بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الطهارة"
الكلام في هذا الكتاب في الأصل، في موضعين: أحدهما، في تفسير الطهارة، والثاني، في بيان أنواعها "أما" تفسيرها: فالطهارة لغة، وشرعا هي النظافة، والتطهير، والتنظيف، وهو إثبات النظافة في المحل، وأنها صفة تحدث ساعة فساعة، وإنما يمتنع حدوثها بوجود ضدها، وهو القذر، فإذا زال القذر، وامتنع حدوثه بإزالة العين القذرة، تحدث النظافة، فكان زوال القذر من باب زوال المانع من حدوث الطهارة، لا أن يكون طهارة، وإنما سمي طهارة توسعا لحدوث الطهارة عند زواله.
"فصل": وأما بيان أنواعها: فالطهارة في الأصل نوعان: طهارة عن الحدث، وتسمى طهارة حكمية، وطهارة عن الخبث، وتسمى طهارة حقيقية أما الطهارة عن الحدث فثلاثة أنواع: الوضوء، والغسل، والتيمم.
"أما" الوضوء: فالكلام في الوضوء في مواضع تفسيره، وفي بيان أركانه، وفي بيان شرائط الأركان، وفي بيان سننه، وفي بيان آدابه، وفي بيان ما ينقضه. أما الأول: فالوضوء اسم للغسل والمسح، لقوله تبارك، وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أمر بغسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس. فلا بد من معرفة معنى الغسل والمسح فالغسل هو إسالة المائع على المحل، والمسح هو الإصابة، حتى لو غسل أعضاء وضوئه، ولم يسل الماء، بأن استعمله مثل الدهن، لم يجز في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه يجوز وعلى هذا قالوا: "لو توضأ بالثلج، ولم يقطر منه شيء لا يجوز، ولو قطر قطرتان، أو ثلاث، جاز لوجود الإسالة،" وسئل الفقيه أبو جعفر الهندواني عن التوضؤ بالثلج، فقال: "ذلك مسح، وليس بغسل، فإن عالجه حتى يسيل يجوز" وعن خلف بن أيوب أنه قال: "ينبغي للمتوضئ في الشتاء أن يبل أعضاءه شبه الدهن، ثم يسيل الماء عليها؛ لأن الماء يتجافى عن الأعضاء في الشتاء ".
مطلب غسل الوجه "وأما" أركان الوضوء فأربعة: "أحدها": غسل الوجه مرة واحدة، لقوله تعالى:
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، ولم يذكر في ظاهر الرواية حد الوجه، وذكر في غير رواية الأصول أنه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذنين، وهذا تحديد صحيح؛ لأنه تحديد الشيء بما ينبئ عنه اللفظ لغة؛ لأن الوجه اسم لما يواجه الإنسان، أو ما يواجه إليه في العادة، والمواجهة تقع بهذا المحدود، فوجب غسله قبل نبات الشعر، فإذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء، وقال أبو عبد الله البلخي: "إنه لا يسقط غسله" وقال الشافعي: "إن كان الشعر كثيفا يسقط، وإن كان خفيفا لا يسقط". وجه قول أبي عبد الله أن ما تحت الشعر بقي داخلا تحت الحد بعد نبات الشعر، فلا يسقط غسله وجه قول الشافعي أن السقوط لمكان الحرج، والحرج في الكثيف لا في الخفيف. "ولنا" أن الواجب غسل الوجه، ولما نبت الشعر خرج ما تحته من أن يكون وجها، لأنه لا يواجه إليه، فلا يجب غسله، وخرج الجواب عما قاله أبو عبد الله، وعما قاله الشافعي أيضا، لأن السقوط في الكثيف ليس لمكان الحرج، بل لخروجه من أن يكون وجها لاستتاره بالشعر، وقد وجد ذلك في الخفيف، وعلى هذا الخلاف غسل ما تحت الشارب والحاجبين. وأما الشعر الذي يلاقي الخدين، وظاهر الذقن، فقد روى ابن شجاع عن الحسن عن أبي حنيفة، وزفر، أنه إذا مسح من لحيته ثلثا، أو ربعا جاز، وإن مسح أقل من ذلك لم يجز. وقال أبو يوسف إن لم

 

ج / 1 ص -4-            يمسح شيئا منها جاز، وهذه الروايات مرجوع عنها، والصحيح أنه يجب غسله؛ لأن البشرة خرجت من أن تكون وجها، لعدم معنى المواجهة لاستتارها بالشعر، فصار ظاهر الشعر الملاقي لها هو الوجه، لأن المواجهة تقع إليه، وإلى هذا أشار أبو حنيفة فقال: "وإنما مواضع الوضوء ما ظهر منها"، والظاهر هو الشعر لا البشرة، فيجب غسله، ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية عندنا، وعند الشافعي يجب "له" أن المسترسل تابع لما اتصل، والتبع حكمه حكم الأصل. و "لنا" أنه إنما يواجه إلى المتصل عادة، لا إلى المسترسل، فلم يكن المسترسل وجها، فلا يجب غسله، ويجب غسل البياض الذي بين العذار والأذن، في قول أبي حنيفة، ومحمد. وروي عن أبي يوسف أنه لا يجب لأبي يوسف أن ما تحت العذار لا يجب غسله مع أنه أقرب إلى الوجه، فلأن لا يجب غسل البياض أولى، ولهما أن البياض داخل في حد الوجه، ولم يستر بالشعر فبقي واجب الغسل كما كان، بخلاف العذار. وإدخال الماء في داخل العينين ليس بواجب؛ لأن داخل العين ليس بوجه؛ لأنه لا يواجه إليه؛ ولأن فيه حرجا، وقيل: إن من تكلف لذلك من الصحابة كف بصره، كابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم.
مطلب غسل اليدين "والثاني": غسل اليدين مرة واحدة لقوله تعالى:
{وَأَيْدِيكُمْ} ومطلق الأمر لا يقتضي التكرار. والمرفقان يدخلان في الغسل عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر لا يدخلان، ولو قطعت يده من المرفق، يجب عليه غسل موضع القطع عندنا خلافا له. وجه قوله أن الله تعالى: جعل المرفق غاية، فلا يدخل تحت ما جعلت له الغاية، كما لا يدخل الليل تحت الأمر بالصوم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. "ولنا" أن الأمر تعلق بغسل اليد، واليد اسم لهذه الجارحة من رءوس الأصابع إلى الإبط، ولولا ذكر المرفق لوجب غسل اليد كلها، فكان ذكر المرفق لإسقاط الحكم عما وراءه، لا لمد الحكم إليه، لدخوله تحت مطلق اسم اليد، فيكون عملا باللفظ بالقدر الممكن، وبه تبين أن المرفق لا يصلح غاية لحكم ثبت في اليد، لكونه بعض اليد، بخلاف الليل في باب الصوم، ألا ترى أنه لولا ذكر الليل لما اقتضى الأمر إلا وجوب صوم ساعة، فكان ذكر الليل لمد الحكم إليه؛ على أن الغايات منقسمة، منها ما لا يدخل تحت ما ضربت له الغاية، ومنها ما يدخل، كمن قال: رأيت فلانا من رأسه إلى قدمه، وأكلت السمكة من رأسها إلى ذنبها، دخل القدم، والذنب، فإن كانت هذه الغاية من القسم الأول لا يجب غسلهما، وإن كانت من القسم الثاني يجب، فيحمل على الثاني احتياطا، على أنه إذا احتمل دخول المرافق في الأمر بالغسل، واحتمل خروجها عنه صار مجملا مفتقرا إلى البيان. وقد روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما" فكان فعله بيانا لمجمل الكتاب، والمجمل إذا التحق به البيان يصير مفسرا من الأصل.
مطلب مسح الرأس "والثالث": مسح الرأس مرة واحدة لقوله تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} والأمر المطلق بالفعل لا يوجب التكرار، واختلف في المقدار المفروض مسحه، ذكره في الأصل، وقدره بثلاث أصابع اليد، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قدره بالربع، وهو قول زفر وذكر الكرخي والطحاوي عن أصحابنا مقدار الناصية. وقال مالك: لا يجوز حتى يمسح جميع الرأس، أو أكثره، وقال الشافعي: إذا مسح ما يسمى مسحا يجوز، وإن كان ثلاث شعرات. وجه قول مالك أن الله تعالى: ذكر الرأس، والرأس اسم للجملة، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس، وحرف الباء لا يقتضي التبعيض لغة، بل هو حرف إلصاق، فيقتضي إلصاق الفعل بالمفعول، وهو المسح بالرأس، والرأس اسم لكله، فيجب مسح كله، إلا أنه إذا مسح الأكثر جاز لقيام الأكثر مقام الكل. وجه قول الشافعي أن الأمر تعلق بالمسح بالرأس، والمسح بالشيء لا يقتضي استيعابه في العرف، يقال: "مسحت يدي بالمنديل" ، وإن لم يمسح بكله، ويقال: " كتبت بالقلم، وضربت بالسيف "، وإن لم يكتب بكل القلم، ولم يضرب بكل السيف، فيتناول أدنى ما ينطلق عليه الاسم. "ولنا" أن الأمر بالمسح يقتضي آلة، إذ المسح لا يكون إلا بآلة، وآلة المسح هي أصابع اليد عادة، وثلاث أصابع اليد أكثر الأصابع، وللأكثر حكم الكل، فصار كأنه نص على الثلاث وقال: " وامسحوا برءوسكم بثلاث أصابع أيديكم ". وأما وجه التقدير بالناصية فلأن مسح جميع الرأس ليس بمراد من الآية بالإجماع، ألا ترى أنه عند مالك أن مسح جميع الرأس إلا قليلا منه جائز، فلا يمكن حمل الآية على جميع الرأس، ولا على بعض مطلق، وهو أدنى ما ينطلق عليه الاسم كما قاله الشافعي، لأن ماسح

 

ج / 1 ص -5-            شعرة، أو ثلاث شعرات لا يسمى ماسحا في العرف، فلا بد من الحمل على مقدار يسمى المسح عليه مسحا في المتعارف، وذلك غير معلوم. وقد روى المغيرة بن شعبة عن "النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال، وتوضأ، ومسح على ناصيته" فصار فعله عليه الصلاة والسلام بيانا لمجمل الكتاب، إذ البيان يكون بالقول تارة، وبالفعل أخرى، كفعله في هيئة الصلاة، وعدد ركعاتها، وفعله في مناسك الحج، وغير ذلك. فكان المراد من المسح بالرأس مقدار الناصية ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ووجه التقدير بالربع أنه قد ظهر اعتبار الربع في كثير من الأحكام، كما في حلق ربع الرأس أنه يحل به المحرم، ولا يحل بدونه، ويجب الدم إذا فعله في إحرامه، ولا يجب بدونه، وكما في انكشاف الربع من العورة في باب الصلاة أنه يمنع جواز الصلاة، وما دونه لا يمنع، كذا ههنا، ولو وضع ثلاث أصابع وضعا، ولم يمدها جاز على قياس رواية الأصل، وهي التقدير بثلاث أصابع؛ لأنه أتى بالقدر المفروض، وعلى قياس رواية الناصية: والربع لا يجوز لأنه ما استوفى ذلك القدر. ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لم يجز؛ لأنه لم يأت بالقدر المفروض، ولو مدها حتى بلغ القدر المفروض لم يجز عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يجوز، وعلى هذا الخلاف إذا مسح بأصبع، أو بأصبعين، ومدهما حتى بلغ مقدار الفرض. وجه قول زفر إن الماء لا يصير مستعملا حالة المسح كما لا يصير مستعملا حالة الغسل، فإذا مد فقد مسح بماء غير مستعمل، فجاز، والدليل عليه أن سنة الاستيعاب تحصل بالمد، ولو كان مستعملا بالمد لما حصلت، لأنها لا تحصل بالماء المستعمل. "ولنا" أن الأصل أن يصير الماء مستعملا بأول ملاقاته العضو، لوجود زوال الحدث، أو قصد القربة، إلا أن في باب الغسل لم يظهر حكم الاستعمال في تلك الحالة للضرورة، وهي أنه لو أعطى له حكم الاستعمال لاحتاج إلى أن يأخذ لكل جزء من العضو ماء جديدا، وفيه من الحرج ما لا يخفى، فلم يظهر حكم الاستعمال لهذه الضرورة، ولا ضرورة في المسح؛ لأنه يمكنه أن يمسح دفعة واحدة، فلا ضرورة إلى المد لإقامة الفرض، فظهر حكم الاستعمال فيه، وبه حاجة إلى إقامة سنة الاستيعاب، فلم يظهر حكم الاستعمال فيه كما في الغسل. ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات، وأعادها إلى الماء في كل مرة جاز، هكذا روى ابن رستم عن محمد في النوادر; لأن المفروض هو المسح قدر ثلاث أصابع. وقد وجد، وإن لم يكن بثلاث أصابع، ألا ترى أنه لو أصاب رأسه هذا القدر من ماء المطر سقط عنه فرض المسح، وإن لم يوجد منه فعل المسح رأسا، ولو مسح بأصبع واحدة ببطنها، وبظهرها، وبجانبها لم يذكر في ظاهر الرواية، واختلف المشايخ فقال بعضهم: لا يجوز. وقال بعضهم: يجوز، وهو الصحيح; لأن ذلك في معنى المسح بثلاث أصابع، وإيصال الماء إلى أصول الشعر ليس بفرض; لأن فيه حرجا فأقيم المسح على الشعر مقام المسح على أصوله، ولو مسح على شعره وكان شعره طويلا فإن مسح على ما تحت أذنه لم يجز، وإن مسح على ما فوقها جاز، لأن المسح على الشعر كالمسح على ما تحته، وما تحت الأذن عنق، وما فوقه رأس. ولا يجوز المسح على العمامة، والقلنسوة، لأنهما يمنعان إصابة الماء الشعر، ولا يجوز مسح المرأة على خمارها، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أدخلت يدها تحت الخمار، ومسحت برأسها وقالت: بهذا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان الخمار رقيقا ينفذ الماء إلى شعرها، فيجوز لوجود الإصابة. ولو أصاب رأسه المطر مقدار المفروض أجزأه مسحه بيده أو لم يمسحه; لأن الفعل ليس بمقصود في المسح، وإنما المقصود هو وصول الماء إلى ظاهر الشعر، وقد وجد، والله الموفق.
مطلب غسل الرجلين "والرابع" غسل الرجلين مرة واحدة، لقوله تعالى:
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بنصب اللام من الأرجل معطوفا على قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} كأنه قال: فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وقالت الرافضة الفرض هو المسح لا غير وقال الحسن البصري بالتخيير بين المسح، والغسل وقال بعض المتأخرين بالجمع بينهما وأصل هذا الاختلاف أن الآية قرئت بقراءتين، بالنصب، والخفض فمن قال بالمسح أخذ بقراءة الخفض، فإنها تقتضي كون الأرجل ممسوحة لا مغسولة؛ لأنها تكون معطوفة على الرأس، والمعطوف يشارك المعطوف عليه في الحكم، ثم وظيفة الرأس المسح، فكذا وظيفة 

 

ج / 1 ص -6-            الرجل، ومصداق هذه القراءة أنه اجتمع في الكلام عاملان، أحدهما: قوله: {فَاغْسِلُوا} والثاني: حرف الجر، وهو الباء في قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ}، والباء أقرب فكان الخفض أولى، ومن قال بالتخيير يقول: إن القراءتين قد ثبت كون كل واحدة منهما قرآنا، وتعذر الجمع بين موجبيهما، وهو وجوب المسح، والغسل، إذ لا قائل به في السلف، فيخير المكلف، إن شاء عمل بقراءة النصب فغسل، وإن شاء بقراءة الخفض فمسح، وأيهما فعل يكون إتيانا بالمفروض، كما في الأمر بأحد الأشياء الثلاثة، ومن قال بالجمع يقول: القراءتان في آية واحدة بمنزلة آيتين فيجب العمل بهما جميعا ما أمكن، وأمكن ههنا لعدم التنافي، إذ لا تنافي بين الغسل، والمسح في محل واحد فيجب الجمع بينهما. "ولنا" قراءة النصب، وأنها تقتضي كون، وظيفة الأرجل الغسل، لأنها تكون معطوفة على المغسولات، وهي الوجه، واليدان، والمعطوف على المغسول يكون مغسولا تحقيقا لمقتضى العطف، وحجة هذه القراءة وجوه: أحدها: ما قاله بعض مشايخنا أن قراءة النصب محكمة في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على المغسولات، وقراءة الخفض محتملة; لأنه يحتمل أنها معطوفة على الرءوس حقيقة، ومحلها من الإعراب الخفض، ويحتمل أنها معطوفة على الوجه، واليدين حقيقة، ومحلها من الإعراب النصب، إلا أن خفضها للمجاورة، وإعطاء الإعراب بالمجاورة طريقة شائعة في اللغة بغير حائل، وبحائل، أما بغير الحائل فكقولهم: جحر ضب خرب وماء شن بارد، والخرب نعت الجحر لا نعت الضب، والبرودة نعت الماء لا نعت الشن، ثم خفض لمكان المجاورة. وأما مع الحائل، فكما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} إلى قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} لأنهن لا يطاف بهن، وكما قال الفرزدق:

فهل أنت إن ماتت أتانك راكب                  إلى آل بسطام بن قيس فخاطب


فثبت أن قراءة الخفض محتملة، وقراءة النصب محكمة، فكان العمل بقراءة النصب أولى إلا أن في هذا إشكالا، وهو أن هذا الكلام في حد التعارض لأن قراءة النصب محتملة أيضا في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على اليدين، والرجلين، لأنه يحتمل أنها معطوفة على الرأس. والمراد بها المسح حقيقة، لكنها نصبت على المعنى لا على اللفظ، لأن الممسوح به مفعول به، فصار كأنه قال تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. والإعراب قد يتبع اللفظ، وقد يتبع المعنى، كما قال الشاعر:

معاوي إننا بشر فأسجح                          فلسنا بالجبال ولا الحديدا


نصب الحديد عطفا على الجبال بالمعنى لا باللفظ، معناه فلسنا الجبال، ولا الحديد، فكانت كل واحدة من القراءتين محتملة في الدلالة من الوجه الذي ذكرنا، فوقع التعارض فيطلب الترجيح من جانب آخر، وذلك من وجوه: أحدها: أن الله تعالى: مد الحكم في الأرجل إلى الكعبين، ووجوب المسح لا يمتد إليهما. والثاني: أن الغسل يتضمن المسح، إذ الغسل إسالة، والمسح إصابة، وفي الإسالة إصابة، وزيادة، فكان ما قلناه عملا بالقراءتين معا، فكان أولى. والثالث: أنه قد روى جابر، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء فقال:
"ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". وروي أنه توضأ مرة، وغسل رجليه وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" ومعلوم أن قوله: "ويل للأعقاب من النار" وعيد لا يستحق إلا بترك المفروض، وكذا نفي قبول صلاة من لا يغسل رجليه في وضوئه، فدل أن غسل الرجلين من فرائض الوضوء. وقد ثبت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء، لا يجحده مسلم، فكان قوله، وفعله بيان المراد بالآية، فثبت بالدلائل المتصلة، والمنفصلة أن الأرجل في الآية معطوفة على المغسول لا على الممسوح، فكان وظيفتها الغسل لا المسح، على أنه إن وقع التعارض بين القراءتين فالحكم في تعارض القراءتين كالحكم في تعارض الآيتين، وهو أنه إن أمكن العمل بهما مطلقا يعمل، وإن لم يمكن للتنافي يعمل بهما بالقدر الممكن، وههنا لا يمكن الجمع بين الغسل، والمسح في عضو واحد في حالة واحدة؛ لأنه لم يقل به أحد من السلف، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح، لما ذكرنا أن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فيعمل بهما في الحالتين، فتحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتين، وتحمل قراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين توفيقا بين القراءتين، وعملا بهما

 

ج / 1 ص -7-            بالقدر الممكن، وبه تبين أن القول بالتخيير باطل عند إمكان العمل بهما في الجملة. وعند عدم الإمكان أصلا، ورأسا لا يخير أيضا، بل يتوقف على ما عرف في أصول الفقه، ثم الكعبان يدخلان في الغسل عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يدخلان، والكلام في الكعبين على نحو الكلام في المرفقين، وقد ذكرناه، والكعبان هما العظمان الناتئان في أسفل الساق بلا خلاف بين الأصحاب، كذا ذكره القدوري لأن الكعب في اللغة اسم لما علا وارتفع، ومنه سميت الكعبة كعبة، وأصله من كعب القناة، وهو أنبوبها سمي به لارتفاعه. وتسمى الجارية الناهدة الثديين كاعبا لارتفاع ثدييها، وكذا في العرف يفهم منه الناتئ، يقال ضرب كعب فلان، وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في تسوية الصفوف في الصلاة "ألصقوا الكعاب بالكعاب" ولم يتحقق معنى الإلصاق إلا في الناتئ، وما روى هشام عن محمد أنه المفصل الذي عند معقد الشراك على ظهر القدم فغير صحيح، إنما قال محمد في مسألة المحرم إذا لم يجد نعلين، أنه يقطع الخف أسفل الكعب، فقال: "إن الكعب ههنا الذي في مفصل القدم" فنقل هشام ذلك إلى الطهارة، والله أعلم. وهذا الذي ذكرنا من وجوب غسل الرجلين إذا كانتا باديتين لا عذر بهما، فأما إذا كانتا مستورتين بالخف، أو كان بهما عذر من كسر، أو جرح، أو قرح، فوظيفتهما المسح، فيقع الكلام في الأصل في موضعين: أحدهما: في المسح على الخفين. والثاني: في المسح على الجبائر.
"فصل" أما المسح على الخفين فالكلام فيه في مواضع: في بيان جوازه، وفي بيان مدته، وفي بيان شرائط جوازه، وفي بيان مقداره، وفي بيان ما ينقضه، وفي بيان حكمه إذا انتقض. "أما" الأول: فالمسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء، وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا شيئا قليلا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لا يجوز، وهو قول الرافضة وقال مالك: يجوز للمسافر، ولا يجوز للمقيم، واحتج من أنكر المسح بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فقراءة النصب تقتضي وجوب غسل الرجلين مطلقا عن الأحوال; لأنه جعل الأرجل معطوفة على الوجه واليدين، وهي مغسولة، فكذا الأرجل، وقراءة الخفض تقتضي وجوب المسح على الرجلين لا على الخفين. وروي أنه سئل ابن عباس: هل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين؟ فقال:"والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين بعد نزول المائدة، ولأن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحب إلي من أن أمسح على الخفين" رواية قال: "لأن أمسح على جلد حمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين". "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها"، وهذا حديث مشهور رواه جماعة من الصحابة مثل عمر، وعلي، وخزيمة بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وصفوان بن عسال، وعوف بن مالك، وأبي عمارة، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم حتى قال أبو يوسف: "خبر مسح الخفين يجوز نسخ القرآن بمثله". وروي أنه قال: إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين، وكذا الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على جواز المسح قولا، وفعلا، حتى روي عن الحسن البصري أنه قال: أدركت سبعين بدريا من الصحابة كلهم كانوا يرون المسح على الخفين، ولهذا رآه أبو حنيفة من شرائط السنة والجماعة، فقال فيها: "أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وأن ترى المسح على الخفين، وأن لا تحرم نبيذ التمر؛ يعني: المثلث". وروي عنه أنه قال: "ما قلت: بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار" فكان الجحود ردا على كبار الصحابة، ونسبة إياهم إلى الخطأ، فكان بدعة، فلهذا قال الكرخي: "أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين". وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: "لولا أن المسح لا خلاف فيه ما مسحنا" ودل قوله هذا على أن خلاف ابن عباس لا يكاد يصح; ولأن الأمة لم تختلف على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح، وإنما اختلفوا أنه مسح قبل نزول المائدة، أو بعدها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، حتى قال الحسن البصري: "حدثني سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوه يمسح على الخفين". وروي عن عائشة، والبراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه 
 

 

ج / 1 ص -8-            وسلم  مسح بعد المائدة. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي أنه توضأ، ومسح على الخفين فقيل: له في ذلك، فقال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، و مسح على الخفين فقيل له: أكان ذلك بعد نزول المائدة ؟ فقال: وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة؟" وأما الآية فقد قرئت بقراءتين فنعمل بهما في حالين، فنقول وظيفتهما الغسل إذا كانتا باديتين، والمسح إذا كانتا مستورتين بالخف، عملا بالقراءتين بقدر الإمكان ويجوز أن يقال لمن مسح على خفه إنه مسح على رجله، كما يجوز أن يقال: ضرب على رجله، وإن ضرب على خفه، والرواية عن ابن عباس لم تصح لما روينا عن أبي حنيفة ولأن مداره على عكرمة. وروي أنه لما بلغت روايته عطاء قال كذب عكرمة وروى عنه عطاء، والضحاك أنه مسح على خفيه، فهذا يدل على أن خلاف ابن عباس لم يثبت. وروي عن عطاء أنه قال: "كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين فلم يمت حتى تابعهم". وأما الكلام مع مالك، فوجه قوله أن المسح شرع ترفها، ودفعا للمشقة، فيختص شرعيته بمكان المشقة، وهو السفر. "ولنا" ما روينا من الحديث المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها"، وما ذكر من الاعتبار غير سديد، لأن المقيم يحتاج إلى الترفه، ودفع المشقة، إلا إن حاجة المسافر إلى ذلك أشد، فزيدت مدته لزيادة الترفيه، والله الموفق.
مطلب بيان مدة المسح "وأما بيان مدة المسح" فقد اختلف العلماء في أن المسح على الخفين هل هو مقدر بمدة ؟ قال عامتهم: "إنه مقدر بمدة في حق المقيم يوما وليلة، وفي حق المسافر ثلاثة أيام، ولياليها". وقال مالك "إنه غير مقدر، وله أن يمسح كم شاء،" والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن سمرة، وأبي موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أنه مؤقت وعن أبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وسعيد رضي الله عنهم أنه غير مؤقت، واحتج مالك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بلغ بالمسح سبعا. وروي أن عمر رضي الله عنه سأل عقبة بن عامر وقد قدم من الشام: متى عهدك بالمسح ؟ قال: "سبعا فقال عمر: رضي الله عنه أصبت السنة "وبلغ بالمسح سبعا" ، فهو غريب، فلا يترك به المشهور مع أن الرواية المتفق عليها أنه بلغ بالمسح ثلاثا، ثم تأويله أنه احتاج إلى المسح سبعا في مدة المسح وأما الحديث الآخر فقد روى جابر الجعفي عن عمر أنه قال: للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم، وليلة، وهو موافق للخبر المشهور، فكان الأخذ به أولى، ثم يحتمل أن يكون المراد من قوله: " متى عهدك بلبس الخف ؟ " ابتداء اللبس أي متى عهدك بابتداء اللبس ؟، وإن كان تخلل بين ذلك نزع الخف.
ثم اختلف في اعتبار مدة المسح أنه من أي وقت يعتبر ؟ فقال عامة العلماء "يعتبر من وقت الحدث بعد اللبس، فيمسح من وقت الحدث إلى وقت الحدث" وقال بعضهم: "يعتبر من وقت اللبس"، فيمسح من وقت اللبس إلى وقت اللبس. وقال بعضهم: "يعتبر من وقت المسح،" فيمسح من وقت المسح إلى وقت المسح حتى لو توضأ بعد ما انفجر الصبح، ولبس خفيه، وصلى الفجر، ثم أحدث بعد طلوع الشمس، ثم توضأ، ومسح على خفيه بعد زوال الشمس، فعلى قول العامة يمسح إلى ما بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني إن كان مقيما، وإن كان مسافرا يمسح إلى ما بعد طلوع الشمس من اليوم الرابع، وعلى قول من اعتبر وقت اللبس، يمسح إلى ما بعد انفجار الصبح من اليوم الثاني إن كان مقيما، وإن كان مسافرا إلى ما بعد انفجار الصبح من اليوم الرابع، وعلى قول من اعتبر وقت المسح يمسح إلى ما بعد زوال الشمس من اليوم الثاني إن كان مقيما. وإن كان مسافرا يمسح إلى ما بعد زوال الشمس من اليوم الرابع، والصحيح اعتبار وقت الحدث بعد اللبس; لأن الخف جعل مانعا من سراية الحدث إلى القدم، ومعنى المنع إنما يتحقق عند الحدث، فيعتبر ابتداء المدة من هذا الوقت; لأن هذه المدة ضربت توسعة، وتيسيرا لتعذر نزع الخفين في كل زمان، والحاجة إلى التوسعة عند الحدث; لأن الحاجة إلى النزع عنده، ولو توضأ، ولبس خفيه، وهو مقيم ثم سافر، فإن سافر بعد استكمال مدة الإقامة، لا تتحول مدته إلى مدة مسح السفر؛ لأن مدة الإقامة لما تمت سرى الحدث السابق إلى القدمين، فلو جوزنا المسح صار الخف رافعا للحدث لا مانعا، وليس هذا عمل الخف في الشرع. وإن سافر قبل أن يستكمل مدة الإقامة، فإن سافر قبل الحدث، أو بعد

 

ج / 1 ص -9-            الحدث، قبل المسح، تحولت مدته إلى مدة السفر من وقت الحدث بالإجماع، وإن سافر بعد المسح فكذلك عندنا، وعند الشافعي لا يتحول، ولكنه يمسح تمام مدة الإقامة، وينزع خفيه، ويغسل رجليه، ثم يبتدئ مدة السفر، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم "يمسح المقيم يوما، وليلة"، ولم يفصل. "ولنا" قوله صلى الله عليه وسلم "والمسافر ثلاثة أيام، ولياليها"، وهذا مسافر، ولا حجة له في صدر الحديث لأنه يتناول المقيم وقد بطلت الإقامة بالسفر، هذا إذا كان مقيما فسافر. وأما إذا كان مسافرا فأقام فإن أقام بعد استكمال مدة السفر نزع خفيه، وغسل رجليه، لما ذكرنا، وإن أقام قبل أن يستكمل مدة السفر فإن أقام بعد تمام يوم، وليلة، أو أكثر، فكذلك ينزع خفيه، ويغسل رجليه؛ لأنه لو مسح لمسح، وهو مقيم أكثر من يوم، وليلة، وهذا لا يجوز، وإن أقام قبل تمام يوم، وليلة أتم يوما، وليلة؛ لأن أكثر ما في الباب أنه مقيم فيتم مدة المقيم، ثم ما ذكرنا من تقدير مدة المسح بيوم، وليلة في حق المقيم، وبثلاثة أيام، ولياليها في حق المسافر، في حق الأصحاء. فأما في حق أصحاب الأعذار، كصاحب الجرح السائل، والاستحاضة، ومن بمثل حالهما فكذلك الجواب عند زفر وأما عند أصحابنا الثلاثة فيختلف الجواب، إلا في حالة واحدة، وبيان ذلك أن صاحب العذر إذا توضأ، ولبس خفيه فهذا على أربعة أوجه: أما إن كان الدم منقطعا وقت الوضوء، واللبس وأما إن كان سائلا في الحالين جميعا وأما إن كان منقطعا وقت الوضوء، سائلا وقت اللبس. وأما إن كان سائلا وقت الوضوء، منقطعا وقت اللبس، فإن كان منقطعا في الحالين، فحكمه حكم الأصحاء; لأن السيلان وجد عقيب اللبس، فكان اللبس على طهارة كاملة، فمنع الخف سراية الحدث إلى القدمين ما دامت المدة باقية. وأما في الفصول الثلاثة، فإنه يمسح ما دام الوقت باقيا، فإذا خرج الوقت نزع خفيه، وغسل رجليه، عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يستكمل مدة المسح كالصحيح وجه قوله أن طهارة صاحب العذر طهارة معتبرة شرعا; لأن السيلان ملحق بالعدم، ألا ترى أنه يجوز أداء الصلاة بها، فحصل اللبس على طهارة كاملة، فألحقت بطهارة الأصحاء. "ولنا" أن السيلان ملحق بالعدم في الوقت، بدليل أن طهارته تنتقض بالإجماع إذا خرج الوقت، وإن لم يوجد الحدث، فإذا مضى الوقت صار محدثا من وقت السيلان. والسيلان كان سابقا على لبس الخف، ومقارنا له، فتبين أن اللبس حصل لا على الطهارة، بخلاف الفصل الأول; لأن السيلان ثمة وجد عقيب اللبس، فكان اللبس حاصلا عن طهارة كاملة.
وأما شرائط جواز المسح" فأنواع: بعضها يرجع إلى الماسح، وبعضها يرجع إلى الممسوح أما الذي يرجع إلى الماسح أنواع: أحدها: أن يكون لابس الخفين على طهارة كاملة عند الحدث بعد اللبس، ولا يشترط أن يكون على طهارة كاملة وقت اللبس، ولا أن يكون على طهارة كاملة أصلا ورأسا، وهذا مذهب أصحابنا، وعند الشافعي يشترط أن يكون على طهارة كاملة وقت اللبس، وبيان ذلك أن المحدث إذا غسل رجليه أولا، ولبس خفيه، ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث، ثم أحدث جاز له أن يمسح على الخفين عندنا، لوجود الشرط، وهو لبس الخفين على طهارة كاملة وقت الحدث بعد اللبس. وعند الشافعي لا يجوز لعدم الطهارة وقت اللبس; لأن الترتيب عنده شرط، فكان غسل الرجلين مقدما على الأعضاء الأخر ملحقا بالعدم، فلم توجد الطهارة وقت اللبس. وكذلك لو توضأ فرتب، لكنه غسل إحدى رجليه ولبس الخف، ثم غسل الأخرى ولبس الخف، قيل: " لا يجوز عنده، وإن وجد الترتيب في هذه الصورة" لكنه لم يوجد لبس الخفين على طهارة كاملة وقت لبسهما، حتى لو نزع الخف الأول ثم لبسه جاز المسح، لحصول اللبس على طهارة كاملة. "ولنا" أن المسح شرع لمكان الحاجة، والحاجة إلى المسح إنما تتحقق وقت الحدث بعد اللبس، فأما عند الحدث قبل اللبس فلا حاجة; لأنه يمكنه الغسل، وكذا لا حاجة بعد اللبس قبل الحدث، لأنه طاهر، فكان الشرط كمال الطهارة وقت الحدث بعد اللبس وقد وجد. ولو لبس خفيه وهو محدث، ثم توضأ، وخاض الماء حتى أصاب الماء رجليه في داخل الخف، ثم أحدث جاز له المسح عندنا لوجود الشرط، وهو كمال الطهارة عند الحدث بعد اللبس، ولا يجوز عنده لعدم الشرط، وهو كمال الطهارة عند اللبس، ولو لبس خفيه وهو محدث، ثم أحدث قبل أن يتم الوضوء، ثم أتم لا يجوز المسح بالإجماع، أما عندنا فلانعدام الطهارة وقت الحدث بعد اللبس، وأما عنده فلانعدامها عند اللبس.ولو أراد 
 

 

ج / 1 ص -10-         الطاهر أن يبول، فلبس خفيه، ثم بال، جاز له المسح; لأنه على طهارة كاملة وقت الحدث بعد اللبس، وسئل أبو حنيفة عن هذا فقال: "لا يفعله إلا فقيه".ولو لبس خفيه على طهارة التيمم، ثم وجد الماء، نزع خفيه؛ لأنه صار محدثا بالحدث السابق على التيمم، إذ رؤية الماء لا تعقل حدثا، لأنه امتنع ظهور حكمه إلى وقت وجود الماء، فعند وجوده ظهر حكمه في القدمين، فلو جوزنا المسح لجعلنا الخف رافعا للحدث، وهذا لا يجوز.ولو لبس خفيه على طهارة نبيذ التمر ثم أحدث، فإن لم يجد ماء مطلقا توضأ بنبيذ التمر، ومسح على خفيه; لأنه طهور مطلق حال عدم الماء عند أبي حنيفة. وإن وجد ماء مطلقا، نزع خفيه، وتوضأ، وغسل قدميه; لأنه ليس بطهور عند وجود الماء المطلق وكذلك لو توضأ بسؤر الحمار، وتيمم، ولبس خفيه، ثم أحدث.ولو توضأ بسؤر الحمار، ولبس خفيه، ولم يتيمم، حتى أحدث جاز له أن يتوضأ بسؤر الحمار، ويمسح على خفيه، ثم يتيمم، ويصلي لأن سؤر الحمار، إن كان طهورا فالتيمم أفضل، وإن كان الطهور هو التراب، فالقدم لا حظ لها من التيمم.ولو توضأ، ومسح على جبائر قدميه، ولبس خفيه، ثم أحدث، أو كانت إحدى رجليه صحيحة، فغسلها، ومسح على جبائر الأخرى، ولبس خفيه، ثم أحدث، فإن لم يكن برأ الجرح مسح على الخفين؛ لأن المسح على الجبائر كالغسل لما تحتها، فحصل لبس الخفين على طهارة كاملة، كما لو أدخلهما مغسولتين حقيقة في الخف وإن كان برأ الجرح، نزع خفيه; لأنه صار محدثا بالحدث السابق، فظهر أن اللبس حصل لا على طهارة، وعلى هذا الأصل مسائل في الزيادات.ومنها: أن يكون الحدث خفيفا، فإن كان غليظا، وهو الجنابة، فلا يجوز فيها المسح، لما روي عن صفوان بن عسال المرادي أنه قال: "كان يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام، ولياليها، لا عن جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم"، ولأن الجواز في الحدث الخفيف لدفع الحرج، لأنه يتكرر، ويغلب وجوده فيلحقه الحرج، والمشقة في نزع الخف، والجنابة لا يغلب وجودها، فلا يلحقه الحرج في النزع.الذي يرجع إلى الممسوح، فمنها أن يكون خفا يستر الكعبين; لأن الشرع ورد بالمسح على الخفين، وما يستر الكعبين ينطلق عليه اسم الخف، وكذا ما يستر الكعبين من الجلد مما سوى الخف، كالمكعب الكبير، والميثم; لأنه في معنى الخف.مطلب المسح على الجوارب وأما المسح على الجوربين، فإن كانا مجلدين، أو منعلين، يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا وإن لم يكونا مجلدين، ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد يجوز. وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لعواده: "فعلت ما كنت أمنع الناس عنه" فاستدلوا به على رجوعه، وعند الشافعي لا يجوز المسح على الجوارب، وإن كانت منعلة، إلا إذا كانت مجلدة إلى الكعبين، احتج أبو يوسف، ومحمد بحديث المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين; ولأن الجواز في الخف لدفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع، وهذا المعنى موجود في الجورب، بخلاف اللفافة، والمكعب; لأنه لا مشقة في نزعهما، ولأبي حنيفة أن جواز المسح على الخفين ثبت نصا، بخلاف القياس، فكل ما كان في معنى الخف في إدمان المشي عليه، وإمكان قطع السفر به، يلحق به، وما لا، فلا ومعلوم أن غير المجلد، والمنعل، من الجوارب لا يشارك الخف في هذا المعنى، فتعذر الإلحاق، على أن شرع المسح إن ثبت للترفيه، لكن الحاجة إلى الترفيه، فيما يغلب لبسه، ولبس الجوارب مما لا يغلب، فلا حاجة فيها إلى الترفيه، فبقي أصل الواجب بالكتاب، وهو غسل الرجلين. "وأما" الحديث فيحتمل أنهما كانا مجلدين، أو منعلين، وبه نقول: ولا عموم له، لأنه حكاية حال، ألا يرى أنه لم يتناول الرقيق من الجوارب؟ وأما الخف المتخذ من اللبد، فلم يذكره في ظاهر الرواية, وقيل: " إنه على التفصيل، والاختلاف الذي ذكرنا "، وقيل: " إن كان يطيق السفر جاز المسح عليه، وإلا فلا" وهذا هو الأصح.مطلب المسح على الجوارب وأما المسح على الجوربين، فإن كانا مجلدين، أو منعلين، يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا وإن لم يكونا مجلدين، ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد يجوز. وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لعواده: " فعلت ما كنت أمنع الناس عنه" فاستدلوا به على رجوعه، وعند الشافعي لا يجوز المسح على الجوارب، وإن كانت منعلة، إلا إذا كانت مجلدة إلى الكعبين، احتج أبو يوسف، ومحمد بحديث المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين; ولأن الجواز في الخف لدفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع، وهذا المعنى موجود في الجورب، بخلاف اللفافة، والمكعب; لأنه لا مشقة في نزعهما، ولأبي حنيفة أن جواز المسح على الخفين ثبت نصا، بخلاف القياس، فكل ما كان في معنى الخف في إدمان المشي عليه، وإمكان قطع السفر به، يلحق به، وما لا، فلا ومعلوم أن غير المجلد، والمنعل، من الجوارب لا يشارك الخف في هذا المعنى، فتعذر الإلحاق، على أن شرع المسح إن ثبت للترفيه، لكن الحاجة إلى الترفيه، فيما يغلب لبسه، ولبس الجوارب مما لا يغلب، فلا حاجة فيها إلى الترفيه، فبقي أصل الواجب بالكتاب، وهو غسل الرجلين. "وأما" الحديث فيحتمل أنهما كانا مجلدين، أو منعلين، وبه نقول: ولا عموم له، لأنه حكاية حال، ألا يرى أنه لم يتناول الرقيق من الجوارب؟ وأما الخف المتخذ من اللبد، فلم يذكره في ظاهر الرواية، وقيل: " إنه على التفصيل، والاختلاف الذي ذكرنا "، وقيل: "إن كان يطيق السفر جاز المسح عليه، وإلا فلا" وهذا هو الأصح.وأما المسح على الجرموقين من الجلد فإن لبسهما فوق الخفين جاز عندنا وعند الشافعي لا يجوز وإن لبس الجرموق وحده قيل إنه على هذا الخلاف والصحيح أنه يجوز المسح عليه بالاجماع وجه قوله إن المسح على الخف بدل عن الغسل فلو جوزنا المسح عل الجرموقين لجعلنا للبدل بدلا وهذا لايجوز ولنا ماروي عن عمر رضي الله أنه قال "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجرموقين"

 

ج / 1 ص -11-         ولأن الجرموق  يشارك الخف في إمكان قطع السفر به فيشاركه في جواز المسح عليه ولهذا شاركه في حالة الانفراد ولأن الجرموق فوق الخف بمنزلة خف ذي طاقين وذا يجوز المسح عليه فكذا هذا وقوله "المسح عليه بدل عن المسح على الخف"  ممنوع بل كل واحد منهما بدل عن الغسل قائم مقامه إلا أنه إذا نزع الجرموق لا يجب غسل الرجلين لوجود شيء آخر هو بدل عن الغسل قائم مقامه وهو الخف
ثم إنما يجوز المسح على الجرموقين عندنا، إذا لبسهما على الخفين قبل أن يحدث، فإن أحدث ثم لبس الجرموقين، لا يجوز المسح عليهما، سواء مسح على الخفين أو لا أما إذا مسح فلأن حكم المسح استقر على الخف، فلا يتحول إلى غيره وأما إذا لم يمسح فلأن ابتداء مدة المسح من وقت الحدث وقد انعقد في الخف فلا يتحول إلى الجرموق بعد ذلك؛ ولأن جواز المسح على الجرموق لمكان الحاجة لتعذر النزع، وهنا لا حاجة، لأنه لا يتعذر عليه المسح على الخفين، ثم لبس الجرموق، فلم يجز، ولهذا لم يجز المسح على الخفين إذا لبسهما على الحدث، كذا هذا.
ولو مسح على الجرموقين ثم نزع أحدهما، مسح على الخف البادي، وأعاد المسح على الجرموق الباقي في ظاهر الرواية وقال الحسن بن زياد، وزفر: "يمسح على الخف البادي، ولا يعيد المسح على الجرموق الباقي". وروي عن أبي يوسف أنه ينزع الجرموق الباقي، ويمسح على الخفين أبو يوسف اعتبر الجرموق بالخف، ولو نزع أحد الخفين، ينزع الآخر، ويغسل القدمين، كذا هذا وجه قول الحسن، وزفر أنه يجوز الجمع بين المسح على الجرموق، وبين المسح على الخف ابتداء، بأن كان على أحد الخفين جرموق دون الآخر، فكذا بقاء، وإذا بقي المسح على الجرموق الباقي، فلا معنى للإعادة وجه ظاهر الرواية أن الرجلين في حكم الطهارة، بمنزلة عضو واحد، لا يحتمل التجزيء، فإذا انتقضت الطهارة في إحداهما بنزع الجرموق، تنتقض في الأخرى ضرورة، كما إذا نزع أحد الخفين، ولا يجوز المسح على القفازين، وهما لباسا الكفين; لأنه شرع دفعا للحرج، لتعذر النزع، ولا حرج في نزع القفازين.
ومنها "أن لا يكون بالخف خرق كثير، فأما اليسير، فلا يمنع المسح"، وهذا قول أصحابنا الثلاثة وهو استحسان، والقياس أن يمنع قليله، وكثيره، وهو قول زفر، والشافعي وقال مالك، وسفيان الثوري، "الخرق لا يمنع جواز المسح، قل أو كثر، بعد أن كان ينطلق عليه اسم الخف". وجه قولهما أن الشرع ورد بالمسح على الخفين، فما دام اسم الخف له باقيا، يجوز المسح عليه. وجه القياس أنه لما ظهر شيء من القدم، وإن قل وجب غسله لحلول الحدث به، لعدم الاستتار بالخف، والرجل في حق الغسل غير متجزئة، فإذا وجب غسل بعضها، وجب غسل كلها وجه الاستحسان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه رضي الله عنهم بالمسح، مع علمه بأن خفافهم لا تخلو عن قليل الخروق، فكان هذا منه بيانا أن القليل من الخروق لا يمنع المسح; ولأن المسح أقيم مقام الغسل ترفها، فلو منع قليل الانكشاف، لم يحصل الترفيه لوجوده في أغلب الخفاف، والحد الفاصل بين القليل، والكثير، هو قدر ثلاث أصابع، فإن كان الخرق قدر ثلاث أصابع، منع، وإلا فلا. ثم المعتبر أصابع اليد، وأصابع الرجل، ذكر محمد في الزيادات قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل. وروى الحسن عن أبي حنيفة ثلاث أصابع من أصابع اليد، وإنما قدر بالثلاث لوجهين، أحدهما أن هذا القدر إذا انكشف، منع من قطع الأسفار. والثاني أن الثلاث أصابع أكثر الأصابع، وللأكثر حكم الكل، ثم الخرق المانع أن يكون منفتحا، بحيث يظهر ما تحته من القدم مقدار ثلاث أصابع، أو يكون منضما لكنه ينفرج عند المشي، فأما إذا كان منضما لا ينفرج عند المشي، فإنه لا يمنع، وإن كان أكثر من ثلاث أصابع، كذا روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وإنما كان كذلك، لأنه إذا كان منفتحا، أو ينفتح عند المشي، لا يمكن قطع السفر به، وإذا لم يمكن، يمنع وسواء كان الخرق في ظاهر الخف، أو في باطنه، أو من ناحية العقب، بعد أن كان أسفل من الكعبين لما قلنا، ولو بدا ثلاث من أنامله، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: "لا يمنع". وقال بعضهم: "يمنع" وهو الصحيح، ولو انكشفت الظهارة، وفي داخله بطانة من جلد، ولم يظهر القدم، يجوز المسح عليه، هذا إذا كان الخرق في موضع واحد، فإن كان في مواضع متفرقة، ينظر إن كان في خف واحد، يجمع بعضها إلى بعض، فإن بلغ قدر ثلاث أصابع، يمنع، وإلا فلا وإن كان في خفين لا يجمع وقالوا في النجاسة، إن كانت على الخفين أنه يجمع بعضها إلى بعض، فإذا زادت على قدر الدرهم منعت جواز

 

ج / 1 ص -12-         الصلاة، والفرق أن الخرق إنما يمنع جواز المسح لظهور مقدار فرض المسح، فإذا كان متفرقا، فلم يظهر مقدار فرض المسح من كل واحد منهما، والمانع من جواز الصلاة في النجاسة هو كونه حاملا للنجاسة، ومعنى الحمل متحقق سواء كان في خف واحد، أو في خفين.
ومنها "أن يمسح على ظاهر الخف، حتى لو مسح على باطنه لا يجوز، وهو قول عمر، وعلي، وأنس رضي الله عنهم، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وعنه أنه لو اقتصر على الباطن لا يجوز، والمستحب عندنا الجمع بين الظاهر، والباطن في المسح، إلا إذا كان على باطنه نجاسة. وحكى إبراهيم بن جابر في كتاب الاختلاف الإجماع على أن الاقتصار على أسفل الخف لا يجوز، وكذا لو مسح على العقب، أو على جانبي الخف، أو على الساق لا يجوز، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالمسح على ظاهر الخفين، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه دون باطنهما"، ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة، فالمسح عليه يكون تلويثا لليد، ولأن فيه بعض الحرج، وما شرع المسح إلا لدفع الحرج، ولا تشترط النية في المسح على الخفين كما لا تشترط في مسح الرأس. والجامع أن كل واحد منهما ليس ببدل عن الغسل، بدليل أنه يجوز مع القدرة على الغسل، بخلاف التيمم. وكذا فعل المسح ليس بشرط لجوازه بدونه أيضا، بل الشرط إصابة الماء، حتى لو خاض الماء، أو أصابه المطر، جاز عن المسح، ولو مر بحشيش مبتل، فأصاب البلل ظاهر خفيه، إن كان بلل الماء أو المطر جاز، وإن كان بلل الطل قيل:"لا يجوز"; لأن الطل ليس بماء.
فصل": وأما مقدار المسح، فالمقدار المفروض هو مقدار ثلاث أصابع طولا، وعرضا، ممدودا، أو موضوعا، وعند الشافعي، المفروض هو أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، كما قال في مسح الرأس، ولو مسح بأصبع أو أصبعين، ومدهما حتى بلغ مقدار ثلاث أصابع، لا يجوز عندنا، خلافا لزفر كما في مسح الرأس، ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة، ولا ممدودة، لا يجوز بلا خلاف بين أصحابنا، ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات، وأعادها في كل مرة إلى الماء يجوز كما في مسح الرأس، ثم الكرخي اعتبر التقدير فيه بأصابع الرجل. فإنه ذكر في مختصره، إذا مسح مقدار ثلاث أصابع من أصابع الرجل أجزأه، فاعتبر الممسوح; لأن المسح يقع عليه، وذكر ابن رستم عن محمد أنه لو وضع ثلاثة أصابع وضعا أجزأه، وهذا يدل على أن التقدير فيه بأصابع اليد، وهو الصحيح، لما روي في حديث علي رضي الله عنه أنه قال في آخره: "لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه خطوطا بالأصابع" وهذا خرج مخرج التفسير للمسح أنه الخطوط بالأصابع، والأصابع اسم جمع، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، فكان هذا تقديرا للمسح بثلاث أصابع اليد، ولأن الفرض يتأدى به بيقين، لأنه ظاهر محسوس، فأما أصابع الرجل فمستترة بالخف، فلا يعلم مقدارها إلا بالحرز، والظن، فكان التقدير بأصابع اليد أولى.
مطلب نواقض المسح.
"فصل": وأما بيان ما ينقض المسح، وبيان حكمه إذا انتقض فالمسح ينتقض بأشياء "منها" انقضاء مدة المسح، وهي يوم، وليلة في حق المقيم، وفي حق المسافر ثلاثة أيام، ولياليها لأن الحكم الموقت إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية، فإذا انقضت المدة، يتوضأ، ويصلي إن كان محدثا، وإن لم يكن محدثا، يغسل قدميه لا غير، ويصلي.
ومنها "نزع الخفين، لأنه إذا نزعهما فقد سرى الحدث السابق إلى القدمين، ثم إن كان محدثا، يتوضأ بكماله، ويصلي، وإن لم يكن محدثا يغسل قدميه لا غير، ولا يستقبل الوضوء، وللشافعي قولان: في قول مثل قولنا. وفي قول يستقبل الوضوء وجهه أن الحدث قد حل ببعض أعضائه، والحدث لا يتجزأ فيتعدى إلى الباقي "ولنا" أن الحدث السابق هو الذي حل بقدميه وقد غسل بعده سائر الأعضاء، وبقيت القدمان فقط، فلا يجب عليه إلا غسلهما، وهو مذهب عبد الله بن عمر، وكذلك إذا نزع أحدهما أنه ينتقض مسحه في الخفين، وعليه نزع الباقي، وغسلهما لا غير إن لم يكن محدثا، والوضوء بكماله إن كان محدثا وعن إبراهيم النخعي فيه ثلاثة أقوال: في قول مثل قولنا، وفي قول: لا شيء عليه إذ لا يعقل حدثا، وفي قول يستقبل الوضوء وجه هذا القول أن الحدث لا يتجزأ فحلوله بالبعض كحلوله

 

ج / 1 ص -13-         بالكل. وجه القول الآخر أن الطهارة إذا تمت لا تنتقض إلا بالحدث، ونزع الخف لا يعقل حدثا "ولنا" أن المانع من سراية الحدث إلى القدم استتارها بالخف وقد زال بالنزع فسرى الحدث السابق إلى القدمين جميعا لأنهما في حكم الطهارة كعضو واحد فإذا وجب غسل إحداهما وجب الأخرى ولو أخرج القدم إلى الساق انتقض مسحه، لأن إخراج القدم إلى الساق إخراج لها من الخف، ولو أخرج بعض قدمه، أو خرج بغير صنعه روى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن أخرج أكثر العقب من الخف انتقض مسحه، وإلا فلا. وروي عن أبي يوسف أنه إن أخرج أكثر القدم من الخف انتقض، وإلا، فلا، وروي عن محمد أنه إن بقي في الخف مقدار ما يجوز عليه المسح بقي المسح، وإلا انتقض وقال بعض مشايخنا: إنه يستمشي فإن أمكنه المشي المعتاد بقي المسح، وإلا فينتقض وهذا موافق لقول أبي يوسف، وهو اعتبار أكثر القدم; لأن المشي يتعذر بخروج أكثر القدم، ولا بأس بالاعتماد عليه; لأن المقصد من لبس الخف هو المشي فإذا تعذر المشي انعدم اللبس فيما قصد له; ولأن للأكثر حكم الكل.
مطلب المسح على الجبائر "وأما" المسح على الجبائر فالكلام فيه في مواضع في بيان جوازه، وفي بيان شرائط جوازه. وفي بيان صفة هذا المسح أنه واجب أم لا ؟، وفي بيان ما ينقضه، وفي بيان حكمه إذا انتقض، وفي بيان ما يفارق فيه المسح على الخفين المسح على الجبائر "أما" الأول: فالمسح على الجبائر جائز، والأصل في جوازه ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "كسر زندي يوم أحد فسقط اللواء من يدي فقال النبي: صلى الله عليه وسلم
"اجعلوها في يساره فإنه صاحب لوائي في الدنيا، والآخرة" فقلت: يا رسول الله ما أصنع بالجبائر ؟ فقال: "امسح عليها" شرع المسح على الجبائر عند كسر الزند فيلحق به ما كان في معناه من الجرح، والقرح. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شج في وجهه يوم أحد داواه بعظم بال، وعصب عليه، وكان يمسح على العصابة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ولأن الحاجة تدعو إلى المسح على الجبائر; لأن في نزعها حرجا وضررا.
مطلب شرط جواز المسح "وأما" شرائط جوازه فهو أن يكون الغسل مما يضر بالعضو المنكسر والجرح والقرح، أو لا يضره الغسل لكنه يخاف الضرر من جهة أخرى بنزع الجبائر فإن كان لا يضره، ولا يخاف لا يجوز، ولا يسقط الغسل; لأن المسح لمكان العذر، ولا عذر ثم إذا مسح على الجبائر، والخرق التي فوق الجراحة جاز لما قلنا فأما إذا مسح على الخرقة الزائدة عن رأس الجراحة ولم يغسل ما تحتها فهل يجوز؟ لم يذكر هذا في ظاهر الرواية، وذكر الحسن بن زياد أنه ينظر إن كان حل الخرقة، وغسل ما تحتها من حوالي الجراحة مما يضر بالجرح يجوز المسح على الخرقة الزائدة، ويقوم المسح عليها مقام غسل ما تحتها كالمسح على الخرقة التي تلاصق الجراحة، وإن كان ذلك لا يضر بالجرح عليه أن يحل، ويغسل حوالي الجراحة، ولا يجوز المسح عليها; لأن الجواز لمكان الضرورة فيقدر بقدر الضرورة. ومن شرط جواز المسح على الجبيرة أيضا أن يكون المسح على عين الجراحة مما يضر بها، فإن كان لا يضر بها لا يجوز المسح إلا على نفس الجراحة، ولا يجوز على الجبيرة، كذا ذكره الحسن بن زياد; لأن الجواز على الجبيرة للعذر، ولا عذر. ولو كانت الجراحة على رأسه، وبعضه صحيح، فإن كان الصحيح قدر ما يجوز عليه المسح، وهو قدر ثلاث أصابع لا يجوز إلا أن يمسح عليه; لأن المفروض من مسح الرأس هو هذا القدر، وهذا القدر من الرأس صحيح، فلا حاجة إلى المسح على الجبائر، وعبارة مشايخ العراق في مثل هذا "إن ذهب عير فعير في الرباط" وإن كان أقل من ذلك لم يمسح عليه; لأن وجوده، وعدمه بمنزلة واحدة، ويمسح على الجبائر.
وأما" بيان أن المسح على الجبائر هل هو واجب أم لا ؟ فقد ذكر محمد في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة أنه إذا ترك المسح على الجبائر، وذلك يضره أجزأه وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا كان ذلك لا يضره لم يجز، فخرج جواب أبي حنيفة في صورة، وخرج جوابهما في صورة أخرى، فلم يتبين الخلاف. ولا خلاف في أنه إذا كان المسح على الجبائر يضره أنه يسقط عنه المسح; لأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى وأما إذا كان لا يضره فقد حقق بعض مشايخنا الاختلاف، فقال على قول أبي حنيفة: المسح على الجبائر مستحب، وليس بواجب، وهكذا ذكر قول أبي حنيفة في اختلاف زفر، ويعقوب، وعندهما واجب، وحجتهما ما روينا عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليا

 

ج / 1 ص -14-         رضي الله عنه بالمسح على الجبائر بقوله: "امسح عليها"، ومطلق الأمر للوجوب، ولأبي حنيفة أن الفرضية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به. وحديث علي رضي الله عنه من أخبار الآحاد، فلا تثبت الفرضية به وقال بعض مشايخنا: إذا كان المسح لا يضره يجب بلا خلاف ويمكن التوفيق بين حكاية القولين، وهو أن من قال: "إن المسح على الجبائر ليس بواجب عند أبي حنيفة" عنى به أنه ليس بفرض عنده لما ذكرنا أن المفروض اسم لما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به، ووجوب المسح على الجبائر ثبت بحديث علي رضي الله عنه وأنه من الآحاد فيوجب العمل دون العلم. ومن قال إن المسح على الجبائر واجب عندهما فإنما عنى به وجوب العمل لا الفرضية، وعلى هذا لا يتحقق الخلاف لأنهما يقولان بفرضية المسح على الجبائر لانعدام دليل الفرضية، بل بوجوبه من حيث العمل; لأن مطلق الأمر يحمل على الوجوب في حق العمل، وإنما الفرضية تثبت بدليل زائد، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول بوجوبه في حق العمل، والجواز، وعدم الجواز يكون مبنيا على الوجوب، وعدم الوجوب في حق العمل، ولو ترك المسح على بعض الجبائر، ومسح على البعض لم يذكر هذا في ظاهر الرواية. وعن الحسن بن زياد أنه قال: إن مسح على الأكثر جاز، وإلا فلا، بخلاف مسح الرأس، والمسح على الخفين أنه لا يشترط فيهما الأكثر لأن هناك ورد الشرع بالتقدير، فلا تشترط الزيادة على المقدر، وههنا لا تقدير من الشرع بل ورد بالمسح على الجبائر، فظاهره يقتضي الاستيعاب، إلا أن ذلك لا يخلو عن ضرب حرج فأقيم الأكثر مقام الجميع، والله أعلم.
مطلب نواقض المسح على الجبائر. "وأما" بيان ما ينقض المسح على الجبائر، وبيان حكمه إذا انتقض فسقوط الجبائر عن برء ينقض المسح، وجملة الكلام فيه أن الجبائر إذا سقطت فإما أن تسقط لا عن برء أو عن برء. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون في الصلاة أو خارج الصلاة، فإن سقطت لا عن برء في الصلاة مضى عليها، ولا يستقبل، وإن كان خارج الصلاة يعيد الجبائر إلى موضعها، ولا يجب عليه إعادة المسح، وكذلك إذا شدها بجبائر أخرى غير الأولى، بخلاف المسح على الخفين إذا سقط الخف في حال الصلاة أنه يستقبل، وإن سقط خارج الصلاة يجب عليه الغسل، والفرق أن هناك سقوط الغسل لمكان الحرج كما في النزع، فإذا سقط فقد زال الحرج، وههنا السقوط بسبب العذر، وأنه قائم فكان الغسل ساقطا، وإنما وجب المسح، والمسح قائم، وإنما زال الممسوح، كما إذا مسح على رأسه، ثم حلق الشعر أنه لا يجب إعادة المسح، وإن زال الممسوح كذلك ههنا. وإن سقطت عن برء فإن كان خارج الصلاة، وهو محدث فإذا أراد أن يصلي توضأ، وغسل موضع الجبائر إن كانت الجراحة على أعضاء الوضوء، وإن لم يكن محدثا غسل موضع الجبائر لا غير، لأنه قدر على الأصل فبطل حكم البدل فيه، فوجب غسله لا غير؛ لأن حكم الغسل، وهو الطهارة في سائر الأعضاء قائم لانعدام ما يرفعها، وهو الحدث، فلا يجب غسلها، وإن كان في حال الصلاة يستقبل لقدرته على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل
ولو مسح على الجبائر وصلى أياما، ثم برأت جراحته لا يجب عليه إعادة ما صلى بالمسح، وهذا قول أصحابنا وقال الشافعي: إن كان الجبر على الجرح، والقرح يعيد قولا واحدا، وإن كان على الكسر فله فيه قولان وجه قوله أن هذا عذر نادر، فلا يمنع وجوب القضاء عند زواله كالمحبوس في السجن إذا لم يجد الماء ووجد ترابا نظيفا أنه يصلي بالتيمم، ثم يعيد إذا خرج من السجن كذلك ههنا. "ولنا" ما روينا من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمسح على الجبائر، ولم يأمره بإعادة الصلاة مع حاجته إلى البيان.
وأما" بيان ما يفارق فيه المسح على الجبائر المسح على الخفين "فمنها": أن المسح على الجبائر غير مؤقت بالأيام، بل هو مؤقت بالبرء، والمسح على الخفين مؤقت بالأيام للمقيم يوم، وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، ولياليها; لأن التوقيت بالشرع، والشرع وقت هناك بقوله: "يمسح المقيم يوما، وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها" ولم يؤقت ههنا بل أطلق بقوله: "امسح عليها "
ومنها": أنه لا تشترط الطهارة لوضع الجبائر، حتى لو وضعها، وهو محدث، ثم توضأ جاز له أن يمسح عليها، وتشترط الطهارة للبس الخفين، حتى لو لبسهما، وهو محدث، ثم توضأ لا يجوز له المسح على الخفين; لأن المسح على الجبائر كالغسل لما تحتها، فإذا مسح عليها فكأنه غسل ما تحتها لقيامه مقام الغسل، والخف جعل مانعا من نزول الحدث بالقدمين لا رافعا له

 

ج / 1 ص -15-         ولا يتحقق ذلك إلا وأن يكون لابس الخف على طهارة وقت الحدث بعد اللبس.
ومنها": أنه إذا سقطت الجبائر لا عن برء لا ينتقض المسح، وسقوط الخفين أو سقوط أحدهما يوجب انتقاض المسح لما بينا
فصل": وأما شرائط أركان الوضوء "فمنها" أن يكون الوضوء بالماء، حتى لا يجوز التوضؤ بما سوى الماء من المائعات كالخل، والعصير، واللبن، ونحو ذلك لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، والمراد منه الغسل بالماء، لأنه تعالى: قال في آخر الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} نقل الحكم إلى التراب عند عدم الماء، فدل على أن المنقول منه هو الغسل بالماء، وكذا الغسل المطلق ينصرف إلى الغسل المعتاد، وهو الغسل بالماء.
ومنها": أن يكون بالماء المطلق; لأن مطلق اسم الماء ينصرف إلى الماء المطلق، فلا يجوز التوضؤ بالماء المقيد، والماء المطلق هو الذي تتسارع أفهام الناس إليه عند إطلاق اسم الماء، كماء الأنهار، والعيون، والآبار، وماء السماء، وماء الغدران، والحياض، والبحار، فيجوز الوضوء بذلك كله سواء كان في معدنه، أو في الأواني; لأن نقله من مكان إلى مكان لا يسلب إطلاق اسم الماء عنه، وسواء كان عذبا أو ملحا; لأن الماء الملح يسمى ماء على الإطلاق وقال النبي صلى الله عليه وسلم "
خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه، أو طعمه أو ريحه" والطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. وقال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقال الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المياه التي تكون في الفلوات، وما ينوبها من الدواب، والسباع فقال: "لها ما أخذت في بطونها، وما أبقت فهو لنا شراب، وطهور"  وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من آبار المدينة.
مطلب الماء المقيد "وأما" المقيد فهو ما لا تتسارع إليه الأفهام عند إطلاق اسم الماء، وهو الماء الذي يستخرج من الأشياء بالعلاج كماء الأشجار، والثمار، وماء الورد، ونحو ذلك، ولا يجوز التوضؤ بشيء من ذلك، وكذلك الماء المطلق إذا خالطه شيء من المائعات الطاهرة كاللبن، والخل، ونقيع الزبيب، ونحو ذلك على وجه زال عنه اسم الماء بأن صار مغلوبا به، فهو بمعنى الماء المقيد، ثم ينظر إن كان الذي خالطه مما يخالف لونه لون الماء كاللبن، وماء العصفر، والزعفران، ونحو ذلك تعتبر الغلبة في اللون، وإن كان لا يخالف الماء في اللون، ويخالفه في الطعم كعصير العنب الأبيض، وخله تعتبر الغلبة في الطعم، وإن كان لا يخالفه فيهما تعتبر الغلبة في الأجزاء. فإن استويا في الأجزاء؟ لم يذكر هذا في ظاهر الرواية، وقالوا: حكمه حكم الماء المغلوب احتياطا هذا إذا لم يكن الذي خالطه مما يقصد منه زيادة نظافة، فإن كان مما يقصد منه ذلك، ويطبخ به أو يخالط به كماء الصابون، والأشنان يجوز التوضؤ به، وإن تغير لون الماء، أو طعمه، أو ريحه; لأن اسم الماء باق، وازداد معناه، وهو التطهير، وكذلك جرت السنة في غسل الميت بالماء المغلي بالسدر، والحرض فيجوز الوضوء به إلا إذا صار غليظا كالسويق المخلوط; لأنه حينئذ يزول عنه اسم الماء، ومعناه أيضا.
ولو تغير الماء المطلق بالطين أو بالتراب، أو بالجص، أو بالنورة أو بوقوع الأوراق، أو الثمار فيه، أو بطول المكث يجوز التوضؤ به; لأنه لم يزل عنه اسم الماء، وبقي معناه أيضا مع ما فيه من الضرورة الظاهرة لتعذر صون الماء عن ذلك.
وقياس ما ذكرنا أنه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر لتغير طعم الماء، وصيرورته مغلوبا بطعم التمر، فكان في معنى الماء المقيد، وبالقياس أخذ أبو يوسف وقال لا يجوز التوضؤ به، إلا أن أبا حنيفة ترك القياس بالنص، وهو حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجوز التوضؤ به. وذكر في الجامع الصغير أن المسافر إذا لم يجد الماء ووجد نبيذ التمر توضأ به، ولم يتيمم، وذكر في كتاب الصلاة يتوضأ به، وإن تيمم معه أحب إلي وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع بينهما لا محالة، وهو قول محمد. وروى نوح في الجامع المروزي عن أبي حنيفة أنه رجع عن ذلك وقال: لا يتوضأ به، ولكنه يتيمم، وهو الذي استقر عليه قوله، كذا قال نوح وبه أخذ أبو يوسف، ومالك، والشافعي، واحتج هؤلاء بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} نقل الحكم من الماء المطلق إلى التراب فمن نقله إلى النبيذ، ثم من

 

ج / 1 ص -16-         النبيذ إلى التراب فقد خالف الكتاب، وهؤلاء طعنوا في حديث عبد الله بن مسعود من وجوه: "أحدها": أنهم قالوا: رواه أبو فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود، وأبو فزارة هذا كان نباذا بالكوفة، وأبو زيد مجهول "ومنها": أنه قيل لعبد الله بن مسعود: هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ليتني كنت. وسئل تلميذه علقمة هل كان صاحبكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: وددنا أنه كان "ومنها": أنه من أخبار الآحاد ورد على مخالفة الكتاب، ومن شرط ثبوت خبر الواحد أن لا يخالف الكتاب، فإذا خالف لم يثبت أو ثبت لكنه نسخ به، لأن ليلة الجن كانت بمكة، وهذه الآية نزلت بالمدينة. وجه رواية الحسن، وهو قول محمد أنه قام ههنا دليلان أحدهما: أنه يقتضي وجوب الوضوء بنبيذ التمر، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والآخر يقتضي وجوب التيمم، وهو قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}، والعمل بالدليلين واجب إذا أمكن العمل بهما. وههنا أمكن، إذ لا تنافي بين وجوب الوضوء، والتيمم فيجمع بينهما كما في سؤر الحمار، ولأبي حنيفة ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا في بيت، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ليقم منكم من ليس في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقمت، وفي رواية فلم يقم منا أحد، فأشار إلي بالقيام فقمت، ودخلت البيت، فتزودت بإداوة من نبيذ فخرجت معه فخط لي خطا وقال: إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة، فقمت قائما، حتى انفجر الصبح فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرق جبينه، كأنه حارب جنا، فقال لي: "يا ابن مسعود هل معك ماء أتوضأ به؟" فقلت لا إلا نبيذ تمر في إداوة فقال ثمرة طيبة، وماء طهور فأخذ ذلك، وتوضأ به، وصلى الفجر". وكذا جماعة من الصحابة منهم علي، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم كانوا يجوزون التوضؤ بنبيذ التمر. وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "نبيذ التمر وضوء من لم يجد الماء". وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "توضئوا بنبيذ التمر، ولا تتوضئوا باللبن". وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كنت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة في البحر فحضرت الصلاة ففني ماؤهم، ومعهم نبيذ التمر فتوضأ بعضهم بنبيذ التمر، وكره التوضؤ بماء البحر، وتوضأ بعضهم بماء البحر، وكره التوضؤ بنبيذ التمر وهذا حكاية الإجماع فإن من كان يتوضأ بماء البحر كان يعتقد جواز التوضؤ بماء البحر فلم يتوضأ بنبيذ التمر لكونه واجدا للماء المطلق، ومن كان يتوضأ بالنبيذ كان لا يرى ماء البحر طهورا، أو كان يقول هو ماء سخطة، ونقمة، كأنه لم يبلغه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". فتوضأ بنبيذ التمر لكونه عادما للماء الطاهر، وبه تبين أن الحديث ورد مورد الشهرة، والاستفاضة حيث عمل به الصحابة رضي الله عنهم، وتلقوه بالقبول فصار موجبا علما استدلاليا كخبر المعراج، والقدر خيره، وشره من الله، وأخبار الرؤية، والشفاعة، وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا، ثم اشتهر، وتلقته العلماء بالقبول، ومثله مما ينسخ به الكتاب مع أنه لا حجة لهم في الكتاب; لأن عدم نبيذ التمر في الأسفار يسبق عدم الماء عادة; لأنه أعسر وجودا، وأعز إصابة من الماء فكان تعليق جواز التيمم بعدم الماء تعليقا بعدم النبيذ دلالة، فكأنه قال:"فلم تجدوا ماء ولا نبيذ تمر فتيمموا" إلا أنه لم ينص عليه لثبوته عادة. يؤيد هذا ما ذكرنا من فتاوى نجباء الصحابة رضي الله عنهم في زمان انسد فيه باب الوحي مع أنهم كانوا أعرف الناس بالناسخ، والمنسوخ، فبطل دعوى النسخ، وما ذكروا من الطعن في الراوي، أما أبو فزارة فقد ذكره مسلم في الصحيح، فلا مطعن لأحد فيه، وأما أبو زيد فقد قال صاعد، وهو من زهاد التابعين: وأما أبو زيد فهو مولى عمرو بن حريث فكان معروفا في نفسه، وبمولاه فالجهل بعدالته لا يقدح في روايته على أنه قد روي هذا الحديث من طرق أخر غير هذا الطريق لا يتطرق إليها طعن. وقولهم: إن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن دعوى باطلة لما روينا أنه تركه في الخط، وكذا روي كونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر آخر أجمع الفقهاء على العمل به، وهو أنه طلب منه أحجارا للاستنجاء فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: إنها 
 

 

ج / 1 ص -17-         رجس أو ركس والدليل عليه أنه روي أنه لما رأى أقواما من الزط بالعراق قال: "ما أشبه هؤلاء بالجن ليلة الجن. وفي رواية أنه مر بقوم يلعبون بالكوفة فقال: ما رأيت أحدا أشبه بهؤلاء من الجن الذين رأيتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وما روي أنه قال: ليتني كنت معه، وأن علقمة قال: وددنا أن يكون معه فمحمول على الحال التي خاطب فيها الجن أي ليتني كنت معه وقت خطابه الجن، ووددنا أن يكون معه وقت ما خاطب الجن.
واختلف المشايخ في جواز الاغتسال بنبيذ التمر على أصل أبي حنيفة فقال بعضهم: "لا يجوز; لأن الجواز عرف بالنص، وأنه ورد في الوضوء دون الاغتسال، فيقتصر على مورد النص وقال بعضهم: يجوز لاستوائهما في المعنى، ثم لا بد من معرفة تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف، وهو أن يلقى شيء من التمر في الماء فتخرج حلاوته إلى الماء، وهكذا ذكر ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير نبيذ التمر الذي توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال:" تميرات ألقيتها في الماء; لأن من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء الملح ليحلو، فما دام حلوا رقيقا، أو قارصا يتوضأ به عند أبي حنيفة وإن كان غليظا كالرب لا يجوز التوضؤ به بلا خلاف، وكذا إن كان رقيقا لكنه غلا، واشتد وقذف بالزبد; لأنه صار مسكرا، والمسكر حرام، فلا يجوز التوضؤ به; ولأن النبيذ الذي توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رقيقا حلوا، فلا يلحق به الغليظ، والمر، هذا إذا كان نيئا، فإن كان مطبوخا أدنى طبخة فما دام حلوا أو قارصا فهو على الاختلاف، وإن غلا، واشتد وقذف بالزبد ذكر القدوري في شرحه لمختصر الكرخي الاختلاف فيه بين الكرخي، وأبي طاهر الدباس على قول الكرخي يجوز. وعلى قول أبي طاهر لا يجوز وجه قول الكرخي أن اسم النبيذ كما يقع على النيء منه يقع على المطبوخ فيدخل تحت النص; ولأن الماء المطلق إذا اختلط به المائعات الطاهرة يجوز التوضؤ به بلا خلاف بين أصحابنا إذا كان الماء غالبا، وههنا أجزاء الماء غالبة على أجزاء التمر فيجوز التوضؤ به. وجه قول أبي طاهر أن الجواز عرف بالحديث، والحديث ورد في النيء فإنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن ذلك النبيذ فقال: "تميرات ألقيتها في الماء". وأما قوله: "إن المائع الطاهر إذا اختلط بالماء لا يمنع التوضؤ به" فنعم إذا لم يغلب على الماء أصلا فأما إذا غلب عليه بوجه من الوجوه فلا، وههنا غلب عليه من حيث الطعم، واللون، وإن لم يغلب من حيث الأجزاء، فلا يجوز التوضؤ به، وهذا أقرب القولين إلى الصواب. وذكر القاضي الإسبيجابي في شرحه مختصر الطحاوي وجعله على الاختلاف في شربه فقال على قول أبي حنيفة: يجوز التوضؤ به كما يجوز شربه وعند محمد لا يجوز كما لا يجوز شربه، وأبو يوسف فرق بين الوضوء، والشرب فقال: يجوز شربه، ولا يجوز الوضوء به لأنه لا يرى التوضؤ بالنيء الحلو منه، فبالمطبوخ المر أولى
وأما نبيذ الزبيب، وسائر الأنبذة فلا يجوز التوضؤ بها عند عامة العلماء. وقال الأوزاعي يجوز التوضؤ بالأنبذة كلها نيئا كان النبيذ أو مطبوخا، حلوا كان أو مرا قياسا على نبيذ التمر. "ولنا" أن الجواز في نبيذ التمر ثبت معدولا به عن القياس; لأن القياس يأبى الجواز إلا بالماء المطلق، وهذا ليس بماء مطلق بدليل أنه لا يجوز التوضؤ به مع القدرة على الماء المطلق، إلا أنا عرفنا الجواز بالنص والنص ورد في نبيذ التمر خاصة فيبقى ما عداه على أصل القياس.
ومنها": أن يكون الماء طاهرا، فلا يجوز التوضؤ بالماء النجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الوضوء طهورا، وطهارة بقوله
"لا صلاة إلا بطهور" وقوله "لا صلاة إلا بطهارة"، ويستحيل حصول الطهارة بالماء النجس، والماء النجس ما خالطه النجاسة، وسنذكر بيان القدر الذي يخالط الماء من النجاسة فينجسه في موضعه إن شاء الله.
ومنها": أن يكون طهورا لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه"، والطهور اسم للطاهر في ذاته المطهر لغيره.
فلا يجوز التوضؤ بالماء المستعمل; لأنه نجس عند بعض أصحابنا، وعند بعضهم طاهر غير طهور على ما نذكر، ويجوز بالماء المكروه; لأنه ليس بنجس إلا أن الأولى أن لا يتوضأ به إذا وجد غيره، ولا يجوز بسؤر الحمار وحده; لأنه مشكوك في طهوريته عند الأكثرين، وعند بعضهم في طهارته، وسنفسره، ونستوفي الكلام فيه إذا انتهينا إلى بيان حكم الأسآر عند بيان أنواع الأنجاس إن شاء الله تعالى:.
وأما" النية فليست من الشرائط، وكذلك الترتيب فيجوز الوضوء

 

ج / 1 ص -18-         بدون النية ومراعاة الترتيب عندنا، وعند الشافعي من الشرائط لا يجوز بدونهما، وكذلك إيمان المتوضئ ليس بشرط لصحة وضوئه عندنا فيجوز وضوء الكافر عندنا، وعنده شرط، فلا يجوز وضوء الكافر، وكذلك الموالاة ليست بشرط عند عامة المشايخ، وعند مالك شرط، وسنذكر هذه المسائل عند بيان سنن الوضوء; لأنها من السنن عندنا لا من الفرائض، فكان إلحاقها بفصل السنن أولى.
فصل": وأما سنن الوضوء فكثيرة بعضها قبل الوضوء، وبعضها في ابتدائه، وبعضها في أثنائه، "أما" الذي هو قبل الوضوء "فمنها":الاستنجاء بالأحجار، أو ما يقوم مقامها، وسمى الكرخي الاستنجاء استجمارا إذ هو طلب الجمرة، وهي الحجر الصغير، والطحاوي سماه استطابة، وهي طلب الطيب، وهو الطهارة، والاستنجاء هو طلب طهارة القبل، والدبر من النجو، وهو ما يخرج من البطن، أو ما يعلو، ويرتفع من النجوة، وهي المكان المرتفع.
والكلام في الاستنجاء" في مواضع في بيان صفة الاستنجاء، وفي بيان ما يستنجى به، وفي بيان ما يستنجى منه. أما الأول: فالاستنجاء سنة عندنا، وعند الشافعي فرض، حتى لو ترك الاستنجاء أصلا جازت صلاته عندنا، ولكن مع الكراهة، وعنده لا يجوز، والكلام فيه راجع إلى أصل نذكره إن شاء الله تعالى:، وهو أن قليل النجاسة الحقيقية في الثوب والبدن عفو في حق جواز الصلاة عندنا، وعنده ليس بعفو، ثم ناقض في الاستنجاء فقال: "إذا استنجى بالأحجار، ولم يغسل موضع الاستنجاء جازت صلاته"، وإن تيقنا ببقاء شيء من النجاسة، إذ الحجر لا يستأصل النجاسة، وإنما يقللها وهذا تناقض ظاهر، ثم ابتداء الدليل على أن الاستنجاء ليس بفرض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج"، والاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه نفى الحرج في تركه، ولو كان فرضا لكان في تركه حرج، والثاني: أنه قال: "من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" ومثل هذا لا يقال في المفروض، وإنما يقال في المندوب إليه، والمستحب، إلا أنه إذا ترك الاستنجاء أصلا، وصلى يكره; لأن قليل النجاسة جعل عفوا في حق جواز الصلاة دون الكراهة، وإذا استنجى زالت الكراهة لأن الاستنجاء بالأحجار أقيم مقام الغسل بالماء شرعا للضرورة إذ الإنسان قد لا يجد سترة، أو مكانا خاليا للغسل، وكشف العورة حرام فأقيم الاستنجاء مقام الغسل فتزول به الكراهة كما تزول بالغسل وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنجي بالأحجار، ولا يظن به أداء الصلاة مع الكراهة.
وأما" بيان ما يستنجى به فالسنة هو الاستنجاء بالأشياء الطاهرة من الأحجار والأمدار، والتراب، والخرق البوالي. ويكره بالروث، وغيره من الأنجاس; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عبد الله بن مسعود عن أحجار الاستنجاء أتاه بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى بالروثة، وعلل بكونها نجسا، فقال: إنها رجس أو ركس، أي: نجس. ويكره بالعظم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالروث، والرمة وقال: من استنجى بروث، أو رمة فهو بريء مما أنزل على محمد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث فإن العظم زاد إخوانكم الجن، والروث علف دوابهم" فإن فعل ذلك يعتد به عندنا، فيكون مقيما سنة، ومرتكبا كراهة، ويجوز أن يكون لفعل واحد جهتان مختلفتان، فيكون بجهة كذا، وبجهة كذا، وعند الشافعي لا يعتد به، حتى لا تجوز صلاته إذا لم يستنج بالأحجار بعد ذلك. وجه قوله: إن النص ورد بالأحجار فيراعى عين المنصوص عليه; ولأن الروث نجس في نفسه، والنجس كيف يزيل النجاسة ؟ "ولنا" أن النص معلول بمعنى الطهارة وقد حصلت بهذه الأشياء كما تحصل بالأحجار، إلا أنه كره بالروث لما فيه من استعمال النجس، وإفساد علف دواب الجن، وكره بالعظم لما فيه من إفساد زادهم على ما نطق به الحديث، فكان النهي عن الاستنجاء به لمعنى في غيره لا في عينه، فلا يمنع الاعتداد به وقوله: "الروث نجس في نفسه" مسلم، لكنه يابس لا ينفصل منه شيء إلى البدن فيحصل باستعماله نوع طهارة بتقليل النجاسة.ويكره الاستنجاء بخرقة الديباج ومطعوم الآدمي من الحنطة والشعير لما فيه من إفساد المال من غير ضرورة، وكذا بعلف البهائم، وهو الحشيش؛ لأنه تنجيس للطاهر من غير ضرورة

 

ج / 1 ص -19-         والمعتبر في إقامة هذه السنة عندنا هو الإنقاء دون العدد، فإن حصل بحجر واحد كفاه، وإن لم يحصل بالثلاث زاد عليه، وعند الشافعي العدد مع الإنقاء شرط، حتى لو حصل الإنقاء بما دون الثلاث كمل الثلاث، ولو ترك لم يجزه. واحتج الشافعي بما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من استجمر فليوتر" أمر بالإيتار، ومطلق الأمر للوجوب. "ولنا" ما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أحجار الاستنجاء فأتاه بحجرين وروثة فرمى الروثة، ولم يسأله حجرا ثالثا، ولو كان العدد فيه شرطا لسأله إذ لا يظن به ترك الواجب; ولأن الغرض منه هو التطهير وقد حصل بالواحد، ولا يجوز تنجيس الطاهر من غير ضرورة. "وأما" الحديث فحجة عليه; لأن أقل الإيتار مرة واحدة، على أن الأمر بالإيتار ليس لعينه بل لحصول الطهارة فإذا حصلت بما دون الثلاث فقد حصل المقصود فينتهي حكم الأمر، وكذا استنجى بحجر واحد له ثلاثة أحرف; لأنه بمنزلة ثلاثة أحجار في تحصيل معنى الطهارة. ويستنجي بيساره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل بيمينه، ويستجمر بيساره، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل بيمينه، ويستنجي بيساره، ولأن اليسار للأقذار.
وهذا إذا كانت النجاسة التي على المخرج قدر الدرهم، أو أقل منه، فإن كانت أكثر من قدر الدرهم لم يذكر في ظاهر الرواية، واختلف المشايخ فيه فقال بعضهم: لا يزول إلا بالغسل وقال بعضهم يزول بالأحجار، وبه أخذ الفقيه أبو الليث وهو الصحيح، لأن الشرع ورد بالاستنجاء بالأحجار مطلقا من غير فصل، وهذا كله إذا لم يتعد النجس المخرج فإن تعداه ينظر إن كان المتعدي أكثر من قدر الدرهم يجب غسله بالإجماع، وإن كان أقل من قدر الدرهم لا يجب غسله عند أبي حنيفة، وأبي يوسف وعند محمد يجب. وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أن النجاسة إذا تجاوزت مخرجها وجب غسلها، ولم يذكر خلاف أصحابنا لمحمد أن الكثير من النجاسة ليس بعفو، وهذا كثير، ولهما أن القدر الذي على المخرج قليل، وإنما يصير كثيرا بضم المتعدي إليه، وهما نجاستان مختلفتان في الحكم، فلا يجتمعان ألا يرى أن إحداهما تزول بالأحجار، والأخرى لا تزول إلا بالماء، وإذا اختلفتا في الحكم يعطى لكل واحدة منهما حكم نفسها، وهي في نفسها قليلة فكانت عفوا.
وأما" بيان ما يستنجى منه فالاستنجاء مسنون من كل نجس يخرج من السبيلين له عين مرئية كالغائط، والبول، والمني، والودي، والمذي، والدم; لأن الاستنجاء للتطهير بتقليل النجاسة، وإذا كان النجس الخارج من السبيلين عينا مرئية تقع الحاجة إلى التطهير بالتقليل، ولا استنجاء في الريح; لأنها ليست بعين مرئية.
مطلب في السواك "ومنها" السواك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، وفي رواية عند كل وضوء ;، ولأنه مطهرة للفم على ما نطق به الحديث "السواك مطهرة للفم، ومرضاة للرب" عز وجل. وروي عنه أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالسواك، حتى خشيت أن يدردني. وروي أنه قال "طهروا مسالك القرآن بالسواك"، وله أن يستاك بأي سواك كان رطبا أو يابسا، مبلولا أو غير مبلول، صائما كان أو غير صائم، قبل الزوال أو بعده; لأن نصوص السواك مطلقة. وعند الشافعي يكره السواك بعد الزوال للصائم لما يذكر في كتاب الصوم
وأما" الذي هو في ابتداء الوضوء "فمنها" النية عندنا، وعند الشافعي هي فريضة، والكلام في النية راجع إلى أصل، وهو أن معنى القربة، والعبادة غير لازم في الوضوء عندنا، وعنده لازم، ولهذا صح من الكافر عندنا خلافا له، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"الوضوء شطر الإيمان"، والإيمان عبادة فكذا شطره، ولهذا كان التيمم عبادة، حتى لا يصح بدون النية، وأنه خلف عن الوضوء، والخلف لا يخالف الأصل. "ولنا" قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أمر بالغسل، والمسح مطلقا عن شرط النية، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال مطلقا عن شرط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال المطلق، وعنده لا ينتهي إلا عند

 

ج / 1 ص -20-         اغتسال مقرون بالنية، وهذا خلاف الكتاب؛ ولأن الأمر بالوضوء لحصول الطهارة لقوله تعالى: في آخر آية الوضوء {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}، وحصول الطهارة لا يقف على النية بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة، والماء مطهر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه، أو ريحه، أو لونه". وقال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} والطهور اسم للطاهر، في نفسه المطهر لغيره، والمحل قابل على ما عرف، وبه تبين أن الطهارة عمل الماء خلقة، وفعل اللسان فضل في الباب، حتى لو سال عليه المطر أجزأه عن الوضوء، والغسل فلا يشترط لهما النية، إذ اشتراطها لاعتبار الفعل الاختياري، وبه تبين أن اللازم للوضوء معنى الطهارة، ومعنى العبادة فيه من الزوائد، فإن اتصلت به النية يقع عبادة، وإن لم تتصل به لا يقع عبادة لكنه يقع، وسيلة إلى إقامة الصلاة لحصول الطهارة كالسعي إلى الجمعة. "وأما" الحديث فتأويله أنه شطر الصلاة لإجماعنا على أنه ليس بشرط الإيمان; لصحة الإيمان بدونه، ولا شطره لأن الإيمان هو التصديق، والوضوء ليس من التصديق في شيء، فكان المراد منه أنه شطر الصلاة; لأن الإيمان يذكر على إرادة الصلاة؛ لأن قبولها من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، أي صلاتكم إلى بيت المقدس. وهكذا نقول في التيمم أنه ليس بعبادة أيضا إلا أنه إذا لم تتصل به النية لا يجوز أداء الصلاة به، لا لأنه عبادة، بل لانعدام حصول الطهارة; لأنه طهارة ضرورية جعلت طهارة عند مباشرة فعل لا صحة له بدون الطهارة فإذا عري عن النية لم يقع طهارة، بخلاف الوضوء; لأنه طهارة حقيقية، فلا يقف على النية.
مطلب في التسمية في الوضوء "النية ومنها": التسمية وقال مالك إنها فرض إلا إذا كان ناسيا فتقام التسمية بالقلب مقام التسمية باللسان دفعا للحرج، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا وضوء لمن لم يسم". "ولنا" أن آية الوضوء مطلقة عن شرط التسمية فلا تقيد إلا بدليل صالح للتقييد; ولأن المطلوب من المتوضئ هو الطهارة، وترك التسمية لا يقدح فيها; لأن الماء خلق طهورا في الأصل، فلا تقف طهوريته على صنع العبد. والدليل عليه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
من توضأ، وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ، ولم يذكر اسم الله كان طهورا لما أصاب الماء من بدنه"، والحديث من جملة الآحاد، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد، ثم هو محمول على نفي الكمال، وهو معنى السنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، وبه نقول: " إنه سنة " لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها عند افتتاح الوضوء، وذلك دليل السنية وقال عليه الصلاة والسلام "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكر اسم الله فهو أبتر"، واختلف المشايخ في أن التسمية يؤتى بها قبل الاستنجاء أو بعده، قال بعضهم: قبله لأنها سنة افتتاح الوضوء وقال بعضهم: بعده لأن حال الاستنجاء حال كشف العورة، فلا يكون ذكر اسم الله تعالى: في تلك الحالة من باب التعظيم.
مطلب في غسل اليدين "ومنها": غسل اليدين إلى الرسغين قبل إدخالهما في الإناء للمستيقظ من منامه وقال قوم: إنه فرض، ثم اختلفوا فيما بينهم، منهم من قال: إنه فرض من نوم الليل، والنهار، ومنهم من قال: إنه فرض من نوم الليل خاصة، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، والنهي عن الغمس يدل على كون الغسل فرضا. "ولنا" أن الغسل لو وجب لا يخلو إما أن يجب من الحدث، أو من النجس، ولا سبيل إلى الأول; لأنه لا يجب الغسل من الحدث إلا مرة واحدة، فلو أوجبنا عليه غسل العضو عند استيقاظه من منامه مرة، ومرة عند الوضوء، لأوجبنا عليه الغسل عند الحدث مرتين، ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن النجس غير معلوم بل هو موهوم وإليه أشار في الحديث حيث قال. "فإنه لا يدري أين باتت يده"، وهذا إشارة إلى توهم النجاسة، واحتمالها فيناسبه الندب إلى الغسل، واستحبابه لا الإيجاب; لأن الأصل هو الطهارة، فلا تثبت النجاسة بالشك، والاحتمال، فكان الحديث محمولا على نهي التنزيه لا التحريم، واختلف المشايخ في وقت غسل اليدين أنه قبل الاستنجاء بالماء أو بعده ؟ على ثلاثة أقوال: قال بعضهم قبله وقال بعضهم: "بعده" وقال بعضهم: "قبله، وبعده" تكميلا للتطهير. "ومنها"

 

ج / 1 ص -21-         الاستنجاء بالماء لما روي عن جماعة من الصحابة منهم علي، ومعاوية، وابن عمر، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أنهم كانوا يستنجون بالماء بعد الاستنجاء بالأحجار، حتى قال ابن عمر فعلناه فوجدناه دواء، وطهورا، وعن الحسن البصري أنه كان يأمر الناس بالاستنجاء بالأحجار، ويقول: إن من كان قبلكم كان يبعر بعرا، وأنتم تثلطون ثلطا فأتبعوا الحجارة الماء، وهو كان من الآداب في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، وغسل مقعده بالماء ثلاثا"، ولما نزل قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} في أهل قبا سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأنهم، فقالوا: "إنا نتبع الحجارة الماء." ثم صار بعد عصره من السنن بإجماع الصحابة كالتراويح، والسنة فيه أن يغسل بيساره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اليمين للوجه، واليسار للمقعد"، ثم العدد في الاستنجاء بالماء ليس بلازم، وإنما المعتبر هو الإنقاء، فإن لم يكفه الغسل ثلاثا يزيد عليه، وإن كان الرجل موسوسا فلا ينبغي أن يزيد على السبع لأن قطع الوسوسة واجب، والسبع هو نهاية العدد الذي ورد الشرع به في الغسل في الجملة كما في حديث ولوغ الكلب.
مطلب في كيفية الاستنجاء "وأما" كيفية الاستنجاء فينبغي أن يرخي نفسه إرخاء تكميلا للتطهير، وينبغي أن يبتدئ بأصبع، ثم بأصبعين ثم بثلاث أصابع; لأن الضرورة تندفع به، ولا يجوز تنجيس الطاهر من غير ضرورة، وينبغي أن يستنجي ببطون الأصابع لا برءوسها كيلا يشبه إدخال الأصبع في العورة، وهذا في حق الرجل. وأما المرأة فقال بعضهم: تفعل مثل ما يفعل الرجل وقال بعضهم ينبغي أن تستنجي برءوس الأصابع; لأن تطهير الفرج الخارج في باب الحيض، والنفاس، والجنابة واجب، وفي باب الوضوء سنة، ولا يحصل ذلك إلا برءوس الأصابع.
وأما" الذي هو في أثناء الوضوء "فمنها": المضمضة، والاستنشاق وقال أصحاب الحديث منهم أحمد بن حنبل: وهما فرضان في الوضوء، والغسل جميعا وقال الشافعي: سنتان فيهما جميعا فأصحاب الحديث احتجوا بمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما في الوضوء، والشافعي يقول: "الأمر بالغسل عن الجنابة يتعلق بالظاهر دون الباطن، وداخل الأنف، والفم من البواطن فلا يجب غسله. "ولنا" أن الواجب في باب الوضوء غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، وداخل الأنف، والفم ليس من جملتها أما ما سوى الوجه فظاهر، وكذا الوجه; لأنه اسم لما يواجه إليه عادة، وداخل الأنف، والفم لا يواجه إليه بكل حال، فلا يجب غسله، بخلاف باب الجنابة; لأن الواجب هناك تطهير البدن بقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}، أي طهروا أبدانكم فيجب غسل ما يمكن غسله من غير حرج ظاهرا كان أو باطنا، ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما في الوضوء دليل السنية دون الفرضية، فإنه كان يواظب على سنن العبادات. "ومنها": الترتيب في المضمضة والاستنشاق، وهو تقديم المضمضة على الاستنشاق; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على التقديم "ومنها": إفراد كل واحد منهما بماء على حدة عندنا، وعند الشافعي السنة الجمع بينهما بماء واحد بأن يأخذ الماء بكفه فيتمضمض ببعضه، ويستنشق ببعضه، واحتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض، واستنشق بكف واحد. "ولنا" أن الذين حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا لكل واحد منهما ماء جديدا; ولأنهما عضوان منفردان فيفرد كل واحد منهما بماء على حدة كسائر الأعضاء، وما رواه محتمل، يحتمل أنه تمضمض، واستنشق بكف واحد بماء واحد، ويحتمل أنه فعل ذلك بماء على حدة فلا يكون حجة مع الاحتمال، أو يرد المحتمل إلى المحكم وهو ما ذكرنا توفيقا بين الدليلين.
ومنها": المضمضة والاستنشاق باليمين، وقال بعضهم: المضمضة باليمين، والاستنشاق باليسار; لأن الفم مطهرة، والأنف مقذرة، واليمين للإطهار، واليسار للأقذار. "ولنا" ما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه استنثر بيمينه، فقال له معاوية: جهلت السنة، فقال الحسن رضي الله عنه: كيف أجهل، والسنة خرجت من بيوتنا؟ أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
اليمين للوجه، واليسار للمقعد".
ومنها": المبالغة في المضمضة والاستنشاق، إلا في حال الصوم فيرفق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة
"بالغ في المضمضة، والاستنشاق إلا أن تكون صائما فارفق"، ولأن المبالغة فيهما من باب التكميل في التطهير، فكانت مسنونة إلا في حال الصوم لما فيها من تعريض الصوم للفساد.
. "ومنها": الترتيب

 

ج / 1 ص -22-         في الوضوء; لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه، ومواظبته عليه دليل السنة، وهذا عندنا، وعند الشافعي هو فرض، وجه قوله أن الأمر، وإن تعلق بالغسل، والمسح في آية الوضوء بحرف الواو، وأنها للجمع المطلق لكن الجمع المطلق يحتمل الترتيب، فيحمل على الترتيب بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث غسل مرتبا فكان فعله بيانا لأحد المحتملين "ولنا" أن حرف الواو للجمع المطلق. والجمع بصفة الترتيب جمع مقيد، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يحمل على موافقة الكتاب، وهو أنه إنما فعل ذلك لدخوله تحت الجمع المطلق، لكن من حيث إنه جمع بل من حيث إنه مرتب، وعلى هذا الوجه يكون عملا بموافقة الكتاب، كمن أعتق رقبة مؤمنة في كفارة اليمين أو الظهار أنه يجوز بالإجماع، وذا لا ينفي أن تكون الرقبة المطلقة مرادة من النص; لأن جواز المؤمنة من حيث هي رقبة لا من حيث هي مؤمنة، كذا ههنا. ولأن الأمر بالوضوء للتطهير لما ذكرنا في المسائل المتقدمة، والتطهير لا يقف على الترتيب لما مر.
مطلب الموالاة في الوضوء. "ومنها": الموالاة، وهي أن لا يشتغل المتوضئ بين أفعال الوضوء بعمل ليس منه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يفعل، وقيل في تفسير الموالاة: أن لا يمكث في أثناء الوضوء مقدار ما يجف فيه العضو المغسول، فإن مكث تنقطع الموالاة، وعند مالك هي فرض، وقيل: إنه أحد قولي الشافعي، والكلام في الطرفين على نحو ما ذكرنا في الترتيب، فافهم.
مطلب التثليث في الغسل. "ومنها": التثليث في الغسل، وهو أن يغسل أعضاء الوضوء ثلاثا ثلاثا; لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: "
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وتوضأ مرتين مرتين وقال: "هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين"، وتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد على هذا، أو نقص فقد تعدى وظلم"، وفي رواية "فمن زاد، أو نقص فهو من المعتدين" واختلف في تأويله، قال بعضهم: "زاد على مواضع الوضوء، ونقص عن مواضعه". وقال بعضهم: "زاد على ثلاث مرات، ولم ينو ابتداء الوضوء، ونقص عن الواحدة، والصحيح أنه محمول على الاعتقاد دون نفس الفعل، معناه فمن زاد على الثلاث، أو نقص عن الثلاث بأن لم ير الثلاث سنة; لأن من لم ير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فقد ابتدع فيلحقه الوعيد، حتى لو زاد على الثلاث، أو نقص ورأى الثلاث سنة لا يلحقه هذا الوعيد; لأن الزيادة على الثلاث من باب الوضوء على الوضوء إذا نوى به، وأنه نور على نور على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرتين سببا لتضعيف الثواب، فكان المراد منه الاعتقاد لا نفس الزيادة، والنقصان.
مطلب البداءة باليمين. "ومنها" البداءة باليمين في اليدين والرجلين; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يواظب على ذلك، وهي سنة في الوضوء، وفي غيره من الأعمال; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء، حتى التنعل، والترجل.
ومنها": البداءة فيه من رءوس الأصابع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
ومنها": تخليل الأصابع بعد إيصال الماء إلى ما بينها لقول النبي صلى الله عليه وسلم "
خللوا أصابعكم قبل أن تخللها نار جهنم"، وفي رواية "خللوا أصابعكم لا تخللها نار جهنم"، ولأن التخليل من باب إكمال الفريضة فكان مسنونا، ولو كان في أصبعه خاتم فإن كان واسعا فلا حاجة إلى التحريك، وإن كان ضيقا فلا بد من التحريك ليصل الماء إلى ما تحته.
مطلب الاستيعاب في مسح الرأس. "ومنها": الاستيعاب في مسح الرأس، وهو أن يمسح كله لما روى عبد الله بن زيد أن "النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه كلتيهما أقبل بهما، وأدبر"، وعند مالك فرض وقد مر الكلام فيه.
ومنها": البداءة بالمسح من مقدم الرأس، وقال الحسن البصري: السنة البداءة من الهامة، فيضع يديه عليها فيمدهما إلى مقدم الرأس، ثم يعيدهما إلى القفا. وهكذا روى هشام عن محمد، والصحيح قول العامة، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ بالمسح من مقدم رأسه، ولأن السنة في المغسولات البداءة بالغسل من أول العضو فكذا في الممسوحات.
ومنها": أن يمسح رأسه مرة واحدة، والتثليث مكروه، وهذا عندنا وقال الشافعي: "السنة هي التثليث" وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يمسح ثلاث مرات بماء واحد، احتج الشافعي بما روي أن عثمان بن عفان، وعليا رضي الله عنهما حكيا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلا ثلاثا، ومسحا بالرأس ثلاثا، ولأن هذا ركن أصلي في الوضوء فيسن فيه التثليث قياسا على الركن الآخر، وهو الغسل، بخلاف المسح على الخفين؛ لأنه ليس

 

ج / 1 ص -23-         بركن أصلي بل ثبت رخصة، ومبنى الرخصة على الخفة. "ولنا" ما روي عن معاذ رضي الله عنه أنه قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ورأيته توضأ مرتين مرتين، ورأيته توضأ ثلاثا ثلاثا، وما رأيته مسح على رأسه إلا مرة واحدة، وكذا روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه علم الناس وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح مرة واحدة "وأما" حكاية عثمان، وعلي رضي الله عنهما فالمشهور عنهما أنهما مسحا مرة واحدة، كذا ذكر أبو داود، في سننه أن الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه أنه مسح رأسه، وأذنيه مرة واحدة، وكذا روى عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه توضأ في رحبة الكوفة بعد صلاة الفجر، ومسح رأسه مرة واحدة، ثم قال: "من سره أن ينظر إلى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى وضوئي هذا". ولو ثبت ما رواه الشافعي فهو محمول على أنه فعله بماء واحد، وذلك سنة عندنا في رواية الحسن عن أبي حنيفة; ولأن التثليث بالمياه الجديدة تقريب إلى الغسل فكان مخلا باسم المسح، واعتباره بالغسل فاسد من وجهين: أحدهما: أن المسح بني على التخفيف، والتكرار من باب التغليظ، فلا يليق بالمسح، بخلاف الغسل، والثاني: أن التكرار في الغسل مفيد لحصول زيادة نظافة، ووضاءة لا تحصل بالمرة الواحدة، ولا يحصل ذلك بتكرار المسح، فبطل القياس.
مطلب مسح الأذنين "ومنها": أن يمسح الأذنين ظاهرهما، وباطنهما بماء الرأس، وقال الشافعي: "السنة أن يأخذ لكل واحد منهما ماء جديدا وجه قوله أنهما عضوان منفردان، وليسا من الرأس حقيقة، وحكما، أما الحقيقة فإن الرأس منبت الشعر، ولا شعر عليهما. وأما الحكم فلأن المسح عليهما لا ينوب عن مسح الرأس، ولو كانا في حكم الرأس لناب المسح عليهما عن مسح الرأس كسائر أجزاء الرأس. "ولنا" ما روي عن علي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه بماء مسح به رأسه". وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "
الأذنان من الرأس"، ومعلوم أنه ما أراد به بيان الخلقة، بل بيان الحكم، إلا أنه لا ينوب المسح عليهما عن مسح الرأس لأن وجوب مسح الرأس ثبت بدليل مقطوع به. وكون الأذنين من الرأس ثبت بخبر الواحد، وأنه يوجب العمل دون العلم، فلو ناب المسح عليهما عن مسح الرأس لجعلناهما من الرأس قطعا، وهذا لا يجوز، وصار هذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم الحطيم من البيت فالحديث يفيد كون الحطيم من البيت، حتى يطاف به كما يطاف بالبيت، ثم لا يجوز أداء الصلاة إليه; لأن وجوب الصلاة إلى الكعبة ثبت بدليل مقطوع به، وكون الحطيم من البيت ثبت بخبر الواحد، والعمل بخبر الواحد إنما يجب إذا لم يتضمن إبطال العمل بدليل مقطوع به، أما إذا تضمن فلا، كذلك ههنا.
وأما" تخليل اللحية فعند أبي حنيفة، ومحمد من الآداب، وعند أبي يوسف سنة، هكذا ذكر محمد في كتاب الآثار لأبي يوسف ما روي أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، وشبك أصابعه في لحيته كأنها أسنان المشط"، ولهما أن الذين حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خللوا لحاهم، وما رواه أبو يوسف فهو حكاية فعله صلى الله عليه وسلم ذلك اتفاقا لا بطريق المواظبة، وهذا لا يدل على السنة.
مطلب مسح الرقبة "وأما" مسح الرقبة فقد اختلف المشايخ فيه، قال أبو بكر الأعمش: إنه سنة وقال أبو بكر الإسكاف إنه أدب.
فصل": وأما آداب الوضوء "فمنها": أن لا يستعين المتوضئ على وضوئه بأحد; لما روي عن أبي الجنوب أنه قال "رأيت عليا يستقي ماء لوضوئه فبادرت أستقي له، فقال مه يا أبا الجنوب فإني رأيت عمر يستقي ماء لوضوئه فبادرت أستقي له، فقال: مه يا أبا الحسن فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقي ماء لوضوئه فبادرت أستقي له، فقال: "
مه يا عمر إني لا أريد أن يعينني على صلاتي أحد".
ومنها": أن لا يسرف في الوضوء ولا يقتر، والأدب فيما بين الإسراف، والتقتير، إذ الحق بين الغلو، والتقصير، قال النبي صلى الله عليه وسلم "خير الأمور أوسطها".
ومنها": دلك أعضاء الوضوء خصوصا في الشتاء؛ لأن الماء يتجافى عن الأعضاء.
ومنها": أن يدعو عند كل فعل من أفعال الوضوء بالدعوات المأثورة المعروفة، وأن يشرب فضل وضوئه قائما، إذا لم يكن صائما، ثم يستقبل القبلة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ويملأ الآنية عدة لوضوء آخر، ويصلي ركعتين؛ لأن كل ذلك مما ورد في الأخبار أنه فعله صلى 
 

 

ج / 1 ص -24-         الله عليه وسلم  ولكن لم يواظب عليه، وهذا هو الفرق بين السنة، والأدب أن السنة ما، واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتركه إلا مرة، أو مرتين لمعنى من المعاني، والأدب ما فعله مرة، أو مرتين، ولم يواظب عليه.
فصل": وأما بيان ما ينقض الوضوء فالذي ينقضه الحدث. والكلام في الحدث في الأصل في موضعين: أحدهما: في بيان ماهيته، والثاني: في بيان حكمه، أما الأول فالحدث هو نوعان: حقيقي، وحكمي أما الحقيقي فقد اختلف فيه، قال أصحابنا الثلاثة: هو خروج النجس من الآدمي الحي، سواء كان من السبيلين الدبر والذكر أو فرج المرأة، أو من غير السبيلين الجرح، والقرح، والأنف من الدم، والقيح، والرعاف، والقيء وسواء كان الخارج من السبيلين معتادا كالبول، والغائط، والمني، والمذي، والودي، ودم الحيض، والنفاس، أو غير معتاد كدم الاستحاضة،. وقال زفر: ظهور النجس من الآدمي الحي وقال مالك في قول: هو خروج النجس المعتاد من السبيل المعتاد، فلم يجعل دم الاستحاضة حدثا لكونه غير معتاد. وقال الشافعي: هو خروج شيء من السبيلين فليس بحدث، وهو أحد قولي مالك. وأما قول مالك فمخالف للسنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "
المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة" وقوله للمستحاضة "توضئي، وصلي، وإن قطر الدم على الحصير قطرا" وقوله توضئي فإنه دم عرق انفجر، ولأن المعنى الذي يقتضي كون الخروج من السبيلين حدثا لا يوجب الفصل بين المعتاد، وغير المعتاد لما يذكر، فالفصل يكون تحكما على الدليل. وأما الكلام مع الشافعي فهو احتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "قاء فغسل فمه، فقيل له: ألا تتوضأ وضوءك للصلاة ؟ فقال: هكذا الوضوء من القيء". وعن عمر رضي الله عنه أنه حين طعن كان يصلي، والدم يسيل منه، ولأن خروج النجس من البدن زوال النجس عن البدن، وزوال النجس عن البدن كيف يوجب تنجيس البدن مع أنه لا نجس على أعضاء الوضوء حقيقة، وهذا هو القياس في السبيلين إلا أن الحكم هناك عرف بالنص غير معقول فيقتصر على مورد النص. "ولنا" ما روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرفت له غرفة، فأكلها، فجاء المؤذن فقلت: الوضوء يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم "إنما علينا الوضوء مما يخرج ليس مما يدخل" وعلق الحكم بكل ما يخرج أو بمطلق الخارج من غير اعتبار المخرج، إلا أن خروج الطاهر ليس بمراد، فبقي خروج النجس مرادا. وروي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من قاء، أو رعف في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلاته ما لم يتكلم"، والحديث حجة على الشافعي في فصلين في وجوب الوضوء بخروج النجس من غير السبيلين، وفي جواز البناء عند سبق الحدث في الصلاة. وروي أنه قال لفاطمة بنت حبيش "توضئي فإنه دم عرق انفجر" أمرها بالوضوء، وعلل بانفجار دم العرق، لا بالمرور على المخرج، وعن تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "الوضوء من كل دم سائل"، والأخبار في هذا الباب وردت مورد الاستفاضة، حتى روي عن عشرة من الصحابة أنهم قالوا مثل مذهبنا، وهم عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وثوبان، وأبو الدرداء، وقيل في التاسع، والعاشر: إنهما زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وهؤلاء فقهاء الصحابة متبع لهم في فتواهم، فيجب تقليدهم، وقيل: "إنه مذهب العشرة المبشرين بالجنة"، ولأن الخروج من السبيلين إنما كان حدثا; لأنه يوجب تنجيس ظاهر البدن لضرورة تنجس موضع الإصابة، فتزول الطهارة ضرورة، إذ النجاسة، والطهارة ضدان، فلا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد، ومتى زالت الطهارة عن ظاهر البدن خرج من أن يكون أهلا للصلاة التي هي مناجاة مع الله تعالى:، فيجب تطهيره بالماء ليصير أهلا لها، وما رواه الشافعي محتمل يحتمل أنه قاء أقل من ملء الفم. وكذا اسم الوضوء يحتمل غسل الفم، فلا يكون حجة مع الاحتمال، أو محمله على ما قلنا توفيقا بين الدلائل. وأما حديث عمر فليس فيه أنه كان يصلي بعد الطعن من غير تجديد الوضوء، بل يحتمل أنه توضأ بعد الطعن مع سيلان الدم، وصلى. وبه نقول، كما في المستحاضة وقوله: " إن خروج النجس عن البدن زوال النجس عن البدن" فكيف يوجب تنجسه؟ مسلم أنه يزول به شيء من نجاسة الباطن، لكن يتنجس به الظاهر; لأن القدر الذي زال إليه أوجب زوال الطهارة عنه، والبدن في حكم الطهارة، والنجاسة لا يتجزأ، والعزيمة هي غسل كل البدن، إلا أنه أقيم غسل أعضاء الوضوء مقام غسل كل

 

ج / 1 ص -25-         البدن رخصة، وتيسيرا، ودفعا للحرج، وبه تبين أن الحكم في الأصل معقول فيتعدى إلى الفرع. وقوله لا نجاسة على أعضاء الوضوء حقيقة ممنوع بل عليها نجاسة حقيقية معنوية، وإن كان الحس لا يدركها، وهي نجاسة الحدث على ما عرف في الخلافيات
وإذا عرفنا ماهية الحدث نخرج عليه المسائل "فنقول"إذا ظهر شيء من البول والغائط على رأس المخرج انتقضت الطهارة لوجود الحدث، وهو خروج النجس، وهو انتقاله من الباطن إلى الظاهر; لأن رأس المخرج عضو ظاهر، وإنما انتقلت النجاسة إليه من موضع آخر فإن موضع البول المثانة، وموضع الغائط موضع في البطن يقال له قولون، وسواء كان الخارج قليلا، أو كثيرا سال عن رأس المخرج، أو لم يسل لما قلنا، وكذا المني، والمذي، والودي، ودم الحيض، والنفاس، ودم الاستحاضة لأنها كلها أنجاس لما يذكر في بيان أنواع الأنجاس وقد انتقلت من الباطن إلى الظاهر فوجد خروج النجس من الآدمي الحي فيكون حدثا إلا أن بعضها يوجب الغسل، وهو المني، ودم الحيض، والنفاس، وبعضها يوجب الوضوء، وهو المذي، والودي، ودم الاستحاضة لما يذكر إن شاء الله تعالى:، وكذلك خروج الولد، والدودة، والحصا، واللحم، وعود الحقنة بعد غيبوبتها; لأن هذه الأشياء. وإن كانت طاهرة في أنفسها لكنها لا تخلو عن قليل نجس يخرج معها، والقليل من السبيلين خارج لما بينا، وكذا الريح الخارجة من الدبر، لأن الريح، وإن كانت جسما طاهرا في نفسه لكنه لا يخلو عن قليل نجس يقوم به لانبعاثه من محل الأنجاس، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا وضوء إلا من صوت أو ريح". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه" فيقول: أحدثت أحدثت فلا ينصرفن، حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا".
.وأما الريح الخارجة من قبل المرأة أو ذكر الرجل فلم يذكر حكمها في ظاهر الرواية وروي عن محمد أنه قال فيها الوضوء وذكر الكرخي أنه لا وضوء فيها إلا أن تكون المرأة مغطاة فيخرج منها ريح منتنة فيستحب لها الوضوء وجه رواية محمد أن كل واحد منهما مسلك النجاسة كالدبر فكانت الريح الخارجة منهما كالخارجة من الدبر فيكون حدثا وجه ما ذكره الكرخي أن الريح ليست بحدث في نفسها لأنها ظاهرة وخروج الطاهر لا يوجب انتقاض الطهارة وإنما انتقاض الطهارة بما يخرج بخروجها من أجزاء النجس وموضع الوطء من فرج المرأة ليس بمسلك البول فالخارج منه من الريح لا يجاوره النجس وإذا كانت مغطاة فقد صار مسلك البول و مسلك الوطء مسلكا واحدا فيحتمل أن الريح خرجت من مسلك البول فيستحب له الوضوء ولا يجب لان الطهارة الثابتة بيقين لا يحكم بزوالها بالشك وقيل إن خروج الريح  من الذكر لا يتصور وإنما هو اختلاج يظنه الإنسان ريحا هذا حكم السبيلين
فأما حكم غير السبيلين من الجرح، والقرح فإن سال الدم والقيح والصديد عن رأس الجرح، والقرح ينتقض الوضوء عندنا لوجود الحدث، وهو خروج النجس، وهو انتقال النجس من الباطن إلى الظاهر، وعند الشافعي لا ينتقض لانعدام الخروج من السبيلين، وعند زفر ينتقض سواء سال، أو لم يسل بناء على ما ذكر فلو ظهر الدم على رأس الجرح، ولم يسل لم يكن حدثا عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يكون حدثا سال أو لم يسل بناء على ما ذكرنا أن الحدث الحقيقي عنده هو ظهور النجس من الآدمي الحي وقد ظهر وجه قوله إن ظهور النجس اعتبر حدثا في السبيلين سال عن رأس المخرج أو لم يسل فكذا في غير السبيلين. "ولنا" أن الظهور ما اعتبر حدثا في موضع ما، وإنما انتقضت الطهارة في السبيلين إذا ظهر النجس على رأس المخرج لا بالظهور بل بالخروج، وهو الانتقال من الباطن إلى الظاهر على ما بينا كذا ههنا، وهذا لأن الدم إذا لم يسل كان في محله، لأن البدن محل الدم، والرطوبات إلا أنه كان مستترا بالجلدة. وانشقاقها يوجب زوال السترة لا زوال الدم عن محله، ولا حكم للنجس ما دام في محله ألا ترى أنه تجوز الصلاة مع ما في البطن من الأنجاس فإذا سال عن رأس الجرح فقد انتقل عن محله فيعطي له حكم النجاسة، وفي السبيلين وجد الانتقال لما ذكرنا.
وعلى هذا خروج القيء ملء الفم أنه يكون حدثا، وإن كان أقل من ملء الفم لا يكون حدثا، وعند زفر يكون حدثا قل، أو كثر، ووجه البناء على هذا الأصل أن الفم له حكم الظاهر، عنده بدليل أن الصائم إذا تمضمض لا يفسد صومه فإذا، وصل القيء إليه فقد
 

 

ج / 1 ص -26-         ظهر النجس من الآدمي الحي فيكون حدثا، وإنا نقول له مع الظاهر حكم الظاهر كما ذكره زفر وله مع الباطن حكم الباطن بدليل أن الصائم إذا ابتلع ريقه لا يفسد صومه، فلا يكون الخروج إلى الفم حدثا، لأنه انتقال من بعض الباطن إلى بعض، وإنما الحدث هو الخروج من الفم; لأنه انتقال من الباطن إلى الظاهر، والخروج لا يتحقق في القليل؛ لأنه يمكن رده، وإمساكه، فلا يخرج بقوة نفسه بل بالإخراج، فلا يوجد السيلان، ويتحقق في الكثير، لأنه لا يمكن رده، وإمساكه فكان خارجا بقوة نفسه لا بالإخراج فيوجد السيلان. ثم نتكلم في المسألة ابتداء فحجة زفر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "القلس حدث" من غير فصل بين القليل، والكثير، ولأن الحدث اسم لخروج النجس وقد وجد لأن القليل خارج نجس كالكثير فيستوي فيه القليل، والكثير كالخارج من السبيلين. "ولنا" ما روي عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عد الأحداث جملة وقال فيها أود سعة تملأ الفم، ولو كان القليل حدثا لعدة عند عد الأحداث كلها "وأما" الحديث فالمراد منه القيء ملء الفم; لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، وهو القيء ملء الفم، أو يحمل على هذا توفيقا بين الحديثين صيانة لهما عن التناقض وقوله وجد خروج النجس في القليل قلنا إن سلمنا ذلك ففي قليل القيء ضرورة، لأن الإنسان لا يخلو منه خصوصا حال الامتلاء، ومن صاحب السعال، ولو جعل حدثا لوقع الناس في الحرج، والله تعالى: ما جعل علينا في الدين من حرج، ولا ضرورة في القليل من السبيلين، ولا فرق بين أن يكون القيء مرة صفراء أو سوداء، وبين أن يكون طعاما أو ماء صافيا، لأن الحدث اسم لخروج النجس، والطعام، أو الماء نجسا لاختلاطه بنجاسات المعدة، ولم يذكر في ظاهر الرواية تفسير ملء الفم. وقال أبو علي الدقاق هو أن يمنعه من الكلام، وعن الحسن بن زياد هو أن يعجز عن إمساكه ورده، وعليه اعتمد الشيخ أبو منصور وهو الصحيح، لأن ما قدر على إمساكه ورده فخروجه لا يكون بقوة نفسه بل بالإخراج، فلا يكون سائلا، وما عجز عن إمساكه ورده فخروجه يكون بقوة نفسه فيكون سائلا، والحكم متعلق بالسيلان، ولو قاء أقل من ملء الفم مرارا هل يجمع، ويعتبر حدثا لم يذكر في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه إن كان في مجلس واحد يجمع، وإلا، فلا، وروي عن محمد أنه إن كان بسبب غثيان واحد يجمع، وإلا، فلا وقال أبو علي الدقاق يجمع كيفما كان وجه قول أبي يوسف أن المجلس جعل في الشرع جامعا لأشياء متفرقة كما في باب البيع، وسجدة التلاوة، ونحو ذلك وقول محمد أظهر، لأن اعتبار المجلس اعتبار المكان، واعتبار الغثيان اعتبار السبب، والوجود يضاف إلى السبب لا إلى المكان.
ولو سال الدم إلى ما لان من الأنف أو إلى صماخ الأذن يكون حدثا لوجود خروج النجس، وهو انتقال الدم من الباطن إلى الظاهر. وروي عن محمد في رجل أقلف خرج البول أو المذي من ذكره، حتى صار في قلفته فعليه الوضوء، وصار بمنزلة المرأة إذا خرج المذي، أو البول من فرجها، ولم يظهر، ولو حشا الرجل إحليله بقطنة فابتل الجانب الداخل منها لم ينتقض وضوءه لعدم الخروج، وإن تعدت البلة إلى الجانب الخارج ينظر إن كانت القطنة عالية أو محاذية لرأس الإحليل ينتقض وضوءه لتحقق الخروج. وإن كانت متسفلة لم ينتقض، لأن الخروج لم يتحقق، ولو حشت المرأة فرجها بقطنة فإن وضعتها في الفرج الخارج فابتل الجانب الداخل من القطنة كان حدثا، وإن لم ينفذ إلى الجانب الخارج لا يكون حدثا، لأن الفرج الخارج منها بمنزلة الأليتين من الدبر فوجد الخروج، وإن وضعتها في الفرج الداخل فابتل الجانب الداخل من القطنة لم يكن حدثا لعدم الخروج، وإن تعدت البلة إلى الجانب الخارج فإن كانت القطنة عالية، أو محاذية لجانب الفرج كان حدثا لوجود الخروج، وإن كانت متسفلة لم يكن حدثا لعدم الخروج، وهذا كله إذا لم تسقط القطنة فإن سقطت القطنة فهو حدث، وحيض في المرأة سواء ابتل الجانب الخارج، أو الداخل لوجود الخروج. ولو كان في أنفه قرح فسال الدم عن رأس القرح يكون حدثا، وإن لم يخرج من المنخر لوجود السيلان عن محله، ولو بزق فخرج معه الدم إن كانت الغلبة للبزاق لا يكون حدثا، لأنه ما خرج بقوة نفسه. وإن كانت الغلبة للدم يكون حدثا، لأن الغالب إذا كان هو البزاق لم يكن خارجا بقوة نفسه فلم يكن سائلا، وإن كان الغالب هو الدم كان خروجه بقوة نفسه فكان سائلا، وإن كانا سواء

 

ج / 1 ص -27-         فالقياس أن لا يكون حدثا، وفي الاستحسان يكون حدثا وجه القياس أنهما إذا استويا احتمل أن الدم خرج بقوة نفسه، واحتمل أنه خرج بقوة البزاق، فلا يجعل حدثا بالشك، وللاستحسان وجهان أحدهما أنهما إذا استويا تعارضا فلا يمكن أن يجعل أحدهما تبعا للآخر فيعطى كل واحد منهما حكم نفسه فيعتبر خارجا بنفسه فيكون سائلا، والثاني أن الأخذ بالاحتياط عند الاشتباه واجب، وذلك فيما قلنا. ولو ظهر الدم على رأس الجرح فمسحه مرارا فإن كان بحال لو تركه لسال يكون حدثا، وإلا، فلا، لأن الحكم متعلق بالسيلان، ولو ألقى عليه الرماد، أو التراب فتشرب فيه، أو ربط عليه رباطا فابتل الرباط، ونفذ قالوا: يكون حدثا لأنه سائل، وكذا لو كان الرباط ذا طاقين فنفذ إلى أحدهما لما قلنا. ولو سقطت الدودة أو اللحم من الفرج لم يكن حدثا، ولو سقطت من السبيلين يكون حدثا، والفرق أن الدودة الخارجة من السبيل نجسة في نفسها لتولدها من الأنجاس وقد خرجت بنفسها، وخروج النجس بنفسه حدث بخلاف الخارجة من القرح لأنها طاهرة نفسها لأنها تتولد من اللحم، واللحم طاهر، وإنما النجس ما عليها من الرطوبات، وتلك الرطوبات خرجت بالدابة لا بنفسها فلم يوجد خروج النجس، فلا يكون حدثا. ولو خلل أسنانه فظهر الدم على رأس الخلال لا يكون حدثا، لأنه ما خرج بنفسه، وكذا لو عض على شيء فظهر الدم على أسنانه لما قلنا، ولو سعط في أنفه ووصل السعوط إلى رأسه، ثم رجع إلى الأنف أو إلى الأذن لا يكون حدثا لأن الرأس ليس موضع الأنجاس، ولو عاد إلى الفم، ذكر الكرخي أنه لا يكون حدثا لما قلنا وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف أن حكمه حكم القيء، لأن ما وصل إلى الرأس لا يخرج من الفم إلا بعد نزوله في الجوف. ولو قاء بلغما لم يكن حدثا في قول أبي حنيفة، ومحمد وعند أبي يوسف يكون حدثا فمن مشايخنا من قال "لا خلاف في المسألة"، لأن جواب أبي يوسف في الصاعد من المعدة، وهو حدث عند الكل وجوابهما في المنحدر من الرأس، وهو ليس بحدث عند الكل، ومنهم من قال في المنحدر من الرأس اتفاق أنه ليس بحدث. وفي الصاعد من المعدة اختلاف. وجه قول أبي يوسف أنه نجس لاختلاطه بالأنجاس، لأن المعدة معدن الأنجاس فيكون حدثا كما لو قاء طعاما أو ماء، ولهما أنه شيء صقيل لا يلتصق به شيء من الأنجاس فكان طاهرا على أن الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتادوا أخذ البلغم بأطراف أرديتهم، وأكمامهم من غير نكير فكان إجماعا منهم على طهارته، وذكر أبو منصور أنه لا خلاف في المسألة في الحقيقة، لأن جواب أبي يوسف في الصاعد من المعدة، وأنه حدث بالإجماع، لأنه نجس وجوابهما في الصاعد من حواشي الحلق، وأطراف الرئة، وأنه ليس بحدث بالإجماع، لأنه ظاهر فينظر إن كان صافيا غير مخلوط بشيء من الطعام، وغيره تبين أنه لم يصعد من المعدة، فلا يكون نجسا، فلا يكون حدثا، وإن كان مخلوطا بشيء من ذلك تبين أنه صعد منها فكان نجسا فيكون حدثا، وهذا هو الأصح. وأما إذا قاء دما فلم يذكر في ظاهر الرواية نصا، وذكر المعلى عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أنه يكون حدثا قليلا كان، أو كثيرا جامدا كان، أو مائعا. وروي عن الحسن بن زياد عنهما أنه إن كان مائعا ينقض قل، أو كثر، وإن كان جامدا لا ينقض ما لم يملأ الفم وروى ابن رستم عن محمد أنه لا يكون حدثا ما لم يملأ الفم كيفما كان، وبعض مشايخنا صححوا رواية محمد، وحملوا رواية الحسن، والمعلى في القليل من المائع على الرجوع. وعليه اعتمد شيخنا، لأنه الموافق لأصول أصحابنا في اعتبار خروج النجس، لأن الحدث اسم له، والقليل ليس بخارج لما مر، وإليه أشار في الجامع الصغير من غير خلاف فإنه قال، وإذا قلس أقل من ملء الفم لم ينتقض الوضوء من غير فصل بين الدم، وغيره، وعامة مشايخنا حققوا الاختلاف، وصححوا قولهما، لأن القياس في القليل من سائر أنواع القيء أن يكون حدثا لوجود الخروج حقيقة، وهو الانتقال من الباطن إلى الظاهر، لأن الفم له حكم الظاهر على الإطلاق، وإنما سقط اعتبار القليل لأجل الحرج لأنه يكثر وجوده. ولا حرج في اعتبار القليل من الدم، لأنه لا يغلب وجوده بل يندر فبقي على أصل القياس، والله أعلم هذا الذي ذكرنا حكم الأصحاء.
وأما" أصحاب الأعذار كالمستحاضة، وصاحب الجرح السائل، والمبطون ومن به سلس البول، ومن به رعاف دائم أو ريح، ونحو ذلك ممن لا يمضي عليه وقت

 

ج / 1 ص -28-         صلاة إلا، ويوجد ما ابتلي به من الحدث فيه فخروج النجس من هؤلاء لا يكون حدثا في الحال ما دام وقت الصلاة قائما، حتى أن المستحاضة لو توضأت في أول الوقت فلها أن تصلي ما شاءت من الفرائض، والنوافل ما لم يخرج الوقت، وإن دام السيلان، وهذا عندنا وقال الشافعي إن كان العذر من أحد السبيلين كالاستحاضة، وسلس البول، وخروج الريح يتوضأ لكل فرض، ويصلي ما شاء من النوافل. وقال مالك في أحد قوليه يتوضأ لكل صلاة، واحتجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" فمالك عمل بمطلق اسم الصلاة، والشافعي قيده بالفرض لأنه الصلاة المعهودة، ولأن طهارة المستحاضة طهارة ضرورية; لأنه قارنها ما ينافيها، أو طرأ عليها، والشيء لا يوجد، ولا يبقى مع المنافي إلا أنه لم يظهر حكم المنافي لضرورة الحاجة إلى الأداء، والضرورة إلى أداء فرض الوقت فإذا فرغ من الأداء ارتفعت الضرورة فظهر حكم المنافي، والنوافل اتباع الفرائض لأنها شرعت لتكميل الفرائض جبرا للنقصان المتمكن فيها فكانت ملحقة بأجزائها، والطهارة الواقعة لصلاة، واقعة لها بجميع أجزائها بخلاف فرض آخر، لأنه ليس بتبع بل هو أصل بنفسه. "ولنا" ما روى أبو حنيفة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة"، وهذا نص في الباب، ولأن العزيمة شغل جميع الوقت بالأداء شكرا للنعمة بالقدر الممكن وإحرازا للثواب على الكمال إلا أنه جوز ترك شغل بعض الوقت بالأداء رخصة، وتيسيرا فضلا من الله ورحمة تمكينا من استدراك الفائت بالقضاء، والقيام بمصالح القوام، وجعل ذلك شغلا لجميع الوقت حكما فصار وقت الأداء شرعا بمنزلة وقت الأداء فعلا ثم قيام الأداء مبق للطهارة فكذلك الوقت القائم مقامه، وما رواه الشافعي فهو حجة عليه; لأن مطلق الصلاة ينصرف إلى الصلاة المعهودة، والمطلق ينصرف إلى المعهود المتعارف كما في قوله صلى الله عليه وسلم "الصلاة عماد الدين" وما روي أنه صلى الله عليه وسلم "صلى صلوات بوضوء واحد"، ونحو ذلك، والصلاة المعهودة هي الصلوات الخمس في اليوم، والليلة، فكأنه قال: "المستحاضة تتوضأ في اليوم، والليلة خمس مرات" فلو أوجبنا عليها الوضوء لكل صلاة، أو لكل فرض تقضي لزاد على الخمس بكثير، وهذا خلاف النص، ولأن الصلاة تذكر على إرادة وقتها قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التيمم "أينما أدركتني الصلاة تيممت، وصليت". والمدرك هو الوقت دون الصلاة التي هي فعله وقال صلى الله عليه وسلم إن للصلاة أولا وآخرا، أي: لوقت الصلاة، ويقال آتيك لصلاة الظهر، أي لوقتها فجاز أن تذكر الصلاة، ويراد بها وقتها. ولا يجوز أن يذكر الوقت، ويراد به الصلاة فيحمل المحتمل على المحكم توفيقا بين الدليلين صيانة لهما عن التناقض، وإنما تبقى طهارة صاحب العذر في الوقت إذا لم يحدث حدثا آخر أما إذا أحدث حدثا آخر، فلا تبقى، لأن الضرورة في الدم السائل لا في غيره فكان هو في غيره كالصحيح قبل الوضوء، وكذلك إذا توضأ للحدث أو لا، ثم سال الدم فعليه الوضوء، لأن ذلك الوضوء لم يقع لعدم العذر فكان عدما في حقه. وكذا إذا سال الدم من أحد منخريه فتوضأ، ثم سال من المنخر الآخر فعليه الوضوء، لأن هذا حدث جديد لم يكن موجودا وقت الطهارة فلم تقع الطهارة له فكان هو، والبول، والغائط سواء فأما إذا سال منهما جميعا فتوضأ، ثم انقطع أحدهما فهو على وضوء ما بقي الوقت لأن طهارته حصلت لهما جميعا. والطهارة متى وقعت لعذر لا يضرها السيلان ما بقي الوقت فبقي هو صاحب عذر بالمنخر الآخر، وعلى هذا حكم صاحب القروح إذا كان البعض سائلا ثم سال الآخر، أو كان الكل سائلا فانقطع السيلان عن البعض.
ثم اختلف أصحابنا في طهارة المستحاضة أنها تنتقض عند خروج الوقت أم عند دخوله أم أيهما كان قال أبو حنيفة، ومحمد "تنتقض عند خروج الوقت لا غير" وقال زفر "عند دخول الوقت لا غير". وقال أبو يوسف عند أيهما كان، وثمرة هذا الاختلاف لا تظهر إلا في موضعين أحدهما أن يوجد الخروج بلا دخول كما إذا توضأت في وقت الفجر، ثم طلعت الشمس فإن طهارتها تنتقض عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد لوجود الخروج، وعند زفر لا تنتقض لعدم الدخول، والثاني أن يوجد الدخول بلا خروج كما إذا توضأت قبل الزوال، ثم زالت الشمس فإن

 

ج / 1 ص -29-         طهارتها لا تنتقض عند أبي حنيفة، ومحمد لعدم الخروج. وعند أبي يوسف، وزفر تنتقض لوجود الدخول وجه قول زفر أن سقوط اعتبار المنافي لمكان الضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت فلا يسقط، وبه يحتج أبو يوسف في جانب الدخول، وفي جانب الخروج يقول كما لا ضرورة إلى إسقاط اعتبار المنافي قبل الدخول لا ضرورة إليه بعد الخروج فيظهر حكم المنافي، ولأبي حنيفة، ومحمد ما ذكرنا أن وقت الأداء شرعا أقيم مقام وقت الأداء فعلا لما بينا من المعنى، ثم لا بد من تقديم وقت الطهارة على وقت الأداء حقيقة فكذا لا بد من تقديمها على وقت الأداء شرعا، حتى يمكنه شغل جميع الوقت بالأداء، وهذه الحالة انعدمت بخروج الوقت فظهر حكم الحدث، ومشايخنا أداروا الخلاف على الدخول، والخروج فقالوا: تنتقض طهارتها بخروج الوقت، أو بدخوله لتيسير الحفظ على المتعلمين لا لأن للخروج، أو الدخول تأثيرا في انتقاض الطهارة، وإنما المدار على ما ذكرنا.
ولو توضأ صاحب العذر بعد طلوع الشمس لصلاة العيد أو لصلاة الضحى وصلى هل يجوز له أن يصلي الظهر بتلك الطهارة أما على قول أبي يوسف، وزفر فلا يشكل أنه لا يجوز لوجود الدخول. وأما على قول أبي حنيفة، ومحمد فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: "لا يجوز"، لأن هذه طهارة وقعت لصلاة مقصودة فتنتقض بخروج وقتها. وقال بعضهم: "يجوز" لأن هذه الطهارة إنما صحت للظهر لحاجته إلى تقديم الطهارة على وقت الظهر على ما مر فيصح بها أداء صلاة العيد، والضحى، والنفل كما إذا توضأ للظهر قبل الوقت، ثم دخل الوقت أنه يجوز له أن يؤدي بها الظهر، وصلاة أخرى في الوقت كذا هذا. ولو توضأ لصلاة الظهر وصلى، ثم توضأ وضوءا آخر في وقت الظهر للعصر ودخل وقت العصر هل يجوز له أن يصلي العصر بتلك الطهارة على قولهما اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجوز; لأن طهارته قد صحت لجميع وقت الظهر فتبقى ما بقي الوقت، فلا تصح الطهارة الثانية مع قيام الأولى بل كانت تكرارا للأولى فالتحقت الثانية بالعدم فتنتقض الأولى بخروج الوقت. وقال بعضهم: يجوز; لأنه يحتاج إلى تقديم الطهارة على وقت العصر، حتى يشتغل جميع الوقت بالأداء، والطهارة الواقعة لصلاة الظهر عدم في حق صلاة العصر، وإنما تنتقض بخروج وقت الظهر طهارة الظهر لا طهارة العصر. ولو توضأت مستحاضة ودمها سائل، أو سال بعد الوضوء قبل خروج الوقت ثم خرج الوقت وهي في الصلاة فعليها أن تستقبل، لأن طهارتها تنتقض بخروج الوقت لما بينا فإذا خرج الوقت قبل الخروج من الصلاة انتقضت طهارتها فتنتقض صلاتها، ولا تبني لأنها صارت محدثة عند خروج الوقت من حين درور الدم كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة، ولو توضأت، والدم منقطع، وخرج الوقت، وهي في خلال الصلاة قبل سيلان الدم، ثم سال الدم توضأت، وبنت، لأن هذا حدث لاحق، وليس بسابق لأن الطهارة كانت صحيحة لانعدام ما ينافيها وقت حصولها وقد حصل الحدث للحال مقتصرا غير موجب ارتفاع الطهارة من الأصل، ولو توضأت، والدم سائل، ثم انقطع، ثم صلت، وهو منقطع، حتى خرج الوقت، ودخل وقت صلاة أخرى ثم سال الدم أعادت الصلاة الأولى. لأن الدم لما انقطع، ولم يسل، حتى خرج الوقت لم تكن تلك الطهارة طهارة عذر في حقها لانعدام العذر فتبين أنها صلت بلا طهارة، وأصل هذه المسائل في الجامع الكبير.
هذا الذي ذكرناه حكم صاحب العذر، وأما حكم نجاسة ثوبه فنقول إذا أصاب ثوبه من ذلك أكثر من قدر الدرهم يجب غسله إذا كان الغسل مفيدا بأن كان لا يصيبه مرة بعد أخرى حتى لو لم يغسل، وصلى لا يجوز، وإن لم يكن مفيدا لا يجب ما دام العذر قائما، وهو اختيار مشايخنا، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول "يجب غسله في وقت كل صلاة" قياسا على الوضوء، والصحيح قول مشايخنا لأن حكم الحدث عرفناه بالنص، ونجاسة الثوب ليس في معناه ألا ترى أن القليل منها عفو، فلا يلحق به.
وأما" الحدث الحكمي فنوعان أيضا أحدهما أن يوجد أمر يكون سببا لخروج النجس الحقيقي غالبا فيقام السبب مقام المسبب احتياطا، والثاني أن لا يوجد شيء من ذلك لكنه جعل حدثا شرعا تعبدا محضا أما الأول فأنواع منها المباشرة الفاحشة وهو أن يباشر الرجل المرأة بشهوة، وينتشر لها، وليس بينهما ثوب، ولم ير بللا فعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يكون حدثا استحسانا والقياس أن لا يكون حدثا، وهو قول محمد وهل

 

ج / 1 ص -30-         تشترط ملاقاة الفرجين، وهي مماستهما على قولهما لا يشترط ذلك في ظاهر الرواية عنهما، وشرطه في النوادر، وذكر الكرخي ملاقاة الفرجين أيضا وجه القياس أن السبب إنما يقام مقام المسبب في موضع لا يمكن الوقوف على المسبب من غير حرج، والوقوف على المسبب ههنا ممكن بلا حرج، لأن الحال حال يقظة فيمكن الوقوف على الحقيقة، فلا حاجة إلى إقامة السبب مقامها. وجه الاستحسان ما روي أن أبا اليسر بائع العسل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت من امرأتي كل شيء إلا الجماع فقال صلى الله عليه وسلم "توضأ، وصل ركعتين"، ولأن المباشرة على الصفة التي ذكرنا لا تخلو عن خروج المذي عادة إلا إنه يحتمل أنه جف لحرارة البدن فلم يقف عليه، أو غفل عن نفسه لغلبة الشبق فكانت سببا مفضيا إلى الخروج، وإقامة السبب مقام المسبب طريقة معهودة في الشريعة خصوصا في أمر يحتاط فيه كما يقام المس مقام الوطء في حق ثبوت حرمة المصاهرة بل يقام نفس النكاح مقامه، ويقام نوم المضطجع مقام الحدث، ونحو ذلك كذا ههنا. ولو لمس امرأته بشهوة، أو غير شهوة فرجها أو سائر أعضائها من غير حائل ولم ينشر لها لا ينتقض وضوءه عند عامة العلماء وقال مالك: "إن كان المس بشهوة يكون حدثا، وإن كان بغير شهوة بأن كانت صغيرة، أو كانت ذا رحم محرم منه لا يكون حدثا"، وهو أحد قولي الشافعي، وفي قول يكون حدثا كيفما كان بشهوة أو بغير شهوة، وهل تنتقض طهارة الملموسة لا شك أنها لا تنتقض عندنا، وللشافعي فيه قولان احتجا بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} والملامسة مفاعلة من اللمس، واللمس والمس واحد لغة قال الله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}. وحقيقة اللمس للمس باليد، وللجماع مجاز، أو هو حقيقة لهما جميعا لوجود المس فيهما جميعا، وإنما اختلف آلة المس فكان الاسم حقيقة لهما لوجود معنى الاسم فيهما. وقد جعل الله تعالى: اللمس حدثا حيث أوجب به إحدى الطهارتين، وهي التيمم "ولنا" ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن هذه الحادثة فقالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه، ثم يخرج إلى الصلاة، ولا يتوضأ"، ولأن المس ليس بحدث بنفسه، ولا سبب لوجود الحدث غالبا فأشبه مس الرجل الرجل، والمرأة المرأة، ولأن مس أحد الزوجين صاحبه مما يكثر وجوده فلو جعل حدثا لوقع الناس في الحرج. وأما الآية فقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أن المراد من اللمس الجماع، وهو ترجمان القرآن. وذكر ابن السكيت في إصلاح المنطق أن اللمس إذا قرن بالنساء يراد به الوطء تقول العرب "لمست المرأة"، أي: جامعتها على أن اللمس يحتمل الجماع إما حقيقة، أو مجازا فيحمل عليه توفيقا بين الدلائل، ولو مس ذكره بباطن كفه من غير حائل لا ينتقض وضوءه عندنا، وعند الشافعي ينتقض احتج بما روت بسرة بنت صفوان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من مس ذكره فليتوضأ". "ولنا" ما روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان، وأبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم لم يجعلوا مس الذكر حدثا، حتى قال علي رضي الله عنه "لا أبالي مسسته، أو أرنبة أنفي" وقال بعضهم للراوي "إن كان نجسا فاقطعه"، ولأنه ليس بحدث بنفسه، ولا سبب لوجود الحدث غالبا فأشبه مس الأنف، ولأن مس الإنسان ذكره مما يغلب وجوده فلو جعل حدثا يؤدي إلى الحرج، وما رواه فقد قيل أنه ليس بثابت لوجوه أحدها أنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما ذكرنا. والثاني أنه روي أن هذه الحادثة وقعت في زمن مروان بن الحكم فشاور من بقي من الصحابة فقالوا: لا ندع كتاب ربنا، ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، والثالث أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى فلو ثبت لاشتهر، ولو ثبت فهو محمول على غسل اليدين، لأن الصحابة كانوا يستنجون بالأحجار دون الماء فإذا مسوه بأيديهم كانت تتلوث خصوصا في أيام الصيف فأمر بالغسل لهذا، والله أعلم.
ومنها" الإغماء والجنون والسكر الذي يستر العقل أما الإغماء فلأنه في استرخاء المفاصل، واستطلاق الوكاء فوق النوم مضطجعا، وذلك حدث فهذا أولى. وأما الجنون فلأن المبتلى به يحدث حدثا، ولا يشعر به فأقيم السبب مقام المسبب، والسكر الذي يستر العقل في معنى الجنون في عدم التمييز وقد انضاف إليه استرخاء المفاصل، ولا فرق في حق هؤلاء بين الاضطجاع، والقيام، لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بين حال، وحال.
ومنها" النوم مضطجعا في الصلاة أو في غيرها بلا

 

ج / 1 ص -31-         خلاف بين الفقهاء، وحكي عن النظام أنه ليس بحدث، ولا عبرة بخلافه لمخالفته الإجماع، وخروجه عن أهل الاجتهاد، والدليل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نام في صلاته حتى غط، ونفخ، ثم قال: "لا وضوء على من نام قائما، أو قاعدا، أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله" نص على الحكم، وعلل باسترخاء المفاصل، وكذا النوم متوركا بأن نام على أحد وركيه؛ لأن مقعده يكون متجافيا عن الأرض فكان في معنى النوم مضطجعا في كونه سببا لوجود الحدث بواسطة استرخاء المفاصل، وزوال مسكة اليقظة فأما النوم في غير هاتين الحالتين فأما إن كان في الصلاة. وأما إن كان في غيرها فإن كان في الصلاة لا يكون حدثا سواء غلبه النوم، أو تعمد في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه قال سألت أبا حنيفة عن النوم في الصلاة فقال "لا ينقض الوضوء"، ولا أدري أسألته عن العمد، أو الغلبة، وعندي أنه إن نام متعمدا ينتقض وضوءه. وعند الشافعي أن النوم حدث على كل حال إلا إذا كان قاعدا مستقرا على الأرض فله فيه قولان احتج بما روي عن صفوان بن عسال المرادي أنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام، ولياليها إذا كنا سفرا إلا من جنابة لكن من نوم، أو بول، أو غائط" فقد جعل النوم حدثا على الإطلاق. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "العينان وكاء الاست فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" أشار إلى كون النوم حدثا حيث جعله علة استطلاق الوكاء. "ولنا" ما روينا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث نفى الوضوء في النوم في غير حال الاضطجاع، وأثبته فيها بعلة استرخاء المفاصل، وزوال مسكة اليقظة، ولم يوجد في هذه الأحوال لأن الإمساك فيها باق ألا ترى أنه لم يسقط، وفي المشهور من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا نام العبد في سجوده يباهي الله تعالى: به ملائكته فيقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي". ولو كان النوم في الصلاة حدثا لما كان جسده في طاعة الله تعالى:، ولا حجة له فيما روي؛ لأن مطلق النوم ينصرف إلى النوم المتعارف، وهو نوم المضطجع، وكذا استطلاق الوكاء يتحقق به لا بكل نوم وجه رواية أبي يوسف أن القياس في النوم حالة القيام، والركوع، والسجود أن يكون حدثا لكونه سببا لوجود الحدث إلا أنا تركنا القياس حالة الغلبة لضرورة التهجد نظر للمتهجدين، وذلك عند الغلبة دون التعمد. "ولنا" ما روينا من الحديثين من غير فصل، ولأن الاستمساك في هذه الأحوال باق لما بينا، وإن كان خارج الصلاة فإن كان قاعدا مستقرا على الأرض غير مستند إلى شيء لا يكون حدثا، لأنه ليس بسبب لوجود الحدث غالبا، وإن كان قائما، أو على هيئة الركوع، والسجود غير مستند إلى شيء اختلف المشايخ فيه والعامة على أنه لا يكون حدثا لما روينا من الحديث من غير فصل بين حالة الصلاة، وغيرها، ولأن الاستمساك فيها باق على ما مر، والأقرب إلى الصواب في النوم على هيئة السجود خارج الصلاة ما ذكره القمي أنه لا نص فيه، ولكن ينظر فيه إن سجد على الوجه المسنون بأن كان رافعا بطنه عن فخذيه مجافيا عضديه عن جنبيه لا يكون حدثا، وإن سجد لا على وجه السنة بأن ألصق بطنه بفخذيه، واعتمد على ذراعيه على الأرض يكون حدثا، لأن في الوجه الأول الاستمساك باق، والاستطلاق منعدم، وفي الوجه الثاني بخلافه إلا أنا تركنا هذا القياس في حالة الصلاة بالنص، ولو نام مستندا إلى جدار، أو سارية، أو رجل، أو متكئا على يديه ذكر الطحاوي أنه إن كان بحال لو أزيل السند لسقط يكون حدثا، وإلا، فلا، وبه أخذ كثير من مشايخنا وروى خلف بن أيوب عن أبي يوسف أنه قال سألت أبا حنيفة عمن استند إلى سارية، أو رجل فنام ولولا السارية والرجل لم يستمسك. قال "إذا كانت أليته مستوثقة من الأرض، فلا وضوء عليه"، وبه أخذ عامة مشايخنا، وهو الأصح لما روينا من الحديث، وذكرنا من المعنى، ولو نام قاعدا مستقرا على الأرض فسقط، وانتبه فإن انتبه بعدما سقط على الأرض، وهو نائم انتقض وضوءه بالإجماع لوجود النوم مضطجعا، وإن قل، وإن انتبه قبل أن يصل جنبه إلى الأرض روي عن أبي حنيفة أنه لا ينتقض وضوءه لانعدام النوم مضطجعا. وعن أبي يوسف أنه ينتقض وضوءه لزوال الاستمساك بالنوم حيث سقط، وعن محمد أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعده الأرض لم ينتقض وضوءه، وإن زايل مقعده قبل

 

ج / 1 ص -32-         أن ينتبه انتقض وضوءه.
وأما" الثاني فهو القهقهة في صلاة مطلقة، وهي الصلاة التي لها ركوع، وسجود، فلا يكون حدثا خارج الصلاة، ولا في صلاة الجنازة، وسجدة التلاوة. وهذا استحسان، والقياس أن لا تكون حدثا، وهو قول الشافعي، ولا خلاف في التبسم أنه لا يكون حدثا احتج الشافعي بما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"الضحك ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء"، ولأنه لم يوجد الحدث حقيقة، ولا ما هو سبب وجوده، والوضوء لا ينتقض إلا بأحد هذين، ولهذا لم ينتقض بالقهقهة خارج الصلاة، وفي صلاة الجنازة، ولا ينقض بالتبسم. "ولنا" ما روي في المشاهير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي فجاء أعرابي في عينيه سوء فوقع في بئر عليها خصفة فضحك بعض من خلفه فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال "من قهقه منكم فليعد الوضوء، والصلاة، ومن تبسم، فلا شيء عليه" طعن أصحاب الشافعي في الحديث من وجهين أحدهما أنه ليس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بئر، والثاني أنه لا يظن بالصحابة الضحك خصوصا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الطعن فاسد لأنا ما روينا الصلاة كانت في المسجد على أنه كانت في المسجد حفيرة يجمع فيها ماء المطر، ومثلها يسمى بئرا. وكذا ما روينا أن الخلفاء الراشدين، أو العشرة المبشرين أو المهاجرين الأولين، أو فقهاء الصحابة، وكبار الأنصار هم الذين ضحكوا بل كان الضاحك بعض الأحداث، أو الأعراب، أو بعض المنافقين لغلبة الجهل عليهم، حتى روي أن أعرابيا بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث جابر محمول على ما دون القهقهة توفيقا بين الدلائل مع أنه قيل إن الضحك ما يسمع الرجل نفسه، ولا يسمع جيرانه، والقهقهة ما يسمع جيرانه، والتبسم ما لا يسمع نفسه، ولا جيرانه وقوله لم يوجد الحدث، ولا سبب وجوده مسلم لكن هذا حكم عرف بخلاف القياس بالنص، والنص ورد بانتقاض الوضوء بالقهقهة في صلاة مستتمة الأركان فبقي ما وراء ذلك على أصل القياس. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال "ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم، ولو في الصلاة". وروي أنه صلى الله عليه وسلم تبسم في صلاته فلما فرغ سئل عن ذلك فقال "أتاني جبريل عليه السلام، وأخبرني أن الله تعالى: يقول من صلى عليك مرة صلى الله عليه عشرا"، ولو قهقه الإمام والقوم جميعا فإن قهقه الأمام أولا انتقض وضؤه دون القوم، لأن قهقهتهم لم تصادف تحريمة الصلاة لفساد صلاتهم بفساد صلاة الإمام فجعلت قهقهتم خارج الصلاة، وإن قهقه القوم أولا، ثم الإمام انتقض طهارة الكل؛ لأن قهقهتهم حصلت في الصلاة أما القوم، فلا إشكال. وأما الإمام فلأنه لا يصير خارجا من الصلاة بخروج القوم، وكذلك إن قهقهوا معا لأن قهقهة الكل حصلت في تحريمة الصلاة.
وأما تغميض الميت وغسله وحمل الجنازة وأكل ما مسته النار والكلام الفاحش فليس شيء من ذلك حدثا عند عامة العلماء وقال بعضهم: كل ذلك حدث ورووا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من غمض ميتا فليتوضأ، ومن غسل ميتا فليغتسل، ومن حمل جنازة فليتوضأ"، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للمتسابين إن بعض ما أنتما فيه لشر من الحدث فجددا الوضوء، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"توضئوا مما مسته النار"، ومنهم من أوجب من لحم الإبل خاصة. وروي "توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم" "ولنا" ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما علينا الوضوء مما يخرج ليس مما يدخل" وقال ابن عباس رضي الله عنهما "الوضوء مما يخرج"، يعني: الخارج النجس، ولم يوجد، والمعنى في المسألة أن الحدث هو خروج النجس حقيقة، أو ما هو سبب الخروج، ولم يوجد، وإليه أشار ابن عباس رضي الله عنهما حين بلغه حديث حمل الجنازة فقال" أنتوضأ من مس عيدان يابسة"، ولأن هذه الأشياء مما يغلب وجودها فلو جعل شيء من ذلك حدثا لوقع الناس في الحرج، وما رووا أخبار آحاد وردت فيما تعم به البلوى، ويغلب وجوده، ولا يقبل خبر الواحد في مثله، لأنه دليل عدم الثبوت إذ لو ثبت لاشتهر بخلاف خبر القهقهة فإنه من المشاهير مع أنه ما ورد فيما لا تعم به البلوى، لأن القهقهة في الصلاة مما لا يغلب وجوده، ولو ثبت ما رووا فالمراد من الوضوء بتغميض الميت غسل اليد لأن ذلك الموضع لا يخلو عن قذارة عادة، وكذا بأكل ما مسته النار، ولهذا خص لحم الإبل في رواية؛ لأن له

 

ج / 1 ص -33-         من اللزوجة ما ليس لغيره، وهكذا روي أنه أكل طعاما فغسل يديه وقال "هكذا الوضوء مما مسته النار"، والمراد من حديث الغسل فليغتسل إذا أصابته الغسالات النجسة وقوله فليتوضأ في حمل الجنازة للمحدث ليتمكن من الصلاة عليه، وعائشة رضي الله عنها إنما ندبت المتسابين إلى تجديد الوضوء تكفيرا لذنب سبهما.
ومن توضأ، ثم جز شعره، أو قلم ظفره، أو قص شاربه، أو نتف إبطيه لم يجب عليه إيصال الماء إلى ذلك الموضع عند عامة العلماء، وعند إبراهيم النخعي يجب عليه في قلم الظفر وجز الشعر وقص الشارب وجه قوله أن ما حصل فيه التطهير قد زال، وما ظهر لم يحصل فيه التطهير فأشبه نزع الخفين. "ولنا" أن الوضوء قد تم؛ فلا ينتقض إلا بالحدث، ولم يوجد وهذا; لأن الحدث يحل ظاهر البدن. وقد زال الحدث عن الظاهر إما بالغسل، أو بالمسح، وما بدا لم يحله الحدث السابق، وبعد بدوه لم يوجد حدث آخر، فلا تعقل إزالته بخلاف المسح على الخفين، لأن الوضوء هناك لم يتم، لأن تمامه بغسل القدمين، ولم يوجد إلا أن الشرع أقام المسح على الخفين مقام غسل القدمين لضرورة تعذر النزع في كل زمان فإذا نزع زالت الضرورة فوجب غسل القدمين تتميما للوضوء، وإنما أورد نتف الإبط. وإن لم يكن ما يظهر بالنتف محلا لحلول الحدث فيه بخلاف قلم الأظفار، لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال "من مسح إبطيه فليتوضأ"،
وتأويله فليغسل يديه لتلوثهما بعرقه.
ولو مس كلبا، أو خنزيرا، أو وطئ نجاسة لا وضوء عليه لانعدام الحدث حقيقة، وحكما إلا أنه إذا التزق بيده شيء من النجاسة يجب غسل ذلك الموضع، وإلا، فلا.
ومن أيقن بالطهارة وشك في الحدث فهو على الطهارة، ومن أيقن بالحدث وشك في الطهارة فهو على الحدث، لأن اليقين لا يبطل بالشك وروي عن محمد أنه قال المتوضئ إذا تذكر أنه دخل الخلاء لقضاء الحاجة وشك أنه خرج قبل أن يقضيها، أو بعد ما قضاها فعليه أن يتوضأ، لأن الظاهر أنه ما خرج إلا بعد قضائها، وكذلك المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء، ومعه الماء، وشك في أنه توضأ، أو قام قبل أن يتوضأ، فلا وضوء عليه لأن الظاهر أنه لا يقوم ما لم يتوضأ، ولو شك في بعض وضوئه، وهو أول ما شك غسل الموضع الذي شك فيه، لأنه على يقين من الحدث في ذلك الموضع، وفي شك من غسله. والمراد من قوله أول ما شك أن الشك في مثله لم يصر عادة له؛ لا أنه لم يبتل به قط، وإن كان يعرض له ذلك كثيرا لم يلتفت إليه، لأن ذلك وسوسة، والسبيل في الوسوسة قطعها؛ لأنه لو اشتغل بذلك لأدى إلى أن يتفرع لأداء الصلاة، وهذا لا يجوز.
ولو توضأ، ثم رأى البلل سائلا من ذكره أعاد الوضوء لوجود الحدث، وهو سيلان البول، وإنما قال رآه سائلا لأن مجرد البلل يحتمل أن يكون من ماء الطهارة فإن علم أنه بول ظهر فعليه الوضوء، وإن لم يكن سائلا، وإن كان الشيطان يريه ذلك كثيرا، ولم يعلم أنه بول، أو ماء مضى على صلاته، ولا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه من باب الوسوسة فيجب قطعها وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه فيقول أحدثت أحدثت، فلا ينصرف، حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا". وينبغي أن ينضح فرجه، أو إزاره بالماء إذا توضأ قطعا لهذه الوسوسة، حتى إذا أحس شيئا من ذلك أحاله إلى ذلك الماء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان ينضح إزاره بالماء إذا توضأ"، وفي بعض الروايات قال "نزل علي جبريل صلوات الله عليه، وأمرني بذلك".
مطلب مس المصحف "وأما" الثاني، وهو بيان حكم الحدث فللحدث أحكام، وهي أن لا يجوز للمحدث أداء الصلاة لفقد شرط جوازها، وهو الوضوء قال صلى الله عليه وسلم
"لا صلاة إلا بوضوء"، ولا مس المصحف من غير غلاف عندنا، وعند الشافعي يباح له مس المصحف من غير غلاف وقاس المس على القراءة فقال: "يجوز له القراءة فيجوز له المس". "ولنا" قوله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون" وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يمس القرآن إلا طاهر"، ولأن تعظيم القرآن واجب، وليس من التعظيم مس المصحف بيد حلها حدث، واعتبار المس بالقراءة غير سديد، لأن حكم الحدث لم يظهر في الفم وظهر في اليد بدليل أنه افترض غسل اليد، ولم يفترض غسل الفم في الحدث فبطل الاعتبار، ولا مس الدراهم التي عليها القرآن، لأن حرمة المصحف كحرمة ما كتب منه فيستوي فيه الكتابة في المصحف، وعلى الدراهم، ولا مس كتاب التفسير، لأنه يصير بمسه ماسا للقرآن. وأما مس كتاب الفقه، فلا بأس به

 

ج / 1 ص -34-         والمستحب له أن لا يفعل، ولا يطوف بالبيت. وإن طاف جاز مع النقصان لأن الطواف بالبيت شبيه بالصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة"، ومعلوم أنه ليس بصلاة حقيقية فلكونه طوافا حقيقة يحكم بالجواز، ولكونه شبيها بالصلاة يحكم بالكراهة. ثم ذكر الغلاف، ولم يذكر تفسيره، واختلف المشايخ في تفسيره فقال بعضهم: "هو الجلد المتصل بالمصحف وقال بعضهم: هو الكم، والصحيح أنه الغلاف المنفصل عن المصحف، وهو الذي يجعل فيه المصحف وقد يكون من الجلد وقد يكون من الثوب، وهو الخريطة، لأن المتصل به تبع له فكان مسه مسا للقرآن، ولهذا لو لبيع المصحف دخل المتصل به في البيع، والكم تبع للحامل فأما المنفصل فليس بتبع، حتى لا يدخل في بيع المصحف من غير شرط. وقال بعض مشايخنا: "إنما يكره له مس الموضع المكتوب دون الحواشي"، لأنه لم يمس القرآن حقيقة، والصحيح أنه يكره مس كله، لأن الحواشي تابعة للمكتوب فكان مسها مسا للمكتوب، ويباح له قراءة القرآن لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة". ويباح له دخول المسجد، لأن وفود المشركين كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فيدخلون عليه، ولم يمنعهم من ذلك، ويجب عليه الصوم، والصلاة حتى يجب قضاؤهما بالترك لأن الحدث لا ينافي أهلية أداء الصوم، فلا ينافي أهلية وجوبه، ولا ينافي أهلية وجوب الصلاة أيضا، وإن كان ينافي أهلية أدائها، لأنه يمكنه رفعه بالطهارة.
فصل": وأما الغسل فالكلام فيه يقع في مواضع في تفسير الغسل، وفي بيان ركنه، وفي بيان شرائط الركن، وفي بيان سنن الغسل، وفي بيان آدابه، وفي بيان مقدار الماء الذي يغسل به، وفي بيان صفة الغسل المشروع. "أما" تفسيره فالغسل في اللغة اسم للماء الذي يغتسل به لكن في عرف الفقهاء يراد به غسل البدن، وقد مر تفسير الغسل فيما تقدم أنه الإسالة، حتى لا يجوز بدونها.
وأما" ركنه فهو إسالة الماء على جميع ما يمكن إسالته عليه من البدن من غير حرج مرة واحدة حتى لو بقيت لمعة لم يصبها الماء لم يجز الغسل، وإن كانت يسيرة لقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}، أي: طهروا أبدانكم، واسم البدن يقع على الظاهر، والباطن فيجب تطهير ما يمكن تطهيره منه بلا حرج، ولهذا وجبت المضمضة، والاستنشاق في الغسل، لأن إيصال الماء إلى داخل الفم، والأنف ممكن بلا حرج، وإنما لا يجبان في الوضوء لا، لأنه لا يمكن إيصال الماء إليه بل، لأن الواجب هناك غسل الوجه، ولا تقع المواجهة إلى ذلك رأسا، ويجب إيصال الماء إلى أثناء اللحية كما يجب إلى أصولها، وكذا يجب على المرأة إيصال الماء إلى أثناء شعرها إذا كان منقوضا كذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني لأنه يمكن إيصال الماء إلى ذلك من غير حرج.
وأما إذا كان شعرها ضفيرا فهل يجب عليها إيصال الماء إلى أثنائه اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة". وقال بعضهم: "لا يجب، وهو اختيار الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري وهو الأصح لما روي أن أم سلمة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت فقال صلى الله عليه وسلم "أفيضي الماء على رأسك، وسائر جسدك، ويكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك"، ولأن ضفيرتها إذا كانت مشدودة فتكليفها نقضها يؤدي إلى الحرج، ولا حرج حال كونها منقوضة، والحديث محمول على هذه الحالة. ويجب إيصال الماء إلى داخل السرة لإمكان الإيصال إليها بلا حرج، وينبغي أن يدخل أصبعه فيها للمبالغة، ويجب على المرأة غسل الفرج الخارج؛ لأنه يمكن غسله بلا حرج. وكذا الأقلف يجب عليه إيصال الماء إلى القلفة وقال بعضهم: "لا يجب"، وليس بصحيح لإمكان إيصال الماء إليه من غير حرج.
وأما" شروطه فما ذكرنا في الوضوء.
وأما" سننه فهي أن يبدأ فيأخذ الإناء بشماله، ويكفيه على يمينه فيغسل يديه إلى الرسغين ثلاثا، ثم يفرغ الماء بيمينه على شماله فيغسل فرجه، حتى ينقيه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثلاثا ثلاثا إلا أنه لا يغسل رجليه، حتى يفيض الماء على رأسه، وسائر جسده ثلاثا ثم يتنحى فيغسل قدميه، والأصل فيه ما روي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "وضعت غسلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل من الجنابة فأخذ الإناء بشماله، وأكفأه على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم أنقى"

 

ج / 1 ص -35-         فرجه بالماء، ثم مال بيده إلى الحائط فدلكها بالتراب ثم توضأ وضوءه للصلاة غير غسل القدمين، ثم أفاض الماء على رأسه، وسائر جسده ثلاثا، ثم تنحى فغسل قدميه فالحديث مشتمل على بيان السنة، والفريضة جميعا.
وهل يمسح رأسه عند تقديم الوضوء على الغسل ذكر في ظاهر الرواية أنه يمسح وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يمسح لأن تسييل الماء عليه بعد ذلك يبطل معنى المسح فلم يكن فيه فائدة بخلاف سائر الأعضاء لأن التسييل من بعد لا يبطل التسييل من قبل، والصحيح. جواب ظاهر الرواية لأن السنة وردت بتقديم الوضوء على الإفاضة على جميع البدن على ما روينا، والوضوء اسم للمسح، والغسل جميعا إلا أنه يؤخر غسل القدمين لعدم الفائدة في تقديم غسلهما لأنهما يتلوثان بالغسالات من بعد، حتى لو اغتسل على موضع لا يجتمع الغسالة تحت قدمه كالحجر، ونحوه لا يؤخر لانعدام معنى التلوث، ولهذا قالوا في غسل الميت: إنه يغسل رجليه عند التوضئة، ولا يؤخر غسلهما، لأن الغسالة لا تجتمع على التخت، ومن مشايخنا من استدل بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين عند تقديم الوضوء على الإفاضة على أن الماء المستعمل نجس إذ لو لم يكن نجسا لم يكن للتحرج عن الطاهر معنى فجعلوه حجة أبي حنيفة، وأبي يوسف على محمد وليس فيه كبير حجة، لأن الإنسان كما يتحرج عن النجس يتحرج عن القذر خصوصا الأنبياء صلوات الله، وسلامه عليهم، والماء المستعمل قد أزيل إليه قذر الحدث، حتى تعافه الطباع السليمة، والله أعلم.
وأما" آدابه فما ذكرنا في الوضوء.
وأما بيان مقدار الماء الذي يغتسل به فقد ذكر في ظاهر الرواية وقال: أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع، وفي الوضوء مد لما روي عن جابر رضي الله عنه"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع فقيل له: إن لم يكفنا فغضب وقال: لقد كفى من هو خير منكم، وأكثر شعرا"، ثم إن محمدا رحمه الله ذكر الصاع في الغسل، والمد في الوضوء مطلقا عن الأحوال، ولم يفسره قال بعض مشايخنا: هذا التقدير في الغسل إذا لم يجمع بين الوضوء، والغسل فأما إذا جمع بينهما يحتاج إلى عشرة أرطال رطلان للوضوء، وثمانية أرطال للغسل. وقال عامة المشايخ إن الصاع كاف لهما وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: في الوضوء إن كان المتوضئ متخففا، ولا يستنجي يكفيه رطل واحد لغسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وإن كان متخففا، ويستنجي يكفيه رطلان رطل للاستنجاء ورطل للباقي، ثم هذا التقدير الذي ذكره محمد من الصاع، والمد في الغسل، والوضوء ليس بتقدير لازم بحيث لا يجوز النقصان عنه أو الزيادة عليه بل هو بيان مقدار أدنى الكفاية عادة حتى إن من أسبغ الوضوء، والغسل بدون ذلك أجزأه. وإن لم يكفه زاد عليه; لأن طباع الناس، وأحوالهم تختلف، والدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يتوضأ بثلثي مد" لكن ينبغي أن يزيد عليه بقدر ما لا إسراف فيه لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على سعد بن أبي وقاص، وهو يتوضأ، ويصب صبا فاحشا فقال:
"إياك، والسرف" فقال: أوفي الوضوء سرف ؟ قال: "نعم، ولو كنت على ضفة نهر جار"، وفي رواية "ولو كنت على شط بحر".
وأما" صفة الغسل فالغسل قد يكون فرضا وقد يكون واجبا وقد يكون سنة وقد يكون مستحبا أما الغسل الواجب فهو غسل الموتى. وأما السنة فهو غسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، والعيدين، وعند الإحرام، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى:، وههنا نذكر المستحب، والفرض.
أما" المستحب فهو غسل الكافر إذا أسلم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يأمر بالغسل من جاءه يريد الإسلام"، وأدنى درجات الأمر الندب، والاستحباب هذا إذا لم يعرف أنه جنب فأسلم فأما إذا علم كونه جنبا فأسلم قبل الاغتسال اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: "لا يلزمه الاغتسال أيضا" لأن الكفار غير مخاطبين بشرائع هي من القربات، والغسل يصير قربة بالنية، فلا يلزمه وقال بعضهم: "يلزمه"; لأن الإسلام لا ينافي بقاء الجنابة بدليل أنه لا ينافي بقاء الحدث، حتى يلزمه الوضوء بعد الإسلام كذا الجنابة، وعلى هذا غسل الصبي، والمجنون عند البلوغ، والإفاقة.
وأما" الغسل المفروض فثلاثة: الغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس أما الجنابة فلقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}، أي: اغتسلوا وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا

 

ج / 1 ص -36-         مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، والكلام في الجنابة في موضعين أحدهما في بيان ما تثبت به الجنابة، ويصير الشخص به جنبا، والثاني في بيان الأحكام المتعلقة بالجنابة.
أما" الأول فالجنابة تثبت بأمور بعضها مجمع عليه، وبعضها مختلف فيه "أما" المجمع عليه فنوعان أحدهما خروج المني عن شهوة دفقا من غير إيلاج بأي سبب حصل الخروج كاللمس، والنظر، والاحتلام، حتى يجب الغسل بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء من الماء"، أي: الاغتسال من المني، ثم إنما وجب غسل جميع البدن بخروج المني، ولم يجب بخروج البول، والغائط، وإنما وجب غسل الأعضاء المخصوصة لا غير لوجوه أحدها: أن قضاء الشهوة بإنزال المني استمتاع بنعمة يظهر أثرها في جميع البدن، وهو اللذة فأمر بغسل جميع البدن شكرا لهذه النعمة، وهذا لا يتقرر في البول، والغائط، والثاني أن الجنابة تأخذ جميع البدن ظاهره، وباطنه; لأن الوطء الذي هو سببه لا يكون إلا باستعمال لجميع ما في البدن من القوة، حتى يضعف الإنسان بالإكثار منه، ويقوى بالامتناع فإذا أخذت الجنابة جميع البدن الظاهر، والباطن وجب غسل جميع البدن الظاهر، والباطن بقدر الإمكان، ولا كذلك الحدث فإنه لا يأخذ إلا الظاهر من الأطراف، لأن سببه يكون بظواهر الأطراف من الأكل، والشرب، ولا يكونان باستعمال جميع البدن فأوجب غسل ظواهر الأطراف لا جميع البدن، والثالث أن غسل الكل، أو البعض وجب وسيلة إلى الصلاة التي هي خدمة الرب سبحانه، وتعالى:، والقيام بين يديه، وتعظيمه فيجب أن يكون المصلي على أطهر الأحوال، وأنظفها ليكون أقرب إلى التعظيم، وأكمل في الخدمة، وكمال النظافة يحصل بغسل جميع البدن، وهذا هو العزيمة في الحدث أيضا إلا أن ذلك مما يكثر وجوده فاكتفى فيه بأيسر النظافة، وهي تنقية الأطراف التي تنكشف كثيرا، وتقع عليها الأبصار أبدا، وأقيم ذلك مقام غسل كل البدن دفعا للحرج، وتيسيرا فضلا من الله، ونعمة، ولا حرج في الجنابة لأنها لا تكثر فبقي الأمر فيها على العزيمة، والمرأة كالرجل في الاحتلام لما روي عن أم سليم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل فقال صلى الله عليه وسلم
" إن كان منها مثل ما يكون من الرجل فلتغتسل". وروي أن أم سليم كانت مجاورة لأم سلمة رضي الله عنها وكانت تدخل عليها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم عندها فقالت: يا رسول الله المرأة إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل فقالت أم سلمة لأم سليم تربت يداك يا أم سليم فضحكت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سليم: إن الله لا يستحي من الحق، وإنا إن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل علينا خير من أن نكون فيه على عمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنت يا أم سلمة تربت يداك يا أم سليم عليها الغسل إذا وجدت الماء". وذكر ابن رستم في نوادره إذا احتلم الرجل ولم يخرج الماء من إحليله لا غسل عليه والمرأة إذا احتلمت ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها اغتسلت، لأن لها فرجين، والخارج منهما له حكم الظاهر، حتى يفترض إيصال الماء إليه في الجنابة، والحيض فمن الجائز أن الماء إذا بلغ ذلك الموضع، ولم يخرج، حتى لو كان الرجل أقلف فبلغ الماء قلفته وجب عليه الغسل، والثاني إيلاج الفرج في الفرج في السبيل المعتاد سواء أنزل، أو لم ينزل لما روي أن الصحابة رضي الله عنهم لما اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان المهاجرون يوجبون الغسل، والأنصار لا، بعثوا أبا موسى الأشعري إلى عائشة رضي الله عنها فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا التقى الختانان، وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل، أو لم ينزل" فعلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا فقد روت قولا، وفعلا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال في الإكسال يوجب الحد أفلا يوجب صاعا من ماء، ولأن إدخال الفرج في الفرج المعتاد من الإنسان سبب لنزول المني عادة فيقام مقامه احتياطا، وكذا الإيلاج في السبيل الآخر حكمه حكم الإيلاج في السبيل المعتاد في وجوب الغسل بدون الإنزال أما على أصل أبي يوسف، ومحمد فظاهر، لأنه يوجب الحد أفلا يوجب صاعا من ماء. وأما على أصل أبي حنيفة فإنما لم يوجب الحد احتياطا، والاحتياط في وجوب الغسل، ولأن الإيلاج فيه سبب لنزول المني عادة مثل الإيلاج في السبيل المعتاد، والسبب

 

ج / 1 ص -37-         يقوم مقام المسبب خصوصا في موضع الاحتياط، ولا غسل فيما دون الفرج بدون الإنزال، وكذا الإيلاج في البهائم لا يوجب الغسل ما لم ينزل، وكذا الاحتلام; لأن الفعل فيما دون الفرج، وفي البهيمة ليس نظير الفعل في فرج الإنسان في السببية، وكذا الاحتلام فيعتبر في ذلك كله حقيقة الإنزال
وأما" المختلف فيه "فمنها" أن ينفصل المني لا عن شهوة ويخرج لا عن شهوة بأن ضرب على ظهره ضربا قويا، أو حمل حملا ثقيلا، فلا غسل فيه عندنا، وعند الشافعي فيه الغسل، واحتج بما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"الماء من الماء" أي: الاغتسال من المني من غير فصل. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المرأة ترى في المنام يجامعها زوجها فقال صلى الله عليه وسلم "أتجد لذة؟ فقيل: "نعم" فقال: "عليها الاغتسال إذا وجدت الماء"، ولو لم يختلف الحكم بالشهوة، وعدمها لم يكن للسؤال عن اللذة معنى؛ ولأن وجوب الاغتسال معلق بنزول المني، وأنه في اللغة اسم للمنزل عن شهوة لما نذكر في تفسير المني. وأما الحديث فالمراد من الماء الماء المتعارف، وهو المنزل عن شهوة لانصراف مطلق الكلام إلى المتعارف "ومنها" أن ينفصل المني عن شهوة ويخرج لا عن شهوة، وأنه يوجب الغسل في قول أبي حنيفة، ومحمد. وعند أبي يوسف لا يوجب فالمعتبر عندهما الانفصال عن شهوة، وعنده المعتبر هو الانفصال مع الخروج عن شهوة، وفائدته تظهر في موضعين أحدهما إذا احتلم الرجل فانتبه وقبض على عورته، حتى سكنت شهوته، ثم خرج المني بلا شهوة، والثاني إذا جامع فاغتسل قبل أن يبول، ثم خرج منه بقية المني وجه قول أبي يوسف أن جانب الانفصال يوجب الغسل وجانب الخروج ينفيه، فلا يجب مع الشك، ولهما أنه إذا احتمل الوجوب، والعدم فالقول بالوجوب أولى احتياطا.
ومنها" أنه إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللا على صورة المذي ولم يتذكر الاحتلام فعليه الغسل، في قول أبي حنيفة، ومحمد وعند أبي يوسف لا يجب، وأجمعوا أنه لو كان منيا أن عليه الغسل; لأن الظاهر أنه عن احتلام، وأجمعوا أنه إن كان وديا لا غسل عليه لأنه بول غليظ. وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه إذا وجد على فراشه منيا فهو على الاختلاف، وكان يقيسه على ما ذكرنا من المسألتين وجه قول أبي يوسف أن المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال، ولهما ما روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إذا رأى الرجل بعد ما ينتبه من نومه بلة، ولم يذكر احتلاما اغتسل، وإن رأى احتلاما، ولم ير بلة، فلا غسل عليه"، وهذا نص في الباب، ولأن المني قد يرق بمرور الزمان فيصير في صورة المذي وقد يخرج ذائبا لفرط حرارة الرجل، أو ضعفه فكان الاحتياط في الإيجاب ثم المني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر. وقال الشافعي في كتابه: إن له رائحة الطلع، والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله، والودي رقيق يخرج بعد البول، وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها أنها فسرت هذه المياه بما ذكرنا ولا غسل في الودي والمذي أما الودي فلأنه بقية البول، وأما المذي فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "كنت فحلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته تحتي فأمرت المقداد بن الأسود رضي الله عنه فسأله فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم كل فحل يمذي، وفيه الوضوء" نص على الوضوء، وأشار إلى نفي وجوب الاغتسال بعلة كثرة الوقوع بقوله كل فحل يمذي.
"وأما" الأحكام المتعلقة بالجنابة فما لا يباح للمحدث فعله من مس المصحف بدون غلافه، ومس الدراهم التي عليها القرآن، ونحو ذلك لا يباح للجنب من طريق الأولى لأن الجنابة أغلظ الحدثين، ولو كانت الصحيفة على الأرض فأراد الجنب أن يكتب القرآن عليها روي عن أبي يوسف أنه لا بأس، لأنه ليس بحامل للصحيفة، والكتابة توجد حرفا حرفا. وهذا ليس بقرآن وقال محمد أحب إلي أن لا يكتب، لأن كتابة الحروف تجري مجرى القراءة. وروي عن أبي يوسف أنه لا يترك الكافر أن يمس المصحف لأن الكافر نجس فيجب تنزيه المصحف عن مسه. وقال محمد لا بأس به إذا اغتسل; لأن المانع هو الحدث وقد زال بالغسل، وإنما بقي نجاسة اعتقاده، وذلك في قلبه لا في يده، ولا يباح للجنب قراءة القرآن عند عامة العلماء وقال مالك يباح له ذلك وجه قوله إن الجنابة أحد الحدثين فيعتبر بالحدث الآخر، وأنه لا يمنع من القراءة كذا

 

ج / 1 ص -38-         الجنابة. "ولنا" ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقرأ الحائض، ولا الجنب شيئا من القرآن"، وما ذكر من الاعتبار فاسد، لأن أحد الحدثين حل الفم، ولم يحل الآخر، فلا يصح اعتبار أحدهما بالآخر، ويستوي في الكراهة الآية التامة، وما دون الآية عند عامة المشايخ وقال الطحاوي: لا بأس بقراءة ما دون الآية، والصحيح قول العامة لما روينا من الحديثين من غير فصل بين القليل، والكثير، ولأن المنع من القراءة لتعظيم القرآن، ومحافظة على حرمته، وهذا لا يوجب الفصل بين القليل، والكثير فيكره ذلك كله لكن إذا قصد التلاوة. فأما إذا لم يقصد بأن قال: باسم الله لافتتاح الأعمال تبركا، أو قال: الحمد لله للشكر لا بأس به لأنه من باب ذكر اسم الله تعالى:، والجنب غير ممنوع عن ذلك، وتكره قراءة القرآن في المغتسل والمخرج، لأن ذلك موضع الأنجاس. فيجب تنزيه القرآن عن ذلك، وأما في الحمام فتكره عند أبي حنيفة، وأبي يوسف وعند محمد لا تكره بناء على أن الماء المستعمل نجس عندهما فأشبه المخرج. وعند محمد طاهر، فلا تكره ولا يباح للجنب دخول المسجد، وإن احتاج إلى ذلك يتيمم، ويدخل سواء كان الدخول لقصد المكث أو للاجتياز عندنا وقال الشافعي: يباح له الدخول بدون التيمم إذا كان مجتازا، واحتج بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قيل: المراد من الصلاة مكانها، وهو المسجد كذا روي عن ابن مسعود، وعابر سبيل هو المار يقال: عبر، أي: مر نهي الجنب عن دخول المسجد بدون الاغتسال. واستثنى عابري السبيل، وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه فيباح له الدخول بدون الاغتسال "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "سدوا الأبواب فإني لا أحلها لجنب، ولا لحائض"، والهاء كناية عن المساجد نفى الحل من غير فصل بين المجتاز، وغيره. وأما الآية فقد روي عن علي، وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد هو حقيقة الصلاة، وأن عابر السبيل هو المسافر الجنب الذي لا يجد الماء فيتيمم فكان هذا إباحة الصلاة بالتيمم للجنب المسافر إذا لم يجد الماء، وبه نقول: وهذا التأويل أولى لأن فيه بقاء اسم الصلاة على حالها فكان أولى، أو يقع التعارض بين التأويلين، فلا تبقى الآية حجة له، ولا يطوف بالبيت، وإن طاف جاز مع النقصان لما ذكرنا في المحدث إلا أن النقصان مع الجنابة أفحش لأنها أغلظ، ويصح من الجنب أداء الصوم دون الصلاة، لأن الطهارة شرط جواز الصلاة دون الصوم، ويجب عليه كلاهما، حتى يجب عليه قضاؤهما بالترك، لأن الجنابة لا تمنع من وجوب الصوم بلا شك، ويصح أداؤه مع الجنابة، ولا يمنع من وجوب الصلاة أيضا. وإن كان لا يصح أداؤها مع قيام الجنابة، لأن في وسعه رفعها بالغسل قبل أن يتوضأ، ولا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله "أينام أحدنا، وهو جنب قال: نعم، ويتوضأ وضوءه للصلاة"، وله أن ينام قبل أن يتوضأ وضوءه للصلاة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام، وهو جنب من غير أن يمس ماء"، ولأن الوضوء ليس بقربة بنفسه، وإنما هو لأداء الصلاة، وليس في النوم ذلك، وإن أراد أن يأكل، أو يشرب فينبغي أن يتمضمض، ويغسل يديه. ثم يأكل، ويشرب، لأن الجنابة حلت الفم فلو شرب قبل أن يتمضمض صار الماء مستعملا فيصير شاربا بالماء المستعمل، ويده لا تخلو عن نجاسة فينبغي أن يغسلها، ثم يأكل وهل يجب على الزوج ثمن ماء الاغتسال اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجب سواء كانت المرأة غنية أو فقيرة غير أنها إن كانت فقيرة يقال: للزوج إما أن تدعها حتى تنتقل إلى الماء، أو تنقل الماء إليها وقال بعضهم: يجب، وهو قول الفقيه أبي الليث رحمه الله، لأنه لا بد لها منه فنزل منزلة الماء الذي للشرب، وذلك عليه كذا هذا.
وأما" الحيض فلقوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: يغتسلن ولقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة "دعي الصلاة أيام أقرائك" أي: أيام حيضك ثم اغتسلي، وصلي، ولا نص في وجوب الغسل من النفاس، وإنما عرف بإجماع الأمة، ثم إجماع الأمة يجوز أن يكون بناء على خبر من الباب. لكنهم تركوا نقله اكتفاء بالإجماع عن نقله لكون الإجماع أقوى، ويجوز أنهم قاسوا على دم الحيض لكون كل واحد منهما دما خارجا من الرحم فبنوا الإجماع على القياس إذ الإجماع

 

ج / 1 ص -39-         ينعقد عن الخبر، وعن القياس على ما عرف في أصول الفقه.

فصل" ثم الكلام يقع في تفسير الحيض، والنفاس، والاستحاضة، وأحكامها "أما" الحيض فهو في عرف الشرع اسم لدم خارج من الرحم لا يعقب الولادة مقدر بقدر معلوم في وقت معلوم، فلا بد من معرفة لون الدم، وحاله، ومعرفة خروجه، ومقداره، ووقته "أما" لونه فالسواد حيض بلا خلاف، وكذلك الحمرة عندنا وقال الشافعي: دم الحيض هو الأسود فقط، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت حبيش حين كانت مستحاضة "إذا كان الحيض فإنه دم أسود فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي، وصلي". "ولنا" قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} جعل الحيض أذى، واسم الأذى لا يقتصر على الأسود. وروي أن النساء كن يبعثن بالكرسف إلى عائشة رضي الله عنها فكانت تقول: لا حتى ترين القصة البيضاء، أي: البياض الخالص كالجص. فقد أخبرت أن ما سوى البياض حيض، والظاهر أنها إنما قالت ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه حكم لا يدرك بالاجتهاد، ولأن لون الدم يختلف باختلاف الأغذية، فلا معنى للقصر على لون واحد، وما رواه غريب فلا يصلح معارضا للمشهور مع ما أنه مخالف للكتاب على أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من طريق الوحي أيام حيضها بلون الدم فبنى الحكم في حقها على اللون لا في حق غيرها وغير النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم أيام الحيض بلون الدم، وأما الكدرة ففي آخر أيام الحيض بلا خلاف بين أصحابنا، وكذا في أول الأيام عند أبي حنيفة، ومحمد. وقال أبو يوسف: "لا يكون حيضا"، وجه قوله أن الحيض هو الدم الخارج من الرحم لا من العرق، ودم الرحم يجتمع فيه في زمان الطهر ثم يخرج الصافي منه، ثم الكدر، ودم العرق يخرج الكدر منه أولا، ثم الصافي فينظر إن خرج الصافي، أولا علم أنه من الرحم فيكون حيضا، وإن خرج الكدر أولا علم أنه من العرق فلا يكون حيضا. "ولنا" ما ذكرنا من الكتاب، والسنة من غير فصل وقوله إن كدرة دم الرحم تتبع صافيه ممنوع، وهذا أمر غير معلوم بل قد يتبع الصافي الكدر خصوصا فيما كان الثقب من الأسفل. وأما التربة فهي كالكدرة. وأما الصفرة فقد اختلف المشايخ فيها فقد كان الشيخ أبو منصور يقول إذا رأت في أول أيام الحيض ابتداء كان حيضا أما إذا رأت في آخر أيام الطهر، واتصل به أيام الحيض لا يكون حيضا. والعامة على أنها حيض كيفما كانت. وأما الخضرة فقد قال بعضهم: هي مثل الكدرة فكانت على الخلاف وقال بعضهم: الكدرة، والتربة، والصفرة، والخضرة إنما تكون حيضا على الإطلاق من غير العجائز فأما في العجائز فينظر إن وجدتها على الكرسف، ومدة الوضع قريبة فهي حيض، وإن كانت مدة الوضع طويلة لم يكن حيضا; لأن رحم العجوز يكون منتنا فيتغير الماء لطول المكث، وما عرفت من الجواب في هذه الأبواب في الحيض فهو الجواب فيها في النفاس لأنها أخت الحيض.
وأما" خروجه فهو أن ينتقل من باطن الفرج إلى ظاهره إذ لا يثبت الحيض، والنفاس، والاستحاضة إلا به في ظاهر الرواية. وروي عن محمد في غير رواية الأصول أن في الاستحاضة كذلك فأما الحيض، والنفاس فإنهما يثبتان إذا أحست ببروز الدم، وإن لم يبرز وجه الفرق بين الحيض، والنفاس، والاستحاضة على هذه الرواية أن لهما أعني: الحيض، والنفاس وقتا معلوما فتحصل بهما المعرفة بالإحساس، ولا كذلك الاستحاضة; لأنه لا وقت لها تعلم به، فلا بد من الخروج، والبروز ليعلم وجه ظاهر الرواية ما روي أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها أن فلانة تدعو بالمصباح ليلا فتنظر إليها فقالت عائشة رضي الله عنها "كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتكلف لذلك إلا بالمس" والمس لا يكون إلا بعد الخروج، والبروز.
وأما" مقداره فالكلام فيه في موضعين أحدهما في أصل التقدير أنه مقدر أم لا، والثاني في بيان ما هو مقدر به أما الأول فقد قال عامة العلماء: "إنه مقدر" وقال مالك: "إنه غير مقدر"، وليس لأقله حد، ولا لأكثره غاية، واحتج بظاهر قوله تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} جعل الحيض أذى من غير تقدير، ولأن الحيض اسم الدم الخارج من الرحم، والقليل خارج من الرحم كالكثير، ولهذا لم يقدر: دم النفاس، ولنا ما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقل ما يكون الحيض للجارية الثيب، والبكر جميعا

 

ج / 1 ص -40-         ثلاثة أيام وأكثر ما يكون من الحيض عشرة أيام، وما زاد على العشرة فهو استحاضة"، وهذا حديث مشهور. وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحيض ثلاث أربع خمس ست ثمان تسع عشر، ولم يرو عن غيرهم خلافه فيكون إجماعا، والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لغير المقدر حكم المقدور به تبين أن الخبر المشهور، والإجماع خرجا بيانا للمذكور في الكتاب، والاعتبار بالنفاس غير سديد; لأن القليل هناك عرف خارجا من الرحم بقرينة الولد، ولم يوجد ههنا.
وأما" الثاني فذكر في ظاهر الرواية أن أقل الحيض ثلاثة أيام، ولياليها، وحكي عن أبي يوسف في النوادر يومان، وأكثر اليوم الثالث. وروى الحسن عن أبي حنيفة ثلاثة أيام بليلتيهما المتخللتين وقال الشافعي: يوم، وليلة في قول، وفي قول يوم بلا ليلة، واحتج بما احتج به مالك إلا أنه قال: "لا يمكن اعتبار القليل حيضا"; لأن أقبال النساء لا تخلو عن قليل لوث عادة فيقدر باليوم، أو باليوم، والليلة، لأنه أقل مقدار يمكن اعتباره، وحجتنا ما ذكرنا مع مالك، وحجة ما روي عن أبي يوسف أن أكثر الشيء يقام مقام كله، وهذا على الإطلاق غير سديد فإنه لو جاز إقامة يومين، وأكثر اليوم الثالث مقام الثلاثة لجاز إقامة يومين مقام الثلاثة لوجود الأكثر. وجه رواية الحسن أن دخول الليالي ضرورة دخول الأيام المذكورة في الحديث لا مقصودا، والضرورة ترتفع بالليلتين المتخللتين. والجواب أن دخول الليالي تحت اسم الأيام ليس من طريق الضرورة بل يدخل مقصودا لأن الأيام إذا ذكرت بلفظ الجمع تتناول ما بإزائها من الليالي لغة فكان دخولا مقصودا لا ضرورة.
وأما" أكثر الحيض فعشرة أيام بلا خلاف بين أصحابنا وقال الشافعي: خمسة عشرة، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم، ولا تصلي"، ثم أحد الشطرين الذي تصلي فيه، وهو الطهر خمسة عشر كذا الشطر الآخر، ولأن الشرع أقام الشهر مقام حيض، وطهر في حق الآيسة، والصغيرة فهذا يقتضي انقسام الشهر على الحيض، والطهر، وهو أن يكون نصفه طهرا، ونصفه حيضا، ولنا ما روينا من الحديث المشهور واجماع الصحابة، وليس المراد من الشطر المذكور النصف لأنا نعلم قطعا أنها لا تقعد نصف عمرها ألا ترى أنها لا تقعد حال صغرها، وإياسها، وكذا زمان الطهر يزيد على زمان الحيض عادة فكان المراد ما يقرب من النصف، وهو عشرة، وكذا ليس من ضرورة انقسام الشهر على الطهر، والحيض أن تكون مناصفة إذ قد تكون القسمة مثالثة فيكون ثلث الشهر للحيض، وثلثاه للطهر، وإذا عرفت مقدار الحيض.
لا بد من معرفة مقدار الطهر الصحيح الذي يقابل الحيض، وأقله خمسة عشر يوما عندنا إلا ما روي عن أبي حازم القاضي، وأبي عبد الله البلخي أنه تسعة عشر يوما وقال الشافعي مثل قولنا وقال مالك: عشرة أيام وجه قول أبي حازم، وأبي عبد الله أن الشهر يشتمل على الحيض، والطهر عادة وقد قام الدليل على أن أكثر الحيض عشرة فيبقى من الشهر عشرون إلا أنا نقصنا يوما لأن الشهر قد ينقص بيوم. "ولنا" إجماع الصحابة على ما قلنا، ونوع من الاعتبار بأقل مدة الإقامة، لأن لمدة الطهر شبها بمدة الإقامة ألا ترى أن المرأة بالطهر تعود إلى ما سقط عنها بالحيض كما أن المسافر بالإقامة يعود إلى ما سقط عنه بالسفر، ثم أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما كذا أقل الطهر. وما قالاه غير سديد; لأن المرأة لا تحيض في الشهر عشرة لا محالة، ولو حاضت عشرة لا تطهر عشرين لا محالة بل قد تحيض ثلاثة، وتطهر عشرين وقد تحيض عشرة، وتطهر خمسة عشر. وأما أكثر الطهر، فلا غاية له، حتى أن المرأة إذا طهرت سنين كثيرة فإنها تعمل ما تعمل الطاهرات بلا خلاف بين الأئمة; لأن الطهارة في بنات آدم أصل، والحيض عارض فإذا لم يظهر العارض يجب بناء الحكم على الأصل، وإن طال، واختلف أصحابنا فيما وراء ذلك. وهو أن أكثر الطهر الذي يصلح لنصب العادة عند الاستمرار كم هو قال أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي: وأبو حازم القاضي "إن الطهر وإن طال يصلح لنصب العادة"، حتى إن المرأة إذا حاضت خمسة، وطهرت ستة ثم استمر بها الدم يبنى الاستمرار عليه فتقعد خمسة، وتصلي ستة، وكذا لو رأت أكثر من ستة. وقال محمد بن إبراهيم الميداني وجماعة من أهل بخارى: إن أكثر الطهر

 

ج / 1 ص -41-         الذي يصلح لنصب العادة أقل من ستة أشهر، وإذا كان ستة أشهر فصاعدا لا يصلح لنصب العادة، وإذا لم يصلح له ترد أيامها إلى الشهر فتقعد ما كانت رأت فيه من خمسة أو ستة، أو نحو ذلك، وتصلي بقية الشهر هكذا دأبها وقال محمد بن مقاتل الرازي، وأبو علي الدقاق أكثر الطهر الذي يصلح لنصب العادة سبعة، وخمسون يوما، وإذا زاد عليه ترد أيامها إلى الشهر وقال بعضهم: "أكثره شهر"، وإذا زاد عليه ترد إلى الشهر وقال بعضهم: "سبعة، وعشرون يوما"، ودلائل هذه الأقاويل تذكر في كتاب الحيض.
وأما" وقته فوقته حين تبلغ المرأة تسع سنين فصاعدا عليه أكثر المشايخ، فلا يكون المرئي فيما دونه حيضا وإذا بلغت تسعا كان حيضا إلى أن تبلغ حد الإياس على اختلاف المشايخ في حده، ولو بلغت ذلك وقد انقطع عنها الدم، ثم رأت بعد ذلك لا يكون حيضا، وعند بعضهم يكون حيضا، وموضع معرفة ذلك كله كتاب الحيض.
وأما" النفاس فهو في عرف الشرع اسم للدم الخارج من الرحم عقيب الولادة، وسمي نفاسا إما لتنفس الرحم بالولد أو بخروج النفس، وهو الولد أو الدم، والكلام في لونه، وخروجه كالكلام في دم الحيض وقد ذكرناه.
وأما" الكلام في مقداره فأقله غير مقدر بلا خلاف حتى أنها إذا ولدت، ونفست وقت صلاة لا تجب عليها تلك الصلاة، لأن النفاس دم الرحم وقد قام الدليل على كون القليل منه خارجا من الرحم، وهو شهادة الولادة، ومثل هذه الدلالة لم يوجد في باب الحيض فلم يعرف القليل منه أنه من الرحم فلم يكن حيضا على أن قضية القياس أن لا يتقدر أقل الحيض أيضا كما قال مالك إلا أنا عرفنا التقدير، ثم بالتوقيف، ولا توقيف ههنا، فلا يتقدر فإذا طهرت قبل الأربعين اغتسلت، وصلت بناء على الظاهر لأن معاودة الدم موهوم، فلا يترك المعلوم بالموهوم. وما ذكر من الاختلاف بين أصحابنا في أقل النفاس فذاك في موضع آخر، وهو أن المرأة إذا طلقت بعد ما ولدت، ثم جاءت وقالت: نفست ثم طهرت، ثلاثة أطهار وثلاث حيض فبكم تصدق في النفاس فعند أبي حنيفة لا تصدق إذا ادعت في أقل من خمسة عشر يوما، وعند أبي يوسف لا تصدق في أقل من أحد عشر يوما وعند محمد تصدق فيما ادعت، وإن كان قليلا على ما يذكر في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى:.
وأما" أكثر النفاس فأربعون يوما عند أصحابنا، وعند مالك، والشافعي ستون يوما، ولا دليل لهما سوى ما حكي عن الشعبي أنه كان يقول: "ستون يوما"، ولا حجة في قول الشعبي. "ولنا" ما روي عن عائشة، وأم سلمة، وابن عباس، وأبي هريرة رضي الله تعالى: عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أكثر النفاس أربعون يوما".
وأما الاستحاضة فهي ما انتقص عن أقل الحيض، وما زاد على أكثر الحيض، والنفاس، ثم المستحاضة نوعان مبتدأة، وصاحبة عادة والمبتدأة نوعان مبتدأة بالحيض، ومبتدأة بالحبل، وصاحبة العادة نوعان صاحبة العادة في الحيض، وصاحبة العادة في النفاس.
أما" المبتدأة بالحيض، وهي التي ابتدئت بالدم، واستمر بها فالعشرة من أول الشهر حيض; لأن هذا دم في أيام الحيض، وأمكن جعله حيضا فيجعل حيضا، وما زاد على العشرة يكون استحاضة، لأنه لا مزيد للحيض على العشرة، وهكذا في كل شهر.
وأما" صاحبة العادة في الحيض إذا كانت عادتها عشرة فزاد الدم عليها فالزيادة استحاضة، وإن كانت عادتها خمسة فالزيادة عليها حيض معها إلى تمام العشرة لما ذكرنا في المبتدأة بالحيض، وإن جاوز العشرة فعادتها حيض، وما زاد عليها استحاضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" أي: أيام حيضها، ولأن ما رأت في أيامها حيض بيقين، وما زاد على العشرة استحاضة بيقين، وما بين ذلك متردد بين أن يلحق بما قبله فيكون حيضا، فلا تصلي، وبين أن يلحق بما بعده فيكون استحاضة فتصلي، فلا تترك الصلاة بالشك، وإن لم يكن لها عادة معروفة بأن كانت ترى شهرا ستا، وشهرا سبعا فاستمر بها الدم فإنها تأخذ في حق الصلاة، والصوم، والرجعة بالأقل، وفي حق انقضاء العدة، والغشيان بالأكثر فعليها إذا رأت ستة أيام في الاستمرار أن تغتسل في اليوم السابع لتمام السادس، وتصلي فيه، وتصوم إن كان دخل عليها شهر رمضان لأنه يحتمل أن يكون السابع حيضا. ويحتمل أن لا يكون فدار الصلاة، والصوم بين الجواز منها، والوجوب عليها في الوقت فيجب، وتصوم رمضان احتياطا لأنها إن فعلت، وليس عليها أولى أن تترك، وعليها ذلك، وكذلك تنقطع الرجعة، لأن ترك الرجعة مع

 

ج / 1 ص -42-         ثبوت حق الرجعة أولى من إثباتها من غير حق الرجعة. وأما في انقضاء العدة، والغشيان فتأخذ بالأكثر لأنها إن تركت التزوج مع جواز التزوج أولى من أن تتزوج بدون حق التزوج، وكذا ترك الغشيان مع الحل أولى من الغشيان مع الحرمة فإذا جاء اليوم الثامن فعليها أن تغتسل ثانيا، وتقضي اليوم الذي صامت في اليوم السابع، لأن الأداء كان واجبا، ووقع الشك في السقوط إن لم تكن حائضا فيه صح صومها، ولا قضاء عليها، وإن كانت حائضا فعليها القضاء، فلا يسقط القضاء بالشك، وليس عليها قضاء الصلوات لأنها إن كانت طاهرة في هذا اليوم فقد صلت، وإن كانت حائضا فيه فلا صلاة عليها للحال، ولا القضاء في الثاني. ولو كانت عادتها خمسة فحاضت ستة، ثم حاضت حيضة أخرى سبعة، ثم حاضت حيضة أخرى ستة فعادتها ستة بالإجماع حتى يبنى الاستمرار عليها أما عند أبي يوسف فلأن العادة تنتقل بالمرة الواحدة، وإنما يبنى الاستمرار على المرة الأخيرة، لأن العادة انتقلت إليها. وأما عند أبي حنيفة، ومحمد أيضا فلأن العادة، وإن كانت لا تنتقل إلا بالمرتين فقد رأت الستة مرتين فانتقلت عادتها إليها هذا معنى قول محمد كلما عاودها الدم في يوم مرتين فحيضها ذلك، وذكر في الأصل إذا حاضت المرأة في شهر مرتين فهي مستحاضة، والمراد بذلك أنه لا يجتمع في شهر واحد حيضتان، وطهران لأن أقل الحيض ثلاثة، وأقل الطهر خمسة عشر يوما وقد ذكر في الأصل سؤالا وقال أرأيت لو رأت في أول الشهر خمسة ثم طهرت خمسة عشر، ثم رأت الدم خمسة أليس قد حاضت في شهرين مرتين، ثم أجاب فقال: إذا ضممت إليه طهرا آخر كان أربعين يوما، والشهر لا يشتمل على ذلك، وحكي أن امرأة جاءت إلى علي رضي الله عنه وقالت: "إني حضت في شهر ثلاث مرات" فقال علي رضي الله عنه لشريح ماذا تقول في ذلك فقال: "إن أقامت على ذلك بينة من بطانتها ممن يرضى بدينه، وأمانته قبل منها فقال علي رضي الله عنه قالون، وهي بالرومية حسن"، وإنما أراد شريح بذلك تحقيق النفي أنها لا تجد ذلك، وإن هذا لا يكون كما قال الله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي: لا يدخلونها رأسا.
ودم الحامل ليس بحيض، وإن كان ممتدا عندنا وقال الشافعي: هو حيض في حق ترك الصوم، والصلاة، وحرمة القربان لا في حق أقراء العدة، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت حبيش: "أقبل قرؤك فدعي الصلاة" من غير فصل بين حال، وحال، ولأن الحامل من ذوات الأقراء لأن المرأة إما أن تكون صغيرة أو آيسة، أو من ذوات الأقراء، والحامل ليست بصغيرة، ولا آيسة فكانت من ذوات الأقراء إلا أن حيضها لا يعتبر في حق أقراء العدة، لأن المقصود من أقراء العدة فراغ الرحم، وحيضها لا يدل على ذلك. "ولنا" قول عائشة رضي الله عنها "الحامل لا تحيض"، ومثل هذا لا يعرف بالرأي فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الحيض اسم للدم الخارج من الرحم، ودم الحامل لا يخرج من الرحم لأن الله تعالى: أجرى العادة أن المرأة إذا حبلت ينسد فم الرحم، فلا يخرج منه شيء فلا يكون حيضا "وأما" الحديث فنقول بموجبه لكن لم قلتم أن دم الحامل قرء، والكلام فيه، والدليل على أنه ليس بقرء ما ذكرنا، وبه تبين أن الحديث لا يتناول حالة الحبل.
وأما" المبتدأة بالحبل، وهي التي حبلت من زوجها قبل أن تحيض إذا ولدت فرأت الدم زيادة على أربعين يوما فهو استحاضة; لأن الأربعين للنفاس كالعشرة للحيض ثم الزيادة على العشرة في الحيض استحاضة فكذا الزيادة على الأربعين في النفاس.
وأما" صاحبة العادة في النفاس إذا رأت زيادتها على عادتها فإن كانت عادتها أربعين فالزيادة استحاضة لما مر، وإن كانت دون الأربعين فما زاد يكون نفاسا إلى الأربعين فإن زاد على الأربعين ترد إلى عادتها فتكون عادتها نفاسا، وما زاد عليها يكون استحاضة، ثم يستوي الجواب فيما إذا كان ختم عادتها بالدم، أو بالطهر عند أبي يوسف وعند محمد إن كان ختم عادتها بالدم فكذلك. وأما إذا كان بالطهر، فلا، لأن أبا يوسف يرى ختم الحيض، والنفاس بالطهر إذا كان بعده دم، ومحمد لا يرى ذلك، وبيانه ما ذكر في الأصل إذا كانت عادتها في النفاس ثلاثين يوما فانقطع دمها على رأس عشرين يوما، وطهرت عشرة أيام تمام عادتها فصلت، وصامت ثم عاودها الدم، واستمر بها حتى جاوز الأربعين ذكر أنها مستحاضة فيما زاد على الثلاثين، ولا يجزيها صومها في العشرة التي صامت فيلزمها القضاء قال الحاكم الشهيد: هذا على مذهب أبي يوسف يستقيم فأما على مذهب محمد ففيه نظر، لأن أبا يوسف

 

ج / 1 ص -43-         يرى ختم النفاس بالطهر إذا كان بعده دم فيمكن جعل الثلاثين نفاسا لها عنده. وإن كان ختمها بالطهر، ومحمد لا يرى ختم النفاس، والحيض بالطهر فنفاسها في هذا الفصل عنده عشرون يوما فلا يلزمها قضاء ما صامت في العشرة الأيام بعد العشرين، والله أعلم، وما تراه النفساء من الدم بين الولادتين فهو دم صحيح في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف وعند محمد، وزفر فاسد بناء على أن المرأة إذا ولدت، وفي بطنها ولد آخر فالنفاس من الولد الأول عند أبي حنيفة، وأبي يوسف وعند محمد، وزفر من الولد الثاني، وانقضاء العدة بالولد الثاني بالإجماع وجه قول محمد، وزفر أن النفاس يتعلق بوضع ما في البطن كانقضاء العدة فيتعلق بالولد الأخير كانقضاء العدة، وهذا لأنها بعد حبلى، وكما لا يتصور انقضاء عدة الحمل بدون وضع الحمل لا يتصور وجود النفاس من الحبلى، لأن النفاس بمنزلة الحيض، ولأن النفاس مأخوذ من تنفس الرحم ولا يتحقق ذلك على الكمال إلا بوضع الولد الثاني فكان الموجود قبل وضع الولد الثاني نفاسا من وجه دون وجه، فلا تسقط الصلاة عنها بالشك كما إذا ولدت ولدا واحدا وخرج بعضه دون البعض، ولأبي حنيفة، وأبي يوسف أن النفاس إن كان دما يخرج عقيب النفس فقد وجد بولادة الأول، وإن كان دما يخرج بعد تنفس الرحم فقد وجد أيضا بخلاف انقضاء العدة، لأن ذلك يتعلق بفراغ الرحم ولم يوجد، والنفاس يتعلق بتنفس الرحم، أو بخروج النفس وقد وجد أو يقول: بقاء الولد في البطن لا ينافي النفاس لانفتاح فم الرحم فأما الحيض من الحبلى فممتنع لانسداد فم الرحم، والحيض اسم لدم يخرج من الرحم فكان الخارج دم عرق لا دم رحم. "وأما" قولهما وجد تنفس الرحم من وجه دون وجه فممنوع بل وجد على سبيل الكمال لوجود خروج الولد بكماله بخلاف ما إذا خرج بعض الولد، لأن الخارج منه إن كان أقله لم تصر نفساء حتى قالوا: يجب عليها أن تصلي، وتحفر لها حفيرة، لأن النفاس يتعلق بالولادة ولم يوجد لأن الأقل يلحق بالعدم بمقابلة الأكثر فأما إذا كان الخارج أكثره فالمسألة ممنوعة، أو هي على هذا الاختلاف فأما فيما نحن فيه فقد وجدت الولادة على طريق الكمال فالدم الذي يعقبه يكون نفاسا ضرورة والسقط إذا استبان بعض خلقه فهو مثل الولد التام يتعلق به أحكام الولادة من انقضاء العدة، وصيرورة المرأة نفساء لحصول العلم بكونه ولدا مخلوقا عن الذكر، والأنثى بخلاف ما إذا لم يكن استبان من خلقه شيء لأنا لا ندري ذاك هو المخلوق من مائهما، أو دم جامد، أو شيء من الأخلاط الردية استحال إلى صورة لحم، فلا يتعلق به شيء من أحكام الولادة.
وأما" أحوال الدم فنقول: الدم قد يدر درورا متصلا وقد يدر مرة، وينقطع أخرى، ويسمى الأول استمرارا متصلا، والثاني منفصلا "أما" الاستمرار المتصل فحكمه ظاهر، وهو أن ينظر إن كانت المرأة مبتدأة فالعشرة من أول ما رأت حيض، والعشرون بعد ذلك طهرها هكذا إلى أن يفرج الله عنها، وإن كانت صاحبة عادة فعادتها في الحيض حيضها، وعادتها في الطهر طهرها، وتكون مستحاضة في أيام طهرها.
وأما" الاستمرار المنفصل فهو أن ترى المرأة مرة دما ومرة طهرا هكذا فنقول: لا خلاف في أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون فاصلا بين الدمين، ثم بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن جعل كل واحد منهما حيضا يجعل حيضا، وإن كان لا يمكن أن يجعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضا، وكذا لا خلاف بين أصحابنا في أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلا بين الدمين، وإن كان أكثر من الدمين، واختلفوا فيما بين ذلك، وعن أبي حنيفة فيه أربع روايات روى أبو يوسف عنه أنه قال الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوما يكون طهرا فاسدا ولا يكون فاصلا بين الدمين بل يكون كله كدم متوال، ثم يقدر ما ينبغي أن يجعل حيضا يجعل حيضا، والباقي يكون استحاضة وروى محمد عن أبي حنيفة أن الدم إذا كان في طرفي العشرة فالطهر المتخلل بينهما لا يكون فاصلا، ويجعل كله كدم متوال، وإن لم يكن الدم في طرفي العشرة كان الطهر فاصلا بين الدمين ثم بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما حيضا، وهو أولهما، وإن لم يمكن جعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضا وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة أن الدم إذا كان في طرفي العشرة، وكان بحال لو جمعت الدماء المتفرقة تبلغ

 

ج / 1 ص -44-         حيضا لا يصير الطهر فاصلا بين الدمين. ويكون كله حيضا، وإن كان بحال لو جمع لا يبلغ حيضا يصير فاصلا بين الدمين ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما حيضا، وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضا ولا يجعل شيء من ذلك حيضا. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلا بين الدمين، وكله بمنزلة المتوالي، وإذا كان ثلاثة أيام كان فاصلا بينهما، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا جعل، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما، وإن لم يمكن أن يجعل شيء من ذلك حيضا لا يجعل حيضا، واختار محمد لنفسه في كتاب الحيض مذهبا فقال: الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يعتبر فاصلا، وإن كان أكثر من الدمين، ويكون بمنزلة الدم المتوالي، وإذا كان ثلاثة أيام فصاعدا فهو طهر كثير فيعتبر لكن ينظر بعد ذلك إن كان الطهر مثل الدمين، أو أقل من الدمين في العشرة لا يكون فاصلا، وإن كان أكثر من الدمين يكون فاصلا، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما حيضا جعل، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما حيضا، وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضا، وتقرير هذه الأقوال، وتفسيرها يذكر في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى:.
وأما" الاستمرار المنفصل فهو أن ترى المرأة مرة دما ومرة طهرا هكذا فنقول: لا خلاف في أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون فاصلا بين الدمين، ثم بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن جعل كل واحد منهما حيضا يجعل حيضا، وإن كان لا يمكن أن يجعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضا، وكذا لا خلاف بين أصحابنا في أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلا بين الدمين، وإن كان أكثر من الدمين، واختلفوا فيما بين ذلك، وعن أبي حنيفة فيه أربع روايات روى أبو يوسف عنه أنه قال الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوما يكون طهرا فاسدا ولا يكون فاصلا بين الدمين بل يكون كله كدم متوال، ثم يقدر ما ينبغي أن يجعل حيضا يجعل حيضا، والباقي يكون استحاضة وروى محمد عن أبي حنيفة أن الدم إذا كان في طرفي العشرة فالطهر المتخلل بينهما لا يكون فاصلا، ويجعل كله كدم متوال، وإن لم يكن الدم في طرفي العشرة كان الطهر فاصلا بين الدمين ثم بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما حيضا، وهو أولهما، وإن لم يمكن جعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضا وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة أن الدم إذا كان في طرفي العشرة، وكان بحال لو جمعت الدماء المتفرقة تبلغ  حيضا لا يصير الطهر فاصلا بين الدمين. ويكون كله حيضا، وإن كان بحال لو جمع لا يبلغ حيضا يصير فاصلا بين الدمين ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما حيضا، وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضا ولا يجعل شيء من ذلك حيضا. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلا بين الدمين، وكله بمنزلة المتوالي، وإذا كان ثلاثة أيام كان فاصلا بينهما، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضا جعل، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما، وإن لم يمكن أن يجعل شيء من ذلك حيضا لا يجعل حيضا، واختار محمد لنفسه في كتاب الحيض مذهبا فقال: الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يعتبر فاصلا، وإن كان أكثر من الدمين، ويكون بمنزلة الدم المتوالي، وإذا كان ثلاثة أيام فصاعدا فهو طهر كثير فيعتبر لكن ينظر بعد ذلك إن كان الطهر مثل الدمين، أو أقل من الدمين في العشرة لا يكون فاصلا، وإن كان أكثر من الدمين يكون فاصلا، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما حيضا جعل، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما حيضا، وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضا، وتقرير هذه الأقوال، وتفسيرها يذكر في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى:.
وأما" حكم الاستحاضة فالمستحاضة حكمها حكم الطاهرات غير أنها تتوضأ لوقت كل صلاة على ما بينا.

فصل: وأما التيمم فالكلام في التيمم يقع في مواضع في بيان جوازه، وفي بيان معناه لغة، وشرعا، وفي بيان ركنه، وفي بيان كيفيته، وفي بيان شرائط الركن، وفي بيان ما يتيمم به، وفي بيان وقت التيمم، وفي بيان صفة التيمم، وفي بيان ما يتيمم منه، وفي بيان ما ينقضه. "أما" الأول، فلا خلاف في أن التيمم من الحدث جائز عرف جوازه بالكتاب، والسنة، والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وقيل: إن الآية نزلت في غزوة ذات الرقاع نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعريس فسقط من عائشة رضي الله عنها قلادة لأسماء رضي الله عنها فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رجلين في طلبها فأقام ينتظرهما فعدم الناس الماء، وحضرت صلاة الفجر فأغلظ أبو بكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها وقال لها: "حبست المسلمين" فنزلت الآية فقال أسيد بن حضير "يرحمك الله يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه فرجا". وأما السنة فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "التيمم وضوء المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يحدث" وقال: صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدا، وطهورا أينما أدركتني الصلاة تيممت، وصليت". وروي عنه أنه قال "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء"، وعليه إجماع الأمة، واختلف الصحابة في جوازه من الجنابة فقال علي، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما جائز وقال عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود لا يجوز وقال الضحاك رجع ابن مسعود عن هذا. وحاصل

 

ج / 1 ص -45-         اختلافهم راجع إلى تأويل قوله تعالى: في آية التيمم {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، أو لمستم فعلي، وابن عباس أولا ذلك بالجماع وقالا: كنى الله تعالى: عن الوطء بالمسيس، والغشيان، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، وعمر، وابن مسعود أولاه بالمس باليد فلم يكن الجنب داخلا في هذه الآية فبقي الغسل واجبا عليه بقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}، وأصحابنا أخذوا بقول علي، وابن عباس لموافقة الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للجنب من الجماع أن يتيمم إذا لم يجد الماء"، وعن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله: "إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهرا، أو شهرين، وفينا الجنب، والنفساء، والحائض فكيف نصنع فقال: صلى الله عليه وسلم "عليكم بالأرض، وفي رواية عليكم بالصعيد"، وكذا حديث عمار رضي الله عنه وغيره على ما نذكره ويجوز التيمم من الحيض والنفاس لما روينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولأنهما بمنزلة الجنابة فكان ورود النص في الجنابة ورودا فيهما دلالة، وللمسافر أن يجامع امرأته، وإن كان لا يجد الماء وقال مالك يكره وجه قوله أن جواز التيمم للجنب اختلف فيه كبار الصحابة رضي الله عنهم فكان الجماع اكتسابا لسبب وقوع الشك في جواز الصلاة فيكره. "ولنا" ما روي عن أبي مالك الغفاري رضي الله عنه أنه قال: "قلت: للنبي صلى الله عليه وسلم أأجامع امرأتي، وأنا لا أجد الماء"؟ فقال: "جامع امرأتك، وإن كنت لا تجد الماء إلى عشر حجج فإن التراب كافيك".
وأما" بيان معناه فالتيمم في اللغة القصد يقال: تيمم، ويمم إذا قصد، ومنه قول الشاعر:

وما أدري إذا يممت أرضا                         أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه                             أم الشر الذي هو يبتغيني



قوله: يممت أي: قصدت، وفي عرف الشرع عبارة عن استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير بشرائط مخصوصة نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى:.

فصل": وأما ركنه فقد اختلف فيه قال أصحابنا: هو ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وهو أحد قولي الشافعي وفي قوله الآخر وهو قول مالك ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الرسغين وقال الزهري: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الآباط وقال ابن أبي ليلى: ضربتان يمسح بكل واحدة منهما الوجه، والذراعين جميعا وقال ابن سيرين: ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للذراعين وضربة أخرى لهما جميعا وقال بعض الناس: هو ضربة واحدة يستعملها في وجهه، ويديه، وحجتهم ظاهر قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أمر بالتيمم، وفسره بمسح الوجه، واليدين بالصعيد مطلقا عن شرط الضربة، والضربتين فيجري على إطلاقه، وبه يحتج الزهري فيقول: "إن الله تعالى: أمر بمسح اليد، واليد اسم لهذه الجارحة من رءوس الأصابع إلى الآباط ولولا ذكر المرافق غاية للأمر بالغسل في باب الوضوء لوجب غسل هذا المحدود، والغاية ذكرت في الوضوء دون التيمم. واحتج مالك، والشافعي بما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أجنب فتمعك في التراب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أنه يكفيك الوجه، والكفان". "ولنا" الكتاب، والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} والآية حجة على مالك، والشافعي، لأن الله تعالى: أمر بمسح اليد، فلا يجوز التقييد بالرسغ إلا بدليل وقد قام دليل التقييد بالمرفق، وهو أن المرفق جعل غاية للأمر بالغسل، وهو الوضوء، والتيمم بدل عن الوضوء، والبدل لا يخالف المبدل فذكر الغاية هناك يكون ذكرا ههنا دلالة، وهو الجواب عن قول من يقول: إن التيمم ضربة واحدة لأن النص لم يتعرض للتكرار لأن النص إن كان لم يتعرض للتكرار أصلا نصا فهو متعرض له دلالة; لأن التيمم خلف عن الوضوء ولا يجوز استعمال ماء واحد في عضوين في الوضوء فلا يجوز استعمال تراب واحد في عضوين في التيمم، لأن الخلف لا يخالف الأصل، وكذا هي حجة على ابن أبي ليلى، وابن سيرين، لأن الله تعالى: أمر بمسح الوجه، واليدين فيقتضي وجود فعل المسح على كل واحد منهما مرة واحدة، لأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وفيما قالاه تكرار فلا تجوز الزيادة على الكتاب إلا بدليل صالح للزيادة "وأما" السنة فما

 

ج / 1 ص -46-         روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين"، والحديث حجة على الكل، وأما حديث عمار ففيه تعارض، لأنه روي في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكفيك ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين"، والمتعارض لا يصلح حجة.

فصل": وأما كيفية التيمم فذكر أبو يوسف في الأمالي قال: سألت أبا حنيفة عن التيمم فقال: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقلت له: كيف هو ؟ فضرب بيديه على الأرض فأقبل بهما، وأدبر، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم أعاد كفيه على الصعيد ثانيا فأقبل بهما، وأدبر، ثم نفضهما، ثم مسح بذلك ظاهر الذراعين، وباطنهما إلى المرفقين. وقال بعض مشايخنا: ينبغي أن يمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من رءوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى دون الأصابع باطن يده اليمنى من المرفق إلى الرسغ، ثم يمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك وقال بعضهم: يمسح بالضربة الثانية بباطن كفه اليسرى مع الأصابع ظاهر يده اليمنى إلى المرفق، ثم يمسح به أيضا باطن يده اليمنى إلى أصل الإبهام، ثم يفعل بيده اليسرى كذلك ولا يتكلف، والأول أقرب إلى الاحتياط لما فيه من الاحتراز عن استعمال التراب المستعمل بالقدر الممكن; لأن التراب الذي على اليد يصير مستعملا بالمسح، حتى لا يتأدى فرض الوجه، واليدين بمسحة واحدة بضربة واحدة، ثم ذكر في ظاهر الرواية أنه ينفضهما نفضة. وروي عن أبي يوسف أنه ينفضهما نفضتين، وقيل: إن هذا لا يوجب اختلافا; لأن المقصود من النفض تناثر التراب صيانة عن التلوث الذي يشبه المثلة، إذ التعبد ورد بمسح كف مسه التراب على العضوين لا تلويثهما به، فلذلك ينفضهما، وهذا الغرض قد يحصل بالنفض مرة وقد لا يحصل إلا بالنفض مرتين على قدر ما يلتصق باليدين من التراب; فإن حصل المقصود بنفضة واحدة اكتفى بها، وإن لم يحصل نفض نفضتين.
وأما" استيعاب العضوين بالتيمم فهل هو من تمام الركن؟ لم يذكره في الأصل نصا، لكنه ذكر ما يدل عليه، فإنه قال: إذا ترك ظاهر كفيه لم يجزه، ونص الكرخي أنه إذا ترك شيئا من مواضع التيمم قليلا، أو كثيرا لا يجوز، وذكر الحسن في المجرد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز. وجه رواية الحسن أن هذا مسح، فلا يجب فيه الاستيعاب كمسح الرأس ما ذكر في الأصل أن الأمر بالمسح في باب التيمم تعلق باسم الوجه، واليد، وأنه يعم الكل، ولأن التيمم بدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل من تمام الركن، فكذا في البدل، وعلى ظاهر الرواية يلزم تخليل الأصابع ونزع الخاتم، ولو ترك لم يجز، وعلى رواية الحسن لا يلزم، ويجوز، ويمسح المرفقين مع الذراعين عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر حتى أنه لو كان مقطوع اليدين من المرفق يمسح موضع القطع عندنا خلافا له، والكلام فيه كالكلام في الوضوء وقد مر، والله أعلم.

فصل": وأما شرائط الركن فأنواع منها: أن لا يكون واجدا للماء قدر ما يكفي الوضوء أو الغسل في الصلاة التي تفوت إلى خلف، وما هو من أجزاء الصلاة لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} شرط عدم وجدان الماء لجواز التيمم وقول النبي صلى الله عليه وسلم "التيمم وضوء المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء، أو يحدث" جعله وضوء المسلم إلى غاية وجود الماء، أو الحدث; والممدود إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية ولا وجود للشيء مع وجود ما ينتهي وجوده عند وجوده وقال صلى الله عليه وسلم "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء أو يحدث"، ولأنه بدل، ووجود الأصل يمنع المصير إلى البدل، ثم عدم الماء نوعان: عدم من حيث الصورة، والمعنى، وعدم من حيث المعنى لا من حيث الصورة.
أما" العدم من حيث الصورة والمعنى فهو أن يكون الماء بعيدا، عنه ولم يذكر حد البعد في ظاهر الرواية. وروي عن محمد أنه قدره بالميل، وهو أن يكون ميلا فصاعدا، فإن كان أقل من ميل لم يجز التيمم، والميل ثلث فرسخ وقال الحسن بن زياد: من تلقاء نفسه إن كان الماء أمامه يعتبر ميلين، وإن كان يمنة، أو يسرة يعتبر ميلا واحدا وبعضهم فصل بين المقيم، والمسافر، فقالوا: إن كان مقيما يعتبر قدر ميل كيفما كان، وإن كان مسافرا، والماء على يمينه أو يساره فكذلك، وإن كان أمامه يعتبر ميلين. وروي عن

فصل": وأما كيفية التيمم فذكر أبو يوسف في الأمالي قال: سألت أبا حنيفة عن التيمم فقال: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقلت له: كيف هو ؟ فضرب بيديه على الأرض فأقبل بهما، وأدبر، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم أعاد كفيه على الصعيد ثانيا فأقبل بهما، وأدبر، ثم نفضهما، ثم مسح بذلك ظاهر الذراعين، وباطنهما إلى المرفقين. وقال بعض مشايخنا: ينبغي أن يمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من رءوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى دون الأصابع باطن يده اليمنى من المرفق إلى الرسغ، ثم يمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك وقال بعضهم: يمسح بالضربة الثانية بباطن كفه اليسرى مع الأصابع ظاهر يده اليمنى إلى المرفق، ثم يمسح به أيضا باطن يده اليمنى إلى أصل الإبهام، ثم يفعل بيده اليسرى كذلك ولا يتكلف، والأول أقرب إلى الاحتياط لما فيه من الاحتراز عن استعمال التراب المستعمل بالقدر الممكن; لأن التراب الذي على اليد يصير مستعملا بالمسح، حتى لا يتأدى فرض الوجه، واليدين بمسحة واحدة بضربة واحدة، ثم ذكر في ظاهر الرواية أنه ينفضهما نفضة. وروي عن أبي يوسف أنه ينفضهما نفضتين، وقيل: إن هذا لا يوجب اختلافا; لأن المقصود من النفض تناثر التراب صيانة عن التلوث الذي يشبه المثلة، إذ التعبد ورد بمسح كف مسه التراب على العضوين لا تلويثهما به، فلذلك ينفضهما، وهذا الغرض قد يحصل بالنفض مرة وقد لا يحصل إلا بالنفض مرتين على قدر ما يلتصق باليدين من التراب; فإن حصل المقصود بنفضة واحدة اكتفى بها، وإن لم يحصل نفض نفضتين.
وأما" استيعاب العضوين بالتيمم فهل هو من تمام الركن؟ لم يذكره في الأصل نصا، لكنه ذكر ما يدل عليه، فإنه قال: إذا ترك ظاهر كفيه لم يجزه، ونص الكرخي أنه إذا ترك شيئا من مواضع التيمم قليلا، أو كثيرا لا يجوز، وذكر الحسن في المجرد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز. وجه رواية الحسن أن هذا مسح، فلا يجب فيه الاستيعاب كمسح الرأس ما ذكر في الأصل أن الأمر بالمسح في باب التيمم تعلق باسم الوجه، واليد، وأنه يعم الكل، ولأن التيمم بدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل من تمام الركن، فكذا في البدل، وعلى ظاهر الرواية يلزم تخليل الأصابع ونزع الخاتم، ولو ترك لم يجز، وعلى رواية الحسن لا يلزم، ويجوز، ويمسح المرفقين مع الذراعين عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر حتى أنه لو كان مقطوع اليدين من المرفق يمسح موضع القطع عندنا خلافا له، والكلام فيه كالكلام في الوضوء وقد مر، والله أعلم.

 

ج / 1 ص -47-         أبي يوسف أنه إن كان الماء بحيث لو ذهب إليه لا تنقطع عنه جلبة العير، ويحس أصواتهم، أو أصوات الدواب فهو قريب، وإن كان يغيب عنه ذلك فهو بعيد وقال بعضهم: إن كان بحيث يسمع أصوات أهل الماء فهو قريب، وإن كان لا يسمع فهو بعيد، وكذا ذكر الكرخي وقال بعضهم: قدر فرسخ. وقال بعضهم: مقدار ما لا يسمع الأذان وقال بعضهم: إذا خرج من المصر مقدار ما لا يسمع لو نودي من أقصى المصر فهو بعيد، وأقرب الأقاويل اعتبار الميل; لأن الجواز لدفع الحرج. وإليه وقعت الإشارة في آية التيمم، وهو قوله تعالى: على أثر الآية ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم ولا حرج فيما دون الميل فأما الميل فصاعدا، فلا يخلو عن حرج، وسواء خرج من المصر للسفر، أو لأمر آخر. وقال بعض الناس: "لا يتيمم إلا أن يكون قصد سفرا" وأنه ليس بسديد، لأن ما له ثبت الجواز، وهو دفع الحرج لا يفصل بين المسافر، وغيره، هذا إذا كان علم ببعد الماء بيقين، أو بغلبة الرأي أو أكبر الظن، أو أخبره بذلك رجل عدل. وأما إذا علم أن الماء قريب منه إما قطعا أو ظاهرا، أو أخبره عدل بذلك لا يجوز له التيمم; لأن شرط جواز التيمم لم يوجد، وهو عدم الماء، ولكن يجب عليه الطلب. هكذا روي عن محمد أنه قال إذا كان الماء على ميل فصاعدا لم يلزمه طلبه، وإن كان أقل من ميل أتيت الماء، وإن طلعت الشمس. هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة ولا يبلغ بالطلب ميلا، وروي عن محمد أنه يبلغ به ميلا، فإن طلب أقل من ذلك لم يجز التيمم، وإن خاف فوت الوقت، وهو رواية عن أبي حنيفة، والأصح أنه يطلب قدر ما لا يضر بنفسه، ورفقته بالانتظار، وكذلك إذا كان بقرب من العمران يجب عليه الطلب، حتى لو تيمم وصلى ثم ظهر الماء لم تجز صلاته لأن العمران لا يخلو عن الماء ظاهرا، وغالبا، والظاهر ملحق بالمتيقن، وفي الأحكام ولو كان بحضرته رجل يسأله عن قرب الماء فلم يسأله، حتى تيمم وصلى، ثم سأله فإن لم يخبره بقرب الماء فصلاته ماضية، وإن أخبره بقرب الماء توضأ، وأعاد الصلاة; لأنه تبين أن الماء بقرب منه ولو سأله لأخبره فلم يوجد الشرط، وهو عدم الماء، وإن سأله في الابتداء فلم يخبره، حتى تيمم، وصلى ثم أخبره بقرب الماء لا يجب عليه إعادة الصلاة؛ لأن المتعنت لا قول له، فإن لم يكن بحضرته أحد يخبره بقرب الماء ولا غلب على ظنه أيضا قرب الماء لا يجب عليه الطلب عندنا وقال الشافعي: "يجب عليه أن يطلب عن يمين الطريق، ويساره قدر غلوة، حتى لو تيمم، وصلى قبل الطلب، ثم ظهر أن الماء قريب منه فصلاته ماضية عندنا، وعنده لم تجز"، واحتج بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهذا يقتضي سابقية الطلب، فكان الطلب شرطا، وصار كما لو كان في العمران. "ولنا" أن الشرط عدم الماء وقد تحقق من حيث الظاهر، إذ المفازة مكان عدم الماء غالبا بخلاف العمران. وقوله: " الوجود يقتضي سابقية الطلب من الواجد" ممنوع، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "من وجد لقطة فليعرفها" ولا طلب من الملتقط; ولأن الطلب لا يفيد إذا لم يكن على طمع من وجود الماء، والكلام فيه، وربما ينقطع عن أصحابه فيلحقه الضرر، فلا يجب عليه الطلب ولكن يستحب له ذلك إذا كان على طمع من وجود الماء، فإن أبا يوسف قال في الأمالي: سألت أبا حنيفة عن المسافر لا يجد الماء أيطلب عن يمين الطريق، ويساره؟ قال: إن طمع في ذلك فليفعل ولا يبعد فيضر بأصحابه إن انتظروه أو بنفسه إن انقطع عنهم، ثم ما ذكرنا من اعتبار البعد، والقرب مذهب أصحابنا الثلاثة فأما على مذهب زفر فلا عبرة للبعد، والقرب في هذا الباب بل العبرة للوقت بقاء، وخروجا، فإن كان يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزيه التيمم، وإن كان الماء بعيدا، وإن كان لا يصل إليه قبل خروج الوقت يجزئه التيمم، وإن كان الماء قريبا، والمسألة نذكرها بعد شاء الله تعالى:.
وأما" العدم من حيث المعنى لا من حيث الصورة فهو أن يعجز عن استعمال الماء لمانع مع قرب الماء منه، نحو ما إذا كان على رأس البئر ولم يجد آلة الاستقاء فيباح له التيمم; لأنه إذا عجز عن استعمال الماء لم يكن واجدا له من حيث المعنى، فيدخل تحت النص، وكذا إذا كان بينه وبين الماء عدو أو لصوص، أو سبع، أو حية يخاف على نفسه الهلاك إذا أتاه؛ لأن إلقاء النفس في التهلكة حرام فيتحقق العجز عن استعمال الماء، وكذا إذا كان معه ماء، وهو يخاف على نفسه العطش لأنه مستحق الصرف إلى العطش، والمستحق كالمصروف فكان عادما للماء معنى. وسئل  نصر

 

ج / 1 ص -48-         بن يحيى عن ماء موضوع في الفلاة في الجب، أو نحو ذلك أيكون للمسافر أن يتيمم أو يتوضأ به ؟ قال: يتيمم ولا يتوضأ به; لأنه لم يوضع للوضوء، وإنما وضع للشرب; إلا أن يكون كثيرا فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب، والوضوء جميعا فيتوضأ به ولا يتيمم، وكذا إذا كان به جراحة، أو جدري أو مرض يضره استعمال الماء فيخاف زيادة المرض باستعمال الماء يتيمم عندنا وقال الشافعي: "لا يجوز التيمم، حتى يخاف التلف" وجه قوله أن العجز عن استعمال الماء شرط جواز التيمم ولا يتحقق العجز إلا عند خوف الهلاك. "ولنا" قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أباح التيمم للمريض مطلقا من غير فصل بين مرض، ومرض، إلا أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء ليس بمراد فبقي المرض الذي يضر معه استعمال الماء مرادا بالنص. وروي أن واحدا من الصحابة رضي الله عنهم أجنب، وبه جدري فاستفتى أصحابه فأفتوه بالاغتسال، فاغتسل، فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، كان يكفيه التيمم"، وهذا نص; ولأن زيادة المرض سبب الموت، وخوف الموت مبيح فكذا خوف سبب الموت; لأنه خوف الموت بواسطة. والدليل عليه أنه أثر في إباحة الإفطار، وترك القيام بلا خلاف، فههنا أولى; لأن القيام ركن في باب الصلاة، والوضوء شرط، فخوف زيادة المرض لما أثر في إسقاط الركن فلأن يؤثر في إسقاط الشرط أولى ولو كان مريضا لا يضره استعمال الماء لكنه عاجز عن الاستعمال بنفسه وليس له خادم ولا مال يستأجر به أجيرا فيعينه على الوضوء أجزأه التيمم، سواء كان في المفازة; أو في المصر، وهو ظاهر المذهب; لأن العجز متحقق، والقدرة موهومة فوجد شرط الجواز. وروي عن محمد أنه إن كان في المصر لا يجزيه إلا أن يكون مقطوع اليد; لأن الظاهر أنه يجد أحدا من قريب، أو بعيد يعينه، وكذا العجز لعارض على شرف الزوال بخلاف مقطوع اليدين، ولو أجنب في ليلة باردة يخاف على نفسه الهلاك لو اغتسل ولم يقدر على تسخين الماء ولا على أجرة الحمام في المصر أجزأه التيمم في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف، ومحمد: إن كان في المصر لا يجزئه. وجه قولهما أن الظاهر في المصر وجود الماء المسخن، والدفء فكان العجز نادرا فكان ملحقا بالعدم، ولأبي حنيفة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه بعث سرية، وأمر عليهم عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان ذلك في غزوة ذات السلاسل فلما رجعوا شكوا منه أشياء من جملتها أنهم قالوا: صلى بنا، وهو جنب، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له فقال: "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجنبت في ليلة باردة فخفت على نفسي الهلاك لو اغتسلت فذكرت ما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فتيممت، وصليت بهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا ترون صاحبكم كيف نظر لنفسه ولكم" ولم يأمره بالإعادة ولم يستفسره إنه كان في مفازة، أو مصر، ولأنه علل فعله بعلة عامة، وهي خوف الهلاك ورسول الله صلى الله عليه وسلم استصوب ذلك منه، والحكم يتعمم بعموم العلة وقولهما: " إن العجز في المصر نادر" فالجواب عنه أنه في حق الفقراء الغرباء ليس بنادر، على أن الكلام فيما إذا تحقق العجز من كل وجه، حتى لو قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمم ولو كان مع رفيقه ماء فإن لم يعلم به لا يجب عليه الطلب عندنا، وعند الشافعي يجب على ما ذكرنا، وإن علم به، ولكن لا ثمن له فكذلك عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف: عليه السؤال. وجه قوله أن الماء مبذول في العادة لقلة خطره فلم يعجز عن الاستعمال، ولأبي حنيفة أن العجز متحقق، والقدرة موهومة; لأن الماء من أعز الأشياء في السفر، فالظاهر عدم البذل، فإن سأله فلم يعطه أصلا أجزأه التيمم; لأن العجز قد تقرر، وكذا إن كان يعطيه بالثمن ولا ثمن له لما قلنا، وإن كان له ثمن ولكن لا يبيعه إلا بغبن فاحش يتيمم ولا يلزمه الشراء عند عامة العلماء وقال الحسن البصري: يلزمه الشراء ولو بجميع ماله; لأن هذه تجارة رابحة. "ولنا" أنه عجز عن استعمال الماء إلا بإتلاف شيء من ماله لأن ما زاد على ثمن المثل لا يقابله عوض، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم "حرمة مال المسلم كحرمة دمه"، ولهذا أبيح له القتال دون ماله كما أبيح له دون نفسه، ثم خوف فوات بعض النفس مبيح للتيمم فكذا فوات بعض المال

 

ج / 1 ص -49-         بخلاف الغبن اليسير فإن تلك الزيادة غير معتبرة لما يذكر، ثم قدر الغبن الفاحش في هذا الباب مقدر بتضعيف الثمن، وذكر في النوادر فقال: "إن كان الماء يشترى في ذلك الموضع بدرهم، وهو لا يبيعه إلا بدرهم، ونصف يلزمه الشراء، وإن كان لا يبيع إلا بدرهمين لا يلزمه، وإن كان يبيعه بثمن المثل في ذلك الموضع يلزمه الشراء"; لأنه قدر على استعمال الماء بالقدرة على بدله من غير إتلاف، فلا يجوز له التيمم، كمن قدر على ثمن الرقبة لا يجوز له التكفير بالصوم، وإن كان لا يبيع إلا بغبن يسير فكذلك عند أصحابنا. وقال الشافعي: "لا يلزمه الشراء اعتبارا بالغبن الفاحش"، وهذا الاعتبار غير سديد; لأن ما لا يتغابن الناس فيه فهو زيادة متيقن بها، لأنها لا تدخل تحت اختلاف المقومين فكانت معتبرة، وما يتغابن الناس فيه يدخل تحت اختلافهم فعند بعضهم هو زيادة، وعند بعضهم ليس بزيادة، فلم تكن زيادة متحققة، فلا تعتبر. وذكر الكرخي في جامعه أن المصلي إذا رأى مع رفيقه ماء كثيرا ولا يدري أيعطيه أم لا؟ أنه يمضي على صلاته; لأن الشروع قد صح، فلا ينقطع بالشك فإذا فرغ من صلاته سأله، فإن أعطاه توضأ، واستقبل الصلاة، لأن البذل بعد الفراغ دليل البذل قبله، وإن أبى فصلاته ماضية; لأن العجز قد تقرر، فإن أعطاه بعد ذلك لم ينتقض ما مضى; لأن عدم الماء استحكم بالإباء، ويلزمه الوضوء لصلاة أخرى; لأن حكم الإباء ارتفض بالبذل وقال محمد في رجلين مع أحدهما إناء يغترف به من البئر ووعد صاحبه أن يعطيه الإناء قال: "ينتظر، وإن خرج الوقت"; لأن الظاهر هو الوفاء بالعهد فكان قادرا على استعمال الماء بالوعد، وكان قادرا على استعمال الماء ظاهرا، فيمنع المصير إلى التيمم، وكذا إذا وعد الكاسي العاري أن يعطيه الثوب إذا فرغ من صلاته لم تجزه الصلاة عريانا لما قلنا، وعلى هذا الأصل يخرج مسافر تيمم، وفي رحله ماء لم يعلم به، حتى صلى، ثم علم به أجزأه في قول أبي حنيفة، ومحمد ولا يلزمه الإعادة. وقال: أبو يوسف "لم يجزه، ويلزمه الإعادة"، وهو قول الشافعي، وأجمعوا على أنه لو صلى في ثوب نجس ناسيا، أو توضأ بماء نجس ناسيا، ثم تذكره لا يجزئه، وتلزمه الإعادة لأبي يوسف وجهان أحدهما أنه نسي ما لا ينسى عادة، لأن الماء من أعز الأشياء في السفر لكونه سببا لصيانة نفسه عن الهلاك فكان القلب متعلقا به فالتحق النسيان فيه بالعدم، والثاني أن الرحل موضع الماء عادة غالبا لحاجة المسافر إليه فكان الطلب واجبا فإذا تيمم قبل الطلب لا يجزئه كما في العمران ولهما أن العجز عن استعمال الماء قد تحقق بسبب الجهالة، والنسيان، فيجوز التيمم كما لو حصل العجز بسبب البعد أو المرض أو عدم الدلو، والرشا وقوله: "نسي ما لا ينسى عادة" ليس كذلك; لأن النسيان جبلة في البشر خصوصا إذا مر به أمر يشغله عما وراءه، والسفر محل المشقات، ومكان المخاوف، فنسيان الأشياء فيه غير نادر. وأما قوله: " الرحل معدن الماء، ومكانه" فليس كذلك، فإن الغالب في الماء الموضوع في الرحل هو النفاذ لقلته، فلا يكون بقاؤه غالبا فيتحقق العجز ظاهرا، بخلاف العمران; لأنه لا يخلو عن الماء غالبا ولو صلى عريانا، أو مع ثوب نجس، وفي رحله ثوب طاهر لم يعلم به، ثم علم قال بعض مشايخنا:"يلزمه الإعادة بالإجماع"، وذكر الكرخي أنه على الاختلاف، وهو الأصح ولو كان عليه كفارة اليمين وله رقبة قد نسيها، وصام قيل: إنه على الاختلاف، والصحيح أنه لا يجوز بالإجماع; لأن المعتبر ثمة ملك الرقبة، ألا ترى أنه لو عرض عليه رقبة كان له أن لا يقبل، ويكفر بالصوم، وبالنسيان لا ينعدم الملك، وههنا المعتبر هو القدرة على الاستعمال، وبالنسيان زالت القدرة، ألا ترى لو عرض عليه الماء لا يجزئه التيمم; ولأن النسيان في هذا الباب في غاية الندرة فكان ملحقا بالعدم، ولو وضع غيره في رحله ماء، وهو لا يعلم به فتيمم وصلى، ثم علم لا رواية لهذا أيضا وقال بعض مشايخنا: "إن لفظ الرواية في الجامع الصغير يدل على أنه يجوز بالإجماع"، فإنه قال في الرجل يكون في رحله ماء فينسى، والنسيان يستدعي تقدم العلم، ثم مع ذلك جعل عذرا عندهما فبقي موضع لا علم فيه أصلا ينبغي أن يجعل عذرا عند الكل. ولفظ الرواية في كتاب الصلاة يدل على أنه على الاختلاف، فإنه قال: مسافر تيمم ومعه ماء في رحله، وهو لا يعلم به، وهذا يتناول حالة النسيان، وغيرها. ولو ظن أن ماءه قد فني فتيمم، وصلى ثم تبين له أنه قد بقي لا يجزئه بالإجماع; لأن العلم لا يبطل بالظن فكان الطلب واجبا، بخلاف النسيان; لأنه من أضداد العلم ولو كان على رأسه أو ظهره ماء، أو كان معلقا في عنقه فنسيه فتيمم، ثم تذكر لا يجزئه بالإجماع; لأن

 

ج / 1 ص -50-         النسيان في مثل هذه الحالة نادر ولو كان الماء معلقا على الإكاف، فلا يخلو إما إن كان راكبا أو سائقا فإن كان راكبا فإن كان الماء في مؤخر الرحل فهو على الاختلاف، وإن كان في مقدم الرحل لا يجوز بالإجماع; لأن نسيانه نادر، وإن كان سائقا فالجواب على العكس، وهو أنه إن كان في مؤخر الرحل لا يجوز بالإجماع؛ لأنه يراه، ويبصره فكان النسيان نادرا، وإن كان في مقدم الرحل فهو على الاختلاف. المحبوس في المصر في مكان طاهر يتيمم، ويصلي، ثم يعيد إذا خرج وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصلي، وهو قول زفر وروي عن أبي يوسف أنه لا يعيد الصلاة وجه رواية أبي يوسف أنه عجز عن استعمال الماء حقيقة بسبب الحبس، فأشبه العجز بسبب المرض، ونحوه، فصار الماء عدما معنى في حقه، فصار مخاطبا بالصلاة بالتيمم، فالقدرة بعد ذلك لا تبطل الصلاة المؤداة كما في سائر المواضع، وكما في المحبوس في السفر، وجه رواية الحسن أنه ليس بعادم للماء حقيقة، وحكما أما، الحقيقة فظاهرة. وأما الحكم فلأن الحبس إن كان بحق فهو قادر على إزالته بإيصال الحق إلى المستحق، وإن كان بغير حق فالظلم لا يدوم، في دار الإسلام بل يرفع، فلا يتحقق العجز، فلا يكون التراب طهورا في حقه، وجه ظاهر الرواية أن العجز للحال قد تحقق إلا أنه يحتمل الارتفاع، فإنه قادر على رفعه إذا كان بحق، وإن كان بغير حق فكذلك; لأن الظلم يدفع وله ولاية الدفع بالرفع إلى من له الولاية فأمر بالصلاة احتياطا لتوجه الأمر بالصلاة بالتيمم; لأن احتمال الجواز ثابت; لاحتمال أن هذا القدر من العجز يكفي لتوجيه الأمر بالصلاة بالتيمم، وأمر بالقضاء في الثاني; لأن احتمال عدم الجواز ثابت; لاحتمال أن المعتبر حقيقة القدرة دون العجز الحالي، فيؤمر بالقضاء عملا بالشبهين، وأخذا بالثقة، والاحتياط، وصار كالمقيد أنه يصلي قاعدا، ثم يعيد إذا أطلق، كذا هذا، بخلاف المحبوس في السفر; لأن ثمة تحقق العجز من كل وجه; لأنه انضاف إلى المنع الحقيقي السفر، والغالب في السفر عدم الماء.
وأما" المحبوس في مكان نجس لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا فإنه لا يصلي عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف: يصلي بالإيماء ثم يعيد إذا خرج، وهو قول الشافعي وقول محمد مضطرب، وذكر في عامة الروايات مع أبي حنيفة وفي نوادر أبي سليمان مع أبي يوسف. وجه قول أبي يوسف أنه إن عجز عن حقيقة الأداء فلم يعجز عن التشبه فيؤمر بالتشبه كما في باب الصوم وقال بعض مشايخنا: "إنما يصلي بالإيماء على مذهبه إذا كان المكان رطبا، أما إذا كان يابسا فإنه يصلي بركوع، وسجود"، والصحيح عنده أنه يومئ كيفما كان; لأنه لو سجد لصار مستعملا للنجاسة، ولأبي حنيفة أن الطهارة شرط أهلية أداء الصلاة، فإن الله تعالى: جعل أهل مناجاته الطاهر لا المحدث، والتشبه إنما يصح من الأهل. ألا ترى أن الحائض لا يلزمها التشبه في باب الصوم، والصلاة لانعدام الأهلية، بخلاف المسألة المتقدمة; لأن هناك حصلت الطهارة من وجه فكان أهلا من وجه فيؤدي الصلاة ثم يقضيها احتياطا مسافر مر بمسجد فيه عين ماء، وهو جنب ولا يجد غيره جاز له التيمم لدخول المسجد; لأن الجنابة مانعة من دخول المسجد عندنا على كل حال سواء كان الدخول على قصد المكث أو الاجتياز على ما ذكرنا فيما تقدم فكان عاجزا عن استعمال هذا الماء فكان هذا الماء ملحقا بالعدم في حق جواز التيمم فلا يمنع جواز التيمم، ثم وجود الماء إنما يمنع من جواز التيمم إذا كان القدر الموجود يكفي للوضوء إن كان محدثا، وللاغتسال إن كان جنبا، فإن كان لا يكفي لذلك فوجوده لا يمنع جواز التيمم عندنا وقال الشافعي: "يمنع قليله، وكثيره"; حتى إن المحدث إذا وجد من الماء قدر ما يغسل بعض أعضاء وضوئه جاز له أن يتيمم عندنا مع قيام ذلك الماء، وعنده لا يجوز مع قيامه، وكذلك الجنب إذا وجد من الماء قدر ما يتوضأ به لا غير أجزأه التيمم عندنا، وعنده لا يجزئه إلا بعد تقديم الوضوء حتى يصير عادما للماء، واحتج بقوله تعالى: في آية التيمم
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ذكر الماء نكرة في محل النفي فيقتضي الجواز عند عدم كل جزء من أجزاء الماء; ولأن النجاسة الحكمية، وهي الحدث تعتبر بالنجاسة الحقيقية، ثم لو كان معه من الماء ما يزيل به بعض النجاسة الحقيقية يؤمر بالإزالة كذا هنا. "ولنا" إن المأمور به الغسل المبيح للصلاة، والغسل الذي لا يبيح الصلاة وجوده، والعدم بمنزلة واحدة كما لو كان الماء نجسا; ولأن الغسل إذا لم يفد الجواز كان الاشتغال به سفها مع أن فيه تضييع

 

ج / 1 ص -51-         الماء وأنه حرام فصار كمن وجد ما يطعم به خمسة مساكين فنكفر بالصوم أنه يجوز ولا يؤمر بإطعام الخمسة لعدم الفائدة فكذا هذا، بل أولى; لأن هناك لا يؤدي إلى تضييع المال لحصول الثواب بالتصدق ومع ذلك لم يؤمر به لما قلنا فههنا أولى، وبه تبين أن المراد من الماء المطلق في الآية هو المقيد، وهو الماء المفيد لإباحة الصلاة عند الغسل به، كما يقيد بالماء الطاهر; ولأن مطلق الماء ينصرف إلى المتعارف. والمتعارف من الماء في باب الوضوء والغسل هو الماء الذي يكفي للوضوء والغسل، فينصرف المطلق إليه، واعتباره بالنجاسة الحقيقية غير سديد; لأنهما مختلفان في الأحكام، فإن قليل الحدث ككثيره في المنع من الجواز بخلاف النجاسة الحقيقية، فيبطل الاعتبار، ولو تيمم الجنب ثم أحدث بعد ذلك ومعه من الماء قدر ما يتوضأ به فإنه يتوضأ به ولا يتيمم; لأن التيمم الأول أخرجه من الجنابة إلى أن يجد من الماء ما يكفيه للاغتسال، فهذا محدث وليس بجنب، ومعه من الماء قدر ما يكفيه للوضوء، فيتوضأ به، فإن توضأ ولبس خفيه، ثم مر على الماء فلم يغتسل، ثم حضرته الصلاة ومعه من الماء قدر ما يتوضأ به فإنه يتوضأ به، ولكنه يتيمم; لأنه بمروره على الماء عاد جنبا كما كان فعادت المسألة الأولى، ولا ينزع الخفين; لأن القدم ليست بمحل للتيمم، فإن تيمم، ثم أحدث. وقد حضرته صلاة أخرى وعنده من الماء قدر ما يتوضأ به توضأ به ولا يتيمم لما مر، ونزع خفيه وغسل رجليه; لأنه بمروره بالماء عاد جنبا فسرى الحدث السابق إلى القدمين، فلا يجوز له أن يمسح بعد ذلك، ولو كان ببعض أعضاء الجنب جراحة، أو جدري فإن كان الغالب هو الصحيح غسل الصحيح وربط على السقيم الجبائر، ومسح عليها، وإن كان الغالب هو السقيم تيمم; لأن العبرة للغالب، ولا يغسل الصحيح عندنا خلافا للشافعي لما مر; ولأن الجمع بين الغسل والتيمم ممتنع إلا في حال وقوع الشك في طهورية الماء، ولم يوجد، وعلى هذا لو كان محدثا وببعض أعضاء وضوئه جراحة، أو جدري; لما قلنا، وإن استوى الصحيح والسقيم لم يذكر في ظاهر الرواية، وذكر في النوادر أنه يغسل الصحيح، ويربط الجبائر على السقيم، ويمسح عليها، وليس في هذا جمع بين الغسل والمسح; لأن المسح على الجبائر كالغسل لما تحتها، وهذا الشرط الذي ذكرنا لجواز التيمم، وهو عدم الماء فيما وراء صلاة الجنازة وصلاة العيدين، فأما في هاتين الصلاتين فليس بشرط، بل الشرط فيهما خوف الفوت لو اشتغل بالوضوء، حتى لو حضرته الجنازة وخاف فوت الصلاة لو اشتغل بالوضوء تيمم وصلى، وهذا عند أصحابنا. وقال الشافعي: لا يتيمم استدلالا بصلاة الجمعة، وسائر الصلوات، وسجدة التلاوة، "ولنا" ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إذا فجأتك جنازة تخشى فوتها وأنت على غير وضوء; فتيمم لها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مثله; ولأن شرع التيمم في الأصل لخوف فوات الأداء، وقد وجد ههنا بل أولى; لأن هناك تفوت فضيلة الأداء فقط، فأما الاستدراك بالقضاء فممكن، وههنا تفوت صلاة الجنازة أصلا فكان أولى بالجواز، حتى ولو كان ولي الميت لا يباح له التيمم، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة; لأن له ولاية الإعادة، فلا يخاف الفوت، وحاصل الكلام فيه راجع إلى أن صلاة الجنازة لا تقضى عندنا، وعنده تقضى على ما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى: بخلاف الجمعة; لأن فرض الوقت قائم، وهو الظهر وبخلاف سائر الصلوات، لأنها تفوت إلى خلف، وهو القضاء، والفائت إلى خلف قائم معنى، وسجدة التلاوة لا يخاف فوتها رأسا; لأنه ليس لأدائها وقت معين; لأنها وجبت مطلقة عن الوقت، وكذا إذا خاف فوت صلاة العيدين يتيمم عندنا; لأنه لا يمكن استدراكها بالقضاء; لاختصاصها بشرائط يتعذر تحصيلها لكل فرد. هذا إذا خاف فوت الكل فإن كان يرجو أن يدرك البعض لا يتيمم; لأنه لا يخاف الفوت; لأنه إذا أدرك البعض يمكنه أداء الباقي وحده، ولو شرع في صلاة العيد متيمما، ثم سبقه الحدث جاز له أن يبني عليها بالتيمم بإجماع من أصحابنا; لأنه لو ذهب وتوضأ لبطلت صلاته من الأصل لبطلان التيمم فلا يمكنه البناء. وأما إذا شرع فيها متوضئا، ثم سبقه الحدث فإن كان يخاف أنه لو اشتغل بالوضوء زالت الشمس تيمم وبنى، وإن كان لا يخاف زوال الشمس فإن كان يرجو أنه لو توضأ يدرك شيئا من الصلاة مع الإمام توضأ ولا يتيمم; لأنها لا تفوت لأنه إذا أدرك البعض يتم الباقي وحده، وإن كان لا يرجو إدراك الإمام يباح له التيمم عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا

 

ج / 1 ص -52-         يباح، وجه قولهما أنه لو ذهب وتوضأ لا تفوته الصلاة; لأنه يمكنه إتمام البقية وحده; لأنه لاحق ولا عبرة بالتيمم عند عدم خوف الفوت أصلا، ولأبي حنيفة أنه إن كان لا يخاف الفوت من هذا الوجه يخاف الفوت بسبب الفساد; لازدحام الناس، فقلما يسلم عن عارض يفسد عليه صلاته، فكان في الانصراف للوضوء تعريض صلاته للفساد، وهذا لا يجوز; فيتيمم والله أعلم.
ومنها" النية والكلام في النية في موضعين: أحدهما في بيان أنها شرط جواز التيمم والثاني في بيان كيفيتها أما الأول فالنية شرط جواز التيمم في قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: "ليست بشرط" وجه قوله أن التيمم خلف والخلف، لا يخالف الأصل في الشروط، ثم الوضوء يصح بدون النية كذا التيمم. "ولنا" أن التيمم ليس بطهارة حقيقية وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية بخلاف الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية فلا يشترط له الحاجة ليصير طهارة فلا يشترط له النية، ولأن مأخذ الاسم دليل كونها شرطا لما ذكرنا أنه ينبئ عن القصد، والنية هي القصد فلا يتحقق بدونها، فأما الوضوء فإنه مأخوذ من الوضاءة وأنها تحصل بدون النية.
وأما كيفية النية في التيمم فقد ذكر القدوري أن الصحيح من المذهب أنه إذا نوى الطهارة، أو نوى استباحة الصلاة أجزأه. وذكر الجصاص أنه لا يجب في التيمم نية التطهير وإنما يجب نية التمييز، وهو أن ينوي الحدث، أو الجنابة; لأن التيمم لهما يقع على صفة واحدة فلا بد من التمييز بالنية كما في صلاة الفرض; أنه لا بد فيها من نية الفرض لأن الفرض والنفل يتأديان على هيئة واحدة والصحيح أن ذلك ليس بشرط، فإن ابن سماعة روى عن محمد أن الجنب إذا تيمم يريد به الوضوء أجزأه عن الجنابة، وهذا لما بينا أن افتقار التيمم إلى النية ليصير طهارة إذ هو ليس بتطهير حقيقة وإنما جعل تطهيرا شرعا للحاجة، والحاجة تعرف بالنية، ونية الطهارة تكفي دلالة على الحاجة وكذا نية الصلاة; لأنه لا جواز للصلاة بدون الطهارة فكانت دليلا على الحاجة فلا حاجة إلى نية التمييز أنه للحدث أو للجنابة. ولو تيمم ونوى مطلق الطهارة أو نوى استباحة الصلاة; فله أن يفعل كل ما لا يجوز بدون الطهارة، كصلاة الجنازة وسجدة التلاوة ومس المصحف ونحوها; لأنه لما أبيح له أداء الصلاة فلأن يباح له ما دونها أو ما هو جزء من أجزائها أولى. وكذا لو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أو لقراءة القرآن بأن كان جنبا جاز له أن يصلي به سائر الصلوات; لأن كل واحد من ذلك عبادة مقصودة بنفسها وهو من جنس أجزاء الصلاة فكان نيتها عند التيمم كنية الصلاة، فأما إذا تيمم لدخول المسجد أو لمس المصحف لا يجوز له أن يصلي به; لأن دخول المسجد ومس المصحف ليس بعبادة مقصودة بنفسه، ولا هو; من جنس أجزاء الصلاة; فيقع طهورا لما أوقعه له لا غير.
ومنها" الإسلام فإنه شرط وقوعه صحيحا عند عامة العلماء، حتى لا يصح تيمم الكافر، وإن أراد به الإسلام. وروي عن أبي يوسف إذا تيمم ينوي الإسلام جاز، حتى لو أسلم لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند العامة وعلى رواية أبي يوسف يجوز، وجه روايته أن الكافر من أهل نية الإسلام، والإسلام رأس العبادة فيصح تيممه له بخلاف ما إذا تيمم للصلاة؛ لأنه ليس من أهل الصلاة فكان تيممه للصلاة سفها فلا يعتبر. "ولنا" أن التيمم ليس بطهور حقيقة وإنما جعل طهورا للحاجة إلى فعل لا صحة له بدون الطهارة، والإسلام يصح بدون الطهارة فلا حاجة إلى أن يجعل طهورا في حقه بخلاف الوضوء; لأنه يصح من الكافر عندنا; لأنه طهور حقيقة فلا تشترط له الحاجة ليصير طهورا ولهذا لو تيمم مسلم بنية الصوم لم يصح. وإن كان الصوم عبادة فكذا ههنا بل أولى; لأن هناك باشتغاله بالتيمم لم يرتكب نهيا، وههنا ارتكب أعظم نهي; لأنه بقدر ما اشتغل صار باقيا على الكفر مؤخرا للإسلام، وتأخير الإسلام من أعظم العصيان، ثم لما لم يصح ذاك فلأن لا يصح هذا أولى مسلم تيمم، ثم ارتد عن الإسلام والعياذ بالله لم يبطل تيممه، حتى لو رجع إلى الإسلام له أن يصلي بذلك التيمم، وعند زفر بطل تيممه; حتى لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم بعد الإسلام فالإسلام عندنا شرط وقوع التيمم صحيحا لا شرط بقائه على الصحة. وعند زفر هو شرط بقائه على الصحة أيضا، فزفر يجمع بين حالة الابتداء والبقاء بعلة جامعة بينهما، وهي ما ذكرنا أنه جعل طهورا مع أنه ليس بطهور حقيقة لمكان الحاجة إلى ما لا صحة له بدون الطهارة من الصلاة

 

ج / 1 ص -53-         وغيرها، وذا لا يتصور من الكافر فلا يبقى طهارة في حقه، ولهذا لم تنعقد طهارة مع الكفر فلا تبقى طهارة معه. "ولنا" أن التيمم وقع طهارة صحيحة فلا يبطل بالردة; لأن أثر الردة في إبطال العبادات، والتيمم ليس بعبادة عندنا لكنه طهور، والردة لا تبطل صفة الطهورية كما لا تبطل صفة الوضوء، واحتمال الحاجة باق، لأنه مجبور على الإسلام، والثابت بيقين يبقى لوهم الفائدة في أصول الشرع إلا أنه لم ينعقد طهارة مع الكفر; لأن جعله طهارة للحاجة، والحاجة زائلة للحال بيقين، وغير الثابت بيقين لا يثبت لوهم الفائدة مع ما أن رجاء الإسلام منه على موجب ديانته واعتقاده منقطع، والجبر على الإسلام منعدم وهو الفرق بين الابتداء والبقاء.
ومنها" أن يكون التراب طاهرا فلا يجوز التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ولا طيب مع النجاسة ولو تيمم بأرض قد أصابتها نجاسة فجفت وذهب أثرها لم يجز في ظاهر الرواية وروى ابن الكاس النخعي عن أصحابنا أنه يجوز، وجه هذه الرواية أن النجاسة قد استحالت أرضا بذهاب أثرها; ولهذا جازت الصلاة عليها; فيجوز التيمم بها أيضا "ولنا" أن إحراق الشمس ونسف الأرض أثرها في تقليل النجاسة دون استئصالها. والنجاسة وإن قلت تنافي وصف الطهارة فلم يكن إتيانا بالمأمور به فلم يجز، فأما النجاسة القليلة فلا تمنع جواز الصلاة عند أصحابنا ولا يمتنع أن يعتبر القليل من النجاسة في بعض الأشياء دون البعض، ألا ترى أن النجاسة القليلة لو وقعت في الإناء تمنع جواز الوضوء به، ولو أصابت الثوب لا تمنع جواز الصلاة، ولو تيمم جنب أو محدث من مكان، ثم تيمم غيره من ذلك المكان أجزأه; لأن التراب المستعمل ما التزق بيد المتيمم الأول لا ما بقي على الأرض، فنزل ذلك منزلة ماء فضل في الإناء بعد وضوء الأول أو اغتساله به، وذلك طهور في حق الثاني كذا هذا.

فصل": وأما بيان ما يتيمم به فقد اختلف فيه، قال أبو حنيفة ومحمد: يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض وعن أبي يوسف روايتان: في رواية بالتراب والرمل، وفي رواية لا يجوز إلا بالتراب خاصة وهو قوله الآخر، ذكره القدوري وبه أخذ الشافعي، والكلام فيه يرجع إلى أن الصعيد المذكور في الآية ما هو؟ فقال أبو حنيفة ومحمد: "هو وجه الأرض" وقال أبو يوسف: "هو التراب المنبت" واحتج بقول ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الصعيد بالتراب الخالص، وهو مقلد في هذا الباب; ولأنه ذكر الصعيد الطيب، والصعيد الطيب هو الذي يصلح للنبات وذلك هو التراب دون السبخة ونحوها، "ولهما" أن الصعيد مشتق من الصعود وهو العلو، قال الأصمعي: فعيل بمعنى فاعل، وهو الصاعد. وكذا قال ابن الأعرابي: إنه اسم لما تصاعد، حتى قيل للقبر صعيد لعلوه وارتفاعه وهذا لا يوجب الاختصاص بالتراب بل يعم جميع أنواع الأرض، فكان التخصيص ببعض الأنواع تقييدا لمطلق الكتاب، وذلك لا يجوز بخبر الواحد فكيف بقول الصحابي، والدليل على أن الصعيد لا يختص ببعض الأنواع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "عليكم بالأرض" من غير فصل، وقال: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" واسم الأرض يتناول جميع أنواعها، ثم قال:"أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت". وربما تدركه الصلاة في الرمل، وما لا يصلح للإنبات فلا بد وأن يكون بسبيل من التيمم به والصلاة معه بظاهر الحديث، "وأما" قوله سماه طيبا فنعم لكن الطيب يستعمل بمعنى الطاهر وهو الأليق ههنا; لأنه شرع مطهرا، والتطهير لا يقع إلا بالطاهر مع أن معنى الطهارة صار مرادا بالإجماع، حتى لا يجوز التيمم بالصعيد النجس فخرج غيره من أن يكون مرادا، المشترك لا عموم له، ثم لا بد من معرفة جنس الأرض، فكل ما يحترق بالنار فيصير رمادا كالحطب والحشيش ونحوهما، أو ما ينطبع ويلين كالحديد والصفر والنحاس والزجاج، وعين الذهب والفضة ونحوها فليس من جنس الأرض، وما كان بخلاف ذلك فهو من جنسها، ثم اختلف أبو حنيفة ومحمد فيما بينهما، فقال أبو حنيفة: "يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، التزق بيده شيء أو لا". وقال محمد: "لا يجوز إلا إذا التزق بيده شيء من أجزائه"، فالأصل عنده أنه لا بد من استعمال جزء من الصعيد، ولا يكون ذلك إلا بأن يلتزق بيده شيء، "وعند" أبي حنيفة هذا ليس بشرط، وإنما الشرط: مس وجه الأرض باليدين وإمرارهما على العضوين. وإذا عرف هذا فعلى قول أبي حنيفة يجوز التيمم بالجص والنورة

 

ج / 1 ص -54-         والزرنيخ والطين الأحمر والأسود والأبيض، والكحل والحجر الأملس والحائط المطين والمجصص والملح الجبلي دون المائي والمرداسنج المعدني والآجر والخزف المتخذ من طين خالص، والياقوت والفيروزج والزمرد والأرض الندية والطين الرطب،. "وعند" محمد إن التزق بيده شيء منها بأن كان عليها غبار أو كان مدقوقا يجوز، وإلا فلا، وجه قول محمد أن المأمور به استعمال الصعيد، وذلك بأن يلتزق بيده شيء منه، فأما ضرب اليد على ما له صلابة وملاسة من غير استعمال جزء منه، فضرب من السفه، ولأبي حنيفة أن المأمور به هو التيمم بالصعيد مطلقا من غير شرط الالتزاق، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل. وقوله: "الاستعمال شرط" ممنوع; لأن ذلك يؤدي إلى التغيير الذي هو شبيه المثلة، وعلامة أهل النار ولهذا أمر بنفض اليدين بل الشرط إمساس اليد المضروبة على وجه الأرض على الوجه، واليدين تعبدا غير معقول المعنى لحكمة استأثر الله تعالى: بعلمها، ولا يجوز التيمم بالرماد بالإجماع; لأنه من أجزاء الخشب، وكذا باللآلئ سواء كانت مدقوقة أو لا; لأنها ليست من أجزاء الأرض بل هي متولدة من الحيوان. ويجوز التيمم بالغبار بأن ضرب يده على ثوب أو لبد أو صفة سرج فارتفع غبارا، وكان على الذهب أو الفضة أو على الحنطة أو الشعير أو نحوها غبار فتيمم به أجزأه في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجزيه، وبعض المشايخ قالوا إذا لم يقدر على الصعيد يجوز عنده والصحيح أنه لا يجوز في الحالين. وروي عنه أنه قال وليس عندي من الصعيد، وهذا وجه قوله: "أن المأمور به التيمم بالصعيد وهو اسم للتراب الخالص، والغبار ليس بتراب خالص بل هو تراب من وجه دون وجه، فلا يجوز به التيمم"، "ولهما" أنه جزء من أجزاء الأرض إلا أنه لطيف فيجوز التيمم به، كما يجوز بالكثيف بل أولى. وقد روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان بالجابية فمطروا فلم يجدوا ماء يتوضئون به ولا صعيدا يتيممون به، فقال ابن عمر: لينفض كل واحد منكم ثوبه أو صفة سرجه، وليتيمم وليصل، ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعا، ولو كان المسافر في طين وردغة لا يجد ماء ولا صعيدا، وليس في ثوبه وسرجه غبار لطخ ثوبه أو بعض جسده بالطين، فإذا جف تيمم به، ولا ينبغي أن يتيمم بالطين ما لم يخف ذهاب الوقت; لأن فيه تلطيخ الوجه من غير ضرورة فيصير بمعنى المثلة. وإن كان لو تيمم به أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد; لأن الطين من أجزاء الأرض. وما فيه من الماء مستهلك، وهو يلتزق باليد فإن خاف ذهاب الوقت تيمم وصلى عندهما، وعلى قياس قول أبي يوسف يصلي بغير تيمم بالإيماء، ثم يعيد إذا قدر على الماء أو التراب كما لمحبوس في المخرج إذا لم يجد ماء ولا ترابا نظيفا على ما ذكرنا.

فصل": وأما بيان ما يتيمم منه فهو الحدث والجنابة والحيض والنفاس. وقد ذكرنا دلائل جواز التيمم من الحدث في صدر فصل التيمم، وذكرنا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في جواز التيمم من الجنابة، وترجيح قول المجوزين لمعاضدة الأحاديث إياه، والحيض والنفاس ملحقان بالجنابة; لأنهما في معناها مع أنه ثبت جواز التيمم منهما لعموم بعض الأحاديث التي رويناها والله أعلم.

فصل": وأما بيان وقت التيمم فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في بيان أصل الوقت، والثاني في بيان الوقت المستحب، "أما" الأول فالأوقات كلها وقت للتيمم حتى يجوز التيمم بعد دخول وقت الصلاة وقبل دخوله، وهذا عند أصحابنا. وقال الشافعي: "لا يجوز إلا بعد دخول وقت الصلاة"، والكلام فيه راجع إلى أصل وهو أن التيمم بدل مطلق أم بدل ضروري؟ فعندنا بدل مطلق، وعنده بدل ضروري، وسنذكر تفسير البدل المطلق والضروري ودليله في بيان صفة التيمم إن شاء الله تعالى:.
وأما" الثاني وهو بيان الوقت المستحب للتيمم، فقد قال أصحابنا: "إن المسافر إذا كان على طمع من وجود الماء في آخر الوقت يؤخر التيمم إلى آخر الوقت، وإن لم يكن على طمع من وجود الماء في آخر الوقت لا يؤخر". وهكذا روى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إن كان على طمع من وجود الماء في آخر الوقت، أخر إلى آخر الوقت مقدار ما لو لم يجد الماء يمكنه أن يتيمم ويصلي في الوقت، وإن لم يكن على طمع لا يؤخر ويتيمم ويصلي في الوقت المستحب، وذكر في الأصل أحب إلي أن يؤخر التيمم إلى آخر الوقت ولم يفصل بين ما إذا

 

ج / 1 ص -55-         كان يرجو وجود الماء في آخره أو لا يرجو. وهذا لا يوجب اختلاف الرواية بل يجعل رواية المعلى تفسيرا لما أطلقه في الأصل وهو قول جماعة من التابعين، مثل الزهري والحسن وابن سيرين رضي الله عنهم فإنهم قالوا: "يؤخر التيمم إلى آخر الوقت إذا كان يرجو وجود الماء". وقال جماعة: "لا يؤخر ما لم يستيقن بوجود الماء في آخر الوقت" وبه أخذ الشافعي. وقال مالك: "المستحب له أن يتيمم في وسط الوقت" والصحيح قولنا؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال "في مسافر أجنب يتلوم إلى آخر الوقت"، ولم يرو عن غيره من الصحابة خلافه فيكون إجماعا والمعنى فيه أن أداء الصلاة بطهارة الماء أفضل; لأنها أصل والتيمم بدل; ولأنها طهارة حقيقة وحكما; والتيمم طهارة حكما لا حقيقة; فإذا كان يرجو وجود الماء في آخر الوقت كان في التأخير أداء الصلاة بأكمل الطهارتين فكان التأخير مستحبا، فأما إذا لم يرج لا يستحب إذ لا فائدة في التأخير، ولو تيمم في أول الوقت وصلى فإن كان عالما أن الماء قريب بأن كان بينه وبين الماء أقل من ميل لم تجز صلاته بلا خلاف، لأنه واجد للماء، وإن كان ميلا فصاعدا جازت صلاته وإن كان يمكنه أن يذهب ويتوضأ ويصلي في الوقت، وعند زفر لا يجوز لما يذكر وإن لم يكن عالما بقرب الماء أو بعده تجوز صلاته، سواء كان يرجو وجود الماء في آخر الوقت أو لا، سواء كان بعد الطلب أو قبله عندنا خلافا للشافعي; لما مر أن العدم ثابت ظاهرا، واحتمال الوجود احتمال لا دليل عليه فلا يعارض الظاهر، ولو أخبر في آخر الوقت أن الماء بقرب منه بأن كان بينه وبين الماء أقل من ميل لكنه يخاف لو ذهب إليه وتوضأ تفوته الصلاة عن وقتها، لا يجوز له التيمم بل يجب عليه أن يذهب ويتوضأ ويصلي خارج الوقت عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يجزئه التيمم، والأصل أن المعتبر عند أصحابنا الثلاثة القرب والبعد لا الوقت، وعند زفر المعتبر هو الوقت لا قرب الماء وبعده. وجه قوله أن التيمم شرع للحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، فكان المنظور إليه هو الوقت فيتيمم كي لا تفوته الصلاة عن الوقت كما في صلاة الجنازة والعيدين. "ولنا" أن هذه الصلاة لا تفوته أصلا بل إلى خلف وهو القضاء، والفائت إلى خلف قائم معنى بخلاف صلاة الجنازة والعيدين; لأنها تفوت أصلا لما يذكر في موضعه فجاز التيمم فيها لخوف الفوات والله أعلم.

فصل": وأما صفة التيمم فهي أنه بدل بلا شك، لأن جوازه معلق بحال عدم الماء لكنهم اختلفوا في كيفية البدلية من وجهين: أحدهما الخلاف فيه مع غير أصحابنا، والثاني مع أصحابنا، "أما" الأول فقد قال أصحابنا: "إن التيمم بدل مطلق وليس ببدل ضروري" وعنوا به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة، إلا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث. وقال الشافعي: "التيمم بدل ضروري"، وعنى به أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة وجه قوله: لتصحيح هذا الأصل أن التيمم لا يزيل هذا الحدث، بدليل أنه لو رأى الماء تعود الجنابة والحدث، مع أن رؤية الماء ليست بحدث، فعلم أن الحدث لم يرتفع لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة كما في المستحاضة. "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يحدث" فقد سمى التيمم وضوءا والوضوء مزيل للحدث وقال: صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، والطهور اسم للمطهر، فدل على أن الحدث يزول بالتيمم إلا أن زواله مؤقت إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء يعود الحدث السابق لكن في المستقبل لا في الماضي، فلم يظهر في حق الصلاة المؤداة، وعلى هذا الأصل يبنى التيمم قبل دخول الوقت أنه جائز عندنا. وعند الشافعي لا يجوز; لأنه بدل مطلق عند عدم الماء فيجوز قبل دخول الوقت وبعده، وعنده بدل ضروري فتتقدر بدليته بقدر الضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت، وعلى هذا يبنى أيضا أنه إذا تيمم في الوقت يجوز له أن يؤدي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث عندنا، وعنده لا يجوز له أن يؤدي به فرضا آخر غير ما تيمم لأجله، وله أن يصلي به النوافل لكونها تابعة للفرائض، وثبوت الحكم في التبع لا يقف على وجود علة على حدة أو شرط على حدة فيه، بل وجود ذلك في الأصل يكفي لثبوته في التبع كما هو مذهبه في طهارة المستحاضة، وعلى هذا يبني أنه إذا تيمم للنفل

 

ج / 1 ص -56-         يجوز له أن يؤدي به النفل والفرض عندنا، وعنده لا يجوز له أداء الفرض؛ لأن التبع لا يستتبع الأصل، وعلى هذا قال الزهري: إنه لا يجوز التيمم لصلاة النافلة رأسا; لأنه طهارة ضرورية والضرورة في الفرائض لا في النوافل، وعندنا يجوز; لأنه طهارة مطلقة حال عدم الماء; ولأنه كان لا يحتاج إلى إسقاط الفرض عن نفسه به يحتاج إلى إحراز الثواب لنفسه، والحاجة إلى إحراز الثواب حاجة معتبرة فيجوز أن يعتبر الطهارة لأجله; ولهذا اعتبرت طهارة المستحاضة في حق النوافل بلا خلاف كذا ههنا، "وأما" الخلاف الذي مع أصحابنا في كيفية البدلية فهو أنهم اختلفوا في أن التراب بدل عن الماء عند عدمه، والبدلية بين التراب وبين الماء أو التيمم بدل عن الوضوء عند عدمه، والبدلية بين التيمم وبين الوضوء، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن التراب بدل عن الماء عند عدمه، والبدلية بين التراب والماء. وقال محمد: "التيمم بدل عن الوضوء عند عدمه"، والبدلية بين التيمم وبين الوضوء واحتج محمد لتصحيح أصله بالحديث، وهو قوله: صلى الله عليه وسلم "التيمم وضوء المسلم" الحديث سمى التيمم وضوءا دون التراب، وهما احتجا بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أقام الصعيد مقام الماء عند عدمه. وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "التراب طهور المسلم" وقال: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" ويتفرع عن هذا الاختلاف أن المتيمم إذا أم المتوضئين جازت إمامته إياهم، وصلاتهم جائزة إذا لم يكن مع المتوضئين ماء في قول، أبي حنيفة وأبي يوسف وإن كان معهم ماء لا تجوز صلاتهم، وعند محمد لا يجوز اقتداؤهم به سواء كان معهم ماء أو لم يكن، وعند زفر يجوز، كان معهم ماء أو لم يكن، وجه البناء على هذا الأصل أن عند محمد لما كانت البدلية بين التيمم وبين الوضوء فالمقتدي إذا كان على وضوء لم يكن تيمم الإمام طهارة في حقه، لوجود الأصل في حقه، فكان مقتديا بمن لا طهارة له في حقه فلا يجوز اقتداؤه به، كالصحيح إذا اقتدى بصاحب الجرح السائل أنه لا يجوز له، لأن طهارة الإمام ليست بطهارة في حق المقتدي، فلم تعتبر طهارته في حقه فكان مقتديا بمن لا طهارة له في حقه، فلم يجز اقتداؤه به كذا هذا، ولما كانت البدلية بين التراب وبين الماء عندهما فإذا لم يكن مع المقتدين ماء كان التراب طهارة مطلقة في حال عدم الماء، فيجوز اقتداؤهم به فصار كاقتداء الغاسل بالماسح بخلاف صاحب الجرح السائل; لأن طهارته ضرورية; لأن الحدث يقارنها أو يطرأ عليها فلا تعتبر في حق الصحيح، وإذا كان معهم ماء فقد فات الشرط في حق المقتدين فلا يبقى التراب طهورا في حقهم، فلم تبق طهارة الإمام طهارة في حقهم فلا يصح اقتداؤهم به، وعلى هذا الأصل المتيمم إذا أم المتوضئين ولم يكن معهم ماء، ثم رأى واحد منهم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون، حتى فرغوا فصلاته فاسدة. وقال زفر: "لا تفسد" وهو رواية عن أبي يوسف; لأنه متوضئ في نفسه، فرؤية الماء لا تكون مفسدة في حقه، وإنما تفسد صلاته بفساد صلاة الإمام وهي صحيحة،. "ولنا" أن طهارة الإمام جعلت عدما في حقه لقدرته على الماء الذي هو أصل، إذ لا يبقى الخلف مع وجود الأصل فصار معتقدا فساد صلاة الإمام، والمقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته، كما لو اشتبهت عليهم القبلة فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى، وهو يعلم أن إمامه يصلي إلى جهة أخرى لا يصح اقتداؤه به كذا هذا، ثم نتكلم في المسألة ابتداء: فحجة محمد ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يؤم المتيمم المتوضئين، ولا المقيد المطلقين" وهذا نص في الباب، وحجتهما ما روينا من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، وما روي عن علي فهو مذهبه وقد خالفه ابن عباس رضي الله عنه والمسألة إذا كانت مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم لا يكون قول البعض حجة على البعض، على أن فيه أنه لا يؤم، وليس فيه أنه لو أم لا يجوز، وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه" ثم لو أم جاز كذا هذا.

فصل": وأما بيان ما ينقض التيمم فالذي ينقضه نوعان: عام، وخاص أما العام فكل ما ينقض الوضوء من الحدث الحقيقي والحكمي ينقض التيمم، وقد مر بيان ذلك كله في موضعه. وأما الخاص: وهو ما ينقض التيمم على الخصوص

 

ج / 1 ص -57-         فوجود الماء، وجملة الكلام فيه أن المتيمم إذا وجد الماء لا يخلو إما إن وجده قبل الشروع في الصلاة، وإما إن وجده في الصلاة، وإما إن وجده بعد الفراغ منها فإن وجده قبل الشروع في الصلاة انتقض تيممه عند عامة العلماء. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه لا ينتقض التيمم بوجود الماء أصلا، وجه قوله أن الطهارة بعد صحتها لا تنقض إلا بالحدث، ووجود الماء ليس بحدث. "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يحدث" جعل التيمم وضوء المسلم إلى غاية وجود الماء، والممدود إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية ولأن التيمم خلف عن الوضوء ولا يجوز المصير إلى الخلف مع وجود الأصل كما في سائر الأخلاف مع أصولها. وقوله: "وجود الماء ليس بحدث"، مسلم وعندنا أن المتيمم لا يصير محدثا بوجود الماء، بل الحدث السابق يظهر حكمه عند وجود الماء، إلا أنه لم يظهر حكم ذلك الحدث في حق الصلاة المؤداة.
ثم وجود الماء نوعان: وجوده من حيث الصورة والمعنى: وهو أن يكون مقدور الاستعمال له، وأنه ينقض التيمم ووجوده من حيث الصورة دون المعنى: وهو أن لا يقدر على استعماله وهذا لا ينقض التيمم، حتى لو مر المتيمم على الماء الكثير وهو لا يعلم به، أو كان غافلا أو نائما لا يبطل تيممه، كذا روي عن أبي يوسف.
وكذا لو مر على ماء في موضع لا يستطيع النزول إليه; لخوف عدو أو سبع لا ينتقض تيممه، كذا ذكر محمد بن مقاتل الرازي وقال: هذا قياس قول أصحابنا; لأنه غير واجد للماء فكان ملحقا بالعدم.
وكذا إذا أتى بئرا وليس معه دلو أو رشاء أو وجد ماء وهو يخاف على نفسه العطش; لا ينتقض تيممه لما قلنا، وكذا لو وجد ماء موضوعا في الفلاة في جب أو نحوه، على قياس ما حكي عن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام; لأنه معد للسقيا دون الوضوء إلا أن يكون كثيرا فيستدل بالكثرة على أنه معد للشرب والوضوء جميعا; فينتقض تيممه، والأصل فيه أن كل ما منع وجوده التيمم نقض وجوده التيمم وما لا فلا.
ثم وجود الماء إنما ينقض التيمم إذا كان القدر الموجود يكفي للوضوء أو الاغتسال، فإن كان لا يكفي لا ينقض عندنا، وعند الشافعي قليله وكثيره ينقض والخلاف في البقاء كالخلاف في الابتداء وقد مر ذكره في بيان الشرائط، وعلى هذا يخرج ما ذكره محمد في الزيادات لو أن خمسة من المتيممين وجدوا من الماء مقدار ما يتوضأ به أحدهم انتقض تيممهم جميعا; لأن كل واحد منهم قدر على استعماله على سبيل البدل، فكان كل واحد منهم واجدا للماء صورة ومعنى فينتقض تيممهم جميعا; ولأن كل واحد منهم قدر على استعماله بيقين وليس البعض أولى من البعض فينتقض تيممهم احتياطا ولو كان لرجل ماء فقال: "أبحت لكم هذا الماء يتوضأ به أيكم شاء"، وهو قدر ما يكفي لوضوء أحدهم انتقض تيممهم جميعا لما قلنا، ولو قال: هذا الماء لكم لا ينتقض تيممهم بإجماع بين أصحابنا أما على أصل أبي حنيفة فلأن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا تصح فلم يثبت الملك رأسا. وأما على أصلهما فالهبة وإن صحت وأفادت الملك لكن لا يصيب كل واحد منهم ما يكفي لوضوئه، فكان ملحقا بالعدم، حتى أنهم لو أذنوا لواحد منهم بالوضوء انتقض تيممه عندهما; لأنه قدر على ما يكفي للوضوء وعنده الهبة فاسدة فلا يصح الإذن.
وعلى هذا الأصل مسائل في الزيادات: مسافر محدث على ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم، ومعه ما يكفي لأحدهما غسل به الثوب وتيمم للحدث عند عامة العلماء. وروى الحسن عن أبي يوسف أنه يتوضأ به، وهو قول حماد، ووجهه أن الحدث أغلظ النجاستين بدليل أن الصلاة مع الثوب النجس جائزة في الجملة للضرورة، ولا جواز لها مع الحدث بحال. "ولنا" أن الصرف إلى النجاسة يجعله مصليا بطهارتين حقيقية وحكمية فكان أولى من الصلاة بطهارة واحدة، ويجب أن يغسل ثوبه من النجاسة، ثم يتيمم ولو بدأ بالتيمم لا يجزيه وتلزمه الإعادة; لأنه قدر على ماء ولو توضأ به تجوز به صلاته.
وإن وجد الماء في الصلاة فإن وجده قبل أن يقعد قدر التشهد الأخير انتقض تيممه، وتوضأ به واستقبل الصلاة عندنا، وللشافعي ثلاثة أقوال: في قول مثل قولنا، وفي قول يقرب الماء منه حتى يتوضأ ويبني وفي قول يمضي على صلاته، وهو أظهر أقواله، ووجهه أن الشروع في الصلاة قد صح فلا يبطل برؤية الماء، كما إذا رأى بعد الفراغ من الصلاة وهذا، لأن رؤية الماء ليس بحدث والموجود ليس إلا الرؤية فلا تبطل

 

ج / 1 ص -58-         الصلاة، وإذا لم تبطل الصلاة فحرمة الصلاة تعجزه عن استعمال الماء فلا يكون واجدا للماء معنى، كما إذا كان على رأس البئر ولم يجد آلة الاستقاء. "ولنا" أن طهارة التيمم انعقدت ممدودة إلى غاية وجود الماء بالحديث الذي روينا فتنتهي عند وجود الماء، فلو أتمها لأتم بغير طهارة، وهذا لا يجوز وبه تبين أنه لم تبق حرمة الصلاة. وقوله: "إن رؤية الماء ليست بحدث فلا تبطل الطهارة" قلنا: بلى، وعندنا لا تبطل بل تنتهي لكونها مؤقتة إلى غاية الرؤية; ولأن المتيمم لا يصير محدثا برؤية الماء عندنا، بل بالحدث السابق على الشروع في الصلاة إلا أنه لم يظهر أثره في حق الصلاة المؤداة للضرورة، ولا ضرورة في الصلاة التي لم تؤد فظهر أثر الحدث السابق وصار كخروج الوقت في حق المستحاضة; ولأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل وذلك يبطل حكم البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت.
وإن وجده بعد ما قعد قدر التشهد الأخير، أو بعد ما سلم وعليه سجدتا السهو وعاد إلى السجود فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويلزمه الاستقبال، وعند أبي يوسف ومحمد يبطل تيممه وصلاته تامة، وهذه من المسائل المعروفة بالاثنا عشرية والأصل فيها أن ما كان من أفعال المصلي ما يفسد الصلاة لو وجد في أثنائها لا يفسدها إن وجد في هذه الحالة بإجماع بين أصحابنا، مثل الكلام والحدث العمد والقهقهة ونحو ذلك، وعند الشافعي تفسد بناء على أن الخروج من الصلاة بالسلام ليس بفرض عندنا، وعنده فرض على ما يذكر.
وأما ما ليس من فعل المصلي بل هو معنى سماوي لكنه لو اعترض في أثناء الصلاة يفسد الصلاة، فإذا وجد في هذه الحالة هل يفسدها؟ قال أبو حنيفة: يفسدها. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يفسدها، وذلك كالمتيمم يجد ماء، والماسح على الخفين إذا انقضى وقت مسحه، والعاري يجد ثوبا، والأمي يتعلم القرآن، وصاحب الجرح السائل ينقطع عنه السيلان، وصاحب الترتيب إذا تذكر فائتة، ودخول وقت العصر يوم الجمعة وهو في صلاة الجمعة، وسقوط الخف عن الماسح عليه إذا كان واسعا بدون فعله، وطلوع الشمس في هذه الحالة لمصلي الفجر والمومئ إذا قدر على القيام، والقارئ إذا استخلف أميا، والمصلي بثوب فيه نجاسة أكثر من قدر الدرهم ولم يجد ماء ليغسله فوجد في هذه الحالة. وقاضي الفجر إذا زالت الشمس، والمصلي إذا سقط الجبائر عنه عن برء. وقضية الترتيب ذكر كل واحدة من هذه المسائل في موضعها وإنما جمعناها اتباعا للسلف وتيسيرا للحفظ على المتعلمين، ومن مشايخنا من قال: إن حاصل الاختلاف يرجع إلى أن خروج المصلي من الصلاة بفعله فرض عند أبي حنيفة، وعندهما ليس بفرض، ومنهم من تكلم في المسألة من وجه آخر وجه قولهما: أن الصلاة قد انتهت بالقعود قدر التشهد لانتهاء أركانها قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين علمه التشهد: "إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك" والصلاة بعد تمامها لا تحتمل الفساد، ولهذا لا تفسد بالسلام والكلام والحدث العمد والقهقهة، ودل الحديث على أن الخروج بفعله ليس بفرض; لأنه وصف الصلاة بالتمام، ولا تمام يتحقق مع بقاء ركن من أركانها ولهذا قلنا: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ليست بفرض، وكذا إصابة لفظ السلام; لأن تمام الشيء وانتهاءه مع بقاء شيء منه محال، إلا أنه لو قهقه في هذه الحالة تنتقض طهارته; لأن انتقاضها يعتمد قيام التحريمة، وأنها قائمة، فأما فساد الصلاة فيستدعي بقاء التحريمة مع بقاء الركن ولم يبق عليه ركن من أركان الصلاة لما بينا; ولأن الخروج من الصلاة ضد الصلاة; لأنه تركها، وضد الشيء كيف يكون ركنا له؟ ولأن عند أبي حنيفة يحصل الخروج بالحدث العمد والقهقهة والكلام، وهذه الأشياء حرام ومعصية فكيف تكون فرضا؟. والوجه لتصحيح مذهب أبي حنيفة في عدة من هذه المسائل من غير البناء على الأصل الذي ذكرنا أن فساد الصلاة ليس لوجود هذه العوارض، بل بوجودها يظهر أنها كانت فاسدة، "وبيان" ذلك أن المتيمم إذا وجد الماء صار محدثا بالحدث السابق في حق الصلاة التي لم تؤد؛ لأنه وجد منه الحدث ولم يوجد منه ما يزيله حقيقة; لأن التراب ليس بطهور حقيقة إلا أنه لم يظهر حكم الحدث في حق الصلاة المؤداة للحرج كي لا تجتمع عليه الصلوات فيخرج في قضائها فسقط اعتبار الحدث السابق دفعا للحرج، ولا حرج في الصلاة التي لم تؤد، وهذه الصلاة غير مؤداة فإن تحريمة الصلاة باقية بلا خلاف وكذا الركن الأخير باق; لأنه وإن طال فهو في حكم الركن كالقراءة إذا طالت فظهر

 

ج / 1 ص -59-         فيها حكم الحدث السابق فتبين أن الشروع فيها لم يصح، كما لو اعترض هذا المعنى في وسط الصلاة، وعلى هذا يخرج انقضاء مدة المسح; لأنه إذا انقضى وقت المسح صار محدثا بالحدث السابق; لأن الحدث قد وجد ولم يوجد ما يزيله عن القدم حقيقة، لكن الشرع أسقط اعتبار الحدث فيما أدى من الصلاة دفعا للحرج فالتحق المانع بالعدم في حق الصلاة المؤداة. ولا حرج فيما لم يؤد فظهر حكم الحدث السابق فيه، وعلى هذا سقط خفه من غير صنعه وكذا صاحب الجرح السائل، ومن هو بمثل حاله، وكذا المصلي إذا كان على ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم، ولم يجد الماء ليغسله فوجد في هذه الحالة; لأن هذه النجاسة إنما سقط اعتبارها لما قلنا من الجرح، ولا حرج في هذه الصلاة، وكذا العاري إذا وجد ثوبا، والمومئ إذا قدر على القيام، والأمي إذا تعلم القراءة; لأن الستر والقيام والقراءة فرض على القادر عليها، والسقوط عن هؤلاء للعجز وقد زال فكان ينبغي أن يجب قضاء الكل كالمريض العاجز عن الصوم والمغمى عليه يجب عليهما القضاء عند حدوث القدرة لكن سقط; لأجل الحرج ولا حرج في حق هذه الصلاة، وكذا هي ليست نظير تلك الصلوات; لأنه لا قدرة ثمة أصلا وههنا حصلت القدرة في جزء منها، وعلى هذا صاحب الترتيب إذا تذكر فائتة; لأنه ظهر أنه أدى الوقتية قبل وقتها فكان ينبغي أن يجب قضاء الكل إلا أنه سقط للحرج; لأن النسيان مما يكثر وجوده، ولا حرج في حق هذه الصلاة. وعلى هذا المصلي إذا سقطت الجبائر عن يده عن برء; لأن الغسل واجب على القادر، وإن سقط عنه للعجز، فإذا زال العجز كان ينبغي أن يقضي ما مضى بعد البرء إلا أنه سقط للحرج، وفيه هذه الصلاة لا حرج. وأما قاضي الفجر إذا زالت الشمس فهو في هذه الحالة يخرج على وجه آخر، وهو أن الواجب في ذمته كامل والمؤدى في هذا الوقت ناقص; لورود النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، والكامل لا يتأدى بالناقص فلا يقع قضاء ولكنه يقع تطوعا; لأن التطوع فيه جائز فينقلب تطوعا وعلى هذا مصلي الفجر إذا طلعت الشمس; لأنه وجب عليه الأداء كاملا، لأن الوقت الناقص قليل لا يتسع للأداء فلا يجب ناقصا بل كاملا في غير الوقت الناقص، فإذا أتى به فيه صار ناقصا فلا يتأدى به الكامل بخلاف صلاة العصر; لأن ثمة الوقت الناقص مما يتسع لأداء الصلاة فيه فيجب ناقصا وقد أداه ناقصا فهو الفرق. وأما دخول وقت العصر في صلاة الجمعة في هذه الحالة فيخرج على وجه آخر وهو: أن الظهر هو الواجب الأصلي في كل يوم عرف وجوبه بالدلائل المطلقة، وإنما تغير إلى الركعتين في يوم الجمعة بشرائط مخصوصة عرفناها بالنصوص الخاصة غير معقولة المعنى، والوقت من شرائطه، فمتى لم يوجد في جميع الصلاة لم يكن هذا نظير المخصوص عن الأصل فلم يجز. فظهر أن الواجب هو الظهر فعليه أداء الظهر بخلاف الكلام والقهقهة والحدث العمد; لأن ثمة الفساد لوجود هذه العوارض; لأنها نواقض الصلاة وقد صادفت جزءا من أجزاء الصلاة فأوجب فساد ذلك الجزء، غير أن ذلك زيادة تستغني الصلاة عنها، فكان وجودها والعدم بمنزلة، فاقتصر الفساد عليها بخلاف ما إذا اعترضت في أثناء الصلاة; لأنها أوجبت فساد ذلك الجزء الأصلي، ولا وجود للصلاة بدونه، فلا يمكنه البناء بعد ذلك. وأما الحديث فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتمام الصلاة وبوجود هذه العوارض، تبين أنها ما كانت صلاة إذ لا وجود للصلاة مع الحدث ومع فقد شرط من شرائطها. وقد مر بيان ذلك وكذا الصلاة في الأوقات المكروهة مخصوصة عن هذا النص بالنهي عن الصلاة، فإنها لا تخلو عن النقصان وكذلك صلاة الجمعة مخصوصة عن هذا النص بالدلائل المطلقة المقتضية لوجوب الظهر في كل يوم على ما مر، هذا إذا وجد في الصلاة ماء مطلقا.
فإن وجد سؤر حمار مضى على صلاته، لأنه مشكوك فيه وشروعه في الصلاة قد صح فلا يقطع بالشك، بل يمضي على صلاته فإذا فرغ منها توضأ به وأعاد; لأنه إن كان مطهرا في نفسه ما جازت صلاته، وإن كان غير مطهر في نفسه جازت به صلاته فوقع الشك في الجواز فيؤمر بالإعادة احتياطا.
وإن وجد نبيذ التمر انتقض تيممه عند أبي حنيفة، لأنه بمنزلة الماء المطلق عند عدمه عنده، وعند أبي يوسف لا ينتقض; لأنه لا يراه طهورا أصلا، وعند محمد يمضي على صلاته، ثم يعيدها كما في سؤر الحمار هذا كله إذا وجد الماء في الصلاة،.
فأما إذا وجده بعد الفراغ من الصلاة فإن كان بعد خروج الوقت فليس عليه إعادة ما صلى بالتيمم بلا خلاف وإن كان في

 

ج / 1 ص -60-         الوقت فكذلك عند عامة العلماء. وقال مالك: "يعيد" وجه قوله: أن الوقت أقيم مقام الأداء شرعا كما في المستحاضة فكان الوجود في الوقت كالوجود في أثناء الأداء حقيقة; ولأن التيمم بدل فإذا قدر على الأصل بطل البدل كالشيخ الفاني إذا فدى أو أحج، ثم قدر على الصوم والحج بنفسه،. "ولنا" أن الله تعالى: علق جواز التيمم بعدم الماء، فإذا صلى حالة العدم فقد أدى الصلاة بطهارة معتبرة شرعا فيحكم بصحتها فلا معنى لوجوب الإعادة. وروي أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تيمما من جنابة وصليا وأدركا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة ولم يعد الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم للذي أعاد: "أما أنت فقد أوتيت أجرك مرتين وقال للآخر: أما أنت فقد أجزأتك صلاتك عنك". أي كفتك جزى وأجزأ مهموزا بمعنى الكفاية، وهذا ينفي وجوب الإعادة وما ذكر من اعتبار الوجود بعد الفراغ من الصلاة بالوجود في الصلاة غير سديد لأنه مخالف للحقيقة من غير ضرورة، ألا ترى أن الحدث الحقيقي بعد الفراغ من الصلاة لا يجعل كالموجود في خلال الصلاة كذا هذا. وأما قوله: إنه قدر على الأصل فنعم، لكن بعد حصول المقصود بالبدل، والقدرة على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل لا تبطل حكم البدل، كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت بعد انقضاء العدة بالأشهر، بخلاف الشيخ الفاني إذا أحج رجلا بماله وفدى عن صومه، ثم قدر بنفسه; لأن جواز الإحجاج والفدية معلق باليأس عن الحج بنفسه والصوم بنفسه، فإذا قدر بنفسه ظهر أنه لا يأس، فأما جواز التيمم فمعلق بالعجز عن استعمال الماء والعجز كان متحققا عند الصلاة، وبوجود الماء بعد ذلك لا يظهر أنه لا عجز فهو الفرق.

فصل": وأما الطهارة الحقيقية وهي الطهارة عن النجس فالكلام فيها في الأصل في ثلاثة مواضع: أحدها في بيان أنواع الأنجاس والثاني في بيان المقدار الذي يصير المحل به نجسا شرعا والثالث في بيان ما يقع به تطهير النجس.
وأما" أنواع الأنجاس فمنها ما ذكره الكرخي في مختصره: أن كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يجب بخروجه الوضوء أو الغسل فهو نجس، من البول والغائط والودي والمذي والمني، ودم الحيض والنفاس والاستحاضة والدم السائل من الجرح والصديد والقيء ملء الفم، لأن الواجب بخروج ذلك مسمى بالتطهير قال الله تعالى: في آخر آية الوضوء:
{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وقال في الغسل من الجنابة: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقال في الغسل من الحيض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة. وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، والطباع السليمة تستخبث هذه الأشياء، والتحريم لا للاحترام دليل النجاسة; ولأن معنى النجاسة موجود في ذلك كله إذ النجس اسم للمستقذر، وكل ذلك مما تستقذره الطباع السليمة لاستحالته إلى خبث ونتن رائحة، ولا خلاف في هذه الجملة إلا في المني فإن الشافعي زعم أنه طاهر "واحتج" بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا وهو يصلي فيه، والواو واو الحال أي في حال صلاته، ولو كان نجسا لما صح شروعه في الصلاة معه فينبغي أن يعيد، ولم ينقل إلينا الإعادة، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: المني كالمخاط فأمطه عنك ولو بالإذخر شبهه بالمخاط، والمخاط ليس بنجس كذا المني، وبه تبين أن الأمر بإماطته لا لنجاسته بل لقذارته؛ ولأنه أصل الآدمي المكرم فيستحيل أن يكون نجسا. "ولنا" ما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنه  كان يغسل ثوبه من النخامة، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما تصنع يا عمار"؟ فأخبره بذلك، فقال: صلى الله عليه وسلم "ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء، إنما يغسل الثوب من خمس: بول، وغائط، وقيء، ومني، ودم" أخبر أن الثوب يغسل من هذه الجملة لا محالة، وما يغسل الثوب منه لا محالة يكون نجسا فدل أن المني نجس. وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا رأيت المني في ثوبك فإن كان رطبا فاغسليه، وإن كان يابسا فحتيه" ومطلق الأمر محمول على الوجوب ولا يجب إلا إذا كان نجسا; ولأن الواجب بخروجه أغلظ الطهارتين وهي الاغتسال، والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة، وغلظ الطهارة يدل على غلظ النجاسة كدم الحيض والنفاس ولأنه يمر بميزاب النجس فينجس

 

ج / 1 ص -61-         بمجاورته، وإن لم يكن نجسا بنفسه وكونه أصل الآدمي لا ينفي أن يكون نجسا كالعلقة والمضغة، وما روي من الحديث يحتمل أنه كان قليلا ولا عموم له; لأنه حكاية حال، أو نحمله على ما قلنا توفيقا بين الدلائل، وتشبيه ابن عباس رضي الله عنهما إياه بالمخاط يحتمل أنه كان في الصورة لا في الحكم لتصوره بصورة المخاط، والأمر بالإماطة بالإذخر لا ينفي الأمر بالإزالة بالماء، فيحتمل أنه أمر بتقديم الإماطة كي لا تنتشر النجاسة في الثوب فيتعسر غسله.
وأما" الدم الذي يكون على رأس الجرح والقيء إذا كان أقل من ملء الفم، فقد روي عن أبي يوسف أنه ليس بنجس وهو قياس ما ذكره الكرخي، لأنه لا يجب بخروجه الوضوء، وعند محمد نجس، هو يقول: "إنه جزء من الدم المسفوح، والدم المسفوح نجس بجميع أجزائه"، وأبو يوسف يقول: إنه ليس بمسفوح بنفسه، والنجس هو الدم المسفوح لقوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} والرجس: هو النجس، فظاهر الآية يقتضي أن لا محرم سواها فيقتضي أن لا نجس سواها إذ لو كان لكان محرما، إذ النجس محرم، وهذا خلاف ظاهر الآية، ووجه آخر من الاستدلال بظاهر الآية أنه نفى حرمة غير المذكور، وأثبت حرمة المذكور، وعلل لتحريمه بأنه رجس أي نجس ولو كان غير المذكور نجسا لكان محرما; لوجود علة التحريم، وهذا خلاف النص; لأنه يقتضي أن لا محرم سوى المذكور فيه، ودم البق والبراغيث ليس بنجس عندنا، حتى لو وقع في الماء القليل لا ينجسه، ولو أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم لا يمنع جواز الصلاة. وقال الشافعي: "هو نجس لكنه معفو عنه في الثوب للضرورة"، "واحتج" بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} من غير فصل بين السائل وغيره، والحرمة لا للاحترام دليل النجاسة. "ولنا" قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية والاستدلال بها من الوجهين اللذين ذكرناهما، ولأن صيانة الثياب والأواني عنها متعذرة فلو أعطي لها حكم النجاسة لوقع الناس في الحرج، وأنه منفي شرعا بالنص، وبهذين الدليلين تبين أن المراد من المطلق المقيد وهو الدم المسفوح ودم الأوزاغ نجس; لأنه سائل، وكذا الدماء السائلة من سائر الحيوانات لما قلنا، بل أولى، لأنه لما كان نجسا من الآدمي المكرم فمن غيره أولى.
وأما" دم السمك فقد روي عن أبي يوسف أنه نجس وبه أخذ الشافعي اعتبارا بسائر الدماء، وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه، ولو كان نجسا لما أبيح لأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم; لأن الدموي لا يعيش في الماء، والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر; لأنه ليس بمسفوح ولهذا حل تناوله مع اللحم. وروي عن أبي يوسف أنه معفو في الأكل غير معفو في الثياب لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب.
ومنها" ما يخرج من أبدان سائر الحيوانات من البهائم من الأبوال والأرواث على الاتفاق والاختلاف، "أما" الأبوال فلا خلاف في أن بول كل ما لا يؤكل لحمه نجس، واختلف في بول ما يؤكل لحمه قال أبو حنيفة وأبو يوسف: "نجس". وقال محمد طاهر "حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده، ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه"، "واحتج" بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح للعرنيين شرب أبوال إبل الصدقة وألبانها مع قوله صلى الله عليه وسلم
" إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " وقوله: "ليس في الرجس شفاء" فثبت أنه طاهر "ولهما" حديث عمار "إنما يغسل الثوب من خمس" وذكر من جملتها البول مطلقا من غير فصل وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" من غير فصل وقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ومعلوم أن الطباع السليمة تستخبثه، وتحريم الشيء لا لاحترامه وكرامته تنجيس له شرعا; ولأن معنى النجاسة فيه موجود وهو الاستقذار الطبيعي لاستحالته إلى فساد وهي الرائحة المنتنة، فصار كروثة وكبول ما لا يؤكل لحمه. وأما الحديث فقد ذكر قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشرب ألبانها دون أبوالها, فلا يصح التعلق به، على أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف بطريق الوحي شفاءهم فيه، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن لحصول الشفاء فيه، كتناول الميتة عند المخمصة، والخمر عند العطش، وإساغة اللقمة وإنما لا يباح بما لا يستيقن حصول الشفاء به، ثم عند أبي يوسف يباح شربه للتداوي لحديث

 

ج / 1 ص -62-         العرنيين، وعند أبي حنيفة لا يباح; لأن الاستشفاء بالحرام الذي لا يتيقن حصول الشفاء به حرام، وكذا بما لا يعقل فيه الشفاء ولا شفاء فيه عند الأطباء، والحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم عرف شفاء أولئك فيه على الخصوص والله أعلم.
وأما" الأرواث فكلها نجسة عند عامة العلماء، وقال زفر روث ما يؤكل لحمه طاهر وهو قول مالك، "واحتج" بما روي أن الشبان من الصحابة في منازلهم وفي السفر كانوا يترامون بالجلة وهي البعرة اليابسة، ولو كانت نجسة لما مسوها، وعلل مالك بأنه وقود أهل المدينة يستعملونه استعمال الحطب. "ولنا" ما روينا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أحجار الاستنجاء، فأتي بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى الروثة وقال: إنها ركس أي نجس; ولأن معنى النجاسة موجود فيها وهو الاستقذار في الطباع السليمة; لاستحالتها إلى نتن وخبث رائحة مع إمكان التحرز عنه، فكانت نجسة.
ومنها" خرء بعض الطيور من الدجاج والبط، وجملة الكلام فيه أن الطيور نوعان: نوع لا يذرق في الهواء ونوع يذرق في الهواء. "أما" ما لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط فخرؤهما نجس; لوجود معنى النجاسة فيه، وهو كونه مستقذرا لتغيره إلى نتن وفساد رائحة فأشبه العذرة، وفي الإوز عن أبي حنيفة روايتان، روى أبو يوسف عنه أنه ليس بنجس، وروى الحسن عنه أنه نجس، "وما" يذرق في الهواء نوعان أيضا: ما يؤكل لحمه، كالحمام، والعصفور، والعقعق، ونحوها، وخرؤها طاهر، عندنا وعند الشافعي نجس وجه قوله أن الطبع قد أحاله إلى فساد فوجد معنى النجاسة، فأشبه الروث والعذرة. "ولنا" إجماع الأمة فإنهم اعتادوا اقتناء الحمامات في المسجد الحرام والمساجد الجامعة مع علمهم أنها تذرق فيها، ولو كان نجسا لما فعلوا ذلك مع الأمر بتطهير المسجد، وهو قوله تعالى:
{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن حمامة ذرقت عليه فمسحه وصلى، وعن ابن مسعود رضي الله عنه مثل ذلك في العصفور، وبه تبين أن مجرد إحالة الطبع لا يكفي للنجاسة ما لم يكن للمستحيل نتن وخبث رائحة تستخبثه الطباع السليمة، وذلك منعدم ههنا على أنا إن سلمنا ذلك لكان التحرز عنه غير ممكن; لأنها تذرق في الهواء فلا يمكن صيانة الثياب والأواني عنه، فسقط اعتباره للضرورة كدم البق والبراغيث وحكى مالك في هذه المسألة الإجماع على الطهارة، ومثله لا يكذب فلئن لم يثبت الإجماع من حيث القول يثبت من حيث الفعل وهو ما بينا.
وما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي والحدأة وأشباه ذلك، خرؤها طاهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد نجس نجاسة غليظة وجه قوله أنه وجد معنى النجاسة فيه; لإحالة الطبع إياه إلى خبث ونتن رائحة، فأشبه غير المأكول من البهائم، ولا ضرورة إلى إسقاط اعتبار نجاسته لعدم المخالطة; لأنها تسكن المروج والمفاوز بخلاف الحمام ونحوه، "ولهما" أن الضرورة متحققة لأنها تذرق في الهواء فيتعذر صيانة الثياب والأواني عنها، وكذا المخالطة ثابتة بخلاف الدجاج والبط; لأنهما لا يذرقان في الهواء فكانت الصيانة ممكنة، وخرء الفأرة نجس; لاستحالته إلى خبث ونتن رائحة، واختلفوا في الثوب الذي أصابه بولها حكي عن بعض مشايخ بلخ أنه قال: لو ابتليت به لغسلته فقيل له: من لم يغسله وصلى فيه ؟ فقال: "لا آمره بالإعادة".
وبول الخفافيش وخرؤها ليس بنجس؛ لتعذر صيانة الثياب والأواني عنه; لأنها تبول في الهواء وهي فأرة طيارة فلهذا تبول.
ومنها" الميتة التي لها دم سائل، وجملة الكلام في الميتات أنها نوعان: أحدهما ما ليس له دم سائل والثاني ما له دم سائل. "أما" الذي ليس له دم سائل: فالذباب والعقرب والزنبور والسرطان ونحوها، وأنه ليس بنجس عندنا، وعند الشافعي نجس، إلا الذباب والزنبور فله فيهما قولان، "واحتج" بقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} والحرمة لا للاحترام دليل النجاسة. "ولنا" ما روي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "موت كل حيوان ليس له نفس سائلة في الماء لا يفسده" وهذا نص في الباب، وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء" وهو يقدم الداء على الدواء، ولا شك أن

 

ج / 1 ص -63-         الذباب مع ضعف بنيته إذا مقل في الطعام الحار يموت، فلو أوجب التنجيس لكان الأمر بالمقل أمرا بإفساد المال وإضاعته، مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وأنه متناقض، وحاشا أن يتناقض كلامه، ولأنا لو حكمنا بنجاستها لوقع الناس في الحرج; لأنه يتعذر صون الأواني عنها فأشبه موت الدودة المتولدة عن الخل فيه، وبه تبين أن النص لم يتناول محل الضرورة والحرج، مع ما أن السمك والجراد مخصوصان عن النص إذ هما ميتتان بنص النبي صلى الله عليه وسلم والمخصص انعدام الدم المسفوح، والدم المسفوح ههنا منعدم.
وأما" الذي له دم سائل فلا خلاف في الأجزاء التي فيها دم من اللحم والشحم والجلد ونحوها أنها نجسة; لاحتباس الدم النجس فيها، وهو الدم المسفوح. "وأما" الأجزاء التي لا دم فيها فإن كانت صلبة كالقرن والعظم والسن والحافر، والخف والظلف والشعر والصوف، والعصب والإنفحة الصلبة، فليست بنجسة عند أصحابنا. وقال الشافعي: "الميتات كلها نجسة" لظاهر قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} والحرمة لا للاحترام دليل النجاسة، ولأصحابنا طريقان: أحدهما أن هذه الأشياء ليست بميتة; لأن الميتة من الحيوان في عرف الشرع اسم لما زالت حياته لا بصنع أحد من العباد، أو بصنع غير مشروع ولا حياة في هذه الأشياء فلا تكون ميتة، والثاني أن نجاسة الميتات ليست لأعيانها بل لما فيها من الدماء السائلة والرطوبات النجسة ولم توجد في هذه الأشياء، وعلى هذا ما أبين من الحي من هذه الأجزاء وإن كان المبان جزءا فيه دم كاليد والأذن والأنف ونحوها، فهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن فيه دم كالشعر والصوف والظفر ونحوها، فهو على الاختلاف. وأما الإنفحة المائعة واللبن فطاهران عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد نجسان، "لهما" أن اللبن وإن كان طاهرا في نفسه لكنه صار نجسا لمجاورة النجس، ولأبي حنيفة قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} وصف اللبن مطلقا بالخلوص والسيوغ مع خروجه من بين فرث ودم، وذا آية الطهارة وكذا الآية خرجت مخرج الامتنان والمنة في موضع النعمة تدل على الطهارة، وبه تبين أنه لم يخالطه النجس، إذ لا خلوص مع النجاسة، ثم ما ذكرنا من الحكم في أجزاء الميتة التي لا دم فيها من غير الآدمي والخنزير، فأما حكمها فيهما: فأما الآدمي: فعن أصحابنا فيه روايتان: في رواية نجسة لا يجوز بيعها والصلاة معها إذا كان أكثر من قدر الدرهم وزنا أو عرضا على حسب ما يليق به، ولو وقع في الماء القليل يفسده وفي رواية طاهر وهي الصحيحة; لأنه لا دم فيها، والنجس هو الدم; ولأنه يستحيل أن تكون طاهرة من الكلب نجسة من الآدمي المكرم إلا أنه لا يجوز بيعها ويحرم الانتفاع بها احتراما للآدمي، كما إذا طحن سن الآدمي مع الحنطة أو عظمه لا يباح تناول الخبز المتخذ من دقيقها لا لكونه نجسا بل تعظيما له كي لا يصير متناولا من أجزاء الآدمي كذا هذا.
وأما" الخنزير: فقد روي عن أبي حنيفة أنه نجس العين، لأن الله تعالى: وصفه بكونه رجسا فيحرم استعمال شعره وسائر أجزائه، إلا أنه رخص في شعره للخرازين للضرورة. وروي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه كره ذلك أيضا نصا ولا يجوز بيعها في الروايات كلها، ولو وقع شعره في الماء القليل، روي عن أبي يوسف أنه ينجس الماء، وعن محمد أنه لا ينجس ما لم يغلب على الماء كشعر غيره. وروي عن أصحابنا في غير رواية الأصول أن هذه الأجزاء منه طاهرة; لانعدام الدم فيها، والصحيح أنها نجسة; لأن نجاسة الخنزير ليست لما فيه من الدم والرطوبة بل لعينه.
وأما" الكلب فالكلام فيه بناء على أنه نجس العين أم لا وقد اختلف مشايخنا فيه فمن قال: إنه نجس العين فقد ألحقه بالخنازير، فكان حكمه حكم الخنزير ومن قال: إنه ليس بنجس العين فقد جعله مثل سائر الحيوانات سوى الخنزير وهذا هو الصحيح لما نذكر.
ومنها" سؤر الكلب والخنزير عند عامة العلماء، وجملة الكلام في الأسآر أنها أربعة أنواع: نوع طاهر متفق على طهارته من غير كراهة، ونوع مختلف في طهارته ونجاسته، ونوع مكروه، ونوع مشكوك فيه.
أما" السؤر الطاهر المتفق على طهارته فسؤر الآدمي بكل حال مسلما كان أو مشركا، صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى، طاهرا أو نجسا حائضا أو جنبا، إلا في حال شرب الخمر; لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتي بعس من لبن فشرب بعضه وناول الباقي أعرابيا كان على

 

ج / 1 ص -64-         يمينه فشرب، ثم ناوله أبا بكر فشرب. وروي أن عائشة رضي الله عنها شربت من إناء في حال حيضها فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمه على موضع فمها حبا لها فشرب; ولأن سؤره متحلب من لحمه ولحمه طاهر فكان سؤره طاهرا إلا في حال شرب الخمر; لنجاسة فمه، وقيل: هذا إذا شرب الماء من ساعته، فأما إذا شرب الماء بعد ساعة معتبرة ابتلع بزاقه فيها ثلاث مرات، يكون طاهرا عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على مسألتين: إحداهما إزالة النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن بما سوى الماء من المائعات الطاهرة والثانية إزالة النجاسة الحقيقية بالغسل في الأواني ثلاث مرات وأبو يوسف مع أبي حنيفة في المسألة الأولى، ومع محمد في المسألة الثانية، لكن اتفق جوابهما في هذه المسألة لأصلين مختلفين: أحدهما أن الصب شرط عند أبي يوسف ولم يوجد. والثاني أن ما سوى الماء من المائعات ليس بطهور عند محمد وبعض أصحاب الظواهر كرهوا سؤر المشرك لظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وعندنا هو محمول على نجاسة خبث الاعتقاد; بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا مشركين، ولو كان عينهم نجسا لما فعل مع أمره بتطهير المسجد، وإخباره عن انزواء المسجد من النخامة مع طهارتها وكذا سؤر ما يؤكل لحمه من الأنعام والطيور إلا الإبل الجلالة والبقرة الجلالة والدجاجة المخلاة; لأن سؤره متولد من لحمه، ولحمه طاهر. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بسؤر بعير أو شاة، إلا أنه يكره سؤر الإبل الجلالة والبقرة الجلالة والدجاجة المخلاة; لاحتمال نجاسة فمها ومنقارها; لأنها تأكل النجاسة، حتى لو كانت محبوسة لا يكره، "وصفة" الدجاجة المحبوسة أن لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها فإن كان يصل فهي مخلاة; لأن احتمال بحث النجاسة قائم. وأما سؤر الفرس فعلى قول أبي يوسف ومحمد طاهر; لطهارة لحمه، وعن أبي حنيفة روايتان: كما في لحمه في رواية الحسن نجس كلحمه، وفي ظاهر الرواية طاهر كلحمه، وهي رواية أبي يوسف عنه وهو الصحيح; لأن كراهة لحمه لا لنجاسته بل لتقليل إرهاب العدو، وآلة الكر والفر، وذلك منعدم في السؤر والله أعلم.
وأما" السؤر المختلف في طهارته ونجاسته فهو سؤر الخنزير والكلب وسائر سباع الوحش، فإنه نجس عند عامة العلماء، وقال مالك: "طاهر" وقال الشافعي: "سؤر السباع كلها طاهر سوى الكلب والخنزير". "أما" الكلام مع مالك فهو يحج بظاهر قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أباح الانتفاع بالأشياء كلها، ولا يباح الانتفاع إلا بالطاهر، إلا أنه حرم أكل بعض الحيوانات، وحرمة الأكل لا تدل على النجاسة كالآدمي، وكذا الذباب والعقرب والزنبور ونحوها طاهرة ولا يباح أكلها، إلا أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب مع طهارته تعبدا، ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه ثلاثا، وفي رواية خمسا، وفي رواية سبعا" والأمر بالغسل لم يكن تعبدا، إذ لا قربة تحصل بغسل الأواني; ألا ترى أنه لو لم يقصد صب الماء فيه في المستقبل لا يلزمه الغسل، فعلم أنه لنجاسته; ولأن سؤر هذه الحيوانات متحلب من لحومها، ولحومها نجسة ويمكن التحرز عن سؤرها وصيانة الأواني عنها; فيكون نجسا ضرورة. "وأما" الكلام مع الشافعي فهو يحتج بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: "نعم وبما أفضلت السباع كلها" وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المياه التي بين مكة والمدينة وما يردها من السباع فقال صلى الله عليه وسلم: لها "ما حملت في بطونها، وما بقي فهو لنا شراب وطهور" وهذا نص. "ولنا" ما روي عن عمر وعمرو بن العاص أنهما وردا حوضا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: أترد السباع حوضكم؟ فقال عمر رضي الله عنه: يا صاحب الحوض لا تخبرنا ولو لم يتنجس الماء القليل بشربها منه لم يكن للسؤال ولا للنهي معنى; ولأن هذا حيوان غير مأكول اللحم ويمكن صون الأواني عنها، ويختلط بشربها لعابها بالماء، ولعابها نجس; لتحلبه من لحمها وهو نجس، فكان سؤرها نجسا كسؤر الكلب والخنزير بخلاف الهرة، لأن صيانة الأواني عنها غير ممكن وتأويل الحديثين أنه كان قبل تحريم لحم السباع، أو السؤال وقع عن المياه الكثيرة وبه نقول: إن مثلها لا ينجس.
وأما" السؤر المكروه فهو سؤر سباع الطير، كالبازي والصقر والحدأة ونحوها

 

ج / 1 ص -65-         استحسانا، والقياس أن يكون نجسا اعتبارا بلحمها كسؤر سباع الوحش، وجه الاستحسان أنها تشرب بمنقارها وهو عظم جاف فلم يختلط لعابها بسؤرها بخلاف سؤر سباع الوحش; ولأن صيانة الأواني عنها متعذرة; لأنها تنقض من الهواء فتشرب بخلاف سباع الوحش، إلا أنه يكره; لأن الغالب أنها تتناول الجيف والميتات فكان منقارها في معنى منقار الدجاجة المخلاة، "وكذا" سؤر سواكن البيوت كالفأرة والحية والوزغة والعقرب ونحوها، "وكذا" سؤر الهرة في رواية الجامع الصغير وذكر في كتاب الصلاة: أحب إلي أن يتوضأ بغيره ولم يذكر الكراهة، وعن أبي يوسف والشافعي لا يكره، "واحتجا" بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصغي لها الإناء فتشرب منه، ثم يشرب ويتوضأ به ولأبي حنيفة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الهرة سبع" وهذا بيان حكمها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا، ومن ولوغ الهرة مرة" والمعنى في كراهته من وجهين: أحدهما: ما ذكره الطحاوي وهو أن الهرة نجسة لنجاسة لحمها، لكن سقطت نجاسة سؤرها; لضرورة الطواف فبقيت الكراهة لإمكان التحرز في الجملة، والثاني: ما ذكره الكرخي وهو أنها ليست بنجسة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عنها النجاسة بقوله: "الهرة ليست بنجسة" ولكن الكراهة لتوهم أخذها الفأرة فصار فمها كيد المستيقظ من نومه، وما روي من الحديث يحتمل أنه كان قبل تحريم السباع، ثم نسخ على مذهب الطحاوي، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من طريق الوحي أن تلك الهرة لم يكن على فمها نجاسة على مذهب الكرخي أو يحمل فعله صلى الله عليه وسلم على بيان الجواز، وعلى هذا تناول بقية طعام أكلته وتركها لتلحس القدر إن ذلك محمول على تعليم الجواز ولو أكلت الفأرة، ثم شربت الماء قال أبو حنيفة: "إن شربته على الفور تنجس الماء وإن مكثت، ثم شربت لا يتنجس" وقال أبو يوسف ومحمد: يتنجس بناء على ما ذكرنا من الأصلين في سؤر شارب الخمر والله أعلم.
وأما" السؤر المشكوك فيه فهو سؤر الحمار والبغل في جواب ظاهر الرواية، وروى الكرخي عن أصحابنا أن سؤرهما نجس. وقال الشافعي: "ظاهر وجه قوله أن عرقه طاهر"; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار معروريا والحر حر الحجاز فقلما يسلم الثوب من عرقه، وكان يصلي فيه فإذا كان العرق طاهرا فالسؤر أولى وجه رواية الكرخي: أن الأصل في سؤره النجاسة; لأن سؤره لا يخلو عن لعابه، ولعابه متحلب من لحمه، ولحمه نجس، فلو سقط اعتبار نجاسته إنما يسقط لضرورة المخالطة، والضرورة متعارضة؛ لأنه ليس في المخالطة كالهرة ولا في المجانبة كالكلب، فوقع الشك في سقوط حكم الأصل فلا يسقط بالشك وجه ظاهر الرواية أن الآثار تعارضت في طهارة سؤره ونجاسته عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: الحمار يعتلف القت والتبن فسؤره طاهر وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: إنه رجس وكذا تعارضت الأخبار في أكل لحمه ولبنه، روي في بعضها النهي، وفي بعضها الإطلاق، وكذا اعتبار عرقه يوجب طهارة سؤره، واعتبار لحمه ولبنه يوجب نجاسته، وكذا تحقق أصل الضرورة لدورانه في صحن الدار وشربه في الإناء يوجب طهارته، وتقاعدها عن ضرورة الهرة باعتبار أنه لا يعلو الغرف ولا يدخل المضايق يوجب نجاسته، والتوقف في الحكم عند تعارض الأدلة واجب، فلذلك كان مشكوكا فيه فأوجبنا الجمع بين التيمم وبين التوضؤ به احتياطا؛ لأن التوضؤ به لو جاز لا يضره التيمم، ولو لم يجز التوضؤ به جازت صلاته بالتيمم، فلا يحصل الجواز بيقين إلا بالجمع بينهما، وأيهما قدم جاز عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر لا يجوز، حتى يقدم الوضوء على التيمم ليصير عادما للماء، والصحيح قول أصحابنا الثلاثة; لما ذكرنا أنه إن كان طاهرا فقد توضأ به قدم أو أخر، وإن كان نجسا ففرضه التيمم وقد أتى به فإن قيل: في هذا ترك الاحتياط من وجه آخر; لأن على تقدير كونه نجسا تتنجس به أعضاؤه وثيابه، فالجواب: أن الحدث كان ثابتا بيقين فلا تحصل الطهارة بالشك، والعضو والثوب كل واحد منهما كان طاهرا بيقين فلا يتنجس بالشك. وقال بعضهم: "الشك في طهوريته"، ثم من مشايخنا من جعل هذا الجواب في سؤر الأتان، وقال في سؤر الفحل: "إنه نجس"، لأنه يشم البول فتتنجس شفتاه وهذا غير سديد; لأنه

 

ج / 1 ص -66-         أمر موهوم لا يغلب وجوده فلا يؤثر في إزالة الثابت ومن مشايخنا من جعل الأسآر خمسة أقسام، أربعة منها ما ذكرنا وجعل الخامس منها السؤر النجس المتفق على نجاسته، وهو سؤر الخنزير وليس كذلك; لأن في الخنزير خلاف مالك كما في الكلب فانحصرت القسمة على أربعة.
ومنها" الخمر والسكر أما الخمر; فلأن الله تعالى: سماه رجسا في آية تحريم الخمر فقال:
{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} والرجس: هو النجس; ولأن كل واحد منهما حرام والحرمة لا للاحترام دليل النجاسة
ومنها" غسالة النجاسة الحقيقية، وجملة الكلام أن غسالة النجاسة نوعان: غسالة النجاسة الحقيقية، وغسالة النجاسة الحكمية وهي الحدث أما غسالة النجاسة الحقيقية وهي ما إذا غسلت النجاسة الحقيقية ثلاث مرات فالمياه الثلاث نجسة; لأن النجاسة انتقلت إليها إذ لا يخلو كل ماء عن نجاسة فأوجب تنجيسها وحكم المياه الثلاث في حق المنع من جواز التوضؤ بها، والمنع من جواز الصلاة بالثوب الذي أصابته سواء لا يختلف وأما في حق تطهير المحل الذي أصابته فيختلف حكمها، حتى قال مشايخنا: "إن الماء الأول إذا أصاب ثوبا لا يطهر إلا بالعصر، والغسل مرتين بعد العصر، والماء الثاني يطهر بالغسل مرة بعد العصر، والماء الثالث يطهر بالعصر لا غير; لأن حكم كل ماء حين كان في الثوب الأول كان هكذا، فكذا في الثوب الذي أصابه، واعتبروا ذلك بالدلو المنزوح من البئر النجسة إذا صب في بئر طاهرة أن الثانية تطهر بما تطهر به الأولى كذا هذا، وهل يجوز الانتفاع بالغسالة فيما سوى الشرب والتطهير من بل الطين وسقي الدواب ونحو ذلك؟ فإن كان قد تغير طعمها أو لونها أو ريحها لا يجوز الانتفاع; لأنه لما تغير دل أن النجس غالب فالتحق بالبول، وإن لم يتغير شيء من ذلك يجوز؛ لأنه لما لم يتغير دل أن النجس لم يغلب على الطاهر، والانتفاع بما ليس بنجس العين مباح في الجملة، وعلى هذا إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه أنه إن كان جامدا تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي، وإن كان ذائبا لا يؤكل ولكن يستصبح به ويدبغ به الجلد ويجوز بيعه، وينبغي للبائع أن يبين عيبه فإن لم يبين وباعه ثم علم به المشتري فهو بالخيار إن شاء رده وإن شاء رضي به وقال الشافعي رحمه الله: "لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به". "واحتج" بما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال:
إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وكلوا الباقي، وإن كان ذائبا فأريقوه ولو جاز الانتفاع به لما أمر بإراقته ولأنه نجس فلا يجوز الانتفاع به ولا بيعه كالخمر،. "ولنا" ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال: "تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي، فقيل: يا رسول الله أرأيت لو كان السمن ذائبا؟ فقال: لا تأكلوا ولكن انتفعوا به" وهذا نص في الباب; ولأنها في الجامد لا تجاور إلا ما حولها وفي الذائب تجاور الكل، فصار الكل نجسا، وأكل النجس لا يجوز فأما الانتفاع بما ليس بنجس العين فمباح كالثوب النجس وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء ما حولها في الجامد، وإراقة الذائب في حديث أبي موسى لبيان حرمة الأكل; لأن معظم الانتفاع بالسمن هو الأكل والحد الفاصل بين الجامد والذائب: أنه إن كان بحال لوقور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته، فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب، وإذا دبغ به الجلد يؤمر بالغسل، ثم إن كان ينعصر بالعصر يغسل ويعصر ثلاث مرات، وإن كان لا ينعصر لا يطهر عند محمد أبدا، وعند أبي يوسف يغسل ثلاث مرات ويجفف في كل مرة، وعلى هذا مسائل نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى:.
وأما" غسالة النجاسة الحكمية وهي الماء المستعمل فالكلام في الماء المستعمل يقع في ثلاثة مواضع: أحدها في صفته أنه طاهر أم نجس؟ والثاني في أنه في أي حال يصير مستعملا ؟ والثالث في أنه بأي سبب يصير مستعملا؟ "أما" الأول فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يجوز التوضؤ به ولم يذكر أنه طاهر أم نجس؟ وروى محمد عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور وبه أخذ الشافعي، وهو أظهر أقوال الشافعي، وروى أبو يوسف والحسن بن زياد عنه أنه نجس، غير أن الحسن روى عنه أنه نجس نجاسة غليظة يقدر فيه بالدرهم وبه أخذ وأبو يوسف روي عنه أنه نجس نجاسة خفيفة يقدر فيه بالكثير الفاحش وبه أخذ وقال زفر: إن كان المستعمل متوضئا فالماء المستعمل طاهر وطهور، وإن كان محدثا فهو طاهر غير طهور وهو أحد أقاويل الشافعي، وفي

 

ج / 1 ص -67-         قول له أنه طاهر وطهور بكل حال، وهو قول مالك، ثم مشايخ بلخ حققوا الخلاف فقالوا: الماء المستعمل نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد طاهر غير طهور، ومشايخ العراق لم يحققوا الخلاف فقالوا: إنه طاهر غير طهور عند أصحابنا، حتى روي عن القاضي أبي حازم العراقي أنه كان يقول: إنا نرجو أن لا تثبت رواية نجاسة الماء المستعمل عن أبي حنيفة، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، وجه قول من قال: إنه طهور; وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" ولم يوجد التغير بعد الاستعمال; ولأن هذا ماء طاهر لاقى عضوا طاهرا فلا يصير نجسا كالماء الطاهر إذا غسل به ثوب طاهر، والدليل على أنه لاقى محلا طاهرا أن أعضاء المحدث طاهرة حقيقة وحكما، أما الحقيقة; فلانعدام النجاسة الحقيقية حسا ومشاهدة. وأما الحكم; فلما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر في بعض سكك المدينة، فاستقبله حذيفة بن اليمان، فاراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصافحه فامتنع وقال: "إني جنب يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "ناوليني الخمرة" ، فقالت: "إني حائض"، فقال: "ليست حيضتك في يدك"; ولهذا جاز صلاة حامل المحدث والجنب، وحامل النجاسة لا تجوز صلاته، وكذلك عرقه طاهر وسؤره طاهر وإذا كانت أعضاء المحدث طاهرة كان الماء الذي لاقاها طاهرا ضرورة لأن الطاهر لا يتغير عما كان عليه إلا بانتقال شيء من النجاسة إليه، ولا نجاسة في المحل على ما مر، فلا يتصور الانتقال فبقي طاهرا، وبهذا يحتج محمد لإثبات الطهارة إلا أنه لا يجوز التوضؤ به; لأنا تعبدنا باستعمال الماء عند القيام إلى الصلاة شرعا غير معقول التطهير; لأن تطهير الطاهر محال، والشرع ورد باستعمال الماء المطلق وهو الذي لا يقوم به خبث، ولا معنى يمنع جواز الصلاة وقد قام بالماء المستعمل أحد هذين المعنيين، أما على قول محمد; فلأنه أقيم به قربة إذا توضأ لأداء الصلاة; لأن الماء إنما يصير مستعملا بقصد التقرب عنده وقد ثبت بالأحاديث أن الوضوء سبب لإزالة الآثام عن المتوضئ للصلاة، فينتقل ذلك إلى الماء، فيتمكن فيه نوع خبث كالمال الذي تصدق به; ولهذا سميت الصدقة غسالة الناس وأما على قول زفر; فلأنه قام به معنى مانع من جواز الصلاة وهو الحدث; لأن الماء عنده إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث. وقد انتقل الحدث من البدن إلى الماء، ثم الخبث والحدث وإن كانا من صفات المحل، والصفات لا تحتمل الانتقال لكن ألحق ذلك بالعين النجسة القائمة بالمحل حكما والأعيان الحقيقية قابلة للانتقال فكذا ما هو ملحق بها شرعا، وإذا قام بهذا الماء أحد هذين المعنيين لا يكون في معنى الماء المطلق، فيقتصر الحكم عليه على الأصل المعهود أن ما لا يعقل من الأحكام يقتصر على المنصوص عليه ولا يتعدى إلى غيره إلا إذا كان في معناه من كل وجه، ولم يوجد أوجه رواية النجاسة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من جنابة" حرم الاغتسال في الماء القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى، لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال، وذا يقتضي التنجيس به، ولا يقال: إنه يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا من غير ضرورة وذلك حرام; لأنا نقول: "الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبا عليه، كماء الورد واللبن ونحو ذلك، فأما إذا كان مغلوبا فلا. وههنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن، ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا؟ فأما ملاقاة النجس الطاهر فتوجب تنجيس الطاهر; وإن لم يغلب على الطاهر لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما فيحكم بنجاسة الكل، فثبت أن النهي لما قلنا ولا يقال: إنه يحتمل أنه نهي; لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية، وذا يوجب تنجيس الماء القليل; لأنا نقول: الحديث مطلق فيجب العمل بإطلاقه; ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون; لأنه هو المتعارف فيما بين المسلمين، والمسنون منه هو إزالة النجاسة الحقيقية عن البدن قبل الاغتسال، على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي عن البول فيه

 

ج / 1 ص -68-         فوجب حمل النهي عن الاغتسال فيه على ما ذكرنا صيانة لكلام صاحب الشرع عن الإعادة الخالية عن الإفادة; ولأن هذا مما تستخبثه الطباع السليمة فكان محرما لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} والحرمة لا للاحترام دليل النجاسة; ولأن الأمة أجمعت على أن من كان في السفر ومعه ماء يكفيه لوضوئه وهو بحال يخاف على نفسه العطش يباح له التيمم. ولو بقي الماء طاهرا بعد الاستعمال لما أبيح; لأنه يمكنه أن يتوضأ ويأخذ الغسالة في إناء نظيف ويمسكها للشرب، والمعنى في المسألة من وجهين: أحدهما: في المحدث خاصة والثاني: يعم الفصلين أما الأول; فلأن الحدث هو خروج شيء نجس من البدن وبه يتنجس بعض البدن حقيقة فيتنجس الباقي تقديرا; ولهذا أمرنا بالغسل والوضوء; وسمي تطهيرا، وتطهير الطاهر لا يعقل، فدل تسميتها تطهيرا على النجاسة تقديرا; ولهذا لا يجوز له أداء الصلاة التي هي من باب التعظيم، ولولا النجاسة المانعة من التعظيم لجازت، فثبت أن على أعضاء المحدث نجاسة تقديرية، فإذا توضأ انتقلت تلك النجاسة إلى الماء فيصير الماء نجسا تقديرا وحكما، والنجس قد يكون حقيقيا وقد يكون حكميا كالخمر والثاني ما ذكرنا أنه يزيل نجاسة الآثام وخبثها فنزل ذلك منزلة خبث الخمر إذا أصاب الماء ينجسه كذا هذا، ثم إن أبا يوسف جعل نجاسته خفيفة; لعموم البلوى فيه; لتعذر صيانة الثياب عنه ولكونه محل الاجتهاد فأوجب ذلك خفة في حكمه والحسن جعل نجاسته غليظة; لأنها نجاسة حكمية; وأنها أغلظ من الحقيقة، ألا ترى أنه عفي عن القليل من الحقيقية دون الحكمية بأن بقي على جسده لمعة يسيرة، وعلى هذا الأصل ينبني أن التوضؤ في المسجد مكروه، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: "لا بأس به، إذا لم يكن عليه قذر"، فمحمد مر على أصله أنه طاهر، وأبو يوسف مر على أصله أنه نجس. وأما عند أبي حنيفة فعلى رواية النجاسة لا يشكل. وأما على رواية الطهارة; فلأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم، ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل؟ قال بعضهم: "لا يجوز التوضؤ به وإن قل" وهذا فاسد، أما عند محمد فلأنه طاهر لم يغلب على الماء المطلق فلا يغيره عن صفة الطهورية كاللبن. وأما عندهما فلأن القليل مما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا; ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه حين سئل عن القليل منه: "لا بأس به" وسئل الحسن البصري عن القليل فقال: "ومن يملك نشر الماء" ؟ وهو ما تطاير منه عند الوضوء وانتشر أشار إلى تعذر التحرز عن القليل، فكان القليل عفوا، ولا تعذر في الكثير فلا يكون عفوا، ثم الكثير عند محمد ما يغلب على الماء المطلق، وعندهما أن يتبين مواقع القطرة في الإناء.
وأما" بيان حال الاستعمال وتفسير الماء المستعمل فقال بعض مشايخنا: "الماء المستعمل: ما زايل البدن واستقر في مكان" وذكر في الفتاوى: أن الماء إذا زال عن البدن لا ينجس ما لم يستقر على الأرض أو في الإناء، وهذا مذهب سفيان الثوري فأما عندنا فما دام على العضو الذي استعمله فيه لا يكون مستعملا، وإذا زايله صار مستعملا وإن لم يستقر على الأرض أو في الإناء، فإنه ذكر في الأصل إذا مسح رأسه بماء أخذه من لحيته لم يجزه، وإن لم يستقر على الأرض أو في الإناء، وذكر في باب المسح على الخفين أن من مسح على خفيه وبقي في كفه بلل فمسح به رأسه لا يجزيه، وعلل بأن هذا ماء قد مسح به مرة أشار إلى صيرورته مستعملا وإن لم يستقر على الأرض أو في الإناء، وقالوا فيمن توضأ وبقي على رجله لمعة فغسلها ببلل أخذه من عضو آخر: لا يجوز، وإن لم يوجد الاستقرار على المكان، فدل على أن المذهب ما قلنا. "أما" سفيان فقد استدل بمسائل زعم أنها تدل على صحة ما ذهب إليه "منها": إذا توضأ أو اغتسل وبقي على يده لمعة فأخذ البلل منها في الوضوء أو من أي عضو كان في الغسل وغسل اللمعة يجوز. "ومنها": إذا توضأ وبقي في كفه بلل فمسح به رأسه يجوز، وإن زايل العضو الذي استعمله فيه لعدم الاستقرار في مكان. "ومنها": إذا مسح أعضاءه بالمنديل وابتل، حتى صار كثيرا فاحشا أو تقاطر الماء على ثوب مقدار الكثير الفاحش جازت الصلاة معه ولو أعطي له حكم الاستعمال عند المزايلة لما جازت. "ولنا" أن القياس أن يصير الماء مستعملا بنفس الملاقاة; لما ذكرنا فيما تقدم أنه وجد سبب صيرورته مستعملا وهو إزالة الحدث أو استعماله على وجه القربة. وقد حصل ذلك بمجرد الملاقاة فكان ينبغي أن يؤخذ لكل جزء من العضو جزء من الماء، إلا أن في ذلك حرجا، فالشرع أسقط

 

ج / 1 ص -69-         اعتبار حالة الاستعمال في عضو واحد حقيقة أو في عضو واحد حكما، كما في الجنابة ضرورة دفع الحرج، فإذا زايل العضو زالت الضرورة فيظهر حكم الاستعمال بقضية القياس. وقد خرج الجواب عن المسألة الأولى "وأما" المسألة الثانية: فقد ذكر الحاكم الجليل أنها على التفصيل: إن لم يكن استعمله في شيء من أعضائه يجوز، أما إذا كان استعمله لا يجوز، والصحيح أنه يجوز وإن استعمله في المغسولات; لأن فرض الغسل إنما تأدى بماء جرى على عضوه لا بالبلة الباقية، فلم تكن هذه البلة مستعملة، بخلاف ما إذا استعمله في المسح على الخف، ثم مسح به رأسه حيث لا يجوز; لأن فرض المسح يتأدى بالبلة وتفصيل الحاكم محمول على هذا، وما مسح بالمنديل أو تقاطر على الثوب فهو مستعمل، إلا أنه لا يمنع جواز الصلاة; لأن الماء المستعمل طاهر عند محمد وهو المختار، وعندهما وإن كان نجسا لكن سقوط اعتبار نجاسته ههنا لمكان الضرورة.
وأما" بيان سبب صيرورة الماء مستعملا، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف الماء إنما يصير مستعملا بأحد أمرين: إما بإزالة الحدث، أو بإقامة القربة وعند محمد لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة، وعند زفر والشافعي لا يصير مستعملا إلا بإزالة الحدث وهذا الاختلاف لم ينقل عنهم نصا لكن مسائلهم تدل عليه، والصحيح قول أبي حنيفة وأبي يوسف; لما ذكرنا من زوال المانع من الصلاة إلى الماء واستخباث الطبيعة إياه في الفصلين جميعا إذا عرفنا هذا، فنقول: "إذا توضأ بنية إقامة القربة نحو الصلاة المعهودة وصلاة الجنازة ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن ونحوها، فإن كان محدثا صار الماء مستعملا بلا خلاف; لوجود السببين وهو إزالة الحدث وإقامة القربة جميعا، وإن لم يكن محدثا يصير مستعملا عند أصحابنا الثلاثة; لوجود إقامة القربة لكون الوضوء على الوضوء نورا على نور، وعند زفر والشافعي لا يصير مستعملا; لانعدام إزالة الحدث. ولو توضأ أو اغتسل للتبرد فإن كان محدثا صار الماء مستعملا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والشافعي; لوجود إزالة الحدث وعن محمد لا يصير مستعملا لعدم إقامة القربة، وإن لم يكن محدثا لا يصير مستعملا بالاتفاق على اختلاف الأصول، ولو توضأ بالماء المقيد كماء الورد ونحوه لا يصير مستعملا بالإجماع; لأن التوضؤ به غير جائز، فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة، وكذا إذا غسل الأشياء الطاهرة من النبات والثمار والأواني والأحجار ونحوها، أو غسل يده من الطين والوسخ، وغسلت المرأة يدها من العجين أو الحناء ونحو ذلك، لا يصير مستعملا; لما قلنا، ولو غسل يده للطعام أو من الطعام لقصد إقامة السنة صار الماء مستعملا; لأن إقامة السنة قربة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الوضوء قبل الطعام بركة، وبعده ينفي اللمم" ولو توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم زاد على ذلك فإن أراد بالزيادة ابتداء الوضوء صار الماء مستعملا; لما قلنا، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول اختلف المشايخ فيه فقال بعضهم: "لا يصير مستعملا; لأن الزيادة على الثلاث من باب التعدي بالنص وقال بعضهم: "يصير مستعملا; لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء فكانت قربة. ولو أدخل جنب أو حائض أو محدث يده في الإناء قبل أن يغسلها وليس عليها قذر، أو شرب الماء منه، فقياس أصل أبي حنيفة وأبي يوسف أن يفسد، وفي الاستحسان لا يفسد وجه القياس: أن الحدث زال عن يده بإدخالها في الماء وكذا عن شفته فصار مستعملا، وجه الاستحسان: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نغتسل من إناء واحد" وربما كانت تتنازع فيه الأيدي وروينا أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تشرب من إناء وهي حائض، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من ذلك الإناء، وكان يتتبع مواضع فمها حبا لها; ولأن التحرز عن إصابة الحدث والجنابة والحيض غير ممكن، وبالناس حاجة إلى الوضوء والاغتسال والشرب، وكل واحد لا يملك الإناء ليغترف الماء من الإناء العظيم، ولا كل أحد يملك أن يتخذ آنية على حدة للشرب فيحتاج إلى الاغتراف باليد والشرب من كل آنية، فلو لم يسقط اعتبار نجاسة اليد والشفة; لوقع الناس في الحرج، حتى لو أدخل رجله فيه يفسد الماء; لانعدام الحاجة إليه في الإناء; ولو أدخلها في البئر لم يفسده; كذا ذكر أبو يوسف في الأمالي; لأنه يحتاج إلى ذلك في البئر لطلب الدلو فجعل عفوا، ولو أدخل في الإناء أو البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده; لأنه لا حاجة إليه. وعلى هذا الأصل تخرج مسألة البئر إذا انغمس الجنب فيها لطلب الدلو لا بنية الاغتسال، وليس على

 

ج / 1 ص -70-         بدنه نجاسة حقيقية والجملة فيه أن الرجل المنغمس لا يخلو: إما أن يكون طاهرا، أو لم يكن بأن كان على بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية كالجنابة والحدث، وكل وجه على وجهين إما أن ينغمس لطلب الدلو، أو للتبرد، أو للاغتسال، وفي المسألة حكمان: حكم الماء الذي في البئر، وحكم الداخل فيها، فإن كان طاهرا وانغمس لطلب الدلو أو للتبرد لا يصير مستعملا بالإجماع; لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة، وإن انغمس فيها للاغتسال صار الماء مستعملا عند أصحابنا الثلاثة; لوجود إقامة القربة، وعند زفر والشافعي لا يصير مستعملا; لانعدام إزالة الحدث، والرجل طاهر في الوجهين جميعا وإن لم يكن طاهرا، فإن كان على بدنه نجاسة حقيقية وهو جنب أو لا فانغمس في ثلاثة آبار أو أكثر من ذلك; لا يخرج من الأولى والثانية طاهرا بالإجماع، ويخرج من الثالثة طاهرا عند أبي حنيفة ومحمد، والمياه الثلاثة نجسة لكن نجاستها على التفاوت على ما ذكرنا. وعند أبي يوسف المياه كلها نجسة، والرجل نجس سواء انغمس لطلب الدلو أو التبرد أو الاغتسال، وعندهما إن انغمس لطلب الدلو أو التبرد فالمياه باقية على حالها، وإن كان الانغماس للاغتسال فالماء الرابع فصاعدا مستعمل؛ لوجود إقامة القربة، وإن كان على يده نجاسة حكمية فقط فإن أدخلها لطلب الدلو أو التبرد يخرج من الأولى طاهرا، عند أبي حنيفة ومحمد هو الصحيح; لزوال الجنابة بالانغماس مرة واحدة، وعند أبي يوسف هو نجس ولا يخرج طاهرا أبدا. وأما حكم المياه: فالماء الأول مستعمل عند أبي حنيفة; لوجود إزالة الحدث، والبواقي على حالها; لانعدام ما يوجب الاستعمال أصلا وعند أبي يوسف ومحمد المياه كلها على حالها، أما عند محمد فظاهر; لأنه لم يوجد إقامة القربة بشيء منها وأما أبو يوسف فقد ترك أصله عند الضرورة على ما يذكر، وروى بشر عنه أن المياه كلها نجسة، وهو قياس مذهبه، والحاصل أن عند أبي حنيفة ومحمد يطهر النجس بوروده على الماء القليل، كما يطهر بورود الماء عليه بالصب سواء كان حقيقيا أو حكميا على البدن أو على غيره، غير أن النجاسة الحقيقية لا تزول إلا بالملاقاة ثلاث مرات والحكمية تزول بالمرة الواحدة. وعند أبي يوسف لا يطهر النجس عن البدن بوروده على الماء القليل الراكد قولا واحدا، وله في الثوب قولان، أما الكلام في النجاسة الحقيقية في الطرفين فسيأتي في بيان ما يقع به التطهير، وأما النجاسة الحكمية فالكلام فيها على نحو الكلام في الحقيقة، فأبو يوسف يقول: الأصل أن ملاقاة أول عضو المحدث الماء يوجب صيرورته مستعملا، فكذا ملاقاة أول عضو الطاهر الماء على قصد إقامة القربة، وإذا صار الماء مستعملا بأول الملاقاة لا تتحقق طهارة بقية الأعضاء بالماء المستعمل فيجب العمل بهذا الأصل، إلا عند الضرورة كالجنب والمحدث إذا أدخل يده في الإناء لاغتراف الماء لا يصير مستعملا، ولا يزول الحدث إلى الماء لمكان الضرورة، وههنا ضرورة; لحاجة الناس إلى إخراج الدلاء من الآبار فترك أصله لهذه الضرورة; ولأن هذا الماء لو صار مستعملا إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث، ولو أزال الحدث لتنجس، ولو تنجس لا يزيل الحدث، وإذا لم يزل الحدث بقي طاهرا، وإذا بقي طاهرا يزيل الحدث فيقع الدور فقطعنا الدور من الابتداء فقلنا: إنه لا يزيل الحدث عنه، فبقي هو بحاله، والماء على حاله وأبو حنيفة ومحمد يقولان: إن النجاسة تزول بورود الماء عليها، فكذا بورودها على الماء; لأن زوال النجاسة بواسطة الاتصال والملاقاة بين الطاهر والنجس موجودة في الحالين، ولهذا ينجس الماء بعد الانفصال في الحالين جميعا في النجاسة الحقيقية، إلا أن حالة الاتصال لا يعطى لها حكم النجاسة، والاستعمال لضرورة إمكان التطهير، والضرورة متحققة في الصب، إذ كل واحد لا يقدر عليه على كل حال فامتنع ظهور حكمه في هذه الحالة، ولا ضرورة بعد الانفصال فيظهر حكمه، وعلى هذا إذا أدخل رأسه أو خفه أو جبيرته في الإناء وهو محدث، قال أبو يوسف: يجزئه في المسح ولا يصير الماء مستعملا سواء نوى أو لم ينو; لوجود أحد سببي الاستعمال وإنما كان; لأن فرض المسح يتأدى بإصابة البلة إذ هو اسم للإصابة دون الإسالة، فلم يزل شيء من الحدث إلى الماء الباقي في الإناء، وإنما زال إلى البلة، وكذا إقامة القربة تحصل بها فاقتصر حكم الاستعمال عليها. وقال محمد: إن لم ينو المسح يجزئه ولا يصير الماء مستعملا; لأنه لم توجد إقامة القربة فقد مسح بماء غير مستعمل فاجزأه، وإن نوى المسح اختلف المشايخ على قوله قال بعضهم:
 

 

ج / 1 ص -71-         لا يجزئه ويصير الماء مستعملا; لأنه لما لاقى رأسه الماء على قصد إقامة القربة صيره مستعملا، ولا يجوز المسح بالماء المستعمل، والصحيح أنه يجوز ولا يصير الماء مستعملا بالملاقاة; لأن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال بعد الانفصال فلم يكن مستعملا قبله فيجزئه المسح به جنب على يده قذر فأخذ الماء بفمه وصبه عليه، روى المعلى عن أبي يوسف أنه لا يطهر; لأنه صار مستعملا بإزالة الحدث عن الفم، والماء المستعمل لا يزيل النجاسة بالإجماع، وذكر محمد في الآثار أنه يطهر; لأنه لم يقم به قربة فلم يصر مستعملا والله أعلم.

فصل": وأما بيان المقدار الذي يصير به المحل نجسا شرعا: فالنجس لا يخلو إما أن يقع في المائعات كالماء والخل ونحوهما، وإما أن يصيب الثوب والبدن ومكان الصلاة، فإن وقع في الماء، فإن كان جاريا، فإن كان النجس غير مرئي كالبول والخمر ونحوهما لا ينجس، ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضأ منه من أي موضع كان من الجانب الذي وقع فيه النجس أو من جانب آخر، كذا ذكره محمد في كتاب الأشربة لو أن رجلا صب خابية من الخمر في الفرات، ورجل آخر أسفل منه يتوضأ إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه لا يجوز، وإن لم يتغير يجوز وعن أبي حنيفة في الجاهل بال في الماء الجاري، ورجل أسفل منه يتوضأ به قال: لا بأس به وهذا; لأن الماء الجاري مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فالماء الذي يتوضأ به يحتمل أنه نجس، ويحتمل أنه طاهر، والماء طاهر في الأصل فلا نحكم بنجاسته بالشك، وإن كانت النجاسة مرئية كالجيفة ونحوها، فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة لا يجوز التوضؤ من أسفل الجيفة؛ لأنه نجس بيقين، والنجس لا يطهر بالجريان، وإن كان أكثره يجري على الجيفة فكذلك; لأن العبرة للغالب وإن كان أقله يجري على الجيفة، والأكثر يجري على الطاهر يجوز التوضؤ به من أسفل الجيفة; لأن المغلوب ملحق بالعدم في أحكام الشرع، وإن كان يجري عليها النصف أو دون النصف فالقياس أن يجوز التوضؤ به; لأن الماء كان طاهرا بيقين فلا يحكم بكونه نجسا بالشك، وفي الاستحسان لا يجوز احتياطا، وعلى هذا إذا كان النجس عند الميزاب والماء يجري عليه فهو على التفصيل الذي ذكرنا، وإن كانت الأنجاس متفرقة على السطح ولم تكن عند الميزاب، ذكر عيسى بن أبان أنه لا يصير نجسا ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وحكمه حكم الماء الجاري. وقال محمد: إن كانت النجاسة في جانب من السطح أو جانبين منه لا ينجس الماء، ويجوز التوضؤ به، وإن كانت في ثلاثة جوانب ينجس اعتبارا للغالب وعن محمد في ماء المطر إذا مر بعذرات، ثم استنقع في موضع فخاض فيه إنسان، ثم دخل المسجد فصلى لا بأس به، وهو محمول على ما إذا مر أكثره على الطاهر، واختلف المشايخ في حد الجريان قال بعضهم: هو أن يجري بالتبن والورق. وقال بعضهم: "إن كان بحيث لو وضع رجل يده في الماء عرضا لم ينقطع جريانه فهو جار وإلا فلا". وروي عن أبي يوسف كان بحال لو اغترف إنسان الماء بكفيه لم ينحسر وجه الأرض بالاغتراف فهو جار وإلا فلا، وقيل: "ما يعده الناس جاريا فهو جار، وما لا فلا"; وهو أصح الأقاويل، وإن كان راكدا فقد اختلف فيه قال أصحاب الظواهر: "إن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلا سواء كان جاريا أو راكدا، وسواء كان قليلا أو كثيرا، تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير". وقال عامة العلماء: "إن كان الماء قليلا ينجس، وإن كان كثيرا لا ينجس"، لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير قال مالك: إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير وقال الشافعي: "إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير"، والقلتان عنده خمس قرب، كل قربة خمسون منا فيكون جملته مائتين وخمسين منا وقال أصحابنا: "إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير". فأما أصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم "الماء طهور لا ينجسه شيء" "واحتج" مالك بقوله صلى الله عليه وسلم "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" وهو تمام الحديث، أو بنى العام على الخاص عملا بالدليلين "واحتج" الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثا" أي يدفع الخبث عن نفسه قال الشافعي: قال ابن جريج: "أراد بالقلتين قلال هجر، كل قلة يسع فيها قربتان وشيء"، قال الشافعي: "وهو شيء مجهول فقدرته بالنصف احتياطا". "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن

 

ج / 1 ص -72-         يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده" ولو كان الماء لا ينجس بالغمس لم يكن للنهي والاحتياط; لوهم النجاسة معنى، وكذا الأخبار مستفيضة بالأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب مع أنه لا يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من جنابة" من غير فصل بين دائم ودائم وهذا نهي عن تنجيس الماء; لأن البول والاغتسال فيما لا يتنجس لكثرته ليس بمنهي، فدل على كون الماء الدائم مطلقا محتملا للنجاسة، إذ النهي عن تنجيس ما لا يحتمل النجاسة ضرب من السفه، وكذا الماء الذي يمكن الاغتسال فيه يكون أكثر من قلتين، والبول والاغتسال فيه لا يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه. وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أنهما أمرا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح ماء البئر كله، ولم يظهر أثره في الماء، وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليهما أحد فانعقد الإجماع من الصحابة على ما قلنا، وعرف بهذا الإجماع أن المراد بما رواه مالك هو الماء الكثير الجاري، وبه تبين أن ما رواه الشافعي غير ثابت; لكونه مخالفا لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يرد، يدل عليه أن علي بن المديني قال: "لا يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم" وذكر أبو داود السجستاني وقال: "لا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الماء"; ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية دون الدلائل السمعية، ثم اختلفوا في تفسير الخلوص فاتفقت الروايات عن أصحابنا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك، وهو أنه إن كان بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص. وإن كان لا يتحرك فهو مما لا يخلص وإنما اختلفوا في جهة التحريك، فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى محمد عنه أنه يعتبر التحريك بالوضوء وفي رواية باليد من غير اغتسال ولا وضوء، واختلف المشايخ فالشيخ أبو حفص الكبير البخاري اعتبر الخلوص بالصبغ، وأبو نصر محمد بن محمد بن سلام اعتبره بالتكدير، وأبو سليمان الجوزجاني اعتبره بالمساحة فقال: "إن كان عشرا في عشر فهو مما لا يخلص، وإن كان دونه فهو مما يخلص" وعبد الله بن المبارك اعتبره بالعشرة أولا، ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب أبو مطيع البلخي فقال: "إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئا". وروي عن محمد أنه قدره بمسجده فكان مسجده ثمانيا في ثمان، وبه أخذ محمد بن سلمة، وقيل: كان مسجده عشرا في عشر، وقيل: مسح مسجده فوجد داخله ثمانيا في ثمان، وخارجه عشرا في عشر وذكر الكرخي وقال: لا عبرة للتقدير في الباب، وإنما المعتبر هو التحري، فإن كان أكبر رأيه أن النجاسة خلصت إلى هذا الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز، وإن كان أكبر رأيه أنها لم تصل إليه يجوز"; لأن العمل بغالب الرأي، وأكبر الظن في الأحكام واجب، ألا يرى أن خبر الواحد العدل يقبل في نجاسة الماء وطهارته، وإن كان لا يفيد برد اليقين.
وكذلك قال أصحابنا في الغدير العظيم الذي لو حرك طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر إذا وقعت فيه النجاسة: إنه إن كان في غالب الرأي أنها وصلت إلى الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز، وإن كان فيه أنها لم تصل يجوز، وذكر في كتاب الصلاة في الميزاب إذا سال على إنسان أنه إن كان غالب ظنه أنه نجس يجب غسله وإلا فلا، وإن لم يستقر قلبه على شيء لا يجب غسله في الحكم، ولكن المستحب أن يغسل وأما حوض الحمام الذي يخلص بعضه إلى بعض إذا وقعت فيه النجاسة أو توضأ إنسان، روي عن أبي يوسف أنه إن كان الماء يجري من الميزاب والناس يغترفون منه لا يصير نجسا، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة; لأنه بمنزلة الماء الجاري، ولو تنجس الحوض الصغير بوقوع النجاسة فيه، ثم بسط ماؤه حتى صار لا يخلص بعضه إلى بعض فهو نجس; لأن المبسوط هو الماء النجس وقيل في الحوض الكبير وقعت فيه النجاسة، ثم قل ماؤه، حتى صار يخلص بعضه إلى بعض: إنه طاهر; لأن المجتمع هو الماء الطاهر، هكذا ذكره أبو بكر الإسكاف واعتبر حالة الوقوع. ولو وقع في هذا القليل نجاسة، ثم عاوده الماء، حتى امتلأ الحوض ولم يخرج منه شيء قال أبو القاسم الصفار: لا يجوز التوضؤ به; لأنه كلما دخل الماء فيه صار نجسا. ولو أن حوضين صغيرين يخرج الماء من

 

ج / 1 ص -73-         أحدهما ويدخل في الآخر فتوضأ منه إنسان في خلال ذلك جاز؛ لأنه ماء جار حوض حكم بنجاسته، ثم نضب ماؤه وجف أسفله، حتى حكم بطهارته ثم دخل فيه الماء ثانيا هل يعود نجسا؟ فيه روايتان عن أبي حنيفة، وكذا الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت وذهب أثرها، ثم عاودها الماء، وكذا المني إذا أصاب الثوب فجف وفرك، ثم أصابه بلل، وكذا جلد الميتة إذا دبغ دباغة حكمية بالتشميس والترتيب، ثم أصابه الماء ففي هذه المسائل كلها روايتان عن أبي حنيفة.
وأما البئر إذا تنجست فغار ماؤها وجف أسفلها، ثم عاودها الماء فقال نصير بن يحيى: هو طاهر وقال محمد بن سلمة هو نجس وكذا روي عن أبي يوسف، وجه قول نصير أن تحت الأرض ماء جار فيختلط الغائر به، فلا يحكم بكون العائد نجسا بالشك وجه قول محمد بن سلمة أن ما نبع يحتمل أنه ماء جديد، ويحتمل أنه الماء النجس فلا يحكم بطهارته بالشك; وهذا القول أحوط، والأول أوسع، هذا إذا كان الماء الراكد له طول وعرض، فإن كان له طول بلا عرض كالأنهار التي فيها مياه راكدة لم يذكر في ظاهر الرواية، وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام أنه إن كان طول الماء مما لا يخلص بعضه إلى بعض يجوز التوضؤ به، وكان يتوضأ في نهر بلخ ويحرك الماء بيده ويقول: "لا فرق بين إجرائي إياه، وبين جريانه بنفسه"، فعلى قوله لو وقعت فيه نجاسة لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال: لا يجوز التوضؤ فيه، وعلى قوله لو وقعت فيه نجاسة أو بال فيه إنسان أو توضأ، إن كان في أحد الطرفين ينجس مقدار عشرة أذرع، وإن كان في وسطه ينجس من كل جانب مقدار عشرة أذرع فما ذهب إليه أبو نصر أقرب إلى الحكم; لأن اعتبار العرض يوجب التنجيس واعتبار الطول لا يوجب، فلا ينجس بالشك، وما قاله أبو سليمان أقرب إلى الاحتياط لأن اعتبار الطول إن كان لا يوجب التنجيس فاعتبار العرض يوجب، فيحكم بالنجاسة احتياطا وأما العمق فهل يشترط مع الطول والعرض؟ عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال: "إن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني إن كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه انحسر أسفله، ثم اتصل لا يتوضأ به، وإن كان بحال لا ينحسر أسفله لا بأس بالوضوء منه وقيل: مقدار العمق أن يكون زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال، وقيل: "أن يكون قدر شبر"، وقيل: قدر ذراع، ثم النجاسة إذا وقعت في الحوض الكبير كيف يتوضأ منه؟ فنقول: النجاسة لا تخلو إما أن تكون مرئية، أو غير مرئية، فإن كانت مرئية كالجيفة ونحوها، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، ولكن يتوضأ من الجانب الآخر، ومعناه أنه يترك من موضع النجاسة قدر الحوض الصغير ثم يتوضأ، كذا فسره في الإملاء عن أبي حنيفة; لأنا تيقنا بالنجاسة في ذلك الجانب وشككنا فيما وراءه، وعلى هذا قالوا فيمن استنجى في موضع من حوض الحمام: لا يجزيه أن يتوضأ من ذلك الموضع قبل تحريك الماء. وروي عن أبي يوسف أنه يجوز التوضؤ من أي جانب كان إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه; لأن حكمه حكم الماء الجاري. ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض على قياس ظاهر الرواية إن كان بين الجيفة وبين كل جانب من الحوض مقدار ما لا يخلص بعضه إلى بعض، يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا; لما ذكرنا وإن كانت غير مرئية بأن بال فيه إنسان أو اغتسل جنب اختلف فيه المشايخ قال مشايخ العراق: إن حكمه حكم المرئية، حتى لا يتوضأ من ذلك الجانب، وإنما يتوضأ من الجانب الآخر لما ذكرنا في المرئية بخلاف الماء الجاري؛ لأنه ينقل النجاسة من موضع إلى موضع، فلم يستيقن بالنجاسة في موضع الوضوء ومشايخنا بما وراء النهر فصلوا بينهما، ففي غير المرئية أنه يتوضأ من أي جانب كان، كما قالوا جميعا في الماء الجاري، وهو الأصح; لأن غير المرئية لا يستقر في مكان واحد بل ينتقل لكونه مائعا سيالا بطبعه، فلم نستيقن بالنجاسة في الجانب الذي يتوضأ منه، فلا نحكم بنجاسته بالشك على الأصل المعهود إن اليقين لا يزول بالشك بخلاف المرئية وهذا إذا كان الماء في الحوض غير جامد، فإن كان جامدا وثقب في موضع منه، فإن كان الماء غير متصل بالجمد يجوز التوضؤ منه بلا خلاف وإن كان متصلا به فإن كان الثقب واسعا، بحيث لا يخلص بعضه إلى بعض فكذلك; لأنه بمنزلة الحوض الكبير، وإن كان الثقب صغيرا اختلف المشايخ فيه قال نصير بن يحيى وأبو بكر

 

ج / 1 ص -74-         الإسكاف  لا: خير فيه وسئل ابن المبارك فقال: "لا بأس به". وقال: "أليس الماء يضطرب تحته" ؟ وهو قول الشيخ أبي حفص الكبير; وهذا أوسع والأول أحوط وقالوا: "إذا حرك موضع الثقب تحريكا بليغا يعلم عنده أن ما كان راكدا ذهب عن هذا المكان، وهذا ماء جديد يجوز بلا خلاف".
ولو وقعت نجاسة في الماء القليل، فالماء القليل لا يخلو من أن يكون في الأواني أو في البئر أو في الحوض الصغير، فإن كان في الأواني فهو نجس كيفما كانت النجاسة متجسدة أو مائعة; لأنه لا ضرورة في الأواني لإمكان صونها عن النجاسات، حتى لو وقعت بعرة أو بعرتان في المحلب عند الحلب، ثم رميت من ساعتها لم ينجس اللبن، كذا روى عنه خلف بن أيوب، ونصير بن يحيى ومحمد بن مقاتل الرازي، لمكان الضرورة، وإن كان في البئر فالواقع فيه لا يخلو من أن يكون حيوانا أو غيره من النجاسات، فإن كان حيوانا فإما إن أخرج حيا، وإما إن أخرج ميتا، فإن أخرج حيا فإن كان نجس العين كالخنزير ينجس جميع الماء وفي الكلب اختلاف المشايخ في كونه نجس العين، فمن جعله نجس العين استدل بما ذكر في العيون عن أبي يوسف أن الكلب إذا وقع في الماء، ثم خرج منه فانتفض، فأصاب إنسانا منه أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته. وذكر في العيون أيضا أن كلبا لو أصابه المطر فانتفض، فأصاب إنسانا منه أكثر من قدر الدرهم إن كان المطر الذي أصابه وصل إلى جلده; فعليه أن يغسل الموضع الذي أصابه وإلا فلا، ونص محمد في الكتاب قال: وليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير، فدل أنه نجس العين وجه قول من قال: إنه ليس نجس العين أنه يجوز بيعه ويضمن متلفه، ونجس العين ليس محلا للبيع، ولا مضمونا بالإتلاف كالخنزير، دل عليه أنه يطهر جلده بالدباغ، ونجس العين لا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، وكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة في الكلب والسنور وقعا في الماء القليل، ثم خرجا أنه يعجن بذلك؛ ولذلك قال مشايخنا فيمن صلى وفي كمه جرو كلب: إنه تجوز صلاته وقيد الفقيه أبو جعفر الهندواني الجواز بكونه مسدود الفم، فدل أنه ليس بنجس العين، وهذا أقرب القولين إلى الصواب، وإن لم يكن نجس العين فإن كان آدميا ليس على بدنه نجاسة حقيقية ولا حكمية وقد استنجى لا ينزح شيء في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ينزح عشرون دلوا، وهذه الرواية لا تصح; لأن الماء إنما يصير مستعملا بزوال الحدث أو بقصد القربة ولم يوجد شيء من ذلك، وإن كان على بدنه نجاسة حقيقية أو لم يكن مستنجيا ينزح جميع الماء; لاختلاط النجس بالماء، وإن كان على بدنه نجاسة حكمية بأن كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء، فعلى قول من لا يجعل هذا الماء مستعملا لا ينزح شيء; لأنه طهور، وكذا قول من جعله مستعملا وجعل الماء المستعمل طاهرا; لأن غير المستعمل أكثر، فلا يخرج عن كونه طهورا ما لم يكن المستعمل غالبا عليه، كما لو صب اللبن في البئر بالإجماع أو بالت شاة فيها عند محمد وأما على قول من جعل هذا الماء مستعملا وجعل الماء المستعمل نجسا، ينزح ماء البئر كله كما لو وقعت فيها قطرة من دم أو خمر وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن كان محدثا ينزح أربعون، وإن كان جنبا ينزح كله وهذه الرواية مشكلة; لأنه لا يخلو إما أن صار هذا الماء مستعملا أو لا، فإن لم يصر مستعملا لا يجب نزح شيء; لأنه بقي طهورا كما كان، وإن صار مستعملا فالماء المستعمل عند الحسن نجس نجاسة غليظة فينبغي أن يجب نزح جميع الماء.
وروي عن أبي حنيفة أنه قال في الكافر إذا وقع في البئر: ينزح ماء البئر كله; لأن بدنه لا يخلو من نجاسة حقيقية أو حكمية، حتى لو تيقنا بطهارته بأن اغتسل، ثم وقع في البئر من ساعته لا ينزح منها شيء وأما سائر الحيوانات فإن علم بيقين أن على بدنها نجاسة أو على مخرجها نجاسة تنجس الماء; لاختلاط النجس به سواء وصل فمه إلى الماء أو لا، وإن لم يعلم ذلك اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: "العبرة لإباحة الأكل وحرمته إن كان مأكول اللحم لا ينجس ولا ينزح شيء، سواء وصل لعابه إلى الماء أو لا، وإن لم يكن مأكول اللحم ينجس، سواء كان على بدنه أو مخرجه نجاسة أو لا". وقال بعضهم: "المعتبر هو السؤر، فإن كان لم يصل فمه إلى الماء لا ينزح شيء، وإن وصل فإن كان سؤره طاهرا فالماء طاهر ولا ينزح منه شيء، وإن كان نجسا فالماء نجس وينزح كله، وإن كان مكروها يستحب أن ينزح عشر دلاء، وإن كان مشكوكا فيه فالماء

 

ج / 1 ص -75-         كذلك وينزح كله" كذا ذكر في الفتاوى عن أبي يوسف وذكر ابن رستم في نوادره أن المستحب في الفأرة نزح عشرين، وفي الهرة نزح أربعين; لأن ما كان أعظم جثة كان أوسع فما وأكثر لعابا وذكر في فتاوى أهل بلخ: إذا وقعت وزغة في بئر فأخرجت حية يستحب نزح أربع دلاء إلى خمس أو ست. وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف في البقر والإبل أنه ينجس الماء; لأنها تبول بين أفخاذها فلا تخلو عن البول غير أن عند أبي حنيفة ينزح عشرون دلوا; لأن بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسة خفيفة. وقد ازداد خفة بسبب البئر فينزح أدنى ما ينزح من البئر وذلك عشرون وعند أبي يوسف ينزح ماء البئر كله; لاستواء النجاسة الخفيفة والغليظة في حكم تنجيس الماء، هذا كله إذا خرج حيا فإن خرج ميتا، فإن كان منتفخا أو متفسخا نزح ماء البئر كله وإن لم يكن منتفخا ولا متفسخا ذكر في ظاهر الرواية وجعله ثلاث مراتب: في الفأرة ونحوها ينزح عشرون دلوا أو ثلاثون، وفي الدجاج ونحوه أربعون أو خمسون، وفي الآدمي ونحوه ماء البئر كله وروى الحسن عن أبي حنيفة وجعله خمس مراتب: في الحمامة ونحوها ينزح عشر دلاء، وفي الفأرة ونحوها عشرون، وفي الحمام ونحوه ثلاثون، وفي الدجاج ونحوه أربعون، وفي الآدمي ونحوه ماء البئر كله. وقوله: في الكتاب ينزح في الفأرة عشرون أو ثلاثون، وفي الهرة أربعون أو خمسون لم يرد به التخيير بل أراد به عشرين وجوبا وثلاثين استحبابا، وكذا في الأربعين والخمسين، وقال بعضهم: "إنما قال ذلك; لاختلاف الحيوانات في الصغر والكبر"، ففي الصغير منها ينزح الأقل وفي الكبير ينزح الأكثر، والأصل في البئر أنه وجد فيها قياسان أحدهما: ما قاله بشر بن غياث المريسي أنه يطم ويحفر في موضع آخر; لأن غاية ما يمكن أن ينزح جميع الماء لكن يبقى الطين والحجارة نجسا، ولا يمكن كبه ليغسل، والثاني: ما نقل عن محمد أنه قال: "اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الماء الجاري; لأنه ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه، فلا ينجس بوقوع النجاسة فيه كحوض الحمام إذا كان يصب الماء فيه من جانب ويغترف من جانب آخر، أنه لا ينجس بإدخال اليد النجسة فيه، ثم قلنا: وما علينا لو أمرنا بنزح بعض الدلاء؟ ولا نخالف السلف إلا أنا تركنا القياسين الظاهرين بالخبر والأثر وضرب من الفقه الخفي، أما الخبر فما روى القاضي أبو جعفر الأسروشني بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفأرة تموت في البئر: ينزح منها عشرون، وفي رواية ينزح ثلاثون دلوا وأما الأثر فما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ينزح عشرون وفي رواية ثلاثون"، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال في دجاجة ماتت في البئر: ينزح منها أربعون دلوا، وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أنهما أمرا بنزح جميع ماء زمزم حين مات فيها زنجي وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليهما أحد فانعقد الإجماع عليه وأما الفقه الخفي فهو أن في هذه الأشياء دما مسفوحا وقد تشرب في أجزائها عند الموت فنجسها. وقد جاورت هذه الأشياء الماء، والماء يتنجس أو يفسد بمجاورة النجس; لأن الأصل أن ما جاور النجس نجس بالشرع، قال صلى الله عليه وسلم: "في الفأرة تموت في السمن الجامد يقور ما حولها ويلقى، ويؤكل الباقي" فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة جار النجس وفي الفأرة ونحوها ما يجاورها من الماء مقدار ما قدره أصحابنا، وهو عشرون دلوا أو ثلاثون; لصغر جثتها، فحكم بنجاسة هذا القدر من الماء; لأن ما وراء هذا القدر لم يجاور الفأرة، بل جاور ما جاور الفأرة، والشرع ورد بتنجيس جار النجس، لا بتنجيس جار جار النجس، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بطهارة ما جاور السمن الذي جاور الفأرة، وحكم بنجاسة ما جاور الفأرة وهذا; لأن جار جار النجس لو حكم بنجاسته; لحكم أيضا بنجاسة ما جاور جار جار النجس، ثم هكذا إلى ما لا نهاية له، فيؤدي إلى أن قطرة من بول أو فأرة لو وقعت في بحر عظيم أن يتنجس جميع مائه; لاتصال بين أجزائه، وذلك فاسد، وفي الدجاجة والسنور وأشباه ذلك المجاورة أكثر; لزيادة ضخامة في جثتها فقدر بنجاسة ذلك القدر، والآدمي وما كانت جثته مثل جثته كالشاة ونحوها يجاور جميع الماء في العادة؛ لعظم جثته فيوجب تنجيس جميع الماء، وكذا إذا تفسخ شيء من هذه الواقعات أو انتفخ; لأن عند ذلك تخرج البلة منها; لرخاوة فيها فتجاور جميع أجزاء الماء، وقيل: ذلك لا يجاور إلا قدر ما ذكرنا; لصلابة فيها; ولهذا قال محمد: إذا وقع في

 

ج / 1 ص -76-         البئر ذنب فأرة ينزح جميع الماء; لأن موضع القطع لا ينفك عن بلة فيجاور أجزاء الماء فيفسدها، هذا إذا كان الواقع واحدا فإن كان أكثر روي عن أبي يوسف أنه قال في الفأرة ونحوها: ينزح عشرون إلى الأربع، فإذا بلغت خمسا ينزح أربعون إلى التسع، فإذا بلغت عشرا ينزح ماء البئر كله. وروي عن محمد أنه قال في الفأرتين: ينزح عشرون، وفي الثلاث أربعون، وإذا كانت الفأرتان كهيئة الدجاج ينزح أربعون.
هذا إذا كان الواقع في البئر حيوانا فإن كان غيره من الأنجاس فلا يخلو إما أن يكون مستجسدا أو غير مستجسد، فإن كان غير مستجسد كالبول والدم والخمر ينزح ماء البئر كله; لأن النجاسة خلصت إلى جميع الماء وإن كان مستجسدا، فإن كان رخوا متخلخل الأجزاء كالعذرة وخرء الدجاج ونحوهما ينزح ماء البئر كله قليلا كان أو كثيرا رطبا كان أو يابسا; لأنه لرخاوته يتفتت عند ملاقاة الماء فتختلط أجزاؤه بأجزاء الماء فيفسده، وإن كان صلبا نحو بعر الإبل والغنم ذكر في الأصل أن القياس أن ينجس الماء قل الواقع فيه أو كثر، وفي الاستحسان إن كان قليلا لا ينجس وإن كان كثيرا ينجس، ولم يفصل بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر، واختلف المشايخ قال بعضهم: "إن كان رطبا ينجس قليلا كان أو كثيرا، وإن كان يابسا فإن كان منكسرا ينجس قل أو كثر، وإن لم يكن منكسرا لا ينجس ما لم يكن كثيرا"، وتكلموا في الكثير قال بعضهم: "أن يغطي جميع وجه الماء". وقال بعضهم: "ربع وجه الماء"، وقال بعضهم: "الثلاث كثير"; لأنه ذكر في الجامع الصغير في بعرة أو بعرتين وقعتا في الماء لا يفسد الماء، ولم يذكر الثلاث فدل على أن الثلاث كثير، وعن محمد بن سلمة: إن كان لا يسلم كل دلو عن بعرة أو بعرتين فهو كثير. وقال بعضهم: "الكثير ما استكثره الناظر وهو الصحيح" وروي عن الحسن بن زياد أنه قال: "إن كان يابسا لا ينجس صحيحا كان أو منكسرا، قليلا كان أو كثيرا، وإن كان رطبا وهو قليل لا يمنع للضرورة" وعن أبي يوسف في الروث اليابس إذا وقع في البئر، ثم أخرج من ساعته لا ينجس، والأصل في هذا أن للمشايخ في القليل من البعر اليابس الصحيح طريقتين إحداهما: أن لليابس صلابة، فلا يختلط شيء من أجزائه بأجزاء الماء، فهذا يقتضي أن الرطب ينجس باختلاط رطوبته بأجزاء الماء، وكذلك ذكر في النوادر والحاكم في الإشارات، وكذا اليابس المنكسر لما قلنا وكذا الروث، لأنه شيء رخو يداخله الماء، لتخلخل أجزائه فتختلط أجزاؤه بأجزاء الماء، ويقتضي أيضا أن الكثير من اليابس الصحيح لا ينجس، وكذلك قال الحسن بن زياد، والصحيح أن الكثير ينجس; لأنها إذا كثرت تقع المماسة بينهما; فيصطك البعض بالبعض فتتفتت أجزاؤها فتنجس. والطريقة الثانية: أن آبار الفلوات لا حاجز لها على رءوسها، ويأتيها الأنعام فتسقى فتبعر، فإذا يبست الأبعار عملت فيها الريح فألقتها في البئر، فلو حكم بفساد المياه لضاق الأمر على سكان البوادي، وما ضاق أمره اتسع حكمه، فعلى هذه الطريقة: الكثير منه يفسد المياه؟ لانعدام الضرورة في الكثير، وكذا الرطب; لأن الريح تعمل في اليابس دون الرطب لثقله، وإليه أشار الشيخ أبو منصور الماتريدي وعن الشيخ أبي بكر محمد بن الفضل أن الرطب واليابس سواء; لتحقق الضرورة في الجملة، فأما اليابس المنكسر فلا يفسد إذا كان قليلا; لأن الضرورة في المنكسر أشد، والروث إن كان في موضع يتقدر بهذه الضرورة فالجواب فيه كالجواب في البعر، هذا في آبار الفلوات، "وأما" الآبار التي في المصر فاختلف فيها المشايخ، فمن اعتمد معنى الصلابة والرخاوة لا يفرق; لأن ذلك المعنى لا يختلف ومن اعتبر الضرورة فرق بينهما; لأن آبار الأمصار لها رءوس حاجزة فيقع الأمن عن الوقوع فيها، ولو انفصلت بيضة من دجاجة فوقعت في البئر من ساعتها اختلف المشايخ، فيه قال نصير بن يحيى: ينتفع بالماء ما لم يعلم أن عليها قذرا. وقال بعضهم: "إن كانت رطبة أفسدت، وإن كانت يابسة فوقعت في الماء أو في المرقة لا تفسدهما، وهي حلال اشتد قشرها أو لم يشتد"، وعند الشافعي: إن اشتد قشرها تحل وإلا فلا ولو، سقطت السخلة من أمها وهي مبتلة فهي نجسة، حتى لو حملها الراعي فأصاب بللها الثوب أكثر من قدر الدرهم منع جواز الصلاة، ولو وقعت في الماء في ذلك الوقت أفسدت الماء، وإذا يبست فقد طهرت، وذكر الفقيه أبو جعفر أن هذا الجواب موافق قولهما، فأما في قياس قول أبي حنيفة فالبيضة طاهرة، رطبة كانت أو يابسة، وكذا السخلة؛ لأنها كانت في مكانها ومعدنها كما قال في

 

ج / 1 ص -77-         الإنفحة إذا خرجت بعد الموت أنها طاهرة، جامدة كانت أو مائعة، وعندهما، إن كانت مائعة فنجسة، وإن كانت جامدة تطهر بالغسل، ولو وقع عظم الميتة في البئر فإن كان عظم الخنزير أفسده كيفما كان. وأما عظم غيره فإن كان عليه لحم أو دسم يفسد الماء; لأن النجاسة تشيع في الماء، وإن لم يكن عليه شيء لم يفسد; لأن العظم طاهر بئر وجب منها نزح عشرين دلوا، فنزح الدلو الأول وصب في بئر طاهرة، ينزح منها عشرون دلوا، والأصل في هذا: أن البئر الثانية تطهر بما تطهر به الأولى حين كان الدلو المصبوب فيها، ولو صب الدلو الثاني ينزح تسعة عشر دلوا، ولو صب الدلو العاشر في رواية أبي سليمان ينزح عشرة دلاء، وفي رواية أبي حفص أحد عشر دلوا، وهو الأصح، والتوفيق بين الروايتين أن المراد من الأولى سوى المصبوب، ومن الثانية مع المصبوب، ولو صب الدلو الأخير ينزح دلوا واحدا; لأن طهارة الأولى به، ولو أخرجت الفأرة وألقيت في بئر طاهرة، وصب فيها أيضا عشرون دلوا من ماء الأولى تطرح الفأرة وينزع عشرون دلوا; لأن طهارة الأولى به، فكذا الثانية.
بئران وجب من كل واحدة منهما نزح عشرين، فنزح عشرون من أحدهما، وصب في الأخرى، ينزح عشرون، ولو وجب من إحداهما نزح عشرين ومن الأخرى، نزح أربعين، فنزح ما وجب من إحداهما وصب في الأخرى، ينزح أربعون والأصل فيه أن ينظر إلى ما وجب من النزح منها، وإلى ما صب فيها، فإن كانا سواء تداخلا، وإن كان أحدهما أكثر دخل القليل في الكثير، وعلى هذا ثلاثة آبار وجب من كل واحدة نزح عشرين، فنزح الواجب من البئرين وصب في الثالثة، ينزح أربعون، فلو وجب من إحداهما نزح عشرين ومن الأخرى نزح أربعين فصب الواجبان في بئر طاهرة ينزح أربعون; لما قلنا من الأصل، ولو نزح دلو من الأربعين وصب في العشرين ينزح أربعون; لأنه لو صب في بئر طاهرة نزح كذلك، فكذا هذا، وهذا كله قول محمد وعن أبي يوسف روايتان: في رواية ينزح جميع الماء، وفي رواية ينزح الواجب والمصبوب جميعا فقيل له: إن محمدا روى عنك الأكثر فأنكر فأرة وقعت في جب ماء وماتت فيها يهراق كله، ولو صب ماؤه في بئر طاهرة فعند أبي يوسف ينزح المصبوب وعشرون دلوا، وعند محمد ينظر إلى ماء الجب فإن كان عشرين دلوا أو أكثر نزح ذلك القدر، وإن كان أقل من عشرين نزح عشرون؛ لأن الحاصل في البئر نجاسة الفأرة.
فأرة ماتت في البئر وأخرجت، فجاءوا بدلو عظيم يسع عشرين دلوا بدلوهم، فاستقوا منها دلوا واحدا أجزأهم وطهرت البئر; لأن الماء النجس قدر ما جاور الفأرة، فلا فرق بين أن ينزح ذلك بدلو واحد، وبين أن ينزح بعشرين دلوا وكان الحسن بن زياد يقول: "لا يطهر إلا بنزح عشرين دلوا"; لأن عند تكرار النزح ينبع الماء من أسفله، ويؤخذ من أعلاه فيكون في حكم الماء الجاري، وهذا لا يحصل بدلو واحد وإن كان عظيما، ولو صب الماء المستعمل في البئر ينزح كله عند أبي يوسف; لأنه نجس عنده، وعند محمد ينزح عشرون دلوا، كذا ذكره القدوري في شرح مختصر الكرخي وفيه نظر; لأن الماء المستعمل طاهر عند محمد، والطاهر إذا اختلط بالطهور لا يغيره عن صفة الطهورية، إلا إذا غلب عليه كسائر المائعات الطاهرة، ويحتمل أن يقال: "إن طهارته غير مقطوع بها"; لكونه محل الاجتهاد بخلاف المائعات، فينزح أدنى ما ورد الشرع به وذلك عشرون احتياطا، ولو نزح ماء البئر وبقي الدلو الأخير فهذا على ثلاثة أوجه: إما أن لم ينفصل عن وجه الماء، أو انفصل ونحي عن رأس البئر، أو انفصل ولم ينح عن رأس البئر. فإن لم ينفصل عن وجه الماء لا يحكم بطهارة البئر، حتى لا يجوز التوضؤ منه; لأن النجس لم يتميز من الطاهر، وإن انفصل عن وجه الماء ونحي عن رأس البئر طهر; لأن النجس قد تميز من الطاهر، وأما إذا انفصل عن وجه الماء ولم ينح عن رأس البئر والماء يتقاطر فيه لا يطهر عند أبي يوسف وعند محمد يطهر، ولم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي حنيفة، وذكر الحاكم قوله: مع قول أبي يوسف وجه قول محمد أن النجس انفصل من الطاهر، فإن الدلو الأخير تعين للنجاسة شرعا، بدليل أنه إذا نحي عن رأس البئر يبقى الماء طاهرا، والماء يتقاطر فيها من الدلو سقط اعتبار نجاسته شرعا دفعا للحرج، إذ لو أعطى للقطرات حكم النجاسة لم يطهر بئر أبدا، وبالناس حاجة إلى الحكم بطهارة الآبار بعد وقوع النجاسات فيها وجه قولهما أنه لا يمكن الحكم بطهارة البئر إلا بعد انفصال النجس عنها، وهو ماء الدلو الأخير، ولا يتحقق الانفصال إلا بعد تنحية الدلو عن البئر; لأن ماءه متصل بماء البئر ولم

 

ج / 1 ص -78-         يوجد فلا يحكم بطهارة البئر; ولأنه لو جعل منفصلا لا يمكن القول بطهارة البئر; لأن القطرات تقطر في البئر، فإذا كان منفصلا كان له حكم النجاسة فتنجس البئر ثانيا; لأن ماء البئر قليل، والنجاسة وإن قلت متى لاقت ماء قليلا تنجسه، فكان هذا تطهيرا للبئر أولا، ثم تنجيسا له ثانيا، وإنه اشتغال بما لا يفيد، وسقوط اعتبار نجاسة القطرات لا يجوز إلا لضرورة، والضرورة تندفع بأن يعطى لهذا الدلو حكم الانفصال بعد انعدام التقاطر بالتنحية عن رأس البئر، فلا ضرورة إلى تنجيس البئر بعد الحكم بطهارتها. لو توضأ من بئر، وصلى أياما، ثم وجد فيها فأرة، فإن علم وقت وقوعها أعاد الصلاة من ذلك الوقت; لأنه تبين أنه توضأ بماء نجس، وإن لم يعلم فالقياس أن لا يعيد شيئا من الصلوات ما لم يستيقن بوقت وقوعها، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وفي الاستحسان إن كانت منتفخة أو متفسخة أعاد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وإن كانت غير منتفخة ولا متفسخة لم يذكر في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يعيد صلاة يوم وليلة، ولو اطلع على نجاسة في ثوبه أكثر من قدر الدرهم ولم يتيقن وقت إصابتها لا يعيد شيئا من الصلاة، كذا ذكر الحاكم الشهيد، وهو رواية بشر المريسي عن أبي حنيفة. وروي عن أبي حنيفة أنها إن كانت طرية يعيد صلاة يوم وليلة، وإن كانت يابسة يعيد صلاة ثلاثة أيام بلياليها. وروى ابن رستم في نوادره عن أبي حنيفة أنه إن كان دما لا يعيد، وإن كان منيا يعيد من آخر ما احتلم; لأن دم غيره قد يصيبه، والظاهر أن الإصابة لم تتقدم زمان وجوده، فأما مني غيره فلا يصيب ثوبه، فالظاهر أنه منيه فيعتبر وجوده من وقت وجود سبب خروجه، حتى أن الثوب لو كان مما يلبسه هو وغيره يستوي فيه حكم الدم والمني، ومشايخنا قالوا في البول: يعتبر من آخر ما بال، وفي الدم من آخر ما رعف وفي المني من آخر ما احتلم أو جامع، وجه القياس في المسألة أنه تيقن طهارة الماء فيما مضى، وشك في نجاسته; لأنه يحتمل أنها وقعت في الماء وهي حية فماتت فيه، ويحتمل أنها وقعت ميتة بأن ماتت في مكان آخر، ثم ألقاها بعض الطيور في البئر، على ما حكي عن أبي يوسف أنه قال: كان قولي مثل قول أبي حنيفة، إلى أن كنت يوما جالسا في بستاني فرأيت حدأة في منقارها جيفة فطرحتها في بئر، فرجعت عن قول أبي حنيفة الشك في نجاسة الماء فيما مضى، فلا يحكم بنجاسته بالشك، وصار كما إذا رأى في ثوبه نجاسة ولا يعلم وقت إصابتها أنه لا يعيد شيئا من الصلوات، كذا هذا وجه الاستحسان أن وقوع الفأرة في البئر سبب لموتها، والموت متى ظهر عقيب سبب صالح يحال به عليه، كموت المجروح فإنه يحال به إلى الجرح، وإن كان يتوهم موته بسبب آخر.
وإذا حيل بالموت إلى الوقوع في الماء فأدنى ما يتفسخ فيه الميت ثلاثة أيام; ولهذا يصلي على قبر ميت لم يصل عليه إلى ثلاثة أيام، وتوهم الوقوع بعد الموت إحالة بالموت إلى سبب لم يظهر، وتعطيل للسبب الظاهر وهذا لا يجوز، فبطل اعتبار الوهم، والتحق الموت في الماء بالمتحقق، إلا إذا قام دليل المعاينة بالوقوع في الماء ميتا، فحينئذ يعرف بالمشاهدة أن الموت غير حاصل بهذا السبب، ولا كلام فيه. وأما إذا لم تكن منتفخة، فلأنا إذا أحلنا بالموت إلى الوقوع في الماء ولا شك أن زمان الموت سابق على زمان الوجود، خصوصا في الآبار المظلمة العميقة التي لا يعاين ما فيها، ولذا يعلم يقينا أن الواقع لا يخرج بأول دلو، فقدر ذلك بيوم وليلة احتياطا; لأنه أدنى المقادير المعتبرة، "والفرق" بين البئر والثوب على رواية الحاكم أن الثوب شيء ظاهر، فلو كان ما أصابه سابقا على زمان الوجود لعلم به في ذلك الزمان، فكان عدم العلم قبل ذلك دليل عدم الإصابة بخلاف البئر على ما مر وعلى هذا الخلاف إذا عجن بذلك الماء أنه يؤكل خبزه عندهما. وعند أبي حنيفة لا يؤكل، وإذا لم يؤكل ماذا يصنع به ؟ قال مشايخنا: "يطعم للكلاب"؛ لأن ما تنجس باختلاط النجاسة به والنجاسة معلومة لا يباح أكله، ويباح الانتفاع به فيما وراء الأكل، كالدهن النجس أنه ينتفع به استصباحا إذا كان الطاهر غالبا فكذا هذا وبئر الماء إذا كانت بقرب من البالوعة لا يفسد الماء ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وقدر أبو حفص المسافة بينهما بسبعة أذرع وأبو سليمان بخمسة، وذا ليس بتقدير لازم; لتفاوت الأراضي في الصلابة والرخاوة، ولكنه خرج على الأغلب; ولهذا قال محمد بعد هذا التقدير: لو كان بينهما سبعة أذرع ولكن يوجد طعمه أو ريحه لا يجوز التوضؤ به، فدل على أن العبرة بالخلوص، وعدم الخلوص، وذلك يعرف بظهور ما ذكر من الآثار وعدمه، ثم الحيوان إذا مات في المائع القليل فلا يخلو إما إن كان له

 

ج / 1 ص -79-         دم سائل أو لم يكن، ولا يخلو إما أن يكون بريا أو مائيا، ولا يخلو إما إن مات في الماء أو في غير الماء، فإن لم يكن له دم سائل، كالذباب والزنبور والعقرب والسمك والجراد ونحوها لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما يموت فيه من المائع، سواء كان ماء أو غيره من المائعات، كالخل واللبن والعصير وأشباه ذلك، وسواء كان بريا أو مائيا كالعقرب المائي ونحوه، وسواء كان السمك طافيا أو غير طاف. وقال الشافعي: "إن كان شيئا يتولد من المائع كدود الخل، أو ما يباح أكله بعد الموت كالسمك والجراد لا ينجس قولا واحدا"، وله في الذباب والزنبور قولان، "ويحتج" بظاهر قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، ثم خص منه السمك والجراد بالحديث، والذباب والزنبور بالضرورة. "ولنا" ما ذكرنا أن نجاسة الميتة ليست لعين الموت، فإن الموت موجود في السمك والجراد ولا يوجب التنجيس، ولكن لما فيها من الدم المسفوح، ولا دم في هذه الأشياء، وإن كان له دم سائل فإن كان بريا ينجس بالموت وينجس المائع الذي يموت فيه، سواء كان ماء أو غيره، وسواء مات في المائع أو في غيره، ثم وقع فيه كسائر الحيوانات الدموية; لأن الدم السائل نجس فينجس ما يجاوره، إلا الآدمي إذا كان مغسولا; لأنه طاهر، ألا يرى أنه تجوز الصلاة عليه وإن كان مائيا كالضفدع المائي والسرطان ونحو ذلك، فإن مات في الماء لا ينجسه في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه قال: "لو أن حية من حيات الماء ماتت في الماء، إن كانت بحال لو جرحت لم يسل منها الدم لا توجب التنجيس، وإن كانت لو جرحت لسال منها الدم توجب التنجيس". وجه ظاهر الرواية ما علل به محمد في كتاب الصلاة فقال: "لأن هذا مما يعيش في الماء"، ثم إن بعض المشايخ وهم مشايخ بلخ فهموا من تعليل محمد أنه لا يمكن صيانة المياه عن موت هذه الحيوانات فيها; لأن معدنها الماء، فلو أوجب موتها فيها التنجيس لوقع الناس في الحرج، وبعضهم وهم مشايخ العراق فهموا من تعليله أنها إذا كانت تعيش في الماء لا يكون لها دم، إذ الدموي لا يعيش في الماء لمخالفة بين طبيعة الماء وبين طبيعة الدم، فلم تتنجس في نفسها; لعدم الدم المسفوح، فلا توجب تنجيس ما جاورها ضرورة، وما يرى في بعضها من صورة الدم فليس بدم حقيقة، ألا ترى أن السمك يحل بغير ذكاة مع أن الذكاة شرعت لإراقة الدم المسفوح ولذا، إذا شمس دمه يبيض، ومن طبع الدم أنه إذا شمس أسود، وإن مات في غير الماء فعلى قياس العلة الأولى يوجب التنجيس; لأنه يمكن صيانة سائر المائعات عن موتها فيها، وعلى قياس العلة الثانية لا يوجب التنجيس لانعدام الدم المسفوح فيها. وروي عن نصير بن يحيى أنه قال: "سألت أبا مطيع البلخي، وأبا معاذ عن الضفدع يموت في العصير فقالا: "يصب" وسألت أبا عبد الله البلخي ومحمد بن مقاتل الرازي فقالا: "لا يصب" وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام أنه كان يقول: يفسد وذكر الكرخي عن أصحابنا أن كل ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء، وهكذا روى هشام عنهم، وهذا أشبه بالفقه، والله أعلم.
ويستوي الجواب بين المتفسخ وغيره في طهارة الماء ونجاسته، إلا أنه يكره شرب المائع الذي تفسخ فيه; لأنه لا يخلو عن أجزاء ما يحرم أكله، ثم الحد الفاصل بين المائي والبري أن المائي: هو الذي لا يعيش إلا في الماء، والبري: هو الذي لا يعيش إلا في البر وأما الذي يعيش فيهما جميعا كالبط والإوز ونحو ذلك، فلا خلاف أنه إذا مات في غير الماء يوجب التنجيس; لأن له دما سائلا والشرع لم يسقط اعتباره، حتى لا يباح أكله بدون الذكاة بخلاف السمك، وإن مات في الماء روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يفسد هذا الذي ذكرنا حكم وقوع النجاسة في المائع.
فأما إذا أصاب الثوب أو البدن أو مكان الصلاة، أما حكم الثوب والبدن فنقول: "وبالله التوفيق النجاسة لا تخلو إما إن كانت غليظة، أو خفيفة قليلة، أو كثيرة، أما النجاسة القليلة فإنها لا تمنع جواز الصلاة، سواء كانت خفيفة أو غليظة استحسانا، والقياس أن تمنع، وهو قول زفر والشافعي، إلا إذا كانت لا تأخذها العين، أو ما لا يمكن الاحتراز عنه وجه القياس أن الطهارة عن النجاسة الحقيقة شرط جواز الصلاة، كما أن الطهارة عن النجاسة الحكمية وهي الحدث شرط، ثم هذا الشرط ينعدم بالقليل من الحدث بأن بقي على جسده لمعة، فكذا بالقليل من النجاسة الحقيقية. "ولنا" ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن القليل من النجاسة في الثوب فقال: "إذا كان مثل ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة"; ولأن القليل من النجاسة مما لا يمكن الاحتراز عنه، فإن

 

ج / 1 ص -80-         الذباب يقعن على النجاسة، ثم يقعن على ثياب المصلي ولا بد وأن يكون على أجنحتهن وأرجلهن نجاسة قليلة، فلو لم يجعل عفوا لوقع الناس في الحرج، ومثل هذه البلوى في الحدث منعدمة; ولأنا أجمعنا على جواز الصلاة بدون الاستنجاء بالماء، ومعلوم أن الاستنجاء بالأحجار لا يستأصل النجاسة، حتى لو جلس في الماء القليل أفسده، فهو دليل ظاهر على أن القليل من النجاسة عفو; ولهذا قدرنا بالدرهم على سبيل الكناية عن موضع خروج الحدث، كذا قاله إبراهيم النخعي: إنهم استقبحوا ذكر المقاعد في مجالسهم، فكنوا عنه بالدرهم تحسينا للعبارة وأخذا بصالح الأدب وأما النجاسة الكثيرة فتمنع جواز الصلاة، واختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير من النجاسة قال إبراهيم النخعي: إذا بلغ مقدار الدرهم فهو كثير وقال الشعبي: لا يمنع، حتى يكون أكثر من قدر الدرهم الكبير. وهو قول عامة العلماء، وهو الصحيح; لما روينا عن عمر رضي الله عنه أنه عد مقدار ظفر من النجاسة قليلا، حيث لم يجعله مانعا من جواز الصلاة، وظفره كان قريبا من كفنا فعلم أن قدر الدرهم عفو; ولأن أثر النجاسة في موضع الاستنجاء عفو، وذلك يبلغ قدر الدرهم خصوصا في حق المبطون، ولأن في ديننا سعة، وما قلناه أوسع فكان أليق بالحنيفية السمحة، ثم لم يذكر في ظاهر الرواية صريحا أن المراد من الدرهم الكبير، من حيث العرض والمساحة، أو من حيث الوزن وذكر في النوادر: الدرهم الكبير: ما يكون عرض الكف وهذا موافق لما روينا من حديث عمر رضي الله عنه لأن ظفره كان كعرض كف أحدنا، وذكر الكرخي مقدار مساحة الدرهم الكبير، وذكر في كتاب الصلاة الدرهم الكبير المثقال فهذا يشير إلى الوزن. وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: "لما اختلفت عبارات محمد في هذا فنوفق ونقول: أراد بذكر العرض تقدير المائع، كالبول والخمر ونحوهما، وبذكر الوزن تقدير المستجسد كالعذرة ونحوها، فإن كانت أكثر من مثقال ذهب وزنا تمنع; وإلا فلا، وهو المختار عند مشايخنا بما وراء النهر" وأما حد الكثير من النجاسة الخفيفة فهو الكثير الفاحش في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن الكثير الفاحش فكره أن يحد له حدا، وقال: "الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس ويستكثرونه" وروى الحسن عنه أنه قال: "شبر في شبر"، وهو المروي عن أبي يوسف أيضا. وروي عنه ذراع في ذراع، وروي أكثر من نصف الثوب، وروي نصف الثوب، ثم في رواية نصف كل الثوب، وفي رواية نصف طرف منه، أما التقدير بأكثر من النصف; فلأن الكثرة والقلة من الأسماء الإضافية لا يكون الشيء قليلا، إلا أن يكون بمقابلته كثير، وكذا لا يكون كثيرا إلا وأن يكون بمقابلته قليل، والنصف ليس بكثير; لأنه ليس في مقابلته قليل; فكان الكثير أكثر من النصف; لأن بمقابلته ما هو أقل منه وأما التقدير، بالنصف فلأن العفو هو القليل، والنصف ليس بقليل، إذ ليس بمقابلته ما هو أقل منه. وأما التقدير بالشبر فلأن أكثر الضرورة تقع لباطن الخفاف. وباطن الخفين شبر في شبر. وأما التقدير بالذراع فلأن الضرورة في ظاهر الخفين وباطنهما، وذلك ذراع في ذراع، وذكر الحاكم في مختصره عن أبي حنيفة ومحمد: الربع، وهو الأصح; لأن للربع حكم الكل في أحكام الشرع في موضع الاحتياط، ولا عبرة بالكثرة والقلة حقيقة، ألا ترى أن الدرهم جعل حدا فاصلا بين القليل والكثير شرعا مع انعدام ما ذكر، إلا أنه لا يمكن التقدير بالدرهم في بعض النجاسات; لانحطاط رتبتها عن المنصوص عليها، فقدر بما هو كثير في الشرع في موضع الاحتياط وهو الربع، واختلف المشايخ في تفسير الربع قيل: ربع جميع الثوب; لأنهما قدراه بربع الثوب، والثوب اسم للكل وقيل: ربع كل عضو وطرف أصابته النجاسة من اليد، والرجل والذيل، والكم والدخريص; لأن كل قطعة منها قبل الخياطة كان ثوبا على حدة، فكذا بعد الخياطة وهو الأصح، ثم لم يذكر في ظاهر الرواية تفسير النجاسة الغليظة والخفيفة. وذكر الكرخي أن النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة: ما ورد نص على نجاسته، ولم يرد نص على طهارته، معارضا له وإن اختلف العلماء فيه والخفيفة ما تعارض نصان في طهارته ونجاسته، وعند أبي يوسف ومحمد الغليظة: ما وقع الاتفاق على نجاسته، والخفيفة: ما اختلف العلماء في نجاسته وطهارته، "إذا" عرف هذا الأصل فالأرواث كلها نجسة نجاسة غليظة عند أبي حنيفة; لأنه ورد نص يدل على نجاستها، وهو ما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه ليلة الجن أحجار الاستنجاء
 

 

ج / 1 ص -81-           فأتي بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى بالروثة، وقال: إنها رجس أو ركس أي نجس" وليس له نص معارض، وإنما قال بعض العلماء بطهارتها بالرأي والاجتهاد والاجتهاد لا يعارض النص، فكانت نجاستها غليظة. وعلى قولهما نجاستها خفيفة; لأن العلماء اختلفوا فيها، وبول ما لا يؤكل لحمه نجس نجاسة غليظة بالإجماع على اختلاف الأصلين، "أما" عنده فلانعدام نص معارض لنص النجاسة، "وأما" عندهما فلوقوع الاتفاق على نجاسته وبول ما يؤكل لحمه نجس نجاسة خفيفة بالاتفاق، أما عنده فلتعارض النصين، وهما حديث العرنيين مع حديث عمار وغيره في البول مطلقا. وأما عندهما فلاختلاف العلماء فيه، "وأما" العذرات وخرء الدجاج والبط، فنجاستها غليظة بالإجماع على اختلاف الأصلين، هذا على وجه البناء على الأصل الذي ذكره الكرخي، "وأما" الكلام في الأرواث على طريقة الابتداء، فوجه قولهما أن في الأرواث ضرورة، وعموم البلية لكثرتها في الطرقات، فتتعذر صيانة الخفاف والنعال عنها وما عمت بليته خفت قضيته بخلاف خرء الدجاج والعذرة; لأن ذلك قلما يكون في الطرق، فلا تعم البلوى بإصابته، وبخلاف بول ما يؤكل لحمه; لأن ذلك تنشفه الأرض ويجف بها فلا تكثر إصابته الخفاف والنعال. وروي عن محمد في الروث أنه لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيرا فاحشا، وقيل: "إن هذا آخر أقاويله حين كان بالري"، وكان الخليفة بها فرأى الطرق والخانات مملوءة من الأرواث، وللناس فيها بلوى عظيمة فعلى هذا القياس قال بعض مشايخنا بما وراء النهر: "إن طين بخارى إذا أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلاة، وإن كان كثيرا فاحشا; لبلوى الناس فيه لكثرة العذرات في الطرق"; وأبو حنيفة احتج بقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} جمع بين الفرث والدم لكونهما نجسين، ثم بين الأعجوبة للخلق في إخراج ما هو نهاية في الطهارة وهو اللبن من بين شيئين نجسين، مع كون الكل مائعا في نفسه; ليعرف به كمال قدرته، والحكيم إنما يذكر ما هو النهاية في النجاسة; ليكون إخراجه ما هو النهاية في الطهارة، من بين ما هو النهاية في النجاسة نهاية في الأعجوبة، وآية لكمال القدرة; ولأنها مستخبثة طبعا، ولا ضرورة في إسقاط اعتبار نجاستها; لأنها وإن كثرت في الطرقات فالعيون تدركها فيمكن صيانة الخفاف والنعال، كما في بول ما لا يؤكل لحمه، والأرض وإن كانت تنشف الأبوال فالهواء يجفف الأرواث، فلا تلتزق بالمكاعب والخفاف، على أنا اعتبرنا معنى الضرورة بالعفو عن القليل منها وهو الدرهم فما دونه فلا ضرورة في الترقية بالتقدير بالكثير الفاحش والله أعلم. ولو أن ثوبا أصابته النجاسة وهي كثيرة فجفت، وذهب أثرها، وخفي مكانها; غسل جميع الثوب وكذا لو أصابت أحد الكمين ولا يدري أيهما هو; غسلهما جميعا، وكذا إذا راثت البقرة أو بالت في الكديس ولا يدرى مكانه; غسل الكل احتياطا، وقيل: إذا غسل موضعا من الثوب كالدخريص ونحوه وأحد الكمين وبعضا من الكديس يحكم بطهارة الباقي، وهذا غير سديد; لأن موضع النجاسة غير معلوم، وليس البعض أولى من البعض، ولو كان الثوب طاهرا فشك في نجاسته جاز له أن يصلي فيه; لأن الشك لا يرفع اليقين، وكذا إذا كان عنده ماء طاهر فشك في وقوع النجاسة فيه، ولا بأس بلبس ثياب أهل الذمة والصلاة فيها، إلا الإزار والسراويل فإنه تكره الصلاة فيهما وتجوز، "أما" الجواز; فلأن الأصل في الثياب هو الطهارة، فلا تثبت النجاسة بالشك; ولأن التوارث جار فيما بين المسلمين بالصلاة في الثياب المغنومة من الكفرة قبل الغسل. وأما الكراهة في الإزار والسراويل فلقربهما من موضع الحدث وعسى لا يستنزهون من البول فصار شبيه يد المستيقظ ومنقار الدجاجة المخلاة، وذكر في بعض المواضع في الكراهة خلافا، على قول أبي حنيفة ومحمد يكره، وعلى قول أبي يوسف لا يكره. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الشراب في أواني المجوس فقال: "إن لم تجدوا منها بدا فاغسلوها، ثم اشربوا فيها" وإنما أمر بالغسل; لأن ذبائحهم ميتة، وأوانيهم قلما تخلو عن دسومة منها قال بعض مشايخنا: وكذلك الجواب في ثياب الفسقة من المسلمين; لأن الظاهر أنهم لا يتوقون إصابة الخمر ثيابهم في حال الشرب. وقالوا في الديباج الذي ينسجه أهل فارس: إنه لا تجوز الصلاة فيه; لأنهم يستعملون فيه البول عند النسج، يزعمون أنه يزيد في بريقه، ثم لا يغسلونه; لأن الغسل يفسده فإن صح أنهم يفعلون ذلك فلا شك أنه لا تجوز

 

ج / 1 ص -82-         الصلاة معه.
وأما" حكم مكان الصلاة فالمصلي لا يخلو إما إن كان يصلي على الأرض، أو على غيرها من البساط ونحوه، ولا يخلو إما إن كانت النجاسة في مكان الصلاة أو في غيره بقرب منه، ولا يخلو إما إن كانت قليلة أو كثيرة، فإن كان يصلي على الأرض، والنجاسة بقرب من مكان الصلاة جازت صلاته قليلة كانت أو كثيرة; لأن شرط الجواز طهارة مكان الصلاة. وقد وجد، لكن المستحب أن يبعد عن موضع النجاسة تعظيما لأمر الصلاة، وإن كانت النجاسة في مكان الصلاة، فإن كانت قليلة تجوز على أي موضع كانت; لأن قليل النجاسة عفو في حق جواز الصلاة عندنا على ما مر، وإن كانت كثيرة فإن كانت في موضع اليدين والركبتين تجوز عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر والشافعي لا تجوز وجه قولهما أنه أدى ركنا من أركان الصلاة مع النجاسة فلا يجوز، كما لو كانت النجاسة على الثوب، أو البدن، أو في موضع القيام. "ولنا" أن وضع اليدين والركبتين ليس بركن، ولهذا لو أمكنه السجود بدون الوضع يجزئه فيجعل كأنه لم يضع أصلا، ولو ترك الوضع جازت صلاته، فههنا أولى، وهكذا نقول فيما إذا كانت النجاسة على موضع القيام: إن ذلك ملحق بالعدم، غير أن القيام ركن من أركان الصلاة، فلا يثبت الجواز بدونه بخلاف الثوب; لأن لابس الثوب صار حاملا للنجاسة مستعملا لها; لأنها تتحرك بتحركه وتمشي بمشيه لكونها تبعا للثوب، أما ههنا بخلافه، وإن كانت النجاسة في موضع القدمين، فإن قام عليها وافتتح الصلاة لم تجز; لأن القيام ركن، فلا يصح بدون الطهارة، كما لو افتتحها مع الثوب النجس، أو البدن النجس، وإن قام على مكان طاهر وافتتح الصلاة، ثم تحول إلى موضع النجاسة. وقام عليها أو قعد، فإن مكث قليلا لا تفسد صلاته، وإن أطال القيام فسدت; لأن القيام من أفعال الصلاة مقصودا; لأنه ركن، فلا يصح بدون الطهارة، فيخرج من أن يكون فعل الصلاة لعدم الطهارة، وما ليس من أفعال الصلاة إذا دخل في الصلاة إن كان قليلا يكون عفوا وإلا فلا، بخلاف ما إذا كانت النجاسة على موضع اليدين والركبتين حيث لا تفسد صلاته، وإن أطال الوضع; لأن الوضع ليس من أفعال الصلاة مقصودا بل من توابعها، فلا يخرج من أن يكون فعل الصلاة تبعا لعدم الطهارة; لوجود الطهارة في الأصل، وإن كانت النجاسة في موضع السجود لم يجز في قول أبي يوسف ومحمد، وعن أبي حنيفة روايتان روى عنه محمد أنه لا يجوز، وهو الظاهر من مذهبه، وروى أبو يوسف عنه أنه يجوز وجه قولهما أن الفرض هو السجود على الجبهة. وقدر الجبهة أكثر من قدر الدرهم فلا يكون عفوا وجه رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أن فرض السجود يتأدى بمقدار أرنبة الأنف عنده، وذلك أقل من قدر الدرهم فيجوز، والصحيح رواية محمد؛ لأن الفرض وإن كان يتأدى بمقدار الأرنبة عنده، ولكن إذا وضع الجبهة مع الأرنبة يقع الكل فرضا، كما إذا طول القراءة زيادة على ما يتعلق به جواز الصلاة، ومقدار الجبهة والأنف يزيد على قدر الدرهم فلا يكون عفوا، ثم قوله: إذا سجد على موضع نجس لم تجز أي صلاته، كذا ذكر في ظاهر الرواية وهو قول زفر وروي عن أبي يوسف أنه لم يجز سجوده، فأما الصلاة فلا تفسد، حتى لو أعاد السجود على موضع طاهر جازت صلاته ووجهه أن السجود على موضع نجس ملحق بالعدم; لانعدام شرط الجواز وهو الطهارة، فصار كأنه لم يسجد عليه، وسجد على مكان طاهر وجه ظاهر الرواية أن السجدة أو ركنا آخر لما لم يجز على موضع نجس; صار فعلا كثيرا ليس من أفعال الصلاة، وذا يوجب فساد الصلاة، ولو كانت النجاسة في موضع إحدى القدمين على قياس رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة يجوز; لأن أدنى القيام هو القيام بإحدى القدمين وإحداهما طاهرة فيتأدى به الفرض فكان وضع الأخرى فضلا بمنزلة وضع اليدين والركبتين، وعلى قياس رواية محمد عنه لا يجوز، وهو الصحيح; لأنه إذا وضعهما جميعا يتأدى الفرض بهما، كما في القراءة على ما مر، والله تعالى: أعلم هذا إذا كان يصلي على الأرض، فأما إذا كان يصلي على بساط فإن كانت النجاسة في مكان الصلاة وهي كثيرة فحكمه حكم الأرض على ما مر، وإن كانت على طرف من أطرافه اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: "إن كان البساط كبيرا بحيث لو رفع طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر يجوز، وإلا فلا". كما إذا تعمم بثوب، وأحد طرفيه ملقى على الأرض، وهو نجس أنه إن كان بحال لا يتحرك بتحركه جاز

 

ج / 1 ص -83-         وإن كان يتحرك بحركته لا يجوز، والصحيح أنه يجوز صغيرا كان أو كبيرا بخلاف العمامة، "والفرق" أن الطرف النجس من العمامة إذا كان يتحرك بتحركه، صار حاملا للنجاسة مستعملا لها، وهذا لا يتحقق في البساط، ألا ترى أنه لو وضع يديه أو ركبتيه على الموضع النجس منه يجوز؟، ولو صار حاملا لما جاز، ولو صلى على ثوب مبطن ظهارته طاهرة، وبطانته نجسة، روي عن محمد أنه يجوز، وكذا ذكر في نوادر الصلاة. وروي عن أبي يوسف أنه لا يجوز، ومن المشايخ من وفق بين الروايتين فقال: جواب محمد فيما إذا كان مخيطا غير مضرب فيكون بمنزلة ثوبين، والأعلى منهما طاهر، وجواب أبي يوسف فيما إذا كان مخيطا مضربا فيكون بمنزلة ثوب واحد ظاهره طاهر، وباطنه نجس ومنهم من حقق فيه الاختلاف فقال: على قول محمد يجوز كيفما كان، وعلى قول أبي يوسف لا يجوز كيفما كان. وعلى هذا إذا صلى على حجر الرحا، أو على باب، أو بساط غليظ، أو على مكعب ظاهره طاهر، وباطنه نجس يجوز عند محمد، وبه كان يفتي الشيخ أبو بكر الإسكاف، وعند أبي يوسف لا يجوز، وبه كان يفتي الشيخ أبو حفص الكبير، فأبو يوسف نظر إلى اتحاد المحل فقال: "المحل محل واحد فاستوى ظاهره وباطنه، كالثوب الصفيق، ومحمد اعتبر الوجه الذي يصلى عليه فقال: "إنه صلى في موضع طاهر، وليس هو حاملا للنجاسة فتجوز، كما إذا صلى على ثوب تحته ثوب نجس بخلاف الثوب الصفيق"؛ لأن الثوب وإن كان صفيقا فالظاهر نفاذ الرطوبات إلى الوجه الآخر، إلا أنه ربما لا تدركه العين لتسارع الجفاف إليه، ولو أن بساطا غليظا، أو ثوبا مبطنا مضربا وعلى كلا وجهيه نجاسة أقل من قدر الدرهم في موضعين مختلفين، لكنهما لو جمعا يزيد على قدر الدرهم، على قياس رواية أبي يوسف يجمع، ولا تجوز صلاته; لأنه ثوب واحد، ونجاسة واحدة، وعلى قياس رواية محمد لا يجمع، وتجوز صلاته; لأن النجاسة في الوجه الذي يصلي فيه أقل من قدر الدرهم، ولو كان ثوبا صفيقا والمسألة بحالها لا يجوز بالإجماع; لما ذكرنا أن الظاهر هو النفاذ إلى الجانب الآخر، وإن كان لا يدركه الحس، فاجتمع في وجه واحد نجاستان لو جمعتا يزيد على قدر الدرهم فيمنع الجواز، ولو أن ثوبا، أو بساطا أصابته النجاسة ونفذت إلى الوجه الآخر، وإذا جمعا يزيد على قدر الدرهم لا يجمع بالإجماع، أما على قياس رواية أبي يوسف فلأنه ثوب واحد ونجاسة واحدة. وأما على قياس رواية محمد فلأن النجاسة في الوجه الذي يصلى عليه أقل من قدر الدرهم، وكذا إذا كان الثوب مبطنا مضربا والمسألة بحالها لا يجمع بالإجماع لما قلنا.

فصل": وأما بيان ما يقع به التطهير فالكلام في هذا الفصل يقع في ثلاثة مواضع: أحدها في بيان ما يقع به التطهير والثاني في بيان طريق التطهير بالغسل، والثالث في بيان شرائط التطهير.
أما" الأول فما يحصل به التطهير أنواع: منها الماء المطلق، ولا خلاف في أنه يحصل به الطهارة الحقيقية والحكمية جميعا; لأن الله تعالى: سمى الماء طهورا بقوله:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وكذا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غير لونه، أو طعمه، أو ريحه" والطهور: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وكذا جعل الله تعالى: الوضوء والاغتسال بالماء طهورا بقوله في آخر آية الوضوء: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}. وقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ويستوي العذب والملح لإطلاق النصوص. وأما ما سوى الماء من المائعات الطاهرة فلا خلاف في أنه لا تحصل بها الطهارة الحكمية، وهي زوال الحدث، وهل تحصل بها الطهارة الحقيقية وهي زوال النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن؟ اختلف فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تحصل وقال محمد وزفر والشافعي: لا تحصل. وروي عن أبي يوسف أنه فرق بين الثوب والبدن، فقال في الثوب: "تحصل وفي البدن لا تحصل إلا بالماء" وجه قولهم أن طهورية الماء عرفت شرعا بخلاف القياس; لأنه بأول ملاقاته النجس صار نجسا، والتطهير بالنجس لا يتحقق كما إذا غسل بماء نجس، أو بالخمر، إلا أن الشرع أسقط اعتبار نجاسة الماء حالة الاستعمال، وبقاؤه طهورا على خلاف القياس فلا يلحق به غيره; ولهذا لم يلحق به في إزالة الحدث، "ولهما" أن الواجب هو التطهير، وهذه المائعات تشارك الماء في التطهير; لأن الماء إنما كان مطهرا لكونه مائعا رقيقا يداخل أثناء الثوب، فيجاور أجزاء النجاسة، فيرققها إن كانت كثيفة، فيستخرجها

 

ج / 1 ص -84-         بواسطة العصر، وهذه المائعات في المداخلة، والمجاورة، والترقيق، مثل الماء فكانت مثله في إفادة الطهارة بل أولى، فإن الخل يعمل في إزالة بعض ألوان لا تزول بالماء، فكان في معنى التطهير أبلغ، "وأما" قولهم: إن الماء بأول ملاقاة النجس صار نجسا ممنوع، والماء قط لا يصير نجسا، وإنما يجاور النجس فكان طاهرا في ذاته فصلح مطهرا، ولو تصور تنجس الماء فذلك بعد مزايلته المحل النجس; لأن الشرع أمرنا بالتطهير، ولو تنجس بأول الملاقاة لما تصور التطهير، فيقع التكليف بالتطهير عبثا، تعالى: الله عن ذلك، فهكذا نقول في الحدث، إلا أن الشرع ورد بالتطهير بالماء هناك تعبدا غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد التعبد، وهذا إذا كان مائعا ينعصر بالعصر، فإن كان لا ينعصر، مثل العسل والسمن والدهن ونحوها، لا تحصل به الطهارة أصلا؛ لانعدام المعاني التي يقف عليها زوال النجاسة على ما بينا.
ومنها": الفرك، والحت بعد الجفاف في بعض الأنجاس في بعض المحال، "وبيان" هذه الجملة: إذا أصاب المني الثوب وجف وفرك طهر استحسانا، والقياس أن لا يطهر إلا بالغسل، وإن كان رطبا لا يطهر إلا بالغسل، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها:
"إذا رأيت المني في ثوبك إن كان رطبا فاغسليه، وإن كان يابسا فافركيه"; ولأنه شيء غليظ لزج لا يتشرب في الثوب إلا رطوبته، ثم تنجذب تلك الرطوبة بعد الجفاف فلا يبقى إلا عينه، وأنها تزول بالفرك بخلاف الرطب; لأن العين وإن زالت بالحت فأجزاؤها المتشربة في الثوب قائمة، فبقيت النجاسة، وإن أصاب البدن، فإن كان رطبا لا يطهر إلا بالغسل; لما بينا؛ وإن جف فهل يطهر بالحت؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر، وذكر الكرخي أنه يطهر وجه رواية الحسن أن القياس أن لا يطهر في الثوب إلا بالغسل، وإنما عرفناه بالحديث، وأنه ورد في الثوب بالفرك فبقي البدن مع أنه لا يحتمل الفرك على أصل القياس وجه قول الكرخي أن النص الوارد في الثوب يكون واردا في البدن من طريق الأولى; لأن البدن أقل تشربا من الثوب، والحت في البدن يعمل عمل الفرك في الثوب في إزالة العين.
وأما" سائر النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن ونحوهما فإنها لا تزول إلا بالغسل، سواء كانت رطبة أو يابسة، وسواء كانت سائلة أو لها جرم ولو أصاب ثوبه خمر، فألقى عليها الملح، ومضى عليه من المدة مقدار ما يتخلل فيها، لم يحكم بطهارته، حتى يغسله. ولو أصابه عصير، فمضى عليه من المدة مقدار ما يتخمر العصير فيها، لا يحكم بنجاسته، وإن أصاب الخف أو النعل ونحوهما، فإن كانت رطبة لا تزول إلا بالغسل كيفما كانت. وروي عن أبي يوسف أنه يطهر بالمسح على التراب كيفما كانت مستجسدة أو مائعة، وإن كانت يابسة فإن لم يكن لها جرم كثيف كالبول والخمر والماء النجس لا يطهر إلا بالغسل، وإن كان لها جرم كثيف فإن كان منيا فإنه يطهر بالحت بالإجماع، وإن كان غيره كالعذرة والدم الغليظ والروث يطهر بالحت عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يطهر إلا بالغسل، وهو أحد قولي الشافعي، وما قالاه استحسان، وما قاله قياس وجه القياس أن غير الماء لا أثر له في الإزالة، وكذا القياس في الماء؛ لما بينا فيما تقدم، إلا أنه يجعل طهورا للضرورة، والضرورة ترتفع بالماء، فلا ضرورة في غيره، ولهذا لم يؤثر في إزالة الرطب واليابس والسائل وفي الثوب، وهذا هو القياس في المني، إلا أنا عرفناه بالنص. وجه الاستحسان ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة، خلع الناس نعالهم، فلما فرغ من الصلاة قال:
"ما بالكم خلعتم نعالكم"؟ فقالوا: خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال: "أتاني جبريل وأخبرني أن بهما أذى"، ثم قال: إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه، فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض، فإن الأرض لهما طهور"، وهذا نص والفقه من وجهين: أحدهما: أن المحل إذا كان فيه صلابة نحو الخف والنعل، لا تتخلل أجزاء النجاسة فيه لصلابته، وإنما تتشرب منه بعض الرطوبات، فإذا أخذ المستجسد في الجفاف جذبت تلك الرطوبات إلى نفسه شيئا فشيئا، فكلما ازداد يبسا ازداد جذبا، إلى أن يتم الجفاف، فعند ذلك لا يبقى منها شيء، أو يبقى شيء يسير، فإذا جف الخف، أو مسحه على الأرض تزول العين بالكلية، بخلاف حالة الرطوبة; لأن العين وإن زالت فالرطوبات باقية، لأنه خروجها بالجذب بسبب اليبس، ولم يوجد وبخلاف السائل; لأنه لم يوجد الجاذب وهو العين المستجسدة فبقيت الرطوبة المتشربة فيه، فلا يطهر بدون الغسل، وبخلاف

 

ج / 1 ص -85-         الثوب فإن أجزاء النجاسة تتخلل في الثوب كما تتخلل رطوباتها لتخلخل أجزاء الثوب، فبالجفاف انجذبت الرطوبات إلى نفسها، فتبقى أجزاؤها فيه فلا تزول بإزالة الجرم الظاهر على سبيل الكمال، وصار كالمني إذا أصاب الثوب أنه يطهر بالفرك عند الجفاف; لأن المني شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب. وإنما تتخلل رطوباته فقط، ثم يجذبها المستجسد عند الجفاف فيطهر فكذلك هذا، والثاني أن إصابة هذه الأنجاس الخفاف والنعال مما يكثر، فيحكم بطهارتها بالمسح دفعا للحرج بخلاف الثوب، والحرج في الأرواث لا غير، وإنما سوى في رواية عن أبي يوسف بين الكل لإطلاق ما روينا من الحديث، وكذا معنى الحرج لا يفصل بين الرطب واليابس، ولو أصابه الماء بعد الحت والمسح يعود نجسا، هو الصحيح من الرواية; لأن شيئا من النجاسة قائم; لأن المحل إذا تشرب فيه النجس، وأنه لا يحتمل العصر، لا يطهر عند محمد أبدا، وعند أبي يوسف ينقع في الماء ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، إلا أن معظم النجاسة قد زال، فجعل القليل عفوا في حق جواز الصلاة للضرورة، لا أن يطهر المحل حقيقة، فإذا وصل إليه الماء فهذا ماء قليل جاوره قليل نجاسة فينجسه، وأطلق الكرخي أنه إذا حت طهر، وتأويله في حق جواز الصلاة، ولو أصابت النجاسة شيئا صلبا صقيلا، كالسيف والمرآة ونحوهما يطهر بالحت، رطبة كانت أو يابسة; لأنه لا يتخلل في أجزائه شيء من النجاسة، وظاهره يطهر بالمسح والحث وقيل: إن كانت رطبة لا تزول إلا بالغسل، ولو أصابت النجاسة الأرض فجفت وذهب أثرها تجوز الصلاة عليها عندنا، وعند زفر لا تجوز، وبه أخذ الشافعي، ولو تيمم بهذا التراب لا يجوز في ظاهر الرواية، وقد ذكرنا الفرق فيما تقدم. "ولنا" طريقان: أحدهما أن الأرض لم تطهر حقيقة لكن زال معظم النجاسة عنها، وبقي شيء قليل فيجعل عفوا للضرورة، فعلى هذا إذا أصابها الماء تعود نجسة لما بينا. والثاني أن الأرض طهرت حقيقة; لأن من طبع الأرض أنها تحيل الأشياء، وتغيرها إلى طبعها، فصارت ترابا بمرور الزمان، ولم يبق نجس أصلا، فعلى هذا إن أصابها لا تعود نجسة، وقيل: إن الطريق الأول لأبي يوسف، والثاني لمحمد، بناء على أن النجاسة إذا تغيرت بمضي الزمان وتبدلت أوصافها، تصير شيئا آخر عند محمد، فيكون طاهرا، وعند أبي يوسف لا يصير شيئا آخر فيكون نجسا، وعلى هذا الأصل مسائل بينهما.
منها": الكلب إذا وقع في الملاحة، والجمد، والعذرة إذا أحرقت بالنار وصارت رمادا، وطين البالوعة إذا جف وذهب أثره والنجاسة إذا دفنت في الأرض وذهب أثرها بمرور الزمان وجه قول أبي يوسف أن أجزاء النجاسة قائمة، فلا تثبت الطهارة مع بقاء العين النجسة، والقياس في الخمر إذا تخلل أن لا يطهر، لكن عرفناه نصا بخلاف القياس، بخلاف جلد الميتة فإن عين الجلد طاهرة، وإنما النجس ما عليه من الرطوبات، وأنها تزول بالدباغ وجه قول محمد أن النجاسة لما استحالت، وتبدلت أوصافها ومعانيها خرجت عن كونها نجاسة; لأنها اسم لذات موصوفة، فتنعدم بانعدام الوصف، وصارت كالخمر إذا تخللت.
ومنها" الدباغ للجلود النجسة، فالدباغ تطهير للجلود كلها إلا جلد الإنسان والخنزير، كذا ذكر الكرخي، وقال مالك: "إن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، لكن يجوز استعماله في الجامد، لا في المائع، بأن يجعل جرابا للحبوب دون الزق للماء والسمن والدبس"، وقال عامة أصحاب الحديث: "لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه" وقال الشافعي: كما قلنا إلا في جلد الكلب; لأنه نجس العين عنده كالخنزير وكذا روي عن الحسن بن زياد واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" واسم الإهاب يعم الكل إلا فيما قام الدليل على تخصيصه، "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" كالخمر تخلل فتحل وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بفناء قوم فاستسقاهم فقال: هل عندكم ماء؟ فقالت امرأة: لا يا رسول الله إلا في قربة لي ميتة فقال صلى الله عليه وسلم "ألست دبغتيها" ؟ فقالت: "نعم" فقال: "دباغها طهورها"; ولأن نجاسة الميتات لما فيها من الرطوبات والدماء السائلة وأنها تزول بالدباغ فتطهر كالثوب النجس إذا غسل; ولأن العادة جارية فيما بين المسلمين بلبس جلد الثعلب، والفنك، والسمور ونحوها، في الصلاة وغيرها من غير نكير، فدل على الطهارة، ولا حجة لهم في الحديث; لأن الإهاب في اللغة: اسم لجلد لم يدبغ، كذا قاله الأصمعي، والله أعلم، ثم قول الكرخي: إلا جلد الإنسان

 

ج / 1 ص -86-         والخنزير، جواب ظاهر قول أصحابنا. وروي عن أبي يوسف أن الجلود كلها تطهر بالدباغ لعموم الحديث، والصحيح أن جلد الخنزير لا يطهر بالدباغ; لأن نجاسته ليست لما فيه من الدم والرطوبة بل هو نجس العين، فكان وجود الدباغ في حقه والعدم بمنزلة واحدة، وقيل: إن جلده لا يحتمل الدباغ; لأن له جلودا مترادفة، بعضها فوق بعض كما للآدمي. وأما جلد الإنسان فإن كان يحتمل الدباغ وتندفع رطوبته بالدبغ ينبغي أن يطهر; لأنه ليس بنجس العين لكن لا يجوز الانتفاع به احتراما له وأما جلد الفيل فذكر في العيون عن محمد أنه لا يطهر بالدباغ. وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يطهر; لأنه ليس بنجس العين، ثم الدباغ على ضربين: حقيقي، وحكمي، فالحقيقي: هو أن يدبغ بشيء له قيمة كالقرظ والعفص والسبخة ونحوها، والحكمي: أن يدبغ بالتشميس والتتريب والإلقاء في الريح، والنوعان مستويان في سائر الأحكام إلا في حكم واحد، وهو أنه لو أصابه الماء بعد الدباغ الحقيقي لا يعود نجسا، وبعد الدباغ الحكمي فيه روايتان. وقال الشافعي: "لا يطهر الجلد إلا بالدباغ الحقيقي، وأنه غير سديد"; لأن الحكمي في إزالة الرطوبات، والعصمة عن النتن، والفساد بمضي الزمان، مثل الحقيقي، فلا معنى للفصل بينهما، والله أعلم.
ومنها" الذكاة في تطهير الذبيح، وجملة الكلام فيها أن الحيوان إن كان مأكول اللحم فذبح طهر بجميع أجزائه إلا الدم المسفوح، وإن لم يكن مأكول اللحم فما هو طاهر من الميتة، من الأجزاء التي لا دم فيها، كالشعر وأمثاله، يطهر منه بالذكاة عندنا. وأما الأجزاء التي فيها الدم كاللحم والشحم والجلد فهل تطهر بالذكاة، اتفق أصحابنا على أن جلده يطهر بالذكاة وقال الشافعي: "لا يطهر" وجه قوله أن الذكاة لم تفد حلا فلا تفيد طهرا وهذا; لأن أثر الذكاة يظهر فيما وضع له أصلا، وهو حل تناول اللحم وفي غيره تبعا فإذا لم يظهر أثرها في الأصل كيف يظهر في التبع; فصار كما لو ذبحه مجوسي. "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"دباغ الأديم ذكاته" ألحق الذكاة بالدباغ، ثم الجلد يطهر بالدباغ كذا بالذكاة; لأن الذكاة تشارك الدباغ في إزالة الدماء السائلة، والرطوبات النجسة، فتشاركه في إفادة الطهارة، وما ذكر من معنى التبعية فغير سديد; لأن طهارة الجلد حكم مقصود في الجلد، كما أن تناول اللحم حكم مقصود في اللحم، وفعل المجوسي ليس بذكاة؛ لعدم أهلية الذكاة، فلا يفيد الطهارة فتعين تطهيره بالدباغ، واختلفوا في طهارة اللحم والشحم، ذكر الكرخي فقال: كل حيوان يطهر بالدباغ; يطهر جلده بالذكاة، فهذا يدل على أنه يطهر لحمه وشحمه وسائر أجزائه; لأن الحيوان اسم لجملة الأجزاء. وقال بعض مشايخنا ومشايخ بلخ: "إن كل حيوان يطهر جلده بالدباغ يطهر جلده بالذكاة، فأما اللحم والشحم ونحوهما فلا يطهر، والأول أقرب إلى الصواب; لما مر أن النجاسة لمكان الدم المسفوح، وقد زال بالذكاة.
ومنها" نزح ما وجب من الدلاء، أو نزح جميع الماء بعد استخراج الواقع في البئر من الآدمي، أو غيره من الحيوان في تطهير البئر عرفنا ذلك بالخبر وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا فيما تقدم، ثم إذا وجب نزح جميع الماء من البئر فينبغي أن تسد جميع منابع الماء إن أمكن، ثم ينزح ما فيها من الماء النجس، وإن لم يمكن سد منابعه لغلبة الماء روي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه ينزح مائة دلو. وروي مائتا دلو، وعن محمد أنه ينزح مائتا دلو، أو ثلاثمائة دلو، وعن أبي يوسف روايتان: في رواية: يحفر بجنبها حفيرة مقدار عرض الماء، وطوله وعمقه، ثم ينزح ماؤها ويصب في الحفيرة، حتى تمتلئ فإذا امتلأت حكم بطهارة البئر، وفي رواية: يرسل فيها قصبة، ويجعل لمبلغ الماء علامة، ثم ينزح منها عشرة دلاء مثلا، ثم ينظر كم انتقص فينزح بقدر ذلك والأوفق في الباب ما روي عن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام أنه يؤتى برجلين لهما بصارة في أمر الماء فينزح بقولهما; لأن ما يعرف بالاجتهاد يرجع فيه إلى أهل الاجتهاد في ذلك الباب، ثم اختلف في الدلو الذي ينزح به الماء النجس قال بعضهم: "المعتبر في كل بئر دلوها، صغيرا كان أو كبيرا". وروي عن أبي حنيفة أنه يعتبر دلو يسع قدر صاع، وقيل: المعتبر هو المتوسط بين الصغير والكبير. وأما حكم طهارة الدلو والرشاء فقد روي عن أبي يوسف أنه سئل عن الدلو الذي ينزح به الماء النجس من البئر أيغسل أم لا ؟ قال: "لا بل يطهره ما طهر البئر" وكذا روي عن الحسن بن زياد أنه قال: "إذا طهرت البئر يطهر الدلو والرشاء، كما يطهر طين البئر وحمأته"; لأن نجاستهما بنجاسة البئر، وطهارتهما يكون بطهارة البئر

 

ج / 1 ص -87-         أيضا، كالخمر إذا تخلل في دن، أنه يحكم بطهارة الدن.
ومنها": تطهير الحوض الصغير إذا تنجس، واختلف المشايخ فيه فقال أبو بكر الأعمش: "لا يطهر حتى يدخل الماء فيه، ويخرج منه مثل ما كان فيه ثلاث مرات فيصير ذلك بمنزلة غسله ثلاثا". وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: "إذا دخل فيه الماء الطاهر، وخرج بعضه، يحكم بطهارته بعد أن لا تستبين فيه النجاسة; لأنه صار ماء جاريا، ولم يستيقن ببقاء النجس فيه، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، وقيل: إذا خرج منه مقدار الماء النجس يطهر، كالبئر إذا تنجست، أنه يحكم بطهارتها بنزح ما فيها من الماء وعلى هذا حوض الحمام أو الأواني إذا تنجس.

فصل": وأما طريق التطهير بالغسل فلا خلاف في أن النجس يطهر بالغسل في الماء الجاري، وكذا يطهر بالغسل بصب الماء عليه، واختلف في أنه هل يطهر بالغسل في الأواني، بأن غسل الثوب النجس أو البدن النجس في ثلاث إجانات؟ قال أبو حنيفة ومحمد: يطهر، حتى يخرج من الإجانة الثالثة طاهرا. وقال أبو يوسف: لا يطهر البدن وإن غسل في إجانات كثيرة ما لم يصب عليه الماء، وفي الثوب عنه روايتان وجه قول أبي يوسف أن القياس يأبى حصول الطهارة بالغسل بالماء أصلا، لأن الماء متى لاقى النجاسة تنجس، سواء ورد الماء على النجاسة، أو وردت النجاسة على الماء، والتطهير بالنجس لا يتحقق، إلا أنا حكمنا بالطهارة; لحاجة الناس تطهير الثياب والأعضاء النجسة، والحاجة تندفع بالحكم بالطهارة عند ورود الماء على النجاسة، فبقي ما وراء ذلك على أصل القياس، فعلى هذا لا يفرق بين البدن والثوب، ووجه الفرق له على الرواية الأخرى: أن في الثوب ضرورة، إذ كل من تنجس ثوبه لا يجد من يصب الماء عليه، ولا يمكنه الصب عليه بنفسه وغسله، فترك القياس فيه لهذه الضرورة دفعا للحرج; ولهذا جرى العرف بغسل الثياب في الأواني، ولا ضرورة في العضو; لأنه يمكنه غسله بصب الماء عليه، فبقي على ما يقتضيه القياس وجه قولهما أن القياس متروك في الفصلين لتحقق الضرورة في المحلين، إذ ليس كل من أصابت النجاسة بعض بدنه يجد ماء جاريا، أو من يصب عليه الماء وقد لا يتمكن من الصب بنفسه. وقد تصيب النجاسة موضعا يتعذر الصب عليه، فإن من دمي فمه أو أنفه لو صب عليه الماء لوصل الماء النجس إلى جوفه، أو يعلو إلى دماغه، وفيه حرج بين، فتركنا القياس لعموم الضرورة مع أن ما ذكره من القياس غير صحيح; لما ذكرنا فيما تقدم أن الماء لا ينجس أصلا، ما دام على المحل النجس على ما مر بيانه، وعلى هذا الخلاف إذا كان على يده نجاسة فأدخلها في جب من الماء، ثم في الثاني والثالث هكذا لو كان في الخوابي خل نجس والمسألة بحالها عند أبي حنيفة يخرج من الثالثة طاهرا خلافا لهما، بناء على أصل آخر وهو أن المائعات الطاهرة تزيل النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن عند أبي حنيفة، والصب ليس بشرط، وعند محمد لا تزيل أصلا، وعند أبي يوسف تزيل لكن بشرط الصب، ولم يوجد فاتفق جوابهما بناء على أصلين مختلفين.

فصل": وأما شرائط التطهير بالماء فمنها العدد في نجاسة غير مرئية عندنا، والجملة في ذلك أن النجاسة نوعان: حقيقية، وحكمية، ولا خلاف في أن النجاسة الحكمية وهي الحدث والجناية تزول بالغسل مرة واحدة، ولا يشترط فيها العدد. وأما النجاسة الحقيقية فإن كانت غير مرئية، كالبول ونحوه، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا تطهر إلا بالغسل ثلاثا، وعند الشافعي تطهر بالغسل مرة واحدة اعتبارا بالحدث، إلا في ولوغ الكلب في الإناء، فإنه لا يطهر إلا بالغسل سبعا إحداهن بالتراب بالحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب". "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا" فقد أمر بالغسل ثلاثا، وإن كان ذلك غير مرئي وما رواه الشافعي فذلك عندما كان في ابتداء الإسلام; لقلع عادة الناس في الإلف بالكلاب، كما أمر بكسر الدنان ونهى عن الشرب في ظروف الخمر حين حرمت الخمر، فلما تركوا العادة أزال ذلك كما في الخمر، دل عليه ما روي في بعض الروايات: "فليغسله سبعا أولاهن بالتراب، أو أخراهن بالتراب" وفي بعضها: "وعفروا الثامنة بالتراب " وذلك غير واجب بالإجماع. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده" أمر بالغسل ثلاثا عند

 

ج / 1 ص -88-         توهم النجاسة، فعند تحققها أولى; ولأن الظاهر أن النجاسة لا تزول بالمرة الواحدة، ألا ترى أن النجاسة المرئية فقط لا تزول بالمرة الواحدة، فكذا غير المرئية، ولا فرق سوى أن ذلك يرى بالحس، وهذا يعلم بالعقل، والاعتبار بالحدث غير سديد; لأنه ثمة لا نجاسة رأسا، وإنما عرفنا وجوب الغسل نصا غير معقول المعنى، والنص ورد بالاكتفاء بمرة واحدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم التقدير بالثلاث عندنا ليس بلازم، بل هو مفوض إلى غالب رأيه، وأكبر ظنه، وإنما ورد النص بالتقدير بالثلاث بناء على غالب العادات، فإن الغالب أنها تزول بالثلاث; ولأن الثلاث هو الحد الفاصل لإبلاء العذر، كما في قصة العبد الصالح مع موسى حيث قال له موسى في المرة الثالثة: "قد بلغت من لدني عذرا" وإن كانت النجاسة مرئية كالدم ونحوه، فطهارتها زوال عينها، ولا عبرة فيه بالعدد; لأن النجاسة في العين فإن زالت العين زالت النجاسة، وإن بقيت بقيت، ولو زالت العين وبقي الأثر، فإن كان مما يزول أثره لا يحكم بطهارته، ما لم يزل الأثر; لأن الأثر لون عينه، لا لون الثوب، فبقاؤه يدل على بقاء عينه وإن كانت النجاسة مما لا يزول أثره، لا يضر بقاء أثره عندنا، وعند الشافعي لا يحكم بطهارته ما دام الأثر باقيا وينبغي أن يقطع بالمقراض; لأن بقاء الأثر دليل بقاء العين. "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمستحاضة: "حتيه، ثم اقرضيه، ثم اغسليه بالماء، ولا يضرك أثره" وهذا نص; ولأن الله تعالى: لما لم يكلفنا غسل النجاسة إلا بالماء، مع علمه أنه ليس في طبع الماء قلع الآثار دل على أن بقاء الأثر فيما لا يزول أثره ليس بمانع زوال النجاسة. وقوله: بقاء الأثر دليل بقاء العين مسلم، لكن الشرع أسقط اعتبار ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يضرك بقاء أثره"، ولما ذكرنا أنه لم يأمرنا إلا بالغسل بالماء، ولم يكلفنا تعلم الحيل في قلع الآثار; ولأن ذلك في حد القلة، والقليل من النجاسة عفو عندنا; ولأن إصابة النجاسة التي لها أثر باق كالدم الأسود العبيط مما يكثر في الثياب خصوصا في حق النسوان، فلو أمرنا بقطع الثياب; لوقع الناس في الحرج، وأنه مدفوع وكذا يؤدي إلى إتلاف الأموال، والشرع نهانا عن ذلك، فكيف يأمرنا به ؟.
ومنها" العصر فيما يحتمل العصر، وما يقوم مقامه فيما لا يحتمله والجملة فيه أن المحل الذي تنجس إما إن كان شيئا لا يتشرب فيه أجزاء النجس أصلا، أو كان شيئا يتشرب فيه شيء يسير، أو كان شيئا يتشرب فيه شيء كثير، فإن كان مما لا يتشرب فيه شيء أصلا، كالأواني المتخذة من الحجر والصفر، والنحاس والخزف العتيق، ونحو ذلك فطهارته بزوال عين النجاسة، أو العدد على ما مر، وإن كان مما يتشرب فيه شيء قليل، كالبدن والخف والنعل فكذلك; لأن الماء يستخرج ذلك القليل فيحكم بطهارته، وإن كان مما يتشرب فيه كثير، فإن كان مما يمكن عصره كالثياب، فإن كانت النجاسة مرئية فطهارته بالغسل والعصر إلى أن تزول العين، وإن كانت غير مرئية فطهارته بالغسل ثلاثا، والعصر في كل مرة; لأن الماء لا يستخرج الكثير إلا بواسطة العصر، ولا يتم الغسل بدونه. وروي عن محمد أنه يكتفي بالعصر في المرة الأخيرة، ويستوي الجواب عندنا بين بول الصبي والصبية. وقال الشافعي: "بول الصبي يطهر بالنضح من غير عصر"، "واحتج" بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينضح بول الصبي، ويغسل بول الجارية". "ولنا" ما روينا من حديث عمار من غير فصل بين بول وبول، وما رواه غريب فلا يقبل، خصوصا إذا خالف المشهور، وإن كان مما لا يمكن عصره، كالحصير المتخذ من البوري ونحوه، أي ما لا ينعصر بالعصر إن علم أنه لم يتشرب فيه، بل أصاب ظاهره يطهر بإزالة العين، أو بالغسل ثلاث مرات من غير عصر، فأما إذا علم أنه تشرب فيه فقد قال أبو يوسف: "ينقع في الماء ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة فيحكم بطهارته". وقال محمد: "لا يطهر أبدا"، وعلى هذا الخلاف: الخزف الجديد إذا تشرب فيه النجس، والجلد إذا دبغ بالدهن النجس، والحنطة إذا تشرب فيها النجس وانتفخت أنها لا تطهر أبدا عند محمد، وعند أبي يوسف تنقع في الماء ثلاث مرات، وتجفف في كل مرة وكذا السكين إذا موه بماء نجس، واللحم إذا طبخ بماء نجس فعند أبي يوسف: يموه السكين، ويطبخ اللحم بالطاهر ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، وعند محمد: لا يطهر أبدا وجه قول محمد أن النجاسة إذا دخلت في الباطن يتعذر استخراجها إلا بالعصر، والعصر متعذر وأبو يوسف يقول: إن تعذر العصر فالتجفيف ممكن، فيقام التجفيف مقام العصر

 

ج / 1 ص -89-         دفعا للحرج وما قاله محمد أقيس، وما قاله أبو يوسف أوسع، ولو أن الأرض أصابتها نجاسة رطبة، فإن كانت الأرض رخوة يصب عليها الماء، حتى يتسفل فيها فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة، وتسفلت المياه يحكم بطهارتها، ولا يعتبر فيها العدد، وإنما هو على اجتهاده، وما في غالب ظنه أنها طهرت، ويقوم التسفل في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية يصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل في كل مرة، وإن كانت الأرض صلبة فإن كانت صعودا يحفر في أسفلها حفيرة، ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويزال عنها إلى الحفيرة، ثم تكبر الحفيرة، وإن كانت مستوية بحيث لا يزول الماء عنها لا تغسل، لعدم الفائدة في الغسل. وقال الشافعي: "إذا كوثرت بالماء طهرت"، وهذا فاسد; لأن الماء النجس باق حقيقة، ولكن ينبغي أن تقلب فيجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها ليصير التراب الطاهر وجه الأرض، هكذا روي أن أعرابيا بال في المسجد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر موضع بوله، فدل أن الطريق ما قلنا، والله أعلم