الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -546-       كتاب الخنثى
فصل: في بيانه
قال: "وإذا كان للمولود فرج وذكر فهو خنثى، فإن كان يبول من الذكر فهو غلام، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى" لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عنه كيف يورث؟ فقال: "من حيث يبول" وعن علي رضي الله عنه مثله. ولأن البول من أي عضو كان فهو دلالة على أنه هو العضو الأصلي الصحيح والآخر بمنزلة العيب "وإن بال منهما فالحكم للأسبق" لأن ذلك دلالة أخرى على أنه هو العضو الأصلي "وإن كانا في السبق على السواء فلا معتبر بالكثرة عند أبي حنيفة. وقالا: ينسب إلى أكثرهما بولا" لأنه علامة قوة ذلك العضو وكونه عضوا أصليا، ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع فيترجح بالكثرة. وله أن كثرة الخروج ليس يدل على القوة، لأنه قد يكون لاتساع في أحدهما وضيق في الآخر، وإن كان يخرج منهما على السواء فهو مشكل بالاتفاق لأنه لا مرجح.
قال: "وإذا بلغ الخنثى وخرجت له اللحية أو وصل إلى النساء فهو رجل" وكذا إذا احتلم كما يحتلم الرجل أو كان له ثدي مستو، لأن هذه من علامات الذكران "ولو ظهر له ثدي كثدي المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فهو امرأة" لأن هذه من علامات النساء "وإن لم يظهر إحدى هذه العلامات فهو خنثى مشكل" وكذا إذا تعارضت هذه المعالم.

فصل: في أحكامه
قال رضي الله عنه: الأصل في الخنثى المشكل أن يؤخذ فيه بالأحوط والأوثق في أمور الدين، وأن لا يحكم بثبوت حكم وقع الشك في ثبوته.
قال: "وإذا وقف خلف الإمام قام بين صف الرجال والنساء" لاحتمال أنه امرأة فلا يتخلل الرجال كي لا يفسد صلاتهم ولا النساء لاحتمال أنه رجل فتفسد صلاته. "فإن قام في صف النساء فأحب إلي أن يعيد صلاته" لاحتمال أنه رجل "وإن قام في صف الرجال

 

ج / 4 ص -547-       فصلاته تامة ويعيد الذي عن يمينه وعن يساره والذي خلفه بحذائه صلاتهم احتياطا" لاحتمال أنه امرأة.
قال: "وأحب إلينا أن يصلي بقناع" لأنه يحتمل أنه امرأة "ويجلس في صلاته جلوس المرأة" لأنه إن كان رجلا فقد ترك سنة وهو جائز في الجملة، وإن كان امرأة فقد ارتكب مكروها لأن الستر على النساء واجب ما أمكن "وإن صلى بغير قناع أمرته أن يعيد" لاحتمال أنه امرأة وهو على الاستحباب وإن لم يعد أجزأه "وتبتاع له أمة تختنه إن كان له مال" لأنه يباح لمملوكته النظر إليه رجلا كان أو امرأة. ويكره أن يختنه رجل لأنه عساه أنثى أو تختنه امرأة لأنه لعله رجل فكان الاحتياط فيما قلنا "وإن لم يكن له مال ابتاع له الإمام أمة من بيت المال" لأنه أعد لنوائب المسلمين "فإذا ختنته باعها ورد ثمنها في بيت المال" لوقوع الاستغناء عنها. "ويكره له في حياته لبس الحلي والحرير، وأن يتكشف قدام الرجال أو قدام النساء. وأن يخلو به غير محرم من رجل أو امرأة، وأن يسافر من غير محرم من الرجال" توقيا عن احتمال المحرم "وإن أحرم وقد راهق قال أبو يوسف: لا علم لي في لباسه" لأنه إن كان ذكرا يكره له لبس المخيط، وإن كان أنثى يكره له تركه "وقال محمد: يلبس لباس المرأة" لأن ترك لبس المخيط وهو امرأة أفحش من لبسه وهو رجل، ولا شيء عليه لأنه لم يبلغ. "ومن حلف بطلاق أو عتاق إن كان أول ولد تلدينه غلاما فولدت خنثى لم يقع حتى يستبين أمر الخنثى" لأن الخنث لا يثبت بالشك "ولو قال كل عبد لي حر أو قال كل أمة لي حرة وله مملوك خنثى لم يعتق حتى يستبين أمره" لما قلنا "وإن قال القولين جميعا عتق" للتيقن بأحد الوصفين لأنه ليس بمهمل "وإن قال الخنثى أنا رجل أو أنا امرأة لم يقبل قوله إذا كان مشكلا" لأنه دعوى يخالف قضية الدليل "وإن لم يكن مشكلا ينبغي أن يقبل قوله" لأنه أعلم بحاله من غيره "وإن مات قبل أن يستبين أمره لم يغسله رجل ولا امرأة" لأن حل الغسل غير ثابت بين الرجال والنساء "فيتوقى لاحتمال الحرمة وييمم بالصعيد" لتعذر الغسل "ولا يحضر إن كان مراهقا غسل رجل ولا امرأة" لاحتمال أنه ذكر أو أنثى "وإن سجى قبره فهو أحب" لأنه إن كان أنثى يقيم واجبا، وإن كان ذكرا فالتسجية لا تضره.
"وإذا مات فصلي عليه وعلى رجل وامرأة وضع الرجل مما يلي الإمام والخنثى خلفه والمرأة خلف الخنثى فيؤخر عن الرجل" لاحتمال أنه امرأة "ويقدم على المرأة" لاحتمال أنه رجل. "ولو دفن مع رجل في قبر واحد من عذر جعل الخنثى خلف الرجل" لاحتمال أنه امرأة "ويجعل بينهما حاجز من صعيد، وإن كان مع امرأة قدم الخنثى" لاحتمال أنه رجل "وإن جعل على السرير نعش المرأة فهو أحب إلي" لاحتمال أنه عورة، "ويكفن كما تكفن الجارية

 

ج / 4 ص -548-       وهو أحب إلي" يعني يكفن في خمس أثواب لأنه إذا كان أنثى فقد أقيمت سنة، وإن كان ذكرا فقد زادوا على الثلاث ولا بأس بذلك. "ولو مات أبوه وخلف ابنا فالمال بينهما عند أبي حنيفة أثلاثا للابن سهمان، وللخنثى سهم وهو أنثى عنده في الميراث إلا أن يتبين غير ذلك" وقالا: للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى وهو قول الشعبي رحمه الله.
واختلفا في قياس قوله قال محمد: المال بينهما على اثني عشر سهما للابن سبعة وللخنثى خمسة. وقال أبو يوسف: المال بينهما على سبعة للابن أربعة وللخنثى ثلاثة، لأن الابن يستحق كل الميراث عند الانفراد والخنثى ثلاثة الأرباع، فعند الاجتماع يقسم بينهما على قدر حقيهما هذا يضرب بثلاثة وذلك يضرب بأربعة فيكون سبعة. ولمحمد أن الخنثى لو كان ذكرا يكون المال بينهما نصفين، وإن كان أنثى يكون المال بينهما أثلاثا احتجنا إلى حساب له نصف وثلث، وأقل ذلك ستة، ففي حال يكون المال بينهما نصفين لكل واحد ثلاثة، وفي حال يكون أثلاثا للخنثى سهمان وللابن أربعة، فسهمان للخنثى ثابتان بيقين. ووقع الشك في السهم الزائد فيتنصف فيكون له سهمان ونصف فانكسر فيضعف ليزول الكسر فصار الحساب من اثني عشر للخنثى خمسة وللابن سبعة. ولأبي حنيفة أن الحاجة هاهنا إلى إثبات المال ابتداء، والأقل وهو ميراث الأنثى متيقن به، وفيما زاد عليه شك، فأثبتنا المتيقن قصرا عليه لأن المال لا يجب بالشك وصار كما إذا كان الشك في وجوب المال بسبب آخر فإنه يؤخذ فيه بالمتيقن، كذا هذا، إلا أن يكون نصيبه الأقل لو قدرناه ذكرا فحينئذ يعطى نصيب الابن في تلك الصورة لكونه متيقنا به وهو أن تكون الورثة زوجا، وأما وأختا لأب وأم هي خنثى أو امرأة وأخوين لأم وأختا لأب وأم هي خنثى. فعندنا في الأولى للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للخنثى، وفي الثانية للمرأة الربع وللأخوين لأم الثلث والباقي للخنثى لأنه أقل النصيبين فيهما، والله أعلم بالصواب.

مسائل شتى
قال: "وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه: أي نعم أو كتب، فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار فهو جائز، ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه" وقال الشافعي: يجوز في الوجهين لأن المجوز إنما هو العجز وقد شمل الفصلين، ولا فرق بين الأصلي والعارضي كالوحشي والمتوحش من الأهلي في حق الذكاة، والفرق لأصحابنا رحمهم الله أن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت

 

ج / 4 ص -549-       معهودة معلومة وذلك في الأخرس دون المعتقل لسانه. حتى لو امتد ذلك وصارت له إشارات معلومة قالوا هو بمنزلة الأخرس، ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت، أما الأخرس فلا تفريط منه، ولأن العارضي على شرف الزوال دون الأصلي فلا ينقاسان، وفي الآبدة عرفناه بالنص.
قال: "وإذا كان الأخرس يكتب كتابا أو يومئ إيماء يعرف به فإنه يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه ويقتص له ومنه، ولا يحد ولا يحد له" أما الكتابة فلأنها ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أدى واجب التبليغ مرة بالعبارة وتارة بالكتابة إلى الغيب، والمجوز في حق الغائب العجز وهو في حق الأخرس أظهر وألزم.
ثم الكتاب على ثلاث مراتب: مستبين مرسوم وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا. ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار، وينوي فيه لأنه بمنزلة صريح الكتابة فلا بد من النية. وغير مستبين كالكتابة على الهواء والماء، وهو بمنزلة كلام غير مسموع فلا يثبت به الحكم. وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام للحاجة إلى ذلك لأنها من حقوق العباد ولا تختص بلفظ دون لفظ، وقد تثبت بدون اللفظ. والقصاص حق العبد أيضا، ولا حاجة إلى الحدود لأنها حق الله تعالى، ولأنها تندرئ بالشبهات، ولعله كان مصدقا للقاذف فلا يحد للشبهة، ولا يحد أيضا بالإشارة في القذف لانعدام القذف صريحا وهو الشرط. ثم الفرق بين الحدود والقصاص أن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة؛ ألا ترى أنهم لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر بالوطء الحرام لا يجب الحد، ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب القصاص وإن لم يوجد لفظ التعمد، وهذا لأن القصاص فيه معنى العوضية لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد.
أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة. وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه، ويحتمل أن يكون الجواب هنا كذلك فيكون فيهما روايتان، ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك لأنه يمكن الوصول إلى نطق الغائب في الجملة لقيام أهلية النطق، ولا كذلك الأخرس لتعذر الوصول إلى النطق للآفة المانعة، ودلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن

 

ج / 4 ص -550-       كان قادرا على الكتابة، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا رحمهم الله أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة. لأنه حجة ضرورية، ولا ضرورة لأنه جمع هاهنا بينهما فقال: أشار أو كتب، وإنما استويا لأن كل واحد منهما حجة ضرورية، وفي الكتابة زيادة بيان لم يوجد في الإشارة، وفي الإشارة زيادة أثر لم يوجد في الكتاب لما أنه أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا "وكذلك الذي صمت يوما أو يومين لعارض" لما بينا في المعتقل لسانه أن آلة النطق قائمة، وقيل هذا تفسير لمعتقل اللسان.
قال: "وإذا كانت الغنم مذبوحة وفيها ميتة فإن كانت المذبوحة أكثر تحرى فيها وأكل، وإن كانت الميتة أكثر أو كانا نصفين لم يأكل" وهذا إذا كانت الحالة حالة الاختيار. أما في حالة الضرورة يحل له التناول في جميع ذلك. لأن الميتة المتيقنة تحل له في حالة الضرورة، فالتي تحتمل أن تكون ذكية أولى، غير أنه يتحرى لأنه طريق يوصله إلى الذكية في الجملة فلا يتركه من غير ضرورة. وقال الشافعي: لا يجوز الأكل في حالة الاختيار وإن كانت المذبوحة أكثر لأن التحري دليل ضروري فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة لأن الحالة حالة الاختيار. ولنا أن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة؛ ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرم المسروق والمغصوب ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الغالب، وهذا لأن القليل لا يمكن الاحتراز عنه ولا يستطاع الامتناع منه فسقط اعتباره دفعا للحرج كقليل النجاسة وقليل الانكشاف، بخلاف ما إذا كانا نصفين أو كانت الميتة أغلب لأنه لا ضرورة فيه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
بعون الله تعالى قد تم طبع كتاب
الهداية شرح بداية المبتدى