الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -337-       كتاب المزارعة
"قال أبو حنيفة رحمه الله: المزارعة بالثلث والربع باطلة"
اعلم أن المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع. وفي الشريعة: هي عقد على الزرع ببعض الخارج. وهي فاسدة عند أبي حنيفة، وقال: هي جائزة لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع" ولأنه عقد شركة بين المال والعمل فيجوز اعتبارا بالمضاربة والجامع دفع الحاجة، فإن ذا المال قد لا يهتدي إلى العمل والقوي عليه لا يجد المال، فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما بخلاف دفع الغنم والدجاج ودود القز معاملة بنصف الزوائد لأنه لا أثر هناك للعمل في تحصيلها فلم تتحقق شركة. وله ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المخابرة وهي المزارعة" ولأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان، ولأن الأجر مجهول أو معدوم وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز "وإذا فسدت عنده فإن سقى الأرض وكربها ولم يخرج شيء منه فله أجر مثله" لأنه في معنى إجارة فاسدة، وهذا إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض. وإذا كان البذر من قبله فعليه أجر مثل الأرض والخارج في الوجهين لصاحب البذر لأنه نماء ملكه وللآخر الأجر كما فصلنا، إلا أن الفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأمة بها. والقياس يترك بالتعامل كما في الاستصناع.
"ثم المزارعة لصحتها على قول من يجيزها شروط: أحدها كون الأرض صالحة للزراعة" لأن المقصود لا يحصل بدونه.
"والثاني: أن يكون رب الأرض والمزارع من أهل العقد وهو لا يختص به" لأنه عقد ما لا يصح إلا من الأهل.
"والثالث: بيان المدة" لأنه عقد على منافع الأرض أو منافع العامل والمدة هي المعيار لها ليعلم بها.

 

ج / 4 ص -338-       "والرابع: بيان من عليه البذر" قطعا للمنازعة وإعلاما للمعقود عليه وهو منافع الأرض أو منافع العمل.
"والخامس: بيان نصيب من لا بذر من قبله" لأنه يستحقه عوضا بالشرط فلا بد أن يكون معلوما، وما لا يعلم لا يستحق شرطا بالعقد.
"والسادس: أن يخلي رب الأرض بينها وبين العامل، حتى لو شرط عمل رب الأرض يفسد العقد" لفوات التخلية.
"والسابع: الشركة في الخارج بعد حصوله" لأنه ينعقد شركة في الانتهاء، فما يقطع هذه الشركة كان مفسدا للعقد.
"والثامن: بيان جنس البذر" ليصير الأجر معلوما.
قال: "وهي عندهما على أربعة أوجه: إن كانت الأرض والبذر لواحد والبقر والعمل لواحد جازت المزارعة" لأن البقر آلة العمل فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة الخياط، "وإن كان الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد جازت" لأنه استئجار الأرض ببعض معلوم من الخارج فيجوز كما إذا استأجرها بدراهم معلومة "وإن كانت الأرض والبذر والبقر لواحد والعمل من آخر جازت" لأنه استأجره للعمل بآلة المستأجر فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط ثوبه بإبرته أو طيانا ليطين بمره "وإن كانت الأرض والبقر لواحد والبذر والعمل لآخر فهي باطلة" وهذا الذي ذكره ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف أنه يجوز أيضا، لأنه لو شرط البذر والبقر عليه يجوز فكذا إذا شرط وحده وصار كجانب العامل. وجه الظاهر أن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض. لأن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل بها النماء، ومنفعة البقر صلاحية يقام بها العمل كل ذلك بخلق الله تعالى فلم يتجانسا فتعذر أن تجعل تابعة لها، بخلاف جانب العامل لأنه تجانست المنفعتان فجعلت تابعة لمنفعة العامل. وهاهنا وجهان آخران لم يذكرهما.
أحدهما: أن يكون البذر لأحدهما والأرض والبقر والعمل لآخر فإنه لا يجوز لأنه يتم شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع.
والثاني: أن يجمع بين البذر والبقر. وأنه لا يجوز أيضا لأنه لا يجوز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع، والخارج في الوجهين لصاحب البذر في رواية اعتبارا بسائر المزارعات الفاسدة، وفي رواية لصاحب الأرض ويصير مستقرضا للبذر قابضا له لاتصاله بأرضه.
قال: "ولا تصح المزارعة إلا على مدة معلومة" لما بينا "وأن يكون الخارج شائعا

 

ج / 4 ص -339-       بينهما" تحقيقا لمعنى الشركة "فإن شرطا لأحدهما قفزانا مسماة فهي باطلة" لأن به تنقطع الشركة لأن الأرض عساها لا تخرج إلا هذا القدر، فصار كاشتراط دراهم معدودة لأحدهما في المضاربة، "وكذا إذا شرطا أن يرفع صاحب البذر بذره ويكون الباقي بينهما نصفين"، لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في بعض معين أو في جميعه بأن لم يخرج إلا قدر البذر فصار كما إذا شرطا رفع الخراج، والأرض خراجية وأن يكون الباقي بينهما لأنه معين، بخلاف ما إذا شرط صاحب البذر عشر الخارج لنفسه أو للآخر والباقي بينهما لأنه معين مشاع فلا يؤدي إلى قطع الشركة، كما إذا شرطا رفع العشر، وقسمة الباقي بينهما والأرض عشرية.
قال: "وكذا إذا شرطا ما على الماذيانات والسواقي" معناه لأحدهما، لأنه إذا شرط لأحدهما زرع موضع معين أفضى ذلك إلى قطع الشركة، لأنه لعله لا يخرج إلا من ذلك الموضع، وعلى هذا إذا شرط لأحدهما ما يخرج من ناحية معينة ولآخر ما يخرج من ناحية أخرى "وكذا إذا شرط لأحدهما التبن وللآخر الحب" لأنه عسى أن يصيبه آفة فلا ينعقد الحب ولا يخرج إلا التبن "وكذا إذا شرطا التبن نصفين والحب لأحدهما بعينه" لأنه يؤدي إلى قطع الشركة فيما هو المقصود وهو الحب "ولو شرط الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت" لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود، "ثم التبن يكون لصاحب البذر" لأنه نماء بذره وفي حقه لا يحتاج إلى الشرط. والمفسد هو الشرط، وهذا سكوت عنه. وقال مشايخ بلخي رحمهم الله: التبن بينهما أيضا اعتبارا للعرف فيما لم ينص عليه المتعاقدان، ولأنه تبع للحب والتبع يقوم بشرط الأصل. "ولو شرطا الحب نصفين والتبن لصاحب البذر صحت" لأنه حكم العقد "وإن شرطا التبن للآخر فسدت" لأنه شرط يؤدي إلى قطع الشركة بأن لا يخرج إلا التبن واستحقاق غير صاحب البذر بالشرط.
قال: "وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط" لصحة الالتزام "وإن لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء للعامل" لأنه يستحقه شركة، ولا شركة في غير الخارج، وإن كانت إجارة فالأجر مسمى فلا يستحق غيره، بخلاف ما إذا فسدت لأن أجر المثل في الذمة ولا تفوت الذمة بعدم الخارج.
قال: "وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر" لأنه نماء ملكه، واستحقاق الأجر بالتسمية وقد فسدت فبقي النماء كله لصاحب البذر.
قال: "ولو كان البذر من قبل رب الأرض فللعامل أجر مثله لا يزاد على مقدار ما شرط له من الخارج" لأنه رضي بسقوط الزيادة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف

 

ج / 4 ص -340-       رحمهما الله "وقال محمد: له أجر مثله بالغا ما بلغ، لأنه استوفى منافعه بعقد فاسد فتجب عليه قيمتها إذ لا مثل لها" وقد مر في الإجارات "وإن كان البذر من قبل العامل فلصاحب الأرض أجر مثل أرضه" لأنه استوفى منافع الأرض بعقد فاسد فيجب ردها وقد تعذر. ولا مثل لها فيجب رد قيمتها. وهل يزاد على ما شرط له من الخارج؟ فهو على الخلاف الذي ذكرناه "ولو جمع بين الأرض والبقر حتى فسدت المزارعة فعلى العامل أجر مثل الأرض والبقر" هو الصحيح، لأن له مدخلا في الإجارة وهي إجارة معنى "وإذا استحق رب الأرض الخارج لبذره في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه" لأن النماء حصل في أرض مملوكة له "وإن استحقه العامل أخذ قدر بذره وقدر أجر الأرض وتصدق بالفضل" لأن النماء يحصل من البذر ويخرج من الأرض، وفساد الملك في منافع الأرض أوجب خبثا فيه. فما سلم له بعوض طاب له وما لا عوض له تصدق به.
قال: "وإذا عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل لم يجبر عليه" لأنه لا يمكنه المضي في العقد إلا بضرر يلزمه. فصار كما إذا استأجر أجيرا ليهدم داره "وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر أجبره الحاكم على العمل" لأنه لا يلحقه بالوفاء بالعقد ضرر والعقد لازم بمنزلة الإجارة، إلا إذا كان عذر يفسخ به الإجارة فيفسخ به المزارعة.
قال: "ولو امتنع رب الأرض والبذر من قبله وقد كرب المزارع الأرض فلا شيء له في عمل الكراب" قيل هذا في الحكم، فأما فيما بينه وبين الله تعالى يلزمه استرضاء العامل لأنه غره في ذلك.
قال: "وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت المزارعة" اعتبارا بالإجارة، وقد مر الوجه في الإجارات، فلو كان دفعها في ثلاث سنين فلما نبت الزرع في السنة الأولى ولم يستحصد الزرع حتى مات رب الأرض ترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد الزرع ويقسم على الشرط، وتنتقض المزارعة فيما بقي من السنتين لأن في إبقاء العقد في السنة الأولى مراعاة للحقين، بخلاف السنة الثانية والثالثة لأنه ليس فيه ضرر بالعامل فيحافظ فيهما على القياس "ولو مات رب الأرض قبل الزراعة بعد ما كرب الأرض وحفر الأنهار انتقضت المزارعة" لأنه ليس فيه إبطال مال على المزارع "ولا شيء للعامل بمقابلة ما عمل" لما نبينه إن شاء الله تعالى. "وإذا فسخت المزارعة بدين فادح لحق صاحب الأرض فاحتاج إلى بيعها جاز" كما في الإجارة "وليس للعامل أن يطالبه بما كرب الأرض وحفر الأنهار بشيء" لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وهو إنما قوم بالخارج فإذا انعدم الخارج لم يجب شيء "ولو نبت الزرع ولم يستحصد لم تبع الأرض في الدين حتى يستحصد الزرع" لأن في البيع إبطال حق

 

ج / 4 ص -341-       المزارع، والتأخير أهون من الإبطال "ويخرجه القاضي من الحبس إن كان حبسه بالدين" لأنه لما امتنع بيع الأرض لم يكن هو ظالما والحبس جزاء الظلم.
قال: "وإذا انقضت مدة المزارعة والزرع لم يدرك كان على المزارع أجر مثل نصيبه من الأرض إلى أن يستحصد والنفقة على الزرع عليهما على مقدار حقوقهما" معناه حتى يستحصد، لأن في تبقية الزرع بأجر المثل تعديل النظر من الجانبين فيصار إليه، وإنما كان العمل عليهما لأن العقد قد انتهى بانتهاء المدة وهذا عمل في المال المشترك، وهذا بخلاف ما إذا مات رب الأرض والزرع بقل حيث يكون العمل فيه على العامل، لأن هناك أبقينا العقد في مدته والعقد يستدعي العمل على العامل، أما هاهنا العقد قد انتهى فلم يكن هذا إبقاء ذلك العقد فلم يختص العامل بوجوب العمل عليه "فإن أنفق أحدهما بغير إذن صاحبه وأمر القاضي فهو متطوع" لأنه لا ولاية له عليه "ولو أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك" لأن فيه إضرارا بالمزارع، "ولو أراد المزارع" أن يأخذه بقلا قيل لصاحب الأرض اقلع الزرع فيكون بينكما أو أعطه قيمة نصيبه أو أنفق أنت على الزرع وارجع بما تنفقه في حصته، لأن المزارع لما امتنع من العمل لا يجبر عليه، لأن إبقاء العقد بعد وجود المنهي نظر له وقد ترك النظر لنفسه. ورب الأرض مخير بين هذه الخيارات لأن بكل ذلك يستدفع الضرر "ولو مات المزارع بعد نبات الزرع فقالت ورثته نحن نعمل إلى أن يستحصد الزرع وأبى رب الأرض فلهم ذلك" لأنه لا ضرر على رب الأرض "ولا أجر لهم بما عملوا" لأنا أبقينا العقد نظرا لهم، فإن أرادوا قلع الزرع لم يجبروا على العمل لما بينا، والمالك على الخيارات الثلاث لما بينا.
قال: "وكذلك أجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص. فإن شرطاه في المزارعة على العامل فسدت" وهذا الحكم ليس بمختص بما ذكر من الصورة وهو انقضاء المدة والزرع لم يدرك بل هو عام في جميع المزارعات. ووجه ذلك أن العقد يتناهى بتناهي الزرع لحصول المقصود فيبقى مال مشترك بينهما ولا عقد فيجب مؤنته عليهما. وإذا شرط في العقد ذلك ولا يقتضيه وفيه منفعة لأحدهما يفسد العقد كشرط الحمل أو الضمن على العامل. وعن أبي يوسف أنه يجوز إذا شرط ذلك على العامل للتعامل اعتبارا بالاستصناع وهو اختيار مشايخ بلخي. قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح في ديارنا.
فالحاصل: أن ما كان من عمل قبل الإدراك كالسقي والحفظ فهو على العامل، وما كان منه بعد الإدراك قبل القسمة فهو عليهما في ظاهر الرواية كالحصاد والدياس

 

ج / 4 ص -342-       وأشباههما على ما بيناه، وما كان بعد القسمة فهو عليهما. والمعاملة على قياس هذا ما كان قبل إدراك الثمر من السقي والتلقيح والحفظ فهو على العامل، وما كان بعد الإدراك كالجداد والحفظ فهو عليهما؛ ولو شرط الجداد على العامل لا يجوز بالاتفاق لأنه لا عرف فيه. وما كان بعد القسمة فهو عليهما لأنه مال مشترك ولا عقد، ولو شرط الحصاد في الزرع على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم العرف فيه، ولو أرادا فصل القصيل أو جد التمر بسرا أو التقاط الرطب فذلك عليهما لأنهما أنهيا العقد لما عزما على الفصل والجداد بسرا فصار كما بعد الإدراك، والله أعلم.