الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 2 ص -417-       كتاب اللقطة
قال: "اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها" لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا بل هو الأفضل عند عامة العلماء وهو الواجب إذا خاف الضياع على ما قالوا وإذا كان كذلك لا تكون مضمونة عليه وكذلك إذا تصادقا أنه أخذها للمالك لأن تصادقهما حجة في حقهما فصار كالبينة ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع وإن لم يشهد الشهود عليه وقال الآخذ أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يضمن والقول قوله لأن الظاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ لمالكه وفيه وقع الشك فلا يبرأ وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملا لنفسه ويكفيه في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي واحدة كانت اللقطة أو أكثر لأنه اسم جنس قال "فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا".
قال العبد الضعيف وهذه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقوله أياما معناه على حسب ما يرى وقدره محمد رحمه الله في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لقوله عليه الصلاة والسلام "
من التقط شيئا فليعرفه سنة من غير فصل" وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة وتعلق استحلال الفرج به وليست في معناها في حق تعلق الزكاة فأوجبنا التعريف بالحول احتياطا وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما ففوضنا إلى رأي المبتلى به وقيل الصحيح أن شيئا من هذه المقادير ليس بلازم ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها

 

ج / 2 ص -418-       كالنواة وقشور الرمان يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف ولكنه مبقى على ملك مالكه لأن التمليك من المجهول لا يصح.
قال: "فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها" إيصالا للحق إلى المستحق وهو واجب بقدر الإمكان وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازة التصدق بها وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها.
قال: "فإن جاء صاحبها" يعني بعد ما تصدق بها "فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة" وله ثواها لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه فتيوقف على إجازته والملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل بخلاف بيع الفضولي لثبوته بعد الإجازة فيه "وإن شاء ضمن الملتقط" لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه إلا أنه بإباحة من جهة الشرع وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حالة المخمصة وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه وإن كان قائما أخذه لأنه وجد عين ماله.
قال: "ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير" وقال مالك والشافعي رحمهما الله إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل وعلى هذا الخلاف الفرس لهما أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع وإذا كان معها ما تدفع عن نفسها يقل الضياع ولكنه يتوهم فيقضي بالكراهة والندب إلى الترك ولنا أنها لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة "فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع" لقصور ولايته عن ذمة المالك وإن أنفق بأمره كان ذلك دينا على صاحبها لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرا له وقد يكون النظر في الإنفاق على ما نبين.
"وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه فإن كان للبهيمة منفعة آجرها وأنفق عليها من أجرتها" لأن فيه إبقاء العين على ملكه من غير إلزام الدين عليه وكذلك يفعل بالعبد الآبق "وإن لم تكن لها منفعة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها" إبقاء له معنى عند تعذر إبقائه صورة "وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك وجعل النفقة دينا على مالكها" لأنه نصب ناظرا وفي هذا نظر من الجانبين قالوا إنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لأن دارة النفقة مستأصلة فلا نظر في الإنفاق مدة مديدة.
قال رضي الله عنه: وفي الأصل شرط إقامة البينة وهو الصحيح لأنه يحتمل أن

 

ج / 2 ص -419-       يكون غصبا في يده فلا يأمر فيه بالإنفاف وإنما يأمر به في الوديعة فلا بد من البينة لكشف الحال وليست البينة تقام للقضاء وإن قال لا بينة لي يقول القاضي له أنفق عليه إن كنت صادقا فيما قلت حتى ترجع على المالك إن كان صادقا ولا يرجع إن كان غاصبا وقوله في الكتاب وجعل النفقة دينا على صاحبها إشارة إلى أنه إنما يرجع على المالك بعد ما حضر ولم تبع اللقطة إذا شرط القاضي الرجوع على المالك وهذه رواية وهو الأصح.
قال: "وإذا حضر" يعني "المالك فللملتقط أن يمنعها منه حتى يحضر النفقة" لأنه حي بنفقته فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع وأقرب من ذلك راد الآبق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه في يد الملتقط قبل الحبس ويسقط إذا هلك بعد الحبس لأنه يصير بالحبس شبيه الرهن.
قال: "ولقطة الحل والحرم سواء" وقال الشافعي يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها لقوله عليه الصلاة والسلام في الحرم "
ولا يحل لقطتها إلا لمنشد" ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة" من غير فصل ولأنها لقطة وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه فيملكه كما في سائرها وتأويل ما روي أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف والتخصيص بالحرم لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهرا.
قال: "وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم ندفع إليه حتى يقيم البينة فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك في القضاء" وقال مالك والشافعي يجبر والعلامة مثل أن يسمي وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها لهما أن صاحب اليد ينازعه في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه ولا تشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة وهو البينة اعتبارا بالملك إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة لقوله عليه الصلاة والسلام "
فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه" وهذا للإباحة عملا بالمشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي" الحديث ويأخذ منه كفيلا إذا كان يدفعها إليه استيثاقا وهذا بلا خلاف لأنه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده وإذا صدق قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه وقيل يجبر لأن المالك ههنا غير ظاهر والمودع مالك ظاهر.
"ولا يتصدق باللقطة على غني" لأن المأمور به هو التصدق لقوله عليه الصلاة

 

ج / 2 ص -420-       والسلام: "فإن لم يأت" يعني صاحبها "فليتصدق به" والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة "وإن كان الملتقط غنيا لم يجز له أن ينتفع بها" وقال الشافعي رحمه الله يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي رضي الله عنه "فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها" وكان من المياسير ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما رويناه أو بالإجماع فيبقى ما وراءه على الأصلي والغني محمول على الأخذ لاحتمال افتقاره في مدة التعريف والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها وانتفاع أبي رضي الله عنه كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه "وإن كان الملتقط فقيرا فلا بأس بأن ينتفع بها" لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين ولهذا جاز الدفع إلى فقير غيره "وكذا إذا كان الفقير أباه أو ابنه أو زوجته وإن كان هو غنيا" لما ذكرنا والله أعلم.