الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 4 ص -513-
كتاب الوصايا
باب في صفة الوصية: ما يجوز من ذلك وما يستحب
منه وما يكون رجوعا عنه
قال:
"الوصية غير واجبة وهي مستحبة"
والقياس يأبى جوازها لأنه تمليك مضاف إلى حال
زوال مالكيته، ولو أضيف إلى حال قيامها بأن
قيل ملكتك غدا كان باطلا فهذا أولى، إلا أنا
استحسناه لحاجة الناس إليها، فإن الإنسان
مغرور بأمله مقصر في عمله، فإذا عرض له المرض
وخاف البيان يحتاج إلى تلافي بعض ما فرط منه
من التفريط بماله على وجه لو مضى فيه يتحقق
مقصده المآلي، ولو أنهضه البرء يصرفه إلى
مطلبه الحالي، وفي شرع الوصية ذلك فشرعناه،
ومثله في الإجارة بيناه، وقد تبقى المالكية
بعد الموت باعتبار الحاجة كما في قدر التجهيز
والدين، وقد نطق به الكتاب وهو قوله تعالى:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] والسنة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام:
"إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في
أعمالكم تضعونها حيث شئتم"
أو قال
"حيث أحببتم" وعليه إجماع الأمة. ثم تصح للأجنبي في الثلث من غير إجازة الورثة
لما روينا، وسنبين ما هو الأفضل فيه إن شاء
الله تعالى.
قال:
"ولا تجوز بما زاد على الثلث"
لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث سعد
بن أبي وقاص رضي الله عنه:
"الثلث والثلث كثير" بعد
ما نفى وصيته بالكل والنصف، ولأنه حق الورثة،
وهذا لأنه انعقد سبب الزوال إليهم وهو
استغناؤه عن المال فأوجب تعلق حقهم به، إلا أن
الشرع لم يظهره في حق الأجانب بقدر الثلث
ليتدارك مصيره على ما بيناه، وأظهره في حق
الورثة لأن الظاهر أنه لا يتصدق به عليهم
تحرزا عما يتفق من الإيثار على ما نبينه، وقد
جاء في الحديث
"الحيف في الوصية من أكبر الكبائر" وفسروه بالزيادة على الثلث وبالوصية للوارث.
قال:
"إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار"
لأن الامتناع لحقهم وهم أسقطوه
ج / 4 ص -514-
"ولا معتبر بإجازتهم في حال حياته" لأنها قبل ثبوت الحق إذ الحق يثبت عند الموت فكان لهم أن يردوه بعد
وفاته، بخلاف ما بعد الموت لأنه بعد ثبوت الحق
فليس لهم أن يرجعوا عنه، لأن الساقط متلاش.
غاية الأمر أنه يستند عند الإجازة، لكن
الاستناد يظهر في حق القائم وهذا قد مضى
وتلاشى، ولأن الحقيقة تثبت عند الموت وقبله
يثبت مجرد الحق، فلو استند من كل وجه ينقلب
حقيقة قبله، والرضا ببطلان الحق لا يكون رضا
ببطلان الحقيقة وكذا إن كانت الوصية للوارث
وأجازه البقية فحكمه ما ذكرناه.
"وكل ما جاز بإجازة الوارث يتملكه المجاز له
من قبل الموصي" عندنا، وعند
الشافعي من قبل الوارث، والصحيح قولنا لأن
السبب صدر من الموصي، والإجازة رفع المانع
وليس من شرطه القبض فصار كالمرتهن إذا أجاز
بيع الراهن.
قال:
"ولا يجوز للقاتل عامدا كان أو خاطئا بعد أن
كان مباشرا" لقوله عليه
الصلاة والسلام: "لا وصية
للقاتل" ولأنه استعجل ما أخره الله تعالى فيحرم الوصية كما يحرم الميراث.
وقال الشافعي: تجوز للقاتل وعلى هذا الخلاف
إذا أوصى لرجل ثم إنه قتل الموصي تبطل الوصية
عندنا، وعنده لا تبطل، والحجة عليه في الفصلين
ما بيناه
"ولو أجازتها الورثة جاز عند أبي حنيفة ومحمد،
وقال أبو يوسف: لا تجوز" لأن
جنايته باقية والامتناع لأجلها. ولهما أن
الامتناع لحق الورثة لأن نفع بطلانها يعود
إليهم كنفع بطلان الميراث، ولأنهم لا يرضونها
للقاتل كما لا يرضونها لأحدهم.
قال:
"ولا تجوز لوارثه" لقوله عليه
الصلاة والسلام:
"إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث" ولأنه يتأذى البعض بإيثار البعض ففي تجويزه قطيعة الرحم ولأنه حيف
بالحديث الذي رويناه، ويعتبر كونه وارثا أو
غير وارث وقت الموت لا وقت الوصية لأنه تمليك
مضاف إلى ما بعد الموت، وحكمه يثبت بعد الموت.
"والهبة من المريض للوارث في هذا نظير الوصية"
لأنها وصية حكما حتى تنفذ من الثلث، وإقرار
المريض للوارث على عكسه لأنه تصرف في الحال
فيعتبر ذلك وقت الإقرار.
قال:
"إلا أن تجيزها الورثة" ويروى
هذا الاستثناء فيما رويناه، ولأن الامتناع
لحقهم فتجوز بإجازتهم؛ ولو أجاز بعض ورد بعض
تجوز على المجيز بقدر حصته لولايته عليه وبطل
في حق الراد.
قال:
"ويجوز أن يوصي المسلم للكافر والكافر للمسلم"
فالأولى لقوله تعالى:
{لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ}
[الممتحنة:8] الآية. والثاني لأنهم بعقد
ج / 4 ص -515-
الذمة
ساووا المسلمين في المعاملات ولهذا جاز التبرع
من الجانبين في حالة الحياة فكذا بعد الممات
"وفي الجامع الصغير الوصية لأهل الحرب باطلة"
لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ}
[الممتحنة:9] الآية.
قال:
"وقبول الوصية بعد الموت فإن قبلها الموصى له
حال الحياة أو ردها فذلك باطل"
لأن أوان ثبوت حكمه بعد الموت لتعلقه
به فلا يعتبر قبله كما لا يعتبر قبل العقد.
قال:
"ويستحب أن يوصي الإنسان بدون الثلث"
سواء كانت الورثة أغنياء أو فقراء، لأن في
التنقيص صلة القريب بترك ما له عليهم، بخلاف
استكمال الثلث، لأنه استيفاء تمام حقه فلا صلة
ولا منة، ثم الوصية بأقل من الثلث أولى أم
تركها؟ قالوا: إن كانت الورثة فقراء ولا
يستغنون بما يرثون فالترك أولى لما فيه من
الصدقة على القريب. وقد قال عليه الصلاة
والسلام:
"أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"
ولأن فيه رعاية حق الفقراء والقرابة جميعا،
وإن كانوا أغنياء أو يستغنون بنصيبهم فالوصية
أولى لأنه يكون صدقة على الأجنبي، والترك هبة
من القريب والأولى أولى لأنه يبتغي بها وجه
الله تعالى. وقيل في هذا الوجه يخير لاشتمال
كل منهما على فضيلة وهو الصدقة والصلة فيخير
بين الخيرين.
قال:
"والموصى به يملك بالقبول"
خلافا لزفر، وهو أحد قولي الشافعي. هو يقول:
الوصية أخت الميراث، إذ كل منهما خلافة لما
أنه انتقال، ثم الإرث يثبت من غير قبول فكذلك
الوصية. ولنا أن الوصية إثبات ملك جديد، ولهذا
لا يرد الموصى له بالعيب، ولا يرد عليه
بالعيب، ولا يملك أحد إثبات الملك لغيره إلا
بقبوله، أما الوراثة فخلافة حتى يثبت فيها هذه
الأحكام فيثبت جبرا من الشرع من غير قبول.
قال:
"إلا في مسألة واحدة وهي أن يموت الموصي ثم
يموت الموصى له قبل القبول فيدخل الموصى به في
ملك ورثته" استحسانا والقياس
أن تبطل الوصية لما بينا أن الملك موقوف على
القبول فصار كموت المشتري قبل قبوله بعد إيجاب
البائع. وجه الاستحسان أن الوصية من جانب
الموصي قد تمت بموته تماما لا يلحقه الفسخ من
جهته، وإنما توقفت لحق الموصى له، فإذا مات
دخل في ملكه كما في البيع المشروط فيه الخيار
إذا مات قبل الإجازة.
قال:
"ومن أوصى وعليه دين يحيط بماله لم تجز
الوصية" لأن الدين يقدم على
الوصية لأنه أهم الحاجتين فإنه فرض والوصية
تبرع، وأبدا يبدأ بالأهم فالأهم.
"إلا أن يبرئه الغرماء" لأنه
لم يبق الدين فتنفذ الوصية على الحد المشروع
لحاجته إليها.
ج / 4 ص -516-
قال:
"ولا تصح وصية الصبي" وقال
الشافعي: تصح إذا كان في وجوه الخير لأن عمر
رضي الله عنه أجاز وصية يفاع أو يافاع وهو
الذي راهق الحلم، ولأنه نظر له بصرفه إلى نفسه
في نيل الزلفى، ولو لم تنفذ يبقى على غيره.
ولنا أنه تبرع والصبي ليس من أهله، ولأن قوله
غير ملزوم وفي تصحيح وصيته قول بإلزام قوله
والأثر محمول على أنه كان قريب العهد بالحلم
مجازا أو كانت وصيته في تجهيزه وأمر دفنه،
وذلك جائز عندنا، وهو يحرز الثواب بالترك على
ورثته كما بيناه، والمعتبر في النفع والضرر
النظر إلى أوضاع التصرفات لا إلى ما يتفق بحكم
الحال اعتبره بالطلاق فإنه لا يملكه ولا وصيه
وإن كان يتفق نافعا في بعض الأحوال، وكذا إذا
أوصى ثم مات بعد الإدراك لعدم الأهلية وقت
المباشرة وكذا إذا قال إذا أدركت فثلث مالي
لفلان وصية لقصور أهليته فلا يملكه تنجيزا
وتعليقا كما في الطلاق والعتاق، بخلاف العبد
والمكاتب لأن أهليتهما مستتمة والمانع حق
المولى فتصح إضافته إلى حال سقوطه.
قال:
"ولا تصح وصية المكاتب وإن ترك وفاء"
لأن ماله لا يقبل التبرع، وقيل على قول أبي
حنيفة لا تصح، وعندهما تصح ردا لها إلى مكاتب
يقول كل مملوك أملكه فيما أستقبل فهو حر ثم
عتق فملك، والخلاف فيها معروف عرف في موضعه.
قال:
"وتجوز الوصية للحمل وبالحمل إذا وضع لأقل من
ستة أشهر من وقت الوصية" أما
الأول فلأن الوصية استخلاف من وجه لأنه يجعله
خليفة في بعض ماله والجنين صلح خليفة في الإرث
فكذا في الوصية إذ هي أخته، إلا أن يرتد بالرد
لما فيه من معنى التمليك، بخلاف الهبة، لأنها
تمليك محض ولا ولاية لأحد عليه ليملكه شيئا.
وأما الثاني فلأنه بعرض الوجود، إذ الكلام
فيما إذا علم وجوده وقت الوصية، وبابها أوسع
لحاجة الميت وعجزه، ولهذا تصح في غير الموجود
كالثمرة فلأن تصح في الموجود أولى.
قال:
"ومن أوصى بجارية إلا حملها صحت الوصية
والاستثناء" لأن اسم الجارية
لا يتناول الحمل لفظا ولكنه يستحق بالإطلاق
تبعا، فإذا أفرد الأم بالوصية صح إفرادها،
ولأنه يصح إفراد الحمل بالوصية فجاز استثناؤه،
وهذا هو الأصل أن ما يصح إفراده بالعقد يصح
استثناؤه منه، إذ لا فرق بينهما، وما لا يصح
إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه منه، وقد مر في
البيوع.
قال:
"ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية"
لأنه تبرع لم يتم فجاز الرجوع عنه كالهبة
ج / 4 ص -517-
وقد حققناه في كتاب
الهبة، ولأن القبول يتوقف على الموت والإيجاب
يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع.
قال:
"وإذا صرح بالرجوع أو فعل ما يدل على الرجوع
كان رجوعا" أما الصريح فظاهر،
وكذا الدلالة لأنها تعمل عمل الصريح فقام مقام
قوله قد أبطلت، وصار كالبيع بشرط الخيار فإنه
يبطل الخيار فيه بالدلالة، ثم كل فعل لو فعله
الإنسان في ملك الغير ينقطع به حق المالك،
فإذا فعله الموصي كان رجوعا، وقد عددنا هذه
الأفاعيل في كتاب الغصب. وكل فعل يوجب زيادة
في الموصى به ولا يمكن تسليم العين إلا بها
فهو رجوع إذا فعله، مثل السويق يلته بالسمن
والدار يبني فيه الموصي والقطن يحشو به
والبطانة يبطن بها والظهارة يظهر بها، لأنه لا
يمكنه تسليمه بدون الزيادة، ولا يمكن نقضها
لأنه حصل في ملك الموصي من جهته، بخلاف تخصيص
الدار الموصى بها وهدم بنائها لأنه تصرف في
التابع، وكل تصرف أوجب زوال ملك الموصي فهو
رجوع، كما إذا باع العين الموصى به ثم اشتراه
أو وهبه تم رجع فيه لأن الوصية لا تنفذ إلا في
ملكه، فإذا أزاله كان رجوعا. وذبح الشاة
الموصى بها رجوع لأنه للصرف إلى حاجته عادة،
فصار هذا المعنى أصلا أيضا، وغسل الثوب الموصى
به لا يكون رجوعا لأن من أراد أن يعطي ثوبه
غيره يغسله عادة فكان تقريرا.
قال:
"وإن جحد الوصية لم يكن رجوعا"
كذا ذكره محمد. وقال أبو يوسف: يكون رجوعا،
لأن الرجوع نفي في الحال والجحود نفي في
الماضي والحال، فأولى أن يكون رجوعا، ولمحمد
أن الجحود نفي في الماضي والانتفاء في الحال
ضرورة ذلك، وإذا كان ثابتا في الحال كان
الجحود لغوا، أو لأن الرجوع إثبات في الماضي
ونفي في الحال والجحود نفي في الماضي والحال
فلا يكون رجوعا حقيقة ولهذا لا يكون جحود
النكاح فرقة
"ولو قال كل وصية أوصيت بها لفلان فهو حرام
وربا لا يكون رجوعا" لأن
الوصف يستدعي بقاء الأصل
"بخلاف ما إذا قال فهي باطلة"
لأنه الذاهب المتلاشي
"ولو قال أخرتها لا يكون رجوعا"
لأن التأخير ليس للسقوط كتأخير الدين
"بخلاف ما إذا قال تركت" لأنه
إسقاط
"ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان فهو لفلان
كان رجوعا" لأن اللفظ يدل على
قطع الشركة
"بخلاف ما إذا أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر"
لأن المحل يحتمل الشركة واللفظ صالح لها
"وكذا إذا قال فهو لفلان وارثي يكون رجوعا عن
الأول" لما بينا ويكون وصية
للوارث. وقد ذكرنا حكمه
"ولو كان فلان الآخر ميتا حين أوصى فالوصية
الأولى على حالها" لأن الوصية
الأولى إنما تبطل ضرورة كونها للثاني ولم
يتحقق فبقي للأول
"ولو كان فلان حين قال ذلك حيا ثم مات قبل موت
الموصي فهي
ج / 4 ص -518-
للورثة" لبطلان الوصيتين الأولى بالرجوع والثانية بالموت، والله أعلم
بالصواب.
باب الوصية بثلث المال
قال:
"ومن أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بثلث ماله ولم
تجز الورثة فالثلث بينهما"
لأنه يضيق الثلث عن حقهما إذ لا يزاد عليه عند
عدم الإجازة على ما تقدم وقد تساويا في سبب
الاستحقاق فيستويان في الاستحقاق، والمحل يقبل
الشركة فيكون بينهما
"وإن أوصى لأحدهما بالثلث وللآخر بالسدس
فالثلث بينهما أثلاثا" لأن كل
واحد منها يدلي بسبب صحيح وضاق الثلث عن
حقيهما فيقتسمانه على قدر حقيهما كما في أصحاب
الديون فيجعل الأقل سهما والأكثر سهمين فصار
ثلاثة أسهم: سهم لصاحب الأقل وسهمان لصاحب
الأكثر
"وإن أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بثلث
ماله ولم تجز الورثة، فالثلث بينهما على أربعة
أسهم عندهما. وقال أبو حنيفة: الثلث بينهما
نصفان، ولا يضرب أبو حنيفة للموصى له بما زاد
على الثلث إلا في المحاباة والسعاية والدراهم
المرسلة" لهما في الخلافية أن
الموصي قصد شيئين الاستحقاق والتفضيل، وامتنع
الاستحقاق لحق الورثة ولا مانع من التفضيل
فيثبت كما في المحاباة وأختيها. وله أن الوصية
وقعت بغير المشروع عند عدم الإجازة من الورثة،
إذ لا نفاذ لها بحال فيبطل أصلا، والتفضيل
يثبت في ضمن الاستحقاق فبطل ببطلانه كالمحاباة
الثابتة في ضمن البيع، بخلاف مواضع الإجماع
لأن لها نفاذا في الجملة بدون إجازة الورثة
بأن كان في المال سعة فتعتبر في التفاضل لكونه
مشروعا في الجملة، بخلاف ما نحن فيه. وهذا
بخلاف ما إذا أوصى بعين من تركته وقيمته تزيد
على الثلث فإنه يضرب بالثلث وإن احتمل أن يزيد
المال فيخرج من الثلث، لأن هناك الحق تعلق
بعين التركة، بدليل أنه لو هلك واستفاد مالا
آخر تبطل الوصية، وفي الألف المرسلة لو هلكت
التركة تنفذ فيما يستفاد فلم يكن متعلقا بعين
ما تعلق به حق الورثة.
قال:
"وإذا أوصى بنصيب ابنه فالوصية باطلة. ولو
أوصى بمثل نصيب ابنه جاز" لأن
الأول وصية بمال الغير، لأن نصيب الابن ما
يصيبه بعد الموت والثاني وصية بمثل نصيب الابن
ومثل الشيء غيره وإن كان يتقدر به فيجوز، وقال
زفر: يجوز في الأول أيضا فينظر إلى الحال
والكل ماله فيه وجوابه ما قلنا.
قال:
"ومن أوصى بسهم من ماله فله أخس سهام الورثة
إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ولا يزاد
عليه، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: له مثل نصيب
أحد الورثة ولا يزاد على الثلث إلا أن يجيز
الورثة" لأن السهم يراد به
أحد سهام الورثة عرفا لا سيما في
ج / 4 ص -519-
الوصية، والأقل متيقن به فيصرف إليه، إلا إذا
زاد على الثلث فيرد عليه لأنه لا مزيد عليه
عند عدم إجازة الورثة. وله أن السهم هو السدس
هو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد
رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيما
يروى، ولأنه يذكر ويراد به السدس، فإن إياسا
قال: السهم في اللغة عبارة عن السدس، ويذكر
ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى ما ذكرنا،
قالوا: هذا كان في عرفهم، وفي عرفنا السهم
كالجزء.
قال:
"ولو أوصى بجزء من ماله قيل للورثة أعطوه ما
شئتم" لأنه مجهول يتناول
القليل والكثير، غير أن الجهالة لا تمنع صحة
الوصية والورثة قائمون مقام الموصي فإليهم
البيان.
قال:
"ومن قال سدس مالي لفلان ثم قال في ذلك المجلس
أو في مجلس آخر له ثلث مالي وأجازت الورثة فله
ثلث المال ويدخل السدس فيه، ومن قال سدس مالي
لفلان ثم قال في ذلك المجلس أو في غيره سدس
مالي لفلان فله سدس واحد" لأن
السدس ذكر معرفا بالإضافة إلى المال، والمعرفة
إذا أعيدت يراد بالثاني عين الأول هو المعهود
في اللغة.
قال:
"ومن أوصى بثلث دراهمه أو بثلث غنمه فهلك ثلثا
ذلك وبقي ثلثه وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله
فله جميع ما بقي" وقال زفر:
له ثلث ما بقي، لأن كل واحد منهما مشترك بينهم
والمال المشترك يتوى ما توي منه على الشركة
ويبقى ما بقي عليها وصار كما إذا كانت التركة
أجناسا مختلفة. ولنا أن في الجنس الواحد يمكن
جميع حق أحدهم في الواحد ولهذا يجري فيه الجبر
على القسمة وفيه جمع والوصية مقدمة فجمعناها
في الواحد الباقي وصارت الدراهم كالدرهم،
بخلاف الأجناس المختلفة لأنه لا يمكن الجمع
فيها جبرا فكذا تقديما.
قال:
"ولو أوصى بثلث ثيابه فهلك ثلثاها وبقي ثلثها
وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله لم يستحق إلا
ثلث ما بقي من الثياب"،
قالوا: هذا إذا كانت الثياب من أجناس مختلفة،
ولو كانت من جنس واحد فهو بمنزلة الدراهم،
وكذلك المكيل والموزون بمنزلتها لأنه يجري فيه
الجمع جبرا بالقسمة
"ولو أوصى بثلث ثلاثة من رقيقه فمات اثنان لم
يكن له إلا ثلث الباقي، وكذا الدور المختلفة"
وقيل هذا على قول أبي حنيفة وحده لأنه لا يرى
الجبر على القسمة فيها. وقيل هو قول الكل لأن
عندهما القاضي أن يجتهد ويجمع وبدون ذلك يتعذر
الجمع، والأول أشبه للفقه المذكور.
قال:
"ومن أوصى لرجل بألف درهم وله مال عين ودين
فإن خرج الألف من ثلث
ج / 4 ص -520-
العين دفع إلى الموصى له"
لأنه أمكن إيفاء كل ذي حق حقه من غير بخس
فيصار إليه، وإن لم يخرج دفع إليه ثلث العين،
وكلما خرج شيء من الدين أخذ ثلثه حتى يستوفي
الألف لأن الموصى له شريك الوارث، وفي تخصيصه
بالعين بخس في حق الورثة لأن للعين فضلا عن
الدين، ولأن الدين ليس بمال في مطلق الحال
وإنما يصير مالا عند الاستيفاء فإنما يعتدل
النظر بما ذكرناه.
قال:
"ومن أوصى لزيد وعمرو بثلث ماله فإذا عمرو ميت
فالثلث كله لزيد" لأن الميت
ليس بأهل للوصية فلا يزاحم الحي الذي هو من
أهلها، كما إذا أوصى لزيد وجدار. وعن أبي يوسف
رحمه الله أنه إذا لم يعلم بموته فله نصف
الثلث، لأن الوصية عنده صحيحة لعمرو فلم يرض
للحي إلا نصف الثلث بخلاف ما إذا علم بموته
لأن الوصية للميت لغو فكان راضيا بكل الثلث
للحي، وإن قال ثلث مالي بين زيد وعمرو وزيد
ميت كان لعمرو نصف الثلث، لأن قضية هذا اللفظ
أن يكون لكل واحد منهما نصف الثلث بخلاف ما
تقدم، ألا ترى أن من قال ثلث مالي لزيد وسكت
كان له كل الثلث، ولو قال ثلث مالي بين فلان
وسكت لم يستحق الثلث.
قال:
"ومن أوصى بثلث ماله ولا مال له واكتسب مالا
استحق الموصى له ثلث ما يملكه عند الموت"
لأن الوصية عقد استخلاف مضاف إلى ما بعد الموت
ويثبت حكمه بعد فيشترط وجود المال عند الموت
لا قبله، وكذلك إذا كان له مال فهلك ثم اكتسب
مالا لما بينا. ولو أوصى له بثلث غنمه فهلك
الغنم قبل موته أو لم يكن له غنم في الأصل
فالوصية باطلة لما ذكرنا أنه إيجاب بعد الموت
فيعتبر قيامه حينئذ، وهذه الوصية تعلقت بالعين
فتبطل بفواته عند الموت، وإن لم يكن له غنم
فاستفاد ثم مات فالصحيح أن الوصية تصح، لأنها
لو كانت بلفظ المال تصح، فكذا إذا كانت باسم
نوعه، وهذا لأن وجوده قبل الموت فضل والمعتبر
قيامه عند الموت؛ ولو قال له شاة من مالي وليس
له غنم يعطي قيمة شاة لأنه لما أضافه إلى
المال علمنا أن مراده الوصية بمالية الشاة إذ
ماليتها توجد في مطلق المال، ولو أوصى بشاة
ولم يضفه إلى ماله ولا غنم قيل لا يصح لأن
المصحح إضافته إلى المال وبدونها تعتبر صورة
الشاة ومعناها، وقيل تصح لأنه لما ذكر الشاة
وليس في ملكه شاة علم أن مراده المالية؛ ولو
قال شاة من غنمي ولا غنم له فالوصية باطلة،
لأنه لما أضافه إلى الغنم علمنا أن مراده عين
الشاة حيث جعلها جزءا من الغنم، بخلاف ما إذا
أضافه إلى المال وعلى هذا يخرج كثير من
المسائل.
قال:
"ومن أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده وهن ثلاث
وللفقراء والمساكين فلهن
ج / 4 ص -521-
ثلاثة أسهم من خمسة أسهم"
قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله. وعن محمد رحمه الله أنه
يقسم على سبعة أسهم لهن ثلاثة ولكل فريق
سهمان، وأصله أن الوصية لأمهات الأولاد جائزة
والفقراء والمساكين جنسان، وفسرناهما في
الزكاة لمحمد رحمه الله أن المذكور لفظ الجمع
وأدناه في الميراث اثنان نجد ذلك في القرآن
فكان من كل فريق اثنان وأمهات الأولاد ثلاث
فلهذا يقسم على سبعة. ولهما أن الجمع المحلى
بالألف واللام يراد به الجنس، وأنه بتناول
الأدنى مع احتمال الكل، لا سيما عند تعذر صرفه
إلى الكل فيعتبر من كل فريق واحد فبلغ الحساب
خمسة والثلاثة للثلاث.
قال:
"ولو أوصى بثلثه لفلان وللمساكين فنصفه لفلان
ونصفه للمساكين عندهما" وعند
محمد ثلثه لفلان وثلثاه للمساكين، ولو أوصى
للمساكين له صرفه إلى مسكين واحد عندهما،
وعنده لا يصرف إلا إلى مسكينين بناء على ما
بيناه.
قال:
"ومن أوصى لرجل بمائة درهم ولآخر بمائة ثم قال
لآخر قد أشركتك معهما فله ثلث كل مائة"
لأن الشركة للمساواة لغة، وقد أمكن إثباته بين
الكل بما قلناه لاتحاد المال لأنه يصيب كل
واحد منهم ثلثا مائة، بخلاف ما إذا أوصى لرجل
بأربعمائة ولآخر بمائتين ثم كان الإشراك لأنه
لا يمكن تحقيق المساواة بين الكل لتفاوت
المالين فحملناه على مساواته كل واحد بتنصيف
نصيبه عملا باللفظ بقدر الإمكان.
قال:
"ومن قال لفلان علي دين فصدقوه"
معناه قال ذلك لورثته
"فإنه يصدق إلى الثلث" وهذا
استحسان. وفي القياس لا يصدق لأن الإقرار
بالمجهول وإن كان صحيحا لكنه لا يحكم به إلا
بالبيان وقوله فصدقوه صدر مخالفا للشرع لأن
المدعي لا يصدق إلا بحجة فتعذر إثباته إقرارا
مطلقا فلا يعتبر، وجه الاستحسان أنا نعلم أن
من قصده تقديمه على الورثة وقد أمكن تنفيذ
قصده بطريق الوصية وقد يحتاج إليه من يعلم
بأصل الحق عليه دون مقداره سعيا منه في تفريغ
ذمته فبجعلها وصية جعل التقدير فيها إلى
الموصى له كأنه قال إذا جاءكم فلان وادعى شيئا
فأعطوه من مالي ما شاء، وهذه معتبرة من الثلث
فلهذا يصدق على الثلث دون الزيادة.
قال:
"وإن أوصى بوصايا غير ذلك يعزل الثلث لأصحاب
الوصايا والثلثان للورثة" لأن
ميراثهم معلوم. وكذا الوصايا معلومة وهذا
مجهول فلا يزاحم المعلوم فيقدم عزل المعلوم،
وفي الإفراز فائدة أخرى وهو أن أحد الفريقين
قد يكون أعلم بمقدار هذا الحق وأبصر به،
والآخر ألد خصاما، وعساهم يختلفون في الفضل
إذا ادعاه الخصم وبعد الإفراز
ج / 4 ص -522-
يصح
إقرار كل واحد فيما في يده من غير منازعة
"وإذا عزل يقال لأصحاب الوصايا صدقوه فيما
شئتم ويقال للورثة صدقوه فيما شئتم"
لأن هذا دين في حق المستحق وصية في حق
التنفيذ، فإذا أقر كل فريق بشيء ظهر أن في
التركة دينا شائعا في النصيبين
"فيؤخذ أصحاب الثلث بثلث ما أقروا والورثة
بثلثي ما أقروا" تنفيذا
لإقرار كل فريق في قدر حقه وعلى كل فريق منهما
اليمين على العلم إن ادعى المقر له زيادة على
ذلك لأنه يحلف على ما جرى بينه وبين غيره.
قال:
"ومن أوصى لأجنبي ولوارثه فللأجنبي نصف الوصية
وتبطل وصية الوارث" لأنه أوصى
بما يملك الإيصاء به وبما لا يملك فصح في
الأول وبطل في الثاني، بخلاف ما إذا أوصى لحي
وميت لأن الميت ليس بأهل للوصية فلا يصلح
مزاحما فيكون الكل للحي والوارث من أهلها
ولهذا تصح بإجازة الورثة فافترقا، وعلى هذا
إذا أوصى للقاتل وللأجنبي، وهذا بخلاف ما إذا
أقر بعين أو دين لوارثه وللأجنبي حيث لا يصح
في حق الأجنبي أيضا، لأن الوصية إنشاء تصرف
والشركة تثبت حكما له فتصح في حق من يستحقه
منهما وأما الإقرار فإخبار عن كائن، وقد أخبر
بوصف الشركة في الماضي، ولا وجه إلى إثباته
بدون هذا الوصف لأنه خلاف ما أخبر به، ولها
إلى إثبات الوصف لأنه يصير الوارث فيه شريكا
ولأنه لو قبض الأجنبي شيئا كان للوارث أن
يشاركه فيبطل في ذلك القدر ثم لا يزال يقبض
ويشاركه الوارث حتى يبطل الكل فلا يكون مفيدا
وفي الإنشاء حصة أحدهما ممتازة عن حصة الآخر
بقاء وبطلانا.
قال:
"ومن كان له ثلاثة أثواب جيد ووسط ورديء فأوصى
بكل واحد لرجل فضاع ثوب ولا يدري أيها هو
والورثة تجحد ذلك فالوصية باطلة"
ومعنى جحودهم أن يقول الوارث لكل واحد منهم
بعينه الثوب الذي هو حقك قد هلك فكان المستحق
مجهولا وجهالته تمنع صحة القضاء وتحصيل
المقصود فبطل.
قال:
"إلا أن يسلم الورثة الثوبين الباقيين، فإن
سلموا زال المانع وهو الجحود فيكون لصاحب
الجيد ثلثا الثوب الأجود، ولصاحب الأوسط ثلث
الجيد وثلث الأدون فثبت الأدون، ولصاحب الأدون
ثلثا الثوب الأدون" لأن صاحب
الجيد لا حق له في الرديء بيقين، لأنه إما أن
يكون وسطا أو رديئا ولا حق له فيهما، وصاحب
الرديء لا حق له في الجيد الباقي بيقين، لأنه
إما أن يكون جيدا أو وسطا ولا حق له فيهما،
ويحتمل أن يكون الرديء هو الرديء الأصلي فيعطى
من محل الاحتمال، وإذا ذهب ثلثا الجيد وثلثا
الأدون لم يبق إلا ثلث الجيد وثلث الرديء
فيتعين حق صاحب الوسط فيه بعينه ضرورة.
ج / 4 ص -523-
قال:
"وإذا كانت الدار بين رجلين فأوصى أحدهما ببيت
بعينه لرجل فإنها تقسم، فإن وقع البيت في نصيب
الموصي فهو للموصى له" عند
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد
نصفه للموصى له، وإن وقع في نصيب الآخر فللوصي
له مثل درع البيت، وهذا عند أبي حنيفة وأبي
يوسف. وقال محمد: مثل ذرع نصف البيت له أنه
أوصى بملكه وبملك غيره، لأن الدار بجميع
أجزائها مشتركة فينفذ الأول ويوقف الثاني، وهو
أن ملكه بعد ذلك بالقسمة التي هي مبادلة لا
تنفذ الوصية السالفة، كما إذا أوصى بملك الغير
ثم اشتراه، ثم إذا اقتسموها ووقع البيت في
نصيب الموصي تنفذ الوصية في عين الموصى به وهو
نصف البيت، وإن وقع في نصيب صاحبه له مثل ذرع
نصف البيت تنفيذا للوصية في بدل الموصى به عند
فواته كالجارية الموصى بها إذا قتلت خطأ تنفذ
الوصية في بدلها، بخلاف ما إذا بيع العبد
الموصى به حيث لا تتعلق الوصية بثمنه، لأن
الوصية تبطل بالإقدام على البيع على ما بيناه
ولا تبطل بالقسمة.
ولهما أنه أوصى بما يستقر ملكه فيه بالقسمة،
لأن الظاهر أنه بقصد الإيصاء بملك منتفع به من
كل وجه وذلك يكون بالقسمة، لأن الانتفاع
بالمشاع قاصر وقد استقر ملكه في جميع البيت
إذا وقع في نصيبه فتنفذ الوصية فيه، ومعنى
المبادلة في هذه القسمة تابع، وإنما المقصود
الإفراز تكميلا للمنفعة ولهذا يجبر على القسمة
فيه، وعلى اعتبار الإفراز يصير كأن البيت ملكه
من الابتداء. وإن وقع في نصيب الآخر تنفذ في
قدر ذرعان جميعه مما وقع في نصيبه، إما لأنه
عوضه كما ذكرناه، أو لأن مراد الموصي من ذكر
البيت التقدير به تحصيلا لمقصوده ما أمكن، إلا
أنه يتعين البيت إذا وقع في نصيبه جمعا بين
الجهتين التقدير والتمليك، وإن وقع في نصيب
الآخر عملنا بالتقدير، أو لأنه أراد التقدير
على اعتبار أحد الوجهين والتمليك بعينه على
اعتبار الوجه الآخر، كما إذا علق عتق الولد
وطلاق المرأة بأول ولد تلده أمته، فالمراد في
جزاء الطلاق مطلق الولد وفي العتق ولد حي ثم
إذا وقع البيت في نصيب غير الموصي والدار مائة
ذراع والبيت عشرة أذرع يقسم نصيبه بين الموصى
له وبين الورثة على عشرة أسهم: تسعة منها
للورثة وسهم للموصى له، وهذا عند محمد فيضرب
الموصى له بخمسة أذرع نصف البيت وهم بنصف
الدار سوى البيت وهو خمسة وأربعون فيجعل كل
خمسة سهما فيصير عشرة، وعندهما يقسم على أحد
عشر سهما لأن الموصى له يضرب بالعشرة وهم
بخمسة وأربعين فتصير السهام أحد عشر للموصى له
سهمان ولهم تسعة، ولو كان مكان الوصية إقرار
قيل هو على الخلاف، وقيل لا خلاف فيه لمحمد.
والفرق له أن الإقرار بملك الغير صحيح، حتى إن
من أقر
ج / 4 ص -524-
بملك
الغير لغيره ثم ملكه يؤمر بالتسليم إلى المقر
له، والوصية بملك الغير لا تصح، حتى لو ملكه
بوجه من الوجوه ثم مات لا تصح وصيته ولا تنفذ.
قال:
"ومن أوصى من مال رجل لآخر بألف بعينه فأجاز
صاحب المال بعد موت الموصي فإن دفعه فهو جائز
وله أن يمنع" لأن هذا تبرع
بمال الغير فيتوقف على إجازته، وإذا أجاز يكون
تبرعا منه أيضا فله أن يمتنع من التسليم،
بخلاف ما إذا أوصى بالزيادة على الثلث وأجازت
الورثة لأن الوصية في مخرجها صحيحة لمصادفتها
ملك نفسه والامتناع لحق الورثة، فإذا أجازوها
سقط حقهم فنفذ من جهة الموصي.
قال:
"وإذا اقتسم الابنان تركة الأب ألفا ثم أقر
أحدهما لرجل أن الأب أوصى له بثلث ماله فإن
المقر يعطيه ثلث ما في يده"
وهذا استحسان والقياس أن يعطيه نصف ما في يده
وهو قول زفر رحمه الله، لأن إقراره بالثلث له
تضمن إقراره بمساواته إياه، والتسوية في إعطاء
النصف ليبقى له النصف. وجه الاستحسان أنه أقر
له بثلث شائع في التركة وهي في أيديهما فيكون
مقرا بثلث ما في يده، بخلاف ما إذا أقر أحدهما
بدين لغيره لأن الدين مقدم على الميراث فيكون
مقرا بتقديمه فيقدم عليه، أما الموصى له
بالثلث شريك الوارث فلا يسلم له شيء إلا أن
يسلم للورثة مثلاه، ولأنه لو أخذ منه نصف ما
في يده فربما يقر الابن الآخر به أيضا فيأخذ
نصف ما في يده فيصير نصف التركة فيزاد على
الثلث.
قال:
"ومن أوصى لرجل بجارية فولدت بعد موت الموصي
ولدا وكلاهما يخرجان من الثلث فهما للموصى له"
لأن الأم دخلت في الوصية أصالة والولد تبعا
حين كان متصلا بالأم، فإذا ولدت قبل القسمة
والتركة قبلها مبقاة على ملك الميت حتى يقضى
بها ديونه دخل في الوصية فيكونان للموصي له
"وإن لم يخرجا من الثلث ضرب بالثلث
وأخذ ما يخصه منهما جميعا في قول أبي يوسف
ومحمد. وقال أبو حنيفة: يأخذ ذلك من الأم، فإن
فضل شيء أخذه من الولد". وفي
الجامع الصغير عين صورة وقال: رجل له ستمائة
درهم وأمة تساوي ثلاثمائة درهم فأوصى بالجارية
لرجل ثم مات فولدت ولدا يساوي ثلاثمائة درهم
قبل القسمة فللموصى له الأم وثلث الولد عنده.
وعندهما له ثلثا كل واحد منهما. لهما ما ذكرنا
أن الولد دخل في الوصية تبعا حالة الاتصال فلا
يخرج عنها بالانفصال كما في البيع والعتق
فتنفذ الوصية فيهما على السواء من غير تقديم
الأم. وله أن الأم أصل والولد تبع والتبع لا
يزاحم الأصل، فلو نفذنا الوصية فيهما جميعا
تنتقض الوصية في بعض الأصل وذلك لا يجوز بخلاف
البيع لأن تنفيذ البيع في التبع لا يؤدي إلى
نقضه في الأصل بل يبقى
ج / 4 ص -525-
تاما
صحيحا فيه، إلا أنه لا يقابله بعض الثمن ضرورة
مقابلته بالولد إذا اتصل به القبض ولكن الثمن
تابع في البيع حتى ينعقد البيع بدون ذكره وإن
كان فاسدا
"هذا إذا ولدت قبل القسمة، فإن ولدت
بعد القسمة فهو للموصى له"
لأنه نماء خالص ملكه لتقرر ملكه فيه بعد
القسمة.
فصل: في اعتبار حالة الوصية
قال:
"وإذا أقر المريض لامرأة بدين أو أوصى لها
بشيء أو وهب لها ثم تزوجها ثم مات جاز الإقرار
وبطلت الوصية والهبة" لأن
الإقرار ملزم بنفسه وهي أجنبية عند صدوره،
ولهذا يعتبر من جميع المال، ولا يبطل بالدين
إذا كان في حالة الصحة أو في حالة المرض، إلا
أن الثاني يؤخر عنه، بخلاف الوصية لأنها إيجاب
عند الموت وهي وارثة عند ذلك، ولا وصية
للوارث، والهبة وإن كانت منجزة صورة فهي
كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما لأن حكمها
يتقرر عند الموت؛ ألا ترى أنها تبطل بالدين
المستغرق وعند عدم الدين تعتبر من الثلث.
قال:
"وإذا أقر المريض لابنه بدين وابنه نصراني أو
وهب له أو أوصى له فأسلم الابن قبل موته بطل
ذلك كله". أما الهبة والوصية
فلما قلنا إنه وارث عند الموت وهما إيجابان
عنده أو بعده، والإقرار وإن كان ملزما بنفسه
ولكن سبب الإرث وهو البنوة قائم وقت الإقرار
فيعتبر في إيراث تهمة الإيثار، بخلاف ما تقدم
لأن سبب الإرث الزوجية وهي طارئة حتى لو كانت
الزوجية قائمة وقت الإقرار وهي نصرانية ثم
أسلمت قبل موته لا يصح الإقرار لقيام السبب
حال صدوره، وكذا لو كان الابن عبدا أو مكاتبا
فأعتق لما ذكرنا وذكر في كتاب الإقرار إن لم
يكن عليه دين يصح لأنه أقر لمولاه وهو أجنبي،
وإن كان عليه دين لا يصح لأنه إقرار له وهو
ابنه، والوصية باطلة لما ذكرنا أن المعتبر
فيها وقت الموت. وأما الهبة فيروى أنها تصح
لأنها تمليك في الحال وهو رقيق، وفي عامة
الروايات هي في مرض الموت بمنزلة الوصية فلا
تصح.
قال:
"والمقعد والمفلوج والأشل والمسلول إذا تطاول
ذلك ولم يخف منه الموت فهبته من جميع المال"
لأنه إذا تقادم العهد صار طبعا من طباعه ولهذا
لا يشتغل بالتداوي، ولو صار صاحب فراش بعد ذلك
فهو كمرض حادث
"وإن وهب عند ما أصابه ذلك ومات من أيامه فهو
من الثلث إذا صار صاحب فراش"
لأنه يخاف منه الموت ولهذا يتداوى فيكون مرض
الموت، والله أعلم بالصواب.
ج / 4 ص -526-
باب العتق في مرض الموت
قال:
"ومن أعتق في مرضه عبدا أو باع وحابى أو وهب
فذلك كله جائز وهو معتبر من الثلث، ويضرب به
مع أصحاب الوصايا". وفي بعض
النسخ فهو وصية مكان قوله جائز، والمراد
الاعتبار من الثلث والضرب مع أصحاب الوصايا لا
حقيقة الوصية لأنها إيجاب بعد الموت وهذا منجز
غير مضاف، واعتباره من الثلث لتعلق حق الورثة،
وكذلك ما ابتدأ المريض إيجابه على نفسه
كالضمان والكفالة في حكم الوصية لأنه يتهم فيه
كما في الهبة، وكل ما أوجبه بعد الموت فهو من
الثلث، وإن أوجبه في حال صحته اعتبارا بحالة
الإضافة دون حالة العقد، وما نفذه من التصرف
فالمعتبر فيه حالة العقد، فإن كان صحيحا فهو
من جميع المال وإن كان مريضا فمن الثلث، وكل
مرض صح منه فهو كحال الصحة لأن بالبرء تبين
أنه لا حق في ماله.
قال:
"وإن حابى ثم أعتق وضاق الثلث عنهما
فالمحاباة أولى عند أبي حنيفة، وإن أعتق ثم
حابى فهما سواء، وقالا: العتق أولى في
المسألتين" والأصل فيه أن
الوصايا إذا لم يكن فيها ما جاوز الثلث فكل من
أصحابها يضرب بجميع وصيته في الثلث لا يقدم
البعض على البعض إلا الموقع في المرض، والعتق
المعلق بموت الموصي كالتدبير الصحيح والمحاباة
في البيع إذا وقعت في المرض لأن الوصايا قد
تساوت، والتساوي في سبب الاستحقاق يوجب
التساوي في نفس الاستحقاق، وإنما قدم العتق
الذي ذكرناه آنفا لأنه أقوى فإنه لا يلحقه
الفسخ من جهة الموصي، وغيره يلحقه. وكذلك
المحاباة لا يلحقها الفسخ من جهة الموصي، وإذا
تقدم ذلك فما بقي من الثلث بعد ذلك يستوي فيه
من سواهما من أهل الوصايا، ولا يقدم البعض على
البعض. لهما في الخلافية أن العتق أقوى لأنه
لا يلحقه الفسخ والمحاباة يلحقها، ولا معتبر
بالتقديم الذكر لأنه لا يوجب التقدم في
الثبوت. وله أن المحاباة أقوى، لأنها تثبت في
ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا بمعناه لا
بصيغته، والإعتاق تبرع صيغة ومعنى، فإذا وجدت
المحاباة أولا دفع الأضعف، وإذا وجد العتق
أولا وثبت وهو لا يحتمل الدفع كان من ضرورته
المزاحمة، وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله:
إذا حابى ثم أعتق ثم حابى قسم الثلث بين
المحاباتين نصفين لتساويهما، ثم ما أصاب
المحاباة الأخيرة قسم بينها وبين العتق لأن
العتق مقدم عليها فيستويان، ولو أعتق ثم حابى
ثم أعتق قسم الثلث بين العتق الأول والمحاباة
نصفين، وما أصاب العتق قسم بينه وبين العتق
الثاني، وعندهما العتق أولى بكل حال.
قال:
"ومن أوصى بأن يعتق عنه بهذه المائة عبد فهلك
منها درهم لم يعتق عنه بما بقي
ج / 4 ص -527-
عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كانت وصيته بحجة
يحج عنه بما بقي من حيث يبلغ، وإن لم يهلك
منها وبقي شيء من الحجة يرد على الورثة.
وقالا: يعتق عنه بما بقي" لأنه وصية بنوع قربة فيجب تنفيذها ما أمكن اعتبارا بالوصية بالحج.
وله أنه وصية بالعتق لعبد يشتري بمائة
وتنفيذها فيمن يشتري بأقل منه تنفيذ لغير
الموصى له، وذلك لا يجوز، بخلاف الوصية بالحج
لأنها قربة محضة وهي حق الله تعالى والمستحق
لم يتبدل فصار كما إذا أوصى لرجل بمائة فهلك
بعضها يدفع الباقي إليه.
وقيل هذه المسألة بناء على أصل آخر مختلف فيه
وهو أن العتق حق الله تعالى عندهما حتى تقبل
الشهادة عليه من غير دعوى فلم يتبدل المستحق،
وعنده حق العبد حتى لا تقبل البينة عليه من
غير دعوى، فاختلف المستحق وهذا أشبه.
قال:
"ومن ترك ابنين ومائة درهم وعبدا قيمته مائة
درهم وقد كان أعتقه في مرضه فأجاز الوارثان
ذلك لم يسع في شيء" لأن العتق
في مرض الموت وإن كان في حكم الوصية وقد وقعت
بأكثر من الثلث إلا أنها تجوز بإجازة الورثة،
لأن الامتناع لحقهم وقد أسقطوه.
قال:
"ومن أوصى بعتق عبده ثم مات فجنى جناية ودفع
بها بطلت الوصية" لأن الدفع
قد صح لما أن حق ولي الجناية مقدم على حق
الموصي، فكذلك على حق الموصى له لأنه يتلقى
الملك من جهته إلا أن ملكه فيه باق، وإنما
يزول بالدفع فإذا خرج به عن ملكه بطلت الوصية
كما إذا باعه الموصي أو وارثه بعد موته، فإن
فداه الورثة كان الفداء في مالهم لأنهم هم
الذين التزموه، وجازت الوصية لأن العبد طهر عن
الجناية بالفداء كأنه لم يجن فتنفذ الوصية.
قال:
"ومن أوصى بثلث ماله لآخر فأقر الموصى له
والوارث أن الميت أعتق هذا العبد فقال الموصى
له أعتقه في الصحة وقال الوارث أعتقه في المرض
فالقول قول الوارث، ولا شيء للموصى له إلا أن
يفضل من الثلث شيء أو تقوم له البينة أن العتق
في الصحة" لأن الموصى له يدعي
استحقاق ثلث ما بقي من التركة بعد العتق لأن
العتق في الصحة ليس بوصية ولهذا ينفذ من جميع
المال، والوارث ينكر لأن مدعاه العتق في المرض
وهو وصية، والعتق في المرض مقدم على الوصية
بثلث المال فكان منكرا، والقول قول المنكر مع
اليمين؛ ولأن العتق حادث والحوادث تضاف إلى
أقرب الأوقات للتيقن بها فكان الظاهر شاهدا
للوارث فيكون القول قوله مع اليمين، إلا أن
يفضل شيء من الثلث على قيمة العبد لأنه لا
مزاحم له فيه أو تقوم له البينة أن العتق في
الصحة لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة وهو
خصم في إقامتها لإثبات حقه.
ج / 4 ص -528-
قال:
"ومن ترك عبدا فقال للوارث أعتقني أبوك في
الصحة وقال رجل لي على أبيك ألف درهم فقال
صدقتما فإن العبد يسعى في قيمته عند أبي حنيفة
وقالا: يعتق ولا يسعى في شيء"،
لأن الدين والعتق في الصحة ظهرا معا بتصديق
الوارث في كلام واحد فصارا كأنهما كانا معا،
والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على
المعتق دين. وله أن الإقرار بالدين أقوى لأنه
يعتبر من جميع المال، والإقرار بالعتق في
المرض يعتبر من الثلث، والأقوى يدفع الأدنى،
فقضيته أن يبطل العتق أصلا إلا أنه بعد وقوعه
لا يحتمل البطلان فيدفع من حيث المعنى بإيجاب
السعاية، ولأن الدين أسبق لأنه لا مانع له من
الاستناد فيستند إلى حالة الصحة، ولا يمكن
إسناد العتق إلى تلك الحالة لأن الدين يمنع
العتق في حالة المرض مجانا فتجب السعاية، وعلى
هذا الخلاف إذا مات الرجل وترك ألف درهم فقال
رجل لي على الميت ألف درهم دين وقال الآخر كان
لي عنده ألف درهم وديعة فعنده الوديعة أقوى
وعندهما سواء، والله أعلم.
فصل: قال: "ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى
قدمت الفرائض منها قدمها الموصي أو أخرها مثل
الحج والزكاة والكفارات"
لأن الفريضة
أهم من النافلة، والظاهر منه البداءة بما هو
الأهم
"فإن تساوت في القوة بدئ بما قدمه الموصي إذا
ضاق عنها الثلث" لأن الظاهر
أنه يبتدئ بالأهم.
وذكر الطحاوي أنه يبتدئ بالزكاة ويقدمها على
الحج وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وفي
رواية عنه أنه يقدم الحج وهو قول محمد. وجه
الأولى أنهما وإن استويا في الفريضة فالزكاة
تعلق بها حق العباد فكان أولى. وجه الأخرى أن
الحج يقام بالمال والنفس والزكاة بالمال قصرا
عليه فكان الحج أقوى، ثم تقدم الزكاة والحج
على الكفارات لمزيتهما عليها في القوة، إذ قد
جاء فيهما من الوعيد ما لم يأت في الكفارات،
والكفارة في القتل والظهار واليمين مقدمة على
صدقة الفطر لأنه عرف وجوبها دون صدقة الفطر،
وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية للاتفاق على
وجوبها بالقرآن والاختلاف في الأضحية، وعلى
هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض.
قال:
"وما ليس بواجب قدم منه ما قدمه الموصي"
لما بينا وصار كما إذا صرح بذلك. قالوا: إن
الثلث يقسم على جميع الوصايا ما كان لله تعالى
وما كان للعبد، فما أصاب القرب صرف إليها على
الترتيب الذي ذكرناه ويقسم على عدد القرب ولا
يجعل الجميع كوصية
ج / 4 ص -529-
واحدة،
لأنه إن كان المقصود بجميعها رضا لله تعالى
فكل واحدة في نفسها مقصود فتنفرد كما تنفرد
وصايا الآدميين.
قال:
"ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلا من
بلده يحج راكبا" لأن الواجب
لله تعالى الحج من بلده ولهذا يعتبر فيه من
المال ما يكفيه من بلده والوصية لأداء ما هو
الواجب عليه وإنما قال راكبا لأنه لا يلزمه أن
يحج ماشيا فانصرف إليه على الوجه الذي وجب
عليه.
قال:
"فإن لم تبلغ الوصية النفقة أحجوا عنه من حيث
تبلغ" وفي القياس لا يحج عنه،
لأنه أمر بالحجة على صفة عدمناها فيه، غير أنا
جوزناه لأنا نعلم أن الموصي قصد تنفيذ الوصية
فيجب تنفيذها ما أمكن والممكن فيه ما ذكرناه،
وهو أولى من إبطالها رأسا، وقد فرقنا بين هذا
وبين الوصية بالعتق من قبل.
قال:
"ومن خرج من بلده حاجا فمات في الطريق وأوصى
أن يحج عنه يحج عنه من بلده"
عند أبي حنيفة وهو قول زفر. وقال أبو يوسف
ومحمد. يحج عنه من حيث بلغ استحسانا، وعلى هذا
الخلاف إذا مات الحاج عن غيره في الطريق. لهما
أن السفر بنية الحج وقع قربة وسقط فرض قطع
المسافة بقدره وقد وقع أجره على الله فيبتدئ
من ذلك المكان كأنه من أهله، بخلاف سفر
التجارة لأنه لم يقع قربة فيحج عنه من بلده.
وله أن الوصية تنصرف إلى الحج من بلده على ما
قررناه أداء للواجب على الوجه الذي وجب، والله
أعلم.
باب الوصية للأقارب وغيرهم
قال:
"ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون عند أبي
حنيفة، وقالا: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن
محلة الموصي ويجمعهم مسجد المحلة"
وهذا استحسان. وقوله قياس لأن الجار من
المجاورة وهي الملاصقة حقيقة ولهذا يستحق
الشفعة بهذا الجوار، ولأنه لما صرفه إلى
الجميع يصرف إلى أخص الخصوص وهو الملاصق. وجه
الاستحسان أن هؤلاء كلهم يسمون جيرانا عرفا،
وقد تأيد بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"
وفسره بكل من سمع النداء، ولأن المقصد بر
الجيران واستحبابه ينتظم الملاصق وغيره، إلا
أنه لا بد من الاختلاط وذلك عند اتحاد المسجد،
وما قاله الشافعي رحمه الله: الجوار إلى
أربعين دارا بعيد، وما يروى فيه ضعيف. قالوا:
ويستوي فيه الساكن والمالك والذكر والأنثى
والمسلم الذمي لأن اسم الجار يتناولهم ويدخل
فيه العبد
ج / 4 ص -530-
الساكن
عنده لإطلاقه، ولا يدخل عندهما لأن الوصية له
وصية لمولاه وهو غير ساكن.
قال:
"ومن أوصى لأصهاره فالوصية لكل ذي رحم محرم من
امرأته" لما روي
"أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تزوج صفية أعتق كل من ملك من ذي رحم
محرم منها إكراما لها"
وكانوا يسمون أصهار النبي عليه الصلاة
والسلام. وهذا التفسير اختيار محمد وأبي
عبيدة، وكذا يدخل فيه كل ذي رحم محرم من زوجة
أبيه وزوجة ابنه وزوجة كل ذي رحم محرم منه لأن
الكل أصهار. ولو مات الموصي والمرأة في نكاحه
أو في عدته من طلاق رجعي فالصهر يستحق الوصية
وإن كانت في عدة من طلاق بائن لا يستحقها لأن
بقاء الصهرية ببقاء النكاح وهو شرط عند الموت.
قال:
"ومن أوصى لأختانه فالوصية لزوج كل ذات رحم
محرم منه وكذا محارم الأزواج"
لأن الكل يسمى ختنا. قيل هذا في عرفهم. وفي
عرفنا لا يتناول الأزواج المحارم، ويستوي فيه
الحر والعبد والأقرب والأبعد. لأن اللفظ
يتناول الكل.
قال:
"ومن أوصى لأقاربه فهي للأقرب فالأقرب من كل
ذي رحم محرم منه، ولا يدخل فيه الوالدان
والولد ويكون ذلك للاثنين فصاعدا، وهذا عند
أبي حنيفة، وقال صاحباه: الوصية لكل من ينسب
إلى أقصى أب له في الإسلام"
وهو أول أب أسلم أو أول أب أدرك الإسلام وإن
لم يسلم على حسب ما اختلف فيه المشايخ. وفائدة
الاختلاف تظهر في أولاد أبي طالب فإنه أدرك
الإسلام ولم يسلم. لهما أن القريب مشتق من
القرابة فيكون اسما لمن قامت به فينتظم بحقيقة
مواضع الخلاف. وله أن الوصية أخت الميراث، وفي
الميراث يعتبر الأقرب فالأقرب، والمراد بالجمع
المذكور فيه اثنان فكذا في الوصية، والمقصد من
هذه الوصية تلاقي ما فرط في إقامة واجب الصلة
وهو يختص بذي الرحم المحرم منه، ولا يدخل فيه
قرابة الولاد فإنهم لا يسمون أقرباء، ومن سمى
والده قريبا كان منه عقوقا، وهذا لأن القريب
في عرف اللسان من يتقرب إلى غيره بوسيلة غيره،
وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره، ولا
معتبر بظاهر اللفظ بعد انعقاد الإجماع على
تركه، فعنده يقيد بما ذكرناه، وعندهما بأقصى
الأب في الإسلام، وعند الشافعي بالأب الأدنى.
قال:
"وإذا أوصى لأقاربه وله عمان وخالان فالوصية
لعميه" عنده اعتبار للأقرب
كما في الإرث، وعندهما بينهم أرباعا إذ هما لا
يعتبران الأقرب
"ولو ترك عما وخالين فللعم نصف الوصية والنصف
للخالين" لأنه لا بد من
اعتبار معنى الجميع وهو الاثنان في الوصية
ج / 4 ص -531-
كما في
الميراث بخلاف ما إذا أوصى لذي قرابته حيث
يكون للعم كل الوصية، لأن اللفظ للفرد فيحرز
الواحد كلها إذ هو الأقرب، ولو كان له عم واحد
فله الثلث لما بيناه، ولو ترك عما وعمة وخالا
وخالة فالوصية للعم والعمة بينهما بالسوية
لاستواء قرابتهما وهي أقوى، والعمة وإن لم تكن
وارثة فهي مستحقة للوصية كما لو كان القريب
رقيقا أو كافرا، وكذا إذا أوصى لذوي قرابته أو
لأقربائه أو لأنسبائه في جميع ما ذكرنا، لأن
كل ذلك لفظ جمع، ولو انعدم المحرم بطلت الوصية
لأنها مقيدة بهذا الوصف.
قال:
"ومن أوصى لأهل فلان فهي على زوجته عند أبي
حنيفة"، وقال: يتناول كل من
يعولهم وتضمهم نفقته اعتبارا للعرف وهو مؤيد
بالنص، قال الله تعالى:
{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:93] وله أن اسم الأهل حقيقة في الزوجة يشهد بذلك قوله تعالى:
{وَسَارَ
بِأَهْلِهِ}
[القصص:29] ومنه قولهم تأهل ببلدة كذا، والمطلق ينصرف إلى الحقيقة.
قال:
"ولو أوصى لآل فلان فهو لأهل بيته"
لأن الآل القبيلة التي ينسب إليها، ولو أوصى
لأهل بيت فلان يدخل فيه أبوه وجده لأن الأب
أصل البيت، ولو أوصى لأهل نسبه أو لجنسه
فالنسب عبارة عمن ينسب إليه، والنسب يكون من
جهة الآباء، وجنسه أهل بيت أبيه دون أمه لأن
الإنسان يتجنس بأبيه، بخلاف قرابته حيث تكون
من جانب الأم والأب، ولو أوصى لأيتام بني فلان
أو لعميانهم أو لزمناهم أو لأراملهم إن كانوا
قوما يحصون دخل في الوصية فقراؤهم وأغنياؤهم
ذكورهم وإناثهم، لأنه أمكن تحقيق التمليك في
حقهم والوصية تمليك. وإن كانوا لا يحصون
فالوصية في الفقراء منهم، لأن المقصود من
الوصية القربة وهي في سد الخلة ورد الجوعة.
وهذه الأسامي تشعر بتحقق الحاجة فجاز حمله على
الفقراء، بخلاف ما إذا أوصى لشبان بني فلان
وهم لا يحصون أو لأيامى بني فلان وهم لا يحصون
حيث تبطل الوصية، لأنه ليس في اللفظ ما ينبئ
عن الحاجة فلا يمكن صرفه إلى الفقراء، ولا
يمكن تصحيحه تمليكا في حق الكل للجهالة
المتفاحشة وتعذر الصرف إليهم، وفي الوصية
للفقراء والمساكين يجب الصرف إلى اثنين منهم
اعتبارا لمعنى الجمع، وأقله اثنان في الوصايا
على ما مر. ولو أوصى لبني فلان يدخل فيهم
الإناث في قول أبي حنيفة أول قوليه وهو قولهما
لأن جمع الذكور يتناول الإناث، ثم رجع وقال:
يتناول الذكور خاصة لأن حقيقة الاسم للذكور
وانتظامه للإناث تجوز والكلام لحقيقته، بخلاف
ما إذا كان بنو فلان اسم قبيلة أو فخذ حيث
يتناول الذكور والإناث لأنه ليس يراد بها
ج / 4 ص -532-
أعيانهم إذ هو مجرد الانتساب كبني آدم ولهذا
يدخل فيه مولى العتاقة والموالاة وحلفاؤهم.
قال:
"ومن أوصى لولد فلان فالوصية بينهم والذكر
والأنثى فيه سواء" لأن اسم
الولد ينتظم الكل انتظاما واحدا.
"ومن أوصى لورثة فلان فالوصية بينهم للذكر مثل
حظ الأنثيين" لأنه لما نص على
لفظ الورثة آذن ذلك بأن قصده التفضيل كما في
الميراث. ومن أوصى لمواليه وله موال أعتقهم
وموال أعتقوه فالوصية باطلة. وقال الشافعي في
بعض كتبه: إن الوصية لهم جميعا، وذكر في موضع
آخر أنه يوقف حتى يصالحوا. له أن الاسم
يتناولهم لأن كلا منهم يسمى مولى فصار
كالإخوة. ولنا أن الجهة مختلفة لأن أحدهما
يسمى مولى النعمة والآخر منعم عليه فصار
مشتركا فلا ينتظمهما لفظ واحد في موضع
الإثبات، بخلاف ما إذا حلف لا يكلم موالي فلان
حيث يتناول الأعلى والأسفل لأنه مقام النفي
ولا تنافي فيه، ويدخل في هذه الوصية من أعتقه
في الصحة والمرض، ولا يدخل مدبروه وأمهات
أولاده لأن عتق هؤلاء يثبت بعد الموت والوصية
تضاف إلى حالة الموت فلا بد من تحقق الاسم
قبله. وعن أبي يوسف أنهم يدخلون لأن سبب
الاستحقاق لازم، ويدخل فيه عبد قال له مولاه
إن لم أضربك فأنت حر لأن العتق يثبت قبيل
الموت عند تحقق عجزه، ولو كان له موال وأولاده
موال وموالي موالاة يدخل فيها معتقوه وأولادهم
دون موالي الموالاة وعن أبي يوسف أنهم يدخلون
أيضا والكل شركاء لأن الاسم يتناولهم على
السواء. ومحمد يقول: الجهة مختلفة، في المعتق
الإنعام، وفي الموالي عقد الالتزام والإعتاق
لازم فكان الاسم له أحق، ولا يدخل فيهم موالي
الموالي لأنهم موالي غيره حقيقة، بخلاف مواليه
وأولادهم لأنهم ينسبون إليه بإعتاق وجد منه،
وبخلاف ما إذا لم يكن له موال ولا أولاد
الموالي لأن اللفظ لهم مجاز فيصرف إليه عند
تعذر اعتبار الحقيقة. ولو كان له معتق واحد
وموالي الموالي فالنصف لمعتق والباقي للورثة
لتعذر الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يدخل
فيه موال أعتقهم ابنه أو أبوه لأنهم ليسوا
بمواليه لا حقيقة ولا مجازا، وإنما يحرز
ميراثهم بالعصوبة، بخلاف معتق البعض لأنه ينسب
إليه بالولاء، والله أعلم بالصواب.
باب الوصية بالسكنى والخدمة والثمرة
قال:
"وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره سنين
معلومة وتجوز بذلك أبدا" لأن
المنافع يصح تمليكها في حالة الحياة ببدل وغير
بدل، فكذا بعد الممات لحاجته كما في
ج / 4 ص -533-
الأعيان، ويكون محبوسا على ملكه في حق المنفعة
حتى يتملكها الموصى له على ملكه كما يستوفي
الموقوف عليه منافع الوقف على حكم ملك الواقف،
وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في العارية فإنها
تمليك على أصلنا، بخلاف الميراث لأنه خلافه
فيما يتملكه المورث وذلك في عين تبقى والمنفعة
عرض لا يبقى، وكذا الوصية بغلة العبد والدار
لأنه بدل المنفعة فأخذ حكمها والمعنى يشملهما.
قال:
"فإن خرجت رقبة العبد من الثلث يسلم إليه
ليخدمه" لأن حق الموصى له في
الثلث لا يزاحمه الورثة
"وإن كان لا مال له غيره خدم الورثة يومين
والموصى له يوما" لأن حقه في
الثلث وحقهم في الثلثين كما في الوصية في
العين ولا تمكن قسمة العبد أجزاء لأنه لا
يتجزأ فصرنا إلى المهايأة إيفاء للحقين، بخلاف
الوصية بسكنى الدار إذا كانت لا تخرج من الثلث
حيث تقسم عين الدار ثلاثا للانتفاع لأنه يمكن
القسمة بالأجزاء وهو أعدل للتسوية بينهما
زمانا وذاتا، وفي المهايأة تقديم أحدهما
زمانا.
ولو اقتسموا الدار مهايأة من حيث الزمان تجوز
أيضا لأن الحق لهم، إلا أن الأول وهو الأعدل
أولى، وليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من
ثلثي الدار. وعن أبي يوسف رحمه الله أن لهم
ذلك لأنه خالص ملكهم. وجه الظاهر أن حق الموصى
له ثابت في سكنى جميع الدار بأن ظهر للميت مال
آخر وتخرج الدار من الثلث، وكذا له حق
المزاحمة فيما في أيديهم إذا خرب ما في يده.
والبيع يتضمن إبطال ذلك فمنعوا عنه.
قال:
"فإن كان مات الموصى له عاد إلى الورثة"
لأن الموصي أوجب الحق للموصى له ليستوفي
المنافع على حكم ملكه، فلو انتقل إلى وارث
الموصى له استحقها ابتداء من ملك الموصي من
غير مرضاته وذلك لا يجوز.
"ولو مات الموصى له في حياة الموصي بطلت"
لأن إيجابها تعلق بالموت على ما بيناه من قبل.
ولو أوصى بغلة عبده أو داره فاستخدمه بنفسه أو
سكنها بنفسه قيل يجوز ذلك لأن قيمة المنافع
كعينها في تحصيل المقصود. والأصح أنه لا يجوز
لأن الغلة دراهم أو دنانير وقد وجبت الوصية
بها، وهذا استيفاء المنافع وهما متغايران
ومتفاوتان في حق الورثة، فإنه لو ظهر دين
يمكنهم أداؤه من الغلة بالاسترداد منه بعد
استغلالها ولا يمكنهم من المنافع بعد
استيفائها بعينها، وليس للموصى له بالخدمة
والسكنى أن يؤاجر العبد أو الدار. وقال
الشافعي: له ذلك لأنه بالوصية ملك المنفعة
فيملك تمليكها من غيره ببدل أو غير بدل لأنها
كالأعيان عنده، بخلاف العارية لأنها إباحة على
أصله وليس بتمليك. ولنا أن
ج / 4 ص -534-
الوصية
تمليك بغير بدل مضاف إلى ما بعد الموت فلا
يملك تمليكه ببدل اعتبارا بالإعارة فإنها
تمليك بغير بدل في حالة الحياة على أصلنا، ولا
يملك المستعير الإجارة لأنها تمليك ببدل، كذا
هذا.
وتحقيقه أن التمليك ببدل لازم وبغير بدل غير
لازم، ولا يملك الأقوى بالأضعف والأكثر
بالأقل، والوصية تبرع غير لازم إلا أن الرجوع
للمتبرع لا لغيره والمتبرع بعد الموت لا يمكنه
الرجوع فلهذا انقطع، أما هو في وضعه فغير
لازم، ولأن المنفعة ليست بمال على أصلنا وفي
تمليكها بالمال إحداث صفة المالية فيها تحقيقا
للمساواة في عقد المعاوضة، فإنما تثبت هذه
الولاية لمن يملكها تبعا لملك الرقبة، أو لمن
يملكها بعقد المعاوضة حتى يكون مملكا لها
بالصفة التي تملكها، أما إذا تملكها مقصودة
بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكا أكثر مما
تملكه معنى وهذا لا يجوز، وليس للموصى له أن
يخرج العبد من الكوفة إلا أن يكون الموصى له
وأهله في غير الكوفة فيخرجه إلى أهله للخدمة
هنالك إذا كان يخرج من الثلث، لأن الوصية إنما
تنفذ على ما يعرف من مقصود الموصي، فإذا كانوا
في مصره فمقصوده أن يمكنه من خدمته فيه بدون
أن يلزمه مشقة السفر، وإذا كانوا في غيره
فمقصوده أن يحمل العبد إلى أهله ليخدمهم.
ولو أوصى بغلة عبده أو بغلة داره يجوز أيضا
لأنه بدل المنفعة فأخذ حكم المنفعة في جواز
الوصية به، كيف وأنه عين حقيقة لأنه دراهم أو
دنانير فكان بالجواز أولى، ولو لم يكن له مال
غيره كان له ثلث غلة تلك السنة لأنه عين مال
يحتمل القسمة بالأجزاء، فلو أراد الموصى له
قسمة الدار بينه وبين الورثة ليكون هو الذي
يستغل ثلثها لم يكن له ذلك إلا في رواية عن
أبي يوسف فإنه يقول: الموصى له شريك الوارث
وللشريك ذلك، فكذلك للموصى له، إلا أنا نقول:
المطالبة بالقسمة تبتنى على ثبوت الحق للموصى
له فيما يلاقيه القسمة إذ هو المطالب، ولا حق
له في عين الدار، وإنما حقه في الغلة فلا يملك
المطالبة بقسمة الدار، ولو أوصى له بخدمة عبده
ولآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فالرقبة لصاحب
الرقبة والخدمة عليها لصاحب الخدمة، لأنه أوجب
لكل واحد منهما شيئا معلوما عطفا منه لأحدهما
على الآخر فتعتبر هذه الحالة بحالة الانفراد.
ثم لما صحت الوصية لصاحب الخدمة، فلو لم يوص
في الرقبة ميراثا للورثة مع كون الخدمة للموصى
له، فكذا إذا أوصى بالرقبة لإنسان آخر، إذ
الوصية أخت الميراث من حيث إن الملك يثبت
فيهما بعد الموت.
ولها نظائر: وهو ما إذا أوصى بأمة لرجل وبما
في بطنها لآخر وهي تخرج من الثلث
ج / 4 ص -535-
أو
أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصه، أو قال هذه
القوصرة لفلان وما فيها من التمر لفلان كان
كما أوصى، ولا شيء لصاحب الظرف في المظروف في
هذه المسائل كلها، أما إذا فصل أحد الإيجابين
عن الآخر فيها فكذلك الجواب عند أبي يوسف.
وعلى قول محمد الأمة للموصى له بها والولد
بينهما نصفان، وكذلك في أخواتها. لأبي يوسف أن
بإيجابه في الكلام الثاني تبين أن مراده من
الكلام الأول إيجاب الأمة للموصى له بها دون
الولد، وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا
لأن الوصية لا تلزم شيئا في حال حياة الموصي
فكان البيان المفصول فيه والموصول سواء كما في
وصية الرقبة والخدمة. ولمحمد أن اسم الخاتم
يتناول الحلقة والفص. وكذلك اسم الجارية
يتناولها وما في بطنها. واسم القوصرة كذلك،
ومن أصلنا أن العام الذي موجبه ثبوت الحكم على
سبيل الإحاطة بمنزلة الخاص فقد اجتمع في الفص
وصيتان وكل منهما وصية بإيجاب على حدة فيجعل
الفص بينهما نصفين، ولا يكون إيجاب الوصية فيه
للثاني رجوعا عن الأول، كما إذا أوصى للثاني
بالخاتم، بخلاف الخدمة مع الرقبة لأن اسم
الرقبة لا يتناول الخدمة وإنما يستخدمه الموصى
له بحكم أن المنفعة حصلت على ملكه، فإذا أوجب
الخدمة لغيره لا يبقى للموصى له فيه حق، بخلاف
ما إذا كان الكلام موصولا لأن ذلك دليل
التخصيص والاستثناء، فتبين أنه أوجب لصاحب
الخاتم الحلقة خاصة دون الفص.
قال:
"ومن أوصى لآخر بثمرة بستانه ثم مات وفيه ثمرة
فله هذه الثمرة وحدها، وإن قال له ثمرة بستاني
أبدا فله هذه الثمرة وثمرته فيما يستقبل ما
عاش، وإن أوصى له بغلة بستانه فله الغلة
القائمة وغلته فيما يستقبل"
والفرق أن الثمرة اسم للموجود عرفا فلا يتناول
المعدوم إلا بدلالة زائدة، مثل التنصيص على
الأبد لأنه لا يتأبد إلا بتناول المعدوم
والمعدوم مذكور وإن لم يكن شيئا، أما الغلة
فتنتظم الموجود وما يكون بعرض الوجود مرة بعد
أخرى عرفا، يقال فلان يأكل من غلة بستانه ومن
غلة أرضه وداره، فإذا أطلقت يتناولهما عرفا
غير موقوف على دلالة أخرى. أما الثمرة إذا
أطلقت لا يراد بها إلا الموجود فلهذا يفتقر
الانصراف إلى دليل زائد.
قال:
"ومن أوصى لرجل بصوف غنمه أبدا أو بأولادها أو
بلبنها ثم مات فله ما في بطونها من الولد وما
في ضروعها من اللبن وما على ظهورها من الصوف
يوم يموت الموصي سواء قال أبدا أو لم يقل"
لأنه إيجاب عند الموت فيعتبر قيام هذه الأشياء
يومئذ، وهذا بخلاف ما تقدم. والفرق أن القياس
يأبى تمليك المعدوم لأنه لا يقبل الملك، إلا
أن في الثمرة والغلة المعدومة جاء الشرع بورود
العقد عليها كالمعاملة والإجارة، فاقتضى ذلك
ج / 4 ص -536-
جوازه
في الوصية بالطريق الأولى لأن بابها أوسع. أما
الولد المعدوم وأختاه فلا يجوز إيراد العقد
عليها أصلا، ولا تستحق بعقد ما، فكذلك لا يدخل
تحت الوصية، بخلاف الموجود منها لأنه يجوز
استحقاقها بعقد البيع تبعا وبعقد الخلع
مقصودا، فكذا بالوصية، والله أعلم بالصواب.
باب وصية الذمي
قال:
"وإذا صنع يهودي أو نصراني بيعة أو كنيسة في
صحته ثم مات فهو ميراث" لأن
هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة، والوقف عنده
يورث ولا يلزم فكذا هذا. وأما عندهما فلأن هذه
معصية فلا تصح عندهما.
قال:
"ولو أوصى بذلك لقوم مسمين فهو الثلث"
معناه إذا أوصى أن تبنى داره بيعة أو كنيسة
فهو جائز من الثلث لأن الوصية فيها معنى
الاستخلاف ومعنى التمليك، وله ولاية ذلك فأمكن
تصحيحه على اعتبار المعنيين.
قال:
"وإن أوصى بداره كنيسة لقوم غير مسمين جازت
الوصية عند أبي حنيفة، وقالا: الوصية باطلة"
لأن هذه معصية حقيقة وإن كان في معتقدهم قربة،
والوصية بالمعصية باطلة لما في تنفيذها من
تقرير المعصية. ولأبي حنيفة أن هذه قربة في
معتقدهم ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون
فتجوز بناء على اعتقادهم؛ ألا يرى أنه لو أوصى
بما هو قربة حقيقة معصية في معتقدهم لا تجوز
الوصية اعتبارا لاعتقادهم فكذا عكسه. ثم الفرق
لأبي حنيفة بين بناء البيعة والكنيسة وبين
الوصية به أن البناء نفسه ليس بسبب لزوال ملك
الباني. وإنما يزول ملكه بأن يصير محررا خالصا
لله تعالى كما في مساجد المسلمين، والكنيسة لم
تصر محررة لله تعالى حقيقة فتبقى ملكا للباني
فتورث عنه، ولأنهم يبنون فيها الحجرات
ويسكنونها فلم يتحرر لتعلق حق العباد به، وفي
هذه الصورة يورث المسجد أيضا لعدم تحرره،
بخلاف الوصية لأنه وضع لإزالة الملك إلا أنه
امتنع ثبوت مقتضاه في غير ما هو قربة عندهم
فبقي فيما هو قربة على مقتضاه فيزول ملكه فلا
يورث.
ثم الحاصل أن وصايا الذمي على أربعة أقسام:
منها: أن تكون قربة في معتقدهم ولا تكون قربة
في حقنا وهو ما ذكرناه، وما إذا أوصى الذمي
بأن تذبح خنازيره وتطعم المشركين، وهذه على
الخلاف إذا كان لقوم غير مسمين كما ذكرناه
والوجه ما بيناه.
ج / 4 ص -537-
ومنها:
إذا أوصى بما يكون قربة في حقنا ولا يكون قربة
في معتقدهم، كما إذا أوصى بالحج أو بأن يبنى
مسجد للمسلمين أو بأن يسرج في مساجد المسلمين،
فهذه الوصية باطلة بالإجماع اعتبارا
لاعتقادهم، إلا إذا كان لقوم بأعيانهم لوقوعه
تمليكا لأنهم معلومون والجهة مشورة.
ومنها: إذا أوصى بما يكون قربة في حقنا وفي
حقهم، كما إذا أوصى بأن يسرج في بيت المقدس أو
يغزى الترك وهو من الروم، وهذا جائز سواء كانت
لقوم بأعيانهم أو بغير أعيانهم لأنه وصية بما
هو قربة حقيقة وفي معتقدهم أيضا.
ومنها: إذا أوصى بما لا يكون قربة لا في حقنا
ولا في حقهم، كما إذا أوصى للمغنيات
والنائحات، فإن هذا غير جائز لأنه معصية في
حقنا وفي حقهم، إلا أن يكون لقوم بأعيانهم
فيصح تمليكا واستخلافا، وصاحب الهوى إن كان لا
يكفر فهو في حق الوصية بمنزلة المسلم لأنا
أمرنا ببناء الأحكام على الظاهر، وإن كان يكفر
فهو بمنزلة المرتد فيكون على الخلاف المعروف
في تصرفاته بين أبي حنيفة وصاحبيه.
وفي المرتدة الأصح أنه تصح وصاياها لأنها تبقى
على الردة، بخلاف المرتد لأنه يقتل أو يسلم.
قال:
"وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فأوصى لمسلم أو
ذمي بماله كله جاز" لأن
امتناع الوصية بما زاد على الثلث لحق الورثة
ولهذا تنفذ بإجازتهم، وليس لورثته حق مرعي
لكونهم في دار الحرب إذ هم أموات في حقنا،
ولأن حرمة ماله باعتبار الأمان، والأمان كان
لحقه لا لحق ورثته، ولو كان أوصى بأقل من ذلك
أخذت الوصية ويرد الباقي على ورثته وذلك من حق
المستأمن أيضا. ولو أعتق عبده عند الموت أو
دبر عبده في دار الإسلام فذلك صحيح منه من غير
اعتبار الثلث لما بينا، وكذلك لو أوصى له مسلم
أو ذمي بوصية جاز لأنه ما دام في دار الإسلام
فهو في المعاملات بمنزلة الذمي، ولهذا تصح
عقود التمليكات منه في حال حياته، ويصح تبرعه
في حياته فكذا بعد مماته.
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز لأنه
مستأمن من أهل الحرب إذ هو على قصد الرجوع
ويمكن منه، ولا يمكن من زيادة المقام على
السنة إلا بالجزية. ولو أوصى الذمي بأكثر من
الثلث أو لبعض ورثته لا يجوز اعتبارا
بالمسلمين لأنهم التزموا أحكام الإسلام فيما
يرجع إلى المعاملات. ولو أوصى لخلاف ملته جاز
اعتبارا بالإرث إذ الكفر كله ملة واحدة، ولو
أوصى لحربي. في دار الإسلام لا يجوز لأن الإرث
ممتنع لتباين الدارين والوصية أخته، والله
أعلم.
ج / 4 ص -538-
باب الوصي وما يملكه
قال:
"ومن أوصى إلى رجل فقبل الوصي في وجه الموصي
وردها في غير وجهه فليس برد"
لأن الميت مضى معتمدا عليه، فلو صح رده في غير
وجهه في حياته أو بعد مماته صار مغرورا من
جهته فرد رده، بخلاف الوكيل بشراء عبد بغير
عينه أو ببيع ماله حيث يصح رده في غير وجهه
لأنه لا ضرر هناك لأنه حي قادر على التصرف
بنفسه
"فإن ردها في وجهه فهو رد"
لأنه ليس للموصي ولاية إلزامه التصرف، ولا
غرور فيه لأنه يمكنه أن ينيب غيره
"وإن لم يقبل ولم يرد حتى مات الموصي فهو
بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل"
لأن الموصي ليس له ولاية الإلزام فبقي مخيرا،
فلو أنه باع شيئا من تركته فقد لزمته، لأن ذلك
دلالة الالتزام والقبول وهو معتبر بعد الموت،
وينفذ البيع لصدوره من الوصي، وسواء علم
بالوصاية أو لم يعلم، بخلاف الوكيل إذا لم
يعلم بالتوكيل فباع حيث لا ينفذ لأن الوصاية
خلافة لأنه يختص بحال انقطاع ولاية الميت
فتنتقل الولاية إليه، وإذا كانت خلافة لا
تتوقف على العلم كالوراثة. أما التوكيل إنابة
لثبوته في حال قيام ولاية المنيب فلا يصح من
غير علمه كإثبات الملك بالبيع والشراء وقد
بينا طريق العلم وشرط الإخبار فيما تقدم من
الكتب.
"وإن لم يقبل حتى مات الموصي فقال لا أقبل ثم
قال أقبل فله ذلك إن لم يكن القاضي أخرجه من
الوصية حين قال لا أقبل" لأن
بمجرد قوله لا أقبل لا يبطل الإيصاء، لأن في
إبطاله ضررا بالميت وضرر الوصي في الإبقاء
مجبور بالثواب، ودفع الأول وهو أعلى أولى، إلا
أن القاضي إذا أخرجه عن الوصاية يصح ذلك لأنه
مجتهد فيه، إذ للقاضي ولاية دفع الضرر، وربما
يعجز عن ذلك فيتضرر ببقاء الوصاية فيدفع
القاضي الضرر عنه وينصب حافظا لمال الميت
متصرفا فيه فيندفع الضرر من الجانبين فلهذا
ينفذ إخراجه، فلو قال بعد إخراج القاضي إياه
أقبل لم يلتفت إليه لأنه قبل بعد بطلان
الوصاية بإبطال القاضي.
"ومن أوصى إلى عبد أو كافر أو فاسق أخرجهم
القاضي عن الوصاية ونصب غيرهم"
وهذا اللفظ يشير إلى صحة الوصية، لأن الإخراج
يكون بعدها. وذكر محمد في الأصل أن الوصية
باطلة. قيل معناه في جميع هذه الصور أن الوصية
ستبطل، وقيل معناه في العبد باطل حقيقة لعدم
ولايته واستبداده، وفي غيره معناه ستبطل، وقيل
في الكافر باطل أيضا لعدم ولايته على المسلم.
ووجه الصحة ثم الإخراج أن الأصل النظر ثابت
لقدرة العبد حقيقة، وولاية الفاسق على أصلنا
وولاية الكافر في الجملة، إلا أنه لم يتم
النظر لتوقف ولاية
ج / 4 ص -539-
العبد
على إجازة المولى وتمكنه من الحجر بعدها
والمعاداة الدينية الباعثة للكافر على ترك
النظر في حق المسلم واتهام الفاسق بالخيانة
فيخرجه القاضي من الوصاية ويقيم غيره مقامه
إتماما للنظر. وشرط في الأصل أن يكون الفاسق
مخوفا عليه في المال، وهذا يصلح عذرا في
إخراجه وتبديله بغيره.
قال:
"ومن أوصى إلى عبد نفسه وفي الورثة كبار لم
تصح الوصية" لأن للكبير أن
يمنعه أو يبيع نصيبه فيمنعه المشتري فيعجز عن
الوفاء بحق الوصاية فلا يفيد فائدته وإن كانوا
صغارا كلهم فالوصية إليه جائزة عند أبي حنيفة،
ولا تجوز عندهما وهو القياس. وقيل قول محمد
مضطرب، يروي مرة مع أبي حنيفة، وتارة مع أبي
يوسف.
وجه القياس: أن الولاية منعدمة لما أن الرق
ينافيها، ولأن فيه إثبات الولاية للمملوك على
المالك، وهذا قلب المشروع، ولأن الولاية
الصادرة من الأب لا تتجزأ، وفي اعتبار هذه
تجزئتها لأنه لا يملك بيع رقبته وهذا نقض
الموضوع. وله أنه مخاطب مستبد بالتصرف فيكون
أهلا للوصاية، وليس لأحد عليه ولاية، فإن
الصغار وإن كانوا ملاكا ليس لهم ولاية المنع
فلا منافاة، وإيصاء المولى إليه يؤذن بكونه
ناظرا لهم وصار كالمكاتب، والوصاية قد تتجزأ
على ما هو المروي عن أبي حنيفة، أو نقول: يصار
إليه كي لا يؤدي إلى إبطال أصله، وتغيير الوصف
لتصحيح الأصل أولى.
قال:
"ومن يعجز عن القيام بالوصية ضم إليه القاضي
غيره" رعاية لحق الموصي
والورثة، وهذا لأن تكميل النظر يحصل بضم الآخر
إليه لصيانته ونقص كفايته فيتم النظر بإعانة
غيره، ولو شكا إليه الوصي ذلك لا يجيبه حتى
يعرف ذلك حقيقة، لأن الشاكي قد يكون كاذبا
تخفيفا على نفسه، وإذا ظهر عند القاضي عجزه
أصلا استبدل به رعاية للنظر من الجانبين؛ ولو
كان قادرا على التصرف أمينا فيه ليس للقاضي أن
يخرجه، لأنه لو اختار غيره كان دونه لما أنه
كان مختار الميت ومرضيه فإبقاؤه أولى ولهذا
قدم على أبي الميت مع وفور شفقته فأولى أن
يقدم على غيره، وكذا إذا شكا الورثة أو بعضهم
الوصي إلى القاضي فإنه لا ينبغي له أن يعزله
حتى يبدو له منه خيانة لأنه استفاد الولاية من
الميت، غير أنه إذا ظهرت الخيانة فالميت إنما
نصبه وصيا لأمانته وقد فاتت، ولو كان في
الأحياء لأخرجه منها، فعند عجزه ينوب القاضي
منابه كأنه لا وصي له.
قال:
"ومن أوصى إلى اثنين لم يكن لأحدهما أن يتصرف
عند أبي حنيفة ومحمد دون صاحبه"
إلا في أشياء معدودة نبينها إن شاء الله
تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله:
ج / 4 ص -540-
ينفرد
كل واحد منهما بالتصرف في جميع الأشياء لأن
الوصاية سبيلها الولاية وهي وصف شرعي لا تتجزأ
فيثبت لكل منهما كملا كولاية الإنكاح للأخوين،
وهذا لأن الوصاية خلافة، وإنما تتحقق إذا
انتقلت الولاية إليه على الوجه الذي كان ثابتا
للموصي وقد كان بوصف الكمال، ولأن اختيار الأب
إياهما يؤذن باختصاص كل واحد منهما بالشفقة
فينزل ذلك منزلة قرابة كل واحد منهما. ولهما
أن الولاية تثبت بالتفويض فيراعى وصف التفويض
وهو وصف الاجتماع إذ هو شرط مقيد، وما رضي
الموصي إلا بالمثنى وليس الواحد كالمثنى،
بخلاف الأخوين في الإنكاح لأن السبب هنالك
القرابة وقد قامت بكل منهما كملا، ولأن
الإنكاح حق مستحق لها على الولي، حتى لو
طالبته بإنكاحها من كفؤ يخطبها يجب عليه
وهاهنا حق التصرف للوصي، ولهذا يبقى مخيرا في
التصرف، ففي الأول أوفى حقا على صاحبه فصح،
وفي الثاني استوفى حقا لصاحبه فلا يصح أصله
الدين الذي عليهما ولهما، بخلاف الأشياء
المعدودة لأنها من باب الضرورة لا من باب
الولاية.
ومواضع الضرورة مستثناة أبدا، وهي ما استثناه
في الكتاب وأخواتها. فقال:
"إلا في شراء كفن الميت وتجهيزه"
لأن في التأخير فساد الميت ولهذا يملكه
الجيران عند ذلك
"وطعام الصغار وكسوتهم" لأنه
يخاف موتهم جوعا وعريا
"ورد الوديعة بعينها ورد المغصوب والمشترى
شراء فاسدا وحفظ الأموال وقضاء الديون"
لأنها ليست من باب الولاية فإنه يملكه المالك،
وصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه وحفظ المال
يملكه من يقع في يده فكان من باب الإعانة.
ولأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي
"وتنفيذ وصية بعينها وعتق عبد بعينه"
لأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي
"والخصومة في حق الميت" لأن
الاجتماع فيها متعذر ولهذا ينفرد بها أحد
الوكيلين
"وقبول الهبة" لأن في التأخير
خيفة الفوات، ولأنه يملكه الأم والذي في حجره
فلم يكن من باب الولاية
"وبيع ما يخشى عليه التوى والتلف"
لأن فيه ضرورة لا تخفى
"وجمع الأموال الضائعة" لأن
في التأخير خشية الفوات، ولأنه يملكه كل من
وقع في يده فلم يكن من باب الولاية.
وفي الجامع الصغير: وليس لأحد الوصيين أن يبيع
ويتقاضى، والمراد بالتقاضي الاقتضاء، كذا كان
المراد منه في عرفهم، وهذا لأنه رضي بأمانتهما
جميعا في القبض، ولأنه في معنى المبادلة لا
سيما عند اختلاف الجنس على ما عرف فكان من باب
الولاية ولو أوصى إلى كل واحد على الانفراد
قيل ينفرد كل واحد منهما بالتصرف بمنزلة
الوكيلين إذا وكل كل واحد على الانفراد، وهذا
لأنه لما أفرد فقد رضي برأي الواحد. وقيل
الخلاف في الفصلين واحد، وهو وهو الأصح لأن
وجوب الوصية عند الموت بخلاف الوكيلين، لأن
الوكالة
ج / 4 ص -541-
تتعاقب، فإن مات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا
آخر، أما عندهما فلأن الباقي عاجز عن التفرد
بالتصرف فيضم القاضي إليه وصيا آخر نظرا للميت
عند عجزه. وعند أبي يوسف الحي منهما وإن كان
يقدر على التصرف فالموصي قصد أن يخلفه متصرفا
في حقوقه، وذلك ممكن التحقق بنصب وصي آخر مكان
الميت. ولو أن الميت منهما أوصى إلى الحي
فللحي أن يتصرف وحده في ظاهر الرواية بمنزلة
ما إذا أوصى إلى شخص آخر. ولا يحتاج القاضي
إلى نصب وصي آخر لأن رأي الميت باق حكما برأي
من يخلفه. وعن أبي حنيفة أنه لا ينفرد بالتصرف
لأن الموصي ما رضي بتصرفه وحده، بخلاف ما إذا
أوصى إلى غيره لأنه ينفذ تصرفه برأي المثنى
كما رضيه المتوفى. وإذا مات الوصي وأوصى إلى
آخر فهو وصيه في تركته وتركة الميت الأول
عندنا.
وقال الشافعي: لا يكون وصيا في تركة الميت
الأول اعتبارا بالتوكيل في حالة الحياة،
الجامع بينهما أنه رضي برأيه لا برأي غيره.
ولنا أن الوصي يتصرف بولاية منتقلة إليه فيملك
الإيصاء إلى غيره كالجد؛ ألا يرى أن الولاية
التي كانت ثابتة للموصي تنتقل إلى الوصي في
المال وإلى الجد في النفس، ثم الجد قائم مقام
الأب فيما انتقل إليه فكذا الوصي، وهذا لأن
الإيصاء إقامة غيره مقامه فيما له ولايته،
وعند الموت كانت له ولاية في التركتين فينزل
الثاني منزلته فيهما. ولأنه لما استعان به في
ذلك مع علمه أنه قد تعتريه المنية قبل تتميم
مقصوده بنفسه وهو تلافي ما فرط منه صار راضيا
بإيصائه إلى غيره، بخلاف الوكيل لأن الموكل حي
يمكنه أن يحصل مقصوده بنفسه فلا يرضى بتوكيل
غيره والإيصاء إليه.
قال:
"ومقاسمة الوصي الموصى له عن الورثة جائزة
ومقاسمته الورثة عن الموصى له باطلة"
لأن الوارث خليفة الميت حتى يرد
بالعيب ويرد عليه به ويصير مغرورا بشراء
المورث والوصي خليفة الميت أيضا فيكون خصما عن
الوارث إذا كان غائبا فصحت قسمته عليه، حتى لو
حضر وقد هلك ما في يد الوصي ليس له أن يشارك
الموصى له.
أما الموصى له فليس بخليفة عن الميت من كل وجه
لأنه ملكه بسبب جديد، ولهذا لا يرد بالعيب ولا
يرد عليه، ولا يصير مغرورا بشراء الموصي فلا
يكون الوصي خليفة عنه عند غيبته، حتى لو هلك
ما أفرز له عند الوصي كان له ثلث ما بقي لأن
القسمة لم تنفذ عليه، غير أن الوصي لا يضمن
لأنه أمين فيه، وله ولاية الحفظ في التركة
فصار كما إذا هلك بعض التركة قبل القسمة فيكون
له ثلث الباقي لأن الموصى له شريك الوارث
فيتوى ما توي من المال المشترك على الشركة
ويبقى ما بقي على الشركة.
ج / 4 ص -542-
قال:
"فإن قاسم الورثة وأخذ نصيب الموصى له فضاع
رجع الموصى له بثلث ما بقي"
لما بينا.
قال:
"وإن كان الميت أوصى بحجة فقاسم في الورثة
فهلك ما في يده حج عن الميت من ثلث ما بقي،
وكذلك إن دفعه إلى رجل ليحج عنه فضاع في يده"
وقال أبو يوسف: إن كان مستغرقا للثلث لم يرجع
بشيء، وإلا يرجع بتمام الثلث. وقال محمد: لا
يرجع بشيء لأن القسمة حق الموصي، ولو أفرز
الموصي بنفسه مالا ليحج عنه فهلك لا يلزمه شيء
وبطلت الوصية، فكذا إذا أفرزه وصيه الذي قام
مقامه. ولأبي يوسف أن محل الوصية الثلث فيجب
تنفيذها ما بقي محلها، وإذا لم يبق بطلت لفوات
محلها. ولأبي حنيفة أن القسمة لا تراد لذاتها
بل لمقصودها وهو تأدية الحج فلم تعتبر دونه
وصار كما إذا هلك قبل القسمة فيحج بثلث ما
بقي، ولأن تمامها بالتسليم إلى الجهة المسماة،
إذ لا قابض لها، فإذا لم يصرف إلى ذلك الوجه
لم يتم فصار كهلاكه قبلها.
قال:
"ومن أوصى بثلث ألف درهم فدفعها الورثة إلى
القاضي فقسمها والموصى له غائب فقسمته جائزة"
لأن الوصية صحيحة، ولهذا لو مات الموصى له قبل
القبول تصير الوصية ميراثا لورثته والقاضي نصب
ناظرا لا سيما في حق الموتى والغيب، ومن النظر
إفراز نصيب الغائب وقبضه فنفذ ذلك وصح، حتى لو
حضر الغائب وقد هلك المقبوض لم يكن له على
الورثة سبيل.
قال:
"وإذا باع الوصي عبدا من التركة بغير محضر من
الغرماء فهو جائز" لأن الوصي
قائم مقام الموصي، ولو تولى حيا بنفسه يجوز
بيعه بغير محضر من الغرماء وإن كان في مرض
موته فكذا إذا تولاه من قام مقامه، وهذا لأن
حق الغرماء متعلق بالمالية لا بالصورة والبيع
لا يبطل المالية لفواتها إلى خلف وهو الثمن.
بخلاف العبد المديون لأن للغرماء حق الاستسعاء
وأما هاهنا فبخلافه.
قال:
"ومن أوصى بأن يباع عبده ويتصدق بثمنه على
المساكين فباعه الوصي وقبض الثمن فضاع في يده
فاستحق العبد ضمن الوصي" لأنه
هو العاقد فتكون العهدة عليه، وهذه عهدة لأن
المشتري منه ما رضي ببذل الثمن إلا ليسلم له
المبيع ولم يسلم فقد أخذ الوصي البائع مال
الغير بغير رضاه فيجب عليه رده.
قال:
"ويرجع فيما ترك الميت" لأنه
عامل له فيرجع عليه كالوكيل، وكان
ج / 4 ص -543-
أبو
حنيفة يقول أولا: لا يرجع لأنه ضمن بقبضه، ثم
رجع إلى ما ذكرنا ويرجع في جميع التركة. وعن
محمد أنه يرجع في الثلث لأن الرجوع بحكم
الوصية فأخذ حكمها، ومحل الوصية الثلث. وجه
الظاهر أنه يرجع عليه بحكم الغرور وذلك دين
عليه والدين يقضى من جميع التركة، بخلاف
القاضي أو أمينه إذا تولى البيع حيث لا عهدة
عليه، لأن في إلزامها القاضي تعطيل القضاء، إذ
يتحامى عن تقلد هذه الأمانة حذرا عن لزوم
الغرامة فتتعطل مصلحة العامة وأمينه سفير عنه
كالرسول، ولا كذلك الوصي لأنه بمنزلة الوكيل
وقد مر في كتاب القضاء، فإن كانت التركة قد
هلكت أو لم يكن بها وفاء لم يرجع بشيء كما إذا
كان على الميت دين آخر.
قال:
"وإن قسم الوصي الميراث فأصاب صغيرا من الورثة
عبد فباعه وقبض الثمن فهلك واستحق العبد رجع
في مال الصغير" لأنه عامل له،
ويرجع الصغير على الورثة بحصته لانتقاض القسمة
باستحقاق ما أصابه.
قال:
"وإذا احتال الوصي بمال اليتيم فإن كان خيرا
لليتيم جاز" وهو أن يكون
أملأ، إذ الولاية نظرية، وإن كان الأول أملأ
لا يجوز لأن فيه تضييع مال اليتيم على بعض
الوجوه.
قال:
"ولا يجوز بيع الوصي ولا شراؤه إلا بما يتغابن
الناس في مثله" لأنه لا نظر
في الغبن الفاحش، بخلاف اليسير لأنه لا يمكن
التحرز عنه، ففي اعتباره انسداد بابه. والصبي
المأذون والعبد المأذون والمكاتب يجوز بيعهم
وشراؤهم بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة لأنهم
يتصرفون بحكم المالكية، والإذن فك الحجر،
بخلاف الوصي لأنه يتصرف بحكم النيابة الشرعية
نظرا فيتقيد بموضع النظر. وعندهما لا يملكونه
لأن التصرف بالفاحش منه تبرع لا ضرورة فيه وهم
ليسوا من أهله
"وإذا كتب كتاب الشراء على وصي كتب كتاب
الوصية على حدة وكتاب الشراء على حدة"
لأن ذلك أحوط، ولو كتب جملة عسى أن يكتب
الشاهد شهادته في آخره من غير تفصيل فيصير ذلك
حملا له على الكذب. ثم قيل: يكتب اشترى من
فلان بن فلان ولا يكتب من فلان وصي فلان لما
بينا. وقيل لا بأس بذلك لأن الوصاية تعلم
ظاهرا.
قال:
"وبيع الوصي على الكبير الغائب جائز في كل شيء
إلا في العقار" لأن الأب يلي
ما سواه ولا يليه، فكذا وصيه فيه. وكان القياس
أن لا يملك الوصي غير العقار أيضا لأنه لا
يملكه الأب على الكبير، إلا أنا استحسناه لما
أنه حفظ لتسارع الفساد إليه، وحفظ الثمن أيسر
وهو يملك الحفظ، أما العقار فمحصن بنفسه.
ج / 4 ص -544-
قال:
"ولا يتجر في المال" لأن
المفوض إليه الحفظ دون التجارة. وقال أبو يوسف
ومحمد: وصي الأخ في الصغير والكبير الغائب
بمنزلة وصي الأب في الكبير الغائب، وكذا وصي
الأم ووصي العم. وهذا الجواب في تركة هؤلاء
لأن وصيهم قائم مقامهم وهم يملكون ما يكون من
باب الحفظ فكذا وصيهم.
قال:
"والوصي أحق بمال الصغير من الجد"
وقال الشافعي: الجد أحق لأن الشرع أقامه مقام
الأب حال عدمه حتى أحرز الميراث فيقدم على
وصيه. ولنا أن بالإيصاء تنتقل ولاية الأب إليه
فكانت ولايته قائمة معنى فيقدم عليه كالأب
نفسه، وهذا لأن اختياره الوصي مع علمه بقيام
الجد يدل على أن تصرفه أنظر لبنيه من تصرف
أبيه
"فإن لم يوص الأب فالجد بمنزلة الأب"
لأنه أقرب الناس إليه وأشفقهم عليه حتى يملك
الإنكاح دون وصي، غير أنه يقدم عليه وصي الأب
في التصرف لما بيناه.
فصل: في الشهادة
قال:
"وإذا شهد الوصيان أن الميت أوصى إلى فلان
معهما فالشهادة باطلة" لأنهما
متهمان فيها لإثباتهما معينا لأنفسهما.
قال:
"إلا أن يدعيها المشهود له"
وهذا استحسان، وهو في القياس كالأول لما بينا
من التهمة. وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب
الوصي ابتداء أو ضم آخر إليهما برضاه بدون
شهادتهما فيسقط بشهادتهما مؤنة التعيين عنه،
أما الوصاية تثبت بنصب القاضي.
قال:
"وكذلك الابنان" معناه إذا
شهدا أن الميت أوصى إلى رجل وهو ينكر لأنهما
يجران إلى أنفسهما نفعا بنصب حافظ للتركة.
"ولو شهدا" يعني
الوصيين
"لوارث صغير بشيء من مال الميت أو غيره
فشهادتهما باطلة" لأنهما
يظهران ولاية التصرف لأنفسهما في المشهود به.
قال:
"وإن شهد لوارث كبير في مال الميت لم يجز، وإن
كان في غير مال الميت جاز"
وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إن شهدا لوارث
كبير تجوز في الوجهين، لأنه لا يثبت لهما
ولاية التصرف في التركة إذا كانت الورثة كبارا
فعريت عن التهمة. وله أنه يثبت لهما ولاية
الحفظ وولاية بيع المنقول عند غيبة الوارث
فتحققت التهمة بخلاف شهادتها في غير التركة
لانقطاع ولاية وصي الأب عنه، لأن الميت أقامه
مقام نفسه في تركته لا في غيرها.
قال:
"وإذا شهد رجلان لرجلين على ميت بدين ألف درهم
وشهد الآخران للأولين بمثل ذلك جازت شهادتهما،
فإن كانت شهادة كل فريق للآخر بوصية ألف درهم
لم تجز"
ج / 4 ص -545-
وهذا
قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا تقبل
في الدين أيضا. وأبو حنيفة فيما ذكر الخصاف مع
أبي يوسف. وعن أبي يوسف مثل قول محمد رحمه
الله.
وجه القبول أن الدين يجب في الذمة وهي قابلة
لحقوق شتى فلا شركة، ولهذا لو تبرع أجنبي
بقضاء دين أحدهما ليس للآخر حق المشاركة. وجه
الرد أن الدين بالموت يتعلق بالتركة إذ الذمة
خربت بالموت، ولهذا لو استوفى أحدهما حقه من
التركة يشاركه الآخر فيه فكانت الشهادة مثبتة
حق الشركة فتحققت التهمة، بخلاف حال حياة
المديون لأنه في الذمة لبقائها لا في المال
فلا تتحقق الشركة.
قال:
"ولو شهدا أنه أوصى لهذين الرجلين بجاريته
وشهد المشهود لهما أن الميت أوصى للشاهدين
بعبده جازت الشهادة بالاتفاق"
لأنه لا شركة فلا تهمة.
"ولو شهدا أنه أوصى لهذين الرجلين بثلث ماله
وشهد المشهود لهما أنه أوصى للشاهدين بثلث
ماله فالشهادة باطلة، وكذا إذا شهد الأولان أن
الميت أوصى لهذين الرجلين بعبد وشهد المشهود
لهما أنه أوصى للأولين بثلث ماله فهي باطلة"
لأن الشهادة في هذه الصورة مثبتة للشركة. |