الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -308-       كتاب الشفعة
الشفعة: مشتقة من الشفع وهو الضم، سميت بها لما فيها من ضم المشتراة إلى عقار الشفيع.
قال: "الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ثم للخليط في حق المبيع كالشرب والطريق ثم للجار" أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب، أما الثبوت فلقوله عليه الصلاة والسلام:
"الشفعة لشريك لم يقاسم" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "جار الدار أحق بالدار والأرض، ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الجار أحق بسقبه، قيل يا رسول الله ما سقبه؟ قال شفعته" ويروى: "الجار أحق بشفعته". وقال الشافعي لا شفعة بالجوار لقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق فلا شفعة" ولأن حق الشفعة معدول به عن سنن القياس لما فيه من تملك المال على الغير من غير رضاه، وقد ورد الشرع به فيما لم يقسم، وهذا ليس في معناه؛ لأن مؤنة القسمة تلزمه في الأصل دون الفرع، ولنا ما روينا، ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع، وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار، إذ هو مادة المضار على ما عرف، وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى؛ لأن الضرر في حقه بإزعاجه عن خطة آبائه أقوى، وضرر القسمة مشروع لا يصلح علة لتحقيق ضرر غيره.
وأما الترتيب فلقوله عليه الصلاة والسلام:
"الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع" فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار. ولأن الاتصال بالشركة في المبيع أقوى؛ لأنه في كل جزء، وبعده الاتصال في الحقوق؛ لأنه شركة في مرافق الملك، والترجيح يتحقق بقوة السبب، ولأن ضرر القسمة إن لم يصلح علة صلح مرجحا.
قال: "وليس للشريك في الطريق والشرب والجار شفعة مع الخليط في الرقبة" لما ذكرنا أنه مقدم.

 

ج / 4 ص -309-       قال: "فإن سلم فالشفعة للشريك في الطريق، فإن سلم أخذها الجار" لما بينا من الترتيب، والمراد بهذا الجار الملاصق، وهو الذي على ظهر الدار المشفوعة وبابه في سكة أخرى. عن أبي يوسف أن مع وجود الشريك في الرقبة لا شفعة لغيره سلم أو استوفى؛ لأنهم محجوبون به. ووجه الظاهر أن السبب تقرر في حق الكل، إلا أن للشريك حق التقدم، فإذا سلم كان لمن يليه بمنزلة دين الصحة مع دين المرض، والشريك في المبيع قد يكون في بعض منها كما في منزل معين من الدار أو جدار معين منها وهو مقدم على الجار في منزل، وكذا على الجار في بقية الدار في أصح الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن اتصاله أقوى والبقعة واحدة. ثم لا بد أن يكون الطريق أو الشرب خاصا حتى تستحق الشفعة بالشركة فيه فالطريق الخاص أن لا يكون نافذا، والشرب الخاص أن يكون نهرا لا تجري فيه السفن وما تجري فيه فهو عام. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وعن أبي يوسف أن الخاص أن يكون نهرا يسقى منه قراحان أو ثلاثة، وما زاد على ذلك فهو عام، وإن كانت سكة غير نافذة يتشعب منها سكة غير نافذة وهي مستطيلة فبيعت دار في السفلى فلأهلها الشفعة خاصة دون أهل العليا، وإن بيعت للعليا فلأهل السكتين، والمعنى ما ذكرنا في كتاب أدب القاضي. ولو كان نهر صغير يأخذ منه نهر أصغر منه فهو على قياس الطريق فيما بيناه.
قال: "ولا يكون الرجل بالجذوع على الحائط شفيع شركة ولكنه شفيع جوار"؛ لأن العلة هي الشركة في العقار وبوضع الجذوع لا يصير شريكا في الدار إلا أنه جار ملازق. قال: "والشريك في الخشبة تكون على حائط الدار جار" لما بينا.
قال: "وإذا اجتمع الشفعاء فالشفعة بينهم على عدد رءوسهم ولا يعتبر اختلاف الأملاك" وقال الشافعي: هي على مقادير الأنصباء؛ لأن الشفعة من مرافق الملك؛ ألا يرى أنها لتكميل منفعته فأشبه الربح والغلة والولد والثمرة. ولنا أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق؛ ألا يرى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كل الشفعة. وهذا آية كمال السبب وكثرة الاتصال تؤذن بكثرة العلة، والترجيح بقوة الدليل لا بكثرته، ولا قوة هاهنا لظهور الأخرى بمقابلته وتملك ملك غيره لا يجعل ثمرة من ثمرات ملكه، بخلاف الثمرة وأشباهها، ولو أسقط بعضهم حقه فهي للباقين في الكل على عددهم؛ لأن الانتقاص للمزاحمة مع كمال السبب في حق كل واحد منهم وقد

 

ج / 4 ص -310-       انقطعت. ولو كان البعض غيبا يقضي بها بين الحضور على عددهم؛ لأن الغائب لعله لا يطلب، وإن قضى لحاضر بالجميع ثم حضر آخر يقضي له بالنصف، ولو حضر ثالث فبثلث ما في يد كل واحد تحقيقا للتسوية، فلو سلم الحاضر بعدما قضى له بالجميع لا يأخذ القادم إلا النصف؛ لأن قضاء القاضي بالكل للحاضر يقطع حق الغائب عن النصف بخلاف ما قبل القضاء.
قال: "والشفعة تجب بعقد البيع" ومعناه بعده لا أنه هو السبب؛ لأن سببها الاتصال على ما بيناه، والوجه فيه أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع عن ملك الدار، والبيع يعرفها ولهذا يكتفى بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه.
قال: "وتستقر بالإشهاد، ولا بد من طلب المواثبة" لأنه حق ضعيف يبطل بالإعراض، فلا بد من الإشهاد والطلب ليعلم بذلك رغبته فيه دون إعراضه عنه، ولأنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي ولا يمكنه إلا بالإشهاد.
قال: "وتملك بالأخذ إذا سلمها المشتري أو حكم بها الحاكم"؛ لأن الملك للمشتري قد تم فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي أو قضاء القاضي كما في الرجوع والهبة. وتظهر فائدة هذا فيما إذا مات الشفيع بعد الطلبين وباع داره المستحق بها الشفعة أو بيعت دار بجنب الدار المشفوعة قبل حكم الحاكم أو تسليم المخاصم لا تورث عنه في الصورة الأولى وتبطل شفعته في الثانية ولا يستحقها في الثالثة لانعدام الملك له. ثم قوله تجب بعقد البيع بيان أنه لا يجب إلا عند معارضة المال بالمال على ما نبينه إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب طلب الشفعة والخصومة فيها
قال: "وإذا علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة" اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه: طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم، حتى لو بلغ الشفيع البيع ولم يطلب شفعة بطلت الشفعة لما ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة لمن واثبها" ولو أخبر بكتاب والشفعة في أوله أو في وسطه فقرأ الكتاب إلى آخره بطلت شفعته وعلى هذا عامة المشايخ، وهو رواية عن محمد. وعنه أن له مجلس العلم، والروايتان في النوادر. وبالثانية أخذ الكرخي؛ لأنه لما ثبت له خيار التملك لا بد له من زمان التأمل كما في المخيرة، ولو قال بعدما بلغه البيع الحمد لله أو لا حول

 

ج / 4 ص -311-       ولا قوة إلا بالله " أو قال " سبحان الله " لا تبطل شفعته؛ لأن الأول حمد على الخلاص من جواره والثاني تعجب منه لقصد إضراره، والثالث لافتتاح كلامه فلا يدل شيء منه على الإعراض، وكذا إذا قال من ابتاعها وبكم بيعت؛ لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن ويرغب عن مجاورة بعض دون بعض، والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة، والإشهاد فيه ليس بلازم، إنما هو لنفي التجاحد والتقييد بالمجلس إشارة إلى ما اختاره الكرخي. ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة كما لو قال: طلبت الشفعة أو أطلبها أو أنا طالبها؛ لأن الاعتبار للمعنى، وإذا بلغ الشفيع بيع الدار لم يجب عليه الإشهاد حتى يخبره رجلان أو رجل وامرأتان أو واحد عدل عند أبي حنيفة، وقالا: يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صبيا كان أو امرأة إذا كان الخبر حقا. وأصل الاختلاف في عزل الوكيل وقد ذكرناه بدلائله وأخواته فيما تقدم، وهذا بخلاف المخيرة إذا أخبرت عنده؛ لأنه ليس فيه إلزام حكم، وبخلاف ما إذا أخبره المشتري؛ لأنه خصم فيه والعدالة غير معتبرة في الخصوم. والثاني طلب التقرير والإشهاد؛ لأنه محتاج إليه لإثباته عند القاضي على ما ذكرنا، ولا يمكنه الإشهاد ظاهرا على طلب المواثبة؛ لأنه على فور العلم بالشراء فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتقرير وبيانه ما قال في الكتاب "ثم ينهض منه" يعني من المجلس "ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده" معناه لم يسلم إلى المشتري "أو على المبتاع أو عند العقار، فإذا فعل ذلك استقرت شفعته" وهذا لأن كل واحد منهما خصم فيه؛ لأن للأول اليد وللثاني الملك، وكذا يصح الإشهاد عند المبيع؛ لأن الحق متعلق به، فإن سلم البائع المبيع لم يصح الإشهاد عليه لخروجه من أن يكون خصما، إذ لا يد له ولا ملك فصار كالأجنبي.
وصورة هذا الطلب أن يقول: إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك. وعن أبي يوسف أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده؛ لأن المطالبة لا تصح إلا في معلوم. والثالث طلب الخصومة والتملك، وسنذكر كيفيته من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: "ولا تسقط الشفعة بتأخير هذا الطلب عند أبي حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف. وقال محمد: إن تركها شهرا بعد الإشهاد بطلت" وهو قول زفر، معناه: إذا تركها من غير عذر. وعن أبي يوسف أنه إذا ترك المخاصمة في مجلس من مجالس القاضي تبطل شفعته؛ لأنه إذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم فيه اختيارا دل ذلك على إعراضه وتسليمه. وجه قول محمد أنه لو لم يسقط بتأخير الخصومة منه أبدا

 

ج / 4 ص -312-       يتضرر به المشتري؛ لأنه لا يمكنه التصرف حذار نقضه من جهة الشفيع فقدرناه بشهر؛ لأنه آجل وما دونه عاجل على ما مر في الأيمان. ووجه قول أبي حنيفة وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى أن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بإسقاطه وهو التصريح بلسانه كما في سائر الحقوق، وما ذكر من الضرر يشكل بما إذا كان غائبا، ولا فرق في حق المشتري بين الحضر والسفر، ولو علم أنه لم يكن في البلد قاض لا تبطل شفعته بالتأخير بالاتفاق؛ لأنه لا يتمكن من الخصومة إلا عند القاضي فكان عذرا.
قال: "وإذا تقدم الشفيع إلى القاضي فادعى الشراء وطلب الشفعة سأل القاضي المدعى عليه، فإن اعترف بملكه الذي يشفع به وإلا كلفه بإقامة البينة" لأن اليد ظاهر محتمل فلا تكفي لإثبات الاستحقاق.
قال رحمه الله: يسأل القاضي المدعي قبل أن يقبل على المدعى عليه عن موضع الدار وحدودها؛ لأنه ادعى حقا فيها فصار كما إذا ادعى رقبتها، وإذا بين ذلك يسأله عن سبب شفعته لاختلاف أسبابها، فإن قال: أنا شفيعها بدار لي تلاصقها الآن تم دعواه على ما قاله الخصاف. وذكر في الفتاوى تحديد هذه الدار التي يشفع بها أيضا، وقد بيناه في الكتاب الموسوم بالتجنيس والمزيد.
قال: "فإن عجز عن البينة استحلف المشتري بالله ما يعلم أنه مالك للذي ذكره مما يشفع به" معناه بطلب الشفيع؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، ثم هو استحلاف على ما في يده فيحلف على العلم "فإن نكل أو قامت للشفيع بينة ثبت ملكه في الدار التي يشفع بها وثبت الجوار فبعد ذلك سأله القاضي" يعني المدعى عليه "هل ابتاع أم لا، فإن أنكر الابتياع قيل للشفيع أقم البينة"؛ لأن الشفعة لا تجب إلا بعد ثبوت البيع وثبوته بالحجة.
قال: "فإن عجز عنها استحلف المشتري بالله ما ابتاع أو بالله ما استحق عليه في هذه الدار شفعة من الوجه الذي ذكره" فهذا على الحاصل، والأول على السبب وقد استوفينا الكلام فيه في الدعوى، وذكرنا الاختلاف بتوفيق الله، وإنما يحلفه على البتات؛ لأنه استحلاف فعل نفسه وعلى ما في يده أصالة، وفي مثله يحلف على البتات.
قال: "وتجوز المنازعة في الشفعة وإن لم يحضر الشفيع الثمن إلى مجلس القاضي، فإذا قضى القاضي بالشفعة لزمه إحضار الثمن" وهذا ظاهر رواية الأصل. وعن محمد أنه لا يقضي حتى يحضر الشفيع الثمن، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة؛ لأن الشفيع عساه يكون مفلسا فيتوقف القضاء على إحضاره حتى لا يتوي مال المشتري، وجه

 

ج / 4 ص -313-       الظاهر أنه لا ثمن له عليه قبل القضاء ولهذا لا يشترط تسليمه، فكذا لا يشترط إحضاره "وإذا قضى له بالدار فللمشتري أن يحبسه حتى يستوفي الثمن" وينفذ القضاء عند محمد أيضا؛ لأنه فصل مجتهد فيه ووجب عليه الثمن فيحبس فيه، فلو أخر أداء الثمن بعدما قال له ادفع الثمن إليه لا تبطل شفعته؛ لأنها تأكدت بالخصومة عند القاضي.
قال: "وإن أحضر الشفيع البائع، والمبيع في يده فله أن يخاصمه في الشفعة؛ لأن اليد له وهي يد مستحقة" ولا يسمع القاضي البينة حتى يحضر المشتري فيفسخ البيع بمشهد منه ويقضي بالشفعة على البائع ويجعل العهدة عليه؛ لأن الملك للمشتري واليد للبائع، والقاضي يقضي بهما للشفيع فلا بد من حضورهما، بخلاف ما إذا كانت الدار قد قبضت حيث لا يعتبر حضور البائع؛ لأنه صار أجنبيا إذ لا يبقى له يد ولا ملك. وقوله فيفسخ البيع بمشهد منه إشارة إلى علة أخرى وهي أن البيع في حق المشتري إذا كان ينفسخ لا بد من حضوره ليقضي بالفسخ عليه، ثم وجه هذا الفسخ المذكور أن ينفسخ في حق الإضافة لامتناع قبض المشتري بالأخذ بالشفعة وهو يوجب الفسخ، إلا أنه يبقى أصل البيع لتعذر انفساخه؛ لأن الشفعة بناء عليه، ولكنه تتحول الصفقة إليه ويصير كأنه هو المشتري منه فلهذا يرجع بالعهدة على البائع، بخلاف ما إذا قبضه المشتري فأخذه من يده حيث تكون العهدة عليه؛ لأنه ملكه بالقبض. وفي الوجه الأول امتنع قبض المشتري وأنه يوجب الفسخ، وقد طولنا الكلام فيه في كفاية المنتهى بتوفيق الله تعالى.
قال: "ومن اشترى دارا لغيره فهو الخصم للشفيع"؛ لأنه هو العاقد، والأخذ بالشفعة من حقوق العقد فيتوجه عليه.
قال: "إلا أن يسلمها إلى الموكل" لأنه لم يبق له يد ولا ملك فيكون الخصم هو الموكل، وهذا؛ لأن الوكيل كالبائع من الموكل على ما عرف فتسليمه إليه كتسليم البائع إلى المشتري فتصير الخصومة معه، إلا أنه مع ذلك قائم مقام الموكل فيكتفي بحضوره في الخصومة قبل التسليم، وكذا إذا كان البائع وكيل الغائب فللشفيع أن يأخذها منه إذا كانت في يده؛ لأنه عاقد وكذا إذا كان البائع وصيا لميت فيما يجوز بيعه لما ذكرنا.
قال: "وإذا قضى القاضي للشفيع بالدار ولم يكن رآها فله خيار الرؤية، وإن وجد بها عيبا فله أن يردها وإن كان المشتري شرط البراءة منه" لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء؛ ألا يرى أنه مبادلة المال بالمال فيثبت فيه الخياران كما في الشراء، ولا يسقط بشرط البراءة من المشتري ولا برؤيته؛ لأنه ليس بنائب عنه فلا يملك إسقاطه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 4 ص -314-       فصل: في الاختلاف
قال: "وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري"؛ لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عليه عند نقد الأقل وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه، ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع إن كان يدعي عليه استحقاق الدار فالمشتري لا يدعي عليه شيئا لتخيره بين الترك والأخذ ولا نص هاهنا، فلا يتحالفان.
قال: "ولو أقاما البينة فالبينة للشفيع عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: البينة بينة المشتري؛ لأنها أكثر إثباتا" فصار كبينة البائع والوكيل والمشتري من العدو. ولهما أنه لا تنافي بينهما فيجعل كأن الموجود بيعان، وللشفيع أن يأخذ بأيهما شاء وهذا بخلاف البائع مع المشتري؛ لأنه لا يتوالى بينهما عقدان إلا بانفساخ الأول وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع وهو التخريج لبينة الوكيل؛ لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه، كيف وأنها ممنوعة على ما روي عن محمد رحمه الله.
وأما المشتري من العدو فقلنا ذكر في السير الكبير أن البينة بينة المالك القديم. فلنا أن نمنع وبعد التسليم نقول: لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول، أما هاهنا فبخلافه، ولأن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة والبينات للإلزام.
قال: "وإذا ادعى المشتري ثمنا وادعى البائع أقل منه ولم يقبض الثمن أخذها الشفيع بما قاله البائع وكان ذلك حطا عن المشتري"؛ وهذا لأن الأمر إن كان على ما قال البائع فقد وجبت الشفعة به، وإن كان على ما قال المشتري فقد حط البائع بعض الثمن، وهذا الحط يظهر في حق الشفيع على ما نبين إن شاء الله تعالى، ولأن التملك على البائع بإيجابه فكان القول قوله في مقدار الثمن ما بقيت مطالبته فيأخذ الشفيع بقوله.
قال: "ولو ادعى البائع الأكثر يتحالفان ويترادان، وأيهما نكل ظهر أن الثمن ما يقوله الآخر فيأخذها الشفيع بذلك، وإن حلفا يفسخ القاضي البيع على ما عرف ويأخذها الشفيع بقول البائع"؛ لأن فسخ البيع لا يوجب بطلان حق الشفيع.
قال: "وإن كان قبض الثمن أخذ بما قال المشتري إن شاء ولم يلتفت إلى قول البائع"؛ لأنه لما استوفى الثمن انتهى حكم العقد، وخرج هو من البين وصار هو كالأجنبي وبقي الاختلاف بين المشتري والشفيع، وقد بيناه. ولو كان نقد الثمن غير ظاهر فقال البائع بعت الدار بألف وقبضت الثمن يأخذها الشفيع بألف؛ لأنه لما بدأ بالإقرار بالبيع تعلقت الشفعة به، فبقوله بعد ذلك قبضت الثمن يريد إسقاط حق الشفيع فيرد عليه. ولو قال قبضت الثمن

 

ج / 4 ص -315-       وهو ألف لم يلتفت إلى قوله؛ لأن بالأول وهو الإقرار بقبض الثمن خرج من البين وسقط اعتبار قوله في مقدار الثمن.

فصل: فيما يؤخذ به المشفوع
قال: "وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن يسقط ذلك عن الشفيع، وإن حط جميع الثمن لم يسقط عن الشفيع" لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد فيظهر في حق الشفيع؛ لأن الثمن ما بقي، وكذا إذا حط بعدما أخذها الشفيع بالثمن يحط عن الشفيع حتى يرجع عليه بذلك القدر، بخلاف حط الكل؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد بحال وقد بيناه في البيوع. "وإن زاد المشتري للبائع لم تلزم الزيادة في حق الشفيع"؛ لأن في اعتبار الزيادة ضررا بالشفيع لاستحقاقه الأخذ بما دونها. بخلاف الحط؛ لأن فيه منفعة له، ونظير الزيادة إذا جدد العقد بأكثر من الثمن الأول لم يلزم الشفيع حتى كان له أن يأخذها بالثمن الأول لما بينا كذا هذا.
قال: "ومن اشترى دارا بعرض أخذها الشفيع بقيمته"؛ لأنه من ذوات القيم "وإن اشتراها بمكيل أو موزون أخذها بمثله"؛ لأنهما من ذوات الأمثال. وهذا لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما تملكه فيراعى بالقدر الممكن كما في الإتلاف والعددي المتقارب من ذوات الأمثال.
"وإن باع عقارا بعقار أخذ الشفيع كل واحد منهما بقيمة الآخر"؛ لأنه بدله وهو ذوات القيم فيأخذه بقيمته.
قال: "وإذا باع بثمن مؤجل فللشفيع الخيار، إن شاء أخذها بثمن حال، وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل ثم يأخذها، وليس له أن يأخذها في الحال بثمن مؤجل" وقال زفر: له ذلك، وهو قول الشافعي في القديم؛ لأن كونه مؤجلا وصف في الثمن كالزيافة والأخذ بالشفعة به فيأخذ بأصله ووصفه كما في الزيوف. ولنا أن الأجل إنما يثبت بالشرط، ولا شرط فيما بين الشفيع والبائع أو المبتاع، وليس الرضا به في حق المشتري رضا به في حق الشفيع لتفاوت الناس في الملاءة، وليس الأجل وصف الثمن؛ لأنه حق المشتري؛ ولو كان وصفا له لتبعه فيكون حقا للبائع كالثمن وصار كما إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه غيره لا يثبت الأجل إلا بالذكر كذا هذا، ثم إن أخذها بثمن حال من البائع سقط الثمن عن المشتري لما بينا من قبل، وإن أخذها من المشتري رجع البائع على المشتري بثمن مؤجل كما كان؛ لأن الشرط الذي جرى بينهما لم يبطل بأخذ الشفيع فبقي موجبه فصار كما إذا باعه بثمن حال وقد اشتراه مؤجلا، وإن اختار الانتظار له ذلك؛ لأن له أن لا يلتزم زيادة الضرر من

 

ج / 4 ص -316-       حيث النقدية. وقوله في الكتاب وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل مراده الصبر عن الأخذ، أما الطلب عليه في الحال حتى لو سكت عنه بطلت شفعته عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لقول أبي يوسف الآخر؛ لأن حق الشفعة إنما يثبت بالبيع، والأخذ يتراخى عن الطلب، وهو متمكن من الأخذ في الحال بأن يؤدي الثمن حالا فيشترط الطلب عند العلم بالبيع.
قال: "وإن اشترى ذمي بخمر أو خنزير دارا وشفيعها ذمي أخذها بمثل الخمر وقيمة الخنزير" لأن هذا البيع مقضي بالصحة فيما بينهم، وحق الشفعة يعم المسلم والذمي، والخمر لهم كالخل لنا والخنزير كالشاة، فيأخذ في الأول بالمثل والثاني بالقيمة.
قال: "وإن كان شفيعها مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير" أما الخنزير فظاهر، وكذا الخمر لامتناع التسلم والتسليم في حق المسلم فالتحق بغير المثلي، وإن كان شفيعها مسلما وذميا أخذ المسلم نصفها بنصف قيمة الخمر والذمي نصفها بنصف مثل الخمر اعتبارا للبعض بالكل، فلو أسلم الذمي أخذها بنصف قيمة الخمر لعجزه عن تمليك الخمر وبالإسلام يتأكد حقه لا أن يبطل، فصار كما إذا اشتراها بكر من رطب فحضر الشفيع بعد انقطاعه يأخذ بقيمة الرطب كذا هذا.

فصل: قال: "وإذا بنى المشتري فيها أو غرس ثم قضي للشفيع بالشفعة فهو بالخيار، إن شاء أخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس، وإن شاء كلف المشتري قلعه"
وعن أبي يوسف أنه لا يكلف القلع ويخير بين أن يأخذ بالثمن وقيمة البناء والغرس وبين أن يترك، وبه قال الشافعي، إلا أن عنده له أن يقلع ويعطي قيمة البناء لأبي يوسف أنه محق في البناء لأنه بناه على أن الدار ملكه، والتكليف بالقلع من أحكام العدوان وصار كالموهوب له والمشتري شراء فاسدا، وكما إذا زرع المشتري فإنه لا يكلف القلع، وهذا لأن في إيجاب الأخذ بالقيمة دفع أعلى الضررين بتحمل الأدنى فيصار إليه.
ووجه ظاهر الرواية أنه بنى في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير تسليط من جهة من له الحق فينقض كالراهن إذا بنى في المرهون، وهذا لأن حقه أقوى من حق المشتري لأنه يتقدم عليه وهذا ينقض بيعه وهبته وغيره من تصرفاته، بخلاف الهبة والشراء الفاسد عند أبي حنيفة، لأنه حصل بتسليط من جهة من له الحق، ولأن حق الاسترداد فيهما ضعيف ولهذا لا يبقى بعد البناء، وهذا الحق يبقى فلا معنى لإيجاب القيمة كما في

 

ج / 4 ص -317-       الاستحقاق، والزرع يقلع قياسا. وإنما لا يقلع استحسانا لأن له نهاية معلومة ويبقى بالأجر وليس فيه كثير ضرر، وإن أخذ بالقيمة يعتبر قيمته مقلوعا كما بيناه في الغصب.
"ولو أخذها الشفيع فبنى فيها أو غرس ثم استحقت رجع بالثمن" لأنه تبين أنه أخذه بغير حق ولا يرجع بقيمة البناء والغرس، لا على البائع إن أخذها منه، ولا على المشتري إن أخذها منه وعن أبي يوسف أنه يرجع لأنه متملك عليه فنزلا منزلة البائع والمشتري، والفرق على ما هو المشهور أن المشتري مغرور من جهة البائع ومسلط عليه من جهته، ولا غرور ولا تسليط في حق الشفيع من المشتري لأنه مجبور عليه.
قال: "وإذا انهدمت الدار أو احترق بناؤها أو جف شجر البستان بغير فعل أحد فالشفيع بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن" لأن البناء والغرس تابع حتى دخلا في البيع من غير ذكر فلا يقابلهما شيء من الثمن ما لم يصر مقصودا ولهذا جاز بيعها مرابحة بكل الثمن في هذه الصورة، بخلاف ما إذا غرق نصف الأرض حيث يأخذ الباقي بحصته لأن الفائت بعض الأصل قال: "وإن شاء ترك" لأن له أن يمتنع عن تملك الدار بماله.
قال: "وإن نقض المشتري البناء قيل للشفيع إن شئت فخذ العرصة بحصتها، وإن شئت فدع" لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابله شيء من الثمن، بخلاف الأول لأن الهلاك بآفة سماوية "وليس للشفيع أن يأخذ النقض" لأنه صار مفصولا فلم يبق تبعا.
قال: "ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها" ومعناه إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر، وهذا الذي ذكره استحسان وفي القياس لا يأخذه لأنه ليس بتبع؛ ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار. وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار، وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع.
قال: "وكذلك إن ابتاعها وليس في النخيل ثمر فأثمر في يد المشتري" يعني يأخذه الشفيع لأنه مبيع تبعا لأن البيع سرى إليه على ما عرف في ولد المبيع.
قال: "فإن جده المشتري ثم جاء الشفيع لا يأخذ الثمر في الفصلين جميعا" لأنه لم يبق تبعا للعقار وقت الأخذ حيث صار مفصولا عنه فلا يأخذه.
قال في الكتاب "وإن جده المشتري سقط عن الشفيع حصته" قال رضي الله عنه "وهذا جواب الفصل الأول" لأنه دخل في البيع مقصودا فيقابله شيء من الثمن "أما في الفصل الثاني يأخذ ما سوى الثمر بجميع الثمن" لأن الثمر لم يكن موجودا عند العقد فلا يكون

 

ج / 4 ص -318-       مبيعا إلا تبعا فلا يقابله شيء من الثمن والله أعلم

باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب
قال: "الشفعة واجبة في العقار وإن كان مما لا يقسم" وقال الشافعي: لا شفعة فيما لا يقسم، لأن الشفعة إنما وجبت دفعا لمؤنة القسمة، وهذا لا يتحقق فيما لا يقسم ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"الشفعة في كل شيء عقار أو ربع" إلى غير ذلك من العمومات، ولأن الشفعة سببها الاتصال في الملك والحكمة دفع ضرر سوء الجوار على ما مر، وأنه ينتظم القسمين ما يقسم وما لا يقسم وهو الحمام والرحى والبئر والطريق.
قال: "ولا شفعة في العروض والسفن" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا شفعة إلا في ربع أو حائط" وهو حجة على مالك في إيجابها في السفن، ولأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام، والملك في المنقول لا يدوم حسب دوامه في العقار فلا يلحق به وفي بعض نسخ المختصر ولا شفعة في البناء والنخل إذا بيعت دون العرصة وهو صحيح مذكور في الأصل، لأنه لا قرار له فكان نقليا، وهذا بخلاف العلو حيث يستحق بالشفعة ويستحق به الشفعة في السفل إذا لم يكن طريق العلو فيه، لأنه بما له من حق القرار التحق بالعقار.
قال: "والمسلم والذمي في الشفعة سواء" للعمومات ولأنهما يستويان في السبب والحكمة فيستويان في الاستحقاق، ولهذا يستوي فيه الذكر والأنثى والصغير والكبير والباغي والعادل والحر والعبد إذا كان مأذونا أو مكاتبا.
قال: "وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة" لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة أو قيمة على ما مر.
قال: "ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا" لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا، وهذه الأعواض ليست بأموال، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع وعند الشافعي تجب فيها الشفعة لأن هذه الأعواض متقومة عنده فأمكن الأخذ بقيمتها إن تعذر بمثلها كما في البيع بالعرض، بخلاف الهبة لأنه لا عوض فيها رأسا وقوله يتأتى فيما إذا جعل شقصا من دار مهرا أو ما يضاهيه لأنه لا شفعة عنده إلا فيه ونحن نقول: إن تقوم منافع البضع في النكاح وغيرها بعقد الإجارة ضروري فلا يظهر في حق الشفعة، وكذا الدم والعتق غير متقوم لأن القيمة ما يقوم مقام

 

ج / 4 ص -319-       غيره في المعنى الخاص المطلوب ولا يتحقق فيهما، وعلى هذا إذا تزوجها بغير مهر ثم فرض لها الدار مهرا لأنه بمنزلة المفروض في العقد في كونه مقابلا بالبضع، بخلاف ما إذا باعها بمهر المثل أو بالمسمى لأنه مبادلة مال بمال، ولو تزوجها على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في جميع الدار عند أبي حنيفة وقالا: تجب في حصة الألف لأنه مبادلة مالية في حقه. وهو يقول معنى البيع فيه تابع ولهذا ينعقد بلفظ النكاح ولا يفسد بشرط النكاح فيه، ولا شفعة في الأصل فكذا في التبع، ولأن الشفعة شرعت في المبادلة المالية المقصودة حتى أن المضارب إذا باع دارا وفيها ربح لا يستحق رب المال الشفعة في حصة الربح لكونه تابعا فيه.
قال: "أو يصالح عليها بإنكار، فإن صالح عليها بإقرار وجبت الشفعة" قال رضي الله عنه: هكذا ذكر في أكثر نسخ المختصر، والصحيح أو يصالح عنها بإنكار مكان قوله أو يصالح عليها، لأنه إذا صالح عنها بإنكار بقي الدار في يده فهو يزعم أنها لم تزل عن ملكه، وكذا إذا صالح عنها بسكوت لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه، كما إذا أنكر صريحا، بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار لأنه معترف بالملك للمدعي، وإنما استفاده بالصلح فكان مبادلة مالية. أما إذا صالح عليها بإقرار أو سكوت أو إنكار وجبت الشفعة في جميع ذلك لأنه أخذها عوضا عن حقه في زعمه إذا لم يكن من جنسه فيعامل بزعمه.
قال: "ولا شفعة في هبة لما ذكرنا، إلا أن تكون بعوض مشروط" لأنه بيع انتهاء، ولا بد من القبض وأن لا يكون الموهوب ولا عوضه شائعا لأنه هبة ابتداء وقد قررناه في كتاب الهبة، بخلاف ما إذا لم يكن العوض مشروطا في العقد لأن كل واحد منهما هبة مطلقة، إلا أنه أثيب منها فامتنع الرجوع.
قال: "ومن باع بشرط الخيار فلا شفعة للشفيع" لأنه يمنع زوال الملك عن البائع "فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة" لأنه زال المانع عن الزوال ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عند ذلك.
قال: "وإن اشترى بشرط الخيار وجب الشفعة" لأنه لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق، والشفعة تبتنى عليه على ما مر، وإذا أخذها في الثلث وجب البيع لعجز المشتري عن الرد، ولا خيار للشفيع لأنه يثبت بالشرط، وهو للمشتري دون الشفيع، وإن بيعت دار إلى جنبها والخيار لأحدهما فله الأخذ بالشفعة أما للبائع فظاهر لبقاء ملكه في التي يشفع بها

 

ج / 4 ص -320-       وكذا إذا كان للمشتري وفيه إشكال أوضحناه في البيوع فلا نعيده، وإذا أخذها كان إجازة منه للبيع، بخلاف ما إذا اشتراها ولم يرها حيث لا يبطل خياره بأخذ ما بيع بجنبها بالشفعة، لأن خيار الرؤية لا يبطل بصريح الإبطال فكيف بدلالته، ثم إذا حضر شفيع الدار الأولى له أن يأخذها دون الثانية لانعدام ملكه في الأولى حين بيعت الثانية.
قال: "ومن ابتاع دارا شراء فاسدا فلا شفعة فيها" أما قبل القبض فلعدم زوال ملك البائع، وبعد القبض لاحتمال الفسخ، وحق الفسخ ثابت بالشرع لدفع الفساد، وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد فلا يجوز، بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري في البيع الصحيح لأنه صار أخص به تصرفا وفي البيع الفاسد ممنوع عنه.
قال: "فإن سقط حق الفسخ وجبت الشفعة لزوال المانع، وإن بيعت دار بجنبها وهي في يد البائع بعد فله الشفعة لبقاء ملكه، وإن سلمها إلى المشتري فهو شفيعها لأن الملك له" ثم إن سلم البائع قبل الحكم بالشفعة له بطلت شفعته كما إذا باع، بخلاف ما إذا سلم بعده لأن بقاء ملكه في الدار التي يشفع بها بعد الحكم بالشفعة ليس بشرط فبقيت المأخوذة بالشفعة على ملكه، وإن استردها البائع من المشتري قبل الحكم بالشفعة له بطلت لانقطاع ملكه عن التي يشفع بها قبل الحكم بالشفعة، وإن استردها بعد الحكم بقيت الثانية على ملكه لما بينا.
قال: "وإذا اقتسم الشركاء العقار فلا شفعة لجارهم بالقسمة" لأن القسمة فيها معنى الإفراز ولهذا يجري فيها الجبر؛ والشفعة ما شرعت إلا في المبادلة المطلقة.
قال: "وإذا اشترى دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم ردها المشتري بخيار رؤية أو شرط أو بعيب بقضاء قاض فلا شفعة للشفيع" لأنه فسخ من كل وجه فعاد إلى قديم ملكه والشفعة في إنشاء العقد، ولا فرق في هذا بين القبض وعدمه.
قال: "وإن ردها بعيب بغير قضاء أو تقايلا البيع فللشفيع الشفعة" لأنه فسخ في حقهما لولايتهما على أنفسهما وقد قصدا الفسخ وهو بيع جديد في حق ثالث لوجود حد البيع وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي والشفيع ثالث، ومراده الرد بالعيب بعد القبض لأن قبله فسخ من الأصل وإن كان بغير قضاء على ما عرف؛ وفي الجامع الصغير: ولا شفعة في قسمة ولا خيار رؤية، وهو بكسر الراء، ومعناه: لا شفعة بسبب الرد بخيار الرؤية لما بيناه، ولا تصح الرواية بالفتح عطفا على الشفعة لأن الرواية محفوظة في كتاب القسمة أنه يثبت في القسمة خيار الرؤية وخيار الشرط لأنهما يثبتان لخلل في الرضا فيما يتعلق لزومه

 

ج / 4 ص -321-       بالرضا، وهذا المعنى موجود في القسمة، والله سبحانه أعلم.

باب ما يبطل به الشفعة
قال: "وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته" لإعراضه عن الطلب وهذا لأن الإعراض إنما يتحقق حالة الاختيار وهي عند القدرة.
قال: "وكذلك إن أشهد في المجلس ولم يشهد على أحد المتبايعين ولا عند العقار" وقد أوضحناه فيما تقدم.
قال: "وإن صالح من شفعته على عوض بطلت شفعته ورد العوض" لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل، بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه، ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى فيبطل الشرط ويصح الإسقاط وكذا لو باع شفعته بمال لما بينا، بخلاف القصاص لأنه حق متقرر، وبخلاف الطلاق والعتاق لأنه اعتياض عن ملك في المحل ونظيره إذا قال للمخيرة اختاريني بألف أو قال العنين لامرأته اختاري ترك الفسخ بألف فاختارت سقط الخيار ولا يثبت العوض، والكفالة بالنفس في هذا بمنزلة الشفعة في رواية، وفي أخرى: لا تبطل الكفالة ولا يجب المال وقيل هذه رواية في الشفعة، وقيل هي في الكفالة خاصة وقد عرف في موضعه قال: "وإذا مات الشفيع بطلت شفعته" وقال الشافعي: تورث عنه.
قال رضي الله عنه: معناه إذا مات بعد البيع قبل القضاء بالشفعة، أما إذا مات بعد قضاء القاضي قبل نقد الثمن وقبضه فالبيع لازم لورثته، وهذا نظير الاختلاف في خيار الشرط وقد مر في البيوع، ولأنه بالموت يزول ملكه عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع وقيامه وقت البيع وبقاؤه للشفيع إلى وقت القضاء شرطا فلا يستوجب الشفعة بدونه "وإن مات المشتري لم تبطل" لأن المستحق باق ولم يتغير سبب حقه، ولا يباع في دين المشتري ووصيته، ولو باعه القاضي أو الوصي أو أوصى المشتري فيها بوصية فللشفيع أن يبطله ويأخذ الدار لتقدم حقه ولهذا ينقض تصرفه في حياته.
قال: "وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته" لزوال سبب الاستحقاق قبل التملك وهو الاتصال بملكه ولهذا يزول به وإن لم يعلم بشراء المشفوعة كما إذا سلم صريحا أو إبراء عن الدين وهو لا يعلم به، وهذا بخلاف ما إذا باع الشفيع داره بشرط الخيار له لأنه يمنع الزوال فبقي الاتصال.
قال: "ووكيل البائع إذا باع وهو الشفيع فلا شفعة له، ووكيل المشتري إذا ابتاع فله

 

ج / 4 ص -322-       الشفعة" والأصل أن من باع أو بيع لا شفعة له، ومن اشترى أو ابتيع له فله الشفعة، لأن الأول بأخذ المشفوعة يسعى في نقض ما تم من جهته وهو البيع، والمشتري لا ينقض شراؤه بالأخذ بالشفعة لأنه مثل الشراء "وكذلك لو ضمن الدرك عن البائع وهو الشفيع فلا شفعة له" وكذلك إذا باع وشرط الخيار لغيره فأمضى المشروط له الخيار البيع وهو الشفيع فلا شفعة له، لأن البيع تم بإمضائه، بخلاف جانب المشروط له الخيار من جانب المشتري.
قال: "وإذا بلغ الشفيع أنها بيعت بألف درهم فسلم ثم علم أنها بيعت بأقل أو بحنطة أو شعير قيمتها ألف أو أكثر فتسليمه باطل وله الشفعة" لأنه إنما سلم لاستكثار الثمن في الأول ولتعذر الجنس الذي بلغه وتيسر ما بيع به في الثاني إذ الجنس مختلف، وكذا كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب، بخلاف ما إذا علم أنها بيعت بعرض، قيمته ألف أو أكثر، لأن الواجب فيه القيمة وهي دراهم أو دنانير، وإن بان أنها بيعت بدنانير قيمتها ألف فلا شفعة له، وكذا إذا كانت أكثر. وقال زفر: له الشفعة لاختلاف الجنس ولنا أن الجنس متحد في حق الثمنية.
قال: "وإذا قيل له إن المشتري فلان فسلم الشفعة ثم علم أنه غيره فله الشفعة" لتفاوت الجوار "ولو علم أن المشتري هو مع غيره فله أن يأخذ نصيب غيره" لأن التسليم لم يوجد في حقه "ولو بلغه شراء النصف فسلم ثم ظهر شراء الجميع فله الشفعة" لأن التسليم لضرر الشركة ولا شركة، وفي عكسه لا شفعة في ظاهر الرواية لأن التسليم في الكل تسليم في أبعاضه، والله أعلم.

فصل: قال: "وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له"
لانقطاع الجوار، وهذه حيلة، وكذا إذا وهب منه هذا المقدار وسلمه إليه لما بينا.
قال: "وإذا ابتاع منها سهما بثمن ثم ابتاع بقيتها فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني" لأن الشفيع جار فيهما، إلا أن المشتري في الثاني شريك فيتقدم عليه، فإن أراد الحيلة ابتاع السهم بالثمن إلا درهما مثلا والباقي بالباقي، وإن ابتاعها بثمن ثم دفع إليه ثوبا عوضا عنه فالشفعة بالثمن دون الثوب لأنه عقد آخر، والثمن هو العوض عن الدار.
قال رضي الله عنه: وهذه حيلة أخرى تعم الجوار والشركة فيباع بأضعاف قيمته ويعطى بها ثوب بقدر قيمته، إلا أنه لو استحقت المشفوعة يبقى كل الثمن على مشتري

 

ج / 4 ص -323-       الثوب لقيام البيع الثاني فيتضرر به والأوجه أن يباع بالدراهم الثمن دينار حتى إذا استحق المشفوع يبطل الصرف فيجب رد الدينار لا غير.
قال: "ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف وتكره عند محمد" لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه ولأبي يوسف أنه منع عن إثبات الحق فلا يعد ضررا، وعلى هذا الخلاف الحيلة في إسقاط الزكاة.

مسائل متفرقة
قال: "وإذا اشترى خمسة نفر دارا من رجل فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم، وإن اشتراها رجل من خمسة أخذها كلها أو تركها" والفرق أن في الوجه الثاني بأخذ البعض تتفرق الصفقة على المشتري فيتضرر به زيادة الضرر، وفي الوجه الأول يقوم الشفيع مقام أحدهم فلا تتفرق الصفقة، ولا فرق في هذا بين ما إذا كان قبل القبض أو بعده هو الصحيح، إلا أن قبل القبض لا يمكنه أخذ نصيب أحدهم إذا نقد ما عليه ما لم ينقد الآخر حصته كي لا يؤدي إلى تفريق اليد على البائع بمنزلة أحد المشتريين، بخلاف ما بعد القبض لأنه سقطت يد البائع، وسواء سمى لكل بعض ثمنا أو كان الثمن جملة، لأن العبرة في هذا لتفريق الصفقة لا للثمن، وهاهنا تفريعات ذكرناها في كفاية المنتهى.
قال: "ومن اشترى نصف دار غير مقسوم فقاسمه البائع أخذ الشفيع النصف الذي صار للمشتري أو يدع" لأن القسمة من تمام القبض لما فيه من تكميل الانتفاع ولهذا يتم القبض بالقسمة في الهبة، والشفيع لا ينقض القبض وإن كان له نفع فيه بعود العهدة على البائع، فكذا لا ينقض ما هو من تمامه، بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصيبه من الدار المشتركة وقاسم المشتري الذي لم يبع حيث يكون للشفيع نقضه، لأن العقد ما وقع مع الذي قاسم فلم تكن القسمة من تمام القبض الذي هو حكم العقد بل هو تصرف بحكم الملك فينقضه الشفيع كما ينقض بيعه وهبته، ثم إطلاق الجواب في الكتاب يدل على أن الشفيع يأخذ النصف الذي صار للمشتري في أي جانب كان وهو المروي عن أبي يوسف، لأن المشتري لا يملك إبطال حقه بالقسمة وعن أبي حنيفة أنه إنما يأخذه إذا وقع في جانب الدار التي يشفع بها لأنه لا يبقى جارا فيما يقع في الجانب الآخر.
قال: "ومن باع دارا وله عبد مأذون عليه دين فله الشفعة، وكذا إذا كان العبد هو البائع فلمولاه الشفعة" لأن الأخذ بالشفعة تملك بالثمن فينزل منزلة الشراء، وهذا لأنه مفيد لأنه

 

ج / 4 ص -324-       يتصرف للغرماء، بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين لأنه يبيعه لمولاه، ولا شفعة لمن يبيع له.
قال: "وتسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد وزفر رحمهما الله: هو على شفعته إذا بلغ" قالوا: وعلى هذا الخلاف إذا بلغهما شراء دار بجوار دار الصبي فلم يطلبا الشفعة، وعلى هذا الخلاف تسليم الوكيل بطلب الشفعة في رواية كتاب الوكالة وهو الصحيح لمحمد وزفر أنه حق ثابت للصغير فلا يملكان إبطاله كديته وقوده، ولأنه شرع لدفع الضرر فكان إبطاله إضرارا به ولهما أنه في معنى التجارة فيملكان تركه؛ ألا ترى أن من أوجب بيعا للصبي صح رده من الأب والوصي، ولأنه دائر بين النفع والضرر، وقد يكون النظر في تركه ليبقى الثمن على ملكه والولاية نظرية فيملكانه وسكوتهما كإبطالهما لكونه دليل الإعراض، وهذا إذا بيعت بمثل قيمتها، فإن بيعت بأكثر من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه قيل جاز التسليم بالإجماع لأنه تمحض نظرا وقيل لا يصح بالاتفاق لأنه لا يملك الأخذ فلا يملك التسليم كالأجنبي، وإن بيعت بأقل من قيمتها محاباة كثيرة، فعن أبي حنيفة أنه لا يصح التسليم منهما أيضا ولا رواية عن أبي يوسف، والله أعلم.