226)


في تغيير الشيب
عن ابن مسعود عشرة أشياء كان يكرهها النبي صلى الله عليه وسلم منها: تغيير الشيب وروى مرفوعا: "أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" فعقلنا أنه كان الكراهة ابتداء وأحب موافقتهم فيها ثم لما أحدث الله تعالى في شريعته الخضاب خالفهم وأمر به على ما روت عائشة مرفوعا: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود"، وروى أبو ذر أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم، وروي جابر أتى بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كثغامة بياضا فقال

(2/226)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد"، وسأل أنس عن خضابه صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن شاب إلا يسيرا ولكن أبا بكر وعمر بعده كانا يخضبان بالحناء والكتم وعن أبي رمثة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد علاه الشيب وقد غيره بالحناء والمثبت أولى من النافي مع أن في حديث أنس تقليل الشيب لا نفيه وروى: أنه توفي صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم خضب شيبه وأنس لم يقف عليه لما أنه كان يصفره وذلك مما يخفي لا سيما عمن كان في قلبه من الإعظام والإجلال ما لا يتأمله معه فمثله يخفى عليه مثل هذا منه.
وعن أبي عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء والكتم ورأيت عمر لا يغير شيبه بشيء وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شاب شيبة في الإسلام فهي له نور يوم القيامة فلا أحب أن أغير شيبتي"، والحق أن ذلك كان من عمر في البدء ثم وقف على الأمر بالخضاب فخضب وقيل لعبد الله بن عمر: تصبغ بالصفرة فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها، وروي عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران فاستعمل صلى الله عليه وسلم الصفرة وفضلها على غيرها واستحسنها فقد مر رجل عليه صلى الله عليه وسلم وقد خضب بالحناء فقال: "ما أحسن هذا"؟ ثم مر عليه رجل آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: "هذا أحسن من الأول ثم مر آخر قد خضب بالصفرة فقال: هذا أحسن منهما".
والأشياء التي يغيرها الشيب من حمرة وصفرة فقد جاءت الآثار بإباحتها إلا السواد فقد روى ابن عباس مرفوعا يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة فعلم أن الكراهة فيه إنما كان لأنه من أفعال قوم مذمومين لا أنه في نفسه حرام وقد خضب بالسواد

(2/227)


عقبة بن عامر الصحابي ويقول:
نسود أعلاها وتأبى أصولها ... ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
قال الشعبي: دخلت على الحسن بن علي وعليه وجبة خز وهو يحتجم في رمضان وقد اختضب بالسواد فعلم أن الحرام هو التشبه بالمذمومين لا نفس السواد.

(2/228)


في الحب في الله
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أحب الله عز وجل العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء الدنيا أن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض" قال مالك: ولا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك- فيه أن المحبة والبغضة اللتين تقعان في القلوب لا اكتساب لهم فيها ولا اختيار وإنهما تحصلان في القلوب بما لا يستطيعون دفعه عنها كحديث النفس فلا يحمدون ولا يذمون وفي حديث أبي هريرة1 قال له: أين تريد؟ قال: أزور أخالي في هذه القرية قال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا إلا أني أحببته في الله قال: فإني رسول الله إليك إن الله قد أحبك كما أحببته. فهذا قد حمد ولا يكون ذلك إلا باكتسابه إياه فهذان متضادان.
قلت: لا تضاد لأن في الأول أن محبة الله عبده إنما تكون بعد أن كان منه ما أحبه عليه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فإذا أتبعوه صاروا
__________
1 هكذا في الأصل وفي مشكوة المصابيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكا قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله قال: فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه، رواه مسلم.

(2/228)


أولياء فألقى في قلوب عباده محبتهم فيحبونهم باختيارهم فيثيبهم كمثل إلقائه في قلوبهم الإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} الآية وكذلك من أبغضه بترك الأتباع وفعل الابتداع صار عدو الله فيوقع في قلوب من يشاء من عباده بغضه فيبغضونه باكتسابهم فيؤجرون على بغضهم إياه.
وعن أبي إدريس الخولاني دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا والناس معه يصدرون عن رأيه ويستندون إليه فقيل: هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد سبقني بالتهجير فوجدته يصلي فلما قضى صلاته جئته من قبل وجهه فسلمت عليه قلت: والله إني لأحبك لله عز وجل فقال: الله؟ فقلت: والله فأخذ بحقوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في" , وروى أنه قال: جوابه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتحابون يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله" قال: فبينما نحن كذلك إذ مر رجل ممن كان في الحلقة فقمت إليه فقلت: أن هذا حدثني بحديث فهل سمعته منه؟ قال: ما كان يحدثك إلا حقا فأخبرته فقال: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو أفضل منه سمعته يقول يأثر عن الله: "حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في وحقت محبتي للمتزاورين في وحقت محبتي للمتباذلين في" قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت قلت: فمن الفتى؟ قال: معاذ بن جبل.
في قوله: حقت زيادة ليست في قوله: وجبت يقول: فلان عالم فوجب له العلم وقد يكون في العلماء من هو أعلى منه مرتبة فإذا قلت: عالم حقا فقد رفعته إلى أعلى مراتب العلم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران لما سألوه أمينا "لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين" فبعث إليهم أبا عبيدة بن الجراح.
وفيه نظر لأن وجبت وحقت وردتا في صنف واحد وهم المتحابون

(2/229)


فالأظهر أنهما بمعنى واحد كقولهم: وجب حقي عليه وحق حقي عليه وقول عبادة: سمعت ما هو أفضل منه يعني: أفضل من قوله: المتحابون يظلهم الله في ظل عرشه وإن سلمنا أن قوله: حقت ارفع من وجبت فمعناه أن الله كان تفضل على المتحابين فيه بأن أوجب لهم من محبته أو بأن يظلهم في ظل عرشه ثم تفضل عليهم بعد ذلك بأن زادهم في محبته ورفعهم فيها إلى أقصى مراتبها بقوله: حقت.
وروي مرفوعا: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا وتفرقا على ذلك ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
روي في تفسير قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} عن أبي هريرة مرفوعا "أن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها اقرؤوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} " وهذا خلاف الظل في الحديث الأول وقيل ظل ممدود لا تنسخه الشمس يقال عيش ممدود إذا كان لا ينقطع قال الفراء: ظل ممدود لا شمس فيه كمثل ما بين طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس.

(2/230)


في تعبير الرؤيا
روي أبو رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت سقطت ولا تقصها إلا على حبيب أو لبيب أو ذي مودة"، يعني: أن الرؤيا قبل أن تعبر معلقة في الهواء غير ساقطة وغير عاملة شيئا فإذا عبرت عملت حينئذ وكونها على رجل طائر أي: أنها غير مستقرة ومثله قوله: أنا على جناح طائر إذا كان على سفر أي: غير مستقر حتى أخرج إلى سفري فأستقر في مقامي وإنما يكون عملها في الرؤيا إذا كانت العبارة صوابا أو محتملا لوجهين فتكون معلقة قبل التعبير الذي يردها إلى أحدهما فتسقط بذلك وأما التبعير الخطأ فغير عامل يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم

(2/230)


لأبي بكر: "أخطأت بعضا وأصبت بعضا".
عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا: "أنها جزء من سبعين جزءا" وعنه أنه جزء من ستة واربعين جزءا وعن ابن عباس أنها جزء من خمسين جزءا وذلك لا يكون إلا توقيفا لا رأيا أعلم أن الله تعالى جعل الرؤيا جزء من أجزاء النبوة بشارات لأمته كما روى مرفوعا في تفسير قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له وفي الآخرة بالجنة واحتمل أن يكون الله جعلها في البدء جزءا من سبعين فيعطى من يراها وترى له الجزء من النبوة فضلا من الله وعطية ثم زاده بأن أعطاه جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة ولا يجوز أن يجعل القليل ناسخا للكثير لأن الله تعالى لا ينزع من عباده فضلا إلا لحادثة يحدثونها كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} الآية ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ولم يوجد ما يستحقون به حرمان ذلك والرد إلى قليله.
قال الطحاوي: المعني أنها الذين كان يراها ذو النبوة لأن الأجزاء هي النبوة فلم يكن غير الأنبياء مستحقين لحصة من النبوة وهو كلام عربي يعقله المخاطبون به يؤيده أنه خاتم النبيين فاستحال أن يكون قد بقي بعده من النبوة شيء وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنه لم يبق بعدي من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له". فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الباقي بعده من مبشرات النبوة هي الرؤيا التي ذكرها فدل ذلك أن الرؤيا إنما هي من مبشرات البنوة أي: مما يبشره ذو النبوة من أتبعهم على ما هي عليه لا أنها في نفسها نبوة والله أعلم.

(2/231)


في التحاسد
روي عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه نهى عن التحاسد مطلقا بقوله: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا" مع قوله: "لا حسد إلا في

(2/231)


اثنتين رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ورجل آتاه الله ما لا فسلطه على هلكته في الحق"، أعلم أن التحاسد على قسمين مذموم وهو تمنى نقل المحسود عليه عمن آتاه الله إلى حاسده وغير مذموم وهو تمنى إيتاء الله تعالى إياه من فضله مثله من غير نقل منه إليه قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} أي: حتى يؤتيكم مثله فعلى هذا الاستثناء منفصل1 بمعنى لكن.
__________
1 المشهور في اصطلاح النحاة منقطع- ح.

(2/232)


في السلام
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس فإذا قام فليسلم فإن الأولى ليست بأحق من الآخرة"، وروي: "إذا قعد أحدكم فليسلم فإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة، ولا تضاد إذا المراد بقعد أراد القعود وله نظائر جمة ولغة العرب تسعها.
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار فإذا جاء إلى دور الأنصار جاء صبيانهم يدورون حوله فيدعو لهم ويمسح رؤوسهم ويسلم عليهم فأتى إلى باب سعد بن عبادة فسلم عليهم فقال: "السلام عليكم ورحمة الله" فرد سعد فلم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وكان لا يزيد فوق ثلاث تسليمات فإن أذن له وإلا انصرف فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فجاء سعد مبادرا فقال: يا رسول الله ما سلمت تسليمة إلا سمعتها ورددتها ولكن أردت أن تكثر علينا من السلام والرحمة فادخل يا رسول الله فدخل فجلس فقرب إليه سعد طعاما فأصاب منه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أراد أن ينصرف قال: "أكل طعامكم الأبرار وأفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة"، فيه أن لا يزاد التسليم عند وقوفهم على الباب على ثلاث لأن بذلك يحصل العلم بمن في البيت من الرجال فينظره أو النساء فينصرف وهذه سنة قائمة لا ينبغي إهمالها ولا تعديها والله أعلم.

(2/232)


في الاستئذان
عن أبي سعيد الخدري كنا في مجلس عند أبي بن كعب فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا حتى وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فأدخل وإلا فارجع قال: أبي وماذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئته أمس فسلمت عليه ثلاثا وانصرفت فقال: سمعتك ونحن حينئذ على شغل فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فقال: والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأيني بمن يشهد لك على هذا فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا الذي بجنبك قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
فيه أن أبا موسى بدأ بالسلام على عمر قبل الاستئذان وإنما ترك فعله للعلم عندهم بأنها السنة وقد قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} ولكن هذا على التقديم والتأخير مثل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} و {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} فالتقدير حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا والاستئناس هو الاستئذان بلغة اليمن وعن ابن عباس أخطأ الكاتب إنما هي حتى تستأذنوا وتسلموا.
وعن كلدة أنه قال: بعثني صفوان بن أمية عام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس وهو بأعلى الوادي فدخلت ولم استأذن ولم اسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرج وارجع وقل السلام عليكم ادخل". لما كان دخوله بغير سلام ولا استئذان كان مكروها فجلوسه يصير مذموما مكروها فأمر بقطع أسباب المذمة والرجوع ثم السلام

(2/233)


والاستئذان حتى يكون دخوله محمودا فيكون جلوسه محمودا.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: "إذنك على أن ترفع الحجاب وإن تستمع لسوادي حتى أنهاك". فاطلاقه رفع الحجاب ليكون إذنا له يغنيه عن الاستئذان عند الدخول لا ينافي أن يكون قبل ذلك يسلم كما يسلم من يستأذن.
وعنه صلى الله عليه وسلم: رسول الرجل إلى الرجل إذنه وإذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فذلك إذن له وعن أبي هريرة بعثني صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصفة فدعوتهم فجاؤوا فاستأذنوا فأذن لهم لا يعارض ما روينا لأن في الحديث الأول المرسل إليه أي مع الرسول فأغناه سلام الرسول واستئذانه وأهل الصفة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم دون أبي هريرة فلم يكن لهم بد من السلام والاستئذان لأنه قال: فجاؤوا ولم يقل: فجئنا.
عن علقمة أنه كان مع مسروق وابن مسعود بينهما فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا ابن أم عبد فضحك ابن مسعود فقال: مم تضحك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن من أشراط الساعة السلام بالمعرفة وأن يمر الرجل بالمسجد ثم لا يصلي فيه".
وفي رواية: ما بين يدي الساعة تسليم الخاصة، ولا يعارض هذا ما روى في حديث إسلام أبي ذر فانتهيت إليه يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه يعني: أبا بكر فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال: "وعليك ورحمة الله" إذ يحتمل أن يكون أبو ذر مع أبي بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم متشاغل بصلاة أو طواف فلم يحتج إلى السلام على أبي بكر وكانت الحاجة إلى السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصد بسلامه إليه فلم ينكر عليه واختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر بالرد عليه وحده دون غيره من الناس دليل على أن الرد بخلاف السلام لأن السلام على الواحد من الجماعة ظلم لبقيتهم إذ من

(2/234)


حق المسلم على المسلم السلام عليه إذا لقيه والرد من المسلم عليه عن نفسه وحده وعن جماعة هو منهم على اختلاف من أهل العلم في ذلك إنما هو على من سلم عليه عن نفسه وعن جماعة هو منهم فجاز أن يخص به دون من سواه من الناس.
وروي مرفوعا: لا غرار في صلاة ولا تسليم الغرار هو النقصان ففي الصلاة من ركوعها وسجودها وطهورها وفي السلام أن يقول: السلام عليك وفي الرد وعليك ولا يقول: وعليكم وقيل في السلام: القصد إلى الواحد من الجماعة بخلاف الرد على ما روينا آنفا.
وروى أبو هريرة مرفوعا: "من لقي أخاه فليسلم عليه وإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه يسلم عليه".
وهذا أحسن ما يكون من الأدب وأوصل لما يكون بين الناس والصحابة كذلك كانوا يفعلون عن أنس كانت الصحابة يتماشون فإذا لقيتهم شجرة أو أكمه تفرقوا بمينا وشمالا فإذا التقوا من ورائها سلم بعضهم على بعض، عن جابر استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا"؟ فقلت: أنا فقال: "أنا أنا" وكأنه كره ذلك، إنما كرهه لأنه جواب لا يفيده معرفة.

(2/235)


في التشميت
روي مرفوعا: "حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض وإتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس" - يعني: إذا حمد الله وهذا مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يعني: فحنثتم وعن أنس عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر1 فقال: "أن هذا حمد الله وهذا لم يحمد الله".
__________
1 هكذا في الأصل وفي رواية أن الشيخين فقال الرجل يا رسول الله شمتت هذا ولم تشمتني؟ قال: "إن هذا حمدالله". الحديث- ح.

(2/235)


وعن ابن مسعود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا يقول: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين فإذا قال ذلك فليقل من عنده: يرحمكم الله وإذا قال له ذلك فليقل: يغفر الله لي ولكم".
وعن سالم بن عبيد بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقال: السلام عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك وعلى أمك إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين- أو على كل حال- وليردوا عليه يرحمكم الله وليرد عليهم يغفر الله لكم"، وهذا مذهب الكوفيين.
وخالفهم الحجازيون منهم مالك فذهبوا إلى ما روى أبو هريرة إذا عطس أحدكم فليحمد الله وليقل له صاحبه أو أخوه يرحمكم الله وليقل هو يهديكم الله ويصلح بالكم وهذا لا مساغ للاجتهاد فيه غير أن المقصود هو الدعاء للعاطس بالرحمة التي هي فوق الغفران فالرد عليه بالهداية أولى من الرد بالغفران لأن فيها ما ليس في الغفران لا سيما وقد ضم إليها ويصلح بالكم أي شؤونكم لأن الهداية قد تكون الدلالة على الأشياء المحمودة منه اهدنا الصراط المستقيم وقد تكون الثبوت على الأمر المحمود منه والذين اهتدوا زادهم هدى ولأن في الثاني رعاية وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها لا يقال أن الدعاء بالهداية إنما كان لليهود على ما روي أنهم كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله فكان يقول: "يهديكم الله ويصلح بالكم" لأنه لا خلاف فيما يقال للعاطس إنما الخلاف في الرد على المشمت وما روي عن إبراهيم أنه قال للعاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم موقوف عليه لم يتصل به المروي إذ لو اتصل به لما خالفه لما عليه من الدين والعلم ولكنه بشر يذهب عنه ما يذهب عن البشر كما روي عن ابن عباس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقام عن يساره فأقامه عن يمينه وعن الأعمش إذا صلى رجل برجل يقيمه عن يساره فقيل له فقد روى ابن عباس خلافه فقال: ما سمعت بهذا وهو أولى من الذي قلت وهكذا يجب أن يظن فيه وفي أمثاله من أهل العلم والعمل.

(2/236)


في المصور
روي مرفوعا أنه قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي وأمام ضلالة وممثل من الممثلين"، فيه أنه لا مثل لهذه الأصناف في شدة العذاب غير أن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة فهتكه ثم قال: "أن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله"، وهو معارض للأول إلا أن الصحيح فيه رواية من روى فيه: من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله فينتفي التعارض إذ كان المشبه بخلق الله هو المثل بخلق الله أحد الأصناف المذكورة وروى عن عائشة: أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل هجا رجلا فهجا القبيلة بأسرها وهذا معارض للأول أيضا إلا أنه غير صحيح والله أعلم والصحيح رواية من روي عنها: أن أعظم الناس فرية يوم القيامة عند الله الرجل يهجو القبيلة بأسرها أو رجل انتفى من أبيه وفيه نظر لأنه وإن اندفع التعارض بما ذكر فما يصنع بقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وأيضا جعل الأصناف المذكورة متساوين في شدة العذاب لا يصح في الاعتبار لأن من قتل نبيا لا يكون إلا كافرا وكذا من قتله نبي إذ قتله وهو مسلم على حد يجعل القتل كفارة ولا استواء بين عذاب الكافر والمؤمن.
فالصواب أن لا تعارض بين الأحاديث الثلاثة والآية في الحقيقة بل بعضها مخصص للبعض لأن التعارض إنما يكون في النصوص التي لا يمكن الجمع بينها ولو جاءت هذه الأحاديث في نسق واحد لما تناقض الكلام ويكون معنى الحديث الأول: أشد الناس عذابا من الكفار من قتل نبيا أو قتله نبي أو آل فرعون وأشد الناس عذابا من المسلمين إمام ضلالة أو مشبه بخلق الله أو الرجل يهجو الرجل فيهجو القبيلة والأظهر في الأصناف المذكورين من الكفار التساوي في شدة العذاب ويحتمل عدمه إذ ليس في الكلام ما ينفي

(2/237)


ذلك من المسلمين يحتمل التساوي في العذاب وعدم التساوي ألا ترى أنك تقول: أعلم أهل البلدة فلان وفلان وفلان وإن كان بعضهم أعلم من بعض أيضا.

(2/238)


في المسخ
عن ابن مسعود سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ فقال: "إن الله عز وجل لم يهلك قوما أو يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير خلقوا قبل ذلك" لا يقال أن في كتاب الله ما يدفعه وهو قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} بلفظ المعرفة أي: المعهودة منها ولو كانت سواها لقال، فجعل منهم قردة وخنازير، لأنا نقول يحتمل أن كون القردة والخنازير مخلوقة قبل المسخ تتوالد كسائر الحيوان فمسخ الله من عباده قردة وخنازير غير متوالدات وبقيت في الدنيا مدة ثم أفناهم الله تعالى بلا أعقاب فلذلك جاء بلفظ المعرفة ليفهم بذلك أنهم جنس غير الجنس المخلوق قبلها بكونها لا تتوالد ولا تتناسل.
وعن أبي هريرة مرفوعا أن أمة من بني إسرائيل فقدت فلا يدري ما صنعت فأخشى أن تكون الفارة وذلك أنها إذا وجدت ألبان لغنم تشربها وإذا وجدت ألبان الإبل لم تشربها روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى فارة فقال: "حنة" ولا أعلم شيئا حنة إلا من اليهود يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلمه الله ما أعلمه من أنه لا يجعل لمن أهلكه نسلا فذهب بذلك ما كان يخشاه ومن لم يعلم ذلك حدث بما كان علم منه.
وعن عبد الرحمن بن حسنة نزلنا أرضا كثير الضباب فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها وإن القدر ليلغى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا"؟ فقلنا: ضباب أصبناها فقال: "أن أمة بني إسرائيل مسخت دواب الأرض وإني أخشى أن تكون هذه فاكفؤها".
وعن ثابت أصاب الناس ضبابا فاشتووها وأكلوها فأصبت منها ضبا فشويته ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ جريدة فجعل يعد بها

(2/238)


أصابعه ثم قال: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وإني لا أدري لعلها هي" فقلت: إن الناس قد اشتووها وأكلوها فلم يأكل ولم ينه.
خشيته في الضب قبل أن يعلمه الله أن الممسوخ لا نسل له وما روي من إباحة أكل الضب متأخر روي خالد فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" فاجتررته وأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.
وعن يزيد بن الأصم دعتنا الفرس بالمدينة فقرب إلينا طعام فأكلناه ثم قرب إلينا ثلاثة عشر ضبا فمن آكل وتارك فلما أصبحنا أتيت ابن عباس فأخبرته بذلك فقال بعض قال صلى الله عليه وسلم: "لا آكله ولا آمر به ولا أنهي عنه" قال ابن عباس: ما بعث إلا محللا أو محرما قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم فمد يده ليأكل فقالت ميمونة: أنه لحم ضب فكف يده ثم قال: "هذا لحم لم آكله قط" فأكل الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة كانت معهم وقالت ميمونة: لا آكل طعاما لم يأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2/239)


في الحية
كان ابن مسعود يخطب فإذا هو بحية تمشي على الجدار فقطع خطبته وضربها بقبضته1 حتى قتلها ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا قد حل دمه" ومن رواية أبي هريرة: اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يلتمسان البصر2 ويسقطان الحبل فمن وجد ذا الطفيتين والأبتر فلم يقتلهما فليس منا وعنه مرفوعا قال: للحيات ما سالمناهن منذ حاربناهن فمن تركهن خشية منها فليس منا- فيها الأمر بقتل الحيات كلها وترك الرخصة.
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر- بقضيبه يعني عصاه- ح.
2 يلتمسان أي يخطفان ويطمسان- مجمع البحار.

(2/239)


وروى مرفوعا النهي عن قتل ذوات البيوت عن أبي لبابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الحيات التي في البيوت وعن ابن عمر مرفوعا: "اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل.
وكان ابن عمر يقتل كل حية يراها فرآه أبو لبابة وزيد بن الخطاب وهو يطارد حية فقالا: أنه نهى عن قتل عوامر البيوت.
وروي أن أبا لبابة مر بعبد الله بن عمر وهو عند الأطم الذي عند دار عمر بن الخطاب يرصد حية فقال أبو لبابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتل عوامر البيوت فانتهى عبد الله بن عمر بعد ذلك ثم وجد في بيته حية فأمر فطرحت ببطحان قال نافع: فرأيتها بعد ذلك في بيته.
وهذا ليس بنسخ إنما هو تخصيص العموم وبيان المراد به لأن النسخ وإنما يكون فيما يتعارض من القولين ولا يمكن الجمع بينهما وما روي أن بالمدينة جنا قد أسلموا فصاروا أعمارا لبيوتها فنهى عن قتلها لذلك حتى يناشد فإن ظهرت بعد ذلك كانت خارجة عن المعنى الذي من أجله نهى عن قتلها وعادت حلال القتل، وحديث أبي سعيد في الموطأ في شأن الفتى الذي كان حديث عهد بعرس فأتى فوجد امرأته قائمة بين البابين فأهوى إليها بالرمح فقالت: كما أنت لا تجعل أدخل البيت فدخل البيت فإذا حية منطوية على فراشه فوكزها برمحه فأخرجها إلى الدار فوضعها فانتفضت الحية وانتفض الرجل فماتت الحية ومات الرجل فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنه قد نزل حي من الجن مسلمون بالمدينة فإذا رأيتم منها شيئا تتعوذوا بالله منها ثم أن عاد فاقتلوها".
وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون كلها"، يبين أن من الحيات ما هو جان.

(2/240)


السير في السفر
عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخصبت الأرض فانزلوا عن ظهركم فأعطوه حقه من الكلأ وإذا أجدبت الأرض فامضوا عليها بنقيها وعليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل، المشقة على الظهر في الليل دونها في غير الليل فالمعنى القصد إلى السير عليها في الليل يؤيده ما روي وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا السير فإذا أردتم التعريس فنكبوا عن الطريق التعريس إنما يكون بالليل.

(2/241)


في الإكفار
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد وجب الكفر على أحدهما" معنى الكافر هنا: أن الذي هو عليه الكفر فإذا كان الذي هو عليه إيمانا كان جعله كافرا جعل الإيمان كفرا فكان بذلك كافر الآن من كفر بالإيمان فقد كفر بالله عز وجل {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الآية.

(2/241)


في النجوى
عن أبي سعيد الخدري كنا ننتاب النبي صلى الله عليه وسلم تكون له الحاجة أو يرسلنا لبعض الأمر فكثر المحتسبون من أصحاب النوب فخرج علينا رسول الله صلى الله عيه وسلم ونحن نتذاكر الدجال فقال: ما هذا النجوى ألم أنهكم عن النجوى؟ قال: فقلنا: يا رسول الله كنا في ذكر المسيح فرقا منه فقال: "غير ذلك أخوف عليكم شرك خفى أن يعمل الرجل لمكان الرجل"، فيه أن النجوى المنهي عنها هو في الإثم والعدوان ومعصية الرسول لا كل نجوى والمروي عن ابن عمر مرفوعا "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى إثنان دون واحد"، وفي رواية قلت: يا رسول الله فإن كنا أربعة قال: "لا يضر ولا يضير" يحتمل أن يكون النهي فيه لسوء الأدب فإذا كانوا أربعة ارتفعت العلة لقدرة

(2/241)


الباقين على التناجي أيضا وعن ابن مسعود في سبب الكراهة أنه يحزنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ثلاثة في سفر أن يتناجى إثنان دون واحد حتى يختلط بالناس من أجل أنه يحزنه لأنه قد يخاف على نفسه ولا يجد معينا أن احتاج إليه ففيه إجازة ذلك في غير سفر لكن الأحسن فية ترك المناجاة لحسن المعاشرة.

(2/242)


في الكذب
عن أسماء بنت يزيد ترفعه لا يصلح الكذب إلا في إحدى ثلاث إصلاح بين الناس وكذب الرجل لامرأته ليرضيها وكذب في الحرب مداره على رجل مطعون فإن صح فمعناه لا يصلح الكذب الذي هو عند الناس كذب وليس بكذب يعني معاريض الكلام إلا في ثلاث يؤيده حديث أم كلثوم بنت عقبة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا"، ولم يرخص في شيء مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها فنفى صلى الله عليه وسلم الكذب في هذه الثلاثة الأشياء ولم يكن ذلك إلا لأنه لم يأت في ذلك إلا بمعاريض الكلام مما ليس قائله به كاذبا وإن قال الناس فيه: أنه كاذب وهو حديث صحيح لا علة فيه ومن روى أنه صلى الله عيه وسلم رخص في الكذب في ثلاث لا يصح وإن ثبت فهو قول الراوي لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس بالكذب في ثلاث" فيحتمل أن يكون تأويله بظنه حيث عد ما ليس بكذب كذبا فالمباح معاريض القول الذي يقع بالقلب خلاف الحقيقة فيها لا التصريح بالكذب مثل قوله تعالى: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} وهو لم ينس، ومنه "الحرب خدعة" لأنه كلام ظاهره مخيف أهل الحرب وباطنه بخلافه وهذا لأن الله تعالى قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وهم رسول الله ومن تقدمه من الأنبياء

(2/242)


ولم يخص بذلك حالا من حال ولا وقتا من وقت وكذلك {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} على العموم.

(2/243)


في إضاعة المال
روي مرفوعا النهى عن إضاعة المال يعني بالمال الحيوان أن لا يضيع وإن يحسن إليه يؤيده ما روي عن ابن مسعود أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم آت وأنا عنده فقال: يا رسول الله إني مطاع في قومي فبم آمرهم؟ قال: "مرهم بإفشاء السلام وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم" قال: فعم أنهاهم؟ قال: "إنههم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"، يعني بالمال الحيوان وهذا تأويل حسن لأن القيام بهم فيما لا تقوم أنفسهم إلا به من الطعام والشراب والكسوة في بني آدم واجب على مالكيهم يأثمون بتركه وفي وصيته صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت إيمانكم يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه وقيل: النهي عن إضاعة مطلق المال الذي جعله الله قياما للناس في معايشهم يؤكده ما قال عمرو بن العاص في خطبته: يا معشر الناس إياكم وخلال أربع فإنهم يدعون إلى النصب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السعة وإلى المذلة بعد العزة إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال والتضييع للمال والقيل والقال في غير درك ولا نوال وعن قيس قال لبنيه: عليكم بالمال واصطناعه فإنه منبهة للكريم ويتسغنى به عن اللئيم وعن ابن جبير إضاعة المال هو أن يرزقك الله مالا رزقا فتنفقه فيما حرم عليك.

(2/243)


في الاستجابة
روي مرفوعا يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يستجيب لي معنى الاستجابة هو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما على الأرض من رجل مسلم يدعوا لله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل: إذن نكثر يا رسول الله

(2/243)


قال: "الله أكثر"، فبان بأن الاستجابة لمن يدعو بما يجوز له أن يدعو به يعطاها لا محالة مال لم يعجل أما عين ما سأل أو صرف عنه سوء فتكون الاستجابة حاصلة من الله عز وجل وإن لم يعلمها.

(2/244)