الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -343-       كتاب المساقاة
"قال أبو حنيفة: المساقاة بجزء من الثمر باطلة، وقالا: جائزة إذا ذكر مدة معلومة وسمى جزءا من الثمر مشاعا" والمساقاة: هي المعاملة والكلام فيها كالكلام في المزارعة. وقال الشافعي رحمه الله: المعاملة جائزة، ولا تجوز المزارعة إلا تبعا للمعاملة لأن الأصل في هذا المضاربة، والمعاملة أشبه بها لأن فيه شركة في الزيادة دون الأصل. وفي المزارعة لو شرطا الشركة في الربح دون البذر بأن شرطا رفعه من رأس الخارج تفسد، فجعلنا المعاملة أصلا، وجوزنا المزارعة تبعا لها كالشرب في بيع الأرض والمنقول في وقف العقار، وشرط المدة قياس فيها لأنها إجارة معنى كما في المزارعة. وفي الاستحسان: إذا لم يبين المدة يجوز ويقع على أول ثمر يخرج، لأن الثمر لإدراكها وقت معلوم وقلما يتفاوت ويدخل فيما ما هو المتيقن، وإدراك البذر في أصول الرطبة في هذا بمنزلة إدراك الثمار، لأن له نهاية معلومة فلا يشترط بيان المدة، بخلاف الزرع لأن ابتداءه يختلف كثيرا خريفا وصيفا وربيعا، والانتهاء بناء عليه فتدخله الجهالة، وبخلاف ما إذا دفع إليه غرسا قد علق ولم يبلغ الثمر معاملة حيث لا يجوز إلا ببيان المدة لأنه يتفاوت بقوة الأراضي وضعفها تفاوتا فاحشا، وبخلاف ما إذا دفع نخيلا أو أصول رطبة على أن يقوم عليها أو أطلق في الرطبة تفسد المعاملة، لأنه ليس لذلك نهاية معلومة، لأنها تنمو ما تركت في الأرض فجهلت المدة.
قال: "ويشترط تسمية الجزء مشاعا" لما بينا في المزارعة إذ شرط جزء معين يقطع الشركة.
قال: "فإن سميا في المعاملة وقتا يعلم أنه لا يخرج الثمر فيها فسدت المعاملة" لفوات المقصود وهو الشركة في الخارج.
قال: "ولو سميا مدة قد يبلغ الثمر فيها وقد يتأخر عنها جازت" لأنا لا نتيقن بفوات المقصود.

 

ج / 4 ص -344-       قال: "ثم لو خرج في الوقت المسمى فهو على الشركة" لصحة العقد.
قال: "وإن تأخر فللعامل أجر المثل" لفساد العقد لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة فصار كما إذا علم ذلك في الابتداء، بخلاف ما إذا لم يخرج أصلا لأن الذهاب بآفة فلا يتبين فساد المدة فيبقى العقد صحيحا، ولا شيء لكل واحد منهما على صاحبه.
قال: "وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان" وقال الشافعي في الجديد: لا تجوز إلا في الكرم والنخل، لأن جوازها بالأثر وقد خصهما وهو حديث خيبر. ولنا أن الجواز للحاجة وقد عمت، وأثر خيبر لا يخصهما لأن أهلها كانوا يعملون في الأشجار والرطاب أيضا، ولو كان كما زعم فالأصل في النصوص أن تكون معلولة سيما على أصله.
قال: "وليس لصاحب الكرم أن يخرج العامل من غير عذر" لأنه لا ضرر عليه في الوفاء بالعقد.
قال: "وكذا ليس للعامل أن يترك العمل بغير عذر" بخلاف المزارعة بالإضافة إلى صاحب البذر على ما قدمناه.
قال: "فإن دفع نخلا فيه تمر مساقاة والتمر يزيد بالعمل جاز وإن كانت قد انتهت لم يجز" وكذا على هذا إذا دفع الزرع وهو بقل جاز، ولو استحصد وأدرك لم يجز، لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد التناهي والإدراك، فلو جوزناه لكان استحقاقا بغير عمل ولم يرد به الشرع، بخلاف ما قبل ذلك لتحقق الحاجة إلى العمل.
قال: "وإذا فسدت المساقاة فللعامل أجر مثله" لأنه في معنى الإجارة الفاسدة، وصار كالمزارعة إذا فسدت.
قال: "وتبطل المساقاة بالموت" لأنها في معنى الإجارة وقد بيناه فيها، فإن مات رب الأرض والخارج بسر فللعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم قبل ذلك إلى أن يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الأرض استحسانا فيبقى العقد دفعا للضرر عنه، ولا ضرر فيه على الآخر.
قال: "ولو التزم العامل الضرر يتخير ورثة الآخر بين أن يقسموا البسر على الشرط وبين أن يعطوه قيمة نصيبه من البسر وبين أن ينفقوا على البسر حتى يبلغ فيرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر" لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم، وقد بينا نظيره في المزارعة.

 

ج / 4 ص -345-       قال: "ولو مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه وإن كره رب الأرض" لأن فيه النظر من الجانبين.
قال: "فإن أرادوا أن يصرموه بسرا كان صاحب الأرض بين الخيارات الثلاثة" التي بيناها.
قال: "وإن ماتا جميعا فالخيار لورثة العامل" لقيامهم مقامه، وهذا خلافة في حق مالي وهو ترك الثمار على الأشجار إلى وقت الإدراك لا أن يكون وارثه في الخيار قال: "فإن أبى ورثة العامل أن يقوموا عليه كان الخيار في ذلك لورثة رب الأرض" على ما وصفنا.
قال: "وإذا انقضت مدة المعاملة والخارج بسر أخضر فهذا والأول سواء، وللعامل أن يقوم عليها إلى أن يدرك لكن بغير أجر" لأن الشجر لا يجوز استئجاره، بخلاف المزارعة في هذا لأن الأرض يجوز استئجارها، وكذلك العمل كله على العامل هاهنا وفي المزارعة في هذا عليهما، لأنه لما وجب أجر مثل الأرض بعد انتهاء المدة على العامل لا يستحق عليه العمل وهاهنا لا أجر فجاز أن يستحق العمل كما يستحق قبل انتهائها.
قال: "وتفسخ بالأعذار" لما بينا في الإجارات، وقد بينا وجوه العذر فيها. ومن جملتها أن يكون العامل سارقا يخاف عليه سرقة السعف والثمر قبل الإدراك لأنه يلزم صاحب الأرض ضررا لم يلتزمه فتفسخ به. ومنها مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل، لأن في إلزامه استئجار الأجراء زيادة ضرر عليه ولم يلتزمه فيجعل ذلك عذرا، ولو أراد العامل ترك ذلك العمل هل يكون عذرا؟ فيه روايتان. وتأويل إحداهما أن يشترط العمل بيده فيكون عذرا من جهته.
قال: "ومن دفع أرضا بيضاء إلى رجل سنين معلومة يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك" لاشتراط الشركة فيما كان حاصلا قبل الشركة لا بعمله.
قال: "وجميع الثمر والغرس لرب الأرض وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل" لأنه في معنى قفيز الطحان: إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمله وهو نصف البستان فيفسد وتعذر رد الغراس لاتصالها بالأرض فيجب قيمتها وأجر مثله لأنه لا يدخل في قيمة الغراس لتقومها بنفسها وفي تخريجها طريق آخر بيناه في كفاية المنتهى، وهذا أصحهما، والله أعلم.