بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع
"كتاب الصلاة"
يحتاج لمعرفة مسائل كتاب الصلاة إلى معرفة
"أنواع الصلاة" ، وما يشتمل عليه كل نوع من
الكيفيات، والأركان، والشرائط والواجبات،
والسنن، وما يستحب فعله فيه وما يكره، وما
يفسده، ومعرفة حكمه إذا فسد أو فات عن وقته
فنقول وبالله التوفيق: الصلاة في الأصل أربعة
أنواع: فرض، وواجب، وسنة، ونافلة والفرض
نوعان: فرض عين، وفرض كفاية وفرض العين نوعان:
أحدهما: الصلوات المعهودة في كل يوم وليلة،
والثاني: صلاة الجمعة أما الصلوات المعهودة في
كل يوم وليلة فالكلام فيها يقع في مواضع
في بيان أصل فرضيتها، وفي بيان عددها، وفي
بيان عدد ركعاتها، وفي بيان أركانها، وفي بيان
شرائط الأركان، وفي بيان واجباتها، وفي بيان
سننها، وفي بيان ما يستحب فعله وما يكره فيها،
وفي بيان ما يفسدها، وفي بيان حكمها; إذا
فسدت؛ أو فاتت عن أوقاتها; أو فات شيء من صلاة
من هذه الصلوات عن الجماعة; أو عن محله
الأصلي، ونذكره في آخر الصلاة أما فرضيتها
فثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
"أما" الكتاب فقوله تعالى في غير موضع من
القرآن:
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} وقوله:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أي فرضا مؤقتا. وقوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، ومطلق اسم الصلاة ينصرف إلى الصلوات المعهودة وهي التي تؤدى في كل
يوم وليلة. وقوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} الآية يجمع الصلوات الخمس لأن صلاة الفجر تؤدى في أحد طرفي النهار،
وصلاة الظهر والعصر يؤديان في الطرف الآخر إذ
النهار قسمان: غداة وعشي، والغداة: اسم لأول
النهار إلى وقت الزوال وما بعده العشي، حتى أن
من حلف لا يأكل العشي فأكل بعد الزوال يحنث؛
فدخل في طرفي النهار ثلاث صلوات، ودخل في قوله {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ}
المغرب، والعشاء لأنهما يؤديان في زلف من الليل وهي ساعاته. وقوله:
{أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وقيل: دلوك الشمس: زوالها، وغسق الليل: أول ظلمته فيدخل فيه صلاة
الظهر والعصر. وقوله: وقرآن الفجر: أي وأقم
قرآن الفجر، وهو صلاة الفجر فثبتت فرضية ثلاث
صلوات بهذه الآية، وفرضية صلاتي المغرب
والعشاء ثبتت بدليل آخر. وقيل دلوك الشمس
غروبها فيدخل فيه صلاة المغرب والعشاء، وتدخل
صلاة الفجر في قوله: وقرآن الفجر، وفرضية صلاة
الظهر والعصر ثبتت بدليل آخر وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "حين تمسون: المغرب
والعشاء، وحين تصبحون: الفجر، وعشيا: العصر،
وحين تظهرون: الظهر" ذكر التسبيح وأراد به
الصلاة أي صلوا لله إما لأن التسبيح من لوازم
الصلاة، أو لأنه تنزيه، والصلاة من أولها إلى
آخرها تنزيه الرب عز وجل لما فيها من إظهار
الحاجات إليه وإظهار العجز والضعف. وفيه وصف
له بالجلال، والعظمة، والرفعة، والتعالي عن
الحاجة قال الشيخ أبو منصور الماتريدي
السمرقندي: "إنهم فهموا من هذه الآية فرضية
الصلوات الخمس. ولو كانت
ج / 1 ص -90-
أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا لما فهموا منها
سوى التسبيح المذكور". وقوله تعالى:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} قيل
في تأويل قوله فسبح، أي فصل قبل طلوع الشمس:
هو صلاة الصبح، وقبل غروبها هو: صلاة الظهر
والعصر، ومن آناء الليل: صلاة المغرب والعشاء،
وقوله: وأطراف النهار على التكرار والإعادة
تأكيدا كما في قوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} ذكر الصلاة الوسطى على التأكيد لدخولها تحت اسم الصلوات، كذا ههنا.
وقوله تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ
فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}
قيل الذكر والتسبيح ههنا هما الصلاة، وقيل:
"الذكر: سائر الأذكار، والتسبيح: الصلاة".
وقوله: بالغدو: صلاة الغداة، والآصال: صلاة
الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقيل: الآصال
هو: صلاة العصر، ويحتمل العصر والظهر لأنهما
يؤديان في الأصيل، وهو العشي، وفرضية المغرب
والعشاء عرفت بدليل آخر "وأما" السنة فما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عام
حجة الوداع:
"اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، وأدوا زكاة
أموالكم طيبة بها أنفسكم، تدخلوا جنة ربكم". وروي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"إن الله
تعالى: فرض على عباده المؤمنين في كل يوم
وليلة خمس صلوات" وعن عبادة أيضا أنه رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:
"خمس
صلوات كتبهن الله تعالى: على العباد فمن أتى
بهن ولم يضيع من حقهن شيئا استخفافا بحقهن;
فإن له عند الله عهدا أن يدخله الجنة، ومن لم
يأت بهن; فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه;
وإن شاء أدخله الجنة"،
وعليه إجماع الأمة; فإن الأمة أجمعت على فرضية
هذه الصلوات. وأما المعقول: فمن وجوه: أحدها:
أن هذه الصلوات إنما وجبت شكرا للنعم منها:
نعمة الخلقة; حيث فضل الجوهر الإنسي بالتصوير
على أحسن صورة، وأحسن تقويم كما قال تعالى:
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وقال
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ} حتى لا ترى أحدا يتمنى أن يكون على غير هذا التقويم، والصورة التي
أنشئ عليها ومنها: نعمة سلامة الجوارح عن
الآفات إذ بها يقدر على إقامة مصالحه، أعطاه
الله ذلك كله إنعاما محضا من غير أن يسبق منه
ما يوجب استحقاق شيء من ذلك، فأمر باستعمال
هذه النعمة في خدمة المنعم شكرا لما أنعم، إذ
شكر النعمة: استعمالها في خدمة المنعم ثم
الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح الظاهرة من
القيام، والركوع، والسجود، والقعود ووضع اليد
مواضعها وحفظ العين، وكذا الجوارح الباطنة من
شغل القلب بالنية، وإشعاره بالخوف، والرجاء،
وإحضار الذهن، والعقل بالتعظيم، والتبجيل؛
ليكون عمل كل عضو شكرا لما أنعم عليه في ذلك
ومنها: نعمة المفاصل اللينة، والجوارح
المنقادة التي بها يقدر على استعمالها في
الأحوال المختلفة; من القيام، والقعود،
والركوع والسجود والصلاة تشتمل على هذه
الأحوال فأمرنا باستعمال هذه النعم الخاصة في
هذه الأحوال في خدمة المنعم; شكرا لهذه
النعمة، وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا ومنها: أن
الصلاة وكل عبادة خدمة الرب جل جلاله، وخدمة
المولى على العبد لا تكون إلا فرضا، إذ التبرع
من العبد على مولاه محال، والعزيمة هي شغل
جميع الأوقات بالعبادات بقدر الإمكان، وانتفاء
الحرج إلا أن الله تعالى: بفضله وكرمه جعل
لعبده أن يترك الخدمة في بعض الأوقات رخصة حتى
لو شرع لم يكن له الترك؛ لأنه إذا شرع فقد
اختار العزيمة، وترك الرخصة; فيعود حكم
العزيمة، يحقق ما ذكرنا: أن العبد لا بد له من
إظهار سمة العبودية; ليخالف به من استعصى
مولاه، وأظهر الترفع عن العبادة، وفي الصلاة
إظهار سمة العبودية; لما فيها من القيام بين
يدي المولى جل جلاله، وتحنية الظهر له، وتعفير
الوجه بالأرض، والجثو على الركبتين، والثناء
عليه، والمدح له. ومنها: أنها مانعة للمصلي عن
ارتكاب المعاصي; لأنه إذا أقام بين يدي ربه
خاشعا متذللا مستشعرا هيبة الرب جل جلاله
خائفا تقصيره في عبادته كل يوم خمس مرات عصمه
ذلك عن اقتحام المعاصي والامتناع عن المعصية
فرض وذلك قوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ومنها: أنها جعلت مكفرة للذنوب والخطايا والزلات والتقصير، إذ
العبد في أوقات
ج / 1 ص -91-
ليله
ونهاره لا يخلو عن ذنب، أو خطأ، أو زلة، أو
تقصير في العبادة، والقيام بشكر النعمة، وإن
جل قدره وخطره عند الله تعالى:; إذ قد سبق
إليه من الله تعالى: من النعم، والإحسان ما لو
أخذ بشكر ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة
منها، فضلا عن أن يؤدي شكر الكل; فيحتاج إلى
تكفير ذلك، إذ هو فرض ففرضت الصلوات الخمس
تكفيرا لذلك.
فصل": وأما عددها فالخمس، ثبت ذلك بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، "أما"
الكتاب فما تلونا من الآيات التي فيها فرضية
خمس صلوات وقوله تعالى:
{حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
إشارة إلى ذلك، لأنه ذكر الصلوات بلفظ الجمع،
وعطف الصلاة الوسطى عليها، والمعطوف غير
المعطوف عليه في الأصل فهذا يقتضي جمعا يكون
له وسطى. والوسطى غير ذلك الجمع، وأقل جمع
يكون له وسطى، والوسطى غير ذلك الجمع هو الخمس
لأن الأربع والست لا وسطى لهما، وكذا هو شفع
إذ الوسط ما له حاشيتان متساويتان ولا يوجد
ذلك في الشفع، والثلاث له وسطى لكن الوسطى ليس
غير الجمع إذ الاثنان ليسا بجمع صحيح، والسبعة
وكل وتر بعدها له وسطى لكنه ليس بأقل الجمع;
لأن الخمسة أقل من ذلك وأما السنة: فما روينا
من الأحاديث. وروي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما علم الأعرابي الصلوات الخمس فقال: هل
علي شيء غير هذا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام "لا إلا أن تطوع" والأمة أجمعت على هذا من غير خلاف بينهم; ولهذا قال عامة الفقهاء:
"إن الوتر سنة" لما أن كتاب الله، والسنن
المتواترة والمشهورة ما أوجبت زيادة على خمس
صلوات فالقول بفرضية الزيادة عليها بأخبار
الآحاد يكون قولا بفرضية صلاة سادسة، وأنه
خلاف الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة ولا يلزم
هذا أبا حنيفة لأنه لا يقول بفرضية الوتر
وإنما يقول بوجوبه "والفرق" بين الواجب والفرض
كما بين السماء والأرض على ما عرف في موضعه
والله أعلم.
فصل": وأما عدد ركعات هذه الصلوات فالمصلي لا يخلو إما أن يكون مقيما
وإما أن يكون مسافرا فإن كان مقيما فعدد
ركعاتها سبعة عشر: ركعتان، وأربع، وأربع
وثلاث، وأربع، عرفنا ذلك بفعل النبي صلى الله
عليه وسلم وقوله:
"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا لأنه ليس في كتاب الله عدد ركعات هذه الصلوات فكانت نصوص
الكتاب العزيز مجملة في حق المقدار. ثم زال
الإجمال ببيان النبي صلى الله عليه وسلم قولا
وفعلا كما في نصوص الزكاة والعشر والحج وغير
ذلك وإن كان مسافرا فعدد ركعاتها في حقه إحدى
عشرة عندنا: ركعتان، وركعتان، وركعتان، وثلاث
وركعتان، وعند الشافعي سبعة عشر كما في حق
المقيم.
ج / 1 ص -92-
في
المباحات والمرخصات دون الفرائض والعزائم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله تعالى: تصدق عليكم بشطر الصلاة ألا فاقبلوا صدقته" والمتصدق عليه يكون مختارا في قبول الصدقة كما في التصدق من العباد
ولأن القصر ثبت نظرا للمسافر تخفيفا عليه في
السفر الذي هو محل المشقات المتضاعفة،
والتخفيف في التخيير فإن شاء مال إلى القصر،
وإن شاء مال إلى الإكمال كما في الإفطار في
شهر رمضان. "ولنا" ما روي عن عمر رضي الله عنه
أنه قال: "صلاة المسافر ركعتان وصلاة الجمعة
ركعتان تام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى
الله عليه وسلم". وروي تمام غير قصر، وروى
الفقيه الجليل أبو أحمد العياضي السمرقندي
وأبو الحسن الكرخي عن ابن عباس رضي الله عنهما
هكذا. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب فإنها
وتر النهار ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر
على ما كانت وروي عن عمران بن حصين رضي الله
عنه أنه قال: "ما سافر رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا وصلى ركعتين إلا المغرب". ولو
كان القصر رخصة والإكمال هو العزيمة لما ترك
العزيمة إلا أحيانا، إذ العزيمة أفضل وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختار من
الأعمال إلا أفضلها وكان لا يترك الأفضل إلا
مرة أو مرتين تعليما للرخصة في حق الأمة فأما
ترك الأفضل أبدا وفيه تضييع الفضيلة عن النبي
صلى الله عليه وسلم في جميع عمره فمما لا
يحتمل، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم
قصر بمكة وقال لأهل مكة "أتموا يا أهل مكة
فإنا قوم سفر" فلو جاز الأربع لما اقتصر على
الركعتين لوجهين: أحدهما: أنه كان يغتنم زيادة
العمل في الحرم لما للعبادة فيه من تضاعف
الأجر والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان
إماما وخلفه المقيمون من أهل مكة فكان ينبغي
أن يتم أربعا كي لا يحتاج أولئك القوم إلى
التفرد ولينالوا فضيلة الائتمام به في جميع
الصلاة، وحيث لم يفعل دل ذلك على صحة ما قلنا.
وروي أن عثمان رضي الله عنه أتم الصلاة بمنى
فأنكر عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى قال لهم: "إني تأهلت بمكة وقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل بقوم فهو منهم" فدل إنكار الصحابة رضي الله عنهم واعتذار عثمان رضي الله عنه أن
الفرض ما قلنا إذ لو كان الأربع عزيمة لما
أنكرت الصحابة عليه ولما اعتذر هو إذ لا يلام
على العزائم ولا يعتذر عنها فكان ذلك إجماعا
من الصحابة رضي الله عنهم على ما قلنا. وروي
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الصلاة
في السفر فقال:
"ركعتان ركعتان من خالف السنة كفر" أي: خالف السنة اعتقادا لا فعلا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن رجلين سألاه وكان أحدهما يتم الصلاة في
السفر والآخر يقصر عن حالهما فقال للذي قصر: أنت أكملت وقال للآخر:
"أنت قصرت". ولا حجة
له في الآية لأن المذكور فيها أصل القصر لا
صفته وكيفيته، والقصر قد يكون عن الركعات وقد
يكون عن القيام إلى القعود وقد يكون عن الركوع
والسجود إلى الإيماء لخوف العدو لا بترك شطر
الصلاة، وذلك مباح مرخص عندنا فلا يكون حجة مع
الاحتمال مع أن في الآية ما يدل على أن المراد
منه ليس هو القصر عن الركعات " وهو ترك شطر
الصلاة "; لأنه علق القصر بشرط الخوف وهو خوف
فتنة الكفار بقوله"
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} والقصر عن الركعات لا يتعلق بشرط الخوف بل يجوز من غير خوف والحديث
دليلنا; لأنه أمر بالقبول فلا يبقى له خيار
الرد شرعا إذ الأمر للوجوب وقوله: " المتصدق
عليه يكون مختارا في القبول " قلنا: معنى قوله
تصدق عليكم أي: حكم عليكم على أن التصدق من
الله تعالى: فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة
عن الإسقاط كالعفو من الله تعالى:، وما ذكر من
المعنى غير سديد; لأن هذا ليس ترفيها بقصر شطر
الصلاة، بل لم يشرع في السفر إلا هذا القدر
لما ذكرنا من الدلائل، ولقول ابن عباس رضي
الله عنهما "لا تقولوا قصرا فإن الذي فرضها في
الحضر أربعا هو الذي فرضها في السفر ركعتين"
وليس إلى العباد إبطال قدر العبادات الموظفة
عليهم بالزيادة والنقصان، ألا ترى أن من أراد
أن يتم المغرب أربعا أو الفجر ثلاثا أو أربعا
لا يقدر على ذلك ؟ كذا هذا ولا قصر في الفجر
والمغرب; لأن القصر بسقوط شطر الصلاة، وبعد
سقوط الشطر منهما لا يبقى نصف مشروع بخلاف
ذوات الأربع، وكذا لا قصر في السنن والتطوعات;
لأن القصر بالتوقيف، ولا توقيف
ج / 1 ص -93-
ثمة،
ومن الناس من قال بترك السنن في السفر. وروي
عن بعض الصحابة أنه قال: "لو أتيت بالسنن في
السفر لأتممت الفريضة" وذلك عندنا محمول على
حالة الخوف على وجه لا يمكنه المكث لأداء
السنن وعلى هذا الأصل يبنى أن المسافر لو
اختار الأربع لا يقع الكل فرضا، بل المفروض
ركعتان لا غير، والشطر الثاني يقع تطوعا
عندنا، وعنده يقع الكل فرضا حتى لو لم يقعد
على رأس الركعتين قدر التشهد فسدت صلاته
عندنا; لأنها القعدة الأخيرة في حقه وهي فرض،
وعنده لا تفسد; لأنها القعدة الأولى عنده وهي
ليست بفرض في المكتوبات بلا خلاف، وعلى هذا
الأصل يبنى اقتداء المقيم بالمسافر أنه يجوز
في الوقت وفي خارج الوقت وفي ذوات الأربع،
واقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت ولا
يجوز في خارج الوقت عندنا; لأن فرض المسافر قد
تقرر ركعتين على وجه لا يحتمل التغيير
بالاقتداء بالمقيم، فكانت القعدة الأولى فرضا
في حقه، فيكون هذا اقتداء المفترض بالمتنفل في
حق القعدة وهذا لا يجوز على أصل أصحابنا، وهذا
المعنى لا يوجد في الوقت ولا في اقتداء المقيم
بالمسافر، ولو ترك القراءة في الأوليين أو في
واحدة منهما تفسد صلاته; لأن القراءة في
الركعتين في صلاة ذات ركعتين فرض. وقد فات على
وجه لا يحتمل التدارك بالقضاء فتفسد صلاته،
وعند الشافعي أيضا تفسد; لأن العزيمة وإن كانت
هي الأربع عنده لكن القراءة في الركعات كلها
فرض عنده، ولو اقتدى المسافر بالمقيم في الظهر
ثم أفسدها على نفسه في الوقت أو بعد ما خرج
الوقت فإن عليه أن يصلي ركعتين عندنا، وعنده
يصلي أربعا ولا يجوز له القصر؛ لأن العزيمة في
حق المسافر هي ركعتان عندنا وإنما صار فرضه
أربعا بحكم التبعية للمقيم بالاقتداء به وقد
بطلت التبعية ببطلان الاقتداء، فيعود حكم
الأصل لما كانت العزيمة هي الأربع وإنما أبيح
القصر رخصة فإذا اقتدى بالمقيم فقد اختار
العزيمة فتأكد عليه وجوب الأربع فلا تجوز له
الرخصة بعد ذلك ويستوي في المقدار المفروض على
المسافر من الصلاة سفر الطاعة من الحج
والجهاد، وطلب العلم، وسفر المباح كسفر
التجارة ونحوه، وسفر المعصية كقطع الطريق،
والبغي وهذا عندنا. وقال الشافعي: لا تثبت
رخصة القصر في سفر المعصية. "وجه" قوله: أن
رخصة القصر تثبت تخفيفا أو نظرا على المسافر،
والجاني لا يستحق النظر والتخفيف. "ولنا" أن
ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل بين مسافر
ومسافر فوجب العمل بعمومها وإطلاقها، ويستوي
فيما ذكرنا من أعداد الركعات في حق المقيم
والمسافر صلاة الأمن والخوف، فالخوف لا يؤثر
في نقصان العدد مقيما كان الخائف أو مسافرا
وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم وإنما
يؤثر في سقوط اعتبار بعض ما ينافي الصلاة في
الأصل من المشي ونحو ذلك على ما نذكره في صلاة
الخوف إن شاء الله تعالى:.
فصل": وأما بيان ما يصير به المقيم مسافرا: فالذي يصير المقيم به مسافرا
نية مدة السفر والخروج من عمران المصر فلا بد
من اعتبار ثلاثة أشياء: أحدها: مدة السفر
وأقلها غير مقدر عند أصحاب الظواهر، وعند عامة
العلماء مقدر، واختلفوا في التقدير قال
أصحابنا: مسير ثلاثة أيام سير الإبل ومشي
الأقدام وهو المذكور في ظاهر الروايات. وروي
عن أبي يوسف يومان وأكثر الثالث، وكذا روى
الحسن عن أبي حنيفة وابن سماعة عن محمد ومن
مشايخنا من قدره بخمسة عشر فرسخا وجعل لكل يوم
خمس فراسخ، ومنهم من قدره بثلاث مراحل. وقال
مالك: "أربعة برد كل بريد اثنا عشر ميلا"،
واختلفت أقوال الشافعي فيه، قيل: ستة وأربعون
ميلا وهو قريب من قول بعض مشايخنا; لأن العادة
أن القافلة لا تقطع في يوم أكثر من خمسة
فراسخ، وقيل: يوم وليلة. وهو قول الزهري
والأوزاعي، وأثبت أقواله أنه مقدر بيومين، أما
أصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ} علق
القصر بمطلق الضرب في الأرض فالتقدير تقييد
لمطلق الكتاب ولا يجوز إلا بدليل. "ولنا" ما
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها" جعل لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليها ولن يتصور أن يمسح
المسافر ثلاثة أيام ولياليها ومدة السفر أقل
من هذه المدة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر
ج / 1 ص -94-
ثلاثة
أيام إلا مع محرم أو زوج" فلو لم تكن المدة
مقدرة بالثلاث لم يكن لتخصيص الثلاث معنى،
والحديثان في حد الاستفاضة والاشتهار فيجوز
نسخ الكتاب بهما إن كان تقييد المطلق نسخا مع
ما أنه لا حجة لهم في الآية؛ لأن الضرب في
الأرض في اللغة: عبارة عن السير فيها مسافرا،
يقال ضرب في الأرض أي: سار فيها مسافرا، فكان
الضرب في الأرض عبارة عن سير يصير الإنسان به
مسافرا لا مطلق السير، والكلام في أنه هل يصير
مسافرا بسير مطلق من غير اعتبار المدة ؟ وكذا
مطلق الضرب في الأرض يقع على سير يسمى سفرا،
والنزاع في تقديره شرعا والآية ساكتة عن ذلك
وقد ورد الحديث بالتقدير فوجب العمل به "
والله الموفق " "واحتج" مالك بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يا أهل مكة لا
تقصروا الصلاة فيما دون مكة إلى عسفان"
وذلك أربعة برد وهو غريب فلا يقبل خصوصا في
معارضة المشهور. "وجه" قول الشافعي أن الرخصة
إنما تثبت لضرب مشقة يختص بها المسافرون وهي
مشقة الحمل، والسير، والنزول; لأن المسافر
يحتاج إلى حمل رحله من غير أهله، وحطه في غير
أهله والسير، وهذه المشقات تجتمع في يومين;
لأنه في اليوم الأول يحط الرحل في غير أهله،
وفي اليوم الثاني يحمله من غير أهله، والسير
موجود في اليومين بخلاف اليوم الواحد; لأنه لا
يوجد فيه إلا مشقة السير؛ لأنه يحمل الرحل من
وطنه ويحطه في موضع الإقامة فيقدر بيومين
لهذا. "ولنا" ما روينا من الحديثين; ولأن وجوب
الإكمال كان ثابتا بدليل مقطوع به فلا يجوز
رفعه إلا بمثله، وما دون الثلاث مختلف فيه،
والثلاث مجمع عليه فلا يجوز رفعه بما دون
الثلاث وما ذكر من المعنى يبطل بمن سافر يوما
على قصد الرجوع إلى وطنه فإنه يلحقه مشقة
الحمل والحط والسير على ما ذكر، ومع هذا لا
يقصر عنده، وبه تبين أن الاعتبار لاجتماع
المشقات في يوم واحد وذلك بثلاثة أيام؛ لأنه
يلحقه في اليوم الثاني مشقة حمل الرحل من غير
أهله والسير وحطه في غير أهله وإنما قدرنا
بسير الإبل ومشي الأقدام؛ لأنه الوسط؛ لأن
أبطأ السير سير العجلة، والأسرع سير الفرس
والبريد، فكان أوسط أنواع السير سير الإبل
ومشي الأقدام. وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم "خير الأمور أوساطها" ولأن الأقل والأكثر
يتجاذبان فيستقر الأمر على الوسط وعلى هذا
يخرج ما روي عن أبي حنيفة فيمن سار في الماء
يوما وذلك في البر ثلاثة أيام أنه يقصر
الصلاة; لأنه لا عبرة للإسراع، وكذا لو سار في
البر إلى موضع في يوم أو يومين وأنه بسير
الإبل والمشي المعتاد ثلاثة أيام يقصر اعتبارا
للسير المعتاد، وعلى هذا إذا سافر في الجبال
والعقبات أنه يعتبر مسيرة ثلاثة أيام فيها لا
في السهل، فالحاصل أن التقدير بمسيرة ثلاثة
أيام أو بالمراحل في السهل والجبل والبر
والبحر ثم يعتبر في كل ذلك السير المعتاد فيه
وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند
الاشتباه، والتقدير بالفراسخ غير سديد; لأن
ذلك يختلف باختلاف الطريق. وقال أبو حنيفة:
إذا خرج إلى مصر في ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل
إليه من طريق آخر في يوم واحد قصر وقال
الشافعي: "إن كان لغرض صحيح قصر، وإن كان من
غير غرض صحيح لم يقصر ويكون كالعاصي في سفره،
والصحيح قولنا; لأن الحكم معلق بالسفر فكان
المعتبر مسيرة ثلاثة أيام على قصد السفر وقد
وجد والثاني: نية مدة السفر لأن السير قد يكون
سفرا وقد لا يكون; لأن الإنسان قد يخرج من
مصره إلى موضع لإصلاح الضيعة ثم تبدو له حاجة
أخرى إلى المجاوزة عنه إلى موضع آخر ليس
بينهما مدة سفر ثم وثم إلى أن يقطع مسافة
بعيدة أكثر من مدة السفر لا لقصد السفر فلا بد
من النية للتمييز، والمعتبر في النية هو نية
الأصل دون التابع حتى يصير العبد مسافرا بنية
مولاه، والزوجة بنية الزوج، وكل من لزمه طاعة
غيره كالسلطان وأمير الجيش; لأن حكم التبع حكم
الأصل. وأما الغريم مع صاحب الدين: فإن كان
مليا فالنية إليه; لأنه يمكنه قضاء الدين
والخروج من يده، وإن كان مفلسا فالنية إلى
الطالب; لأنه لا يمكنه الخروج من يده فكان
تابعا له والثالث: الخروج من عمران المصر فلا
يصير مسافرا بمجرد نية السفر ما لم يخرج من
عمران المصر وأصله ما روي عن علي رضي الله عنه
أنه لما خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر
أربعا ثم نظر إلى خص أمامه وقال: لو جاوزنا
الخص صلينا ركعتين ولأن النية إنما تعتبر إذا
كانت مقارنة للفعل; لأن مجرد العزم عفو، وفعل
السفر لا يتحقق إلا بعد الخروج من المصر فما
لم يخرج لا يتحقق قران النية بالفعل فلا يصير
ج / 1 ص -95-
مسافرا. وهذا بخلاف المسافر إذا نوى الإقامة
في موضع صالح للإقامة حيث يصير مقيما للحال;
لأن نية الإقامة هناك قارنت الفعل "وهو ترك
السفر"؛ لأن ترك الفعل فعل فكانت معتبرة،
وههنا بخلافه وسواء خرج في أول الوقت أو في
وسطه أو في آخره حتى لو بقي من الوقت مقدار ما
يسع لأداء ركعتين فإنه يقصر في ظاهر قول
أصحابنا. وقال محمد بن شجاع البلخي وإبراهيم
النخعي: إنما يقصر إذا خرج قبل الزوال، فأما
إذا خرج بعد الزوال فإنه يكمل الظهر، وإنما
يقصر العصر وقال الشافعي: "إذا مضى من الوقت
مقدار ما يمكنه أداء أربع ركعات فيه يجب عليه
الإكمال، ولا يجوز له القصر وإن مضى دون ذلك"،
اختلف أصحابه فيه، وإن بقي من الوقت مقدار ما
يسع لركعة واحدة لا غير أو للتحريمة فقط يصلي
ركعتين عندنا، وعند زفر يصلي أربعا. "أما"
الكلام في المسألة الأولى فبناء على أن الصلاة
تجب في أول الوقت أو في آخره فعندهم تجب في
أول الوقت فكلما دخل الوقت أو مضى منه مقدار
ما يسع لأداء الأربع وجب عليه أداء أربع ركعات
فلا يسقط شطرها بسبب السفر بعد ذلك، كما إذا
صارت دينا في الذمة بمضي الوقت ثم سافر لا
يسقط الشطر كذا ههنا، وعند المحققين من
أصحابنا لا تجب في أول الوقت على التعيين
وإنما تجب في جزء من الوقت غير معين، وإنما
التعيين إلى المصلي من حيث الفعل حتى أنه إذا
شرع في أول الوقت يجب في ذلك الوقت، وكذا إذا
شرع في وسطه أو آخره، ومتى لم يعين بالفعل حتى
بقي من الوقت مقدار ما يصلي فيه أربعا وهو
مقيم يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلا
حتى يأثم بترك التعيين، وإن كان لا يتعين
للأداء بنفسه شرعا حتى لو صلى فيه التطوع جاز،
وإذا كان كذلك لم يكن أداء الأربع واجبا قبل
الشروع فإذا نوى السفر وخرج من العمران حتى
صار مسافرا تجب عليه صلاة المسافرين، ثم إن
كان الوقت فاضلا على الأداء يجب عليه أداء
ركعتين في جزء من الوقت غير معين ويتعين ذلك
بفعله، وإن لم يتعين بالفعل إلى آخر الوقت
يتعين آخر الوقت لوجوب تعيينه للأداء فعلا،
وكذا إذا لم يكن الوقت فاضلا على الأداء ولكنه
يسع للركعتين يتعين للوجوب ويبنى على هذا
الأصل: الطاهرة إذا حاضت في آخر الوقت أو نفست
والعاقل إذا جن أو أغمي عليه والمسلم إذا ارتد
والعياذ بالله وقد بقي من الوقت ما يسع الفرض
لا يلزمهم الفرض عند أصحابنا; لأن الوجوب
يتعين في آخر الوقت عندنا إذا لم يوجد الأداء
قبله فيستدعي الأهلية فيه لاستحالة الإيجاب
على غير الأهل ولم يوجد، وعندهم يلزمهم الفرض;
لأن الوجوب عندهم بأول الوقت، والأهلية ثابتة
في أوله، ودلائل هذا الأصل تعرف في أصول
الفقه، ولو صلى الصبي الفرض في أول الوقت ثم
بلغ تلزمه الإعادة عندنا خلافا للشافعي، وكذا
إذا أحرم بالحج ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة لا
يجزيه عن حجة الإسلام عندنا خلافا له. "وجه"
قوله أن عدم الوجوب عليه كان نظرا له، والنظر
هنا للوجوب كي لا تلزمه الإعادة فأشبه الوصية
حيث صحت منه نظرا له وهو الثواب ولا ضرر فيه؛
لأن ملكه يزول بالميراث إن لم يزل بالوصية.
"ولنا" أن في نفس الوجوب ضررا فلا يثبت مع
الصبي كما لو لم يبلغ فيه وإنما انقلب نفعا
لحالة اتفقت " وهي البلوغ فيه " وأنه نادر
فبقي عدم الوجوب; لأنه نفع في الأصل المسلم
إذا صلى ثم ارتد عن الإسلام والعياذ بالله ثم
أسلم في الوقت فعليه إعادة الصلاة عندنا وعند
الشافعي لا إعادة عليه وعلى هذا الحج، واحتج
بقوله تعالى:
{حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ}
علق حبط العمل بالموت على الردة دون نفس
الردة; لأن الردة حصلت بعد الفراغ من القربة
فلا يبطلها كما لو تيمم ثم ارتد عن الإسلام ثم
أسلم. "ولنا" قوله تعالى:
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقوله تعالى:
{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} علق حبط العمل بنفس الإشراك بعد الإيمان. وأما الآية فنقول: "من
علق حكما بشرطين وعلقه بشرط فالحكم يتعلق بكل
واحد من التعليقين وينزل عند أيهما وجد" كمن
قال لعبده: أنت حر إذا جاء يوم الخميس ثم قال
له: "أنت حر إذا جاء يوم الجمعة" لا يبطل واحد
منهما بل إذا جاء يوم الخميس عتق ولو كان باعه
فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه ثم اشتراه
فجاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق
الآخر. وأما التيمم: فهو ليس بعبادة وإنما هو
طهارة وأثر الردة في إبطال العبادات، إلا أنه
لا ينعقد مع الكفر لعدم الحاجة، والحاجة ههنا
متحققة والردة لا تبطلها لكونه مجبورا على
الإسلام فبقيت
ج / 1 ص -96-
الحاجة
على ما ذكرنا في فصل التيمم "وأما" الكلام في
المسألة الثانية فبناء على أصل مختلف بين
أصحابنا وهو مقدار ما يتعلق به الوجوب في آخر
الوقت، قال الكرخي وأكثر المحققين من أصحابنا:
إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت بمقدار التحريمة
وقال زفر: "لا يجب إلا إذا بقي من الوقت مقدار
ما يؤدى فيه الفرض" وهو اختيار القدوري وبني
على هذا الأصل: الحائض إذا طهرت في آخر الوقت
وبلغ الصبي وأسلم الكافر وأفاق المجنون
والمغمى عليه وأقام المسافر أو سافر المقيم
وهي مسألة الكتاب فعلى قول زفر ومن تابعه من
أصحابنا: "لا يجب الفرض ولا يتغير إلا إذا بقي
من الوقت مقدار ما يمكن فيه الأداء"، وعلى
القول المختار يجب الفرض ويتغير الأداء وإن
بقي مقدار ما يسع للتحريمة فقط". "وجه" قول
زفر أن وجوب الأداء يقتضي تصور الأداء، وأداء
كل الفرض في هذا القدر لا يتصور فاستحال وجوب
الأداء. "ولنا" أن آخر الوقت يجب تعيينه على
المكلف للأداء فعلا على ما مر، فإن بقي مقدار
ما يسع لكل الصلاة يجب تعيينه لكل الصلاة فعلا
بالأداء، وإن بقي مقدار ما يسع للبعض وجب
تعيينه لذلك البعض; لأن تعيين كل الوقت لكل
العبادة تعيين كل أجزائه لكل أجزائها ضرورة،
وفي تعيين جزء من الوقت لجزء من الصلاة فائدة
وهي أن الصلاة لا تتجزأ فإذا وجب البعض فيه
وجب الكل فيما يتعقبه من الوقت إن كان لا
يتعقبه وقت مكروه، وإن تعقبه يجب الكل ليؤدى
في وقت آخر، وإذا لم يبق من الوقت إلا قدر ما
يسع التحريمة وجب تحصيل التحريمة ثم تجب بقية
الصلاة لضرورة وجوب التحريمة فيؤديها في الوقت
المتصل به فيما وراء الفجر، وفي الفجر يؤديها
في وقت آخر; لأن الوجوب على التدريج الذي
ذكرنا قد تقرر وقد عجز عن الأداء فيقضي، وهذا
بخلاف الكافر إذا أسلم بعد طلوع الفجر من يوم
رمضان حيث لا يلزمه صوم ذلك اليوم; لأن هناك
الوقت معيار للصوم فكل جزء منه على الإطلاق لا
يصلح للجزء الأول من العبادة بل الجزء الأول
من الوقت متعين للجزء الأول من العبادة ثم
الثاني منه للثاني منها والثالث للثالث وهكذا
فلا يتصور وجوب الجزء الأول من العبادة في
الجزء الثاني أو الخامس من الوقت ولا الجزء
الخامس من العبادة من الجزء السادس من الوقت
فإذا فات الجزء الأول من الوقت وهو ليس بأهل
فلم يجب الجزء الأول من العبادة لاستحالة
الوجوب على غير الأهل فبعد ذلك وإن أسلم في
الجزء الثاني أو العاشر لا يتصور وجوب الجزء
الأول من الصوم في ذلك الجزء من الوقت؛ لأنه
ليس بمحل لوجوبه فيه. ولأن وجوب كل جزء من
الصوم في جزء من الوقت وهو محل أدائه والجزء
الثاني من اليوم لا يتصور أن يكون محلا للجزء
الأول من العبادة فلا يتصور وجوب الجزء الأول
فلا يتصور وجوب الجزء الآخر; لأن الصوم لا
يتجزأ وجوبا ولا أداء بخلاف الصلاة; لأن هناك
كل جزء مطلق من الوقت يصلح أن يجب فيه الجزء
الأول من الصلاة، إذ التحريمة منها في ذلك
الوقت; لأن الوقت ليس بمعيار للصلاة فهو الفرق
والله الموفق ثم ما ذكرنا من تعلق الوجوب
بمقدار التحريمة في حق الحائض إذا كانت أيامها
عشرا فأما إذا كانت أيامها دون العشرة فإنما
تجب عليها الصلاة إذا طهرت وعليها من الوقت
مقدار ما تغتسل فيه، فإن كان عليها من الوقت
ما لا تستطيع أن تغتسل فيه أو لا تستطيع أن
تتحرم للصلاة فليس عليها تلك الصلاة حتى لا
يجب عليها القضاء، والفرق أن أيامها إذا كانت
أقل من عشرة لا يحكم بخروجها من الحيض بمجرد
انقطاع الدم ما لم تغتسل، أو يمضي عليها وقت
صلاة تصير تلك الصلاة دينا عليها، وإذا كانت
أيامها عشرة بمجرد الانقطاع يحكم بخروجها عن
الحيض فإذا أدركت جزءا من الوقت يلزمها قضاء
تلك الصلاة سواء تمكنت من الاغتسال أو لم
تتمكن بمنزلة كافر أسلم وهو جنب أو صبي بلغ
بالاحتلام في آخر الوقت فعليه قضاء تلك الصلاة
سواء تمكن من الاغتسال في الوقت أو لم يتمكن،
وهذا لأن الحيض هو خروج الدم في وقت معتاد
فإذا انقطع الدم كان ينبغي أن يحكم بزواله;
لأن الأصل أن ما انعدم حقيقة انعدم حكما إلا
أنا لا نحكم بخروجها من الحيض ما لم تغتسل إذا
كانت أيامها أقل من عشرة لإجماع الصحابة رضي
الله عنهم. قال الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا من
الصحابة "أن الزوج أحق برجعتها ما لم تغتسل"
وكان المعنى في ذلك أن نفس الانقطاع ليس بدليل
على الطهارة; لأن ذلك كثيرا ما يتخلل في زمان
الحيض فشرطت زيادة
ج / 1 ص -97-
شيء له
أثر في التطهير وهو الاغتسال أو وجوب الصلاة
عليها; لأنه من أحكام الطهر بخلاف ما إذا كانت
أيامها عشرا; لأن هناك الإجماع ومثل هذا
الدليل المعقول منعدمان ولأن الدليل قد قام
لنا أن الحيض لا يزيد على العشرة وهذه المسألة
تستقصى في كتاب الحيض وهل يباح للزوج قرانها
قبل الاغتسال ؟ إذا كانت أيامها عشرا ؟ عند
أصحابنا الثلاثة يباح، وعند زفر لا يباح ما لم
تغتسل، وإذا كانت أيامها دون العشرة لا يباح
للزوج قربانها قبل الاغتسال بالإجماع، وإذا
مضى عليها وقت صلاة فللزوج أن يقربها عندنا
وإن لم تغتسل خلافا لزفر على ما يعرف في كتاب
الحيض إن شاء الله تعالى:
فصل": وأما بيان ما يصير المسافر به مقيما: فالمسافر يصير مقيما بوجود
الإقامة، والإقامة تثبت بأربعة أشياء: أحدها:
صريح نية الإقامة وهو أن ينوي الإقامة خمسة
عشر يوما في مكان واحد صالح للإقامة فلا بد من
أربعة أشياء: نية الإقامة ونية مدة الإقامة،
واتحاد المكان، وصلاحيته للإقامة. "أما" نية
الإقامة: فأمر لا بد منه عندنا حتى لو دخل
مصرا ومكث فيه شهرا أو أكثر لانتظار القافلة
أو لحاجة أخرى يقول: "أخرج اليوم أو غدا ولم
ينو الإقامة لا يصير مقيما"، وللشافعي فيه
قولان: في قول: إذا أقام أكثر مما أقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم بتبوك كان مقيما وإن
لم ينو الإقامة. ورسول الله صلى الله عليه
وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين يوما،
وفي قول: إذا أقام أربعة أيام كان مقيما ولا
يباح له القصر "احتج" لقوله الأول أن الإقامة
متى وجدت حقيقة ينبغي أن تكمل الصلاة قلت
الإقامة أو كثرت; لأنها ضد السفر، والشيء يبطل
بما يضاده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم
أقام بتبوك تسعة عشر يوما وقصر الصلاة فتركنا
هذا القدر بالنص فنأخذ بالقياس فيما وراءه.
ووجه قوله الآخر على النحو الذي ذكرنا أن
القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة; لأن
الإقامة قرار والسفر انتقال، والشيء ينعدم بما
يضاده فينعدم حكمه ضرورة، إلا أن قليل الإقامة
لا يمكن اعتباره; لأن المسافر لا يخلو عن ذلك
عادة فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة، ولا
ضرورة في الكثير، والأربعة في حد الكثرة; لأن
أدنى درجات الكثير أن يكون جمعا، والثلاثة وإن
كانت جمعا لكنها أقل الجمع فكانت في حد القلة
من وجه، فلم تثبت الكثرة المطلقة فإذا صارت
أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق لزوال
معنى القلة من جميع الوجوه. "ولنا" إجماع
الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى
نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة، وعن ابن عمر
رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان
يصلي ركعتين، وعن علقمة أنه أقام بخوارزم
سنتين وكان يقصر. وروي عن عمران بن حصين رضي
الله عنهما أنه قال: "شهدت مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم عام فتح مكة، فأقام بمكة ثمان
عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين ثم قال لأهل
مكة صلوا أربعا فإنا قوم سفر" والقياس بمقابلة
النص، والإجماع باطل "وأما" مدة الإقامة:
فأقلها خمسة عشر يوما عندنا. وقال مالك
والشافعي: "أقلها أربعة أيام"، وحجتهما ما
ذكرنا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "رخص
للمهاجرين المقام بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة
أيام" فهذه إشارة إلى أن الزيادة على الثلاث
توجب حكم الإقامة. "ولنا" ما روي عن ابن عباس
وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخلت
بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة
عشر يوما فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى
تظعن فأقصر وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد؛
لأنه من جملة المقادير، ولا يظن بهما التكلم
جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وروى عبد الله بن
عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة
الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم، واليوم
الخامس واليوم السادس واليوم السابع فلما كان
صبيحة اليوم الثامن وهو يوم التروية خرجوا إلى
منى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
بأصحابه ركعتين وقد وطنوا أنفسهم على إقامة
أربعة أيام دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح
وما روي من الحديث فليس فيه ما يشير إلى تقدير
أدنى مدة الإقامة بالأربعة; لأنه يحتمل أنه
علم أن حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص
بالمقام ثلاثا لهذا لا لتقدير
ج / 1 ص -98-
الإقامة. "وأما" اتحاد المكان: فالشرط نية مدة
الإقامة في مكان واحد; لأن الإقامة قرار
والانتقال يضاده ولا بد من الانتقال في مكانين
وإذا عرف هذا فنقول: إذا نوى المسافر الإقامة
خمسة عشر يوما في موضعين فإن كان مصرا واحدا
أو قرية واحدة صار مقيما; لأنهما متحدان حكما،
ألا يرى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر فقد
وجد الشرط وهو نية كمال مدة الإقامة في مكان
واحد فصار مقيما وإن كانا مصرين نحو مكة ومنى
أو الكوفة والحيرة أو قريتين، أو أحدهما مصر
والآخر قرية لا يصير مقيما; لأنهما مكانان
متباينان حقيقة وحكما، ألا ترى أنه لو خرج
إليه المسافر يقصر فلم يوجد الشرط " وهو نية
الإقامة في موضع واحد خمسة عشر يوما " فلغت
نيته، فإن نوى المسافر أن يقيم بالليالي في
أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر
فإن دخل أولا الموضع الذي نوى المقام فيه
بالنهار لا يصير مقيما، وإن دخل الموضع الذي
نوى الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما، ثم
بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا; لأن
موضع إقامة الرحل حيث يبيت فيه، ألا ترى أنه
إذا قيل للسوقي أين تسكن؟ يقول في محلة كذا
وهو بالنهار يكون بالسوق، وذكر في كتاب
المناسك أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر
ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام
العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل من خمسة
عشر يوما ونوى الإقامة لا يصح; لأنه لا بد له
من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته
خمسة عشر يوما فلا يصح، وقيل: كان سبب تفقه
عيسى بن أبان هذه المسألة وذلك أنه كان مشغولا
بطلب الحديث، قال: فدخلت مكة في أول العشر من
ذي الحجة مع صاحب لي، وعزمت على الإقامة شهرا
فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة
فقال: أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات فلما
رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن
أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي
حنيفة: أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها
لا تصير مسافرا فقلت: أخطأت في مسألة في
موضعين فدخلت مجلس محمد واشتغلت بالفقه وإنما
أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه
فيصير مبعثة للطلبة على طلبه. "وأما" المكان
الصالح للإقامة: فهو موضع اللبث والقرار في
العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة
والجزيرة والسفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو
نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا
يصير مقيما كذا روي عن أبي حنيفة. وروي عن أبي
يوسف في الأعراب والأكراد والتركمان إذا نزلوا
بخيامهم في موضع ونووا الإقامة خمسة عشر يوما
صاروا مقيمين، فعلى هذا إذا نوى المسافر
الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في
القرية، وروي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين
فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح.
" ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون " فصار
الحاصل أن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في
المفازة، وإن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان
بالخيام والفساطيط، وعن أبي يوسف روايتان،
وعلى هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند
ومعهم أخبية وفساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر
يوما في المفازة، والصحيح قول أبي حنيفة; لأن
موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع
القرار في الأصل، فكانت النية لغوا. ولو حاصر
المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب ووطنوا
أنفسهم على إقامة خمس عشر يوما لم تصح نية
الإقامة، ويقصرون، وكذا إذا نزلوا المدينة
وحاصروا أهلها في الحصن. وقال أبو يوسف: إن
كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة
فكذلك، وإن كانوا في الأبنية صحت نيتهم وقال
زفر في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة
للمسلمين صحت نيتهم، وإن كانت للعدو لم تصح
"وجه" قول زفر أن الشوكة إذا كانت للمسلمين
يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم فيمكنهم
القرار ظاهرا، فنية الإقامة صادفت محلها فصحت
وأبو يوسف يقول: "إلا بنية موضع الإقامة فتصح
نية الإقامة فيها" بخلاف الصحراء. "ولنا" ما
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا سأله
وقال: "إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال: صل
ركعتين حتى ترجع إلى أهلك; ولأن نية الإقامة
نية القرار وإنما تصح في محل صالح للقرار،
ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين
لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر
لهم; لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين
حيلة; لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها
فلغت; ولأن غرضهم من المكث هنالك: فتح الحصن
دون التوطن، وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة
قائم فلا
ج / 1 ص -99-
تتحقق
نيتهم إقامة خمسة عشر يوما فقد خرج الجواب عما
قالا، وعلى هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل
البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم
ونووا الإقامة خمسة عشر يوما، واختلف
المتأخرون في الأعراب والأكراد والتركمان
الذين يسكنون في بيوت الشعر والصوف، قال
بعضهم: "لا يكونون مقيمين أبدا وإن نووا
الإقامة مدة الإقامة"; لأن المفازة ليست موضع
الإقامة والأصح أنهم مقيمون; لأن عادتهم
الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى، فكانت
المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها ولأن
الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون
السفر بل ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى
مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا
آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين في الطريق.
ثم المسافر كما يصير مقيما بصريح نية الإقامة
في مكان واحد صالح للإقامة خمسة عشر يوما خارج
الصلاة يصير مقيما به في الصلاة حتى يتغير
فرضه في الحالين جميعا، سواء نوى الإقامة في
أول الصلاة أو في وسطها أو في آخرها بعد أن
كان شيء من الوقت باقيا وإن قل، وسواء كان
المصلي منفردا أو مقتديا مسبوقا أو مدركا إلا
إذا أحدث المدرك أو نام خلف الإمام فتوضأ أو
انتبه بعد ما فرغ الإمام من الصلاة ونوى
الإقامة فإنه لا يتغير فرضه عند أصحابنا
الثلاثة خلافا لزفر وإنما كان كذلك; لأن نية
الإقامة نية الاستقرار، والصلاة لا تنافي نية
الاستقرار فتصح نية الإقامة فيها فإذا كان
الوقت باقيا والفرض لم يؤد بعد كان محتملا
للتغيير فيتغير بوجود المغير " وهو نية
الإقامة "، وإذا خرج الوقت أو أدي الفرض لم
يبق محتملا للتغيير فلا يعمل المغير فيه،
والمدرك الذي نام خلف الإمام أو أحدث وذهب
للوضوء كأنه خلف الإمام، ألا ترى أنه لا يقرأ
ولا يسجد للسهو؟ فإذا فرغ الإمام فقد استحكم
الفرض ولم يبق محتملا للتغيير في حقه فكذا في
حق اللاحق بخلاف المسبوق، وإذا عرف هذا فنقول
إذا صلى المسافر ركعة ثم نوى الإقامة في الوقت
تغير فرضه لما ذكرنا أن الفرض في الوقت قابل
للتغيير. وكذا لو نوى الإقامة بعد ما صلى ركعة
ثم خرج الوقت لما قلنا، ولو خرج الوقت وهو في
الصلاة ثم نوى الإقامة لا يتغير فرضه؛ لأن فرض
السفر قد تقرر عليه بخروج الوقت فلا يحتمل
التغيير بعد ذلك، ولو صلى الظهر ركعتين وقعد
قدر التشهد ولم يسلم ثم نوى الإقامة تغير فرضه
لما ذكرنا، وإن نوى الإقامة بعدما قعد قدر
التشهد وقام إلى الثالثة فإن لم يقيد الركعة
بالسجدة تغير فرضه; لأنه لم يخرج عن المكتوبة
بعد إلا أنه يعيد القيام والركوع; لأن ذلك نفل
فلا ينوب عن الفرض، وهو بالخيار في الشفع
الأخير إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت،
في ظاهر الرواية على ما ذكرنا فيما تقدم وإن
قيد الثالثة بالسجدة ثم نوى الإقامة لا يتغير
فرضه; لأن الفرض قد استحكم بخروجه منه فلا
يحتمل التغيير ولكنه يضيف إليها ركعة أخرى
لتكون الركعتان له تطوعا; لأن التقرب إلى الله
تعالى: بالبتراء غير جائز، ولو أفسد تلك
الركعة ففرضه تام وليس عليه قضاء الشفع الثاني
عند علمائنا الثلاثة خلافا لزفر بناء على
مسألة المظنون، هذا إذا قعد على رأس الركعتين
قدر التشهد، فأما إذا لم يقعد ونوى الإقامة
وقام إلى الثالثة تغير فرضه لما قلنا، ثم ينظر
إن لم يقم صلبه عاد إلى القعدة وإن أقام صلبه
لا يعود، كالمقيم إذا أقام من الثالثة إلى
الرابعة، وهو في القراءة في الشفع الأخير
بالخيار. وكذا إذا قام إلى الثالثة ولم يقيدها
بالسجدة حتى نوى الإقامة تغير فرضه وعليه
إعادة القيام والركوع لما مر، فإن قيد الثالثة
بالسجدة ثم نوى الإقامة لا تعمل نيته في حق
هذه الصلاة; لأن فرضيتها قد فسدت بالإجماع;
لأنه لما قيد الثالثة بالسجدة تم شروعه في
النفل; لأن الشروع إما أن يكون بتكبيرة
الافتتاح أو بتمام فعل النفل، وتمام فعل
الصلاة بتقييد الركعة بالسجدة، ولهذا لا تسمى
صلاة بدونه، وإذا صار شارعا في النفل صار
خارجا عن الفرض ضرورة لكن بقيت التحريمة عند
أبي حنيفة وأبي يوسف فيضيف إليها ركعة أخرى
ليكون الأرجح له تطوعا; لأن التنفل بالثلاث
غير مشروع وعند محمد ارتفعت التحريمة بفساد
الفرضية فلا يتصور انقلابه تطوعا مسافر صلى
الظهر ركعتين وترك القراءة في الركعتين أو في
واحدة منهما وقعد قدر التشهد ثم نوى الإقامة
قبل أن يسلم أو قام إلى الثالثة ثم نوى
الإقامة قبل أن يقيدها بالسجدة تحول فرضه
أربعا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويقرأ في
الأخيرتين قضاء عن الأوليين، وتفسد صلاته عند
محمد، ولو قيد الثالثة بالسجدة ثم نوى الإقامة
تفسد
ج / 1 ص -100-
صلاته
بالإجماع، لكن يضيف إليها ركعة أخرى ليكون
الركعتان له تطوعا على قولهما خلافا لمحمد على
ما مر. "وجه" قول محمد أن ظهر المسافر كفجر
المقيم، ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك
القراءة فيهما أو في إحداهما على وجه لا يمكنه
إصلاحه إلا بالاستقبال، فكذا الظهر في حق
المسافر إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة
الفساد "وجه" قولهما أن المفسد لم يتقرر; لأن
المفسد خلو الصلاة عن القراءة في ركعتين منها
ولا يتحقق ذلك بترك القراءة في الأوليين; لأن
صلاة المسافر بغرض أن يلحقها مدة نية الإقامة
بخلاف الفجر في حق المقيم؛ لأن ثمة تقرر
المفسد إذ ليس لها هذه العرضية، وكذا إذا قيد
الثالثة بالسجدة ولو قرأ في الركعتين جميعا
وقعد قدر التشهد وسلم وعليه سهو فنوى الإقامة
لم ينقلب فرضه أربعا وسقط عنه السهو عند أبي
حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد وزفر تغير فرضه
أربعا ويسجد للسهو في آخر الصلاة، ذكر
الاختلاف في نوادر أبي سليمان. ولو سجد سجدة
واحدة لسهوه أو سجدهما ثم نوى الإقامة تغير
فرضه أربعا بالإجماع، ويعيد السجدتين في آخر
الصلاة، وكذا إذا نوى الإقامة قبل السلام
الأول، وهذا الاختلاف راجع إلى أصل وهو: أن من
عليه سجود السهو إذا سلم يخرج من الصلاة عند
أبي حنيفة وأبي يوسف خروجا موقوفا، إن عاد إلى
سجدتي السهو وصح عوده إليهما تبين أنه كان لم
يخرج، وإن لم يعد تبين أنه كان خرج حتى لو ضحك
بعدما سلم قبل أن يعود إلى سجدتي السهو لا
تنتقض طهارته عندهما، وعند محمد وزفر سلامه لا
يخرجه عن حرمة الصلاة أصلا حتى لو ضحك قهقهة
بعد السلام قبل الاشتغال بسجدتي السهو تنتقض
طهارته "وجه" قول محمد وزفر أن الشرع أبطل عمل
سلام من عليه سجدتا السهو; لأن سجدتي السهو
يؤتى بهما في تحريمة الصلاة; لأنهما شرعتا
لجبر النقصان وإنما ينجبران لو حصلتا في
تحريمة الصلاة، ولهذا يسقطان إذا وجد بعد
القعود قدر التشهد ما ينافي التحريمة ولا يمكن
تحصيلهما في تحريمة الصلاة إلا بعد بطلان عمل
هذا السلام فصار وجوده وعدمه في هذه الحالة
بمنزلة واحدة، ولو انعدم حقيقة كانت التحريمة
باقية، فكذا إذا التحق بالعدم، ولأبي حنيفة
وأبي يوسف أن السلام جعل محللا في الشرع قال
النبي صلى الله عليه وسلم وتحليلها التسليم،
والتحليل ما يحصل به التحلل ولأنه خطاب للقوم
فكان من كلام الناس، وأنه مناف للصلاة غير أن
الشرع أبطل عمله في هذه الحالة لحاجة المصلي
إلى جبر النقصان، ولا ينجبر إلا عند وجود
الجابر في التحريمة ليلحق الجابر بسبب بقاء
التحريمة بمحل النقصان فينجبر النقصان فبقينا
التحريمة مع وجود المنافي لها لهذه الضرورة
فإن اشتغل بسجدتي السهو وصح اشتغاله بهما
تحققت الضرورة إلى إبقاء التحريمة فبقيت، وإن
لم يشتغل لم تتحقق الضرورة، فعمل السلام في
الإخراج عن الصلاة وإبطال التحريمة. وإذا عرف
هذا الأصل فنقول: وجدت نية الإقامة ههنا
والتحريمة باقية عند محمد وزفر فتغير فرضه كما
لو نوى الإقامة قبل السلام أو بعد ما عاد إلى
سجدتي السهو وعند أبي حنيفة وأبي يوسف وجدت
نية الإقامة ههنا والتحريمة منقطعة; لأن
بقاءها مع وجود المنافي لضرورة العود إلى
سجدتي السهو، والعود إلى سجدتي السهو ههنا لا
يصح; لأنه لو صح لتبين أن التحريمة كانت باقية
فتبين أن فرضه صار أربعا وهذا وسط الصلاة،
والاشتغال بسجدتي السهو في وسط الصلاة غير
صحيح; لأن محلهما آخر الصلاة فلا فائدة في
التوقف ههنا، فلا يتوقف، بخلاف ما إذا اقتدى
به إنسان في هذه الحالة; لأن الاقتداء موقوف،
إن اشتغل بالسجدتين تبين أنه كان صحيحا، وإن
لم يشتغل تبين أنه وقع باطلا; لأن القول
بالتوقف هناك مفيد; لأن العود إلى سجدتي السهو
صحيح فسقط اعتبار المنافي للضرورة وههنا
بخلافه، بخلاف ما إذا سجد سجدة واحدة للسهو ثم
نوى الإقامة أو سجد السجدتين جميعا حيث يصح،
وإن كان يؤدي إلى أن سجدتي السهو لا يعتد بهما
لحصولهما في وسط الصلاة; لأن هناك صح اشتغاله
بسجدتي السهو فتبين أن التحريمة كانت باقية
فوجدت نية الإقامة، والتحريمة باقية فتغير
فرضه أربعا، وإذا تغير أربعا تبين أن السجدة
حصلت في وسط الصلاة فيبطل اعتبارها ولكن لا
يظهر أنها ما كانت معتبرة معتدا بها حين حصلت
بل بطل اعتبارها بعد ذلك وقت حصول نية الإقامة
مقتصرا على الحال. فأما فيما نحن فيه فبخلافه،
وفرق بين ما انعقد صحيحا ثم انفسخ بمعنى يوجب
انفساخه وبين ما لم ينعقد من الأصل; لأن في
الأول ثبت الحكم عند انعقاده
ج / 1 ص -101-
وانتفى
بعد انفساخه، وفي الثاني لم يثبت الحكم أصلا
نظيره من اشترى دارا فوجد بها عيبا فردها
بقضاء القاضي حتى انفسخ البيع لا تبطل شفعة
الشفيع الذي كان ثبت بالبيع، ولو ظهر أن بدل
الدار كان حرا ظهر أن حق الشفيع لم يكن ثابتا;
لأنه ظهر أن البيع ما كان منعقدا، وفي باب
الفسخ لا يظهر، فكذا ههنا ويعيد السجدتين في
آخر الصلاة عندنا خلافا لزفر، والصحيح قولنا;
لأنه شرع لجبر النقصان وأنه لا يصلح جابرا قبل
السلام ففي وسط الصلاة أولى، فيعاد لتحقيق ما
شرع له وبخلاف ما إذا نوى الإقامة قبل السلام
الأول حيث تصح نية الإقامة; لأن التحريمة
باقية بيقين ومن مشايخنا من قال: لا توقف في
الخروج عن التحريمة بسلام السهو عندهما بل
يخرج جزما من غير توقف، وإنما التوقف في عود
التحريمة ثانيا إن عاد إلى سجدتي السهو يعود
وإلا فلا، وهذا أسهل لتخريج المسائل، وما
ذكرنا أن التوقف في بقاء التحريمة وبطلانها
أصح; لأن التحريمة تحريمة واحدة فإذا بطلت لا
تعود إلا بالإعادة ولم توجد والله أعلم.
والثاني" وجود الإقامة بطريق التبعية: وهو أن
يصير الأصل مقيما فيصير التبع أيضا مقيما
بإقامة الأصل، كالعبد يصير مقيما بإقامة
مولاه، والمرأة بإقامة زوجها، والجيش بإقامة
الأمير ونحو ذلك; لأن الحكم في التبع ثبت بعلة
الأصل ولا تراعى له علة على حدة لما فيه من
جعل التبع أصلا وأنه قلب الحقيقة "وأما"
الغريم مع صاحب الدين: فهو على التفصيل الذي
ذكرنا في السفر أنه إن كان المديون مليا
فالمعتبر نيته ولا يصير تبعا لصاحب الدين;
لأنه يمكنه تخليص نفسه بقضاء الدين، وإن كان
مفلسا فالمعتبر نية صاحب الدين; لأن له حق
ملازمته فلا يمكنه أن يفارق صاحب الدين، فكانت
نيته لغوا لعدم الفائدة، ثم في هذه الفصول
إنما يصير التبع مقيما بإقامة الأصل وتنقلب
صلاته أربعا إذا علم التبع بنية إقامة الأصل،
فأما إذا لم يعلم فلا، حتى لو صلى التبع صلاة
المسافرين قبل العلم بنية إقامة الأصل فإن
صلاته جائزة، ولا يجب عليه إعادتها. وقال بعض
أصحابنا: إن عليه الإعادة وإنه غير سديد; لأن
في اللزوم بدون العلم به ضررا في حقه وحرجا،
ولهذا لم يصح عزل الوكيل بدون العلم به كذا
هذا، وعلى هذا يبنى أيضا اقتداء المسافر
بالمقيم في الوقت أنه يصح، وينقلب فرضه أربعا
عند عامة العلماء. وقال بعض الناس لا ينقلب
وقال مالك: إن أدرك مع الإمام ركعة فصاعدا
ينقلب فرضه أربعا وإن أدرك ما دون الركعة لا
ينقلب بأن اقتدى به في السجدة الأخيرة أو بعد
ما رفع رأسه منها، والصحيح: قول العامة؛ لأنه
لما اقتدى به صار تبعا له؛ لأن متابعته واجبة
عليه. قال صلى الله عليه وسلم "إنما جعل
الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" والأداء "
أعني الصلاة في الوقت " مما يحتمل التغيير إلى
الكمال إذا وجد دليل التغيير، ألا ترى أنه
تتغير نية الإقامة في الوقت؟ وقد وجد ههنا
دليل التغيير " وهو التبعية"، فيتغير فرضه
أربعا فصار صلاة المقتدي مثل صلاة الإمام فصح
اقتداؤه به بخلاف ما إذا اقتدى به خارج الوقت
حيث لا يصح; لأن الصلاة خارج الوقت من باب
القضاء وأنه خلف عن الأداء، والأداء لم يتغير
لعدم دليل التغيير فلا يتغير القضاء، ألا ترى
أنه لا يتغير بنية الإقامة بعد خروج الوقت
وإذا لم يتغير فرضه بالاقتداء بقيت صلاته
ركعتين، والقعدة فرض في حقه نفل في حق الإمام
فلو صح الاقتداء كان هذا اقتداء المفترض
بالمتنفل في حق القعدة، وكما لا يجوز اقتداء
المفترض بالمتنفل في جميع الصلاة لا يجوز في
ركن منها، وما ذكره مالك غير سديد; لأن الصلاة
مما لا يتجزأ فوجود المغير في جزئها كوجوده في
كلها، ولو أن مقيما صلى ركعتين بقراءة فلما
قام إلى الثالثة جاء مسافر واقتدى به بعد خروج
الوقت لا يصح لما بينا أن فرض المسافر تقرر
ركعتين بخروج الوقت، والقراءة فرض عليه في
الركعتين نفل في حق المقيم في الأخيرتين فيكون
اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة فإن
صلاهما بغير قراءة والمسألة بحالها ففيه
روايتان "وأما" اقتداء المقيم بالمسافر فيصح
في الوقت وخارج الوقت; لأن صلاة المسافر في
الحالتين واحدة، والقعدة فرض في حقه نفل في حق
المقتدي، واقتداء المتنفل بالمفترض جائز في كل
صلاة فكذا في بعضها فهو الفرق، ثم إذا سلم
الإمام على رأس الركعتين لا يسلم المقيم; لأنه
قد بقي عليه شرط الصلاة فلو سلم لفسدت صلاته،
ولكنه يقوم ويتمها أربعا لقوله صلى الله عليه
وسلم أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر وينبغي
للإمام المسافر إذا سلم أن يقول للمقيمين
ج / 1 ص -102-
خلفه
"أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" اقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم ولا قراءة على المقتدي في
بقية صلاته إذا كان مدركا أي: لا يجب عليه؛
لأنه شفع أخير في حقه، ومن مشايخنا من قال:
"ذكر في الأصل ما يدل على وجوب القراءة" فإنه
قال: "إذا سها يلزمه سجود السهو". والاستدلال
به إلى العكس أولى; لأنه ألحقه بالمنفرد في حق
السهو فكذا في حق القراءة، ولا قراءة على
المنفرد في الشفع الأخير، ثم المقيمون بعد
تسليم الإمام يصلون وحدانا، ولو اقتدى بعضهم
ببعض فصلاة الإمام منهم تامة وصلاة المقتدين
فاسدة; لأنهم اقتدوا في موضع يجب عليهم
الانفراد، ولو قام المقيم إلى إتمام صلاته ثم
نوى الإمام الإقامة قبل التسليم ينظر إن لم
يقيد هذا المقيم ركعته بالسجدة رفض ذلك وتابع
إمامه حتى لو لم يرفض وسجد فسدت صلاته; لأن
صلاته صارت أربعا تبعا لإمامه; لأنه ما لم
يقيد الركعة بالسجدة لا يخرج عن صلاة الإمام
ولا يعتد بذلك القيام والركوع; لأنه وجد على
وجه النفل فلا ينوب عن الفرض، ولو قيد ركعته
بالسجدة ثم نوى الإمام الإقامة أتم صلاته ولا
يتابع الإمام حتى لو رفض ذلك وتابع الإمام
فسدت صلاته; لأنه اقتدى في موضع يجب عليه
الانفراد والله أعلم.
وعلى هذا إذا اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت
ثم خرج الوقت قبل الفراغ من الصلاة لا تفسد
صلاته ولا يبطل اقتداؤه به، وإن كان لا يصح
اقتداء المسافر بالمقيم في خارج الوقت ابتداء;
لأنه لما صح اقتداؤه به وصار تبعا له صار حكمه
حكم المقيمين، وإنما يتأكد وجوب الركعتين
بخروج الوقت في حق المسافر وهذا قد صار مقيما،
وصلاة المقيم لا تصير ركعتين بخروج الوقت كما
إذا صار مقيما بصريح نية الإقامة، ولو نام خلف
الإمام حتى خرج الوقت ثم انتبه أتمها أربعا;
لأن المدرك يصلي ما نام عنه كأنه خلف الإمام
وقد انقلب فرضه أربعا بحكم التبعية، والتبعية
باقية بعد خروج الوقت; لأنه بقي مقتديا به على
ما مر ولو تكلم بعد خروج الوقت أو قبل خروجه
يصلي ركعتين عندنا خلافا للشافعي على ما مر،
ولو أن مسافرا أم قوما مقيمين ومسافرين في
الوقت فأحدث واستخلف رجلا من المقيمين صح
استخلافه; لأنه قادر على إتمام صلاة الإمام.
ولا تنقلب صلاة المسافرين أربعا عند أصحابنا
الثلاثة، وعند زفر ينقلب فرضهم أربعا. "وجه"
قوله أنهم صاروا مقتدين بالمقيم حتى تعلق
صلاتهم بصلاته صحة وفسادا، والمسافر إذا اقتدى
بالمقيم ينقلب فرضه أربعا كما لو اقتدى به
ابتداء; ولأن فرضهم لو لم ينقلب أربعا لما جاز
اقتداؤهم به; لأن القعدة الأولى في حق الإمام
نفل وفي حق المسافرين فرض فيصير اقتداء
المفترض بالمتنفل في حق القعدة ولهذا لا يجوز
اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت. "ولنا" أن
المقيم إنما صار إماما بطريق الخلافة ضرورة أن
الإمام عجز عن الإتمام بنفسه فيصير قائما
مقامه في مقدار صلاة الإمام، إذ الخلف يعمل
عمل الأصل كأنه هو فكانوا مقتدين بالمسافر
معنى فلذلك لا تنقلب صلاتهم أربعا وصارت
القعدة الأولى عليه فرضا; لأنه قائم مقام
المسافر مؤد صلاته، وعلى هذا لو قدم مسافر
فنوى المقدم الإقامة لا ينقلب فرض المسافرين
لما قلنا، وإذا صح استخلافه ينبغي أن يتم صلاة
الإمام وهي ركعتان ويقعد قدر التشهد ولا يسلم
بنفسه; لأنه مقيم بقي عليه شطر الصلاة فتفسد
صلاته بالسلام، ولكنه يستخلف رجلا من
المسافرين حتى يسلم بهم ثم يقوم هو وبقية
المقيمين ويصلون بقية صلاتهم وحدانا; لأنهم
بمنزلة اللاحقين. ولو اقتدى بعضهم ببعض فصلاة
الإمام منهم تامة; لأنه منفرد على كل حال،
وصلاة المقتدين فاسدة; لأنهم تركوا ما هو فرض
عليهم وهو الانفراد في هذه الحالة، ولو أن
مسافرا صلى بمسافرين ركعة في الوقت ثم نوى
الإقامة يصلي بهم أربعا؛ لأن الإمام ههنا أصل
وقد تغيرت صلاته بوجود المغير " وهو نية
الإقامة " فتتغير صلاة القوم بحكم التبعية
بخلاف الفصل الأول فإنه خلف عن الإمام الأول
مؤد صلاته لما بينا، ولو أن مسافرا أم قوما
مسافرين ومقيمين فلما صلى ركعتين فقبل أن يسلم
تكلم واحد من المسافرين خلفه أو قام فذهب ثم
نوى الإمام الإقامة فإنه يتحول فرضه وفرض
المسافرين الذين لم يتكلموا أربعا لوجود
المغير في محله، وصلاة من تكلم تامة لأنه تكلم
في وقت لو تكلم فيه إمامه لا تفسد صلاته فكذا
صلاة المقتدي إذا كان بمثل حاله، ولو تكلم بعد
ما نوى الإمام الإقامة فسدت صلاته; لأنه
انقلبت صلاته أربعا تبعا للإمام فحصل كلامه في
وسط الصلاة فوجب فسادها
ج / 1 ص -103-
ولكن
يجب عليه صلاة المسافرين ركعتان عندنا; لأنه
صار مقيما تبعا. وقد زالت التبعية بفساد
الصلاة فعاد حكم المسافرين في حقه.
وأما" الثالث: فهو الدخول في الوطن، فالمسافر
إذا دخل مصره صار مقيما، سواء دخلها للإقامة
أو للاجتياز أو لقضاء حاجة، والخروج بعد ذلك;
لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يخرج مسافرا إلى الغزوات ثم يعود إلى المدينة
ولا يجدد نية الإقامة. ولأن مصره متعين
للإقامة فلا حاجة إلى التعيين بالنية، وإذا
قرب من مصره فحضرت الصلاة فهو مسافر ما لم
يدخل، لما روي أن عليا رضي الله عنه حين قدم
الكوفة من البصرة صلى صلاة السفر وهو ينظر إلى
أبيات الكوفة. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما
أنه قال للمسافر: صل ركعتين ما لم تدخل منزلك;
ولأن هذا موضع لو خرج إليه على قصد السفر يصير
مسافرا فلأن يبقى مسافرا بعد وصوله إليه أولى،
وذكر في العيون أن الصبي والكافر إذا خرجا إلى
السفر فبقي إلى مقصدهما أقل من مدة السفر
فأسلم الكافر وبلغ الصبي فإن الصبي يصلي أربعا
والكافر الذي أسلم يصلي ركعتين، والفرق أن قصد
السفر صحيح من الكافر إلا أنه لا يصلي لكفره
فإذا أسلم زال المانع، فأما الصبي: فقصده
السفر لم يصح، وحين أدرك لم يبق إلى مقصده مدة
السفر فلا يصير مسافرا ابتداء. وذكر في نوادر
الصلاة أن من قدم من السفر فلما انتهى قريبا
من مصره قبل أن ينتهي إلى بيوت مصره افتتح
الصلاة ثم أحدث في صلاته فلم يجد الماء فدخل
المصر ليتوضأ إن كان إماما أو منفردا فحين
انتهى إلى بيوت مصره صار مقيما، وإن كان
مقتديا وهو مدرك فإن لم يفرغ الإمام من صلاته
يصلي ركعتين بعد ما صار مقيما; لأنه كان خلف
الإمام، واللاحق إذا نوى الإقامة قبل فراغ
الإمام يصير مقيما، فكذا إذا دخل مصره، وإن
كان فرغ الإمام من صلاته حين انتهى إلى بيوت
مصره لا تصح نية إقامته، ويصلي ركعتين عند
أصحابنا الثلاثة، وعند زفر تصير صلاته أربعا
بالدخول إلى مصره، وكذا بنيته الإقامة في هذه
الحالة. "وجه" قوله أن المغير موجود والوقت
باق، فكان المحل قابلا للتغيير، أربعا; ولأن
هذا إن اعتبر بمن خلف الإمام يتغير فرضه وإن
اعتبر بالمسبوق يتغير. "ولنا" أن اللاحق ليس
بمنفرد، ألا ترى أنه لا قراءة عليه ولا سجود
سهو؟ ولكنه قاض مثل ما انعقد له تحريمة
الإمام; لأنه التزم أداء هذه الصلاة مع
الإمام، وبفراغ الإمام فات الأداء معه فيلزمه
القضاء، والقضاء لا يحتمل التغيير; لأن القضاء
خلف فيعتبر بحال الأصل وهو صلاة الإمام، وقد
خرج الأصل عن احتمال التغيير وصار مقيما على
وظيفة المسافرين، ولو تغير الخلف لانقلب أصلا
وهذا لا يجوز، بخلاف من خلف الإمام; لأنه لم
يفته الأداء مع الإمام فلم يصر قضاء فيتغير
فرضه، وبخلاف المسبوق؛ لأنه مؤد ما سبق به;
لأنه لم يلتزم أداءه مع الإمام، والوقت باق
فتغير ثم إنما يتغير فرض المسافر بصيرورته
مقيما بدخوله مصره إذا دخله في الوقت، فأما
إذا دخله بعد خروج الوقت فلا يتغير؛ لأنه تقرر
عليه فرض السفر بخروج الوقت فلا يتغير بالدخول
في المصر، ألا ترى أنه لا يتغير بصريح نية
الإقامة، وبالإقامة بطريق التبعية؟ والله
أعلم.
مطلب في أن الأوطان ثلاثة "ثم" الأوطان ثلاثة:
وطن أصلي: وهو وطن الإنسان في بلدته أو بلدة
أخرى اتخذها دارا وتوطن بها مع أهله وولده،
وليس من قصده الارتحال عنها بل التعيش بها.
"ووطن" الإقامة: وهو أن يقصد الإنسان أن يمكث
في موضع صالح للإقامة خمسة عشر يوما أو أكثر.
"ووطن" السكنى: وهو أن يقصد الإنسان المقام في
غير بلدته أقل من خمسة عشر يوما والفقيه
الجليل أبو أحمد العياضي قسم الوطن إلى قسمين
وسمى أحدهما وطن قرار، والآخر مستعارا، فالوطن
الأصلي ينتقض بمثله لا غير وهو: أن يتوطن
الإنسان في بلدة أخرى وينقل الأهل إليها من
بلدته فيخرج الأول من أن يكون وطنا أصليا، حتى
لو دخل فيه مسافرا لا تصير صلاته أربعا، وأصله
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين
من أصحابه رضي الله عنهم كانوا من أهل مكة
وكان لهم بها أوطان أصلية، ثم لما هاجروا
وتوطنوا بالمدينة وجعلوها دارا لأنفسهم انتقض
وطنهم الأصلي بمكة، حتى كانوا إذا أتوا مكة
يصلون صلاة المسافرين، حتى قال النبي صلى الله
عليه وسلم حين صلى بهم "أتموا يا أهل مكة
صلاتكم فإنا قوم سفر"؛ ولأن الشيء جاز أن ينسخ
بمثله، ثم الوطن الأصلي يجوز أن يكون واحدا أو
أكثر من ذلك بأن كان له أهل ودار في بلدتين أو
أكثر ولم يكن من نية
ج / 1 ص -104-
أهله
الخروج منها، وإن كان هو ينتقل من أهل إلى أهل
في السنة، حتى أنه لو خرج مسافرا من بلدة فيها
أهله ودخل في أي بلدة من البلاد التي فيها
أهله فيصير مقيما من غير نية الإقامة، ولا
ينتقض الوطن الأصلي بوطن الإقامة ولا بوطن
السكنى; لأنهما دونه، والشيء لا ينسخ بما هو
دونه، وكذا لا ينتقض بنية السفر والخروج من
وطنه حتى يصير مقيما بالعود إليه من غير نية
الإقامة، لما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يخرج من المدينة مسافرا وكان وطنه
بها باقيا حتى يعود مقيما فيها من غير تجديد
النية. "ووطن" الإقامة ينتقض بالوطن الأصلي;
لأنه فوقه، وبوطن الإقامة أيضا; لأنه مثله،
والشيء يجوز أن ينسخ بمثله، وينتقض بالسفر
أيضا; لأن توطنه في هذا المقام ليس للقرار
ولكن لحاجة، فإذا سافر منه يستدل به على قضاء
حاجته فصار معرضا عن التوطن به، فصار ناقضا له
دلالة، ولا ينتقض وطن الإقامة بوطن السكنى;
لأنه دونه فلا ينسخه. "ووطن" السكنى ينتقض
بالوطن الأصلي، وبوطن الإقامة؛ لأنهما فوقه،
وبوطن السكنى; لأنه مثله، وبالسفر لما بينا،
ثم ما ذكرنا من تفسير وطن الإقامة جواب ظاهر
الرواية وذكر الكرخي في جامعه عن محمد
روايتين: في رواية: إنما يصير الوطن وطن إقامة
بشرطين: أحدهما أن يتقدمه سفر والثاني: أن
يكون بين وطنه الأصلي وبين هذا الموضع الذي
توطن فيه بنية الإقامة مسيرة ثلاثة أيام
فصاعدا. فأما بدون هذين الشرطين لا يصير وطن
إقامة، وإن نوى الإقامة خمسة عشر يوما في مكان
صالح للإقامة، حتى إن الرجل المقيم إذا خرج من
مصره إلى قرية من قراها لا لقصد السفر، ونوى
أن يتوطن بها خمسة عشر يوما لا تصير تلك
القرية وطن إقامة له وإن كان بينهما مسيرة سفر
لانعدام تقدم السفر، وكذا إذا قصد مسيرة سفر
وخرج حتى وصل إلى قرية بينها وبين وطنه الأصلي
مسيرة ما دون السفر، ونوى أن يقيم بها خمسة
عشر يوما لا يصير مقيما، ولا تصير تلك القرية
وطن إقامة له وفي رواية ابن سماعة عنه: يصير
مقيما من غير هذين الشرطين كما هو ظاهر
الرواية، وإذا عرف هذا الأصل يخرج بعض المسائل
عليه حتى يسهل تخريج الباقي خراساني قدم
الكوفة ونوى المقام بها شهرا، ثم خرج منها إلى
الحيرة ونوى المقام بها خمسة عشر يوما، ثم خرج
من الحيرة يريد العود إلى خراسان ومر بالكوفة
فإنه يصلي ركعتين; لأن وطنه بالكوفة كان وطن
إقامة، وقد انتقض بوطنه بالحيرة؛ لأنه وطن
إقامة أيضا. وقد بينا أن وطن الإقامة ينتقض
بمثله، وكذا وطنه بالحيرة انتقض بالسفر; لأنه
وطن إقامة، فكما خرج من الحيرة على قصد خراسان
صار مسافرا، ولا وطن له في موضع فيصلي ركعتين
حتى يدخل بلدته بخراسان وإن لم يكن نوى المقام
بالحيرة خمسة عشر يوما أتم الصلاة بالكوفة؛
لأن وطنه بالكوفة لم يبطل بالخروج إلى الحيرة;
لأنه ليس بوطن مثله ولا سفر فيبقى وطنه
بالكوفة كما كان. ولو أن خراسانيا قدم الكوفة
ونوى المقام بها خمسة عشر يوما، ثم ارتحل منها
يريد مكة، فقبل أن يسير ثلاثة أيام ذكر حاجة
له بالكوفة فعاد فإنه يقصر; لأن وطنه بالكوفة
قد بطل بالسفر كما يبطل بوطن مثله. ولو أن
كوفيا خرج إلى القادسية، ثم خرج منها إلى
الحيرة، ثم عاد من الحيرة يريد الشام فمر
بالقادسية قصر; لأن وطنه بالقادسية والحيرة
سواء، فيبطل الأول بالثاني، ولو بدا له أن
يرجع إلى القادسية قبل أن يصل إلى الحيرة، ثم
يرتحل إلى الشام صلى بالقادسية أربعا; لأن
وطنه بالقادسية لا يبطل إلا بمثله ولم يوجد،
وعلى هذا الأصل مسائل في الزيادات "وأما"
الرابع فهو العزم على العود للوطن: وهو أن
الرجل إذا خرج من مصره بنية السفر ثم عزم على
الرجوع إلى وطنه، وليس بين هذا الموضع الذي
بلغ وبين مصره مسيرة سفر يصير مقيما حين عزم
عليه; لأن العزم على العود إلى مصره قصد ترك
السفر بمنزلة نية الإقامة فصح، وإن كان بينه
وبين مصره مدة سفر لا يصير مقيما; لأنه بالعزم
على العود قصد ترك السفر إلى جهة. وقصد السفر
إلى جهة، فلم يكمل العزم على العود إلى السفر
لوقوع التعارض، فبقي مسافرا كما كان. وذكر في
نوادر الصلاة أن من خرج من مصره مسافرا فحضرت
الصلاة فافتتحها، ثم أحدث فلم يجد الماء هنالك
فنوى أن يدخل مصره وهو قريب فحين نوى ذلك صار
مقيما من ساعته دخل مصره أو لم يدخل، لما
ذكرنا أنه قصد الدخول في المصر بنية ترك السفر
فحصلت النية مقارنة للفعل فصحت، فإذا دخله صلى
أربعا; لأن تلك صلاة
ج / 1 ص -105-
المقيمين، فإن علم قبل أن يدخل المصر أن الماء
أمامه فمشى إليه فتوضأ صلى أربعا أيضا; لأن
بالنية صار مقيما، فبالمشي بعد ذلك في الصلاة
أمامه لا يصير مسافرا في حق تلك الصلاة وإن
حصلت النية مقارنة لفعل السفر حقيقة؛ لأنه لو
جعل مسافرا لفسدت صلاته; لأن السفر عمل، فحرمة
الصلاة منعته عن مباشرة العمل شرعا، بخلاف
الإقامة; لأنها ترك السفر، وحرمة الصلاة لا
تمنعه عن ذلك، فلو تكلم حين علم بالماء أمامه،
أو أحدث متعمدا حتى فسدت صلاته، ثم وجد الماء
في مكانه يتوضأ ويصلي أربعا; لأنه صار مقيما،
ولو مشى أمامه ثم وجد الماء يصلي ركعتين; لأنه
صار مسافرا ثانيا بالمشي إلى الماء بنية السفر
خارج الصلاة، فيصلي صلاة المسافرين، بخلاف
المشي في الصلاة; لأن حرمة الصلاة أخرجته من
أن يكون سفرا والله أعلم.
فصل": وأما أركانها فستة: منها القيام، والأصل أن كل متركب من معان
متغايرة ينطلق اسم المركب عليها عند اجتماعها
كان كل معنى منها ركنا للمركب كأركان البيت في
المحسوسات، والإيجاب والقبول في باب البيع في
المشروعات وكل ما يتغير الشيء به، ولا ينطلق
عليه اسم ذلك الشيء كان شرطا، كالشهود في باب
النكاح فهذا تعريف الركن والشرط بالتحديد.
وأما تعريفهما بالعلامة في هذا الباب: فهو أن
كل ما يدوم من ابتداء الصلاة إلى انتهائها كان
شرطا، وما ينقضي ثم يوجد غيره فهو ركن، وقد
وجد حد الركن وعلامته في القيام؛ لأنه إذا وجد
مع المعاني الأخر من القراءة والركوع والسجود
ينطلق عليها اسم الصلاة، وكذا لا يدوم من أول
الصلاة إلى آخرها، بل ينقضي ثم يوجد غيره فكان
ركنا. وقال الله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، والمراد منه: القيام في الصلاة "ومنها" الركوع، "ومنها" السجود،
لوجود حد الركن وعلامته في كل واحد منهما.
وقال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}، والقدر المفروض من الركوع أصل الانحناء والميل، ومن السجود أصل
الوضع، فأما الطمأنينة عليهما فليست بفرض في
قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف فرض، وبه
أخذ الشافعي، ولقب المسألة أن تعديل الأركان
ليس بفرض عندهما، وعنده فرض، ونذكر المسألة
عند ذكر واجبات الصلاة وذكر سننها إن شاء الله
تعالى: واختلف في محل إقامة فرض السجود، قال
أصحابنا الثلاثة: هو بعض الوجه. وقال زفر
والشافعي: "السجود فرض على الأعضاء السبعة:
الوجه واليدين والركبتين والقدمين"، واحتجا
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" وفي رواية "على سبعة آراب: الوجه واليدين والركبتين والقدمين".
"ولنا" أن الأمر تعلق بالسجود مطلقا من غير
تعيين عضو، ثم انعقد الإجماع على تعيين بعض
الوجه فلا يجوز تعيين غيره، ولا يجوز تقييد
مطلق الكتاب بخبر الواحد; فنحمله على بيان
السنة عملا بالدليلين. ثم اختلف أصحابنا
الثلاثة في ذلك البعض، قال أبو حنيفة: هو
الجبهة أو الأنف غير عين، حتى لو وضع أحدهما
في حالة الاختيار يجزيه، غير أنه لو وضع
الجبهة وحدها جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف
وحده يجوز مع الكراهة وعند أبي يوسف ومحمد: هو
الجبهة على التعيين، حتى لو ترك السجود عليها
حال الاختيار لا يجزيه، وأجمعوا على أنه لو
وضع الأنف وحده في حال العذر يجزيه، ولا خلاف
في أن المستحب هو الجمع بينهما حالة الاختيار.
احتجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال:
"مكن جبهتك وأنفك من الأرض"، أمر بوضعهما جميعا، إلا أنه إذا وضع الجبهة وحدها وقع معتدا به;
لأن الجبهة هي الأصل في الباب، والأنف تابع،
ولا عبرة لفوات التابع عند وجود الأصل; ولأنه
أتى بالأكثر وللأكثر حكم الكل ولأبي حنيفة أن
المأمور به هو السجود مطلقا عن التعيين ثم قام
الدليل على تعيين بعض الوجه بإجماع بيننا;
لإجماعنا على أن ما سوى الوجه وما سوى هذين
العضوين من الوجه غير مراد، والأنف بعض الوجه
كالجبهة ولا إجماع على تعيين الجبهة فلا يجوز
تعيينها، وتقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد;
لأنه لا يصلح ناسخا للكتاب فنحمله على بيان
السنة احترازا عن الرد والله أعلم -. هذا إذا
كان قادرا على ذلك، فأما إذا كان عاجزا عنه:
فإن كان عجزه عنه بسبب المرض بأن كان مريضا لا
يقدر على القيام والركوع والسجود يسقط عنه;
لأن العاجز عن الفعل لا يكلف به، وكذا إذا خاف
زيادة العلة من ذلك؛ لأنه يتضرر به وفيه أيضا
حرج، فإذا عجز عن القيام يصلي قاعدا بركوع
وسجود، فإن عجز
ج / 1 ص -106-
عن
الركوع والسجود يصلي قاعدا بالإيماء، ويجعل
السجود أخفض من الركوع، فإن عجز عن القعود
يستلقي ويومئ إيماء; لأن السقوط لمكان العذر
فيتقدر بقدر العذر، والأصل فيه قوله تعالى:
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} قيل: المراد من الذكر المأمور به في الآية هو الصلاة أي: صلوا،
ونزلت الآية في رخصة صلاة المريض أنه يصلي
قائما إن استطاع، وإلا فقاعدا، وإلا فمضطجعا،
كذا روي عن ابن مسعود وابن عمر وجابر رضي الله
عنهم. وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه
قال: "مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال:
"صل قائما فإن لم تستطع
فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك تومئ إيماء"،
وإنما جعل السجود أخفض من الركوع في الإيماء;
لأن الإيماء أقيم مقام الركوع والسجود وأحدهما
أخفض من الآخر، كذا الإيماء بهما وعن علي رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
صلاة المريض:
"إن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من
ركوعه". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من لم يقدر على السجود فليجعل سجوده ركوعا وركوعه إيماء" والركوع أخفض من الإيماء، ثم ما ذكرنا من الصلاة مستلقيا جواب
المشهور من الروايات. وروي أنه إن عجز عن
القعود يصلي على شقه الأيمن ووجهه إلى القبلة،
وهو مذهب إبراهيم النخعي وبه أخذ الشافعي.
"وجه" هذا القول قوله تعالى: {وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ}. وقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "فعلى جنبك تومئ إيماء";
ولأن استقبال القبلة شرط جواز الصلاة وذلك
يحصل بما قلنا، ولهذا يوضع في اللحد هكذا
ليكون مستقبلا للقبلة. فأما المستلقي يكون
مستقبل السماء وإنما يستقبل القبلة رجلاه فقط.
"ولنا" ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المريض:
"إن لم يستطع قاعدا فعلى القفا يومئ إيماء،
فإن لم يستطع فالله أولى بقبول العذر" ولأن التوجه إلى القبلة بالقدر الممكن فرض وذلك في الاستلقاء; لأن
الإيماء هو تحريك الرأس، فإذا صلى مستلقيا يقع
إيماؤه إلى القبلة، وإذا صلى على الجنب يقع
منحرفا عنها، ولا يجوز الانحراف عن القبلة من
غير ضرورة، وبه تبين أن الأخذ بحديث ابن عمر
أولى. وقيل: إن المرض الذي كان بعمران كان
باسورا، فكان لا يستطيع أن يستلقي على قفاه،
والمراد من الآية الاضطجاع، يقال: فلان وضع
جنبه إذا نام وإن كان مستلقيا، وهو الجواب عن
التعلق بالحديث، على أن الآية والحديث دليلنا;
لأن كل مستلق فهو مستلق على الجنب; لأن الظهر
متركب من الضلوع فكان له النصف من الجنبين
جميعا، وعلى ما يقوله الشافعي يكون على جنب
واحد، فكان ما قلناه أقرب إلى معنى الآية
والحديث فكان أولى. وهذا بخلاف الوضع في
اللحد; لأنه ليس على الميت في اللحد فعل يوجب
توجيهه إلى القبلة ليوضع مستلقيا، فكان
استقبال القبلة في الوضع على الجنب فوضع كذلك.
ولو قدر على القعود، لكن نزع الماء من عينيه
فأمر أن يستلقي أياما على ظهره ونهي عن القعود
والسجود أجزأه أن يستلقي ويصلي بالإيماء وقال
مالك لا يجزئه، "واحتج" بحديث ابن عباس رضي
الله عنهما أن طبيبا قال له بعدما كف بصره: لو
صبرت أياما مستلقيا صحت عيناك، فشاور عائشة
وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم فلم يرخصوا
له في ذلك وقالوا له: أرأيت لو مت في هذه
الأيام كيف تصنع بصلاتك. "ولنا" أن حرمة
الأعضاء كحرمة النفس، ولو خاف على نفسه من عدو
أو سبع لو قعد جاز له أن يصلي بالاستلقاء،
فكذا إذا خاف على عينيه، وتأويل حديث ابن عباس
رضي الله عنهما أنه لم يظهر لهم صدق ذلك
الطبيب فيما يدعي، ثم إذا صلى المريض قاعدا
بركوع وسجود أو بإيماء كيف يقعد ؟ أما في حال
التشهد: فإنه يجلس كما يجلس للتشهد بالإجماع.
وأما في حال القراءة وفي حال الركوع: روي عن
أبي حنيفة أنه يقعد كيف شاء من غير كراهة إن
شاء محتبيا، وإن شاء متربعا، وإن شاء على
ركبتيه كما في التشهد. وروي عن أبي يوسف أنه
إذا افتتح تربع، فإذا أراد أن يركع فرش رجله
اليسرى وجلس عليها. وروي عنه أنه يتربع على
حاله، وإنما ينقض ذلك إذا أراد السجدة وقال
زفر يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته والصحيح
ما روي عن أبي حنيفة; لأن عذر المرض أسقط عنه
الأركان فلأن يسقط عنه الهيئات أولى وإن كان
قادرا على القيام دون الركوع والسجود يصلي
قاعدا بالإيماء، وإن صلى قائما
ج / 1 ص -107-
بالإيماء أجزأه ولا يستحب له ذلك وقال زفر
والشافعي: "لا يجزئه إلا أن يصلي قائما"،
"واحتجا" بما روينا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لعمران بن حصين رضي الله عنه:
"فإن لم تستطع فقاعدا"، علق الجواز قاعدا بشرط
العجز عن القيام، ولا عجز; ولأن القيام ركن
فلا يجوز تركه مع القدرة عليه كما لو كان
قادرا على القيام والركوع والسجود، والإيماء
حالة القيام مشروع في الجملة بأن كان الرجل في
طين وردغة راجلا، أو في حالة الخوف من العدو
وهو راجل، فإنه يصلي قائما بالإيماء، كذا
ههنا. "ولنا" أن الغالب أن من عجز عن الركوع
والسجود كان عن القيام أعجز; لأن الانتقال من
القعود إلى القيام أشق من الانتقال من القيام
إلى الركوع، والغالب ملحق بالمتيقن في
الأحكام، فصار كأنه عجز عن الأمرين، إلا أنه
متى صلى قائما جاز؛ لأنه تكلف فعلا ليس عليه،
فصار كما لو تكلف الركوع جاز وإن لم يكن عليه
كذا ههنا; ولأن السجود أصل وسائر الأركان
كالتابع له، ولهذا كان السجود معتبرا بدون
القيام كما في سجدة التلاوة، وليس القيام
معتبرا بدون السجود بل لم يشرع بدونه، فإذا
سقط الأصل سقط التابع ضرورة، ولهذا سقط الركوع
عمن سقط عنه السجود، وإن كان قادرا على
الركوع، وكان الركوع بمنزلة التابع له، فكذا
القيام بل أولى; لأن الركوع أشد تعظيما
وإظهارا لذل العبودية من القيام، ثم لما جعل
تابعا له وسقط بسقوطه فالقيام أولى، إلا أنه
لو تكلف وصلى قائما يجوز لما ذكرنا، ولكن لا
يستحب; لأن القيام بدون السجود غير مشروع،
بخلاف ما إذا كان قادرا على القيام والركوع
والسجود; لأنه لم يسقط عنه الأصل فكذا التابع.
وأما الحديث فنحن نقول بموجبه: إن العجز شرط
لكنه موجود ههنا نظرا إلى الغالب، لما ذكرنا
أن الغالب هو العجز في هذه الحالة، والقدرة في
غاية الندرة، والنادر ملحق بالعدم، ثم المريض
إنما يفارق الصحيح فيما يعجز عنه، فأما فيما
يقدر عليه فهو كالصحيح; لأن المفارقة للعذر،
فتتقدر بقدر العذر، حتى لو صلى قبل وقتها أو
بغير وضوء أو بغير قراءة عمدا أو خطأ وهو يقدر
عليهما لم يجزه، وإن عجز عنها أومأ بغير
قراءة؛ لأن القراءة ركن فتسقط بالعجز كالقيام،
ألا ترى أنها سقطت في حق الأمي؟ وكذا إذا صلى
لغير القبلة متعمدا لذلك لم يجزه، وإن كان ذلك
خطأ منه أجزأه، بأن اشتبهت عليه القبلة وليس
بحضرته من يسأله عنها فتحرى وصلى ثم تبين أنه
أخطأ، كما في حق الصحيح، وإن كان وجه المريض
إلى غير القبلة وهو لا يجد من يحول وجهه إلى
القبلة ولا يقدر على ذلك بنفسه يصلي كذلك;
لأنه ليس في وسعه إلا ذلك، وهل يعيدها إذا برئ
؟ روي عن محمد بن مقاتل الرازي أنه يعيدها
وأما في ظاهر الجواب فلا إعادة عليه؛ لأن
العجز عن تحصيل الشرائط لا يكون فوق العجز عن
تحصيل الأركان، وثمة لا تجب الإعادة فههنا
أولى ولو كان بجبهته جرح لا يستطيع السجود على
الجبهة لم يجزه الإيماء، وعليه السجود على
الأنف; لأن الأنف مسجد كالجبهة خصوصا عند
الضرورة على ما مر، وهو قادر على السجود عليه
فلا يجزئه الإيماء. ولو عجز عن الإيماء وهو
تحريك الرأس فلا شيء عليه عندنا. وقال زفر:
يومئ بالحاجبين أولا، فإن عجز فبالعينين، فإن
عجز فبقلبه وقال الحسن بن زياد: يومئ بعينيه
وبحاجبيه ولا يومئ بقلبه. "وجه" قول زفر أن
الصلاة فرض دائم لا يسقط إلا بالعجز، فما عجز
عنه يسقط وما قدر عليه يلزمه بقدره، فإذا قدر
بالحاجبين كان الإيماء بهما أولى; لأنهما أقرب
إلى الرأس، فإن عجز الآن يومئ بعينيه; لأنهما
من الأعضاء الظاهرة، وجميع البدن ذو حظ من هذه
العبادة كذا العينان، فإن عجز فبالقلب; لأنه
في الجملة ذو حظ من هذه العبادة وهو النية،
ألا ترى أن النية شرط صحتها ؟ فعند العجز
تنتقل إليه. "وجه" قول الحسن أن أركان الصلاة
تؤدى بالأعضاء الظاهرة، فأما الباطنة فليس بذي
حظ من أركانها بل هو ذو حظ من الشرط وهو
النية، وهي قائمة أيضا عند الإيماء فلا يؤدى
به الأركان والشرط جميعا. "ولنا" ما روي عن
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في المريض إن لم يستطع قاعدا
فعلى القفا يومئ إيماء، فإن لم يستطع فالله
أولى بقبول العذر أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أنه معذور عند الله تعالى: في هذه
الحالة، فلو كان عليه الإيماء بما ذكرتم لما
كان معذورا، ولأن الإيماء ليس بصلاة حقيقة
ولهذا لا يجوز التنفل به في حالة الاختيار،
ولو كان صلاة لجاز كما لو تنفل قاعدا إلا أنه
أقيم مقام الصلاة بالشرع، والشرع ورد بالإيماء
بالرأس فلا يقام غيره مقامه، ثم إذا سقطت عنه
الصلاة بحكم
ج / 1 ص -108-
العجز
فإن مات من ذلك المرض لقي الله تعالى: ولا شيء
عليه؛ لأنه لم يدرك وقت القضاء. وأما إذا برئ
أو صح فإن كان المتروك صلاة يوم وليلة أو أقل
فعليه القضاء بالإجماع، وإن كان أكثر من ذلك
فقال بعض مشايخنا: يلزمه القضاء أيضا; لأن ذلك
لا يعجزه عن فهم الخطاب فوجبت عليه الصلاة
فيؤاخذ بقضائها، بخلاف الإغماء; لأنه يعجزه عن
فهم الخطاب فيمنع الوجوب عليه، والصحيح أنه لا
يلزمه القضاء; لأن الفوائت دخلت في حد
التكرار، وقد فاتت لا بتضييعه القدرة بقصده،
فلو وجب عليه قضاؤها لوقع في الحرج، وبه تبين
أن الحال لا يختلف بين العلم أو الجهل; لأن
معنى الحرج لا يختلف، ولهذا سقطت عن الحائض
وإن لم يكن الحيض يعجزها عن فهم الخطاب، وعلى
هذا إذا أغمي عليه يوما وليلة أو أقل ثم أفاق
قضى ما فاته، وإن كان أكثر من يوم وليلة لا
قضاء عليه عندنا استحسانا وقال بشر: "الإغماء
ليس بمسقط حتى يلزمه القضاء، وإن طالت مدة
الإغماء" وقال الشافعي: "الإغماء يسقط إذا
استوعب وقت صلاة كاملا وتذكر هذه المسائل في
موضع آخر عند بيان ما يقضى من الصلاة التي
فاتت عن وقتها وما لا يقضى منها" إن شاء الله
تعالى: -. ولو شرع في الصلاة قاعدا وهو مريض
ثم صح وقدر على القيام فإن كان شروعه بركوع
وسجود بني في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
استحسانا، وعند محمد يستقبل قياسا، بناء على
أن عند محمد القائم لا يقتدي بالقاعد فكذا لا
يبني أول صلاته على آخرها في حق نفسه، وعندهما
يجوز الاقتداء فيجوز البناء، والمسألة تأتي في
موضعها وإن كان شروعه بالإيماء يستقبل عند
علمائنا الثلاثة، وعند زفر يبني; لأن من أصله
أنه يجوز اقتداء الراكع الساجد بالمومئ، فيجوز
البناء، وعندنا لا يجوز الاقتداء فلا يجوز
البناء على ما يذكر. "وأما" الصحيح إذا شرع في
الصلاة ثم عرض له مرض بنى على صلاته على حسب
إمكانه قاعدا أو مستلقيا في ظاهر الرواية.
وروي عن أبي حنيفة أنه إذا صار إلى الإيماء
يستقبل; لأنهما فرضان مختلفان فعلا فلا يجوز
أداؤهما بتحريمة واحدة كالظهر مع العصر،
والصحيح ظاهر الرواية; لأن بناء آخر الصلاة
على أول الصلاة بمنزلة بناء صلاة المقتدي على
صلاة الإمام، وثمة يجوز اقتداء المومئ بالصحيح
لما يذكر فيجوز البناء ههنا; ولأنه لو بنى
لصار مؤديا بعض الصلاة كاملا وبعضها ناقصا،
ولو استقبل لأدى الكل ناقصا، ولا شك أن الأول
أولى. ولو رفع إلى وجه المريض وسادة أو شيء
فسجد عليه من غير أن يومئ لم يجز; لأن الفرض
في حقه الإيماء ولم يوجد، ويكره أن يفعل هذا
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على
مريض يعوده فوجده يصلي كذلك فقال: "إن قدرت أن
تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأوم برأسك. وروي
أن عبد الله بن مسعود دخل على أخيه يعوده
فوجده يصلي ويرفع إليه عود فيسجد عليه، فنزع
ذلك من يد من كان في يده" وقال: "هذا شيء عرض
لكم الشيطان، أوم لسجودك". وروي أن ابن عمر
رأى ذلك من مريض فقال: "أتتخذون مع الله آلهة
أخرى" ؟، فإن فعل ذلك ينظر: إن كان يخفض رأسه
للركوع شيئا ثم للسجود ثم يلزق بجبينه يجوز
لوجود الإيماء لا للسجود على ذلك الشيء، فإن
كانت الوسادة موضوعة على الأرض وكان يسجد
عليها جازت صلاته لما روي أن أم سلمة كانت
تسجد على مرفقة موضوعة بين يديها لرمد بها،
ولم يمنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك الصحيح إذا كان على الراحلة وهو خارج
المصر وبه عذر مانع من النزول عن الدابة، من
خوف العدو أو السبع، أو كان في طين أو ردغة
يصلي الفرض على الدابة قاعدا بالإيماء من غير
ركوع وسجود; لأن عند اعتراض هذه الأعذار عجز
عن تحصيل هذه الأركان من القيام والركوع
والسجود، فصار كما لو عجز بسبب المرض، ويومئ
إيماء، لما روي في حديث جابر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئ على راحلته
ويجعل السجود أخفض من الركوع لما ذكرنا، ولا
تجوز الصلاة على الدابة بجماعة سواء تقدمهم
الإمام أو توسطهم في ظاهر الرواية. وروي عن
محمد أنه قال: "أستحسن أن يجوز اقتداؤهم
بالإمام إذا كانت دوابهم بالقرب من دابة
الإمام على وجه لا يكون بينهم وبين الإمام
فرجة إلا بقدر الصف بالقياس على الصلاة على
الأرض"، والصحيح جواب ظاهر الرواية; لأن اتحاد
المكان من شرائط صحة الاقتداء ليثبت اتحاد
الصلاتين تقديرا بواسطة اتحاد المكان، وهذا
ممكن على الأرض; لأن المسجد جعل كمكان واحد
شرعا، وكذا في الصحراء تجعل الفرج التي بين
ج / 1 ص -109-
الصفوف
مكان الصلاة؛ لأنها تشغل بالركوع والسجود أيضا
فصار المكان متحدا، ولا يمكن على الدابة لأنهم
يصلون عليها بالإيماء من غير ركوع وسجود، فلم
تكن الفرج التي بين الصفوف والدواب مكان
الصلاة فلا يثبت اتحاد المكان تقديرا، ففات
شرط صحة الاقتداء فلم يصح، ولكن تجوز صلاة
الإمام لأنه منفرد حتى لو كانا على دابة واحدة
في محمل واحد أو في شقي محمل واحد، كل واحد
منهما في شق على حدة، فاقتدى أحدهما بالآخر
جاز لاتحاد المكان وتجوز الصلاة على أي دابة
كانت، سواء كانت مأكولة اللحم أو غير مأكولة
اللحم، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى على حماره وبعيره. ولو كان على سرجه
قذر جازت صلاته، كذا ذكر في الأصل، وعن أبي
حفص البخاري ومحمد بن مقاتل الرازي أنه إذا
كانت النجاسة في موضع الجلوس أو في موضع
الركابين أكثر من قدر الدرهم لا تجوز اعتبارا
بالصلاة على الأرض وأولا العذر المذكور في
الأصل بالعرف، وعند عامة مشايخنا تجوز كما
ذكرنا في الأصل لتعليل محمد، وهو قوله:
"والدابة أشد من ذلك"، وهو يحتمل معنيين:
أحدهما أن ما في بطنها من النجاسات أكثر من
هذا، ثم إذا لم يمنع الجواز فهذا أولى والثاني
أنه لما سقط اعتبار الأركان الأصلية بالصلاة
عليها من القيام والركوع والسجود مع أن
الأركان أقوى من الشرائط فلأن يسقط شرط طهارة
المكان أولى; ولأن طهارة المكان إنما تشترط
لأداء الأركان عليه وهو لا يؤدي على موضع سرجه
وركابيه ههنا ركنا ليشترط طهارتها; إنما الذي
يوجد منه الإيماء، وهو إشارة في الهواء فلا
يشترط له طهارة موضع السرج والركابين، وتجوز
الصلاة على الدابة لخوف العدو كيفما كانت
الدابة واقفة أو سائرة; لأنه يحتاج إلى السير،
فأما لعذر الطين والردغة فلا يجوز إذا كانت
الدابة سائرة; لأن السير مناف للصلاة في الأصل
فلا يسقط اعتباره إلا لضرورة، ولم توجد ولو
استطاع النزول ولم يقدر على القعود للطين
والردغة ينزل ويومئ قائما على الأرض، وإن قدر
على القعود ولم يقدر على السجود ينزل ويصلي
قاعدا بالإيماء; لأن السقوط بقدر الضرورة
والله الموفق.
وعلى هذا يخرج الصلاة في السفينة إذا صلى فيها
قاعدا بركوع وسجود أن يجوز إذا كان عاجزا عن
القيام والسفينة جارية، ولو قام يدور رأسه،
وجملة الكلام في الصلاة في السفينة أن السفينة
لا تخلو أما إن كانت واقفة أو سائرة، فإن كانت
واقفة في الماء أو كانت مستقرة على الأرض جازت
الصلاة فيها وإن أمكنه الخروج منها; لأنها إذا
استقرت كان حكمها حكم الأرض، ولا تجوز إلا
قائما بركوع وسجود متوجها إلى القبلة؛ لأنه
قادر على تحصيل الأركان والشرائط. وإن كانت
مربوطة غير مستقرة على الأرض فإن أمكنه الخروج
منها لا تجوز الصلاة فيها قاعدا; لأنها إذا لم
تكن مستقرة على الأرض فهي بمنزلة الدابة، ولا
يجوز أداء الفرض على الدابة مع إمكان النزول
كذا هذا وإن كانت سائرة فإن أمكنه الخروج إلى
الشط يستحب له الخروج إليه; لأنه يخاف دوران
الرأس في السفينة فيحتاج إلى القعود، وهو آمن
عن الدوران في الشط، فإن لم يخرج وصلى فيها
قائما بركوع وسجود أجزأه لما روي عن ابن سيرين
أنه قال: صلى بنا أنس رضي الله عنه في السفينة
قعودا، ولو شئنا لخرجنا إلى الحد؛ ولأن
السفينة بمنزلة الأرض; لأن سيرها غير مضاف
إليه فلا يكون منافيا للصلاة، بخلاف الدابة
فإن سيرها مضاف إليه، وإذا دارت السفينة وهو
يصلي يتوجه إلى القبلة حيث دارت; لأنه قادر
على تحصيل هذا الشرط من غير تعذر، فيجب عليه
تحصيله، بخلاف الدابة فإن هناك لا إمكان وأما
إذا صلى فيها قاعدا بركوع وسجود فإن كان عاجزا
عن القيام بأن كان يعلم أنه يدور رأسه لو قام
وعن الخروج إلى الشط أيضا يجزئه بالاتفاق; لأن
أركان الصلاة تسقط بعذر العجز، وإن كان قادرا
على القعود بركوع وسجود فصلى بالإيماء لا
يجزئه بالاتفاق; لأنه لا عذر وأما إذا كان
قادرا على القيام أو على الخروج إلى الشط فصلى
قاعدا بركوع وسجود أجزأه في قول أبي حنيفة وقد
أساء -، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجزئه.
"واحتجا" بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تستطع فقاعدا"، وهذا مستطيع للقيام، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحبشة
أمره أن يصلي في السفينة قائما إلا أن يخاف
الغرق، ولأن القيام ركن في الصلاة فلا يسقط
إلا بعذر ولم يوجد. "ولأبي" حنيفة ما روينا من
حديث أنس رضي الله عنه وذكر الحسن بن زياد في
كتابه بإسناده عن سويد بن غفلة أنه قال: سألت
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عن الصلاة في
ج / 1 ص -110-
السفينة فقالا: إن كانت جارية يصلي قاعدا، وإن
كانت راسية يصلي قائما من غير فصل بين ما إذا
قدر على القيام أو لا؛ ولأن سير السفينة سبب
لدوران الرأس غالبا، والسبب يقوم مقام المسبب
إذا كان في الوقوف على المسبب حرج، أو كان
المسبب بحال يكون عدمه مع وجود السبب في غاية
الندرة، فألحقوا النادر بالعدم، ولهذا أقام
أبو حنيفة المباشرة الفاحشة مقام خروج المذي،
لما أن عدم الخروج عند ذلك نادر ولا عبرة
بالنادر، وههنا عدم دوران الرأس في غاية
الندرة فسقط اعتباره وصار كالراكب على الدابة
وهي تسير أنه يسقط القيام لتعذر القيام عليها
غالبا، كذا هذا، والحديث محمول على الندب دون
الوجوب، فإن صلوا في السفينة بجماعة جازت
صلاتهم، ولو اقتدى به رجل في سفينة أخرى فإن
كانت السفينتان مقرونتين جاز لأنهما بالاقتران
صارتا كشيء واحد، ولو كانا في سفينة واحدة جاز
كذا هذا، وإن كانتا منفصلتين لم يجز لأن تخلل
ما بينهما بمنزلة النهر وذلك يمنع صحة
الاقتداء، وإن كان الإمام في سفينة والمقتدون
على الحد والسفينة واقفة فإن كان بينه وبينهم
طريق أو مقدار نهر عظيم لم يصح اقتداؤهم به
لأن الطريق ومثل هذا النهر يمنعان صحة
الاقتداء لما بينا في موضعه، ومن وقف على سطح
السفينة يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه
إلا أن يكون أمام الإمام؛ لأن السفينة كالبيت،
واقتداء الواقف على السطح بمن هو في البيت
صحيح إذا لم يكن أمام الإمام، ولا يخفى عليه
حاله كذا ههنا.
ومنها" القراءة عند عامة العلماء لوجود حد
الركن وعلامته وهما ما بينا، وقال الله تعالى:
-:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، والمراد منه في حال الصلاة، والكلام في القراءة في الأصل يقع في
ثلاث مواضع: أحدها في بيان فرضية أصل القراءة
والثاني في بيان محل القراءة المفروضة والثالث
في بيان قدر القراءة. "وأما" الأول فالقراءة
فرض في الصلاة عند عامة العلماء، وعند أبي بكر
الأصم وسفيان بن عيينة ليست بفرض بناء على أن
الصلاة عندهما اسم للأفعال لا للأذكار، حتى
قالا: "يصح الشروع في الصلاة من غير تكبير"،
"وجه" قولهما أن قوله تعالى:
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ثم قال: "صلوا كما
رأيتموني أصلي"، والمرئي هو الأفعال دون
الأقوال; فكانت الصلاة اسما للأفعال، ولهذا
تسقط عن العاجز عن الأفعال وإن كان قادرا على
الأذكار، ولو كان على القلب لا يسقط وهو
الأخرس. "ولنا" قوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، ومطلق الأمر للوجوب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا
بقراءة". وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"صلوا كما رأيتموني أصلي"
فالرؤية أضيفت إلى ذاته لا إلى الصلاة، فلا يقتضي كون الصلاة مرئية،
وفي كون الأعراض مرئية اختلاف بين أهل الكلام
مع اتفاقهم على أنها جائزة الرؤية. والمذهب
عند أهل الحق أن كل موجود جائز الرؤية، يعرف
ذلك في مسائل الكلام، على أنا نجمع بين
الدلائل فنثبت فرضية الأقوال بما ذكرنا،
وفرضية الأفعال بهذا الحديث، وسقوط الصلاة عن
العاجز عن الأفعال لكون الأفعال أكثر من
الأقوال، فمن عجز عنها فقد عجز عن الأكثر،
وللأكثر حكم الكل، وكذا القراءة فرض في
الصلوات كلها عند عامة العلماء وعامة الصحابة.
رضي الله عنهم وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه
قال: "لا قراءة في الظهر والعصر لظاهر قول
النبي صلى الله عليه وسلم صلاة النهار عجماء
أي ليس فيها قراءة، إذ الأعجم اسم لمن لا
ينطق". "ولنا" ما تلونا من الكتاب وروينا من
السنة، وفي الباب نص خاص وهو ما روي عن جابر
بن عبد الله رضي الله عنه وأبي قتادة
الأنصاريين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين
الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين
بفاتحة الكتاب لا غير وما روي عن ابن عباس رضي
الله عنه فقد صح رجوعه عنه، فإنه روي أن رجلا
سأله وقال: أقرأ خلف إمامي؟ فقال: "أما في
صلاة الظهر والعصر فنعم وأما الحديث فقد قال
الحسن البصري: "معناه لا تسمع فيها قراءة"
ونحن نقول به، وهذا إذا كان إماما أو منفردا،
فأما المقتدي فلا قراءة عليه عندنا، وعند
الشافعي يقرأ بفاتحة الكتاب في كل صلاة يخافت
فيها بالقراءة قولا واحدا، وله في الصلاة التي
يجهر فيها بالقراءة قولان، "واحتج" بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة
إلا بقراءة"، ولا شك أن لكل واحد صلاة على
حدة؛ ولأن القراءة ركن في الصلاة فلا تسقط
بالاقتداء كسائر الأركان
ج / 1 ص -111-
ولنا"
قوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
أمر بالاستماع والإنصات، والاستماع وإن لم يكن
ممكنا عند المخافتة بالقراءة فالإنصات ممكن
فيجب بظاهر النص، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه
أنه لما نزلت هذه الآية تركوا القراءة خلف
الإمام، وإمامهم كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم فالظاهر أنه كان بأمره وقال صلى الله
عليه وسلم في حديث مشهور:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا
قرأ فأنصتوا"
الحديث أمر بالسكوت عند قراءة الإمام. وأما
الحديث فعندنا "لا صلاة بدون قراءة" أصلا،
وصلاة المقتدي ليست بصلاة بدون قراءة أصلا، بل
هي صلاة بقراءة وهي قراءة الإمام على أن قراءة
الإمام قراءة للمقتدي، قال النبي صلى الله
عليه وسلم "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، ثم المفروض هو أصل القراءة عندنا من غير تعيين، فأما قراءة
الفاتحة والسورة عينا في الأوليين فليست
بفريضة ولكنها واجبة على ما يذكر في بيان
واجبات الصلاة "وأما" بيان محل القراءة
المفروضة فمحلها الركعتان الأوليان عينا في
الصلاة الرباعية هو الصحيح من مذهب أصحابنا.
وقال بعضهم: "ركعتان منها غير عين" وإليه ذهب
القدوري وأشار في الأصل إلى القول الأول، فإنه
قال: إذا ترك القراءة في الأوليين يقضيها في
الأخريين، فقد جعل القراءة في الأخريين قضاء
عن الأوليين فدل أن محلها الأوليان عينا. وقال
الحسن البصري: "المفروض هو القراءة في ركعة
واحدة"، وقال مالك: "في ثلاث ركعات". وقال
الشافعي: "في كل ركعة" احتج الحسن بقوله
تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار فإذا قرأ في ركعة واحدة فقد امتثل
أمر الشرع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة إلا بقراءة"، أثبت الصلاة بقراءة وقد
وجدت القراءة في ركعة فثبتت الصلاة ضرورة،
وبهذا يحتج الشافعي إلا أنه يقول: "اسم الصلاة
ينطلق على كل ركعة فلا تجوز كل ركعة إلا
بقراءة" لقوله صلى الله عليه وسلم
"لا صلاة إلا بقراءة"; ولأن
القراءة في كل ركعة فرض في النفل ففي الفرض
أولى; لأنه أقوى; ولأن القراءة ركن من أركان
الصلاة، ثم سائر الأركان من القيام والركوع
والسجود فرض في كل ركعة فكذا القراءة، وبهذا
يحتج مالك إلا أنه يقول: القراءة في الأكثر
أقيمت مقام القراءة في الكل تيسيرا. "ولنا"
إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإن عمر رضي
الله عنه ترك القراءة في المغرب في إحدى
الأوليين فقضاها في الركعة الأخيرة وجهر
وعثمان رضي الله عنه ترك القراءة في الأوليين
من صلاة العشاء فقضاها في الأخريين وجهر، وعلي
وابن مسعود رضي الله عنهما كانا يقولان:
المصلي بالخيار في الأخريين، إن شاء قرأ وإن
شاء سكت وإن شاء سبح، وسأل رجل عائشة رضي الله
عنها عن قراءة الفاتحة في الأخريين فقالت:
"ليكن على وجه الثناء ولم يرو عن غيرهم" خلاف
ذلك، فيكون ذلك إجماعا; ولأن القراءة في
الأخريين ذكر يخافت بها على كل حال فلا تكون
فرضا، كثناء الافتتاح، وهذا لأن مبنى الأركان
على الشهرة والظهور، ولو كانت القراءة في
الأخريين فرضا لما خالفت الأخريان الأوليين في
الصفة كسائر الأركان وأما الآية فنحن ما عرفنا
فرضية القراءة في الركعة الثانية بهذه الآية
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرناه،
والثاني أنا ما عرفنا فرضيتها بنص الأمر بل
بدلالة النص; لأن الركعة الثانية تكرار
للأولى، والتكرار في الأفعال إعادة مثل الأول،
فيقتضي إعادة القراءة، بخلاف الشفع الثاني;
لأنه ليس بتكرار الشفع الأول بل هو زيادة
عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: الصلاة في
الأصل ركعتان، زيدت في الحضر وأقرت في السفر،
والزيادة على الشيء لا يقتضي أن يكون مثله،
ولهذا اختلف الشفعان في وصف القراءة من حيث
الجهر والإخفاء، وفي قدرها وهو قراءة السورة،
فلم يصح الاستدلال، على أن في الكتاب والسنة
بيان فرضية القراءة وليس فيهما بيان قدر
القراءة المفروضة. وقد خرج فعل الصحابة رضي
الله عنهم على مقدار فيجعل بيانا لمجمل الكتاب
والسنة بخلاف التطوع; لأن كل شفع من التطوع
صلاة على حدة، حتى أن فساد الشفع الثاني لا
يوجب فساد الشفع الأول بخلاف الفرض والله أعلم
وأما في الأخريين فالأفضل أن يقرأ فيهما
بفاتحة الكتاب، ولو سبح في كل ركعة ثلاث
تسبيحات مكان فاتحة الكتاب أو سكت أجزأته
صلاته، ولا يكون مسيئا إن كان عامدا، ولا سهو
عليه إن كان ساهيا، كذا روى أبو يوسف عن أبي
حنيفة أنه مخير بين
ج / 1 ص -112-
قراءة الفاتحة والتسبيح والسكوت، وهذا جواب
ظاهر الرواية، وهو قول أبي يوسف ومحمد الحسن
عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه إن ترك
الفاتحة عامدا كان مسيئا، وإن كان ساهيا فعليه
سجدتا السهو، والصحيح جواب ظاهر الرواية لما
روينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما
كانا يقولان: إن المصلي بالخيار في الأخريين،
إن شاء قرأ وإن شاء سكت وإن شاء سبح وهذا باب
لا يدرك بالقياس فالمروي عنهما كالمروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما" بيان قدر القراءة فالكلام فيه يقع في
ثلاثة مواضع: أحدها في بيان القدر المفروض
الذي يتعلق به أصل الجواز والثاني في بيان
القدر الذي يخرج به عن حد الكراهة والثالث في
بيان القدر المستحب "أما" الكلام فيما يستحب
من القراءة وفيما يكره فنذكره في موضعه، وههنا
نذكر القدر الذي يتعلق به أصل الجواز، وعن أبي
حنيفة فيه ثلاث روايات: في ظاهر الرواية قدر
أدنى المفروض بالآية التامة، طويلة كانت أو
قصيرة، كقوله تعالى:
{مُدْهَامَّتَانِ}. وقوله
{ثُمَّ نَظَرَ}، وقوله
{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}
رواية الفرض غير مقدر بل هو على أدنى ما
يتناوله الاسم، سواء كانت آية أو ما دونها بعد
أن قرأها على قصد القراءة. وفي رواية قدر
الفرض بآية طويلة كآية الكرسي، وآية الدين، أو
ثلاث آيات قصار، وبه أخذ أبو يوسف ومحمد،
وأصله قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فهما يعتبران العرف، ويقولان: مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف،
وأدنى ما يسمى المرء به قارئا في العرف أن
يقرأ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار وأبو حنيفة
يحتج بالآية من وجهين: أحدهما أنه أمر بمطلق
القراءة، وقراءة آية قصيرة قراءة والثاني أنه
أمر بقراءة ما تيسر من القرآن وعسى لا يتيسر
إلا هذا القدر. وما قاله أبو حنيفة أقيس; لأن
القراءة مأخوذة من القرآن أي الجمع، سمي بذلك
لأنه يجمع السور فيضم بعضها إلى بعض، ويقال
قرأت الشيء قرآنا أي جمعته، فكل شيء جمعته فقد
قرأته. وقد حصل معنى الجمع بهذا القدر لاجتماع
حروف الكلمة عند التكلم، وكذا العرف ثابت، فإن
الآية التامة أدنى ما ينطلق عليه اسم القرآن
في العرف. فأما ما دون الآية فقد يقرأ لا على
سبيل القرآن فيقال: بسم الله، أو الحمد لله،
أو سبحان الله، فلذلك قدرنا بالآية التامة على
أنه لا عبرة لتسميته قارئا في العرف؛ لأن هذا
أمر بينه وبين الله تعالى: فلا يعتبر فيه عرف
الناس وقد قرر القدوري الرواية الأخرى وهي أن
المفروض غير مقدر. وقال: المفروض مطلق القراءة
من غير تقدير، ولهذا يحرم ما دون الآية على
الجنب والحائض، إلا أنه قد يقرأ لا على قصد
القرآن وذا لا يمنع الجواز، فإن الآية التامة
قد تقرأ لا على قصد القرآن في الجملة، ألا ترى
أن التسمية قد تذكر لافتتاح الأعمال لا لقصد
القرآن، وهي آية تامة ؟ وكلامنا فيما إذا قرأ
على قصد القرآن فيجب أن يتعلق به الجواز ولا
يعتبر فيه العرف لما بينا، ثم الجواز كما يثبت
بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بالفارسية
عند أبي حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا
يحسن، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن لا
يجوز، وإن كان لا يحسن يجوز، وقال الشافعي:
"لا يجوز أحسن أو لم يحسن، وإذا لم يحسن
العربية يسبح ويهلل عنده ولا يقرأ بالفارسية،
وأصله" قوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، أمر بقراءة القرآن في الصلاة، فهم قالوا: إن القرآن هو المنزل
بلغة العرب، قال الله تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}، فلا يكون الفارسي قرآنا فلا يخرج به عن عهدة الأمر، ولأن القرآن
معجز، والإعجاز من حيث اللفظ يزول بزوال النظم
العربي فلا يكون الفارسي قرآنا لانعدام
الإعجاز، ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب
والحائض، إلا أنه إذا لم يحسن العربية فقد عجز
عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه ليكون
التكليف بحسب الإمكان، وعند الشافعي هذا ليس
بقرآن فلا يؤمر بقراءته، وأبو حنيفة يقول: إن
الواجب في الصلاة قراءة القرآن من حيث هو لفظ
دال على كلام الله تعالى: الذي هو صفة قائمة
به لما يتضمن من العبر والمواعظ والترغيب
والترهيب والثناء والتعظيم، لا من حيث هو لفظ
عربي، ومعنى الدلالة عليه لا يختلف بين لفظ
ولفظ، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}. وقال:
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، ومعلوم أنه ما كان في كتبهم بهذا اللفظ بل بهذا المعنى. "وأما"
قولهم: إن القرآن هو المنزل بلغة العرب
"فالجواب" عنه من وجهين: أحدهما: أن كون
العربية قرآنا لا ينفي
ج / 1 ص -113-
أن
يكون غيرها قرآنا، وليس في الآية نفيه، وهذا
لأن العربية سميت قرآنا لكونها دليلا على ما
هو القرآن، وهي الصفة التي هي حقيقة الكلام،
ولهذا قلنا: إن القرآن غير مخلوق على إرادة
تلك الصفة دون العبارات العربية، ومعنى
الدلالة يوجد في الفارسية فجاز تسميتها قرآنا،
دل عليه قوله تعالى:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أخبر أنه لو عبر عنه بلسان العجم كان قرآنا والثاني: إن كان لا
يسمى غير العربية قرآنا لكن قراءة العربية ما
وجبت لأنها تسمى قرآنا بل لكونها دليلا على ما
هو القرآن الذي هو صفة قائمة بالله، بدليل أنه
لو قرأ عربية لا يتأدى بها كلام الله تفسد
صلاته، فضلا من أن تكون قرآنا واجبا، ومعنى
الدلالة لا يختلف فلا يختلف الحكم المتعلق به،
والدليل على أن عندهما تفترض القراءة
بالفارسية على غير القادر على العربية،
وعذرهما غير مستقيم; لأن الوجوب متعلق بالقرآن
وإنه قرآن عندهما باعتبار اللفظ دون المعنى،
فإذا زال اللفظ لم يكن المعنى قرآنا فلا معنى
للإيجاب، ومع ذلك وجب، فدل أن الصحيح ما ذهب
إليه أبو حنيفة; ولأن غير العربية إذا لم يكن
قرآنا لم يكن من كلام الله تعالى: فصار من
كلام الناس وهو يفسد الصلاة، والقول بتعلق
الوجوب بما هو مفسد غير سديد. "وأما" قولهم:
إن الإعجاز من حيث اللفظ لا يحصل بالفارسية
فنعم لكن قراءة ما هو معجز النظم عنده ليس
بشرط; لأن التكليف ورد بمطلق القراءة لا
بقراءة ما هو معجز، ولهذا جوز قراءة آية قصيرة
وإن لم تكن هي معجزة ما لم تبلغ ثلاث آيات،
وفصل الجنب والحائض ممنوع. ولو قرأ شيئا من
التوراة أو الإنجيل أو الزبور في الصلاة إن
تيقن أنه غير محرف يجوز عند أبي حنيفة لما
قلنا، وإن لم يتيقن لا يجوز؛ لأن الله تعالى:
أخبر عن تحريفهم بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}، فيحتمل أن المقروء محرف فيكون من كلام الناس، فلا يحكم بالجواز
بالشك والاحتمال، وعلى هذا الخلاف إذا تشهد أو
خطب يوم الجمعة بالفارسية. ولو أمن بالفارسية،
أو سمى عند الذبح بالفارسية، أو لبى عند
الإحرام بالفارسية، أو بأي لسان كان يجوز
بالإجماع ولو أذن بالفارسية قيل: إنه على هذا
الخلاف، وقيل: لا يجوز بالاتفاق؛ لأنه لا يقع
به الإعلام، حتى لو وقع به الإعلام يجوز والله
أعلم.
ومنها" القعدة الأخيرة مقدار التشهد عند عامة
العلماء وقال مالك: إنها سنة. "وجه" قوله أن
اسم الصلاة لا يتوقف عليها، ألا ترى أن من حلف
لا يصلي فقام وقرأ وركع وسجد يحنث وإن لم يقعد
؟. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة: "إذا
رفعت رأسك من آخر السجدة وقعدت قدر التشهد فقد
تمت صلاتك"، علق تمام الصلاة بالقعدة الأخيرة
وأراد به تمام الفرائض إذ لم يتم أصل العبادة
بعد فدل أنه لا تمام قبلها إذ المعلق بالشرط
عدم قبل وجود الشرط. وروي أن النبي صلى الله
عليه وسلم قام إلى الخامسة فسبح به فرجع، ولو
لم يكن فرضا لما رجع كما في القعدة الأولى،
ولأن حد الركن موجود فيها وهو ما ذكرنا، وإنما
لم يتوقف عليها اسم الصلاة لأنها ليست من
الأركان الأصلية التي تتركب منها الصلاة على
ما ذكرنا في الكتاب، لا لأنها ليست من فرائض
الصلاة، ثم القدر المفروض من القعدة الأخيرة
هو قدر التشهد، حتى لو انصرف قبل أن يجلس هذا
القدر فسدت صلاته، لما روي عن عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد قدر التشهد ثم أحدث فقد
تمت صلاته"، علق
تمام الصلاة بالقعدة قدر التشهد فدل أنه مقدر
به والله أعلم. "ومنها" الانتقال من ركن إلى
ركن; لأنه وسيلة إلى الركن فكان في معنى الركن
فهذه الستة أركان الصلاة، إلا أن الأربعة
الأول من الأركان الأصلية دون الباقيتين. وقال
بعضهم: "القعدة من الأركان الأصلية" أيضا،
وإليه مال عصام بن يوسف، ووجهه أنها فرض تنعدم
الصلاة بانعدامها كسائر الأركان، والصحيح أنها
ليست بركن أصلي; لأن اسم الصلاة ينطلق على
المتركب من الأركان الأربعة بدون القعود،
ولهذا يتوجه النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس
ووقت غروبها ووقت الزوال، ولهذا لو حلف لا
يصلي فقيد الركعة بالسجدة يحنث وإن لم توجد
القعدة، ولو أتى بما دون الركعة لا يحنث، ولأن
القعدة بنفسها غير صالحة للخدمة؛ لأنها من باب
الاستراحة بخلاف سائر الأركان فتمكن الخلل في
كونها ركنا أصليا، فلم تكن هي من الأركان
الأصلية للصلاة وإن كانت من فروضها حتى لا
تجوز الصلاة
ج / 1 ص -114-
بدونها، ويشترط لها ما يشترط لسائر الأركان
فأما التحريمة فليست بركن عند المحققين من
أصحابنا بل هي شرط، وعند الشافعي ركن، وهو قول
بعض مشايخنا وإليه مال عصام بن يوسف، وعلى هذا
الخلاف الإحرام في باب الحج أنه شرط عندنا،
وعنده ركن، وثمرة الخلاف أن عندنا يجوز بناء
النفل على الفرض بأن يحرم للفرض ويفرغ منه
ويشرع في النفل قبل التسليم من غير تحريمة
جديدة، وعنده لا يجوز ووجه البناء على هذا
الأصل أن التحريمة لما كانت شرطا جاز أن يتأدى
النفل بتحريمة الفرض كما يتأدى بطهارة وقعت
للفرض وعنده لما كانت ركنا وقد انقضى الفرض
بأركانه فتنقضي التحريمة أيضا. "وجه" قول
الشافعي أن حد الركن موجود فيها وهو ما ذكرنا،
وكذا وجدت علامة الأركان فيها; لأنها لا تدوم
بل تنقضي، والدليل عليه أنه يشترط لصحتها ما
يشترط لسائر الأركان بخلاف الشروط. "ولنا"
قوله تعالى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} عطف الصلاة على الذكر الذي هو التحريمة بحرف التعقيب، والاستدلال
بالآية من وجهين: أحدهما أن مقتضى العطف بحرف
التعقيب أن توجد الصلاة عقيب ذكر اسم الله
تعالى: -، ولو كانت التحريمة ركنا لكانت
الصلاة موجودة عند الذكر لاستحالة انعدام
الشيء في حال وجود ركنه، وهذا خلاف النص
والثاني أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف
والمعطوف عليه، ولو كانت التحريمة ركنا لا
يتحقق المغايرة; لأنها تكون بعض الصلاة، وبعض
الشيء ليس غيره إن لم يكن عينه، وكذا الموجود
فيها حد الشرط لا حد الركن، فإنه يعتبر الصلاة
بها، ولا ينطلق اسم الصلاة عليها مع سائر
الشرائط فكانت شرطا، وكذا علامة الشروط فيها
موجودة، فإنها باقية ببقاء حكمها وهو وجوب
الانزجار عن محظورات الصلاة، على أن العلامة
إذا خالفت الحد لا يبطل به الحد، بل يظهر أن
العلامة كاذبة وأما قوله يشترط لها ما يشترط
لسائر الأركان فممنوع أنه يشترط ذلك لها بل،
للقيام المتصل بها، والقيام ركن، حتى أن
الإحرام بالحج لما لم يكن متصلا بالركن جوزنا
تقديمه على الوقت.
فصل": وأما شرائط الأركان فجملة الكلام في الشرائط أنها نوعان: نوع يعم
المنفرد والمقتدي جميعا، وهو شرائط أركان
الصلاة ونوع يخص المقتدي، وهو شرائط جواز
الاقتداء بالإمام في صلاته. "أما" شرائط أركان
الصلاة: "فمنها" الطهارة بنوعيها من الحقيقية
والحكمية، والطهارة الحقيقية هي طهارة الثوب
والبدن ومكان الصلاة عن النجاسة الحقيقية،
والطهارة الحكمية هي طهارة أعضاء الوضوء عن
الحدث، وطهارة جميع الأعضاء الظاهرة عن
الجنابة. "أما" طهارة الثوب وطهارة البدن عن
النجاسة الحقيقية فلقوله تعالى:
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، وإذا وجب تطهير الثوب فتطهير البدن أولى. "وأما" الطهارة عن الحدث
والجنابة فلقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
إلى قوله:
{لِيُطَهِّرَكُمْ}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة إلا بطهور"، وقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة إلا بطهارة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور". وقوله تعالى:
{وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"تحت كل
شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة"،
والإنقاء هو التطهير، فدلت النصوص على أن
الطهارة الحقيقية عن الثوب والبدن، والحكمية
شرط جواز الصلاة، والمعقول كذا يقتضي من وجوه:
أحدها أن الصلاة خدمة الرب وتعظيمه جل جلاله
وعم نواله -، وخدمة الرب وتعظيمه بكل الممكن
فرض، ومعلوم أن القيام بين يدي الله تعالى:
ببدن طاهر وثوب طاهر على مكان طاهر يكون أبلغ
في التعظيم وأكمل في الخدمة من القيام ببدن
نجس وثوب نجس وعلى مكان نجس، كما في خدمة
المملوك في الشاهد، وكذلك الحدث والجنابة، وإن
لم تكن نجاسة مرئية فهي نجاسة معنوية توجب
استقذار ما حل به ألا ترى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما أراد أن يصافح حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه امتنع وقال: إني جنب يا
رسول الله، فكان قيامه مخلا بالتعظيم ؟ على
أنه إن لم يكن على أعضاء الوضوء نجاسة رأسا
فإنها لا تخلو عن الدرن والوسخ; لأنها أعضاء
بادية عادة فيتصل بها الدرن والوسخ، فيجب
غسلها تطهيرا لها من الوسخ، والدرن فتتحقق
الزينة والنظافة، فيكون أقرب إلى التعظيم
وأكمل في الخدمة، فمن أراد أن يقوم بين يدي
الملوك للخدمة في الشاهد أنه يتكلف للتنظيف
والتزيين، ويلبس أحسن ثيابه تعظيما للملك.
ولهذا كان الأفضل للرجل أن يصلي في أحسن ثيابه
وأنظفها التي أعدها لزيارة العظماء,
ج / 1 ص -115-
ولمحافل الناس، وكانت الصلاة متعمما أفضل من
الصلاة مكشوف الرأس، لما أن ذلك أبلغ في
الاحترام والثاني أنه أمر بغسل هذه الأعضاء
الظاهرة من الحدث والجنابة تذكيرا لتطهير
الباطن من الغش والحسد والكبر وسوء الظن
بالمسلمين ونحو ذلك من أسباب المآثم، فأمر لا
لإزالة الحدث تطهيرا; لأن قيام الحدث لا ينافي
العبادة والخدمة في الجملة ألا ترى أنه يجوز
أداء الصوم والزكاة مع قيام الحدث والجنابة ؟
وأقرب من ذلك الإيمان بالله تعالى: الذي هو
رأس العبادات، وهذا لأن الحدث ليس بمعصية ولا
سبب مأثم، وما ذكرنا من المعاني التي في باطنه
أسباب المآثم، فأمر بغسل هذه الأعضاء الظاهرة
دلالة وتنبيها على تطهير الباطن من هذه
الأمور، وتطهير النفس عنها واجب بالسمع والعقل
والثالث أنه وجب غسل هذه الأعضاء شكرا لنعمة
وراء النعمة التي وجبت لها الصلاة، وهي أن هذه
الأعضاء وسائل إلى استيفاء نعم عظيمة، بل بها
تنال جل نعم الله تعالى: فاليد بها يتناول
ويقبض ما يحتاج إليه، والرجل يمشي بها إلى
مقاصده، والوجه والرأس محل الحواس ومجمعها
التي بها يعرف عظم نعم الله تعالى: من العين
والأنف والفم والأذن، التي بها البصر والشم
والذوق والسمع، التي بها يكون التلذذ والتشهي
والوصول إلى جميع النعم، فأمر بغسل هذه
الأعضاء شكرا لما يتوسل بها إلى هذه النعم
والرابع أمر بغسل هذه الأعضاء تكفيرا لما
ارتكب بهذه الأعضاء من الإجرام، إذ بها يرتكب
جل المآثم من أخذ الحرام، والمشي إلى الحرام،
والنظر إلى الحرام، وأكل الحرام، وسماع الحرام
من اللغو والكذب، فأمر بغسلها تكفيرا لهذه
الذنوب. وقد وردت الأخبار بكون الوضوء تكفيرا
للمآثم فكانت مؤيدة لما قلنا.
وأما" طهارة مكان الصلاة فلقوله تعالى:
{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ}.
وقال في موضع:
{وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، ولما
ذكرنا أن الصلاة خدمة الرب تعالى: وتعظيمه،
وخدمة المعبود المستحق للعبادة وتعظيمه بكل
الممكن فرض، وأداء الصلاة على مكان طاهر أقرب
إلى التعظيم، فكان طهارة مكان الصلاة شرطا،
وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه "نهى عن الصلاة في المزبلة،
والمجزرة، ومعاطن الإبل، وقوارع الطريق،
والحمام، والمقبرة، وفوق ظهر بيت الله تعالى:
–" أما معنى النهي عن الصلاة في المزبلة
والمجزرة فلكونهما موضع النجاسة. وأما معاطن
الإبل فقد قيل إن معنى النهي فيها أنها لا
تخلو عن النجاسات عادة، لكن هذا يشكل بما روي
من الحديث
"صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن
الإبل", مع أن المعاطن والمرابض في معنى النجاسة سواء، وقيل: معنى النهي
أن الإبل ربما تبول على المصلي فيبتلى بما
يفسد صلاته، وهذا لا يتوهم في الغنم وأما
قوارع الطرق فقيل إنها لا تخلو عن الأرواث
والأبوال عادة، فعلى هذا لا فرق بين الطريق
الواسع والضيق، وقيل: معنى النهي فيها أنه
يستضر به المارة، وعلى هذا إذا كان الطريق
واسعا لا يكره، وحكى ابن سماعة أن محمدا كان
يصلي على الطريق في البادية وأما الحمام فمعنى
النهي فيه أنه مصب الغسالات والنجاسات عادة،
فعلى هذا لو صلى في موضع الحمامي لا يكره،
وقيل: معنى النهي فيه أن الحمام بيت الشيطان،
فعلى هذا تكره الصلاة في كل موضع منه، سواء
غسل ذلك الموضع أو لم يغسل وأما المقبرة فقيل:
إنما نهي عن ذلك لما فيه من التشبيه باليهود،
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد، فلا تتخذوا قبري بعدي مسجدا". وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه:
القبر القبر، فظن الرجل أنه يقول: القمر
القمر، فجعل ينظر إلى السماء، فما زال به حتى
تنبه فعلى هذا تجوز الصلاة وتكره، وقيل معنى
النهي أن المقابر لا تخلو عن النجاسات; لأن
الجهال يستترون بما شرف من القبور فيبولون
ويتغوطون خلفه، فعلى هذا لا تجوز الصلاة لو
كان في موضع يفعلون ذلك لانعدام طهارة المكان
وأما فوق بيت الله تعالى: فمعنى النهي عندنا
أن الإنسان منهي عن الصعود على سطح الكعبة لما
فيه من ترك التعظيم، ولا يمنع جواز الصلاة
عليه وعند الشافعي هذا النهي للإفساد، حتى لو
صلى على سطح الكعبة وليس بين يديه سترة لا
تجوز صلاته عنده وسنذكر الكلام فيما بعد ولو
صلى في بيت فيه تماثيل فهذا على وجهين: أما إن
كانت التماثيل مقطوعة الرءوس أو لم تكن مقطوعة
الرءوس، فإن كانت مقطوعة الرءوس فلا بأس
بالصلاة فيه; لأنها بالقطع خرجت من أن تكون
تماثيل
ج / 1 ص -116-
والتحقت بالنقوش، والدليل عليه ما روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهدي إليه ترس فيه
تمثال طير فأصبحوا وقد محي وجهه. وروي أن
جبريل عليه السلام استأذن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأذن له فقال: "كيف أدخل وفي البيت
قرام فيه تماثيل خيول ورجال" ؟ فإما أن تقطع
رءوسها أو تتخذ وسائد فتوطأ وإن لم تكن مقطوعة
الرءوس فتكره الصلاة فيه، سواء كانت في جهة
القبلة أو في السقف أو عن يمين القبلة أو عن
يسارها، فأشد ذلك كراهة أن تكون في جهة
القبلة; لأنه تشبه بعبدة الأوثان، ولو كانت في
مؤخر القبلة، أو تحت القدم لا يكره لعدم
التشبه في الصلاة بعبدة الأوثان، وكذا يكره
الدخول إلى بيت فيه صور على سقفه أو حيطانه أو
على الستور والأزر والوسائد العظام; لأن جبريل
عليه السلام قال: "إنا لا ندخل بيتا فيه كلب
أو صورة، ولا خير في بيت لا تدخله" الملائكة،
وكذا نفس التعليق لتلك الستور والأزر على
الجدار، ووضع الوسائد العظام عليه مكروه لما
في هذا الصنيع من التشبيه بعباد الصور لما فيه
من تعظيمها. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيتي وأنا مستترة بستر فيه تماثيل، فتغير لون
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت
الكراهة في وجهه، فأخذه مني وهتكه بيده
فجعلناه نمرقة أو نمرقتين" وإن كانت الصور على
البسط والوسائد الصغار وهي تداس بالأرجل لا
تكره لما فيه من إهانتها، والدليل عليها حديث
جبريل صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله
عنها. ولو صلى على هذا البساط فإن كانت الصورة
في موضع سجوده يكره لما فيه من التشبه بعبادة
الصور والأصنام، وكذا إذا كانت أمامه في موضع;
لأن معنى التعظيم يحصل بتقريب الوجه من
الصورة، فأما إذا كانت في موضع قدميه فلا بأس
به لما فيه من الإهانة دون التعظيم، هذا إذا
كانت الصورة كبيرة، فأما إذا كانت صغيرة لا
تبدو للناظر من بعيد فلا بأس به؛ لأن من يعبد
الصنم لا يعبد الصغير منها جدا، وقد روي أنه
كان على خاتم أبي موسى ذبابتان. وروي أنه لما
وجد خاتم دانيال على عهد عمر رضي الله عنه كان
على فصه أسدان بينهما رجل يلحسانه، ويحتمل أن
يكون ذلك في ابتداء حاله، أو لأن التمثال في
شريعة من قبلنا كان حلالا، قال الله تعالى: في
قصة سليمان:
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} ، ثم ما ذكرنا من الكراهة في صورة الحيوان. فأما صورة ما لا حياة
له كالشجر ونحو ذلك فلا يوجب الكراهة؛ لأن
عبدة الصور لا يعبدون تمثال ما ليس بذي روح،
فلا يحصل التشبه بهم، وكذا النهي إنما جاء عن
تصوير ذي الروح لما روي عن علي رضي الله عنه
أنه قال: من صور تمثال ذي الروح كلف يوم
القيامة أن ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ فأما
لا نهي عن تصوير ما لا روح له لما روي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه نهى مصورا عن
التصوير; فقال: كيف أصنع وهو كسبي ؟ فقال: "إن
لم يكن بد فعليك بتمثال الأشجار ويكره أن تكون
قبلة المسجد إلى حمام أو قبر أو مخرج; لأن جهة
القبلة يجب تعظيمها، والمساجد كذلك" قال الله
تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ
يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ}، ومعنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة المسجد إلى هذه المواضع؛
لأنها لا تخلو عن الأقذار، وروى أبو يوسف عن
أبي حنيفة أنه قال: "هذا في مساجد الجماعات،
فأما مسجد الرجل في بيته فلا بأس بأن يكون
قبلته إلى هذه المواضع"; لأنه ليس له حرمة
المساجد، حتى يجوز بيعه، وكذا للناس فيه بلوى
بخلاف مسجد الجماعة. ولو صلى في مثل هذا
المسجد جازت صلاته عند عامة العلماء، وعلى قول
بشر بن غياث المريسي: لا تجوز، وعلى هذا،
المصلي في أرض مغصوبة أو صلى وعليه ثوب مغصوب
لا تجوز عنده. "وجه" قوله أن العبادة لا تتأدى
بما هو منهي عنه. "ولنا" أن النهي ليس لمعنى
في الصلاة فلا يمنع جواز الصلاة، وهذا إذا لم
يكن بين المسجد وبين هذه المواضع حائل من بيت
أو جدار أو نحو ذلك، فإن كان بينهما حائل لا
يكره; لأن معنى التعظيم حاصل، فالتحرز عنه غير
ممكن "ومنها" ستر العورة لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَكُلُوا} ، قيل
في التأويل: الزينة: ما يواري العورة،
والمسجد: الصلاة، فقد أمر بمواراة العورة في
الصلاة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة للحائض إلا بخمار"،
كنى بالحائض عن البالغة; لأن الحيض دليل
البلوغ، فذكر الحيض وأراد به البلوغ لملازمة
بينهما، وعليه إجماع الأمة؛ ولأن ستر العورة
حال القيام بين يدي الله تعالى: من باب
التعظيم، وأنه فرض عقلا وشرعا,
ج / 1 ص -117-
وإذا كان الستر فرضا كان الانكشاف مانعا
جواز الصلاة ضرورة، والكلام في بيان ما يكون
عورة وما لا يكون موضعه كتاب الاستحسان، وإنما
الحاجة ههنا إلى بيان المقدار الذي يمنع جواز
الصلاة فنقول: قليل الانكشاف لا يمنع الجواز
لما فيه من الضرورة؛ لأن الثياب لا تخلو عن
قليل خرق عادة والكثير يمنع لعدم الضرورة،
واختلف في الحد الفاصل بين القليل والكثير
فقدر أبو حنيفة ومحمد الكثير بالربع فقالا:
الربع وما فوقه من العضو كثير وما دون الربع
قليل وأبو يوسف جعل الأكثر من النصف كثيرا،
وما دون النصف قليلا، واختلفت الرواية عنه في
النصف، فجعله في حكم القليل في الجامع الصغير،
وفي حكم الكثير في الأصل. "وجه" قول أبي يوسف
أن القليل والكثير من المتقابلات، فإنما تظهر
بالمقابلة، فما كان مقابله أقل منه فهو كثير،
وما كان مقابله أكثر منه فهو قليل. "ولهما" أن
الشرع أقام الربع مقام الكل في كثير من
المواضع، كما في حلق الرأس في حق المحرم، ومسح
ربع الرأس كذا ههنا، إذ الموضع موضع الاحتياط.
وأما قوله إن القليل والكثير من أسماء
المقابلة فإنما يعرف ذلك بمقابله فنقول: الشرع
قد جعل الربع كثيرا في نفسه من غير مقابلة في
بعض المواضع على ما بينا، فلزم الأخذ به في
موضع الاحتياط، ثم كثير الانكشاف يستوي فيه
العضو الواحد والأعضاء المتفرقة، حتى لو انكشف
من أعضاء متفرقة ما لو جمع لكان كثيرا يمنع
جواز الصلاة، ويستوي فيه العورة الغليظة وهي
القبل والدبر، والخفيفة كالفخذ ونحوه، ومن
الناس من قدر العورة الغليظة بالدرهم تغليظا
لأمرها، وهذا غير سديد لأن العورة الغليظة
كلها لا تزيد على الدرهم فتقديرها بالدرهم
يكون تخفيفا لأمرها لا تغليظا له، فتنعكس
القضية، وذكر محمد في الزيادات ما يدل على أن
حكم الغليظة والخفيفة واحد، فإنه قال في امرأة
صلت فانكشف شيء من شعرها، وشيء من ظهرها، وشيء
من فرجها، وشيء من فخذها: أنه إن كان بحال لو
جمع بلغ الربع منع أداء الصلاة، وإن لم يبلغ
لا يمنع، فقد جمع بين العورة الغليظة والخفيفة
واعتبر فيها الربع، فثبت أن حكمها لا يختلف،
وأن الخلاف فيهما واحد وهذا في حالة القدرة
فأما في حالة العجز فالانكشاف لا يمنع جواز
الصلاة، بأن حضرته الصلاة وهو عريان لا يجد
ثوبا للضرورة، ولو كان معه ثوب نجس فلا يخلو
إما أن كان الربع منه طاهرا، وإما أن كان كله
نجسا فإن كان ربعه طاهرا لم يجزه أن يصلي
عريانا، بل يجب عليه أن يصلي في ذلك الثوب;
لأن الربع فما فوقه في حكم الكمال، كما في مسح
الرأس وحلق المحرم ربع الرأس، وكما يقال: رأيت
فلانا وإن عاينه من إحدى جهاته الأربع، فجعل
كأن الثوب كله طاهر وإن كان كله نجسا أو
الطاهر منه أقل من الربع فهو بالخيار في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف، إن شاء صلى عريانا، وإن
شاء مع الثوب، لكن الصلاة في الثوب أفضل وقال
محمد: لا تجزئه إلا مع الثوب. "وجه" قوله أن
ترك استعمال النجاسة فرض، وستر العورة فرض،
إلا أن ستر العورة أهمهما وآكدهما; لأنه فرض
في الأحوال أجمع، وفرضية ترك استعمال النجاسة
مقصورة على حالة الصلاة، فيصار إلى الأهم،
فتستر العورة، ولا تجوز الصلاة بدونه، ويتحمل
استعمال النجاسة; ولأنه لو صلى عريانا كان
تاركا فرائض منها ستر العورة والقيام والركوع
والسجود، ولو صلى في الثوب النجس كان تاركا
فرضا واحدا وهو ترك استعمال النجاسة فقط، فكان
هذا الجانب أهون. وقد قالت عائشة رضي الله
عنها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين شيئين إلا اختار أهونهما"، فمن ابتلي
ببليتين فعليه أن يختار أهونهما. "ولهما" أن
الجانبين في الفرضية في حق الصلاة على السواء،
ألا ترى أنه كما لا تجوز الصلاة حالة الاختيار
عريانا لا تجوز مع الثوب المملوء نجاسة، ولا
يمكن إقامة أحد الفرضين في هذه الحالة إلا
بترك الآخر؟ فسقطت فرضيتهما في حق الصلاة،
فيخير فيجزئه كيفما فعل، إلا أن الصلاة في
الثوب أفضل لما ذكر محمد "ومنها" استقبال
القبلة لقوله تعالى:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، ويستقبل القبلة،
ويقول: الله أكبر"،
وعليه إجماع الأمة، والأصل أن استقبال القبلة
للصلاة شرط زائد لا يعقل معناه، بدليل أنه لا
يجب الاستقبال فيما هو رأس العبادات وهو
الإيمان، وكذا في عامة العبادات من الزكاة
والصوم والحج، وإنما عرف شرطا في باب الصلاة
شرعا فيجب اعتباره بقدر ما ورد الشرع به,
ج / 1 ص -118-
وفيما
وراءه يرد إلى أصل القياس، ثم جملة الكلام في
هذا الشرط أن المصلي لا يخلو إما إن كان قادرا
على الاستقبال أو كان عاجزا عنه فإن كان قادرا
يجب عليه التوجه إلى القبلة إن كان في حال
مشاهدة الكعبة فإلى عينها، أي: أي جهة كانت من
جهات الكعبة، حتى لو كان منحرفا عنها غير
متوجه إلى شيء منها لم يجز، لقوله تعالى:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، وفي وسعه تولية الوجه إلى عينها فيجب ذلك، وإن كان نائيا عن
الكعبة غائبا عنها يجب عليه التوجه إلى جهتها،
وهي المحاريب المنصوبة بالإمارات الدالة عليها
لا إلى عينها، وتعتبر الجهة دون العين. كذا
ذكر الكرخي والرازي، وهو قول عامة مشايخنا بما
وراء النهر وقال بعضهم: "المفروض إصابة عين
الكعبة بالاجتهاد والتحري"، وهو قول أبي عبد
الله البصري حتى قالوا: "إن نية الكعبة شرط"
وجه قول هؤلاء قوله تعالى:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، من غير فصل بين حال المشاهدة والغيبة؛ ولأن لزوم الاستقبال لحرمة
البقعة، وهذا المعنى في العين لا في الجهة؛
ولأن قبلته لو كانت الجهة لكان ينبغي له إذا
اجتهد فأخطأ الجهة يلزمه الإعادة لظهور خطئه
في اجتهاده بيقين، ومع ذلك لا تلزمه الإعادة
بلا خلاف بين أصحابنا، فدل أن قبلته في هذه
الحالة عين الكعبة بالاجتهاد والتحري. "وجه"
قول الأولين أن المفروض هو المقدور عليه،
وإصابة العين غير مقدور عليها فلا تكون
مفروضة; ولأن قبلته لو كانت عين الكعبة في هذه
الحالة بالتحري والاجتهاد لترددت صلاته بين
الجواز والفساد; لأنه إن أصاب عين الكعبة
بتحريه جازت صلاته، وإن لم يصب عين الكعبة لا
تجوز صلاته; لأنه ظهر خطؤه بيقين، إلا أن يجعل
كل مجتهد مصيبا وإنه خلاف المذهب الحق. وقد
عرف بطلانه في أصول الفقه، أما إذا جعلت قبلته
الجهة وهي المحاريب المنصوبة لا يتصور ظهور
الخطأ، فنزلت الجهة في هذه الحالة منزلة عين
الكعبة في حال المشاهدة، ولله تعالى: أن يجعل
أي جهة شاء قبلة لعباده على اختلاف الأحوال،
وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا
عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛
ولأنهم جعلوا عين الكعبة قبلة في هذه الحالة
بالتحري، وأنه مبني على تجرد شهادة القلب من
غير أمارة، والجهة صارت قبلة باجتهادهم المبني
على الأمارات الدالة عليها من النجوم والشمس
والقمر وغير ذلك، فكان فوق الاجتهاد بالتحري،
ولهذا إن من دخل بلدة وعاين المحاريب المنصوبة
فيها يجب عليه التوجه إليها، ولا يجوز له
التحري، وكذا إذا دخل مسجدا لا محراب له
وبحضرته أهل المسجد لا يجوز له التحري، بل يجب
عليه السؤال من أهل المسجد؛ لأن لهم علما
بالجهة المبنية على الأمارات فكان فوق الثابت
بالتحري، وكذا لو كان في المفازة، والسماء
مصحية، وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة
لا يجوز له التحري; لأن ذلك فوق التحري. وبه
تبين أن نية الكعبة ليست بشرط، بل الأفضل أن
لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة
الكعبة فلا تجوز صلاته ولا حجة لهم في الآية
لأنها تناولت حالة القدرة، والقدرة حال مشاهدة
الكعبة لا حال البعد عنها، وهو الجواب عن
قولهم: إن الاستقبال لحرمة البقعة، أن ذلك حال
القدرة على الاستقبال إليها دون حال العجز عنه
وأما إذا كان عاجزا فلا يخلو إما أن كان عاجزا
بسبب عذر من الأعذار مع العلم بالقبلة. وأما
إن كان عجزه بسبب الاشتباه، فإن كان عاجزا
لعذر مع العلم بالقبلة فله أن يصلي إلى أي جهة
كانت ويسقط عنه الاستقبال، نحو أن يخاف على
نفسه من العدو في صلاة الخوف، أو كان بحال لو
استقبل القبلة يثب عليه العدو، أو قطاع
الطريق، أو السبع، أو كان على لوح من السفينة
في البحر لو وجهه إلى القبلة يغرق غالبا، أو
كان مريضا لا يمكنه أن يتحول بنفسه إلى القبلة
وليس بحضرته من يحوله إليها، ونحو ذلك؛ لأن
هذا شرط زائد فيسقط عند العجز وإن كان عاجزا
بسبب الاشتباه، وهو أن يكون في المفازة في
ليلة مظلمة، أو لا علم له بالأمارات الدالة
على القبلة، فإن كان بحضرته من يسأله عنها لا
يجوز له التحري لما قلنا، بل يجب عليه السؤال،
فإن لم يسأل وتحرى وصلى فإن أصاب جاز، وإلا
فلا. فإن لم يكن بحضرته أحد جاز له التحري;
لأن التكليف بحسب الوسع والإمكان، وليس في
وسعه إلا التحري فتجوز له الصلاة بالتحري
لقوله تعالى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وروي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحروا عند الاشتباه
ج / 1 ص -119-
وصلوا
ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فدل
على الجواز فإذا صلى إلى جهة من الجهات فلا
يخلو إما أن صلى إلى الجهة بالتحري أو بدون
التحري فإن صلى بدون التحري فلا يخلو من أوجه:
أما إن كان لم يخطر بباله شيء ولم يشك في جهة
القبلة، أو خطر بباله وشك في جهة القبلة وصلى
من غير تحر، أو تحرى ووقع تحريه على جهة فصلى
إلى جهة أخرى لم يقع عليها التحري أما إذا لم
يخطر بباله شيء ولم يشك وصلى إلى جهة من
الجهات فالأصل هو الجواز؛ لأن مطلق الجهة قبلة
بشرط عدم دليل يوصله إلى جهة الكعبة من السؤال
أو التحري، ولم يوجد; لأن التحري لا يجب عليه
إذا لم يكن شاكا، فإذا مضى على هذه الحالة ولم
يخطر بباله شيء صارت الجهة التي صلى إليها
قبلة له ظاهرا، فإن ظهر أنها جهة الكعبة تقرر
الجواز، فأما إذا ظهر خطؤه بيقين بأن انجلى
الظلام وتبين أنه صلى إلى غير جهة الكعبة، أو
تحرى ووقع تحريه على غير الجهة التي صلى إليها
إن كان بعد الفراغ من الصلاة يعيد، وإن كان في
الصلاة يستقبل؛ لأن ما جعل حجة بشرط عدم
الأقوى يبطل عند وجوده، كالاجتهاد إذا ظهر نص
بخلافه. وأما إذا شك ولم يتحر وصلى إلى جهة من
الجهات فالأصل هو الفساد، فإذا ظهر أن الصواب
في غير الجهة التي صلى إليها إما بيقين أو
بالتحري تقرر الفساد، وإن ظهر أن الجهة التي
صلى إليها قبلة إن كان بعد الفراغ من الصلاة
أجزأه ولا يعيد; لأنه إذا شك في جهة الكعبة
وبنى صلاته على الشك احتمل أن تكون الجهة التي
صلى إليها قبلة واحتمل أن لا تكون، فإن ظهر
أنها لم تكن قبلة يظهر أنه صلى إلى غير
القبلة، وإن ظهر أنها كانت قبلة يظهر أنه صلى
إلى القبلة فلا يحكم بالجواز في الابتداء
بالشك والاحتمال، بل يحكم بالفساد بناء على
الأصل وهو العدم بحكم استصحاب الحال، فإذا
تبين أنه صلى إلى القبلة بطل الحكم باستصحاب
الحال وثبت الجواز من الأصل. وأما إذا ظهر في
وسط الصلاة روي عن أبي يوسف أنه يبني على
صلاته لما قلنا، وفي ظاهر الرواية يستقبل; لأن
شروعه في الصلاة بناء على الشك، ومتى ظهرت
القبلة إما بالتحري أو بالسؤال من غيره صارت
حالته هذه أقوى من الحالة الأولى، ولو ظهرت في
الابتداء لا تجوز صلاته إلا إلى هذه الجهة،
فكذا إذا ظهرت في وسط الصلاة وصار كالمومئ إذا
قدر على القيام في وسط الصلاة أنه يستقبل لما
ذكرنا، كذا هذا. وأما إذا تحرى ووقع تحريه إلى
جهة فصلى إلى جهة أخرى من غير تحر فإن أخطأ لا
تجزيه بالإجماع، وإن أصاب فكذلك في ظاهر
الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه يجوز، "ووجهه"
أن المقصود من التحري هو الإصابة وقد حصل هذا
المقصود فيحكم بالجواز، كما إذا تحرى في
الأواني فتوضأ بغير ما وقع عليه التحري ثم
تبين أنه أصاب يجزيه، كذا هذا. "وجه" ظاهر
الرواية أن القبلة حالة الاشتباه هي الجهة
التي مال إليها المتحري، فإذا ترك الإقبال
إليها فقد أعرض عما هو قبلته مع القدرة عليه
فلا يجوز، كمن ترك التوجه إلى المحاريب
المنصوبة مع القدرة عليه، بخلاف الأواني; لأن
الشرط هو التوضؤ بالماء الطاهر حقيقة وقد وجد
فأما إذا صلى إلى جهة من الجهات بالتحري ثم
ظهر خطؤه فإن كان قبل الفراغ من الصلاة استدار
إلى القبلة، وأتم الصلاة، لما روي أن أهل قباء
لما بلغهم نسخ القبلة إلى بيت المقدس استداروا
كهيئتهم وأتموا صلاتهم، ولم يأمرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالإعادة؛ ولأن الصلاة
المؤداة إلى جهة التحري مؤداة إلى القبلة;
لأنها هي القبلة حال الاشتباه، فلا معنى لوجوب
الاستقبال; ولأن تبدل الرأي في معنى انتساخ
النص، وذا لا يوجب بطلان العمل بالمنسوخ في
زمان ما قبل النسخ، كذا هذا وإن كان بعد
الفراغ من الصلاة فإن ظهر أنه صلى يمنة أو
يسرة يجزيه ولا يلزمه الإعادة بلا خلاف، وإن
ظهر أنه صلى مستدبر الكعبة يجزيه عندنا، وعند
الشافعي لا يجزيه، وعلى هذا إذا اشتبهت القبلة
على قوم فتحروا وصلوا بجماعة جازت صلاة الكل
عندنا إلا صلاة من تقدم على إمامه أو علم
بمخالفته إياه. "وجه" قول الشافعي أنه صلى إلى
القبلة بالاجتهاد. وقد ظهر خطؤه بيقين فيبطل،
كما إذا تحرى وصلى في ثوب على ظن أنه طاهر ثم
تبين أنه نجس أنه لا يجزيه وتلزمه الإعادة،
كذا ههنا. "ولنا" أن قبلته حال الاشتباه هي
الجهة التي تحرى إليها. وقد صلى إليها فتجزيه
كما إذا صلى إلى المحاريب المنصوبة، والدليل
على أن قبلته هي جهة التحري النص والمعقول أما
النص فقوله تعالى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ}، قيل في بعض وجوه التأويل: ثمة قبلة
ج / 1 ص -120-
الله،
وقيل: ثمة رضاء الله، وقيل: ثمة وجه الله الذي
وجهكم إليه إذ لم يجئ منكم التقصير في طلب
القبلة، وأضاف التوجه إلى نفسه; لأنهم وقعوا
في ذلك بفعل الله تعالى: بغير تقصير كان منهم
في الطلب ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم
لمن أكل ناسيا لصومه تم على صومك فإنما أطعمك
الله وسقاك، وإن وجد الأكل من الصائم حقيقة
لكن لما لم يكن قاصدا فيه أضاف فعله إلى الله
تعالى: وصيره معذورا كأنه لم يأكل، كذلك ههنا
إذا كان توجهه إلى هذه الجهة من غير قصد منه
حيث أتى بجميع ما في وسعه وإمكانه، أضاف الرب
سبحانه وتعالى: ذلك إلى ذاته وجعله معذورا
كأنه توجه إلى القبلة "وأما" المعقول فما
ذكرنا أنه لا سبيل له إلى إصابة عين الكعبة
ولا إلى إصابة جهتها في هذه الحالة لعدم
الدلائل الموصلة إليها، والكلام فيه، والتكليف
بالصلاة متوجه، وتكليف ما لا يحتمله الوسع
ممتنع، وليس في وسعه إلا الصلاة إلى جهة
التحري فتعينت هذه قبلة له شرعا في هذه
الحالة، فنزلت هذه الجهة حالة العجز منزلة عين
الكعبة، والمحراب حالة القدرة، وإنما عرف
التحري شرطا نصا بخلاف القياس لا لإصابة
القبلة، وبه تبين أنه ما أخطأ قبلته; لأن
قبلته جهة التحري وقد صلى إليها، بخلاف مسألة
الثوب؛ لأن الشرط هناك هو الصلاة بالثوب
الطاهر حقيقة لكنه أمر بإصابته بالتحري، فإذا
لم يصب انعدم الشرط فلم يجز، أما ههنا فالشرط
استقبال القبلة، وقبلته هذه في هذه الحالة.
وقد استقبلها، فهو الفرق والله أعلم ويخرج على
ما ذكرنا الصلاة بمكة خارج الكعبة أنه إن كان
في حال مشاهدة الكعبة لا تجوز صلاته إلا إلى
عين الكعبة; لأن قبلته حالة المشاهدة عين
الكعبة بالنص، ويجوز إلى أن الجهات من الكعبة
شاء بعد أن كان مستقبلا لجزء منها لوجود تولية
الوجه شطر الكعبة، فإن صلى منحرفا عن الكعبة
غير مواجه لشيء منها لم يجز; لأنه ترك التوجه
إلى قبلته مع القدرة عليه، وشرائط الصلاة لا
تسقط من غير عذر. "ثم" إن صلوا بجماعة لا يخلو
إما أن صلوا متحلقين حول الكعبة صفا بعد صف،
وإما أن صلوا إلى جهة واحدة منها مصطفين فإن
صلوا إلى جهة واحدة جازت صلاتهم إذا كان كل
واحد منهم مستقبلا جزءا من الكعبة، ولا يجوز
لهم أن يصطفوا زيادة على حائط الكعبة، ولو
فعلوا ذلك لا تجوز صلاة من جاوز الحائط; لأن
الواجب حالة المشاهدة استقبال عينها وإن صلوا
حول الكعبة متحلقين جاز; لأن الصلاة بمكة تؤدى
هكذا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
يومنا هذا، والأفضل للإمام أن يقف في مقام
إبراهيم صلوات الله عليه -، ثم صلاة الكل
جائزة سواء كانوا أقرب إلى الكعبة من الإمام
أو أبعد، إلا صلاة من كان أقرب إلى الكعبة من
الإمام في الجهة التي يصلي الإمام إليها بأن
كان متقدما على الإمام بحذائه فيكون ظهره إلى
وجه الإمام، أو كان على يمين الإمام أو يساره
متقدما عليه من تلك الجهة، ويكون ظهره إلى
الصف الذي مع الإمام ووجهه إلى الكعبة؛ لأنه
إذا كان متقدما على إمامه لا يكون تابعا له
فلا يصح اقتداؤه به، بخلاف ما إذا كان أقرب
إلى الكعبة من الإمام من غير الجهة التي يصلي
إليها الإمام; لأنه في حكم المقابل للإمام،
والمقابل لغيره يصلح أن يكون تابعا له بخلاف
المتقدم عليه وعلى هذا إذا قامت امرأة بجنب
الإمام في الجهة التي يصلي إليها الإمام ونوى
الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام لوجود
المحاذاة في صلاة مطلقة مشتركة، وفسدت صلاة
القوم بفساد صلاة الإمام، ولو قامت في الصف في
غير جهة الإمام لا تفسد صلاة الإمام; لأنها في
الحكم كأنها خلف الإمام، وفسدت صلاة من على
يمينها ويسارها ومن كان خلفها على ما يذكر في
موضعه ولو كانت الكعبة منهدمة فتحلق الناس حول
أرض الكعبة وصلوا هكذا، أو صلى منفردا متوجها
إلى جزء منها جاز وقال الشافعي: "لا يجوز إلا
إذا كان بين يديه سترة". "وجه" قوله أن الواجب
استقبال البيت والبيت اسم للبقعة والبناء
جميعا إلا إذا كان بين يديه سترة; لأنها من
توابع البيت فيكون مستقبلا لجزء من البيت
معنى. "ولنا" إجماع الأمة، فإن الناس كانوا
يصلون إلى البقعة حين رفع البناء في عهد ابن
الزبير حين بنى البيت على قواعد الخليل صلوات
الله عليه، وفي عهد الحجاج حين أعاده إلى ما
كان عليه في الجاهلية، وكانت صلاتهم مقضية
بالجواز، وبه تبين أن الكعبة اسم للبقعة سواء
كان ثمة بناء أو لم يكن، وقد وجد التوجه
إليها، إلا أنه يكره ترك اتخاذ السترة لما فيه
من استقبال الصورة
ج / 1 ص -121-
وقد
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في
الصلاة. وروي أنه لما رفع البناء في عهد ابن
الزبير أمر ابن عباس بتعليق الأنطاع في تلك
البقعة ليكون ذلك بمنزلة السترة لهم، وعلى هذا
إذا صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته عندنا وإن
لم يكن بين يديه سترة وعند الشافعي لا تجزيه
بدون السترة، والصحيح قولنا لما ذكرنا أن
الكعبة اسم للعرصة، ولأن البناء لا حرمة له
لنفسه، بدليل أنه لو نفل إلى عرصة أخرى وصلى
إليها لا يجوز، بل كانت حرمته لاتصاله بالعرصة
المحترمة، والدليل عليه أنه من صلى على جبل
أبي قبيس جازت صلاته بالإجماع، ومعلوم أنه لا
يصلي إلى البناء بل إلى الهواء، دل أن العبرة
للعرصة والهواء دون البناء، هذا إذا صلوا خارج
الكعبة فأما إذا صلوا في جوف الكعبة فالصلاة
في جوف الكعبة جائزة عند عامة العلماء، نافلة
كانت أو مكتوبة. وقال مالك: "لا يجوز أداء
المكتوبة في جوف الكعبة". "وجه" قوله أن
المصلي في جوف الكعبة إن كان مستقبلا جهة كان
مستدبرا جهة أخرى، والصلاة مع استدبار القبلة
لا تجوز فأخذنا بالاحتياط في المكتوبات، فأما
في التطوعات فالأمر فيها أوسع وصار كالطواف في
جوف الكعبة. "ولنا" أن الواجب استقبال جزء من
الكعبة غير عين، وإنما يتعين الجزء قبلة له
بالشروع في الصلاة والتوجه إليه، ومتى صارت
قبلة فاستدبارها في الصلاة من غير ضرورة يكون
مفسدا فأما الأجزاء التي لم يتوجه إليها لم
تصر قبلة في حقه، فاستدبارها لا يكون مفسدا،
وعلى هذا ينبغي أن من صلى في جوف الكعبة ركعة
إلى جهة وركعة إلى جهة أخرى لا تجوز صلاته;
لأنه صار مستدبرا عن الجهة التي صارت قبلة في
حقه بيقين من غير ضرورة، والانحراف من غير
ضرورة مفسد للصلاة، بخلاف النائي عن الكعبة
إذا صلى بالتحري إلى الجهات الأربع بأن صلى
ركعة إلى جهة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى فصلى
ركعة إليها هكذا جاز; لأن هناك لم يوجد
الانحراف عن القبلة بيقين; لأن الجهة التي
تحرى إليها ما صارت قبلة له بيقين بل بطريق
الاجتهاد، فحين تحول رأيه إلى جهة أخرى صارت
قبلته هذه الجهة في المستقبل، ولم يبطل ما أدى
بالاجتهاد الأول; لأن ما أمضى بالاجتهاد لا
ينقض باجتهاد مثله، فصار مصليا في الأحوال
كلها إلى القبلة فلم يوجد الانحراف عن القبلة
بيقين، فهو الفرق ثم لا يخلو إما أن صلوا في
جوف الكعبة متحلقين أو مصطفين خلف الإمام فإن
صلوا بجماعة متحلقين جازت صلاة الإمام وصلاة
من وجهه إلى ظهر الإمام، أو إلى يمين الإمام،
أو إلى يساره، أو ظهره إلى ظهر الإمام، وكذا
صلاة من وجهه إلى وجه الإمام إلا أنه يكره لما
فيه من استقبال الصورة الصورة، فينبغي أن يجعل
بينه وبين الإمام سترة. وأما صلاة من كان
متقدما على الإمام وظهره إلى وجه الإمام،
وصلاة من كان مستقبلا جهة الإمام وهو أقرب إلى
الحائط من الإمام فلا تجوز لما بينا، وهذا
بخلاف جماعة تحروا في ليلة مظلمة واقتدوا
بالإمام حيث لا تجوز صلاة من علم أنه مخالف
للإمام في جهته; لأن هناك اعتقد الخطأ في صلاة
إمامه لأن عنده أن إمامه غير مستقبل للقبلة
فلم يصح اقتداؤه به. وأما ههنا فما اعتقد
الخطأ في صلاة إمامه; لأن كل جانب من جوانب
الكعبة قبلة بيقين فصح اقتداؤه به، فهو الفرق
وإن صلوا مصطفين خلف الإمام إلى جهة الإمام
فلا شك أن صلاتهم جائزة، وكذا إذا كان وجه
بعضهم إلى ظهر الإمام وظهر بعضهم إلى ظهره
لوجود استقبال القبلة والمتابعة؛ لأنهم خلف
الإمام لا أمامه، ولهذا قلنا إن الإمام إذا
نوى إمامة النساء فقامت امرأة بحذائه مقابلة
له لا تفسد صلاة الإمام لأنها في الحكم كأنها
خلف الإمام، وتفسد صلاة من كان عن يمينها
ويسارها وخلفها في الجهة التي هي فيها،
واختلفت الرواية في أن النبي صلى الله عليه
وسلم هل صلى في الكعبة حين دخلها روى أسامة بن
زيد أنه لم يصل فيها، وروى ابن عمر أنه صلى
فيها ركعتين بين الساريتين المتقدمتين "ومنها"
الوقت لأن الوقت كما هو سبب لوجوب الصلاة فهو
شرط لأدائها، قال الله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}
، أي فرضا
مؤقتا حتى لا يجوز أداء الفرض قبل وقته إلا
صلاة العصر يوم عرفة على ما يذكر، والكلام فيه
يقع في ثلاثة مواضع: في بيان أصل أوقات
الصلوات المفروضة وفي بيان حدودها بأوائلها
وأواخرها وفي بيان الأوقات المستحبة منها، وفي
بيان الوقت المكروه لبعض الصلوات المفروضة.
"أما" الأول فأصل أوقاتها عرف بالكتاب وهو
قوله تعالى:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وقوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
ج / 1 ص -122-
النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ}، وقوله
تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}. وقوله تعالى:
{مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا
وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}، فهذه الآيات تشتمل على بيان فرضية هذه الصلوات، وبيان أصل أوقاتها
لما بينا فيما تقدم والله أعلم "وأما" بيان
حدودها بأوائلها وأواخرها فإنما عرف بالأخبار
أما الفجر فأول وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر
الثاني، وآخره حين تطلع الشمس، لما روي عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال:
"إن للصلاة أولا وآخرا، وإن أول وقت الفجر حين
يطلع الفجر، وآخره حين تطلع الشمس"، والتقييد بالفجر الثاني لأن الفجر الأول هو البياض المستطيل يبدو
في ناحية من السماء وهو المسمى ذنب السرحان
عند العرب ثم ينكتم، ولهذا يسمى فجرا كاذبا;
لأنه يبدو نوره ثم يخلف ويعقبه الظلام، وهذا
الفجر لا يحرم به الطعام والشراب على
الصائمين، ولا يخرج به وقت العشاء، ولا يدخل
به وقت صلاة الفجر، والفجر الثاني وهو
المستطير المعترض في الأفق لا يزال يزداد نوره
حتى تطلع الشمس، ويسمى هذا فجرا صادقا; لأنه
إذا بدأ نوره ينتشر في الأفق ولا يخلف، وهذا
الفجر يحرم به الطعام والشراب على الصائم،
ويخرج به وقت العشاء، ويدخل به وقت الفجر،
وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الفجر
فجران، فجر مستطيل يحل به الطعام، وتحرم فيه
الصلاة، وفجر مستطير يحرم به الطعام وتحل فيه
الصلاة"، وبه تبين أن المراد من الفجر المذكور
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هو الفجر
الثاني لا الأول. وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "لا يغرنكم
أذان بلال ولا الفجر المستطيل لكن الفجر
المستطير في الأفق". وروي "لا يغرنكم الفجر المستطيل ولكن كلوا واشربوا حتى يطلع الفجر
المستطير" أي المنتشر في الأفق. وقال الفجر
هكذا ومد يده عرضا لا هكذا ومد يده طولا؛ ولأن
المستطيل ليل في الحقيقة لتعقب الظلام إياه.
وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"وقت الفجر ما لم تطلع الشمس". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها"، فدل الحديثان أيضا على أن آخر وقت الفجر حين تطلع الشمس.
وأما" أول وقت الظهر فحين تزول الشمس بلا
خلاف، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أول وقت الظهر حين تزول الشمس". وأما آخره فلم يذكر في ظاهر الرواية نصا، واختلفت الرواية عن أبي
حنيفة، روى محمد عنه إذا صار ظل كل شيء مثله
سوى فيء الزوال، والمذكور في الأصل ولا يدخل
وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولم يتعرض
لآخر وقت الظهر، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن
آخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء
الزوال، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن
والشافعي، وروى أسد بن عمرو وعنه إذا صار ظل
كل شيء مثله سوى فيء الزوال خرج وقت الظهر،
ولا يدخل وقت العصر ما لم يصر ظل كل شيء
مثليه، فعلى هذه الرواية يكون بين وقت الظهر
والعصر وقت مهمل كما بين الفجر والظهر،
والصحيح رواية محمد عنه، فإنه روي في خبر أبي
هريرة، وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر
وهذا ينفي الوقت المهمل، ثم لا بد من معرفة
زوال الشمس، روي عن محمد أنه قال: "حد الزوال
أن يقوم الرجل مستقبل القبلة فإذا مالت الشمس
عن يساره فهو الزوال"، وأصح ما قيل في معرفة
الزوال قول محمد بن شجاع البلخي: أنه يغرز
عودا مستويا في أرض مستوية، ويجعل على مبلغ
الظل منه علامة فما دام الظل ينتقص من الخط
فهو قبل الزوال، فإذا وقف لا يزداد ولا ينتقص
فهو ساعة الزوال، وإذا أخذ الظل في الزيادة
فالشمس قد زالت". وإذا أردت معرفة فيء الزوال
فخط على رأس موضع الزيادة خطا فيكون من رأس
الخط إلى العود فيء الزوال فإذا صار ظل العود
مثليه من رأس الخط لا من العود خرج وقت الظهر
ودخل وقت العصر عند أبي حنيفة.
وإذا صار ظل العود مثليه من رأس الخط خرج وقت
الظهر ودخل وقت العصر عندهم. "وجه" قولهم حديث
إمامة جبريل عليه السلام فإنه روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في
اليوم الأول حين زالت الشمس، وصلى بي العصر
حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين
غربت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق،
وصلى بي الفجر حين طلع الفجر الثاني، وصلى بي
الظهر
ج / 1 ص -123-
في
اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي
العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء
مثليه، وصلى بي المغرب في اليوم الثاني في
الوقت الذي صلى بي اليوم الأول، وصلى بي
العشاء في اليوم الثاني حين مضى ثلث الليل،
وصلى بي الفجر في اليوم الثاني حين أسفر
النهار، ثم قال: "الوقت ما بين الوقتين"،
فالاستدلال بالحديث من وجهين: أحدهما أنه صلى
العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله
فدل أن أول وقت العصر هذا فكان هو آخر وقت
الظهر ضرورة والثاني أن الإمامة في اليوم
الثاني كانت لبيان آخر الوقت، ولم يؤخر الظهر
في اليوم الثاني إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه
فدل أن آخر وقت الظهر ما ذكرنا ولأبي حنيفة ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن
مثلكم ومثل من قبلكم من الأمم مثل رجل استأجر
أجيرا فقال: من يعمل لي من الفجر إلى الظهر
بقيراط ؟ فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من
الظهر إلى العصر بقيراط ؟ فعملت النصارى، ثم
قال: من يعمل لي من العصر إلى المغرب بقيراطين
؟ فعملتم أنتم فكنتم أقل عملا وأكثر أجرا".
فدل الحديث على أن مدة العصر أقصر من مدة
الظهر، وإنما يكون أقصر أن لو كان الأمر على
ما قاله أبو حنيفة، وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "أبردوا بالظهر، فإن شدة
الحر من فيح جهنم"، والإبراد يحصل بصيرورة ظل
كل شيء مثليه، فإن الحر لا يفتر خصوصا في
بلادهم، على أن عند تعارض الأدلة لا يمكن
إثبات وقت العصر; لأن موضع التعارض موضع الشك،
وغير الثابت لا يثبت بالشك، فإن قيل: لا يبقى
وقت الظهر بالشك أيضا فالجواب أنه كذلك يقول
أبو حنيفة في رواية أسد بن عمرو أخذا بالمتيقن
فيهما، والثاني أن ما ثبت لا يبطل بالشك، وغير
الثابت لا يثبت بالشك، وخبر إمامة جبريل عليه
السلام منسوخ في المتنازع فيه، فإن المروي أنه
صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى
فيه العصر في اليوم الأول، والإجماع منعقد على
تغاير وقتي الظهر والعصر، فكان الحديث منسوخا
في الفرع، ولا يقال: معنى ما ورد أنه صلى
العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله
أي بعد ما صار، ومعنى ما ورد أنه صلى الظهر في
اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه أي قرب
من ذلك فلا يكون منسوخا; لأنا نقول: هذا نسبة
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغفلة وعدم
التمييز بين الوقتين، أو إلى التساهل في أمر
تبليغ الشرائع، والتسوية بين أمرين مختلفين،
وترك ذلك مبهما من غير بيان منه أو دليل يمكن
الوصول به إلى الافتراق بين الأمرين، ومثله لا
يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم. "وأما" أول
وقت العصر فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في آخر
وقت الظهر، حتى روي عن أبي يوسف أنه قال:
"خالفت أبا حنيفة في وقت العصر فقلت: أوله إذا
دار الظل على قامة اعتمادا على الآثار التي
جاءت، وآخره حين تغرب الشمس عندنا"، وعند
الشافعي قولان في قول: إذا صار ظل كل شيء
مثليه يخرج وقت العصر ولا يدخل وقت المغرب حتى
تغرب الشمس فيكون بينهما وقت مهمل، وفي قول
إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقته المستحب
ويبقى أصل الوقت إلى غروب الشمس، والصحيح
قولنا لما روي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
في وقت العصر، وآخرها حين تغرب الشمس. وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك
ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها"
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "من فاته العصر حتى غربت
الشمس فكأنما وتر أهله وماله".
وأما" أول وقت المغرب فحين تغرب الشمس بلا
خلاف، وفي خبر أبي هريرة رضي الله عنه وأول
وقت المغرب حين تغرب الشمس، وكذا حديث جبريل
عليه السلام صلى المغرب بعد غروب الشمس في
اليومين جميعا، والصلاة في اليوم الأول كانت
بيانا لأول الوقت. وأما آخره فقد اختلفوا فيه،
قال أصحابنا: حين يغيب الشفق. وقال الشافعي:
"وقتها ما يتطهر الإنسان ويؤذن ويقيم ويصلي
ثلاث ركعات، حتى لو صلاها بعد ذلك كان قضاء لا
أداء عنده لحديث إمامة جبريل صلى الله عليه
وسلم أنه صلى المغرب في المرتين في وقت واحد".
"ولنا" أن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
وأول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وآخره حين
يغيب الشفق، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "وقت المغرب
ما لم يغب الشفق"، وإنما لم يؤخره جبريل عن
أول الغروب لأن التأخير عن أول الغروب مكروه
إلا لعذر، وأنه جاء ليعلمه المباح من الأوقات
ألا ترى أنه لم يؤخر العصر إلى الغروب
ج / 1 ص -124-
مع
بقاء الوقت إليه ؟ وكذا لم يؤخر العشاء إلى ما
بعد ثلث الليل وإن كان بعده وقت العشاء
بالإجماع.
وأما" أول وقت العشاء فحين يغيب الشفق بلا
خلاف بين أصحابنا، لما روي في خبر أبي هريرة
رضي الله عنه وأول وقت العشاء حين يغيب الشفق
واختلفوا في تفسير الشفق، فعند أبي حنيفة هو
البياض، وهو مذهب أبي بكر وعمر ومعاذ وعائشة
رضي الله عنهم، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي
هو الحمرة، وهو قول عبد الله بن عباس وعبد
الله بن عمر رضي الله عنهم وهو رواية أسد بن
عمرو عن أبي حنيفة. "وجه" قولهم ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا
العشاء" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء بعد مضي ثلث
الليل"، فلو كان الشفق هو البياض لما كان
مؤخرا لها، بل كان مصليا في أول الوقت؛ لأن
البياض يبقى إلى ثلث الليل خصوصا في الصيف
ولأبي حنيفة النص والاستدلال. "أما" النص
فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، جعل الغسق غاية لوقت المغرب، ولا غسق ما بقي النور المعترض. وروي
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: آخر
"وقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق وبياضه"،
والمعترض نوره وفي حديث أبي هريرة رضي الله
عنه وإن آخر وقت المغرب حين يسود الأفق، وإنما
يسود بإخفائها بالظلام. "وأما" الاستدلال فمن
وجهين: لغوي، وفقهي، أما اللغوي فهو أن الشفق
اسم لما رق، يقال: ثوب شفيق أي رقيق، إما من
رقة النسج وإما لحدوث رقة فيه من طول اللبس،
ومنه الشفقة وهي رقة القلب من الخوف أو
المحبة، ورقة نور الشمس باقية ما بقي البياض.
وقيل الشفق اسم لرديء الشيء وباقيه، والبياض
باقي آثار الشمس وأما الفقهي فهو أن صلاتين
تؤديان في أثر الشمس وهما المغرب مع الفجر،
وصلاتين تؤديان في وضح النهار وهما الظهر
والعصر، فيجب أن يؤدي صلاتين في غسق الليل
بحيث لم يبق أثر من آثار الشمس وهما العشاء
والوتر، وبعد غيبوبة البياض لا يبقى أثر
للشمس، ولا حجة لهم في الحديث; لأن البياض
يغيب قبل مضي ثلث الليل غالبا وأما آخر وقت
العشاء فحين يطلع الفجر الصادق عندنا، وعند
الشافعي قولان: في قول حين يمضي ثلث الليل؛
لأن جبريل عليه السلام صلى في المرة الثانية
بعد مضي ثلث الليل، وكان ذلك بيانا لآخر
الوقت، وفي قول يؤخر إلى آخر نصف الليل بعذر
السفر; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ليلة
إلى النصف ثم قال: هو لنا بعذر السفر "ولنا"
ما روى أبو هريرة وأول وقت العشاء حين يغيب
الشفق، وآخره حين يطلع الفجر. وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل وقت
صلاة حتى يخرج وقت أخرى" وقت عدم دخول وقت
الصلاة إلى غاية خروج وقت صلاة أخرى، فلو لم
يثبت الدخول عند الخروج لم يتوقف؛ ولأن الوتر
من توابع العشاء ويؤدى في وقتها، وأفضل وقتها
السحر دل أن السحر آخر وقت العشاء; ولأن أثر
السفر في قصر الصلاة لا في زيادة الوقت،
وإمامة جبريل عليه السلام كان تعليما لآخر
الوقت المستحب، ونحن نقول: "إن ذلك ثلث
الليل".
وأما" بيان الأوقات المستحبة فالسماء لا تخلو
إما أن كانت مصحية أو مغيمة فإن كانت مصحية
ففي الفجر المستحب آخر الوقت، والأسفار بصلاة
الفجر أفضل من التغليس بها في السفر والحضر
والصيف والشتاء في حق جميع الناس، إلا في حق
الحاج بمزدلفة فإن التغليس بها أفضل في حقه
وقال الطحاوي: إن كان من عزمه تطويل القراءة
فالأفضل أن يبدأ بالتغليس بها ويختم بالإسفار،
وإن لم يكن من عزمه تطويل القراءة فالإسفار
أفضل من التغليس وقال الشافعي: التغليس بها
أفضل في حق الكل وجملة المذهب عنده أن أداء
الفرض لأول الوقت أفضل وحده ما دام في النصف
الأول من الوقت، "واحتج" بقوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ} ، والتعجيل من باب المسارعة إلى الخير، وذم الله تعالى: أقواما على
الكسل فقال:
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا
كُسَالَى}، والتأخير من الكسل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن
أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول وقتها. وقال
صلى الله عليه وسلم:
"أول الوقت رضوان الله، وآخر الوقت عفو الله" أي ينال بأداء الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وينال بأدائها في
آخره عفو الله تعالى: واستيجاب الرضوان خير من
استيجاب العفو; لأن الرضوان أكبر الثواب لقوله
تعالى:
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}،
وينال بالطاعات، والعفو ينال بشرط سابقية
الجناية. وروي في الفجر خاصة عن عائشة رضي
الله عنها أن النساء كن
ج / 1 ص -125-
يصلين
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفن
وما يعرفن من شدة الغلس. "ولنا" قول النبي صلى
الله عليه وسلم "أسفروا
بالفجر فإنه أعظم للأجر" رواه رافع
بن خديج وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قبل
ميقاتها إلا صلاتين: صلاة العصر بعرفة وصلاة
الفجر بمزدلفة فإنه قد غلس بها فسمي التغليس
بالفجر صلاة قبل الميقات، فعلم أن العادة كانت
في الفجر الإسفار وعن إبراهيم النخعي أنه قال:
ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
على شيء كاجتماعهم على تأخير العصر والتنوير
بالفجر; ولأن في التغليس تقليل الجماعة لكونه
وقت نوم وغفلة، وفي الإسفار تكثيرها فكان
أفضل، ولهذا يستحب الإبراد بالظهر في الصيف
لاشتغال الناس بالقيلولة; ولأن في حضور
الجماعة في هذا الوقت ضرب حرج خصوصا في حق
الضعفاء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"صل بالقوم صلاة أضعفهم"; ولأن المكث في مكان صلاة الفجر إلى طلوع الشمس مندوب إليه، قال
صلى الله عليه وسلم:
"من صلى
الفجر ومكث حتى تطلع الشمس فكأنما أعتق أربع
رقاب من ولد إسماعيل" وقلما يتمكن من إحراز هذه الفضيلة عند التغليس; لأنه قلما يمكث
فيها لطول المدة، ويتمكن من إحرازها عند
الإسفار فكان أولى، وما ذكر من الدلائل
الجميلة فنقول بها في بعض الصلوات في بعض
الأوقات على ما نذكر، لكن قامت الدلائل في
بعضها على أن التأخير أفضل لمصلحة وجدت في
التأخير، ولهذا قال الشافعي: "بتأخير العشاء
إلى ثلث الليل لئلا يقع في السمر بعد العشاء"،
ثم الأمر بالمسارعة ينصرف إلى مسارعة ورد
الشرع بها، ألا ترى أن الأداء قبل الوقت لا
يجوز وإن كان فيه مسارعة لما لم يرد الشرع
بها؟ وقيل في الحديث: إن العفو عبارة عن
الفضل، قال الله تعالى: -:
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ} أي الفضل، فكان معنى الحديث على هذا والله أعلم أن من أدى الصلاة
في أول الأوقات فقد نال رضوان الله، وأمن من
سخطه وعذابه; لامتثاله أمره وأدائه ما أوجب
عليه، ومن أدى في آخر الوقت فقد نال فضل الله،
ونيل فضل الله لا يكون بدون الرضوان فكانت هذه
الدرجة أفضل من تلك وأما حديث عائشة رضي الله
عنها فالصحيح من الروايات إسفار رسول الله صلى
الله عليه وسلم بصلاة الفجر لما روينا من حديث
ابن مسعود رضي الله عنه فإن ثبت التغليس في
وقت فلعذر الخروج إلى سفر، أو كان ذلك في
الابتداء حين كن النساء يحضرن الجماعات ثم
أمرن بالقرار في البيوت، انتسخ ذلك والله أعلم
وأما في الظهر فالمستحب هو آخر الوقت في الصيف
وأوله في الشتاء، وقال الشافعي: "إن كان يصلي
وحده يعجل في كل وقت، وإن كان يصلي بالجماعة
يؤخر يسيرا لما ذكرنا. وروي عن خباب بن الأرت
أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا"،
فدل أن السنة في التعجيل. "ولنا" ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم"; ولأن التعجيل في الصيف لا يخلو عن أحد أمرين: إما تقليل الجماعة
لاشتغال الناس بالقيلولة، وإما الإضرار بهم
لتأذيهم بالحر. وقد انعدم هذان المعنيان في
الشتاء فيعتبر فيه معنى المسارعة إلى الخير،
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لمعاذ رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمن
"إذا كان الصيف فأبرد بالظهر فإن الناس يقيلون فأمهلهم حتى يدركوا،
وإذا كان الشتاء فصل الظهر حين تزول الشمس فإن
الليالي طوال" وتأويل حديث خباب أنهم طلبوا ترك الجماعة أصلا فلم يشكهم لهذا، على
أن معنى قوله فلم يشكنا أي يدعنا في الشكاية
بل أزال شكوانا بأن أبرد بها والله أعلم
"وأما" العصر فالمستحب فيها هو التأخير ما
دامت الشمس بيضاء نقية لم يدخلها تغيير في
الشتاء والصيف جميعا، وعند الشافعي التعجيل
أفضل لما ذكرنا. وروي عن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي"، وعن أنس
بن مالك رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي العصر فيذهب الذاهب إلى
العوالي وينحر الجزور ويطبخ القدور ويأكل قبل
غروب الشمس". "ولنا" ما روي عن عبد الله بن
مسعود أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء نقية"، وهذا منه
بيان تأخيره للعصر، وقيل: سميت العصر لأنها
تعصر أي تؤخر; ولأن في التأخير تكثير النوافل;
لأن النافلة بعدها مكروهة فكان التأخير أفضل،
ولهذا
ج / 1 ص -126-
كان
التعجيل في المغرب أفضل؛ لأن النافلة قبلها
مكروهة؛ ولأن المكث بعد العصر إلى غروب الشمس
مندوب إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"من صلى العصر ثم مكث في المسجد إلى غروب
الشمس فكأنما أعتق ثمانيا من ولد إسماعيل"، وإنما يتمكن من إحراز هذه الفضيلة بالتأخير لا بالتعجيل لأنه قلما
يمكث. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد كانت
حيطان حجرتها قصيرة فتبقى الشمس طالعة فيها
إلى أن تتغير، وأما حديث أنس فقد كان ذلك في
وقت الصيف ومثله يتأتى للمستعجل إذا كان ذلك
في وقت مخصوص لعذر والله أعلم. "وأما" المغرب
فالمستحب فيها التعجيل في الشتاء والصيف
جميعا، وتأخيرها إلى اشتباك النجوم مكروه، لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء"; ولأن التعجيل سبب لتكثير الجماعة والتأخير سبب لتقليلها; لأن
الناس يشتغلون بالتعشي والاستراحة فكان
التعجيل أفضل، وكذا هو من باب المسارعة إلى
الخير فكان أولى "وأما" العشاء المستحب فيها
التأخير إلى ثلث الليل في الشتاء، ويجوز
التأخير إلى نصف الليل، ويكره التأخير عن
النصف وأما في الصيف فالتعجيل أفضل، وعند
الشافعي المستحب تعجيلها بعد غيبوبة الشفق لما
ذكر، وعن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يصلي العشاء حين يسقط القمر في
الليلة الثالثة وذلك عند غيبوبة الشفق يكون
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "أخر
العشاء إلى ثلث الليل ثم خرج فوجد أصحابه في
المسجد ينتظرونه فقال: أما إنه لا ينتظر هذه
الصلاة في هذا الوقت أحد غيركم ولولا سقم
السقيم وضعف الضعيف لأخرت العشاء إلى هذا
الوقت". وفي حديث آخر قال: "لولا أن أشق على
أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل". وروي عن
عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى
الأشعري: "أن صل العشاء حين يذهب ثلث الليل،
فإن أبيت فإلى نصف الليل، فإن نمت فلا نامت
عيناك" وفي رواية فلا تكن من الغافلين، ولأن
التأخير عن النصف الأخير تعريض لها للفوات،
فإن لم ينم إلى نصف الليل ثم نام فغلبه النوم
فلا يستيقظ في المعتاد إلى ما بعد انفجار
الصبح، وتعريض الصلاة للفوات مكروه، ولأنه لو
عجل في الشتاء ربما يقع في السمر بعد العشاء;
لأن الناس لا ينامون إلى ثلث الليل لطول
الليالي فيشتغلون بالسمر عادة، وأنه منهي عنه،
ولأن يكون اختتام صحيفته بالطاعة أولى من أن
يكون بالمعصية، والتعجيل في الصيف لا يؤدي إلى
هذا القبيح لأنهم ينامون لقصر الليالي فتعتبر
فيه المسارعة إلى الخير، والحديث محمول على
زمان الصيف أو على حال العذر. وكان عيسى بن
أبان يقول: "الأولى تعجيلها للآثار، ولكن لا
يكره التأخير مطلقا، ألا ترى أن العذر لمرض
ولسفر يؤخر المغرب للجمع بينها وبين العشاء
فعلا، ولو كان المذهب كراهة التأخير مطلقا لما
أبيح ذلك بعذر المرض والسفر، كما لا يباح
تأخير العصر إلى تغير الشمس، هذا إذا كانت
السماء مصحية، فإن كانت متغيمة فالمستحب في
الفجر والظهر والمغرب هو التأخير، وفي العصر
والعشاء التعجيل، وإن شئت أن تحفظ هذا فكل
صلاة في أول اسمها "عين" تعجل، وما ليس في أول
اسمها "عين" تؤخر، أما التأخير في الفجر فلما
ذكرنا; ولأنه لو غلس بها فربما تقع قبل انفجار
الصبح، وكذا لو عجل الظهر فربما يقع قبل
الزوال، ولو عجل المغرب عسى يقع قبل الغروب،
ولا يقال لو أخر ربما يقع في وقت مكروه; لأن
الترجيح عند التعارض للتأخير ليخرج عن عهدة
الفرض بيقين وأما تعجيل العصر عن وقتها
المعتاد فلئلا يقع في وقت مكروه وهو وقت تغير
الشمس وليس فيه وهم الوقوع قبل الوقت; لأن
الظهر قد أخر في هذا اليوم، وتعجل العشاء كي
لا تقع بعد انتصاف الليل، وليس في التعجيل
توهم الوقوع قبل الوقت; لأن المغرب قد أخر في
هذا اليوم والله أعلم وروى الحسن عن أبي حنيفة
أن التأخير في الصلوات كلها أفضل في جميع
الأوقات والأحوال، وهو اختيار الفقيه الجليل
أبي أحمد العياضي وعلل وقال: إن في التأخير
ترددا بين وجهي الجواز إما القضاء وإما
الأداء، وفي التعجيل تردد بين وجهي الجواز
والفساد فكان التأخير أولى والله الموفق.
وعلى هذا الأصل قال أصحابنا: إنه لا يجوز
الجمع بين فرضين في وقت أحدهما إلا بعرفة
والمزدلفة فيجمع بين الظهر والعصر في وقت
الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت
العشاء بمزدلفة، اتفق عليه رواة نسك رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه فعله، ولا يجوز الجمع
بعذر السفر والمطر. وقال الشافعي: "يجمع بين
الظهر والعصر في وقت العصر وبين المغرب
والعشاء
ج / 1 ص -127-
في وقت
العشاء بعذر السفر والمطر، "واحتج" بما روى
ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يجمع بعرفة بين الظهر
والعصر، وبمزدلفة بين المغرب والعشاء، ولأنه
يحتاج إلى ذلك في السفر كي لا ينقطع به السير،
وفي المطر كي تكثر الجماعة، إذ لو رجعوا إلى
منازلهم لا يمكنهم الرجوع فيجوز الجمع بهذا
كما يجوز الجمع بعرفة بين الظهر والعصر،
وبمزدلفة بين المغرب والعشاء. "ولنا" أن تأخير
الصلاة عن وقتها من الكبائر فلا يباح بعذر
السفر والمطر كسائر الكبائر، والدليل على أنه
من الكبائر ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من جمع بين
صلاتين في وقت واحد فقد أتى بابا من الكبائر"،
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: "الجمع بين
الصلاتين من الكبائر، ولأن هذه الصلوات عرفت
مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من
الكتاب والسنة المتواترة والإجماع، فلا يجوز
تغييرها عن أوقاتها بضرب من الاستدلال أو بخبر
الواحد، مع أن الاستدلال فاسد"؛ لأن السفر
والمطر لا أثر لهما في إباحة تفويت الصلاة عن
وقتها، ألا ترى أنه لا يجوز الجمع بين الفجر
والظهر مع ما ذكرتم من العذر؟ والجمع بعرفة ما
كان لتعذر الجمع بين الوقوف والصلاة؛ لأن
الصلاة لا تضاد الوقوف بعرفة، بل ثبت غير
معقول المعنى بدليل الإجماع والتواتر عن النبي
صلى الله عليه وسلم فصلح معارضا للدليل
المقطوع به، وكذا الجمع بمزدلفة غير معلول
بالسير، ألا ترى أنه لا يفيد إباحة الجمع بين
الفجر والظهر، وما روي من الحديث في خبر
الآحاد فلا يقبل في معارضة الدليل المقطوع به،
مع أنه غريب ورد في حادثة تعم بها البلوى،
ومثله غير مقبول عندنا ثم هو مؤول وتأويله أنه
جمع بينهما فعلا لا وقتا، بأن أخر الأولى
منهما إلى آخر الوقت ثم أدى الأخرى في أول
الوقت ولا واسطة بين الوقتين فوقعتا مجتمعتين
فعلا، كذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما في سفر
وقال: "هكذا كان يفعل بنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم" دل عليه ما روي عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع
من غير مطر ولا سفر وذلك لا يجوز إلا فعلا،
وعن علي رضي الله عنه أنه جمع بينهما فعلا ثم
قال: "هكذا فعل بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم" وهكذا روي عن أنس بن مالك أنه جمع
بينهما فعلا ثم قال: "هكذا فعل بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم."
وأما الوقت المكروه لبعض الصلوات المفروضة فهو
وقت تغير الشمس للمغيب لأداء صلاة العصر، يكره
أداؤها عنده للنهي عن عموم الصلوات في الأوقات
الثلاثة: منها إذا تضيفت الشمس للمغيب على ما
يذكر. وقد ورد وعيد خاص في أداء صلاة العصر في
هذا الوقت، وهو ما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "يجلس أحدكم حتى إذا كانت
الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر
الله فيها إلا قليلا تلك صلاة المنافقين قالها
ثلاثا"، لكن يجوز أداؤها مع الكراهة حتى يسقط
الفرض عن ذمته، ولا يتصور أداء الفرض وقت
الاستواء قبل الزوال; لأنه لا فرض قبله، وكذا
لا يتصور أداء الفجر مع طلوع الشمس عندنا، حتى
لو طلعت الشمس وهو في خلال الصلاة تفسد صلاته
عندنا، وعند الشافعي لا تفسد ويقول: "إن النهي
عن النوافل لا عن الفرائض" بدليل أن عصر يومه
جائز بالإجماع. "ونحن" نقول النهي عام بصيغته
ومعناه أيضا لما يذكر في قضاء الفرائض في هذه
الأوقات، وروي عن أبي يوسف أن الفجر لا تفسد
بطلوع الشمس لكنه يصبر حتى ترتفع الشمس فيتم
صلاته; لأنا لو قلنا كذلك لكان مؤديا بعض
الصلاة في الوقت، ولو أفسدنا لوقع الكل خارج
الوقت، ولا شك أن الأول أولى والله أعلم.
"والفرق" بينه وبين مؤدي العصر إذا غربت عليه
الشمس وهو في خلال الصلاة قد ذكرناه فيما
تقدم.
ومنها" النية وإنها شرط صحة الشروع في الصلاة؛
لأن الصلاة عبادة، والعبادة إخلاص العمل
بكليته لله تعالى:، قال الله تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ}،
والإخلاص لا يحصل بدون النية. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم "لا عمل لمن لا نية له". وقال:
"الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى"، والكلام
في النية في ثلاث مواضع: أحدها في تفسير
النية، والثاني في كيفية النية، والثالث في
وقت النية. "أما" الأول فالنية هي الإرادة،
فنية الصلاة هي إرادة الصلاة لله تعالى: على
الخلوص، والإرادة عمل القلب. "وأما" كيفية
النية فالمصلي لا يخلو إما أن يكون منفردا،
وإما أن يكون إماما، وإما أن يكون مقتديا. فإن
كان منفردا إن كان
ج / 1 ص -128-
يصلي
التطوع تكفيه نية الصلاة; لأنه ليس لصلاة
التطوع صفة زائدة على أصل الصلاة ليحتاج إلى
أن ينويها، فكان شرط النية فيها لتصير لله
تعالى:، وأنها تصير لله تعالى: بنية مطلق
الصلاة، ولهذا يتأدى صوم النفل خارج رمضان
بمطلق النية. وإن كان يصلي الفرض لا يكفيه نية
مطلق الصلاة; لأن الفرضية صفة زائدة على أصل
الصلاة فلا بد وأن ينويها فينوي فرض الوقت أو
ظهر الوقت أو نحو ذلك، ولا تكفيه نية مطلق
الفرض; لأن غيرها من الصلوات المفروضة مشروعة
في الوقت فلا بد من التعيين. وقال بعضهم:
تكفيه نية الظهر والعصر; لأن ظهر الوقت هو
المشروع الأصلي فيه، وغيره عارض، فعند الإطلاق
ينصرف إلى ما هو الأصل، كمطلق اسم الدرهم أنه
ينصرف إلى نقد البلد، والأول أحوط وحكي عن
الشافعي أنه يحتاج مع نية ظهر الوقت إلى نية
الفرض، وهذا بعيد; لأنه إذا نوى الظهر فقد نوى
الفرض، إذ الظهر لا يكون إلا فرضا، وكذا ينبغي
أن ينوي صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة
الجنازة، وصلاة الوتر; لأن التعيين يحصل بهذا
وإن كان إماما فكذلك الجواب; لأنه منفرد فينوي
ما ينوي المنفرد، وهل يحتاج إلى نية الإمامة ؟
أما نية إمامة الرجال فلا يحتاج إليها ويصح
اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم. وأما نية إمامة
النساء فشرط لصحة اقتدائهن به عند أصحابنا
الثلاثة، وعند زفر ليس بشرط، حتى لو لم ينو لم
يصح اقتداؤهن به عندنا، خلافا لزفر، قاس إمامة
النساء بإمامة الرجال، وهناك النية ليست بشرط
كذا هذا، وهذا القياس غير سديد; لأن المعنى
يوجب الفرق بينهما وهو أنه لو صح اقتداء
المرأة بالرجل فربما تحاذيه فتفسد صلاته
فيلحقه الضرر من غير اختياره، فشرط نية
اقتدائها به حتى لا يلزمه الضرر من غير
التزامه ورضاه، وهذا المعنى منعدم في جانب
الرجال، ولأنه مأمور بأداء الصلاة فلا بد من
أن يكون متمكنا من صيانتها عن النواقض، ولو صح
اقتداؤها به من غير نية لم يتمكن من الصيانة؛
لأن المرأة تأتي فتقتدي به ثم تحاذيه فتفسد
صلاته. وأما في الجمعة والعيدين فأكثر مشايخنا
قالوا: "إن نية إمامتهن شرط فيهما"، ومنهم من
قال: "ليست بشر"; لأنها لو شرطت للحقها الضرر
لأنها لا تقدر على أداء الجمعة والعيدين
وحدها، ولا تجد إماما آخر تقتدي به، والظاهر
أنها لا تتمكن من الوقوف بجنب الإمام في هاتين
الصلاتين لازدحام الناس فصح اقتداؤها لدفع
الضرر عنها بخلاف سائر الصلوات وإن كان مقتديا
فإنه يحتاج إلى ما يحتاج إليه المنفرد، ويحتاج
لزيادة نية الاقتداء بالإمام; لأنه ربما يلحقه
الضرر بالاقتداء فتفسد صلاته بفساد صلاة
الإمام، فشرط نية الاقتداء حتى يكون لزوم
الضرر مضافا إلى التزامه، ثم تفسير نية
الاقتداء بالإمام هو أن ينوي فرض الوقت
والاقتداء بالإمام فيه، أو ينوي الشروع في
صلاة الإمام، أو ينوي الاقتداء بالإمام في
صلاته، ولو نوى الاقتداء بالإمام ولم يعين
صلاة الإمام ولا نوى فرض الوقت هل يجزيه عن
الفرض؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: "لا
يجزيه"; لأن اقتداءه به يصح في الفرض والنفل
جميعا فلا بد من التعيين، مع أن النفل
أدناهما، فعند الإطلاق ينصرف إلى الأدنى ما لم
يعين الأعلى. وقال بعضهم: "يجزيه"; لأن
الاقتداء عبارة عن المتابعة والشركة فيقتضي
المساواة، ولا مساواة إلا إذا كانت صلاته مثل
صلاة الإمام، فعند الإطلاق ينصرف إلى الفرض،
إلا إذا نوى الاقتداء به في النفل. ولو نوى
صلاة الإمام ولم ينو الاقتداء به لم يصح
الاقتداء به؛ لأنه نوى أن يصلي مثل صلاة
الإمام وذلك قد يكون بطريق الانفراد. وقد يكون
بطريق التبعية للإمام فلا تتعين جهة التبعية
بدون النية. من مشايخنا من قال: إذا انتظر
تكبير الإمام ثم كبر بعده كفاه عن نية
الاقتداء; لأن انتظاره تكبيرة الإمام قصد منه
الاقتداء به، وهو تفسير النية، وهذا غير سديد؛
لأن الانتظار متردد قد يكون لقصد الاقتداء.
وقد يكون بحكم العادة فلا يصير مقتديا بالشك
والاحتمال. ولو اقتدى بإمام ينوي صلاته، ولم
يدر أنها الظهر أو الجمعة أجزأه أيهما كان;
لأنه بنى صلاته على صلاة الإمام وذلك معلوم
عند الإمام، والعلم في حق الأصل يغني عن العلم
في حق التبع، والأصل فيه ما روي أن عليا وأبا
موسى الأشعري رضي الله عنهما قدما من اليمن
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقال
صلى الله عليه وسلم: بم أهللتما؟ فقالا:
بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجوز ذلك لهما. وإن لم يكن معلوما وقت الإهلال
فإن لم ينو صلاة الإمام ولكنه نوى الظهر
والاقتداء فإذا هي جمعة فصلاته فاسدة; لأنه
نوى غير صلاة الإمام، وتغاير الفرضين يمنع
ج / 1 ص -129-
صحة
الاقتداء على ما نذكر. ولو نوى صلاة الإمام
والجمعة فإذا هي الظهر جازت صلاته; لأنه لما
نوى صلاة الإمام فقد تحقق البناء فلا يعتبر ما
زاد عليه بعد ذلك، كمن نوى الاقتداء بهذا
الإمام وعنده أنه زيد فإذا هو عمرو كان
اقتداؤه صحيحا، بخلاف ما إذا نوى الاقتداء
بزيد والإمام عمرو ثم المقتدي إذا وجد الإمام
في حال القيام يكبر للافتتاح قائما، ثم يتابعه
في القيام ويأتي بالثناء وإن وجده في الركوع
يكبر للافتتاح قائما، ثم يكبر أخرى مع
الانحطاط للركوع، ويتابعه في الركوع، ويأتي
بتسبيحات الركوع وإن وجده في القومة التي بين
الركوع والسجود، أو في القعدة التي بين
السجدتين يتابعه في ذلك ويسكت، ولا خلاف في أن
المسبوق يتابع الإمام في مقدار التشهد إلى
قوله: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" وهل
يتابعه في الزيادة عليه ذكر القدوري أنه لا
يتابعه عليه; لأن الدعاء مؤخر إلى القعدة
الأخيرة وهذه قعدة أولى في حقه، وروى إبراهيم
بن رستم عن محمد أنه قال: يدعو بالدعوات التي
في القرآن، وروى هشام عن محمد أنه يدعو
بالدعوات التي في القرآن ويصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم. وقال بعضهم: "يسكت" وعن هشام
من ذات نفسه ومحمد بن شجاع البلخي أنه يكرر
التشهد إلى أن يسلم الإمام; لأن هذه قعدة أولى
في حقه، والزيادة على التشهد في القعدة الأولى
غير مسنونة، ولا معنى للسكوت في الصلاة إلا
الاستماع فينبغي أن يكرر التشهد مرة بعد أخرى.
وأما" بيان وقت النية فقد ذكر الطحاوي أنه
يكبر تكبيرة الافتتاح مخالطا لنيته إياها، أي
مقارنا أشار إلى أن وقت النية وقت التكبير،
وهو عندنا محمول على الندب والاستحباب دون
الحتم والإيجاب، فإن تقديم النية على التحريمة
جائز عندنا إذا لم يوجد بينهما عمل يقطع
أحدهما عن الآخر، والقران ليس بشرط، وعند
الشافعي القران شرط "وجه" قوله أن الحاجة إلى
النية لتحقيق معنى الإخلاص، وذلك عند الشروع
لا قبله، فكانت النية قبل التكبير هدرا، وهذا
هو القياس في باب الصوم، إلا أنه سقط القران
هناك لمكان الحرج; لأن وقت الشروع في الصوم
وقت غفلة ونوم، ولا حرج في باب الصلاة فوجب
اعتباره. "ولنا" قول النبي صلى الله عليه
وسلم: "الأعمال بالنيات" مطلقا عن شرط القران،
وقوله: "لكل امرئ ما نوى" مطلقا أيضا، وعنده
لو تقدمت النية لا يكون له ما نوى، وهذا خلاف
النص; ولأن شرط القران لا يخلو عن الحرج فلا
يشترط كما في باب الصوم، فإذا قدم النية ولم
يشتغل بعمل يقطع نيته يجزئه، كذا روي عن أبي
يوسف ومحمد، فإن محمدا ذكر في كتاب المناسك أن
من خرج من بيته يريد الحج فأحرم ولم تحضره نية
الحج عند الإحرام يجزئه، وذكر في كتاب التحري
أن من أخرج زكاة ماله يريد أن يتصدق به على
الفقراء فدفع ولم تحضره نية عند الدفع أجزأه،
وذكر محمد بن شجاع البلخي في نوادره عن محمد
في رجل توضأ يريد الصلاة فلم يشتغل بعمل آخر
وشرع في الصلاة جازت صلاته وإن عريته النية
وقت الشروع. وروي عن أبي يوسف فيمن خرج من
منزله يريد الفرض في الجماعة فلما انتهى إلى
الإمام كبر ولم تحضره النية في تلك الساعة أنه
يجوز. قال الكرخي: "ولا أعلم أحدا من أصحابنا
خالف أبا يوسف في ذلك"، وذلك لأنه لما عزم على
تحقيق ما نوى فهو على عزمه ونيته إلى أن يوجد
القاطع ولم يوجد وبه تبين أن معنى الإخلاص
يحصل بنية متقدمة; لأنها موجودة وقت الشروع
تقديرا على ما مر، وعن محمد بن سلمة أنه إذا
كان بحال لو سئل عند الشروع: أي صلاة تصلي؟
يمكنه الجواب على البديهة من غير تأمل يجزئه
وإلا فلا وإن نوى بعد التكبير لا يجوز، إلا ما
روى الكرخي أنه إذا نوى وقت الثناء يجوز; لأن
الثناء من توابع التكبير، وهذا فاسد; لأن سقوط
القران لمكان الحرج، والحرج يندفع بتقديم
النية فلا ضرورة إلى التأخير. ولو نوى بعد
قوله: " الله " قبل قوله: " أكبر " لا يجوز;
لأن الشروع يصح بقوله: " الله " لما يذكر،
فكأنه نوى بعد التكبير وأما نية الكعبة فقد
روى الحسن عن أبي حنيفة أنها شرط; لأن التوجه
إلى الكعبة هو الواجب في الأصل. وقد عجز عنه
بالبعد فينويها بقلبه، والصحيح أنه ليس بشرط;
لأن قبلته حالة البعد جهة الكعبة وهي المحاريب
لا عين الكعبة لما بينا فيما تقدم، فلا حاجة
إلى النية. وقال بعضهم: "إن أتى به فحسن، وإن
تركه لا يضره وإن نوى مقام إبراهيم عليه
الصلاة والسلام أو المسجد الحرام ولم ينو
الكعبة لا يجوز; لأنه ليس من الكعبة، وعن
الفقيه الجليل أبي أحمد العياضي أنه سئل عمن
نوى مقام إبراهيم عليه السلام فقال: إن
ج / 1 ص -130-
كان
هذا الرجل لم يأت مكة أجزأه; لأن عنده أن
البيت والمقام واحد، وإن كان قد أتى مكة لا
يجوز; لأنه عرف أن المقام غير البيت.
ومنها" التحريمة وهي تكبيرة الافتتاح وإنها
شرط صحة الشروع في الصلاة عند عامة العلماء.
وقال ابن علية وأبو بكر الأصم: أنها ليست بشرط
ويصح الشروع في الصلاة بمجرد النية من غير
تكبير، فزعما أن الصلاة أفعال وليست بأذكار
حتى أنكر افتراض القراءة في الصلاة على ما
ذكرنا فيما تقدم. "ولنا" قول النبي صلى الله
عليه وسلم:
"لا يقبل
الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه،
ويستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر"، نفى قبول الصلاة بدون التكبير، فدل على كونه شرطا، لكن إنما يؤخذ
هذا الشرط على القادر عن العاجز، فلذلك جازت
صلاة الأخرس; ولأن الأفعال أكثر من الأذكار
فالقادر على الأفعال يكون قادرا على الأكثر،
وللأكثر حكم الكل، فكأنه قدر على الأذكار
تقديرا، ثم لا بد من بيان صفة الذكر الذي يصير
به شارعا في الصلاة وقد اختلف فيه فقال أبو
حنيفة ومحمد: يصح الشروع في الصلاة بكل ذكر هو
ثناء خالص لله تعالى: يراد به تعظيمه لا غير،
مثل أن يقول: الله أكبر، الله الأكبر، الله
الكبير، الله أجل، الله أعظم، أو يقول: الحمد
لله أو سبحان الله أو لا إله إلا الله، وكذلك
كل اسم ذكر مع الصفة نحو أن يقول: الرحمن
أعظم، الرحيم أجل، سواء كان يحسن التكبير أو
لا يحسن، وهو قول إبراهيم النخعي. وقال أبو
يوسف: "لا يصير شارعا إلا بألفاظ مشتقة من
التكبير، وهي ثلاثة: الله أكبر، الله الأكبر،
الله الكبير". إلا إذا كان لا يحسن التكبير،
أو لا يعلم أن الشروع بالتكبير. وقال الشافعي:
"لا يصير شارعا إلا بلفظين: الله أكبر، الله
الأكبر" وقال مالك: "لا يصير شارعا إلا بلفظ
واحد، وهو الله أكبر"، واحتج بما روينا من
الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل
الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه،
ويستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر"، نفى
القبول بدون هذه اللفظة فيجب مراعاة عين ما
ورد به النص دون التعليل، إذ التعليل للتعدية
لا لإبطال حكم النص كما في الأذان، ولهذا لا
يقام السجود على الخد والذقن مقام السجود على
الجبهة وبهذا يحتج الشافعي إلا أنه يقول: في
الأكبر أتى بالمشروع وزيادة شيء، فلم تكن
الزيادة مانعة، كما إذا قال: الله أكبر كبيرا،
فأما العدول عما ورد الشرع به فغير جائز وأبو
يوسف يحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
وتحريمها التكبير، والتكبير حاصل بهذه الألفاظ
الثلاثة، فإن أكبر هو الكبير، قال الله تعالى:
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}
أي هين عليه عند بعضهم، إذ ليس شيء أهون على الله من شيء، بل
الأشياء كلها بالنسبة إلى دخولها تحت قدرته
كشيء واحد، والتكبير مشتق من الكبرياء،
والكبرياء تنبئ عن العظمة والقدم، يقال: هذا
أكبر القوم أي أعظمهم منزلة وأشرفهم قدرا،
ويقال: هو أكبر من فلان أي أقدم منه فلا يمكن
إقامة غيره من الألفاظ مقامه لانعدام المساواة
في المعنى، إلا أنا حكمنا بالجواز إذا لم
يحسن، أو لا يعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير
للضرورة وأبو حنيفة ومحمد احتجا بقوله تعالى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، والمراد منه ذكر اسم الرب لافتتاح الصلاة لأنه عقب الصلاة الذكر
بحرف يوجب التعقيب بلا فصل، والذكر الذي
تتعقبه الصلاة بلا فصل هو تكبيرة الافتتاح،
فقد شرع الدخول في الصلاة بمطلق الذكر فلا
يجوز التقييد باللفظ المشتق من الكبرياء
بأخبار الآحاد، وبه تبين أن الحكم تعلق بتلك
الألفاظ من حيث هي مطلق الذكر لا من حيث هي
ذكر بلفظ خاص، وأن الحديث معلول به لأنا إذا
عللناه بما ذكر بقي معمولا به من حيث اشتراط
مطلق الذكر، ولو لم نعلل احتجنا إلى رده أصلا
لمخالفته الكتاب، فإذا ترك التعليل هو المؤدي
إلى إبطال حكم النص دون التعليل، على أن
التكبير يذكر ويراد به التعظيم، قال تعالى:
{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}، أي عظمه تعظيما. وقال تعالى:
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}، أي عظمنه، وقال تعالى:
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي فعظم، فكان الحديث واردا بالتعظيم، وبأي اسم ذكر فقد عظم الله
تعالى: -، وكذا من سبح الله تعالى: فقد عظمه
ونزهه عما لا يليق به من صفات النقص وسمات
الحدث، فصار واصفا له بالعظمة والقدم، وكذا
إذا هلل؛ لأنه إذا وصفه بالتفرد والألوهية فقد
وصفه بالعظمة والقدم لاستحالة ثبوت الإلهية
دونهما، وإنما لم يقم السجود على الخد مقام
السجود على الجبهة للتفاوت في التعظيم كما في
الشاهد، بخلاف الأذان; لأن المقصود منه هو
الإعلام، وأنه لا يحصل إلا بهذه الكلمات
المشهورة المتعارفة فيما بين الناس، حتى لو
حصل الإعلام بغير هذه
ج / 1 ص -131-
الألفاظ يجوز، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة،
وكذا روى أبو يوسف في الأمالي، والحاكم في
المنتقى، والدليل على أن قوله: الله أكبر، أو
الرحمن أكبر سواء قوله تعالى:
{أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ}، ولهذا يجوز الذبح باسم الرحمن، أو باسم الرحيم، فكذا هذا، والذي
يحقق مذهبهما ما روي عن عبد الرحمن السلمي أن
الأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يفتتحون
الصلاة بلا إله إلا الله، ولنا بهم أسوة هذا
إذا ذكر الاسم والصفة، فأما إذا ذكر الاسم لا
غير بأن قال: " الله " لا يصير شارعا عند
محمد، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يصير
شارعا، وكذا روى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
لمحمد أن النص ورد بالاسم والصفة فلا يجوز
الاكتفاء بمجرد الاسم ولأبي حنيفة أن النص
معلول بمعنى التعظيم، وأنه يحصل بالاسم
المجرد، والدليل عليه أنه يصير شارعا بقوله: "
لا إله إلا الله "، والشروع إنما يحصل بقوله:
" الله " لا بالنفي، ولو قال: " اللهم اغفر
لي" لا يصير شارعا بالإجماع; لأنه لم يخلص
تعظيما لله تعالى: بل هو للمسألة والدعاء دون
خالص الثناء والتعظيم. ولو قال: " اللهم"
اختلف المشايخ فيه لاختلاف أهل اللغة في
معناه، قال بعضهم: يصير شارعا; لأن الميم في
قوله اللهم بدل عن النداء، كأنه قال: "يا
الله". وقال بعضهم: "لا يصير شارعا; لأن الميم
في قوله: "اللهم" بمعنى السؤال، معناه اللهم
آمنا بخير، أي أردنا به فيكون دعاء لا ثناء
خالصا كقوله: اللهم اغفر لي ولو افتتح الصلاة
بالفارسية بأن قال: خداي بزر كنر أو خداي بزرك
يصير شارعا عند أبي حنيفة، وعندهما لا يصير
شارعا إلا إذا كان لا يحسن العربية. ولو ذبح
وسمى بالفارسية يجوز بالإجماع، فأبو يوسف مر
على أصله في مراعاة المنصوص عليه، والمنصوص
عليه لفظة التكبير بقوله صلى الله عليه وسلم:
"وتحريمها التكبير"، وهي لا تحصل بالفارسية،
وفي باب الذبح المنصوص عليه هو مطلق الذكر
بقوله:
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ} وذا يحصل بالفارسية، ومحمد فرق فجوز النقل إلى لفظ آخر من العربية،
ولم يجوز النقل إلى الفارسية فقال: "العربية
لبلاغتها ووجازتها تدل على معان لا تدل عليها
الفارسية"، فتحتمل الخلل في المعنى عند النقل
منها إلى الفارسية، وكذا للعربية من الفضيلة
ما ليس لسائر الألسنة، ولهذا كان الدعاء
بالعربية أقرب إلى الإجابة، ولذلك خص الله
تعالى: أهل كرامته في الجنة بالتكلم بهذه
اللغة; فلا يقع غيرها من الألسنة موقع كلام
العرب، إلا أنه إذا لم يحسن جاز لمكان العذر
وأبو حنيفة اعتمد كتاب الله تعالى: في اعتبار
مطلق الذكر، واعتبر معنى التعظيم، وكل ذلك
حاصل بالفارسية ثم شرط صحة التكبير أن يوجد في
حالة القيام في حق القادر على القيام، سواء
كان إماما أو منفردا أو مقتديا، حتى لو كبر
قاعدا ثم قام لا يصير شارعا، ولو وجد الإمام
في الركوع أو السجود أو القعود ينبغي أن يكبر
قائما ثم يتبعه في الركن الذي هو فيه، ولو كبر
للافتتاح في الركن الذي هو فيه لا يصير شارعا
لعدم التكبير قائما مع القدرة عليه.
ومنها" تقدم قضاء الفائتة التي يتذكرها إذا
كانت الفوائت قليلة، وفي الوقت سعة، هو شرط
جواز أداء الوقتية، فهذا عندنا، وعند الشافعي
ليس بشرط، ولقب المسألة أن الترتيب بين القضاء
والأداء شرط جواز الأداء عندنا، وإنما يسقط
بمسقط، وعنده ليس بشرط أصلا، ويجوز أداء
الوقتية قبل قضاء الفائتة فيقع الكلام فيه في
الأصل في موضعين: أحدهما في اشتراط هذا النوع
من الترتيب، والثاني في بيان ما يسقطه. "أما"
الأول فجملة الكلام فيه أن الترتيب في الصلاة
على أربعة أقسام: أحدها الترتيب في أداء هذه
الصلوات الخمس، والثاني الترتيب في قضاء
الفائتة وأداء الوقتية، والثالث الترتيب في
الفوائت، والرابع الترتيب في أفعال الصلاة.
"أما" الأول فلا خلاف في أن الترتيب في أداء
الصلوات المكتوبات في أوقاتها شرط جواز
أدائها، حتى لا يجوز أداء الظهر في وقت الفجر،
ولا أداء العصر في وقت الظهر; لأن كل واحدة من
هذه الصلوات لا تجب قبل دخول وقتها، وأداء
الواجب قبل وجوبه محال، واختلف فيما سوى ذلك.
"أما" الترتيب بين قضاء الفائتة وأداء الوقتية
فقد قال أصحابنا: "إنه شرط". وقال الشافعي:
"ليس بشرط". "وجه" قوله أن هذا الوقت صار
للوقتية بالكتاب والسنة المتواترة وإجماع
الأمة، فيجب أداؤها في وقتها كما في حال ضيق
الوقت وكثرة الفوائت والنسيان. "ولنا" قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها " وفي
بعض الروايات: "لا وقت لها إلا ذلك، فقد جعل
وقت التذكر وقت الفائتة"، فكان أداء الوقتية
قبل قضاء الفائتة أداء قبل وقتها فلا يجوز
ج / 1 ص -132-
وروي
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع
الإمام فليصل مع الإمام وليجعلها تطوعا، ثم
ليقض ما تذكر ثم ليعد ما كان صلاه مع الإمام"،
وهذا عين مذهبنا أنه تفسد الفرضية للصلاة إذا
تذكر الفائتة فيها، ويلزمه الإعادة، بخلاف حال
ضيق الوقت وكثرة الفوائت والنسيان؛ لأنا إنما
عرفنا كون هذا الوقت وقتا للوقتية بنص الكتاب
والسنة المتواترة والإجماع، وعرفنا كونه وقتا
للفائتة بخبر الواحد، والعمل بخبر الواحد إنما
يجب على وجه لا يؤدي إلى إبطال العمل بالدليل
المقطوع به، والاشتغال بالفائتة عند ضيق الوقت
إبطال العمل به؛ لأنه تفويت للوقتية عن الوقت،
وكذا عند كثرة الفوائت؛ لأن الفوائت إذا كثرت
تستغرق الوقت فتفوت الوقتية عن وقتها; ولأن
الشرع إنما جعل الوقت وقتا للفائتة لتدارك ما
فات فلا يصير وقتا لها على وجه يؤدي إلى تفويت
صلاة أخرى وهي الوقتية; ولأن جعل الشرع وقت
التذكر وقتا للفائتة على الإطلاق ينصرف إلى
وقت ليس بمشغول; لأن المشغول لا يشغل، كما
انصرف إلى وقت لا تكره الصلاة فيه. "وأما"
النسيان فلأن خبر الواحد جعل وقت التذكر وقتا
للفائتة، ولا تذكر ههنا فلم يصر الوقت وقتا
للفائتة فبقي وقتا للوقتية فأما ههنا فقد وجد
التذكر فكان الوقت للفائتة بخبر الواحد، وليس
في هذا إبطال العمل بالدليل المقطوع به، بل هو
جمع بين الدلائل، إذ لا يفوته شيء من الصلوات
عن وقتها، وليس فيه أيضا شغل ما هو مشغول،
وهذا لأنه لو أخر الوقتية وقضى الفائتة تبين
أن وقت الوقتية ما اتصل به الأداء، وأن ما قبل
ذلك لم يكن وقتا لها بل كان وقتا للفائتة بخبر
الواحد، فلا يؤدي إلى إبطال العمل بالدليل
المقطوع به. فأما عند ضيق الوقت وإن لم يتصل
به أداء الوقتية لا يتبين أنه ما كان وقتا له
حتى تصير الصلاة فائتة وتبقى دينا عليه، وعلى
هذا الخلاف الترتيب في الفوائت أنه كما يجب
مراعاة الترتيب بين الوقتية والفائتة عندنا
يجب مراعاته بين الفوائت إذا كانت الفوائت في
حد القلة عندنا أيضا; لأن قلة الفوائت لم تمنع
وجوب الترتيب في الأداء فكذا في القضاء،
والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما شغل عن أربع صلوات يوم الخندق قضاهن
بعد هوي من الليل على الترتيب ثم قال: "صلوا
كما رأيتموني أصلي"، ويبنى على هذا إذا ترك
الظهر والعصر من يومين مختلفين، ولا يدري
أيتهما أولى فإنه يتحرى; لأنه اشتبه عليه أمر
لا سبيل إلى الوصول إليه بيقين وهو الترتيب
فيصار إلى التحري; لأنه عند انعدام الأدلة قام
مقام الدليل الشرعي، كما إذا اشتبهت عليه
القبلة فإن مال قلبه إلى شيء عمل به؛ لأنه جعل
كالثابت بالدليل، وإن لم يستقر قلبه على شيء
وأراد الأخذ بالثقة يصليهما ثم يعيد ما صلى
أولا أيتهما كانت، إلا أن البداءة بالظهر
أولى؛ لأنها أسبق وجوبا في الأصل، فيصلي الظهر
ثم العصر ثم الظهر; لأن الظهر لو كانت هي التي
فاتت أولا فقد وقعت موقعها وجازت وكانت الظهر
التي أداها بعد العصر ثانية نافلة له، ولو
كانت العصر هي المتروكة أولا كانت الظهر التي
أداها قبل العصر نافلة له، فإذا أدى العصر
بعدها فقد وقعت موقعها وجازت، ثم إذا أدى
الظهر بعدها وقعت موقعها وجازت فيعمل كذلك
ليخرج عما عليه بيقين، وهذا قول أبي حنيفة،
وقال أبو يوسف ومحمد: لا نأمره إلا بالتحري،
كذا ذكره أبو الليث ولم يذكر أنه إذا استقر
قلبه على شيء كيف يصنع عندهما، وذكر الشيخ
الإمام صدر الدين أبو المعين أنه يصلي كل صلاة
مرة واحدة، وقيل: لا خلاف في هذه المسألة على
التحقيق; لأنه ذكر الاستحباب على قول أبي
حنيفة، وهما ما بينا الاستحباب، وذكر عدم وجوب
الإعادة على قولهما وأبو حنيفة ما أوجب
الإعادة. "وجه" قولهما: أن الواجب في موضع
الشك والاشتباه هو التحري والعمل به لا الأخذ
باليقين، ألا ترى أن من شك في جهة القبلة يعمل
بالتحري ولا يأخذ باليقين بأن يصلي صلاة واحدة
أربع مرات إلى أربع جهات؟ وكذا من شك في صلاة
واحدة فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا يتحرى ولا
يبني على اليقين وهو الأقل كذا هذا؛ ولأنه لو
صلى إحدى الصلاتين مرتين فإنما يصلي مراعاة
للترتيب، والترتيب في هذه الحالة ساقط؛ لأنه
حين بدأ بإحداهما لم يعلم يقينا أن عليه صلاة
أخرى قبل هذه لتصير هذه مؤداة قبل وقتها فسقط
عنه الترتيب. ولأبي حنيفة أنه مهما أمكن الأخذ
باليقين كان أولى إلا إذا تضمن فسادا كما في
مسألة القبلة، فإن الأخذ بالثقة ثمة يؤدي إلى
الفساد
ج / 1 ص -133-
حيث
يقع ثلاث من الصلوات إلى غير القبلة بيقين،
ولا تجوز الصلاة إلى غير القبلة بيقين من غير
ضرورة، فيتعذر العمل باليقين دفعا للفساد
وههنا لا فساد; لأن أكثر ما في الباب أنه يصلي
إحدى الصلاتين مرتين فتكون إحداهما تطوعا،
وكذا في المسألة الثانية إنما لا يبنى على
الأقل لاحتمال الفساد لجواز أنه قد صلى أربعا
فيصير بالقيام إلى الأخرى تاركا للقعدة
الأخيرة وهي فرض فتفسد صلاته، ولو أمر بالقعدة
أولا ثم بالركعة لحصلت في الثالثة وأنه غير
مشروع، وههنا يصير آتيا بالواجب وهو الترتيب
من غير أن يتضمن فسادا، فكان الأخذ بالاحتياط
أولى، وصار هذا كما إذا فاتته واحدة من
الصلوات الخمس ولا يدري أيتها هي أنه يؤمر
بإعادة صلاة يوم وليلة احتياطا كذا ههنا.
"وأما" قولهما حين بدأ بإحداهما لا يعلم يقينا
أن عليه أخرى قبل هذه فكان الترتيب عنه ساقطا
فنقول: حين صلى هذه يعلم يقينا أن عليه أخرى
لكنه لا يعلم أنها سابقة على هذه أو متأخرة
عنها، فإن كانت سابقة عليها لم تجز المؤداة
لعدم مراعاة الترتيب، وإن كانت المؤداة سابقة
جازت، فوقع الشك في الجواز فصارت المؤداة أول
مرة دائرة بين الجواز والفساد فلا يسقط عنه
الواجب بيقين عند وقوع الشك في الجواز فيؤمر
بالإعادة والله أعلم. ولو شك في ثلاث صلوات
الظهر من يوم، والعصر من يوم، والمغرب من يوم
ذكر القدوري أن المتأخرين اختلفوا في هذا،
منهم من قال: إنه يسقط الترتيب; لأن ما بين
الفوائت يزيد على هذا ست صلوات، فصارت الفوائت
في حد الكثرة فلا يجب اعتبار الترتيب في
قضائها، فيصلي أية صلاة شاء، وهذا غير سديد;
لأن موضع هذه المسائل في حالة النسيان على ما
يذكر، والترتيب عند النسيان ساقط فكانت
المؤديات بعد الفائتة في أنفسها جائزة لسقوط
الترتيب، فبقيت الفوائت في أنفسها في حد القلة
فوجب اعتبار الترتيب فيها، فينبغي أن يصلي في
هذه الصورة سبع صلوات: يصلي الظهر أولا، ثم
العصر، ثم الظهر، ثم المغرب، ثم الظهر، ثم
العصر، ثم الظهر، مراعاة للترتيب بيقين،
والأصل في ذلك أن يعتبر الفائتتين إذا انفردتا
فيعيدهما على الوجه الذي بينا، ثم يأتي
بالثالثة، ثم يأتي بعد الثالثة ما كان يفعله
في الصلاتين، وعلى هذا إذا كانت الفوائت أربعا
بأن ترك العشاء من يوم آخر فإنه يصلي سبع
صلوات كما ذكرنا في المغرب، ثم يصلي العشاء،
ثم يصلي بعدها سبع صلوات مثل ما كان يصلي قبل
الرابعة. فإن قيل: في الاحتياط ههنا حرج عظيم،
فإنه إذا فاتته خمس صلوات: الظهر والعصر
والمغرب والعشاء والفجر من أيام مختلفة لا
يدري أي ذلك أول يحتاج إلى أن يؤدي إحدى
وثلاثين صلاة وفيه من الحرج ما لا يخفى،
فالجواب أن بعض مشايخنا قالوا: إن ما قالاه هو
الحكم المراد; لأنه لا يمكن إيجاب القضاء مع
الاحتمال، إلا أن ما قاله أبو حنيفة احتياط لا
حتم، ومنهم من قال: "لا بل الاختلاف بينهم في
حكم المراد، وإعادة الأولى واجبة عند أبي
حنيفة; لأن الترتيب في القضاء واجب فإذا لم
يعلم به حقيقة وله طريق في الجملة يجب المصير
إليه، وهذا وإن كان فيه نوع مشقة لكنه مما لا
يغلب وجوده فلا يؤدي إلى الحرج، ثم ما ذكرنا
من الجواب في حالة النسيان بأن صلى أياما ولم
يخطر بباله أنه ترك شيئا منها، ثم تذكر
الفوائت ولم يتذكر الترتيب فأما إذا كان ذاكرا
للفوائت حتى صلى أياما مع تذكرها ثم نسي سقط
الترتيب ههنا; لأن الفوائت صارت في حد الكثرة;
لأن المؤديات بعد الفوائت عندهما فاسدة إلى
الست وإذا فسدت كثرت الفوائت فسقط الترتيب،
فله أن يصلي أية صلاة شاء من غير الحاجة إلى
التحري وأما على قياس قول أبي حنيفة لا يسقط
الترتيب; لأن المؤديات عنده تنقلب إلى الجواز
إذا بلغت مع الفائتة ستا، وإذا انقلبت إلى
الجواز بقيت الفوائت في حد القلة فوجب اعتبار
الترتيب فيها، فالحاصل أنه يجب النظر إلى
الفوائت فما دامت في حد القلة وجب مراعاة
الترتيب فيها، وإذا كثرت سقط الترتيب فيها;
لأن كثرة الفوائت تسقط الترتيب في الأداء فلأن
يسقط في القضاء أولى، هذا إذا شك في صلاتين
فأكثر، فأما إذا شك في صلاة واحدة فاتته ولا
يدري أية صلاة هي يجب عليه التحري لما قلنا،
فإن لم يستقر قلبه على شيء يصلي خمس صلوات
ليخرج عما عليه بيقين. وقال محمد بن مقاتل
الرازي: "إنه يصلي ركعتين ينوي بهما الفجر،
ويصلي ثلاث ركعات أخر بتحريمة على حدة ينوي
بها المغرب، ثم يصلي أربعا ينوي بها ما فاتته،
فإن كانت الفائتة ظهرا أو عصرا أو عشاء انصرفت
هذه إليها وقال سفيان الثوري: "يصلي أربعا
ينوي بها ما
ج / 1 ص -134-
عليه
لكن بثلاث قعدات فيقعد، على رأس الركعتين
والثلاث والأربع وهو قول بشر، حتى لو كانت
المتروكة فجرا لجازت لقعوده على رأس الركعتين
والثاني يكون تطوعا، ولو كانت المغرب لجازت
لقعوده على ثلاث، ولو كانت من ذوات الأربع
كانت كلها فرضا وخرج عن العهدة بيقين، إلا أن
ما قلناه أحوط; لأن من الجائز أن يكون عليه
صلاة أخرى كان تركها في وقت آخر، ولو نوى ما
عليه ينصرف إلى تلك الصلاة أو يقع التعارض فلا
ينصرف إلى هذه التي يصلي، فيعيد صلاة يوم
وليلة ليخرج عن عهدة ما عليه بيقين، وعلى هذا
لو ترك سجدة من صلب صلاة مكتوبة ولم يدر أية
صلاة هي يؤمر بإعادة خمس صلوات لأنها من أركان
الصلاة، فصار الشك فيها كالشك في الصلاة.
وأما" بيان ما يسقط به الترتيب فالترتيب بين
قضاء الفائتة وأداء الوقتية يسقط بأحد خصال
ثلاث: أحدها ضيق الوقت بأن يذكر في آخر الوقت
بحيث لو اشتغل بالفائتة يخرج الوقت قبل أداء
الوقتية، سقط عنه الترتيب في هذه الحالة، لما
ذكرنا أن في مراعاة الترتيب فيها إبطال العمل
بالدليل المقطوع به بدليل فيه شبهة، وهذا لا
يجوز، ولو تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر
بعد ما تغيرت الشمس فإنه يصلي العصر ولا يجزئه
قضاء الظهر، لما ذكرنا فيما تقدم أن قضاء
الصلاة في هذا الوقت قضاء الكامل بالناقص،
بخلاف عصر يومه. وأما إذا تذكرها قبل تغير
الشمس لكنه بحال لو اشتغل بقضائها لدخل عليه
وقت مكروه لم يذكر في ظاهر الرواية، واختلف
المشايخ فيه، قال بعضهم: "لا يجوز له أن يؤدي
العصر قبل أن يراعي الترتيب فيقضي الظهر ثم
يصلي العصر"; لأنه لا يخاف خروج الوقت، فلم
يتضيق الوقت فبقي وجوب الترتيب. وقال بعضهم:
"لا. بل يسقط الترتيب فيصلي العصر قبل الظهر
ثم يصلي الظهر بعد غروب الشمس"، وذكر الفقيه
أبو جعفر الهندواني وقال: "هذا عندي على
الاختلاف الذي في صلاة الجمعة، وهو أن من تذكر
في صلاة الجمعة أنه لم يصل الفجر ولو اشتغل
بالفجر يخاف فوت الجمعة، ولا يخاف فوت الوقت:
على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يصلي الفجر ثم
الظهر، فلم يجعلا فوت الجمعة عذرا في سقوط
الترتيب"، وعلى قول محمد يصلي الجمعة ثم
الفجر، فجعل فوت الجمعة عذرا في سقوط الترتيب،
فكذا في هذه المسألة، على قولهما يجب أن لا
يجوز العصر وعليه الظهر فيصلي الظهر ثم العصر
وعلى قول محمد يمضي على صلاته. ولو افتتح
العصر في أول الوقت وهو ذاكر أن عليه الظهر
وأطال القيام والقراءة حتى دخل عليه وقت مكروه
لا تجوز صلاته; لأن شروعه في العصر مع ترك
الظهر لم يصح، فيقطع ثم يفتتحها ثانيا ثم يصلي
الظهر بعد الغروب. ولو افتتحها وهو لا يعلم أن
عليه الظهر فأطال القيام والقراءة حتى دخل وقت
مكروه ثم تذكر يمضي على صلاته; لأن المسقط
للترتيب قد وجد عند افتتاح الصلاة واختتامها،
وهو النسيان وضيق الوقت ولو افتتح العصر في
حال ضيق الوقت وهو ذاكر للظهر فلما صلى منها
ركعة أو ركعتين غربت الشمس القياس أن يفسد
العصر; لأن العذر قد زال وهو ضيق الوقت فعاد
الترتيب، وفي الاستحسان يمضي فيها ثم يقضي
الظهر ثم يصلي المغرب ذكره في نوادر الصلاة.
"والثاني" النسيان لما ذكرنا أن خبر الواحد
جعل وقت التذكر وقتا للفائتة، ولا تذكر ههنا،
فوجب العمل بالدليل المقطوع به. وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوما ثم قال:
"رآني أحد منكم صليت العصر ؟ فقالوا: لا فصلى
العصر ولم يعد المغرب، ولو وجب الترتيب لأعاد،
وعلى هذا لو صلى الظهر على غير وضوء وصلى
العصر بوضوء وهو ذاكر لما صنع فأعاد الظهر ولم
يعد العصر، وصلى المغرب وهو يظن أن العصر
تجزئه أعاد العصر ولم يعد المغرب; لأن أداء
الظهر على غير وضوء والامتناع عنه بمنزلة فوات
شرط أهلية الصلاة، فحين صلى العصر صلى وهو
يعلم أن الظهر غير جائزة. ولو لم يعلم وكان
يظن أنها جائزة لم يكن هذا الظن معتبرا; لأنه
نشأ عن جهل، والظن إنما يعتبر إذا نشأ عن دليل
أو شبهة دليل، ولم يوجد فكان هذا جهلا محضا،
فقد صلى العصر وهو عالم أن عليه الظهر فكان
مصليا العصر في وقت الظهر فلم يجز، ولو صلى
المغرب قبل إعادتهما جميعا لا يجوز; لأنه صلى
المغرب وهو يعلم أن عليه الظهر فصار المغرب
في، وقت الظهر فلم يجز فأما لو كان أعاد الظهر
ولم يعد العصر فظن جوازها ثم صلى المغرب فإنه
يؤمر بإعادة العصر ولا يؤمر بإعادة المغرب;
لأن ظنه أن عصره جائز ظن معتبر; لأنه نشأ عن
شبهة دليل، ولهذا خفي على الشافعي فحين
ج / 1 ص -135-
صلى
المغرب صلاها وعنده أن لا عصر عليه; لأنه
أداها بجميع أركانها وشرائطها المختصة بها،
إنما خفي عليه بناء على شبهة دليل، ومن صلى
المغرب وعنده أن لا عصر عليه حكم بجواز المغرب
كما لو كان ناسيا للعصر، بل هذا فوق النسيان;
لأن ظن الناسي لم ينشأ عن شبهة دليل بل عن
غفلة طبيعية، وهذا الظن نشأ عن شبهة دليل فكان
هذا فوق ذلك، ثم هناك حكم بجواز المغرب فههنا
أولى، ثم العلم بالفائتة كما هو شرط لوجوب
الترتيب فالعلم بوجوبها حال الفوات شرط لوجوب
قضائها، حتى أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب
ومكث فيها سنة ولم يعلم أن عليه الصلاة فلم
يصل ثم علم لا يجب عليه قضاؤها في قول أصحابنا
الثلاثة وقال زفر: "عليه قضاؤها". ولو كان هذا
ذميا أسلم في دار الإسلام فعليه قضاؤها
استحسانا، والقياس أن لا قضاء عليه، وهو قول
الحسن "وجه" قول زفر: أنه بالإسلام التزم
أحكامه، ووجوب الصلاة من أحكام الإسلام
فيلزمه، ولا يسقط بالجهل، كما لو كان هذا في
دار الإسلام. "ولنا" أن الذي أسلم في دار
الحرب منع عنه العلم لانعدام سبب العلم في
حقه، ولا وجوب على من منع عنه العلم كما لا
وجوب على من منع عنه القدرة بمنع سببها، بخلاف
الذي أسلم في دار الإسلام; لأنه ضيع العلم حيث
لم يسأل المسلمين عن شرائع الدين مع تمكنه من
السؤال، والوجوب متحقق في حق من ضيع العلم كما
يتحقق في حق من ضيع القدرة، ولم يوجد التضييع
ههنا إذ لا يوجد في الحرب من يسأله عن شرائع
الإسلام، حتى لو وجد ولم يسأله يجب عليه،
ويؤاخذ بالقضاء إذا علم بعد ذلك; لأنه ضيع
العلم وما منع منه كالذي أسلم في دار الإسلام.
وقد خرج الجواب عما قاله زفر أنه التزم أحكام
الإسلام؛ لأنا نقول: "نعم لكن حكما له سبيل
الوصول إليه ولم يوجد، فإن بلغه في دار الحرب
رجل واحد فعليه القضاء فيما يترك بعد ذلك في
قول أبي يوسف ومحمد، وهو إحدى الروايتين عن
أبي حنيفة، وفي رواية الحسن عنه لا يلزمه ما
لم يخبره رجلان أو رجل وامرأتان. "وجه" هذه
الرواية أن هذا خبر ملزم، ومن أصله اشتراط
العدد في الخبر الملزم، كما في الحجر على
المأذون، وعزل الوكيل، والإخبار بجناية العبد.
"وجه" الرواية الأخرى وهي الأصح أن كل واحد
مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ، قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "ألا فليبلغ الشاهد الغائب"
وقال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم
يسمعها"، فهذا
المبلغ نظير الرسول من المولي والموكل، وخبر
الرسول هناك ملزم فههنا كذلك والله أعلم.
والثالث" كثرة الفوائت، وقال بشر المريسي:
الترتيب لا يسقط بكثرة الفوائت حتى إن من ترك
صلاة واحدة فصلى في جميع عمره وهو ذاكر
للفائتة فصلاة عمره على الفساد ما لم يقض
الفائتة. "وجه" قوله أن الدليل الموجب للترتيب
لا يوجب الفصل بين قليل الفائت وكثيره; ولأن
كثرة الفوائت تكون عن كثرة تفريطه فلا يستحق
به التخفيف. "ولنا" أن الفوائت إذا كثرت لو
وجب مراعاة الترتيب معها لفاتت الوقتية عن
الوقت، وهذا لا يجوز، لما ذكرنا أن فيه إبطال
ما ثبت بالدليل المقطوع به بخبر الواحد، ثم
اختلف في حد أدنى الفوائت الكثيرة: في ظاهر
الرواية أن تصير الفوائت ستا، فإذا خرج وقت
السادسة سقط الترتيب حتى يجوز أداء السابعة
قبلها. وروى ابن سماعة عن محمد هو أن تصير
الفوائت خمسا، فإذا دخل وقت السادسة سقط
الترتيب حتى يجوز أداء السادسة وعن زفر أنه
يلزمه مراعاة الترتيب في صلاة شهر، ولم يرو
عنه أكثر من شهر، فكأنه جعل حد الكثرة أن يزيد
على شهر. "وجه" ما روي عن محمد أن الكثير في
كل باب كل جنسه، كالجنون إذا استغرق الشهر في
باب الصوم، والصحيح جواب ظاهر الرواية; لأن
الفوائت لا تدخل في حد التكرار بدخول وقت
السادسة، وإنما تدخل بخروج وقت السادسة; لأن
كل واحدة منها تصير مكررة، فعلى هذا لو ترك
صلاة ثم صلى بعدها خمس صلوات وهو ذاكر للفائتة
فإنه يقضيهن; لأنهن في حد القلة بعد، ومراعاة
الترتيب واجبة عند قلة الفوائت; لأنه يمكن جعل
الوقت وقتا لهن على وجه لا يؤدي إلى إخراجه من
أن يكون وقتا للوقتية، فصار مؤديا كل صلاة
منها في وقت المتروكة. والمتروكة قبل المؤداة،
فصار مؤديا المؤداة قبل وقتها فلم يجز، وعلى
قياس ما روي عن محمد يقضي المتروكة وأربعا
بعدها; لأن السادسة جائزة، ولو لم يقضها حتى
صلى السابعة فالسابعة جائزة بالإجماع; لأن وقت
السابعة وهي المؤداة السادسة لم يجعل وقتا
للفوائت
ج / 1 ص -136-
لأنه
لو جعل وقتا لهن لخرج من أن يكون وقتا للوقتية
لاستيعاب تلك الفوائت هذا الوقت وفيه إبطال
العمل بالدليل المقطوع به بخبر الواحد على ما
بينا، فبقي وقتا للوقتية، فإذا أداها حكم
بجوازها لحصولها في وقتها، بخلاف ما إذا كانت
المؤديات بعد المتروكة خمسا; لأن هناك أمكن أن
يجعل الوقت وقتا للفائتة على وجه لا يخرج من
أن يكون وقتا للوقتية فيجعل عملا بالدليلين،
ثم إذا صلى السابعة تعود المؤديات الخمس إلى
الجواز في قول أبي حنيفة وعليه قضاء الفائتة
وحدها استحسانا، وعلى قولهما عليه قضاء
الفائتة وخمس صلوات بعدها، وهو القياس، وعلى
هذا إذا ترك خمس صلوات ثم صلى السادسة وهو
ذاكر للفوائت فالسادسة موقوفة عند أبي حنيفة،
حتى لو صلى السابعة تنقلب السادسة إلى الجواز
عنده، وعليه قضاء الخمس وعندهما لا تنقلب
وعليه قضاء الست. وكذلك لو ترك صلاة ثم صلى
شهرا وهو ذاكر للفائتة فعليه قضاؤها لا غير
عند أبي حنيفة، وعندهما عليه قضاء الفائتة
وخمس بعدها، إلا على قياس ما روي عن محمد أن
عليه قضاء الفائتة وأربع بعدها، وعلى قول زفر
يعيد الفائتة وجميع ما صلى بعدها من صلاة
الشهر، وهذه المسألة التي يقال لها: " واحدة
تصحح خمسا وواحدة تفسد خمسا; لأنه إن صلى
السادسة قبل القضاء صح الخمس عند أبي حنيفة،
وإن قضى المتروكة قبل أن يصلي السادسة فسدت
الخمس. "وجه" قولهما "أن كل مؤداة إلى الخمس
حصلت في وقت المتروكة"; لأنه يمكن جعل ذلك
الوقت وقتا للمتروكة لكون المتروكة في حد
القلة، ووقت المتروكة قبل وقت هذه المؤداة،
فحصلت المؤداة قبل وقتها ففسدت، فلا معنى بعد
ذلك للحكم بجوازها ولا للحكم بتوقفها للحال.
"وأما" وجه قول أبي حنيفة فقد اختلف فيه
عبارات المشايخ، قال مشايخ بلخ: إنا وجدنا
صلاة بعد المتروكة جائزة وهي السادسة. وقد
أداها على نقص التركيب وترك التأليف، فكذا
يحكم بجواز ما قبلها وإن أداها على ترك
التأليف ونقص التركيب، وهذه نكتة واهية; لأنه
جمع بين السادسة وبين ما قبلها في الجواز من
غير جامع بينهما، بل مع قيام المعنى المفرق،
لما ذكرنا أن وقت السادسة ليس بوقت للمتروكة
على ما قررنا، ووقت كل صلاة مؤداة قبل السادسة
وقت للمتروكة، فكان أداء السادسة أداء في
وقتها فجازت، وأداء كل مؤداة أداء قبل وقتها
فلم تجز. "وقال" مشايخ العراق: "إن الكثرة علة
سقوط الترتيب، فإذا أدى السادسة فقد ثبتت
الكثرة وهي صفة للكل لا محالة، فاستندت إلى
أول المؤديات فنستند لحكمها فيثبت الجواز
للكل"، وهذه نكتة ضعيفة أيضا; لأن الكثرة وإن
صارت صفة للكل لكنها تثبت للحال إلا أن يتبين
أن أول المؤديات كما أديت تثبت لها صفة الكثرة
قبل وجود ما يتعقبها لاستحالة كثرة الوجود بما
هو في حيز العدم بعد، ولو اتصفت هي بالكثرة،
ولا تتصف الذات بها وحدها لاستحالة كون الواحد
كثيرا بما يتعقبها من المؤديات، وتلك معدومة
فيؤدي إلى اتصاف المعدوم بالكثرة وهو محال،
فدل أن صفة الكثرة تثبت للكل مقتصرا على وجود
الأخيرة منها، كما إذا خلق الله تعالى: جوهرا
واحدا لم يتصف بكونه مجتمعا، فلو خلق منضما
إليه جوهر آخر لا يطلق اسم المجتمع على كل
واحد منهما مقتصرا على الحال لما بينا فكذا
هذا، على أنا إن سلمنا هذه الدعوى الممتنعة
على طريق المساهلة فلا حجة لهم فيها أيضا; لأن
المؤداة الأولى وإن اتصفت بالكثرة من وقت
وجودها لكن لا ينبغي أن يحكم بجوازها وسقوط
الترتيب; لأن سقوط الترتيب كان متعلقا لمعنى
وهو استيعاب الفوائت وقت الصلاة، وتفويت
الوقتية عن وقتها عند وجوب مراعاة الترتيب فلم
تجب المراعاة لئلا يؤدي إلى إبطال ما ثبت
بالدليل المقطوع به بما ثبت بخبر الواحد، وهذا
المعنى منعدم في المؤديات الخمس، وإن اتصفت
بالكثرة، ولأن هذا يؤدي إلى الدور، فإن الجواز
وسقوط الترتيب بسبب صفة كثرة الفوائت، ومتى
حكم بالجواز لم تبق كثرة الفوائت فيجيء
الترتيب، ومتى جاء الترتيب جاء الفساد، فلا
يمكن القول بالجواز، فثبت أن الوجهين غير
صحيحين. والوجه الصحيح لتصحيح مذهب أبي حنيفة
ما ذكره الشيخ الإمام أبو المعين وهو أن أداء
السادسة من المؤديات حصل في وقت هو وقتها
بالدلائل أجمع وليس بوقت للفائتة بوجه من
الوجوه، لما ذكرنا أن في جعل هذا الوقت وقتا
للفائتة إبطال العمل بالدليل المقطوع به فسقط
العمل بخبر الواحد أصلا، وانتهى ما هو وقت
الفائتة، فإذا قضيت الفائتة بعد
ج / 1 ص -137-
أداء
السادسة من المؤديات التحقت بمحلها الأصلي وهو
وقتها الأصلي; لأنها لا بد لها من محل
فالتحاقها بمحلها أولى لوجهين: أحدهما أنه لا
مزاحم لها في ذلك الوقت; لأنه وقت متعين له،
وله في هذا الوقت مزاحم; لأنه وقت خمس صلوات،
وليس البعض في القضاء في هذا الوقت أولى من
البعض، فالتحاقها بوقت لا مزاحم لها فيه أولى.
"والثاني" أن ذلك وقته بالدليل المقطوع به،
وهذا وقت غيره بالدليل المقطوع به، وإنما يجعل
وقتا له بخبر الواحد فيرجح ذلك على هذا
فالتحقت بمحلها الأصلي حكما، والثابت حكما
كالثابت حقيقة، وإذا التحقت بمحلها الأصلي
تبين أن الخمس المؤديات أديت في أوقاتها فحكم
بجوازها، بخلاف ما إذا قضيت المتروكة قبل أداء
السادسة; لأنها قضيت في وقت هو وقتها من حيث
الظاهر; لأن خبر الواحد أوجب كونه وقتا لها،
فإذا قضيت فيما هو وقتها ظاهرا تتقرر فيه ولا
تلتحق بمحلها الأصلي فلم يتبين أن المؤديات
الخمس أديت بعد الفائتة، بل تبين أنها أديت
قبل الفائتة لاستقرار الفائتة بمحل قضائها
وعدم التحاقها بمحلها الأصلي، فحكم بفساد
المؤديات، وبخلاف حال النسيان وضيق الوقت إذا
أدى الوقتية ثم قضى الفائتة، حيث لا تجب إعادة
الوقتية، ولو التحقت الفائتة بمحلها الأصلي
لوجب إعادة الوقتية; لأنه تبين أنها حصلت قبل
وقت الفائتة; لأن هناك المؤدى حصل في وقت هو
وقت لها من جميع الوجوه على ما مر، فأداء
الفائتة بعد ذلك لا يخرج هذا الوقت من أن يكون
وقتا للمؤداة، فتقررت المؤداة في محلها من
جميع الوجوه، والتحقت الفائتة في حق المؤداة
بصلاة وقتها بعد وقت المؤداة فلم يؤثر ذلك في
إفساد المؤداة، وهذا بخلاف ما إذا قام المصلي
وقرأ وسجد ثم ركع حيث لم يلتحق الركوع بمحله
وهو قبل السجود حتى كان لا يجب إعادة السجود،
ومع ذلك لم يلتحق حتى يجب إعادة السجود; لأن
الشيء إنما يجعل حاصلا في محله أن لو وجد شيء
آخر في محله بعده ووقع ذلك الشيء معتبرا في
نفسه، فإذا حصل هذا التحق بمحله، وهناك السجود
وقع قبل أوانه فما وقع معتبرا، فلغا، فبعد ذلك
كان الركوع حاصلا في محله، فلا بد من تحصيل
السجدة بعد ذلك في محلها، والله الموفق.
"وقالوا" فيمن ترك صلوات كثيرة مجانة ثم ندم
على ما صنع واشتغل بأداء الصلوات في مواقيتها
قبل أن يقضي شيئا من الفوائت، فترك صلاة ثم
صلى أخرى وهو ذاكر لهذه الفائتة الحديثة أنه
لا يجوز، ويجعل الفوائت الكثيرة القديمة كأنها
لم تكن، ويجب عليه مراعاة الترتيب، والقياس أن
يجوز; لأن الترتيب قد سقط عنه لكثرة الفوائت،
وتضم هذه المتروكة إلى ما مضى، إلا أن المشايخ
استحسنوا فقالوا: "إنه لا يجوز" احتياطا زجرا
للسفهاء عن التهاون بأمر الصلاة، ولئلا تصير
المقضية وسيلة إلى التخفيف، ثم كثرة الفوائت
كما تسقط الترتيب في الأداء تسقطه في القضاء;
لأنها لما عملت في إسقاط الترتيب في غيرها
فلأن تعمل في نفسها أولى، حتى لو قضى فوائت
الفجر كلها، ثم الظهر كلها، ثم العصر كلها
هكذا جاز وروى ابن سماعة عن محمد فيمن ترك
صلاة يوم وليلة وصلى من الغد مع كل صلاة صلاة
قال: "الفوائت كلها جائزة سواء قدمها أو
أخرها". وأما الوقتية فإن قدمها لم يجز شيء
منها; لأنه متى صلى واحدة منها صارت الفوائت
ستا، لكنه متى قضى فائتة بعدها عادت خمسا ثم،
وثم فلا تعود إلى الجواز، وإن أخرها لم يجز
شيء منها إلا العشاء الأخيرة; لأنه كلما قضى
فائتة عادت الفوائت أربعا وفسدت الوقتية، إلا
العشاء; لأنه صلاها وعنده أن جميع ما عليه قد
قضاه فأشبه الناسي. "وأما" الترتيب في أفعال
الصلاة فإنه ليس بشرط عند أصحابنا الثلاثة،
وعند زفر شرط، وبيان ذلك في مسائل: إذا أدرك
أول صلاة الإمام ثم نام خلفه أو سبقه الحدث
فسبقه الإمام ببعض الصلاة، ثم انتبه من نومه
أو عاد من وضوئه فعليه أن يقضي ما سبقه الإمام
به ثم يتابع إمامه لما يذكر، ولو تابع إمامه
أولا ثم قضى ما فاته بعد تسليم الإمام جاز
عندنا، وعند زفر لا يجوز، وكذلك إذا زحمه
الناس في صلاة الجمعة والعيدين فلم يقدر على
أداء الركعة الأولى مع الإمام بعد الاقتداء
به، وبقي قائما، وأمكنه أداء الركعة الثانية
مع الإمام قبل أن يؤدي الأولى، ثم قضى الأولى
بعد تسليم الإمام أجزأه عندنا، وعند زفر لا
يجزئه، وكذلك لو تذكر سجدة في الركوع وقضاها،
أو سجدة في السجدة وقضاها فالأفضل أن يعيد
الركوع أو السجود الذي هو فيهما. ولو اعتد
بهما ولم يعد أجزأه عندنا، وعند زفر لا يجوز
له أن يعتد بهما وعليه إعادتهما. "وجه" قول
زفر أن المأتي به في هذه المواضع وقع في غير
محله
ج / 1 ص -138-
فلا
يقع معتدا به، كما إذا قدم السجود على الركوع
وجب عليه إعادة السجود لما قلنا، كذا هذا.
"ولنا" قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما
أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"، والاستدلال
به من وجهين: أحدهما أنه أمر بمتابعة الإمام
فيما أدرك بحرف الفاء المقتضي للتعقيب بلا
فصل، ثم أمر بقضاء الفائتة، والأمر دليل
الجواز، ولهذا يبدأ المسبوق بما أدرك الإمام
فيه لا بما سبقه، وإن كان ذلك أول صلاته وقد
أخره، والثاني أنه جمع بينهما في الأمر بحرف
الواو، وأنه للجمع المطلق، فأيهما فعل يقع
مأمورا به فكان معتدا به، إلا أن المسبوق صار
مخصوصا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سن
لكم معاذ سنة حسنة فاستنوا بها"، والحديث حجة
في المسألتين الأوليين بظاهره، وبضرورته في
المسألة الثالثة; لأن الركوع والسجود من أجزاء
الصلاة، فإسقاط الترتيب في نفس الصلاة إسقاط
فيما هو من أجزائها ضرورة، إلا أنه لا يعتد
بالسجود قبل الركوع; لأن السجود لتقييد الركعة
بالسجدة، وذلك لا يتحقق قبل الركوع على ما
يذكر في سجود السهو إن شاء الله تعالى: هذا
الذي ذكرنا بيان شرائط أركان الصلاة وهي
الشرائط العامة التي تعم المنفرد والمقتدي
جميعا، "فأما" الذي يخص المقتدي وهو شرائط
جواز الاقتداء بالإمام في صلاته فالكلام فيه
في موضعين: أحدهما في بيان ركن الاقتداء،
والثاني في بيان شرائط الركن. "وأما" ركنه فهو
نية الاقتداء بالإمام وقد ذكر تفسيرها فيما
تقدم.
وأما" شرائط الركن فأنواع: منها الشركة في
الصلاتين واتحادهما سببا وفعلا ووصفا; لأن
الاقتداء بناء التحريمة على التحريمة،
فالمقتدي عقد تحريمته لما انعقدت له تحريمة
الإمام، فكلما انعقدت له تحريمة الإمام جاز
البناء من المقتدي، وما لا فلا، وذلك لا يتحقق
إلا بالشركة في الصلاتين، واتحادهما من الوجوه
الذي وصفنا، وعلى هذا الأصل يخرج مسائل:
المقتدي إذا سبق الإمام بالافتتاح لم يصح
اقتداؤه; لأن معنى الاقتداء وهو البناء لا
يتصور ههنا; لأن البناء على العدم محال. وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام
ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"، وما لم يكبر
الإمام لا يتحقق الائتمام به، وكذا إذا كبر
قبله فقد اختلف عليه، ولو جدد التكبير بعد
تكبير الإمام بنية الدخول في صلاته أجزأه;
لأنه صار قاطعا لما كان فيه شارعا في صلاة
الإمام، كمن كان في النفل فكبر ونوى الفرض
يصير خارجا من النفل داخلا في الفرض، وكمن باع
بألف ثم ألفين كان فسخا للأول وعقدا آخر كذا
هذا، ولو لم يجدد حتى لم يصح اقتداؤه هل يصير
شارعا في صلاة نفسه ؟ أشار في كتاب الصلاة إلى
أنه يصير شارعا; لأنه علل فيما إذا جدد
التكبير ونوى الدخول في صلاة الإمام فقال:
"التكبير الثاني قطع لما كان فيه"، وأشار في
نوادر أبي سليمان إلى أنه لا يصير شارعا في
نفسه، فإنه ذكر أنه لو قهقه لا تنتقض طهارته،
ثم من مشايخنا من حمل اختلاف الجواب على
اختلاف موضوع المسألة فقال: "موضوع المسألة في
النوادر أنه إذا كبر ظنا منه أن الإمام كبر
فيصير مقتديا بمن ليس في الصلاة، كالمقتدي
بالمحدث والجنب"، وموضوع المسألة في كتاب
الصلاة أنه كبر على علم منه أن الإمام لم يكبر
فيصير شارعا في صلاة نفسه، ومنهم من حقق
الاختلاف بين الروايتين. "وجه" رواية النوادر
أنه نوى الاقتداء بمن ليس في الصلاة فلا يصير
شارعا في صلاة نفسه، كما لو اقتدى بمشرك أو
جنب أو بمحدث، وهذا لأن صلاة المنفرد غير صلاة
المقتدي، بدليل أن المنفرد لو استأنف التكبير
ناويا الشروع في صلاة الإمام صار شارعا
مستأنفا، واستقبال ما هو فيه لا يتصور، دل أن
هذه الصلاة غير تلك الصلاة، فلا يصير شارعا في
إحداهما بنية الأخرى. "وجه" ما ذكر في كتاب
الصلاة أنه نوى شيئين: الدخول في الصلاة،
والاقتداء بالإمام فبطلت إحدى نيتيه وهي نية
الاقتداء; لأنها لم تصادف محلها فتصح الأخرى
وهي نية الصلاة، وصار كالشارع في الفرض على ظن
أنه عليه وليس عليه، بخلاف ما إذا اقتدى
بالمشرك والمحدث والجنب; لأنهم ليسوا من أهل
الاقتداء بهم فصار بالاقتداء بهم ملغيا صلاته.
وأما هذا فمن أهل الاقتداء به، والصلاة خلفه
معتبرة فلم يصر بالاقتداء به ملغيا صلاته
والله أعلم هذا إذا كبر المقتدي وعلم أنه كبر
قبل الإمام، فأما إذا كبر ولم يعلم أنه كبر
قبل الإمام أو بعده، ذكر هذه المسألة في
الهارونيات وجعلها على ثلاثة أوجه: إن كان
أكبر رأيه أنه كبر قبل الإمام لا يصير شارعا
في صلاة الإمام، وإن كان أكبر رأيه أنه كبر
بعد الإمام يصير شارعا في صلاته; لأن غالب
الرأي حجة عند عدم اليقين بخلافه، وإن لم يقع
رأيه
ج / 1 ص -139-
على
شيء فالأصل فيه هو الجواز ما لم يظهر أنه كبر
قبل الإمام بيقين، ويحمل على الصواب احتياطا
ما لم يستيقن بالخطأ، كما قلنا في باب الصلاة
عند الاشتباه في جهة القبلة ولم يخطر بباله
شيء ولم يشك أن الجهة التي صلى إليها قبلة أم
لا: إنه يقضي بجوازها ما لم يظهر خطؤه بيقين،
وكذا في باب الزكاة، كذلك ههنا.
ولو كبر المقتدي مع الإمام إلا أن الإمام طول
قوله حتى فرغ المقتدي من قوله: " الله أكبر "
قبل أن يفرغ الإمام من قوله: "الله" لم يصر
شارعا في صلاة الإمام، كذا روى ابن سماعة في
نوادره، ويجب أن تكون هذه المسألة بالاتفاق،
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: فلأنه
يصح الشروع في الصلاة بقوله: " الله " وحده،
فإذا فرغ المقتدي من ذلك قبل فراغ الإمام صار
شارعا في صلاة نفسه فلا يصير شارعا في صلاة
الإمام. وأما على قول أبي يوسف ومحمد فلأن
الشروع لا يصح إلا بذكر الاسم والنعت، فلا بد
من المشاركة في ذكرهما، فإذا سبق الإمام
بالاسم حصلت المشاركة في ذكر النعت لا غير،
وهو غير كاف لصحة الشروع في الصلاة، وعلى هذا
لا يجوز اقتداء اللابس بالعاري; لأن تحريمة
الإمام ما انعقدت بها الصلاة مع الستر فلا
يقبل البناء لاستحالة البناء على العدم، ولأن
ستر العورة شرط لا صحة للصلاة بدونها في
الأصل، إلا أنه سقط اعتبار هذا الشرط في حق
العاري لضرورة العدم، ولا ضرورة في حق
المقتدي، فلا يظهر سقوط الشرط في حقه فلم تكن
صلاة في حقه فلم يتحقق معنى الاقتداء وهو
البناء؛ لأن البناء على العدم مستحيل.
ولا يصح اقتداء الصحيح بصاحب العذر الدائم;
لأن تحريمة الإمام ما انعقدت للصلاة مع انقطاع
الدم فلا يجوز البناء، ولأن الناقض للطهارة
موجود، لكن لم يظهر في حق صاحب العذر للعذر،
ولا عذر في حق المقتدي.
فلا يجوز اقتداء القارئ بالأمي، والمتكلم
بالأخرس; لأن تحريمة الإمام ما انعقدت للصلاة
بقراءة فلا يجوز البناء من المقتدي، ولأن
القراءة ركن لكنه سقط عن الأمي والأخرس للعذر،
ولا عذر في حق المقتدي.
وكذا لا يجوز اقتداء الأمي بالأخرس لما ذكرنا
أن الاقتداء بناء التحريمة على تحريمة الإمام
ولا تحريمة من الإمام أصلا فاستحال البناء،
إلا أن الشرع جوز صلاته بلا تحريمة للضرورة،
ولأن التحريمة من شرائط الصلاة لا تصح الصلاة
بدونها في الأصل، وإنما سقطت عن الأخرس للعذر
ولا عذر في حق الأمي لأنه قادر على التحريمة،
فنزل الأمي الذي يقدر على التحريمة من الأخرس
منزلة القارئ من الأمي، حتى أنه لو لم يقدر
على التحريمة جاز اقتداؤه بالأخرس لاستوائهما
في الدرجة.
ولا يجوز اقتداء من يركع ويسجد بالمومئ عند
أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يجوز. "وجه" قوله
أن فرض الركوع والسجود سقط إلى خلف وهو
الإيماء، وأداء الفرض بالخلف كأدائه بالأصل،
وصار كاقتداء الغاسل بالماسح والمتوضئ
بالمتيمم. "ولنا" أن تحريمة الإمام انعقدت
للصلاة بالركوع والسجود، والإيماء وإن كان
يحصل فيه بعض الركوع والسجود لما أنهما
للانحناء والتطأطؤ، وقد وجد أصل الانحناء
والتطأطؤ في الإيماء فليس فيه كمال الركوع
والسجود تنعقد تحريمته لتحصيل وصف الكمال، فلم
يمكن بناء كمال الركوع والسجود على تلك
التحريمة، ولأنه لا صحة للصلاة بدون الركوع
والسجود في الأصل; لأنه فرض، وإنما سقط عن
المومئ للضرورة، ولا ضرورة في حق المقتدي، فلم
يكن ما أتى به المومئ صلاة شرعا في حقه، فلا
يتصور البناء وقد خرج الجواب عن قوله أنه خلف
لأنا نقول: ليس كذلك، بل هو تحصيل بعض الركوع
والسجود، إلا أنه اكتفى بتحصيل بعض الفرض في
حالة العذر لا أن يكون خلفا، بخلاف المسح مع
الغسل، والتيمم مع الوضوء; لأن ذلك خلف فأمكن
أن يقام مقام الأصل، ولا يجوز اقتداء من يومئ
قاعدا أو قائما بمن يومئ مضطجعا; لأن تحريمة
الإمام ما انعقدت للقيام أو القعود فلا يجوز
البناء، ثم صلاة الإمام صحيحة في هذه الفصول
كلها إلا في فصل واحد وهو أن الأمي إذا أم
القارئ أو القارئ والأميين فصلاة الكل فاسدة
عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد صلاة
الإمام الأمي ومن لا يقرأ تامة. "وجه" قولهما
أن الإمام صاحب عذر اقتدى به من هو بمثل حاله
ومن لا عذر له فتجوز صلاته وصلاة من هو بمثل
حاله، كالعاري إذا أم العراة واللابسين، وصاحب
الجرح السائل يؤم الأصحاء وأصحاب الجراح،
والمومئ إذا أم المومئين والراكعين والساجدين
أنه تصح صلاة الإمام ومن بمثل حاله، كذا ههنا
ولأبي حنيفة طريقتان
ج / 1 ص -140-
في
المسألة: إحداهما ما ذكره القمي وهو أنهم لما
جاءوا مجتمعين لأداء هذه الصلاة بالجماعة
فالأمي قادر على أن يجعل صلاته بقراءة، بأن
يقدم القارئ فيقتدي به فتكون قراءته قراءة له،
قال صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام
فقراءة الإمام له قراءة" فإذا لم يفعل فقد ترك
أداء الصلاة بقراءة مع القدرة عليها ففسدت،
بخلاف سائر الأعذار; لأن لبس الإمام يكون لبسا
للمقتدي، وكذا ركوع الإمام وسجوده، ولا ينوب
عن المقتدي، ووضوء الإمام لا يكون وضوء
للمقتدي فلم يكن قادرا على إزالة العذر بتقديم
من لا عذر له، ولا يلزم على هذه الطريقة ما
إذا كان الأمي يصلي وحده وهناك قارئ يصلي تلك
الصلاة، حيث تجوز صلاة الأمي وإن كان قادرا
على أن يجعل صلاته بقراءة بأن يقتدي بالقارئ;
لأن هذه المسألة ممنوعة، وذكر أبو حازم القاضي
أن على قياس قول أبي حنيفة لا تجوز صلاة
الأمي، هو قول مالك، ولئن سلمنا فلأن هناك لم
يقدر على أن يجعل صلاته بقراءة إذا لم يظهر من
القارئ رغبة في أداء الصلاة بجماعة حيث اختار
الانفراد، بخلاف ما نحن فيه. "والطريقة"
الثانية ما ذكره غسان وهو أن التحريمة انعقدت
موجبة للقراءة، فإذا صلوا بغير قراءة فسدت
صلاتهم كالقارئين، وإنما قلنا: "إن التحريمة
انعقدت موجبة للقراءة; لأنه وقعت المشاركة في
التحريمة; لأنها غير مفتقرة إلى القراءة
فانعقدت موجبة للقراءة لاشتراكها بين القارئين
وغيرهم، ثم عند أوان القراءة تفسد لانعدام
القراءة، بخلاف سائر الأعذار; لأن هناك
التحريمة لم تنعقد مشتركة; لأن تحريمة اللابس
لم تنعقد إذا اقتدى بالعاري لافتقارها إلى ستر
العورة، وإلى ارتفاع سائر الأعذار، فلم تنعقد
مشتركة، بخلاف ما نحن فيه فإنها غير مفتقرة
إلى القراءة فانعقدت تحريمة القارئ مشتركة
فانعقدت موجبة للقراءة، ولا يلزم على هذه
الطريقة ما ذكرنا من المسألة; لأن هناك تحريمة
الأمي لم تنعقد موجبة للقراءة لانعدام
الاشتراك بينه وبين القارئ فيها، أما ههنا
فبخلافه، ولا يلزم ما إذا اقتدى القارئ بالأمي
بنية التطوع، حيث لا يلزم القضاء، ولو صح شروع
في الابتداء للزمه القضاء; لأنه صار شارعا في
صلاة لا قراءة فيها، والشروع كالنذر، ولو نذر
صلاة بغير قراءة لا يلزمه شيء إلا في رواية عن
أبي يوسف، فكذلك إذا شرع فيها.
ولا يجوز الاقتداء بالكافر، ولا اقتداء الرجل
بالمرأة; لأن الكافر ليس من أهل الصلاة،
والمرأة ليست من أهل إمامة الرجال فكانت
صلاتها عدما في حق الرجل، فانعدم معنى
الاقتداء وهو البناء.
ولا يجوز اقتداء الرجل بالخنثى المشكل لجواز
أن يكون امرأة.
ويجوز اقتداء المرأة بالمرأة لاستواء حالهما،
إلا أن صلاتهن فرادى أفضل; لأن جماعتهن
منسوخة.
ويجوز اقتداء المرأة بالرجل إذا نوى الرجل
إمامتها، وعند زفر نية الإمامة ليست بشرط على
ما مر، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها إذا وقفت
خلف الإمام جاز اقتداؤها به وإن لم ينو
إمامتها، ثم إذا وقفت إلى جنبه فسدت صلاتها
خاصة لا صلاة الرجل، وإن كان نوى إمامتها فسدت
صلاة الرجل وهذا قول أبي حنيفة الأول، ووجهه
أنها إذا وقفت خلفه كان قصدها أداء الصلاة لا
إفساد صلاة الرجل، فلا تشترط نية الإمامة،
وإذا قامت إلى جنبه فقد قصدت إفساد صلاته فيرد
قصدها بإفساد صلاتها، إلا أن يكون الرجل قد
نوى إمامتها فحينئذ تفسد صلاته; لأنه ملتزم
لهذا الضرر.
وكذا يجوز اقتداؤها بالخنثى المشكل; لأنه إن
كان رجلا فاقتداء المرأة بالرجل صحيح، وإن كان
امرأة فاقتداء المرأة بالمرأة جائز أيضا، لكن
ينبغي للخنثى أن يتقدم ولا يقوم في وسط الصف
لاحتمال أن يكون رجلا فتفسد صلاته بالمحاذاة،
وكذا تشترط نية إمامة النساء لصحة اقتدائهن به
لاحتمال أنه رجل.
ولا يجوز اقتداء الخنثى المشكل بالخنثى المشكل
لاحتمال أن يكون الإمام امرأة، والمقتدي رجلا،
فيكون اقتداء الرجل بالمرأة على بعض الوجوه
فلا يجوز احتياطا.
وأما" الاقتداء بالمحدث أو الجنب فإن كان
عالما بذلك لا يصح بالإجماع، وإن لم يعلم به
ثم علم فكذلك عندنا. وقال الشافعي: القياس أن
لا يصح كما في الكافر، لكني تركت القياس
بالأثر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "أيما رجل صلى بقوم ثم تذكر جنابة أعاد ولم يعيدوا". "ولنا" ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثم تذكر
جنابة فأعاد وأمر أصحابه بالإعادة. وقال:
"أيما رجل صلى بقوم ثم تذكر جنابة أعاد وأعادوا"، وقد روي نحو هذا عن عمر وعلي رضي الله عنهما حتى ذكر أبو يوسف في
الأمالي أن عليا رضي الله عنه صلى بأصحابه
يوما ثم
ج / 1 ص -141-
علم
أنه كان جنبا فأمر مؤذنه أن ينادي: ألا إن
أمير المؤمنين كان جنبا فأعيدوا صلاتكم، ولأن
معنى الاقتداء وهو البناء ههنا لا يتحقق
لانعدام تصور التحريمة مع قيام الحدث
والجنابة، وما رواه محمول على بدو الأمر قبل
تعلق صلاة القوم بصلاة الإمام، على ما روي أن
المسبوق كان إذا شرع في صلاة الإمام قضى ما
فاته أولا ثم يتابع الإمام، حتى تابع عبد الله
بن مسعود أو معاذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم قضى ما فاته فصار شريعة بتقرير رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
ويجوز اقتداء العاري باللابس; لأن تحريمة
الإمام انعقدت لما يبني عليه المقتدي; لأن
الإمام يأتي بما يأتي به المقتدي وزيادة فيقبل
البناء، وكذا اقتداء العاري بالعاري لاستواء
حالهما فتتحقق المشاركة في التحريمة، ثم
العراة يصلون قعودا بإيماء، وقال بشر: "يصلون
قياما بركوع وسجود"، وهو قول الشافعي. "وجه"
قولهما أنهم عجزوا عن تحصيل شرط الصلاة وهو
ستر العورة. وقدروا على تحصيل أركانها، فعليهم
الإتيان بما قدروا عليه، وسقط عنهم ما عجزوا
عنه، ولأنهم لو صلوا قعودا تركوا أركانا كثيرة
وهي: القيام والركوع والسجود، وإن صلوا قياما
تركوا فرضا واحدا وهو ستر العورة، فكان أولى،
والدليل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صل
قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع
فعلى الجنب"، فهذا يستطيع أن يصلي قائما فعليه
الصلاة قائما. "ولنا" ما روي عن أنس بن مالك
رضي الله عنه أنه قال: "إن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ركبوا البحر فانكسرت بهم
السفينة، فخرجوا من البحر عراة، فصلوا قعودا
بإيماء". وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله
عنهما أنهما قالا: "العاري يصلي قاعدا
بالإيماء" والمعنى فيه أن للصلاة قاعدا ترجيحا
من وجهين: أحدهما أنه لو صلى قاعدا فقد ترك
فرض ستر العورة الغليظة وما ترك فرضا آخر
أصلا; لأنه أدى فرض الركوع والسجود ببعضهما
وهو الإيماء، وأدى فرض القيام ببدله وهو
القعود، فكان فيه مراعاة الفرضين جميعا، وفيما
قلتم إسقاط أحدهما أصلا وهو ستر العورة، فكان
ما قلناه أولى، والثاني أن ستر العورة أهم من
أداء الأركان لوجهين: أحدهما أن ستر العورة
فرض في الصلاة وغيرها، والأركان فرائض الصلاة
لا غيرها، والثاني أن سقوط هذه الأركان إلى
الإيماء جائز في النوافل من غير ضرورة
كالمتنفل على الدابة، وستر العورة لا تسقط
فرضيته قط من غير ضرورة فكان أهم، فكان
مراعاته أولى، فلهذا جعلنا الصلاة قاعدا
بالإيماء أولى، غير أنه إن صلى قائما بركوع
وسجود أجزأه; لأنه وإن ترك فرضا آخر فقد كمل
الأركان الثلاثة وهي: القيام والركوع والسجود،
وبه حاجة إلى تكميل هذه الأركان، فصار تاركا
لفرض ستر العورة الغليظة أصلا لغرض صحيح،
فجوزنا له ذلك لوجود أصل الحاجة، وحصول الغرض،
وجعلنا القعود بالإيماء أولى لكون ذلك الفرض
أهم، ولمراعاة الفرضين جميعا من وجه. وقد خرج
الجواب عما ذكروا من المعنى وتعلقهم بحديث
عمران بن حصين غير مستقيم; لأنه غير مستطيع
حكما، حيث افترض عليه ستر العورة الغليظة، ثم
لو كانوا جماعة ينبغي لهم أن يصلوا فرادى;
لأنهم لو صلوا بجماعة: فإن قام الإمام وسطهم
احترازا عن ملاحظة سوأة الغير فقد ترك سنة
التقدم على الجماعة، والجماعة أمر مسنون، فإذا
كان لا يتوصل إليه إلا بارتكاب بدعة، وترك سنة
أخرى لا يندب إلى تحصيلها، بل يكره تحصيلها
وإن تقدمهم الإمام وأمر القوم بغض أبصارهم كما
ذهب إليه الحسن البصري لا يسلمون عن الوقوع في
المنكر أيضا، فإنه قلما يمكنهم غض البصر على
وجه لا يقع على عورة الإمام، مع أن غض البصر
في الصلاة مكروه أيضا، نص عليه القدوري لما
يذكر أنه مأمور أن ينظر في كل حالة إلى موضع
مخصوص ليكون البصر ذا حظ من أداء هذه العبادات
كسائر الأعضاء والأطراف، وفي غض البصر فوات
ذلك، فدل أنه لا يتوصل إلى تحصيل الجماعة إلا
بارتكاب أمر مكروه فتسقط الجماعة عنهم، فلو
صلوا مع هذه الجماعة فالأولى لإمامهم أن يقوم
وسطهم لئلا يقع بصرهم على عورته، فإن تقدمهم
جاز أيضا، وحالهم في هذا الموضع كحال النساء
في الصلاة، إلا أن الأولى أن يصلين وحدهن، وإن
صلين بجماعة قامت إمامتهن وسطهن، وإن تقدمتهن
جاز، فكذلك حال العراة.
ويجوز اقتداء صاحب العذر بالصحيح وبمن هو بمثل
حاله، وكذا اقتداء الأمي بالقارئ وبالأمي لما
مر، ويجوز اقتداء المومئ بالراكع الساجد
وبالمومئ لما مر، ويستوي الجواب,
ج / 1 ص -142-
بينما
إذا كان المقتدي قاعدا يومئ بالإمام القاعد
المومئ، وبينما إذا كان قائما والإمام قاعد،
ولأن هذا القيام ليس بركن، ألا ترى أن الأولى
تركه ؟ فكان وجوده وعدمه بمنزلة.
ويجوز اقتداء الغاسل بالماسح على الخف لأن
المسح على الخف بدل عن الغسل، وبدل الشيء يقوم
مقامه عند العجز عنه أو تعذر تحصيله، فقام
المسح مقام الغسل في حق تطهير الرجلين لتعذر
غسلهما عند كل حدث خصوصا في حق المسافر على ما
مر، فانعقدت تحريمة الإمام للصلاة مع غسل
الرجلين لانعقادها لما هو بدل عن الغسل، فصح
بناء تحريمة المقتدي على تلك التحريمة، ولأن
طهارة القدم حصلت بالغسل السابق، والخف مانع
سراية الحدث إلى القدم، فكان هذا اقتداء
الغاسل بالغاسل فصح، وكذا يجوز اقتداء الغاسل
بالماسح على الجبائر لما مر أنه بدل عن المسح
قائم مقامه، فيمكن تحقيق معنى الاقتداء فيه.
ويجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم عند أبي حنيفة
وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز، وقد مر الكلام
فيه في كتاب الطهارة.
ويجوز اقتداء القائم الذي يركع ويسجد بالقاعد
الذي يركع ويسجد استحسانا، وهو قول أبي حنيفة
وأبي يوسف، والقياس أن لا يجوز وهو قول محمد،
وعلى هذا الاختلاف اقتداء القائم المومئ
بالقاعد المومئ. "وجه" القياس ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحد
بعدي جالسا" أي لقائم، لإجماعنا على أنه لو أم
لجالس جاز، ولأن المقتدي أعلى حالا من الإمام
فلا يجوز اقتداؤه به كاقتداء الراكع الساجد
بالمومئ، واقتداء القارئ بالأمي. "وفقهه" ما
بينا أن المقتدي يبني تحريمته على تحريمة
الإمام، وتحريمة الإمام ما انعقدت للقيام بل
انعقدت للقعود فلا يمكن بناء القيام عليها،
كما لا يمكن بناء القراءة على تحريمة الأمي،
وبناء الركوع والسجود على تحريمة المومئ.
"وجه" الاستحسان ما روي أن آخر صلاة صلاها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد
متوشحا به قاعدا وأصحابه خلفه قيام يقتدون به،
فإنه لما ضعف في مرضه قال: "مروا أبا بكر
فليصل بالناس"، فقالت عائشة لحفصة رضي الله
عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف
في مكانك لا يملك نفسه فلو أمرت غيره فقالت
حفصة ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتن
صويحبات يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس" فلما
افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج وهو
يهادى بين علي والعباس، ورجلاه يخطان الأرض
حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر رضي الله
عنه حسه تأخر، فتقدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجلس يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس
يصلون بصلاة أبي بكر، يعني أن أبا بكر رضي
الله عنه كان يسمع تكبير رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيكبر، والناس يكبرون بتكبير أبي
بكر"، فقد ثبت الجواز على وجه لا يتوهم ورود
النسخ عليه، ولو توهم ورود النسخ يثبت الجواز
ما لم يثبت النسخ، فإذا لم يتوهم ورود النسخ
أولى، ولأن القعود غير القيام، وإذا أقيم شيء
مقام غيره جعل بدلا عنه، كالمسح على الخف مع
غسل الرجلين، وإنما قلنا: "إنهما متغايران
بدليل الحكم والحقيقة". "أما" الحقيقة فلأن
القيام اسم لمعنيين متفقين في محلين مختلفين،
وهما الانتصابان في النصف الأعلى والنصف
الأسفل، فلو تبدل الانتصاب في النصف الأعلى
بما يضاده وهو الانحناء سمي ركوعا لوجود
الانحناء; لأنه في اللغة عبارة عن الانحناء من
غير اعتبار النصف الأسفل; لأن ذلك وقع وفاقا،
فأما هو في اللغة فاسم لشيء واحد فحسب وهو
الانحناء، ولو تبدل الانتصاب في النصف الأسفل
بما يضاده وهو انضمام الرجلين وإلصاق الألية
بالأرض يسمى قعودا، فكان القعود اسما لمعنيين
مختلفين في محلين مختلفين، وهما الانتصاب في
النصف الأعلى والانضمام والاستقرار على الأرض
في النصف الأسفل، فكان القعود مضادا للقيام في
أحد معنييه، وكذا الركوع، والركوع مع القعود
يضاد كل واحد منهما للآخر بمعنى واحد وهو صفة
النصف الأعلى، واسم المعنيين يفوت بالكلية
بوجود مضاد أحد معنييه كالبلوغ واليتم، فيفوت
القيام بوجود القعود أو الركوع بالكلية، ولهذا
لو قال قائل: "ما قمت بل قعدت، وما أدركت
القيام بل أدركت الركوع لم يعد مناقضا في
كلامه". وأما الحكم فلأن ما صار القيام لأجله
طاعة يفوت عند الجلوس بالكلية؛ لأن القيام
إنما صار طاعة لانتصاب نصفه الأعلى، بل
لانتصاب رجليه، لما يلحق رجليه من المشقة، وهو
بالكلية يفوت عند الجلوس، فثبت حقيقة
ج / 1 ص -143-
وحكما
أن القيام يفوت عند الجلوس فصار الجلوس بدلا
عنه، والبدل عند العجز عن الأصل أو تعذر
تحصيله يقوم مقام الأصل، ولهذا جوزنا اقتداء
الغاسل بالماسح لقيام المسح مقام الغسل في حق
تطهير الرجلين عند تعذر الغسل لكونه بدلا عنه،
فكان القعود من الإمام بمنزلة القيام ولو كان
قادرا عليه، فجعلت تحريمة الإمام في حق الإمام
منعقدة للقيام لانعقادها لما هو بدل القيام،
فصح بناء قيام المقتدي على تلك التحريمة،
بخلاف اقتداء القارئ بالأمي; لأن هناك لم يوجد
ما هو بدل القراءة بل سقطت أصلا، فلم تنعقد
تحريمة الإمام للقراءة، فلا يجوز بناء القراءة
عليه أما ههنا لم يسقط القيام أصلا بل أقيم
بدله مقامه، ألا ترى أنه لو اضطجع وهو قادر
على القعود لا يجوز ؟ ولو كان القيام يسقط
أصلا من غير بدل وذا ليس وقت وجوب القعود
بنفسه كان ينبغي أنه لو صلى مضطجعا يجوز، وحيث
لم يجز دل أنه إنما لا يجوز لسقوط القيام إلى
بدله، وجعل بدله كأنه عين القيام، وبخلاف
اقتداء الراكع الساجد بالمومئ، لما مر أن
الإيماء ليس عين الركوع والسجود، بل هو تحصيل
بعض الركوع والسجود، إلا أنه ليس فيه كمال
الركوع والسجود فلم تنعقد تحريمة الإمام
للفائت، وهو الكمال فلم يمكن بناء كمال الركوع
والسجود على تلك التحريمة. وقد خرج الجواب عما
ذكر من المعنى، وما روي من الحديث كان في
الابتداء، فإنه روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم سقط عن فرس فجحش جنبه فلم يخرج أياما،
ودخل عليه أصحابه فوجدوه يصلي قاعدا فافتتحوا
الصلاة خلفه قياما، فلما رآهم على ذلك قال: "
استنان بفارس والروم " ؟ وأمرهم بالقعود، ثم
نهاهم عن ذلك فقال: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا"،
ألا ترى أنه تكلم في الصلاة فقال: استنان
بفارس والروم، وأمرهم بالقعود ؟ فدل أن ذلك
كان في الابتداء حين كان التكلم في الصلاة
مباحا، وما روينا آخر صلاة صلاها، فانتسخ قوله
السابق بفعله المتأخر، وعلى هذا يخرج اقتداء
المفترض بالمتنفل أنه لا يجوز عندنا خلافا
للشافعي، ويجوز اقتداء المتنفل بالمفترض عند
عامة العلماء خلافا لمالك "احتج" الشافعي بما
روى عبد الله أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى
الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصليها بقومه
في بني سلمة، ومعاذ كان متنفلا وكان يصلي خلفه
المفترضون، ولأن كل واحد منهم يصلي صلاة نفسه
لا صلاة صاحبه لاستحالة أن يفعل العبد فعل
غيره، فيجوز فعل كل واحد منهما، سواء وافق فعل
إمامه أو خالفه، ولهذا جاز اقتداء المتنفل
بالمفترض "ولنا" ما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة الخوف وجعل الناس
طائفتين، وصلى بكل طائفة شطر الصلاة لينال كل
فريق فضيلة الصلاة خلفه، ولو جاز اقتداء
المفترض بالمتنفل لأتم الصلاة بالطائفة الأولى
ثم نوى النفل وصلى بالطائفة الثانية; لينال كل
طائفة فضيلة الصلاة خلفه من غير الحاجة إلى
المشي وأفعال كثيرة ليست من الصلاة، ولأن
تحريمة الإمام ما انعقدت لصلاة الفرض،
والفرضية وإن لم تكن صفة زائدة على ذات الفعل
فليست راجعة إلى الذات أيضا، بل هي من الأوصاف
الإضافية على ما عرف في موضعه، فلم يصح البناء
من المقتدي، بخلاف اقتداء المتنفل بالمفترض;
لأن النفلية ليست من باب الصفة بل هي عدم، إذ
النفل عبارة عن أصل لا وصف له فكانت تحريمة
الإمام منعقدة لما يبني عليه المقتدي وزيادة
فصح البناء وقد خرج الجواب عن معناه، فإن كل
واحد منهما يصلي صلاة نفسه; لأنا نقول: نعم،
لكن إحداهما بناء على الأخرى، وتعذر تحقيق
معنى البناء، وما روي من الحديث فليس فيه أن
معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
الفرض، فيحتمل أنه كان ينوي النفل ثم يصلي
بقومه الفرض، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم
لما بلغه طول قراءته: "إما أن تخفف بهم، وإلا
فاجعل صلاتك معنا"، على أنه يحتمل أنه كان في
الابتداء حين كان تكرار الفرض مشروعا، وينبني
على هذا الخلاف. اقتداء البالغين بالصبيان في
الفرائض أنه لا يجوز عندنا; لأن الفعل من
الصبي لا يقع فرضا فكان اقتداء المفترض
بالمتنفل، وعند الشافعي يصح. "واحتج" بما روي
أن عمر بن سلمة كان يصلي بالناس وهو ابن تسع
سنين، ولا يحمل على صلاة التراويح; لأنها لم
تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بجماعة، فدل أنه كان في الفرائض، والجواب أن
ذلك كان في ابتداء الإسلام حين لم تكن صلاة
المقتدي متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا، ثم
نسخ. وأما في التطوعات فقد روي عن محمد بن
مقاتل الرازي أنه أجاز ذلك في التراويح،
والأصح أن
ج / 1 ص -144-
ذلك لا
يجوز عندنا، لا في الفريضة ولا في التطوع; لأن
تحريمة الصبي انعقدت لنفل غير مضمون عليه
بالإفساد، ونفل المقتدي البالغ مضمون عليه
بالإفساد فلا يصح البناء، وينبغي للرجل أن
يؤدب ولده على الطهارة والصلاة إذا عقلهما،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا"، ولا يفترض
عليه إلا بعد البلوغ، ونذكر حد البلوغ في موضع
آخر إن شاء الله تعالى:.
ولو احتلم الصبي ليلا ثم تنبه قبل طلوع الفجر
قضى صلاة العشاء بلا خلاف; لأنه حكم ببلوغه
بالاحتلام. وقد انتبه والوقت قائم فيلزمه أن
يؤديها، وإن لم ينتبه حتى طلع الفجر اختلف
المشايخ فيه: قال بعضهم: ليس عليه قضاء صلاة
العشاء; لأنه وإن بلغ بالاحتلام لكنه نائم فلا
يتناوله الخطاب، ولأنه يحتمل أنه احتلم بعد
طلوع الفجر ويحتمل قبله، فلا تلزمه الصلاة
بالشك وقال بعضهم: "عليه صلاة العشاء"; لأن
النوم لا يمنع الوجوب; ولأنه إذا احتمل أنه
احتلم قبل طلوع الفجر واحتمل بعده فالقول
بالوجوب أحوط، وعلى هذا لا يجوز اقتداء مصلي
الظهر بمصلي العصر، ولا اقتداء من يصلي ظهرا
بمن يصلي ظهر يوم غير ذلك اليوم عندنا لاختلاف
سبب وجوب الصلاتين وصفتهما، وذلك يمنع صحة
الاقتداء، لما مر. وروي عن أفلح بن كثير أنه
قال: دخلت المدينة ولم أكن صليت الظهر، فوجدت
الناس في الصلاة فظننت أنهم في الظهر، فدخلت
معهم ونويت الظهر، فلما فرغوا علمت أنهم كانوا
في العصر، فقمت وصليت الظهر ثم صليت العصر، ثم
خرجت فوجدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم متوافرين فأخبرتهم بما فعلت، فاستصوبوا
ذلك وأمروا به، فانعقد الإجماع من الصحابة رضي
الله عنهم على ما قلنا، وعلى هذا لا يجوز
اقتداء الناذر بالناذر: بأن نذر رجلان كل واحد
منهما أن يصلي ركعتين فاقتدى أحدهما بالآخر
فيما نذر،.
وكذا إذا شرع رجلان كل واحد منهما في صلاة
التطوع وحده، ثم أفسدها على نفسه حتى وجب عليه
القضاء، فاقتدى أحدهما بصاحبه لا يصح; لأن سبب
وجوب الصلاتين مختلف، وهو نذر كل واحد منهما
وشروعه، فاختلف الواجبان وتغايرا، وذلك يمنع
صحة الاقتداء لما بينا، بخلاف اقتداء الحالف
بالحالف حيث يصح; لأن الواجب هناك تحقيق البر
لا نفس الصلاة فبقيت كل واحدة من الصلاتين في
حق نفسها نفلا، فكان اقتداء المتنفل بالمتنفل
فصح وكذا لو اشتركا في صلاة التطوع بأن اقتدى
أحدهما بصاحبه فيها، ثم أفسداها حتى وجب
القضاء عليهما، فاقتدى أحدهما بصاحبه في
القضاء جاز لأنها صلاة واحدة مشتركة بينهما،
فكان سبب الوجوب واحدا معنى فصح الاقتداء، ثم
إذا لم يصح الاقتداء عند اختلاف الفرضين فصلاة
الإمام جائزة كيفما كان; لأن صلاته غير متعلقة
بصلاة المقتدي. وأما صلاة المقتدي إذا فسدت عن
الفرضية هل يصير شارعا في التطوع ؟ ذكر في باب
الحدث في الرجل إذا كان يصلي الظهر وقد نوى
إمامة النساء فجاءت امرأة واقتدت به فرضا آخر
لم يصح اقتداؤها به ولا يصير شارعا في التطوع،
حتى لو حاذت الإمام لم تفسد عليه صلاته، فمن
مشايخنا من قال: "في المسألة روايتان"، ومنهم
من قال: "ما ذكر في باب الأذان قول أبي حنيفة
وأبي يوسف، وما ذكر في باب الحدث قول محمد،
وجعلوه فرعية مسألة، وهي أن المصلي إذا لم
يفرغ من الفجر حتى طلعت الشمس بقي في التطوع
عندهما، إلا أنه يمكث حتى ترتفع الشمس ثم يضم
إليها ما يتمها فيكون تطوعا"، وعنده يصير
خارجا من الصلاة بطلوع الشمس وكذا إذا كان في
الظهر فتذكر أنه نسي الفجر ينقلب ظهره تطوعا
عندهما، وعند محمد يصير خارجا من الصلاة.
"وجه" قول محمد أنه نوى فرضا عليه ولم يظهر
أنه ليس عليه فرض فلا يلغو نية الفرض، فمن حيث
إنه لم يلغ نية الفرض لم يصر شارعا في النفل،
ومن حيث إنه يخالف فرضه فرض الإمام لم يصح
الاقتداء، فلم يصر شارعا في الصلاة أصلا،
بخلاف ما إذا لم يكن عليه الفرض; لأن نية
الفرض لغت أصلا كأنه لم ينو. "وجه" قولهما أنه
بنى أصل الصلاة ووصفها على صلاة الإمام، وبناء
الأصل صح وبناء الوصف لم يصح، فلغا بناء الوصف
وبقي بناء الأصل، وبطلان بناء الوصف لا يوجب
بطلان بناء الأصل لاستغناء الأصل عن هذا
الوصف، فيصير هذا اقتداء المتنفل بالمفترض،
وأنه جائز.
وذكر في النوادر عن محمد
ج / 1 ص -145-
في
رجلين يصليان صلاة واحدة معا، وينوي كل واحد
منهما أن يؤم صاحبه فيها أن صلاتهما جائزة;
لأن صحة صلاة الإمام غير متعلقة بصلاة غيره
فصار كل واحد منهما كالمنفرد في حق نفسه. ولو
اقتدى كل واحد منهما بصاحبه فيها فصلاتهما
فاسدة; لأن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام
ولا إمام ههنا.
"وَمِنْهَا" أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقْتَدِي
عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ مُتَقَدِّمًا عَلَى
إمَامِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا
لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيُجْزِئُهُ إذَا أَمْكَنَهُ
مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ. "وَجْهُ" قَوْلِهِ
أَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ
فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ مِنْ
الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ الْمُتَابَعَةُ
فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي
عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ
عليه الصلاة والسلام وَالْقَوْمُ صَفٌّ حَوْلَ
الْبَيْتِ ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
قَبْلَ الْإِمَامِ. "وَلَنَا" قَوْلُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (يْسَ مَعَ
الْإِمَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُ)
وَلِأَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ الْإِمَامَ
يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُهُ، أَوْ يَحْتَاجُ
إلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ
لِيُتَابِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ
الْمُتَابَعَةُ; وَلِأَنَّ الْمَكَانَ مِنْ
لَوَازِمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ
طَرِيقٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ
لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْمَكَانِ ؟
كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي
الْكَعْبَةِ; لِأَنَّ وَجْهَهُ إذَا كَانَ
إلَى الْإِمَامِ لَمْ تَنْقَطِعْ
التَّبَعِيَّةُ، وَلَا يُسَمَّى قَبْلَهُ بَلْ
هُمَا مُتَقَابِلَانِ، كَمَا إذَا حَاذَى
إمَامَهُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ
الْقَبْلِيَّةَ إذَا كَانَ ظَهْرُهُ إلَى
الْإِمَامِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا لَا
يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ. "وَمِنْهَا" اتِّحَادُ
مَكَانِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَلِأَنَّ
الِاقْتِدَاءَ يَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي
الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ مِنْ لَوَازِمِ
الصَّلَاةِ فَيَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي
الْمَكَانِ ضَرُورَةً، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ
الْمَكَانِ تَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي
الْمَكَانِ فَتَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي
الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ لَازِمِهَا;
وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ يُوجِبُ
خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُقْتَدِي
فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمُتَابَعَةُ
الَّتِي هِيَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ، حَتَّى
أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ
عَامٌّ يَمُرُّ فِيهِ النَّاسُ أَوْ نَهْرٌ
عَظِيمٌ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ; لِأَنَّ
ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانَيْنِ
عُرْفًا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً
فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَأَصْلُهُ
مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ:"مَنْ
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ
أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ
فَلَا صَلَاةَ لَهُ"،
وَمِقْدَارُ الطَّرِيقِ الْعَامُّ ذُكِرَ فِي
الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ
مِقْدَارِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَمْنَعُ
صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَقَالَ: مِقْدَارُ مَا
تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ وَتَمُرُّ فِيهِ
الْأَوْقَارُ، وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ
الصَّفَّارُ عَنْهُ فَقَالَ: مِقْدَارُ مَا
يَمُرُّ فِيهِ الْجَمَلُ. وَأَمَّا النَّهْرُ
الْعَظِيمُ فَمَا لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ
عَلَيْهِ إلَّا بِعِلَاجٍ كَالْقَنْطَرَةِ
وَنَحْوِهَا، وَذَكَرَ الْإِمَامُ
السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ
الطَّرِيقِ مَا تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ
وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ طَرِيقَةٌ لَا طَرِيقٌ،
وَالْمُرَادُ بِالنَّهْرِ مَا تَجْرِي فِيهِ
السُّفُنُ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ
الْجَدْوَلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ
الِاقْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ
مُتَّصِلَةً عَلَى الطَّرِيقِ جَازَ
الِاقْتِدَاءُ; لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ
أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرَّ
النَّاسِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقًا بَلْ صَارَ
مُصَلًّى فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ،
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى النَّهْرِ جِسْرٌ
وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ لِمَا قُلْنَا،
وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، ذُكِرَ فِي
الْأَصْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَرَوَى
الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
يُجْزِئُهُ، وَهَذَا فِي الْحَاصِلِ عَلَى
وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْحَائِطُ قَصِيرًا
ذَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ
مِنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ كَحَائِطِ
الْمَقْصُورَةِ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ;
لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ
فِي الْمَكَانِ، وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ
الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ
حَائِطٌ: إنْ كَانَ طَوِيلًا وَعَرِيضًا
لَيْسَ فِيهِ ثُقْبٌ يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ،
وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثُقْبٌ لَا يَمْنَعُ
مُشَاهَدَةَ حَالِ الْإِمَامِ لَا يَمْنَعُ
بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا:
فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ أَوْ
خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ
رِوَايَتَانِ. "وَجْهُ" الرِّوَايَةِ
الْأُولَى الَّتِي قَالَ لَا يَصِحُّ أَنَّهُ
يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ فَلَا
يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ. "وَجْهُ"
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْوُجُودُ، وَهُوَ
مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ فِي
الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ
يَقِفُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَبَعْضُ
النَّاسِ يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ مِنْ
الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ وَلَمْ
يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ
عَلَى الْجَوَازِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا
صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ
الِاقْتِدَاءِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ
الْحَدِيثِ; وَلِأَنَّ الصَّفَّ مِنْ
النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ
الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ،
وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ كَذَا
هَذَا. وَلَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي
أَقْصَى الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي
الْمِحْرَابِ جَازَ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ
عَلَى تَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ فِي
الْحُكْمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَوْ وَقَفَ
عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى
بِالْإِمَامِ: فَإِنْ كَانَ وُقُوفُهُ خَلْفَ
الْإِمَامِ أَوْ بِحِذَائِهِ أَجْزَأَهُ،
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَطْحٍ وَاقْتَدَى
بِالْإِمَامِ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ؛ وَلِأَنَّ
سَطْحَ الْمَسْجِدِ تَبَعٌ
ج / 1 ص -146-
لِلْمَسْجِدِ، وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ
الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ فِي جَوْفِ
الْمَسْجِدِ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَا
يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ، فَإِنْ
كَانَ يَشْتَبِهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ
وُقُوفُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ لَا
يُجْزِئْهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى
التَّبَعِيَّةِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي جَوْفِ
الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى
سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، مُتَّصِلٍ بِهِ،
لَيْسَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، فَاقْتَدَى بِهِ
صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ; لِأَنَّهُ تَرَكَ
مَكَانَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ
غَيْرِ ضَرُورَةٍ. "وَلَنَا" أَنَّ السَّطْحَ
إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ
كَانَ تَبَعًا لِسَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَتَبَعُ
سَطْحِ الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ،
فَكَانَ اقْتِدَاؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ
كَاقْتِدَائِهِ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ
إذَا كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ
الْإِمَامِ. وَلَوْ اقْتَدَى خَارِجَ
الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ: إنْ
كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ،
وَإِلَّا فَلَا; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ يَلْتَحِقُ
بِالْمَسْجِدِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ
يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَّا إذَا
كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ: فَإِنْ
كَانَتْ الْفُرْجَةُ الَّتِي بَيْنَ
الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ قَدْرَ الصَّفَّيْنِ
فَصَاعِدًا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ;
لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ
الْعَامِّ أَوْ النَّهْرِ الْعَظِيمِ
فَيُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ وَذُكِرَ فِي
الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ عَنْ
إمَامٍ يُصَلِّي فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ
كَمْ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا حَتَّى
يَمْنَعَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ ؟ قَالَ إذَا
كَانَ مِقْدَارُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ
يَصْطَفَّ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقِيلَ
لَهُ: لَوْ صَلَّى فِي مُصَلَّى الْعِيدِ ؟
قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَلَوْ
كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي عَلَى دُكَّانٍ
وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ أَوْ عَلَى
الْقَلْبِ جَازَ وَيُكْرَهُ. "أَمَّا"
الْجَوَازُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ
التَّبَعِيَّةَ وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ
الْإِمَامِ، "وَأَمَّا" الْكَرَاهَةُ
فَلِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ، وَلِمَا
يُذْكَرُ فِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ
لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى: وَانْفِرَادُ
الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ الصَّفِّ
لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ
الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل:
يَمْنَعُ، "وَاحْتَجُّوا" بِمَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا صَلَاةَ
لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ"،
وَعَنْ وَابِصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي
حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ: "أَعِدْ
صَلَاتَكَ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ
خَلْفَ الصَّفِّ". "وَلَنَا" مَا رُوِيَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ
قَالَ: "أَقَامَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَأَقَامَ أُمِّي
أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا" جَوَّزَ
اقْتِدَاءَهَا بِهِ عَنْ انْفِرَادِهَا خَلْفَ
الصُّفُوفِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ
مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ
الرَّجُلِ; لِأَنَّهُ أَقَامَهَا خَلْفَهُمَا
مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الِانْفِرَادِ خَلْفَ
الصَّفِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ
صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا. وَرُوِيَ أَنَّ
"أَبَا بَكْرَةَ رضي الله عنه دَخَلَ
الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ وَدَبَّ
حَتَّى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ، فَلَمَّا
فَرَغَ النَّبِيُّ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ:
"زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أَوْ قَالَ: لَا تَعْدُ" جَوَّزَ
اقْتِدَاءَهُ بِهِ خَلْفَ الصَّفِّ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ
أَنَّ مَنْ بِجَنْبِهِ كَانَ مُحْدِثًا
تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ
كَانَ هُوَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ
حَقِيقَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى
نَفْيِ الْكَمَالِ، وَالْأَمْرُ
بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ، وَلَوْ ثَبَتَ
فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي
الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ
قَالَ: "فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، أَيْ
نَاحِيَةٍ، لَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ
يَلْتَحِقَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ إنْ وَجَدَ
فُرْجَةً ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيُكْرَهُ لَهُ
الِانْفِرَادُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ،
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ نَذْكُرهُ فِي بَيَانِ
مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ
انْفَرَدَ ثُمَّ مَشَى لِيَلْحَقَ بِالصَّفِّ
ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلَمَةَ أَنَّهُ إنْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ
مِقْدَارَ صَفٍّ وَاحِدٍ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ
مَشَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَتْ،
وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا قَامَ إلَى
قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَتَقَدَّمَ حَتَّى
لَا يَمُرَّ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ
إنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ لَا تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَسَدَتْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي
اللَّيْثِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ
فِي الصَّحْرَاءِ وَمَشَى مِقْدَارَ صَفٍّ
وَوَقَفَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَقَدَّرَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ،
وَبَعْضُهُمْ بِمِقْدَارِ الصَّفَّيْنِ، إنْ
زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
"فصل": وأما واجباتها فأنواع بعضها قبل الصلاة، وبعضها في الصلاة، وبعضها
عند الخروج من الصلاة، وبعضها في حرمة الصلاة
بعد الخروج منها. "أما" الذي قبل الصلاة
فاثنان: أحدهما الأذان والإقامة. والكلام في
الأذان يقع في مواضع: في بيان وجوبه في
الجملة، وفي بيان كيفيته، وفي بيان سببه، وفي
بيان محل وجوبه، وفي بيان وقته، وفي بيان ما
يجب على السامعين عند سماعه. "وأما" الأول فقد
ذكر محمد ما يدل على الوجوب فإنه قال: إن أهل
بلدة لو اجتمعوا على ترك الأذان لقاتلتهم
عليه، ولو تركه واحد ضربته وحبسته، وإنما
يقاتل ويضرب
ج / 1 ص -147-
ويحبس
على ترك الواجب، وعامة مشايخنا قالوا: إنهما
سنتان مؤكدتان، لما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة
أنه قال في قوم صلوا الظهر أو العصر في المصر
بجماعة بغير أذان ولا إقامة: فقد أخطئوا السنة
وخالفوا وأثموا، والقولان لا يتنافيان لأن
السنة المؤكدة والواجب سواء خصوصا السنة التي
هي من شعائر الإسلام، فلا يسع تركها، ومن
تركها فقد أساء; لأن ترك السنة المتواترة يوجب
الإساءة، وإن لم تكن من شعائر الإسلام فهذا
أولى ألا ترى أن أبا حنيفة سماه سنة، ثم فسره
بالواجب حيث قال: أخطئوا السنة وخالفوا وأثموا
؟ والإثم إنما يلزم بترك الواجب. ودليل الوجوب
حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي
الله عنه وهو الأصل في باب الأذان فإنه روى أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن
تفوتهم الصلاة مع الجماعة لاشتباه الوقت عليهم
وأرادوا أن ينصبوا لذلك علامة، قال بعضهم:
"نضرب بالناقوس فكرهوا ذلك لمكان النصارى"
وقال بعضهم: "نضرب بالشبور فكرهوا ذلك لمكان
اليهود"، وقال بعضهم: "نوقد نارا عظيمة فكرهوا
ذلك لمكان المجوس، فتفرقوا من غير رأي اجتمعوا
عليه، فدخل عبد الله بن زيد منزله فقدمت
امرأته العشاء فقال: ما أنا بآكل وأصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يهمهم أمر الصلاة،
إلى أن قال: كنت بين النائم واليقظان إذ رأيت
نازلا نزل من السماء وعليه بردان أخضران وبيده
ناقوس، فقلت له: أتبيع مني هذا الناقوس ؟
فقال: ما تصنع به ؟ فقلت: أذهب به إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليضرب به لوقت الصلاة
فقال: ألا أدلك إلى ما هو خير منه ؟ فقلت: نعم
فوقف على حذم حائط مستقبل القبلة وقال: الله
أكبر الأذان المعروف إلى آخره، قال: "ثم مكث
هنيهة ثم قال مثل ذلك، إلا أنه زاد في آخره قد
قامت الصلاة مرتين، قال: فلما أصبحت ذكرت ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"إنه لرؤيا حق"،
فألقها إلى بلال فإنه أندى وأمد صوتا منك،
ومره ينادي به، فلما سمع عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أذان بلال خرج من المنزل يجر ذيل
ردائه فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق
لقد طاف بي الليلة مثل ما طاف بعبد الله إلا
أنه سبقني به، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "الحمد
لله وإنه لأثبت". فقد أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله أن
يلقي الأذان إلى بلال ويأمره ينادي به، ومطلق
الأمر لوجوب العمل. وروي عن محمد بن الحنفية
أنه أنكر ذلك، ولا معنى للإنكار، فإنه روي عن
معاذ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي
الله عنهم أنهم قالوا: "إن أصل الأذان رؤيا
عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وهذا
لأن أصل الأذان وإن كان رؤيا عبد الله لكن
النبي صلى الله عليه وسلم لما شهد بحقيقة
رؤياه ثبتت حقيقتها، ولما أمره بأن يأمر بلالا
ينادي به ثبت وجوبه لما بينا"; ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم واظب عليه في عمره في الصلوات
المكتوبات، ومواظبته دليل الوجوب مهما قام
عليه دليل عدم الفرضية، وقد قام ههنا.
فصل": وأما بيان كيفية الأذان فهو على الكيفية المعروفة المتواترة من غير
زيادة ولا نقصان عند عامة العلماء، وزاد
بعضهم، ونقص البعض، فقال مالك: "يختم الأذان
بقوله: "الله أكبر"، اعتبارا للانتهاء
بالابتداء. "ولنا" حديث عبد الله بن زيد، وفيه
الختم "بلا إله إلا الله" وأصل الأذان ثبت
بحديثه، فكذا قدره، وما يروون فيه من الحديث
فهو غريب فلا يقبل خصوصا فيما تعم به البلوى،
والاعتماد في مثله على المشهور وهو ما روينا.
وقال مالك: "يكبر في الابتداء مرتين" وهو
رواية عن أبي يوسف اعتبارا بكلمة الشهادتين
حيث يؤتى بها مرتين. "ولنا" حديث عبد الله بن
زيد، وفيه التكبير أربع مرات بصوتين، وروي عن
أبي محذورة مؤذن مكة أنه قال: "علمني رسول
الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسعة عشر
كلمة، والإقامة سبعة عشر كلمة، وإنما يكون
كذلك إذا كان التكبير فيه مرتين. وأما
الاعتبار بالشهادتين فنقول: "كل تكبيرتين بصوت
واحد عندنا، فكأنهما كلمة واحدة فيأتي بهما
مرتين كما يأتي بالشهادتين" وقال الشافعي:
"فيه ترجيع وهو أن يبتدئ المؤذن بالشهادتين
فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد
أن محمدا رسول الله مرتين، يخفض بهما صوته، ثم
يرجع إليهما ويرفع بهما صوته". "واحتج" بحديث
أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
له: ارجع فمد بهما صوتك. "ولنا" حديث عبد الله
بن زيد وليس فيه
ج / 1 ص -148-
ترجيع،
وكذا لم يكن في آذان بلال وابن أم مكتوم
ترجيع. "وأما" حديث أبي محذورة فقد كان في
ابتداء الإسلام، فإنه روى أنه لما أذن وكان
حديث العهد بالإسلام قال: الله أكبر الله أكبر
أربع مرات بصوتين ومد صوته، فلما بلغ إلى
الشهادتين خفض بهما صوته، بعضهم قالوا: "إنما
فعل ذلك مخافة الكفار"، وبعضهم قالوا: "إنه
كان جهوري الصوت، وكان في الجاهلية يجهر بسب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغ إلى
الشهادتين استحيا فخفض بهما صوته، فدعاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعرك أذنه وقال: ارجع
وقل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا
رسول الله، ومد بهما صوتك غيظا للكفار".
"وأما" الإقامة فمثنى مثنى عند عامة العلماء
كالأذان، وعند مالك والشافعي فرادى فرادى إلا
قوله: "قد قامت الصلاة" فإنه يقولها مرتين عند
الشافعي، "واحتجا" بما روى أنس بن مالك أن
بلالا رضي الله عنه أمر أن يشفع الأذان ويوتر
الإقامة، والظاهر أن الآمر كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم. "ولنا" حديث عبد الله بن زيد
أن النازل من السماء أتى بالأذان ومكث هنيهة
ثم قال مثل ذلك إلا أنه زاد في آخره مرتين "قد
قامت الصلاة" ، وروينا في حديث أبي محذورة "
والإقامة سبع عشرة كلمة "، وإنما تكون كذلك
إذا كانت مثنى. وقال إبراهيم النخعي: "كان
الناس يشفعون الإقامة حتى خرج هؤلاء يعني بني
أمية فأفردوا الإقامة ومثله لا يكذب، وأشار
إلى كون الإفراد بدعة، والحديث محمول على
الشفع والإيتار في حق الصوت والنفس دون حقيقة
الكلمة، بدليل ما ذكرنا والله أعلم. "وأما"
التثويب فالكلام فيه في ثلاثة مواضع: أحدها في
تفسير التثويب في الشرع، والثاني في المحل
الذي شرع فيه، والثالث في وقته "أما" الأول
فقد ذكره محمد رحمه الله تعالى: في كتاب
الصلاة، قلت: أرأيت كيف التثويب في صلاة الفجر
؟ قال: كان التثويب الأول بعد الأذان " الصلاة
خير من النوم " فأحدث الناس هذا التثويب وهو
حسن، فسر التثويب، وبين وقته، ولم يفسر
التثويب المحدث، ولم يبين وقته، وفسر ذلك في
الجامع الصغير وبين وقته فقال: "التثويب الذي
يصنعه الناس بين الأذان والإقامة في صلاة
الفجر " حي على الصلاة حي على الفلاح " مرتين
– حسن"، وإنما سماه محدثا لأنه أحدث في زمن
التابعين، ووصفه بالحسن لأنهم استحسنوه. وقد
قال صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المؤمنون
حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون
قبيحا فهو عند الله قبيح". "وأما" محل التثويب
فمحل الأول هو صلاة الفجر عند عامة العلماء،
وقال بعض الناس "بالتثويب في صلاة العشاء
أيضا"، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى:
في القديم، وأنكر التثويب في الجديد رأسا.
"وجه" قوله الأول أن هذا وقت نوم وغفلة كوقت
الفجر فيحتاج إلى زيادة إعلام كما في وقت
الفجر. "وجه" قوله الآخر أن أبا محذورة علمه
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة
كلمة وليس فيها التثويب، وكذا ليس في حديث عبد
الله بن زيد ذكر التثويب. "ولنا" ما روى عبد
الرحمن بن أبي ليلى عن بلال رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال
ثوب في الفجر ولا تثوب في غيرها"، فبطل به
المذهبان جميعا، وعن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم عن أبيه أن بلالا أتى النبي صلى الله
عليه وسلم يؤذنه بالصلاة فوجده راقدا فقال:
الصلاة خير من النوم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: ما أحسن هذا اجعله في أذانك، وعن أنس بن
مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان التثويب على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة
خير من النوم " وتعليم النبي صلى الله عليه
وسلم أبا محذورة، وتعليم الملك كان تعليم أصل
الأذان لا ما يذكر فيه من زيادة الإعلام، وما
ذكروا من الاعتبار غير سديد; لأن وقت الفجر
وقت نوم وغفلة بخلاف غيره من الأوقات، مع أنه
صلى الله عليه وسلم نهى عن النوم قبل العشاء،
وعن السمر بعدها، فالظاهر هو التيقظ. "وأما"
التثويب المحدث فمحله صلاة الفجر أيضا، ووقته
ما بين الأذان والإقامة، وتفسيره أن يقول: "حي
على الصلاة حي على الفلاح على ما بين في
الجامع الصغير، غير أن مشايخنا قالوا: "لا بأس
بالتثويب المحدث في سائر الصلوات لفرط غلبة
الغفلة على الناس في زماننا، وشدة ركونهم إلى
الدنيا، وتهاونهم بأمور الدين، فصار سائر
الصلوات في زماننا مثل الفجر في زمانهم، فكان
زيادة الإعلام من باب التعاون على البر
والتقوى، فكان مستحسنا"، ولهذا قال أبو يوسف:
"لا أرى بأسا أن يقول المؤذن: " السلام عليك
ج / 1 ص -149-
أيها
الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي
على الفلاح، الصلاة يرحمك الله"; لاختصاصهم
بزيادة شغل بسبب النظر في أمور الرعية،
فاحتاجوا إلى زيادة إعلام نظرا لهم، ثم
التثويب في كل بلدة على ما يتعارفونه: إما
بالتنحنح، أو بقوله: الصلاة الصلاة، أو قامت
قامت، أو بايك نماز بايك كما يفعل أهل بخارى;
لأنه الإعلام، والإعلام إنما يحصل بما
يتعارفونه. "وأما" وقته فقد بينا وقت التثويب
القديم والمحدث جميعا والله الموفق.
فصل": وأما بيان سنن الأذان فسنن الأذان في الصلاة نوعان: نوع يرجع إلى
نفس الأذان، ونوع يرجع إلى صفات المؤذن. "أما"
الذي يرجع إلى نفس الأذان فأنواع: منها أن
يجهر بالأذان فيرفع به صوته; لأن المقصود وهو
الإعلام يحصل به ألا ترى أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لعبد الله بن زيد علمه بلالا
فإنه أندى وأمد صوتا منك ؟ ولهذا كان الأفضل
أن يؤذن في موضع يكون أسمع للجيران كالمئذنة
ونحوها، ولا ينبغي أن يجهد نفسه; لأنه يخاف
حدوث بعض العلل كالفتق وأشباه ذلك، دل عليه ما
روي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي محذورة أو
لمؤذن بيت المقدس حين رآه يجهد نفسه في
الأذان: أما تخشى أن ينق طع مريطاؤك وهو ما
بين السرة إلى العانة، وكذا يجهر بالإقامة لكن
دون الجهر بالأذان; لأن المطلوب من الإعلام
بها دون المقصود من الأذان. "ومنها" أن يفصل
بين كلمتي الأذان بسكتة، ولا يفصل بين كلمتي
الإقامة بل يجعلها كلاما واحدا; لأن الإعلام
المطلوب من الأول لا يحصل إلا بالفصل،
والمطلوب من الإقامة يحصل بدونه. "ومنها" أن
يترسل في الأذان ويحدر في الإقامة لقول النبي
صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه:
"إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر" وفي رواية:
"فاحذم", وفي
رواية: "فاحذف"
ولأن الأذان لإعلام الغائبين بهجوم الوقت، وذا
في الترسل أبلغ، والإقامة لإعلام الحاضرين
بالشروع في الصلاة، وإنه يحصل بالحدر، ولو
ترسل فيهما أو حدر أجزأه لحصول أصل المقصود
وهو: الإعلام. "ومنها" أن يرتب بين كلمات
الأذان والإقامة، حتى لو قدم البعض على البعض
ترك المقدم ثم يرتب ويؤلف ويعيد المقدم; لأنه
لم يصادف محله فلغا، وكذلك إذا ثوب بين الأذان
والإقامة في الفجر فظن أنه في الإقامة فأتمها،
ثم تذكر قبل الشروع في الصلاة فالأفضل أن يأتي
بالإقامة من أولها إلى آخرها مراعاة للترتيب،
ودليل كون الترتيب أن النازل من السماء رتب،
وكذا المروي عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنهما رتبا; ولأن الترتيب في الصلاة فرض،
والأذان شبيه بها فكان الترتيب فيه سنة
"ومنها" أن يوالي بين كلمات الأذان والإقامة;
لأن النازل من السماء والى وعليه عمل مؤذني
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه لو أذن
فظن أنه الإقامة، ثم علم بعد ما فرغ فالأفضل
أن يعيد الأذان، ويستقبل الإقامة مراعاة
للموالاة وكذا إذا أخذ في الإقامة وظن أنه في
الأذان، ثم علم فالأفضل أن يبتدئ الإقامة لما
قلنا، وعلى هذا إذا غشي عليه في الأذان
والإقامة ساعة، أو مات، أو ارتد عن الإسلام ثم
أسلم، أو أحدث فذهب وتوضأ، ثم جاء فالأفضل هو
الاستقبال لما قلنا، والأولى له إذا أحدث في
أذانه أو إقامته أن يتمها ثم يذهب ويتوضأ
ويصلي; لأن ابتداء الأذان والإقامة مع الحدث
جائز، فالبناء أولى. ولو أذن ثم ارتد عن
الإسلام فإن شاءوا أعادوا; لأنه عبادته محضة،
والردة محبطة للعبادات، فيصير ملحقا بالعدم
وإن شاءوا اعتدوا به لحصول المقصود وهو
الإعلام وكذا يكره للمؤذن أن يتكلم في أذانه
أو إقامته، لما فيه من ترك سنة الموالاة;
ولأنه ذكر معظم كالخطبة فلا يسع ترك حرمته
ويكره له رد السلام في الأذان لما قلنا، وعن
سفيان الثوري أنه لا بأس بذلك; لأنه فرض،
ولكنا نقول: إنه يحتمل التأخير إلى الفراغ من
الأذان. "ومنها" أن يأتي بالأذان والإقامة
مستقبل القبلة; لأن النازل من السماء هكذا
فعل، وعليه إجماع الأمة، ولو ترك الاستقبال
يجزيه لحصول المقصود وهو الإعلام، لكنه يكره
لتركه السنة المتواترة، إلا أنه إذا انتهى إلى
الصلاة والفلاح حول وجهه يمينا وشمالا، كذا
فعل النازل من السماء، ولأن هذا خطاب للقوم
فيقبل بوجهه إليهم إعلاما لهم، كالسلام في
الصلاة، وقدماه مكانهما ليبقى مستقبل القبلة
بالقدر الممكن كما في السلام والصلاة، ويحول
وجهه مع بقاء البدن مستقبل القبلة كذا ههنا
وإن كان في الصومعة: فإن كانت ضيقة لزم مكانه،
لانعدام الحاجة إلى الاستدارة وإن كانت واسعة
فاستدار فيها ليخرج رأسه من نواحيها فحسن; لأن
الصومعة إذا كانت متسعة فالإعلام لا يحصل
ج / 1 ص -150-
بدون
الاستدارة. "ومنها" أن يكون التكبير جزما، وهو
قوله: الله أكبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأذان جزم". "ومنها" ترك التلحين في الأذان، لما روي أن رجلا جاء إلى ابن عمر
رضي الله عنهما فقال: إني أحبك في الله تعالى:
فقال ابن عمر: إني أبغضك في الله تعالى: فقال:
لم قال: لأنه بلغني أنك تغني في أذانك"، يعني
التلحين، أما التفخيم فلا بأس به; لأنه إحدى
اللغتين. "ومنها" الفصل فيما سوى المغرب بين
الأذان والإقامة; لأن الإعلام المطلوب من كل
واحد منهما لا يحصل إلا بالفصل، والفصل فيما
سوى المغرب بالصلاة أو بالجلوس مسنون، والوصل
مكروه، وأصله ما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال لبلال:
"إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر"، وفي رواية فاحذف، وفي رواية "فاحذم، وليكن بين أذانك وإقامتك
مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من
شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا
تقوموا في الصف حتى تروني"; ولأن الأذان
لاستحضار الغائبين فلا بد من الإمهال ليحضروا،
ثم لم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الفصل، وروى
الحسن عن أبي حنيفة في الفجر قدر ما يقرأ
عشرين آية، وفي الظهر قدر ما يصلي أربع ركعات
يقرأ في كل ركعة نحوا من عشر آيات، وفي العصر
مقدار ما يصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة نحوا من
عشر آيات، وفي المغرب يقوم مقدار ما يقرأ ثلاث
آيات، وفي العشاء كما في الظهر وهذا ليس
بتقدير لازم، فينبغي أن يفعل مقدار ما يحضر
القوم مع مراعاة الوقت المستحب وأما المغرب
فلا يفصل فيها بالصلاة عندنا، وقال الشافعي:
"يفصل بركعتين خفيفتين اعتبارا بسائر
الصلوات". "ولنا" ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "بين كل أذانين صلاة لمن
شاء إلا المغرب"، وهذا نص، ولأن مبنى المغرب
على التعجيل لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "لن تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب
إلى اشتباك النجوم"، والفصل بالصلاة تأخير
لها، فلا يفصل بالصلاة، وهل يفصل بالجلوس ؟
قال أبو حنيفة: "لا يفصل". وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى: -: "يفصل بجلسة
خفيفة كالجلسة التي بين الخطبتين" "وجه"
قولهما أن الفصل مسنون، ولا يمكن بالصلاة،
فيفصل بالجلسة لإقامة السنة ولأبي حنيفة أن
الفصل بالجلسة تأخير للمغرب، وأنه مكروه،
ولهذا لم يفصل بالصلاة فبغيرها أولى، ولأن
الوصل مكروه، وتأخير المغرب أيضا مكروه،
والتحرز عن الكراهتين يحصل بسكتة خفيفة،
وبالهيئة من الترسل والحذف، والجلسة لا تخلو
عن أحدهما، وهي كراهة التأخير فكانت مكروهة
"وأما" الذي يرجع إلى صفات المؤذن فأنواع
أيضا: "منها" أن يكون رجلا، فيكره أذان المرأة
باتفاق الروايات; لأنها إن رفعت صوتها فقد
ارتكبت معصية، وإن خفضت فقد تركت سنة الجهر;
ولأن أذان النساء لم يكن في السلف فكان من
المحدثات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"كل محدثة
بدعة"، ولو أذنت للقوم أجزأهم حتى لا تعاد لحصول المقصود وهو: الإعلام.
وروي عن أبي حنيفة أنه يستحب الإعادة وكذا
أذان الصبي العاقل، وإن كان جائزا حتى لا يعاد
ذكره في ظاهر الرواية لحصول المقصود وهو:
الإعلام، لكن أذان البالغ أفضل; لأنه في
مراعاة الحرمة أبلغ وروى أبو يوسف عن أبي
حنيفة أنه قال: "أكره أن يؤذن من لم يحتلم;
لأن الناس لا يعتدون بأذانه، وأما أذان الصبي
الذي لا يعقل فلا يجزئ ويعاد; لأن ما يصدر لا
عن عقل لا يعتد به كصوت الطيور. "ومنها": أن
يكون عاقلا، فيكره أذان المجنون والسكران الذي
لا يعقل; لأن الأذان ذكر معظم وتأذينهما ترك
لتعظيمه، وهل يعاد ؟ ذكر في ظاهر الرواية: أحب
إلي أن يعاد; لأن عامة كلام المجنون والسكران
هذيان، فربما يشتبه على الناس فلا يقع به
الإعلام. "ومنها" أن يكون تقيا لقول النبي صلى
الله عليه وسلم:
"الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن"، والأمانة لا يؤديها إلا التقي. "ومنها": أن يكون عالما بالسنة
لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤمكم أقرؤكم،
ويؤذن لكم خياركم"، وخيار الناس العلماء; ولأن
مراعاة سنن الأذان لا يتأتى إلا من العالم
بها، ولهذا إن أذان العبد والأعرابي وولد
الزنا، وإن كان جائزا لحصول المقصود وهو
الإعلام، لكن غيرهم أفضل; لأن العبد لا يتفرغ
لمراعاة الأوقات لاشتغاله بخدمة المولى، ولأن
الغالب عليه الجهل، وكذا الأعرابي وولد الزنا
الغالب عليهما الجهل. "ومنها" أن يكون عالما
بأوقات الصلاة، حتى كان البصير أفضل من
الضرير; لأن الضرير لا علم له بدخول الوقت
والإعلام بدخول الوقت ممن لا علم له بالدخول
متعذر
ج / 1 ص -151-
لكن مع
هذا لو أذن يجوز لحصول الإعلام بصوته، وإمكان
الوقوف على المواقيت من قبل غيره في الجملة
وابن أم مكتوم كان مؤذن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان أعمى. "ومنها": "أن يكون
مواظبا على الأذان; لأن حصول الإعلام لأهل
المسجد بصوت المواظب أبلغ من حصوله بصوت من لا
عهد لهم بصوته، فكان أفضل وإن أذن السوقي
لمسجد المحلة في صلاة الليل، وغيره في صلاة
النهار يجوز; لأن السوقي يحرج في الرجوع إلى
المحلة في وقت كل صلاة لحاجته إلى الكسب.
"ومنها" أن يجعل أصبعيه في أذنيه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم لبلال: "إذا أذنت فاجعل
أصبعيك في أذنيك، فإنه أندى لصوتك وأمد بين
الحكم ونبه على الحكمة" وهي المبالغة في تحصيل
المقصود، وإن لم يفعل أجزأه لحصول أصل الإعلام
بدونه، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الأحسن أن
يجعل أصبعيه في أذنيه في الأذان والإقامة، وإن
جعل يديه على أذنيه فحسن، وروى أبو يوسف عن
أبي حنيفة أنه إن جعل إحدى يديه على أذنه
فحسن. "ومنها" أن يكون المؤذن على الطهارة;
لأنه ذكر معظم فإتيانه مع الطهارة أقرب إلى
التعظيم، وإن كان على غير طهارة بأن كان محدثا
يجوز، ولا يكره حتى يعاد في ظاهر الرواية،
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يعاد، ووجهه أن
للأذان شبها بالصلاة، ولهذا يستقبل به القبلة
كما في الصلاة، ثم الصلاة لا تجوز مع الحدث،
فما هو شبيه بها يكره معه وجه ظاهر الرواية ما
روي أن بلالا ربما أذن وهو على غير وضوء، ولأن
الحدث لا يمنع من قراءة القرآن فأولى أن لا
يمنع من الأذان وإن أقام وهو محدث، ذكر في
الأصل وسوى بين الأذان والإقامة فقال: ويجوز
الأذان والإقامة على غير وضوء، وروى أبو يوسف
عن أبي حنيفة أنه قال: أكره إقامة المحدث.
"والفرق" أن السنة وصل الإقامة بالشروع في
الصلاة، فكان الفصل مكروها بخلاف الأذان، ولا
تعاد؛ لأن تكرارها ليس بمشروع بخلاف الأذان.
وأما الأذان مع الجنابة فيكره في ظاهر الرواية
حتى يعاد، وعن أبي يوسف أنه لا يعاد لحصول
المقصود وهو الإعلام -، والصحيح جواب ظاهر
الرواية; لأن أثر الجنابة ظهر في الفم فيمنع
من الذكر المعظم كما يمنع من قراءة القرآن
بخلاف الحدث، وكذا الإقامة مع الجنابة تكره
لكنها لا تعاد لما مر. "ومنها" أن يؤذن قائما
إذا أذن للجماعة، ويكره قاعدا; لأن النازل من
السماء أذن قائما حيث وقف على حذم حائط، وكذا
الناس توارثوا ذلك فعلا، فكان تاركه مسيئا
لمخالفته النازل من السماء وإجماع الخلق; ولأن
تمام الإعلام بالقيام ويجزئه لحصول أصل
المقصود، وإن أذن لنفسه قاعدا فلا بأس به; لأن
المقصود مراعاة سنة الصلاة لا الإعلام، وأما
المسافر فلا بأس أن يؤذن راكبا، لما روي أن
بلالا رضي الله عنه ربما أذن في السفر راكبا،
ولأن له أن يترك الأذان أصلا في السفر فكان له
أن يأتي به راكبا بطريق الأولى، وينزل للإقامة
لما روي أن بلالا أذن وهو راكب، ثم نزل وأقام
على الأرض; ولأنه لو لم ينزل لوقع الفصل بين
الإقامة والشروع في الصلاة بالنزول، وإنه
مكروه وأما في الحضر فيكره الأذان راكبا في
ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه قال: "لا بأس
به ثم المؤذن يختم الإقامة على مكانه، أو
يتمها ماشيا"، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم:
"يختمها على مكانه سواء كان المؤذن إماما أو
غيره، وكذا روي عن أبي يوسف. وقال بعضهم:
"يتمها ماشيا، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني
أنه إذا بلغ قوله: "قد قامت الصلاة" فهو
بالخيار إن شاء مشى، وإن شاء وقف، إماما كان،
أو غيره، وبه أخذ الشافعي والفقيه أبو الليث،
وما روي عن أبي يوسف رحمه الله أصح "ومنها" أن
يؤذن في مسجد واحد، ويكره أن يؤذن في مسجدين،
ويصلي في أحدهما; لأنه إذا صلى في المسجد
الأول يكون متنفلا بالأذان في المسجد الثاني،
والتنفل بالأذان غير مشروع; ولأن الأذان يختص
بالمكتوبات، وهو في المسجد الثاني يصلي
النافلة فلا ينبغي أن يدعو الناس إلى المكتوبة
وهو لا يساعدهم فيها. "ومنها" أن من أذن فهو
الذي يقيم، وإن أقام غيره: فإن كان يتأذى بذلك
يكره; لأن اكتساب أذى المسلم مكروه، وإن كان
لا يتأذى به لا يكره وقال الشافعي: "يكره تأذى
به أو لم يتأذ "احتج" بما روي عن أخي صداء أنه
قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا
إلى حاجة له فأمرني أن أؤذن فأذنت، فجاء بلال
وأراد أن يقيم، فنهاه عن ذلك وقال: إن أخا
صداء هو الذي أذن ومن أذن فهو الذي يقيم".
"ولنا" ما روي أن عبد الله بن زيد "لما قص
الرؤيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
له: لقنها بلالا، فأذن بلال ثم أمر النبي صلى
الله
ج / 1 ص -152-
عليه
وسلم عبد الله بن زيد فأقام". وروي أن ابن أم
مكتوم كان يؤذن وبلال يقيم، وربما أذن بلال
وأقام ابن أم مكتوم، وتأويل ما رواه أن ذلك
كان يشق عليه; لأنه روي أنه كان حديث عهد
بالإسلام، وكان يحب الأذان والإقامة "ومنها"
أن يؤذن محتسبا، ولا يأخذ على الأذان والإقامة
أجرا، ولا يحل له أخذ الأجرة على ذلك; لأنه
استئجار على الطاعة، وذا لا يجوز; لأن الإنسان
في تحصيل الطاعة عامل لنفسه، فلا يجوز له أخذ
الأجرة عليه، وعند الشافعي يحل له أن يأخذ على
ذلك أجرا، وهي من مسائل كتاب الإجارات، وفي
الباب حديث خاص وهو ما روي عن عثمان بن أبي
العاص رضي الله عنه أنه قال: "آخر ما عهد إلي
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بالقوم
صلاة أضعفهم، وأن أتخذ مؤذنا لا يأخذ عليه
أجرا، وإن علم القوم حاجته فأعطوه شيئا من غير
شرط فهو حسن; لأنه من باب البر والصدقة
والمجازاة على إحسانه بمكانهم، وكل ذلك حسن
والله أعلم.
فصل": وأما بيان محل وجوب الأذان فالمحل الذي يجب فيه الأذان ويؤذن له
الصلوات المكتوبة التي تؤدى بجماعة مستحبة في
حال الإقامة، فلا أذان ولا إقامة في صلاة
الجنازة; لأنها ليست بصلاة على الحقيقة لوجود
بعض ما يتركب منه الصلاة وهو القيام، إذ لا
قراءة فيها ولا ركوع ولا سجود ولا قعود، فلم
تكن صلاة على الحقيقة، ولا أذان ولا إقامة في
النوافل; لأن الأذان للإعلام بدخول وقت
الصلاة، والمكتوبات هي المختصة بأوقات معينة
دون النوافل; ولأن النوافل تابعة للفرائض فجعل
أذان الأصل أذانا للتبع تقديرا، ولا أذان، ولا
إقامة في السنن لما قلنا، ولا أذان، ولا إقامة
في الوتر; لأنه سنة عندهما فكان تبعا للعشاء،
فكان تبعا لها في الأذان كسائر السنن. وعند
أبي حنيفة واجب، والواجب غير المكتوبة والأذان
من خواص المكتوبات، ولا أذان ولا إقامة في
صلاة العيدين، وصلاة الكسوف والخسوف
والاستسقاء; لأنها ليست بمكتوبة، ولا أذان ولا
إقامة في جماعة النسوان والصبيان والعبيد; لأن
هذه الجماعة غير مستحبة. وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على النساء أذان
ولا إقامة"; ولأنه ليس عليهن الجماعة فلا يكون
عليهن الأذان والإقامة، والجمعة فيها أذان
وإقامة; لأنها مكتوبة تؤدى بجماعة مستحبة;
ولأن فرض الوقت هو الظهر عند بعض أصحابنا،
والجمعة قائمة مقامه، وعند بعضهم: الفرض هو
الجمعة ابتداء وهي آكد من الظهر، حتى وجب ترك
الظهر لأجلها، ثم إنهما وجبا لإقامة الظهر،
فالجمعة أحق، ثم الأذان المعتبر يوم الجمعة هو
ما يؤتى به إذا صعد الإمام المنبر، وتجب
الإجابة والاستماع له دون الذي يؤتى به على
المنارة، وهذا قول عامة العلماء، وكان الحسن
بن زياد يقول: المعتبر هو الأذان على المنارة;
لأن الإعلام يقع به، والصحيح قول العامة لما
روي عن السائب بن زيد أنه قال: "كان الأذان
يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعلى عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
أذانا واحدا حين يجلس الإمام على المنبر، فلما
كانت خلافة عثمان رضي الله عنه وكثر الناس أمر
عثمان رضي الله عنه بالأذان الثاني على
الزوراء "وهي المنارة، وقيل: اسم موضع
بالمدينة، وصلاة العصر بعرفة تؤدى مع الظهر في
وقت الظهر بأذان واحد، ولا يراعى للعصر أذان
على حدة، لأنها شرعت في وقت الظهر في هذا
اليوم فكان أذان الظهر وإقامته عنهما جميعا،
وكذلك صلاة المغرب مع العشاء بمزدلفة يكتفى
فيهما بأذان واحد لما ذكرنا، إلا أن في الجمع
الأول يكتفى بأذان واحد لكن بإقامتين، وفي
الثاني يكتفى بأذان واحد وإقامة واحدة عند
أصحابنا الثلاثة، وعند زفر بأذان واحد
وإقامتين كما في الجمع الأول، وعند الشافعي
بأذانين وإقامة واحدة لما يذكر في كتاب
المناسك إن شاء الله تعالى: -. ولو صلى الرجل
في بيته وحده، ذكر في الأصل إذا صلى الرجل في
بيته واكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه، وإن
أقام فهو حسن; لأنه إن عجز عن تحقق الجماعة
بنفسه فلم يعجز عن التشبه، فيندب إلى أن يؤدي
الصلاة على هيئة الصلاة بالجماعة، ولهذا كان
الأفضل أن يجهر بالقراءة في صلوات الجهر، وإن
ترك ذلك واكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه،
لما روي أن عبد الله بن مسعود صلى بعلقمة
والأسود بغير أذان ولا إقامة وقال: "يكفينا
أذان الحي وإقامتهم،. أشار إلى أن أذان الحي
وإقامتهم وقع لكل واحد من أهل الحي ألا ترى أن
على كل واحد منهم أن يحضر مسجد الحي، وروى ابن
أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في قوم
صلوا في
ج / 1 ص -153-
المصر
في منزل أو في مسجد منزل، فأخبروا بأذان الناس
وإقامتهم أجزأهم. وقد أساءوا بتركهما، فقد فرق
بين الجماعة والواحد; لأن أذان الحي يكون
أذانا للأفراد ولا يكون أذانا للجماعة، هذا في
المقيمين وأما المسافرون فالأفضل لهم أن
يؤذنوا ويقيموا، ويصلوا جماعة; لأن الأذان
والإقامة من لوازم الجماعة المستحبة، والسفر
لم يسقط الجماعة فلا يسقط ما هو من لوازمها،
فإن صلوا بجماعة وأقاموا وتركوا الأذان أجزأهم
ولا يكره، ويكره لهم ترك الإقامة بخلاف أهل
المصر إذا تركوا الأذان وأقاموا أنه يكره لهم
ذلك; لأن السفر سبب الرخصة. وقد أثر في سقوط
شطر فجاز أن يؤثر في سقوط أحد الأذانين، إلا
أن الإقامة آكد ثبوتا فيسقط شطر الأذان دون
الإقامة، وأصله ما روي عن علي رضي الله عنه
أنه قال: "المسافر بالخيار إن شاء أذن، وأقام،
وإن شاء أقام ولم يؤذن"، ولم يوجد في حق أهل
المصر سبب الرخصة، ولأن الأذان للإعلام بهجوم
وقت الصلاة ليحضروا، والقوم في السفر حاضرون
فلم يكره تركه لحصول المقصود بدونه، بخلاف
الحضر; لأن الناس لتفرقهم واشتغالهم بأنواع
الحرف والمكاسب لا يعرفون بهجوم الوقت، فيكره
ترك الإعلام في حقهم بالأذان، بخلاف الإقامة
فإنها للإعلام بالشروع في الصلاة، وذا لا
يختلف في حق المقيمين والمسافرين وأما المسافر
إذا كان وحده فإن ترك الأذان فلا بأس به، وإن
ترك الإقامة يكره، والمقيم إذا كان يصلي في
بيته وحده فترك الأذان والإقامة لا يكره
"والفرق" أن أذان أهل المحلة يقع أذانا لكل
واحد من أهل المحلة، فكأنه وجد الأذان منه في
حق نفسه تقديرا، فأما في السفر فلم يوجد
الأذان والإقامة للمسافر من غيره، غير أنه سقط
الأذان في حقه رخصة وتيسيرا فلا بد من
الإقامة، ولو صلى في مسجد بأذان وإقامة هل
يكره أن يؤذن ويقام فيه ثانيا؟ فهذا لا يخلو
من أحد وجهين: إما أن كان مسجدا له أهل معلوم،
أو لم يكن: فإن كان له أهل معلوم: فإن صلى فيه
غير أهله بأذان وإقامة لا يكره لأهله أن
يعيدوا الأذان والإقامة، وإن صلى فيه أهله
بأذان وإقامة، أو بعض أهله يكره لغير أهله
وللباقين من أهله أن يعيدوا الأذان والإقامة،
وعند الشافعي لا يكره وإن كان مسجدا ليس له
أهل معلوم بأن كان على شوارع الطريق لا يكره
تكرار الأذان والإقامة فيه، وهذه المسألة بناء
على مسألة أخرى وهي أن تكرار الجماعة في مسجد
واحد هل يكره ؟ فهو على ما ذكرنا من التفصيل
والاختلاف. وروي عن أبي يوسف أنه إنما يكره
إذا كانت الجماعة الثانية كثيرة، فأما إذا
كانوا ثلاثة، أو أربعة فقاموا في زاوية من
زوايا المسجد وصلوا بجماعة لا يكره. وروي عن
محمد أنه إنما يكره إذا كانت الثانية على سبيل
التداعي والاجتماع، فأما إذا لم يكن فلا يكره.
"احتج" الشافعي بما روي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلى بجماعة في المسجد، فلما فرغ من
صلاته دخل رجل وأراد أن يصلي وحده فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من يتصدق على هذا الرجل" فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، فقام وصلى معه "
وهذا أمر بتكرار الجماعة، وما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليأمر بالمكروه; ولأن قضاء
حق المسجد واجب كما يجب قضاء حق الجماعة، حتى
أن الناس لو صلوا بجماعة في البيوت وعطلوا
المساجد أثموا وخوصموا يوم القيامة بتركهم
قضاء حق المسجد، ولو صلوا فرادى في المساجد
أثموا بتركهم الجماعة، والقوم الآخرون ما قضوا
حق المسجد فيجب عليهم قضاء حقه بإقامة الجماعة
فيه، ولا يكره، والدليل عليه أنه لا يكره في
مساجد قوارع الطرق، كذا هذا. "ولنا" ما روى
عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته
ليصلح بين الأنصار لتشاجر بينهم فرجع وقد صلى
في المسجد بجماعة فدخل رسول الله صلى الله
عليه وسلم في منزل بعض أهله فجمع أهله فصلى
بهم جماعة، ولو لم يكره تكرار الجماعة في
المسجد لما تركها رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع علمه بفضل الجماعة في المسجد. وروي عن
أنس بن مالك رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة
صلوا في المسجد فرادى; ولأن التكرار يؤدي إلى
تقليل الجماعة; لأن الناس إذا علموا أنهم
تفوتهم الجماعة فيستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا
علموا أنها لا تفوتهم يتأخرون فتقل الجماعة،
وتقليل الجماعة مكروه، بخلاف المساجد التي على
قوارع الطرق; لأنها ليست لها أهل معروفون،
فأداء الجماعة فيها مرة بعد أخرى لا يؤدي إلى
تقليل الجماعات، وبخلاف ما إذا صلى فيه غير
أهله؛ لأنه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة; لأن
أهل
ج / 1 ص -154-
المسجد
ينتظرون أذان المؤذن المعروف فيحضرون حينئذ؛
ولأن حق المسجد لم يقض بعد; لأن قضاء حقه على
أهله ألا ترى أن المرمة ونصب الإمام والمؤذن
عليهم فكان عليهم قضاؤه ؟ ولا عبرة بتقليل
الجماعة الأولين; لأن ذلك مضاف إليهم حيث لم
ينتظروا حضور أهل المسجد بخلاف أهل المسجد;
لأن انتظارهم ليس بواجب عليهم ولا حجة له في
الحديث; لأنه أمر واحدا وذا لا يكره، وإنما
المكروه ما كان على سبيل التداعي والاجتماع،
بل هو حجة عليه; لأنه لم يأمر أكثر من الواحد
مع حاجتهم إلى إحراز الثواب، وما ذكر من
المعنى غير سديد; لأن قضاء حق المسجد على وجه
يؤدي إلى تقليل الجماعة مكروه، ويستوي في وجوب
مراعاة الأذان والإقامة الأداء والقضاء، وجملة
الكلام فيه أنه لا يخلو: إما أن كانت الفائتة
من الصلوات الخمس. وأما إن كانت صلاة الجمعة
فإن كانت من الصلوات الخمس فإن فاته صلاة
واحدة قضاها بأذان وإقامة، وكذا إذا فاتت
الجماعة صلاة واحدة قضوها بالجماعة بأذان
وإقامة، وللشافعي قولان: في قول: يصلي بغير
أذان وإقامة، وفي قول: يصلي بالإقامة لا غير.
"احتج" بما روي، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما شغل عن أربع صلوات يوم الأحزاب قضاهن
بغير أذان ولا إقامة. وروي في قصة ليلة
التعريس أن النبي صلى الله عليه وسلم ارتحل من
ذلك الوادي، فلما ارتفعت الشمس أمر بلالا
فأقام وصلوا ولم يأمره بالأذان، ولأن الأذان
للإعلام بدخول الوقت ولا حاجة ههنا إلى
الإعلام به. "ولنا" ما روى أبو قتادة الأنصاري
رضي الله عنه في حديث ليلة التعريس فقال: "كنت
مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، أو سرية
فلما كان في آخر السحر عرسنا فما استيقظنا حتى
أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب دهشا
وفزعا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:
"ارتحلوا من هذا الوادي فإنه وادي شيطان" ، فارتحلنا ونزلنا بواد آخر، فلما ارتفعت الشمس وقضى القوم حوائجهم
أمر بلالا بأن يؤذن فأذن وصلينا ركعتين ثم
أقام فصلينا صلاة الفجر"، وهكذا روى عمران بن
حصين هذه القصة، وروى أصحاب الإملاء عن أبي
يوسف بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه حين شغلهم الكفار يوم الأحزاب عن أربع
صلوات قضاهن فأمر بلالا أن يؤذن ويقيم لكل
واحدة منهن، حتى قالوا: "أذن وأقام وصلى
الظهر، ثم أذن وأقام وصلى العصر، ثم أذن وأقام
وصلى المغرب، ثم أذن وأقام وصلى العشاء، ولأن
القضاء على حسب الأداء. وقد فاتتهم الصلاة
بأذان وإقامة فتقضى كذلك، ولا تعلق له بحديث
التعريس والأحزاب; لأن الصحيح أنه أذن هناك
وأقام على ما روينا. وأما إذا فاتته صلوات فإن
أذن لكل واحدة وأقام فحسن، وإن أذن وأقام
للأولى واقتصر على الإقامة للبواقي فهو جائز.
وقد اختلفت الروايات في قضاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم الصلوات التي فاتته يوم
الخندق: في بعضها أنه أمر بلالا فأذن وأقام
لكل صلاة على ما روينا، وفي بعضها أنه أذن
وأقام للأولى، ثم أقام لكل صلاة بعدها، وفي
بعضها أنه اقتصر على الإقامة لكل صلاة، ولا شك
أن الأخذ برواية الزيادة أولى، خصوصا في باب
العبادات وإن فاتته صلاة الجمعة صلى الظهر
بغير أذان ولا إقامة؛ لأن الأذان والإقامة
للصلاة التي تؤدى بجماعة مستحبة، وأداء الظهر
بجماعة يوم الجمعة مكروه في المصر، كذا روي عن
علي رضي الله عنه.
فصل": وأما بيان وقت الأذان والإقامة فوقتهما ما هو وقت الصلوات
المكتوبات، حتى لو أذن قبل دخول الوقت لا
يجزئه ويعيده إذا دخل الوقت في الصلوات كلها
في قول أبي حنيفة ومحمد. وقد قال أبو يوسف:
"أخيرا لا بأس بأن يؤذن للفجر في النصف الأخير
من الليل"، وهو قول الشافعي. "واحتجا" بما روى
سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه
أن بلالا كان يؤذن بليل، وفي رواية قال:
"لا يغرنكم
أذان بلال عن السحور فإنه يؤذن بليل";
ولأن وقت الفجر مشتبه، وفي مراعاته بعض الحرج
بخلاف سائر الصلوات. ولأبي حنيفة ومحمد ما روى
شداد مولى عياض بن عامر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لبلال
"لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا"، ومد يده عرضا; ولأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت، والإعلام
بالدخول قبل الدخول كذب، وكذا هو من باب
الخيانة في الأمانة، والمؤذن مؤتمن على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يجز
في سائر الصلوات; ولأن الأذان قبل الفجر
ج / 1 ص -155-
يؤدي
إلى الضرر بالناس; لأن ذلك وقت نومهم خصوصا في
حق من تهجد في النصف الأول من الليل، فربما
يلتبس الأمر عليهم، وذلك مكروه. وروي أن الحسن
البصري كان إذا سمع من يؤذن قبل طلوع الفجر
قال: علوج فراغ لا يصلون إلا في الوقت، لو
أدركهم عمر لأدبهم، وبلال رضي الله عنه ما كان
يؤذن بليل لصلاة الفجر بل لمعان أخر، لما روي
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال
"لا يمنعنكم من السحور أذان بلال فإنه يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرد
قائمكم ويتسحر صائمكم، فعليكم بأذان ابن أم
مكتوم". وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم فرقتين: فرقة يتهجدون في النصف
الأول من الليل، وفرقة في النصف الأخير، وكان
الفاصل أذان بلال، والدليل على أن أذان بلال
كان لهذه المعاني لا لصلاة الفجر أن ابن أم
مكتوم كان يعيده ثانيا بعد طلوع الفجر، وما
ذكر من المعنى غير سديد؛ لأن الفجر الصادق
المستطير في الأفق مستبين لا اشتباه فيه.
فصل": وأما بيان ما يجب على السامعين عند الأذان فالواجب عليهم الإجابة،
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أربع من الجفاء: من بال قائما، ومن مسح جبهته قبل الفراغ من الصلاة،
ومن سمع الأذان ولم يجب، ومن سمع ذكري ولم يصل
علي"، والإجابة: أن يقول مثل ما قال المؤذن، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم:
"من قال مثل ما
يقول المؤذن غفر الله ما تقدم من ذنبه وما
تأخر"، فيقول مثل ما قاله إلا في قوله: " حي على الصلاة حي على الفلاح "
فإنه يقول مكانه لا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم; لأن إعادة ذلك تشبه المحاكاة
والاستهزاء، وكذا إذا قال المؤذن: " الصلاة
خير من النوم " لا يعيده السامع لما قلنا
ولكنه يقول: صدقت وبررت، أو ما يؤجر عليه. ولا
ينبغي أن يتكلم السامع في حال الأذان
والإقامة، ولا يشتغل بقراءة القرآن، ولا بشيء
من الأعمال سوى الإجابة، ولو كان في القراءة
ينبغي أن يقطع ويشتغل بالاستماع والإجابة، كذا
قالوا في الفتاوى والله أعلم. "والثاني":
الجماعة، والكلام فيها في مواضع: في بيان
وجوبها، وفي بيان من تجب عليه، وفي بيان من
تنعقد به، وفي بيان ما يفعله فائت الجماعة،
وفي بيان من يصلح للإمامة في الجملة، وفي بيان
من يصلح لها على التفصيل، وفي بيان من هو أحق
وأولى بالإمامة، وفي بيان مقام الإمام
والمأموم، وفي بيان ما يستحب للإمام أن يفعله
بعد الفراغ من الصلاة. "أما" الأول: فقد قال
عامة مشايخنا: إنها واجبة، وذكر الكرخي أنها
سنة، "واحتج" بما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وفي رواية بخمس
وعشرين درجة"،
جعل الجماعة لإحراز الفضيلة وذا آية السنن.
"وجه" قول العامة: الكتاب والسنة وتوارث
الأمة، أما الكتاب: فقوله تعالى:
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أمر الله تعالى: بالركوع مع الراكعين وذلك يكون في حال المشاركة
في الركوع، فكان أمرا بإقامة الصلاة بالجماعة،
ومطلق الأمر لوجوب العمل. "وأما" السنة فما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس فأنصرف إلى
أقوام تخلفوا عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم"،
ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بترك الواجب.
"وأما" توارث الأمة فلأن الأمة من لدن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا واظبت
عليها وعلى النكير على تاركها، والمواظبة على
هذا الوجه دليل الوجوب، وليس هذا اختلافا في
الحقيقة بل من حيث العبارة; لأن السنة
المؤكدة، والواجب سواء، خصوصا ما كان من شعائر
الإسلام ألا ترى أن الكرخي سماها سنة ثم فسرها
بالواجب فقال: "الجماعة سنة لا يرخص لأحد
التأخر عنها إلا لعذر" ؟ وهو تفسير الواجب عند
العامة.
فصل": وأما بيان من تجب عليه الجماعة: فالجماعة إنما تجب على الرجال،
العاقلين، الأحرار، القادرين عليها من غير حرج
فلا تجب على النساء، والصبيان، والمجانين،
والعبيد، والمقعد، ومقطوع اليد، والرجل من
خلاف، والشيخ الكبير الذي لا يقدر على المشي،
والمريض "أما" النساء فلأن خروجهن إلى
الجماعات فتنة. "وأما" الصبيان والمجانين
فلعدم أهلية وجوب الصلاة في حقهم وأما العبيد
فلرفع الضرر عن مواليهم بتعطيل منافعهم
المستحقة وأما المقعد ومقطوع اليد والرجل من
خلاف، والشيخ الكبير فلأنهم لا يقدرون على
المشي، والمريض لا يقدر
ج / 1 ص -156-
عليه
إلا بحرج. "وأما" الأعمى فأجمعوا على أنه إذا
لم يجد قائدا لا تجب عليه، وإن وجد قائدا
فكذلك عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد تجب
والمسألة مع حججها تأتي في كتاب الحج إن شاء
الله تعالى:.
فصل": وأما بيان من تنعقد به الجماعة فأقل من تنعقد به الجماعة اثنان،
وهو أن يكون مع الإمام واحد، لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة";
ولأن الجماعة مأخوذة من معنى الاجتماع، وأقل
ما يتحقق به الاجتماع اثنان، وسواء كان ذلك
الواحد رجلا، أو امرأة، أو صبيا يعقل; لأن
النبي صلى الله عليه وسلم سمى الاثنين مطلقا
جماعة، ولحصول معنى الاجتماع بانضمام كل واحد
من هؤلاء إلى الإمام وأما المجنون والصبي الذي
لا يعقل فلا عبرة بهما؛ لأنهما ليسا من أهل
الصلاة فكانا ملحقين بالعدم.
فصل": وأما بيان ما يفعله بعد فوات الجماعة فلا خلاف في أنه إذا فاتته
الجماعة لا يجب عليه الطلب في مسجد آخر، لكنه
كيف يصنع ؟ ذكر في الأصل أنه إذا فاتته
الجماعة في مسجد حيه فإن أتى مسجدا آخر يرجو
إدراك الجماعة فيه فحسن، وإن صلى في مسجد حيه
فحسن، لحديث الحسن قال: كانوا إذا فاتتهم
الجماعة فمنهم من يصلي في مسجد حيه، ومنهم من
يتبع الجماعة، أراد به الصحابة رضي الله عنهم;
ولأن في كل جانب مراعاة حرمة وترك أخرى، ففي
أحد الجانبين مراعاة حرمة مسجده وترك الجماعة،
وفي الجانب الآخر مراعاة فضيلة الجماعة وترك
حق مسجده، فإذا تعذر الجمع بينهما مال إلى
أيهما شاء. وذكر القدوري أنه إذا فاتته
الجماعة جمع بأهله في منزله، وإن صلى وحده
جاز، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أنه خرج من المدينة إلى صلح بين حيين من
أحياء العرب، فانصرف منه وقد فرغ الناس من
الصلاة، فمال إلى بيته وجمع بأهله في منزله"،
وفي هذا الحديث دليل على سقوط الطلب، إذ لو
وجب لكان أولى الناس به رسول الله صلى الله
عليه وسلم وذكر الشيخ الإمام السرخسي أن
الأولى في زماننا أنه إذا لم يدخل مسجده أن
يتبع الجماعة، وإن دخل مسجده صلى فيه.
ج / 1 ص -157-
فضيلته
عن فضيلة الأحرار يوجبان الكراهة. وكذا الغالب
على الأعرابي الجهل، قال الله تعالى:
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا
يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ} ، والأعرابي هو البدوي، وإنه اسم ذم، والعربي اسم مدح. وكذا ولد
الزنا الغالب من حاله الجهل لفقده من يؤدبه
ويعلمه معالم الشريعة; ولأن الإمامة أمانة
عظيمة فلا يتحملها الفاسق; لأنه لا يؤدي
الأمانة على وجهها والأعمى يوجهه غيره إلى
القبلة فيصير في أمر القبلة مقتديا بغيره،
وربما يميل في خلال الصلاة عن القبلة، ألا ترى
إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
كان يمتنع عن الإمامة بعد ما كف بصره ويقول:
كيف أؤمكم وأنتم تعدلونني ؟ ولأنه لا يمكنه
التوقي عن النجاسات فكان البصير أولى، إلا إذا
كان في الفضل لا يوازيه في مسجده غيره فحينئذ
يكون أولى، ولهذا استخلف النبي صلى الله عليه
وسلم ابن أم مكتوم رضي الله عنه وإمامة صاحب
الهوى والبدعة مكروهة، نص عليه أبو يوسف في
الأمالي فقال: "أكره أن يكون الإمام صاحب هوى
وبدعة; لأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلفه"،
وهل تجوز الصلاة خلفه ؟ قال بعض مشايخنا: "إن
الصلاة خلف المبتدع لا تجوز"، وذكر في المنتقى
رواية عن أبي حنيفة أنه كان لا يرى الصلاة خلف
المبتدع، والصحيح أنه إن كان هوى يكفره لا
تجوز، وإن كان لا يكفره تجوز مع الكراهة، وكذا
المرأة تصلح للإمامة في الجملة، حتى لو أمت
النساء جاز، وينبغي أن تقوم وسطهن لما روي عن
عائشة رضي الله عنها أنها أمت نسوة في صلاة
العصر وقامت وسطهن وأمت أم سلمة نساء وقامت
وسطهن; ولأن مبنى حالهن على الستر وهذا أستر
لها، إلا أن جماعتهن مكروهة عندنا، وعند
الشافعي مستحبة كجماعة الرجال، ويروى في ذلك
أحاديث لكن تلك كانت في ابتداء الإسلام ثم
نسخت بعد ذلك. ولا يباح للشواب منهن الخروج
إلى الجماعات، بدليل ما روي عن عمر رضي الله
عنه أنه نهى الشواب عن الخروج; ولأن خروجهن
إلى الجماعة سبب الفتنة، والفتنة حرام، وما
أدى إلى الحرام فهو حرام. وأما العجائز فهل
يباح لهن الخروج إلى الجماعات فنذكر الكلام
فيه في موضع آخر الصبي العاقل يصلح إماما في
الجملة بأن يؤم الصبيان في التراويح، وفي
إمامته البالغين فيها اختلاف المشايخ على ما
مر فأما المجنون والصبي الذي لا يعقل فليس من
أهل الإمامة أصلا؛ لأنهما ليسا من أهل الصلاة.
فصل": وأما بيان من يصلح للإمامة على التفصيل فكل من صح اقتداء الغير به
في صلاة يصلح إماما له فيها، ومن لا فلا، وقد
مر بيان شرائط صحة الاقتداء والله الموفق.
فصل": وأما بيان من هو أحق بالإمامة وأولى بها فالحر أولى بالإمامة من
العبد، والتقي أولى من الفاسق، والبصير أولى
من الأعمى، وولد الرشدة أولى من ولد الزنا،
وغير الأعرابي من هؤلاء أولى من الأعرابي لما
قلنا، ثم أفضل هؤلاء أعلمهم بالسنة وأفضلهم
ورعا وأقرؤهم لكتاب الله تعالى: وأكبرهم سنا،
ولا شك أن هذه الخصال إذا اجتمعت في إنسان كان
هو أولى، لما بينا أن بناء أمر الإمامة على
الفضيلة والكمال، والمستجمع فيه هذه الخصال من
أكمل الناس، أما العلم والورع وقراءة القرآن
فظاهر. وأما كبر السن فلأن من امتد عمره في
الإسلام كان أكثر طاعة ومداومة على الإسلام،
فأما إذا تفرقت في أشخاص فأعلمهم بالسنة أولى
إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة،
وذكر في كتاب الصلاة وقدم الأقرأ فقال: ويؤم
القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى: وأعلمهم
بالسنة وأفضلهم ورعا وأكبرهم سنا، والأصل فيه
ما روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ليؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة، فإن
كانوا سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا سواء
فأكبرهم سنا، فإن كانوا سواء فأحسنهم خلقا،
فإن كانوا سواء فأصبحهم وجها"، ثم من المشايخ من أجرى الحديث على ظاهره وقدم الأقرأ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم بدأ به، والأصح أن الأعلم
بالسنة إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به
الصلاة فهو أولى، كذا ذكر في آثار أبي حنيفة
لافتقار الصلاة بعد هذا القدر من القراءة إلى
العلم ليتمكن به من تدارك ما عسى أن يعرض في
الصلاة من العوارض، وافتقار القراءة أيضا إلى
العلم بالخطأ المفسد للصلاة فيها، فلذلك كان
الأعلم أفضل حتى قالوا: "إن الأعلم إذا كان
ممن يجتنب الفواحش الظاهرة
ج / 1 ص -158-
والأقرأ أورع منه فالأعلم أولى، إلا أن النبي
صلى الله عليه وسلم قدم الأقرأ في الحديث؛ لأن
الأقرأ في ذلك الزمان كان أعلم لتلقيهم القرآن
بمعانيه وأحكامه، فأما في زماننا فقد يكون
الرجل ماهرا في القرآن ولا حظ له من العلم،
فكان الأعلم أولى، فإن استووا في العلم
فأورعهم; لأن الحاجة بعد العلم والقراءة بقدر
ما يتعلق به الجواز إلى الورع أشد، قال النبي
صلى الله عليه وسلم
"من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي"،
وإنما قدم أقدمهم هجرة في الحديث؛ لأن الهجرة
كانت فريضة يومئذ ثم نسخت بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا هجرة بعد
الفتح"، فيقدم الأورع لتحصل به الهجرة عن المعاصي، فإن استووا في الورع
فأقرؤهم لكتاب الله تعالى: لقول النبي صلى
الله عليه وسلم:
"أهل القرآن أهل الله وخاصته"، فإن استووا في القراءة فأكبرهم سنا لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الكبر الكبر"
فإن، كانوا فيه سواء فأحسنهم خلقا; لأن حسن
الخلق من باب الفضيلة، ومبنى الإمامة على
الفضيلة، فإن كانوا فيه سواء فأحسنهم وجها;
لأن رغبة الناس في الصلاة خلفه أكثر، وبعضهم
قالوا: معنى قوله في الحديث أحسنهم وجها أي
أكثرهم خبرة بالأمور، يقال: وجه هذا الأمر
كذا، وقال بعضهم: أي: "أكثرهم صلاة بالليل"،
كما جاء في الحديث "من كثر صلاته بالليل حسن
وجهه بالنهار"، ولا حاجة إلى هذا التكلف؛ لأن
الحمل على ظاهره ممكن لما بينا أن ذلك من أحد
دواعي الاقتداء، فكانت إمامته سببا لتكثير
الجماعة فكان هو أولى. ويكره للرجل أن يؤم
الرجل في بيته إلا بإذنه، لما روينا من حديث
أبي سعيد مولى بني أسيد، ولقول النبي صلى الله
عليه وسلم: "لا يؤم الرجل
الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمة أخيه إلا
بإذنه، فإنه أعلم بعورات بيته"، وفي رواية في بيته; ولأن في التقدم عليه ازدراء به بين عشائره
وأقاربه، وذا لا يليق بمكارم الأخلاق. ولو أذن
له لا بأس به; لأن الكراهة كانت لحقه، وذكر
محمد في غير رواية الأصول أن الضيف إذا كان ذا
سلطان جاز له أن يؤم بدون الإذن; لأن الإذن
لمثل هذا الضيف ثابت دلالة، وإنه كالإذن نصا
وأما إذا كان الضيف سلطانا فحق الإمامة له
حيثما يكون، وليس للغير أن يتقدم عليه إلا
بإذنه والله أعلم.
فصل": وأما بيان مقام الإمام والمأموم فنقول: إذا كان سوى الإمام ثلاثة
يتقدمهم الإمام لفعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعمل الأمة بذلك. وروي عن أنس بن مالك
رضي الله عنه أنه قال: "إن جدتي مليكة دعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام فقال
صلى الله عليه وسلم:
"قوموا لأصلي بكم" ، فأقامني واليتيم من ورائه، وأمي أم سليم من ورائنا; ولأن الإمام
ينبغي أن يكون بحال يمتاز بها عن غيره ولا
يشتبه على الداخل ليمكنه الاقتداء به، ولا
يتحقق ذلك إلا بالتقدم. ولو قام في وسطهم أو
في ميمنة الصف أو في ميسرته جاز وقد أساء، أما
الجواز فلأن الجواز يتعلق بالأركان وقد وجدت.
وأما الإساءة فتركه السنة المتواترة، وجعل
نفسه بحال لا يمكن الداخل الاقتداء به، وفيه
تعريض اقتدائه للفساد، ولذلك إذا كان سواه
اثنان يتقدمهما في ظاهر الرواية. وروي عن أبي
يوسف أنه يتوسطهما لما روي عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أنه صلى بعلقمة والأسود
وقام وسطهما، وقال هكذا صنع بنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. "ولنا" ما روينا أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى بأنس واليتيم وأقامهما
خلفه، وهو مذهب علي وابن عمر رضي الله عنهما
وأما حديث ابن مسعود فهذه الزيادة وهي قوله:
صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ترو
في عامة الروايات فلم يثبت وبقي مجرد الفعل،
وهو محمول على ضيق المكان، كذا قال إبراهيم
النخعي، وهو كان أعلم الناس بأحوال عبد الله
ومذهبه. ولو ثبتت الزيادة فهي أيضا محمولة على
هذه الحالة أي: هكذا صنع بنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عند ضيق المكان، على أن
الأحاديث إن تعارضت وجب المصير إلى المعقول
الذي لأجله يتقدم الإمام، وهو ما ذكرنا أنه
يتقدم لئلا يشتبه حاله، وهذا المعنى موجود
فيما نحن فيه، غير أن ههنا لو قام الإمام
وسطهما لا يكره لورود الأثر وكون التأويل من
باب الاجتهاد. وإن كان مع الإمام رجل واحد أو
صبي يعقل الصلاة يقف عن يمين الإمام لما روي
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال "بت عند
خالتي ميمونة لأراقب صلاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فانتبه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال: نامت العيون وغارت النجوم وبقي
الحي القيوم، ثم قرأ آخر آل عمران {إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
الآيات، ثم قام إلى شن
ج / 1 ص -159-
معلق
في الهواء فتوضأ وافتتح الصلاة، فتوضأت ووقفت
عن يساره، فأخذ بأذني وفي رواية بذؤابتي
وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه، فعدت إلى
مكاني فأعادني ثانيا وثالثا، فلما فرغ قال: ما
منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك
فيه ؟ فقلت: أنت رسول الله ولا ينبغي لأحد أن
يساويك في الموقف فقال صلى الله عليه وسلم:
"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فإعادة
رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الجانب
الأيمن" دليل على أن المختار هو الوقوف على
يمين الإمام إذا كان معه رجل واحد، وكذا روي
عن حذيفة رضي الله عنه أنه قام عن يسار رسول
الله صلى الله عليه وسلم فحوله وأقامه عن
يمينه، ثم إذا وقف عن يمينه لا يتأخر عن
الإمام في ظاهر الرواية، وعن محمد أنه ينبغي
أن تكون أصابعه عند عقب الإمام، وهو الذي وقع
عند العوام. ولو كان المقتدي أطول من الإمام
وكان سجوده قدام الإمام لم يضره; لأن العبرة
لموضع الوقوف لا لموضع السجود، كما لو وقف في
الصف ووقع سجوده أمام الإمام لطوله ولو وقف عن
يساره جاز؛ لأن الجواز متعلق بالأركان، ألا
ترى أن ابن عباس وحذيفة رضي الله عنهما وقفا
في الابتداء عن يسار رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم جوز اقتداءهما به ؟ ولكنه يكره; لأنه
ترك المقام المختار له، ولهذا حول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ابن عباس وحذيفة وقف خلفه
جاز لما مر، وهل يكره ؟ لم يذكر محمد الكراهة
نصا، واختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: لا يكره;
لأن الواقف خلفه أحد الجانبين منه على يمينه
فلا يتم إعراضه عن السنة، بخلاف الواقف على
يساره. وقال بعضهم: يكره؛ لأنه يصير في معنى
المنفرد خلف الصف وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم "لا صلاة لمنبذ خلف الصفوف"، وأدنى درجات
النهي هو الكراهة، وإنما نشأ هذا الاختلاف عن
إشارة محمد فإنه قال: وإن صلى خلفه جازت
صلاته، وكذلك إن وقف عن يسار الإمام وهو مسيء
فمنهم من صرف جواب الإساءة إلى آخر الفعلين
ذكرا، ومنهم من صرفه إليهما جميعا، وهو
الصحيح؛ لأنه عطف أحدهما على الآخر بقوله: "
وكذلك "، ثم أثبت الإساءة فينصرف إليهما. وإذا
كان مع الإمام امرأة أقامها خلفه; لأن
محاذاتها مفسدة، وكذلك لو كان معه خنثى مشكل
لاحتمال أنه امرأة ولو كان معه رجل وامرأة، أو
رجل وخنثى، أقام الرجل عن يمينه والمرأة أو
الخنثى خلفه. ولو كان معه رجلان وامرأة أو
خنثى أقام الرجلين خلفه والمرأة والخنثى
خلفهما ولو اجتمع الرجال والنساء والصبيان
والخناثى والصبيات المراهقات فأرادوا أن
يصطفوا للجماعة يقوم الرجال صفا مما يلي
الإمام، ثم الصبيان بعدهم، ثم الخناثى، ثم
الإناث، ثم الصبيات المراهقات. وكذلك الترتيب
في الجنائز إذا اجتمعت وفيها جنازة الرجل
والصبي والخنثى والأنثى والصبية المراهقة،
وكذلك القتلى إذا جمعت في حفيرة واحدة عند
الحاجة على ما يذكر ذلك في موضعه إن شاء الله
تعالى: "وأفضل" مكان المأموم إذا كان رجلا حيث
يكون أقرب إلى الإمام، لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها
آخرها"، وإذا تساوت المواضع في القرب إلى
الإمام فعن يمينه أولى؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يحب التيامن في الأمور، وإذا
قاموا في الصفوف تراصوا وسووا بين مناكبهم
لقوله صلى الله عليه وسلم "تراصوا وألصقوا
المناكب بالمناكب".
فصل": وأما بيان ما يستحب للإمام أن يفعله عقيب الفراغ من الصلاة فنقول:
إذا فرغ الإمام من الصلاة فلا يخلو إما أن
كانت صلاة لا تصلى بعدها سنة: أو كانت صلاة
تصلى بعدها سنة: فإن كانت صلاة لا تصلى بعدها
سنة كالفجر والعصر فإن شاء الإمام قام وإن شاء
قعد في مكانه يشتغل بالدعاء؛ لأنه لا تطوع بعد
هاتين الصلاتين فلا بأس بالقعود، إلا أنه يكره
المكث على هيئته مستقبل القبلة لما روي عن
عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا فرغ من الصلاة لا يمكث في مكانه
إلا مقدار أن يقول:
"اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا
الجلال والإكرام". وروي أن جلوس الإمام في مصلاه بعد الفراغ مستقبل القبلة بدعة; ولأن
مكثه يوهم الداخل أنه في الصلاة فيقتدي به
فيفسد اقتداؤه، فكان المكث تعريضا لفساد
اقتداء غيره به فلا يمكث، ولكنه يستقبل القوم
بوجهه إن شاء، إن لم يكن بحذائه أحد يصلي، لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان "إذا فرغ
من صلاة
ج / 1 ص -160-
الفجر
استقبل بوجهه أصحابه وقال: هل رأى أحدكم رؤيا
؟ كأنه كان يطلب رؤيا فيها بشرى بفتح مكة. فإن
كان بحذائه أحد يصلي لا يستقبل القوم بوجهه;
لأن استقبال الصورة الصورة في الصلاة مكروه،
لما روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يصلي
إلى وجه غيره فعلاهما بالدرة وقال للمصلي:
أتستقبل الصورة، وللآخر أتستقبل المصلي بوجهك،
وإن شاء انحرف; لأن بالانحراف يزول الاشتباه
كما يزول بالاستقبال، ثم اختلف المشايخ في
كيفية الانحراف، قال بعضهم: ينحرف إلى يمين
القبلة تبركا بالتيامن، وقال بعضهم: ينحرف إلى
اليسار ليكون يساره إلى اليمين، وقال بعضهم:
"هو مخير إن شاء انحرف يمنة وإن شاء يسرة وهو
الصحيح"; لأن ما هو المقصود من الانحراف وهو
زوال الاشتباه يحصل بالأمرين جميعا. "وإن"
كانت صلاة بعدها سنة يكره له المكث قاعدا،
وكراهة القعود مروية عن الصحابة رضي الله عنهم
روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما
كانا إذا فرغا من الصلاة قاما كأنهما على
الرضف; ولأن المكث يوجب اشتباه الأمر على
الداخل فلا يمكث ولكن يقوم ويتنحى عن ذلك
المكان ثم ينتقل، لما روي عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر"، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره للإمام أن يتنفل في المكان الذي
أم فيه؛ ولأن ذلك يؤدي إلى اشتباه الأمر على
الداخل فينبغي أن يتنحى إزالة للاشتباه، أو
استكثارا من شهوده على ما روي أن مكان المصلي
يشهد له يوم القيامة. "وأما" المأمومون فبعض
مشايخنا قالوا: لا حرج عليهم في ترك الانتقال
لانعدام الاشتباه على الداخل عند معاينة فراغ
مكان الإمام عنه. وروي عن محمد أنه قال:
"يستحب للقوم أيضا أن ينقضوا الصفوف ويتفرقوا
ليزول الاشتباه على الداخل المعاين الكل في
الصلاة البعيد عن الإمام، ولما روينا من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه". "وأما" الذي هو في
الصلاة فنوعان: نوع هو أصلي، ونوع هو عارض ثبت
وجوبه بسبب عارض.
فصل": أما الواجبات الأصلية في الصلاة فستة: منها قراءة الفاتحة والسورة
في صلاة ذات ركعتين، وفي الأوليين من ذوات
الأربع والثلاث، حتى لو تركهما أو أحدهما: فإن
كان عامدا كان مسيئا، وإن كان ساهيا يلزمه
سجود السهو، وهذا عندنا. وقال الشافعي: "قراءة
الفاتحة على التعيين فرض، حتى لو تركها أو
حرفا منها في ركعة لا تجوز صلاته وقال مالك:
قراءتهما على التعيين فرض. "احتجا" بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب". وروي "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها"، أو قال: وشيء معها؛
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على
قراءتهما في كل صلاة فيدل على الفرضية. "ولنا"
قوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، أمر بمطلق القراءة من غير تعيين، فتعيين الفاتحة فرضا أو تعيينهما
نسخ الإطلاق، ونسخ الكتاب بالخبر المتواتر لا
يجوز عند الشافعي، فكيف يجوز بخبر الواحد ؟
فقبلنا الحديث في حق الوجوب عملا حتى تكره ترك
قراءتهما دون الفرضية عملا بهما بالقدر
الممكن، كي لا يضطر إلى رده لوجوب رده عند
معارضة الكتاب، ومواظبة النبي صلى الله عليه
وسلم على فعل لا يدل على فرضيته، فإنه كان
يواظب على الواجبات والله أعلم. "ومنها" الجهر
بالقراءة فيما يجهر وهو الفجر والمغرب والعشاء
في الأوليين، والمخافتة فيما يخافت وهو الظهر
والعصر إذا كان إماما. والجملة فيه أنه لا
يخلو إما أن يكون إماما أو منفردا، فإن كان
إماما يجب عليه مراعاة الجهر فيما يجهر، وكذا
في كل صلاة من شرطها الجماعة كالجمعة والعيدين
والترويحات، ويجب عليه المخافتة فيما يخافت،
وإنما كان كذلك لأن القراءة ركن يتحمله الإمام
عن القوم فعلا، فيجهر ليتأمل القوم ويتفكروا
في ذلك، فتحصل ثمرة القراءة وفائدتها للقوم،
فتصير قراءة الإمام قراءة لهم تقديرا، كأنهم
قرءوا. وثمرة الجهر تفوت في صلاة النهار; لأن
الناس في الأغلب يحضرون الجماعات في خلال
الكسب والتصرف والانتشار في الأرض، فكانت
قلوبهم متعلقة بذلك، فيشغلهم ذلك عن حقيقة
التأمل فلا يكون الجهر مفيدا بل يقع تسبيبا
إلى الإثم بترك التأمل، وهذا لا يجوز، بخلاف
صلاة الليل; لأن الحضور إليها لا يكون في خلال
الشغل، وبخلاف الجمعة والعيدين; لأنه يؤدى في
الأحايين مرة على هيئة مخصوصة من الجمع العظيم
وحضور السلطان وغير ذلك فيكون ذلك مبعثة على
إحضار القلب والتأمل; ولأن القراءة من أركان
الصلاة
ج / 1 ص -161-
والأركان في الفرائض تؤدى على سبيل الشهرة دون
الإخفاء، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم
يجهر في الصلوات كلها في الابتداء إلى أن قصد
الكفار أن لا يسمعوا القرآن وكادوا يلغون فيه
فخافت النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في
الظهر والعصر; لأنهم كانوا مستعدين للأذى في
هذين الوقتين، ولهذا كان يجهر في الجمعة
والعيدين؛ لأنه أقامهما بالمدينة وما كان
للكفار بالمدينة قوة الأذى، ثم وإن زال هذا
العذر بقيت هذه السنة كالرمل في الطواف ونحوه;
ولأنه واظب على المخافتة فيهما في عمره فكانت
واجبة؛ ولأنه وصف صلاة النهار بالعجماء وهي
التي لا تبين، ولا يتحقق هذا الوصف لها إلا
بترك الجهر فيها، وكذا واظب على الجهر فيما
يجهر والمخافتة فيما يخافت وذلك دليل الوجوب،
وعلى هذا عمل الأمة ويخفي القراءة فيما سوى
الأوليين; لأن الجهر صفة القراءة المفروضة،
والقراءة ليست بفرض في الأخريين لما بينا فيما
تقدم، وإذا ثبت هذا فنقول: "إذا جهر الإمام
فيما يخافت أو خافت فيما يجهر فإن كان عامدا
يكون مسيئا، وإن كان ساهيا فعليه سجود السهو;
لأنه وجب عليه إسماع القوم فيما يجهر، وإخفاء
القراءة عنهم فيما يخافت، وترك الواجب عمدا
يوجب الإساءة، وسهوا يوجب سجود السهو وإن كان
منفردا فإن كانت صلاة يخافت فيها بالقراءة
خافت لا محالة، وهو رواية الأصل، وذكر أبو
يوسف في الإملاء إن زاد على ما يسمع أذنيه فقد
أساء. وذكر عصام بن أبي يوسف في مختصره وأثبت
له خيار الجهر والمخافتة، استدلالا بعدم وجوب
السهو عليه إذا جهر، والصحيح رواية الأصل
لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة النهار عجماء
من غير فصل"; ولأن الإمام مع حاجته إلى إسماع
غيره يخافت فالمنفرد أولى ولو جهر فيها
بالقراءة فإن كان عامدا يكون مسيئا، كذا ذكر
الكرخي في صلاته وإن كان ساهيا لا سهو عليه نص
عليه في باب السهو بخلاف الإمام. "والفرق" أن
سجود السهو يجب لجبر النقصان، والنقصان في
صلاة الإمام أكثر; لأن إساءته أبلغ; لأنه فعل
شيئين نهي عنهما: أحدهما أنه رفع صوته في غير
موضع الرفع، والثاني أنه أسمع من أمر بالإخفاء
عنه، والمنفرد رفع صوته فقط فكان النقصان في
صلاته أقل، وما وجب لجبر الأعلى لا يجب لجبر
الأدنى وإن كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة فهو
بالخيار، إن شاء جهر وإن شاء خافت، وذكر
الكرخي إن شاء جهر بقدر ما يسمع أذنيه ولا
يزيد على ذلك، وذكر في عامة الروايات مفسرا
أنه بين خيارات ثلاث: إن شاء جهر وأسمع غيره،
وإن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء أسر القراءة،
أما كون له أن يجهر فلأن المنفرد إمام في
نفسه، وللإمام أن يجهر. وله أن يخافت بخلاف
الإمام; لأن الإمام يحتاج إلى الجهر لإسماع
غيره والمنفرد يحتاج إلى إسماع نفسه لا غير،
وذلك يحصل بالمخافتة، وذكر في رواية أبي حفص
الكبير أن الجهر أفضل؛ لأن فيه تشبيها
بالجماعة، والمنفرد إن عجز عن تحقيق الصلاة
بجماعة لم يعجز عن التشبه، ولهذا إذا أذن
وأقام كان أفضل هذا في الفرائض وأما في
التطوعات فإن كان في النهار يخافت، وإن كان في
الليل فهو بالخيار إن شاء خافت وإن شاء جهر،
والجهر أفضل; لأن النوافل أتباع الفرائض،
والحكم في الفرائض كذلك، حتى لو كان بجماعة
كما في التراويح يجب الجهر ولا يتخير في
الفرائض، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه كان إذا صلى بالليل سمعت قراءته من وراء
الحجاب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر
بأبي بكر رضي الله عنه وهو يتهجد بالليل ويخفي
القراءة، ومر بعمر وهو يتهجد ويجهر بالقراءة،
ومر ببلال وهو يتهجد وينتقل من سورة إلى سورة،
فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فسأل كل واحد منهم عن حاله، فقال أبو بكر
رضي الله عنه: كنت أسمع من أناجي. وقال عمر
رضي الله عنه: كنت أوقظ الوسنان وأطرد
الشيطان، وقال بلال رضي الله عنه: كنت أنتقل
من بستان إلى بستان فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"يا أبا بكر ارفع من صوتك قليلا، ويا عمر اخفض
من صوتك قليلا، ويا بلال
إذا فتحت سورة فأتمها"، ثم
المنفرد إذا خافت وأسمع أذنيه يجوز بلا خلاف
لوجود القراءة بيقين، إذ السماع بدون القراءة
لا يتصور، أما إذا صحح الحروف بلسانه وأداها
على وجهها ولم يسمع أذنيه ولكن وقع له العلم
بتحريك اللسان وخروج الحروف من مخارجها فهل
تجوز صلاته ؟ اختلف فيه، ذكر الكرخي أنه يجوز،
وهو قول أبي بكر البلخي المعروف بالأعمش، وعن
الشيخ أبي القاسم الصفار والفقيه أبي جعفر
الهندواني
ج / 1 ص -162-
والشيخ
الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه لا
يجوز ما لم يسمع نفسه، وعن بشر بن غياث
المريسي أنه قال: إن كان بحال لو أدنى رجل
صماخ أذنيه إلى فيه سمع كفى، وإلا فلا، ومنهم
من ذكر في المسألة خلافا بين أبي يوسف ومحمد،
فقال على قول أبي يوسف: يجوز، وعلى قول محمد:
لا يجوز، وجه قول الكرخي أن القراءة فعل
اللسان وذلك بتحصيل الحروف ونظمها على وجه
مخصوص وقد وجد، فأما إسماعه نفسه فلا عبرة به;
لأن السماع فعل الأذنين دون اللسان، ألا ترى
أن القراءة نجدها تتحقق من الأصم وإن كان لا
يسمع نفسه ؟ وجه قول الفريق الثاني أن مطلق
الأمر بالقراءة ينصرف إلى المتعارف، وقدر ما
لا يسمع هو لو كان سميعا لم يعرف قراءة. وجه
قول بشر أن الكلام في العرف اسم لحروف منظومة
دالة على ما في ضمير المتكلم، وذلك لا يكون
إلا بصوت مسموع. وما قاله الكرخي أقيس وأصح،
وذكر في كتاب الصلاة إشارة إليه، فإنه قال: إن
شاء قرأ وإن شاء جهر وأسمع نفسه. ولو لم يحمل
قوله: قرأ في نفسه على إقامة الحروف لأدى إلى
التكرار والإعادة الخالية عن الإفادة، ولا
عبرة بالعرف في الباب; لأن هذا أمر بينه وبين
ربه فلا يعتبر فيه عرف الناس، وعلى هذا الخلاف
كل حكم تعلق بالنطق من البيع والنكاح والطلاق
والعتاق والإيلاء واليمين والاستثناء وغيرها
والله أعلم.
ومنها" الطمأنينة والقرار في الركوع والسجود،
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف:
"الطمأنينة مقدار تسبيحة واحدة فرض" وبه أخذ
الشافعي حتى لو ترك الطمأنينة جازت صلاته عند
أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف والشافعي لا
تجوز، ولم يذكر هذا الخلاف في ظاهر الرواية
وإنما ذكره المعلى في نوادره، وعلى هذا الخلاف
إذا ترك القومة التي بعد الركوع والقعدة التي
بين السجدتين. وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن
لم يقم صلبه في الركوع إن كان إلى القيام أقرب
منه إلى تمام الركوع لم يجزه، وإن كان إلى
تمام الركوع أقرب منه إلى القيام أجزأه، إقامة
للأكثر مقام الكل، ولقب المسألة أن تعديل
الأركان ليس بفرض عند أبي حنيفة، ومحمد، وعند
أبي يوسف والشافعي فرض. "احتجا" بحديث
"الأعرابي الذي دخل المسجد وأخف الصلاة فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: قم فصل فإنك لم
تصل هكذا ثلاث مرات، فقال: "يا رسول الله لم
أستطع غير ذلك فعلمني فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: إذا أردت الصلاة فتطهر كما أمرك
الله تعالى: -، واستقبل القبلة وقل: الله أكبر
واقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى يطمئن كل
عضو منك، ثم ارفع رأسك حتى تستقم قائما"،
فالاستدلال بالحديث من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه
أمره بالإعادة، والإعادة لا تجب إلا عند فساد
الصلاة، وفسادها بفوات الركن، والثاني: أنه
نفى كون المؤدى صلاة بقوله: فإنك لم تصل،
والثالث: أنه أمره بالطمأنينة، ومطلق الأمر
للفرضية. وأبو حنيفة ومحمد احتجا لنفي الفرضية
بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وأمر بمطلق الركوع والسجود، والركوع في اللغة: هو الانحناء والميل،
يقال: ركعت النخلة إذا مالت إلى الأرض،
والسجود هو: التطأطؤ والخفض، يقال: سجدت
النخلة إذا تطأطأت، وسجدت الناقة إذا وضعت
جرانها على الأرض وخفضت رأسها للرعي، فإذا أتى
بأصل الانحناء والوضع فقد امتثل لإتيانه بما
ينطلق عليه الاسم، فأما الطمأنينة فدوام على
أصل الفعل، والأمر بالفعل لا يقتضي الدوام.
وأما حديث الأعرابي فهو من الآحاد فلا يصلح
ناسخا للكتاب ولكن يصلح مكملا، فيحمل أمره
بالاعتدال على الوجوب، ونفيه الصلاة على نفي
الكمال، وتمكن النقصان الفاحش الذي يوجب عدمها
من وجه، وأمره بالإعادة على الوجوب جبرا
للنقصان، أو على الزجر عن المعاودة إلى مثله
كالأمر بكسر دنان الخمر عند نزول تحريمها
تكميلا للغرض، على أن الحديث حجة عليهما، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم مكن الأعرابي من
المضي في الصلاة في جميع المرات ولم يأمره
بالقطع، فلو لم تكن تلك الصلاة جائزة لكان
الاشتغال بها عبثا، إذ الصلاة لا يمضى في
فاسدها فينبغي أن لا يمكنه منه. ثم الطمأنينة
في الركوع واجبة عند أبي حنيفة ومحمد، كذا
ذكره الكرخي حتى لو تركها ساهيا يلزمه سجود
السهو، وذكر أبو عبد الله الجرجاني أنها سنة،
حتى لا يجب سجود السهو بتركها ساهيا، وكذا
القومة التي بين الركوع والسجود والقعدة التي
بين السجدتين، والصحيح ما ذكره الكرخي; لأن
الطمأنينة من باب إكمال الركن، وإكمال الركن
واجب كإكمال القراءة بالفاتحة، ألا ترى أن
النبي صلى الله عليه وسلم
ج / 1 ص -163-
ألحق
صلاة الأعرابي بالعدم ؟ والصلاة إنما يقضى
عليها بالعدم إما لانعدامها أصلا بترك الركن،
أو بانتقاصها بترك الواجب، فتصير عدما من وجه
فأما ترك السنة فلا يلتحق بالعدم; لأنه لا
يوجب نقصانا فاحشا، ولهذا يكره تركها أشد
الكراهة، حتى روي عن أبي حنيفة أنه قال: "أخشى
أن لا تجوز صلاته" "ومنها" القعدة الأولى
للفصل بين الشفعين، حتى لو تركها عامدا كان
مسيئا ولو تركها ساهيا يلزمه سجود السهو; لأن
النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها في جميع
عمره، وذا يدل على الوجوب إذا قام دليل عدم
الفرضية، وقد قام ههنا; لأنه روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قام إلى الثالثة فسبح به
فلم يرجع ولو كانت فرضا لرجع، وأكثر مشايخنا
يطلقون اسم السنة عليها إما لأن وجوبها عرف
بالسنة فعلا، أو لأن السنة المؤكدة في معنى
الواجب; ولأن الركعتين أدنى ما يجوز من الصلاة
فوجبت القعدة فاصلة بينهما وبين ما يليهما
والله أعلم. "ومنها" التشهد في القعدة
الأخيرة، وعند الشافعي فرض، وجه قوله أن النبي
صلى الله عليه وسلم واظب عليه في جميع عمره،
وهذا دليل الفرضية. وروي عن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه أنه قال: "كنا نقول قبل أن يفرض
التشهد: السلام على الله السلام على جبريل
وميكائيل، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال:
"قولوا:
التحيات لله"، أمرنا بالتشهد بقوله: " قولوا "، ونص على فرضيته بقوله قبل أن
يفرض التشهد. "ولنا" قول النبي صلى الله عليه
وسلم للأعرابي إذا رفعت رأسك من آخر سجدة
وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك أثبت تمام
الصلاة عند مجرد القعدة. ولو كان التشهد فرضا
لما ثبت التمام بدونه، دل أنه ليس بفرض لكنه
واجب بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم
ومواظبته دليل الوجوب فيما قام دليل على عدم
فرضيته، وقد قام ههنا وهو ما ذكرنا فكان واجبا
لا فرضا والله أعلم والأمر في الحديث يدل على
الوجوب دون الفرضية؛ لأنه خبر واحد وأنه يصلح
للوجوب لا للفرضية، وقوله: قبل أن يفرض: أي
قبل أن يقدر على هذا التقدير المعروف، إذ
الفرض في اللغة: التقدير. "ومنها" مراعاة
الترتيب فيما شرع مكررا من الأفعال في الصلاة
وهو السجدة، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم
على مراعاة الترتيب فيه، وقيام الدليل على عدم
فرضيته على ما ذكرنا، حتى لو ترك السجدة
الثانية من الركعة الأولى ثم تذكرها في آخر
صلاته سجد المتروكة وسجد للسهو بترك الترتيب;
لأنه ترك الواجب الأصلي ساهيا فوجب سجود السهو
والله الموفق "وأما" الذي ثبت وجوبه في الصلاة
بعارض فنوعان أيضا: أحدهما: سجود السهو،
والآخر سجود التلاوة. "أما" سجود السهو
فالكلام فيه في مواضع: في بيان وجوبه، وفي
بيان سبب الوجوب، وفي بيان أن المتروك من
الأفعال والأذكار ساهيا هل يقضى أم لا ؟ وفي
بيان محل السجود، وفي بيان قدر سلام السهو
وصفته، وفي بيان عمله أنه يبطل التحريمة أم
لا، وفي بيان من يجب عليه سجود السهو ومن لا
يجب عليه. "أما" الأول فقد ذكر الكرخي أن سجود
السهو واجب، وكذا نص محمد في الأصل فقال: "إذا
سها الإمام وجب على المؤتم أن يسجد وقال بعض
أصحابنا: إنه سنة، وجه قولهم: إن العود إلى
سجدتي السهو لا يرفع التشهد، حتى لو تكلم
بعدما سجد للسهو قبل أن يقعد لا تفسد صلاته.
ولو كان واجبا لرفع كسجدة التلاوة; ولأنه
مشروع في صلاة التطوع كما هو مشروع في صلاة
الفرض، والفائت من التطوع كيف يجبر بالواجب.
والصحيح أنه واجب لما روي عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتحر أقربه إلى الصواب،
وليبن عليه، وليسجد للسهو بعد السلام"، ومطلق الأمر لوجوب العمل. وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لكل سهو سجدتان بعد السلام"،
فيجب تحصيلهما تصديقا للنبي صلى الله عليه
وسلم في خبره، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة رضي الله عنهم واظبوا عليه،
والمواظبة دليل الوجوب؛ ولأنه شرع جبرا لنقصان
العبادة فكان واجبا كدماء الجبر في باب الحج،
وهذا لأن أداء العبادة بصفة الكمال واجب، ولا
تحصل صفة الكمال إلا بجبر النقصان فكان واجبا
ضرورة، إذ لا حصول للواجب إلا به، إلا أن
العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد لا لأن
السجود ليس بواجب بل لمعنى آخر، وهو أن السجود
وقع في محله؛ لأن محله بعد القعدة، فالعود
إليه لا يكون رافعا للقعدة
ج / 1 ص -164-
الواقعة في محلها، فأما سجدة التلاوة فمحلها
قبل القعدة، فالعود إليها يرفع القعدة كالعود
إلى السجدة الصلبية فهو الفرق. "أما" قولهم:
إن له مدخلا في صلاة التطوع فنقول: أصل الصلاة
وإن كانت تطوعا لكن لها أركان لا تقوم بدونها،
وواجبات تنتقص بفواتها وتغييرها عن محلها،
فيحتاج إلى الجابر، مع أن النفل يصير واجبا
عندنا بالشروع ويلتحق بالواجبات الأصلية في حق
الأحكام على ما يبين في مواضعه إن شاء الله
تعالى:.
فصل": وأما بيان سبب الوجوب فسبب وجوبه ترك الواجب الأصلي في الصلاة، أو
تغييره أو تغيير فرض منها عن محله الأصلي
ساهيا; لأن كل ذلك يوجب نقصانا في الصلاة فيجب
جبره بالسجود، ويخرج على هذا الأصل مسائل،
وجملة الكلام فيه أن الذي وقع السهو عنه لا
يخلو أما إن كان من الأفعال، وأما إن كان من
الأذكار، إذ الصلاة أفعال وأذكار، فإن كان من
الأفعال بأن قعد في موضع القيام أو قام في
موضع القعود سجد للسهو لوجود تغيير الفرض، وهو
تأخير القيام عن وقته، أو تقديمه على وقته مع
ترك الواجب، وهو القعدة الأولى. وقد روي عن
المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قام من الثانية إلى الثالثة ساهيا فسبحوا به
فلم يقعد، فسبحوا به فلم يعد وسجد للسهو وكذا
إذا ركع في موضع السجود أو سجد في موضع الركوع
أو ركع ركوعين أو سجد ثلاث سجدات لوجود تغيير
الفرض عن محله أو تأخير الواجب، وكذا إذا ترك
سجدة من ركعة فتذكرها في آخر الصلاة سجدها
وسجد للسهو؛ لأنه أخرها عن محلها الأصلي، وكذا
إذا قام إلى الخامسة قبل أن يقعد قدر التشهد
أو بعد ما قعد وعاد سجد للسهو لوجود تأخير
الفرض عن وقته الأصلي وهو القعدة الأخيرة، أو
تأخير الواجب وهو السلام. ولو زاد على قراءة
التشهد في القعدة الأولى وصلى على النبي صلى
الله عليه وسلم ذكر في أمالي الحسن بن زياد عن
أبي حنيفة أن عليه سجود السهو، وعندهما لا
يجب. "لهما" أنه لو وجب عليه سجود السهو لوجب
جبر النقصان; لأنه شرع له ولا يعقل تمكن
النقصان في الصلاة بالصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم وأبو حنيفة يقول: "لا يجب عليه
بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بل
بتأخير الفرض وهو القيام، إلا أن التأخير حصل
بالصلاة فيجب عليه من حيث إنه تأخير لا من حيث
إنه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ولو
تلا سجدة فنسي أن يسجد ثم تذكرها في آخر
الصلاة فعليه أن يسجدها ويسجد للسهو; لأنه أخر
الواجب عن وقته ولو سلم مصلي الظهر على رأس
الركعتين على ظن أنه قد أتمها، ثم علم أنه صلى
ركعتين، وهو على مكانه يتمها ويسجد للسهو أما
الإتمام فلأنه سلام سهو فلا يخرجه عن الصلاة.
وأما وجوب السجدة فلتأخير الفرض وهو القيام
إلى الشفع الثاني، بخلاف ما إذا سلم على رأس
الركعتين على ظن أنه مسافر أو مصلي الجمعة، ثم
علم أنه تفسد صلاته; لأن هذا الظن نادر فكان
سلامه سلام عمد، وأنه قاطع للصلاة. ولو ترك
تعديل الأركان، والقومة التي بين الركوع
والسجود، أو القعدة التي بين السجدتين ساهيا
اختلف المشايخ فيه: على قول أبي حنيفة ومحمد
بناء على أن تعديل الأركان عندهما واجب أو سنة
وقد بينا ذلك فيما تقدم. وعلى هذا إذا شك في
شيء من صلاته فتفكر في ذلك حتى استيقن، وهو
على وجهين: إما إن شك في شيء من هذه الصلاة
التي هو فيها فتفكر في ذلك، وإما إن شك في
صلاة قبل هذه الصلاة فتفكر في ذلك وهو في هذه،
وكل وجه على وجهين: أما إن طال تفكره بأن كان
مقدار ما يمكنه أن يؤدي فيه ركنا من أركان
الصلاة كالركوع والسجود، أو لم يطل فإن لم يطل
تفكره فلا سهو عليه، سواء كان تفكره في غير
هذه الصلاة أو في هذه الصلاة; لأنه إذا لم يطل
لم يوجد سبب الوجوب الأصلي وهو ترك الواجب أو
تغيير فرض أو واجب عن وقته الأصلي، ولأن الفكر
القليل مما لا يمكن الاحتراز عنه فكان عفوا
دفعا للحرج. وإن طال تفكره فإن كان تفكره في
غير هذه الصلاة فلا سهو عليه، وإن كان في هذه
الصلاة فكذلك في القياس، وفي الاستحسان عليه
السهو. "وجه" القياس أن الموجب للسهو يمكن
النقصان في الصلاة ولم يوجد; لأن الكلام فيما
إذا تذكر أنه أداها، فبقي مجرد الفكر وأنه لا
يوجب السهو كالفكر القليل. وكما لو شك في صلاة
أخرى وهو في هذه الصلاة، ثم تذكر أنه أداها لا
سهو عليه وإن طال فكره كذا هذا. وجه الاستحسان
أن الفكر الطويل في هذه الصلاة
ج / 1 ص -165-
مما
يؤخر الأركان عن أوقاتها فيوجب تمكن النقصان
في الصلاة، فلا بد من جبره بسجدتي السهو،
بخلاف الفكر القصير، وبخلاف ما إذا شك في صلاة
أخرى وهو في هذه الصلاة; لأن الموجب للسهو في
هذه الصلاة سهو هذه الصلاة لا سهو صلاة أخرى.
ولو شك في سجود السهو يتحرى ولا يسجد لهذا
السهو; لأن تكرار سجود السهو في صلاة واحدة
غير مشروع على ما نذكر، ولأنه لو سجد لا يسلم
عن السهو فيه ثانيا وثالثا فيؤدي إلى ما لا
يتناهى. "وحكي" أن محمد بن الحسن قال للكسائي
وكان الكسائي ابن خالته: لم لا تشتغل بالفقه
مع هذا الخاطر ؟ فقال: "من أحكم علما فذاك
يهديه إلى سائر العلوم فقال محمد: أنا ألقي
عليك شيئا من مسائل الفقه فخرج جوابه من النحو
فقال: هات قال: فما تقول فيمن سها في سجود
السهو ؟ فتفكر ساعة ثم قال:
"لا سهو عليه"
فقال من أي باب من النحو خرجت هذا الجواب ؟
فقال: "من باب أنه لا يصغر المصغر فتحير من
فطنته. ولو شرع في الظهر ثم توهم أنه في
العصر، فصلى على ذلك الوهم ركعة أو ركعتين، ثم
تذكر أنه في الظهر فلا سهو عليه"; لأن تعيين
النية شرط افتتاح الصلاة لا شرط بقائها كأصل
النية، فلم يوجد تغيير فرض ولا ترك واجب، فإن
تفكر في ذلك تفكرا شغله عن ركن فعليه سجود
السهو استحسانا على ما مر. ولو افتتح الصلاة
فقرأ، ثم شك في تكبيرة الافتتاح فأعاد التكبير
والقراءة، ثم علم أنه كان كبر فعليه سجود
السهو; لأنه بزيادة التكبير والقراءة أخر ركنا
وهو الركوع، ثم لا فرق بين ما إذا شك في خلال
صلاته فتفكر حتى استيقن، وبين ما إذا شك في
آخر صلاته بعد ما قعد قدر التشهد الأخير ثم
استيقن في حق وجوب السجدة; لأنه أخر الواجب
وهو السلام. ولو شك بعد ما سلم تسليمة واحدة
ثم استيقن لا سهو عليه؛ لأنه بالتسليمة الأولى
خرج عن الصلاة وانعدمت الصلاة فلا يتصور
تنقيصها بتفويت واجب منها، فاستحال إيجاب
الجابر. وكذا لا فرق بينه وبين ما إذا سبقه
الحدث في الصلاة فعاد إلى الوضوء، ثم شك قبل
أن يعود إلى الصلاة فتفكر ثم استيقن حتى يجب
عليه سجود السهو في الحالين جميعا إذا طال
تفكره; لأنه في حرمة الصلاة وإن كان غير مؤد
لها. والله أعلم هذا الذي ذكرنا حكم الشك في
الصلاة فيما يرجع إلى سجود السهو. وأما حكم
الشك في الصلاة فيما يرجع إلى البناء
والاستقبال فنقول: إذا سها في صلاته فلم يدر
أثلاثا صلى أم أربعا فإن كان ذلك أول ما سها
استقبل الصلاة ومعنى قوله:أول ما سها أن
السهو لم يصر عادة له لا أنه لم يسه في عمره
قط وعند الشافعي يبني على الأقل، "احتج" بما
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شك أحدكم في
صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ؟ فليلغ
الشك وليبن على الأقل"، أمر بالبناء على الأقل
من غير فصل; ولأن فيما قلنا أخذا باليقين من
غير إبطال العمل فكان أولى. "ولنا" ما روى عبد
الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال
"إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى ؟ فليستقبل
الصلاة " أمر بالاستقبال، وكذا روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم
أنهم قالوا هكذا. وروي عنهم بألفاظ مختلفة;
ولأنه لو استقبل أدى الفرض بيقين كاملا، ولو
بنى على الأقل ما أداه كاملا; لأنه ربما يؤدي
زيادة على المفروض، وإدخال الزيادة في الصلاة
نقصان فيها، وربما يؤدي إلى إفساد الصلاة بأن
كان أدى أربعا وظن أنه أدى ثلاثا فبنى على
الأقل وأضاف إليها أخرى قبل أن يقعد، وبه تبين
أن الاستقبال ليس إبطالا للصلاة; لأن الإفساد
ليؤدي أكمل لا يعد إفسادا، والإكمال لا يحصل
إلا بالاستقبال على ما مر، والحديث محمول على
ما إذا وقع ذلك له مرارا ولم يقع تحريه على
شيء، بدليل ما روينا هذا إذا كان ذلك أول ما
سها، فإن كان يعرض له ذلك كثيرا تحرى وبنى على
ما وقع عليه التحري في ظاهر الروايات، وروى
الحسن عن أبي حنيفة أنه يبني على الأقل، وهو
قول الشافعي لما روينا في المسألة الأولى من
غير فصل، ولأن المصير إلى التحري للضرورة ولا
ضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه إدراك اليقين بدونه
بأن يبني على الأقل فلا حاجة إلى التحري.
"ولنا" ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا شك
أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ؟
فليتحر أقربه إلى الصواب، وليبن عليه " ولأنه تعذر عليه الوصول إلى ما اشتبه عليه بدليل من الدلائل،
والتحري عند انعدام الأدلة مشروع كما في أمر
القبلة، ولا وجه للاستقبال; لأنه عسى أن يقع
ثانيا وكذا الثالث والرابع إلى ما لا يتناهى،
ولا وجه للبناء على الأقل
ج / 1 ص -166-
; لأن ذلك لا يوصله إلى ما عليه لما مر في
المسألة المتقدمة، وما رواه الشافعي محمول على
ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، وعندنا
إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء يبني على
الأقل، وكيفية البناء على الأقل أنه إذا وقع
الشك في الركعة والركعتين يجعلها ركعة واحدة،
وإن وقع الشك في الركعتين أو الثلاث جعلها
ركعتين، وإن وقع في الثلاث والأربع جعلها
ثلاثا وأتم صلاته على ذلك، وعليه أن يتشهد لا
محالة في كل موضع يتوهم أنه آخر الصلاة; لأن
القعدة الأخيرة فرض، والاشتغال بالنفل قبل
إكمال الفرض مفسد له فلذلك يقعد. وأما الشك في
أركان الحج ذكر الجصاص أن ذلك إن كان يكثر
يتحرى أيضا كما في باب الصلاة، وفي ظاهر
الرواية يؤخذ باليقين. "والفرق" أن الزيادة في
باب الحج وتكرار الركن لا يفسد الحج، فأمكن
الأخذ باليقين فأما الزيادة في باب الصلاة إذا
كانت ركعة فإنها تفسد الصلاة إذا وجدت قبل
القعدة الأخيرة، فكان العمل بالتحري أحوط من
البناء على الأقل. وأما الأذكار فالأذكار التي
يتعلق سجود السهو بها أربعة: القراءة،
والقنوت، والتشهد، وتكبيرات العيدين. "أما"
القراءة فإذا ترك القراءة في الأوليين قرأ في
الأخريين وسجد للسهو; لأن القراءة في الأوليين
على التعيين غير واجبة عند بعض مشايخنا، وإنما
الفرض في ركعتين منها غير عين، وترك الواجب
ساهيا يوجب السهو، وعند بعضهم هي فرض في
الأوليين عينا وتكون القراءة في الأخريين عند
تركها في الأوليين قضاء، فإذا تركها في
الأوليين أو في إحداهما فقد غير الفرض عن محل
أدائه سهوا فيلزمه سجود السهو. ولو سها عن
الفاتحة فيهما أو في إحداهما، أو عن السورة
فيهما أو في إحداهما فعليه السهو; لأن قراءة
الفاتحة على التعيين في الأوليين واجبة عندنا،
وعند الشافعي رحمه الله تعالى: فرض على ما
بينا فيما تقدم، وكذا قراءة السورة على
التعيين، أو قراءة مقدار سورة قصيرة وهي ثلاث
آيات واجبة، فيتعلق السجود بالسهو عنهما. ولو
غير صفة القراءة سهوا بأن جهر فيما يخافت أو
خافت فيما يجهر فهذا على وجهين: أما إن كان
إماما أو منفردا فإن كان إماما سجد للسهو
عندنا، وعند الشافعي لا سهو عليه، وجه قوله أن
الجهر والمخافتة من هيئة الركن، وهو القراءة
فيكون سنة كهيئة كل ركن، نحو الأخذ بالركب
وهيئة القعدة. "ولنا" أن الجهر فيما يجهر
والمخافتة فيما يخافت واجبة على الإمام لما
بينا فيما تقدم، ثم اختلفت الروايات عن
أصحابنا في مقدار ما يتعلق به سجود السهو من
الجهر والمخافتة، ذكر في نوادر أبي سليمان
وفصل بين الجهر والمخافتة في المقدار فقال: إن
جهر فيما يخافت فعليه السهو قل ذلك أو كثر،
وإن خافت فيما يجهر فإن كان في أكثر الفاتحة،
أو في ثلاث آيات من غير الفاتحة فعليه السهو،
وإلا فلا، وروى ابن سماعة عن محمد التسوية بين
الفصلين أنه إن تمكن التغيير في ثلاث آيات أو
أكثر فعليه سجود السهو، وإلا فلا وروى الحسن
عن أبي حنيفة إن تمكن التغيير في آية واحدة
فعليه السجود، وروي عن أبي يوسف أنه إذا جهر
بحرف يسجد. "وجه" رواية أبي سليمان أن
المخافتة فيما يخافت ألزم من الجهر فيما يجهر،
ألا ترى أن المنفرد يتخير بين الجهر والمخافتة
؟ ولا خيار له فيما يخافت فإذا جهر فيما يخافت
فقد تمكن النقصان في الصلاة بنفس الجهر فيجب
جبره بالسجود فأما بنفس المخافتة فيما يجهر
فلا يتمكن النقصان ما لم يكن مقدار ثلاث آيات
أو أكثر. "وجه" رواية ابن سماعة ما روي عن أبي
قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعنا
الآية والآيتين أحيانا في الظهر والعصر، وهذا
جهر فيما يخافت، فإذا ثبت فيه ثبت في المخافتة
فيما يجهر؛ لأنهما يستويان، ثم لما ورد الحديث
مقدرا بآية أو آيتين ولم يرد بأزيد من ذلك
كانت الزيادة تركا للواجب فيوجب السهو. "وجه"
رواية الحسن بناء على أن فرض القراءة عند أبي
حنيفة يتأدى بآية واحدة وإن كانت قصيرة، فإذا
غير صفة القراءة في هذا القدر تعلق به السهو،
وعندهما لا يتأدى فرض القراءة إلا بآية طويلة
أو ثلاث آيات قصار، فما لم يتمكن التغيير في
هذا المقدار لا يجب السهو، هذا إذا كان إماما
فأما إذا كان منفردا فلا سهو عليه، أما إذا
خافت فيما يجهر فلا شك فيه؛ لأنه مخير بين
الجهر والمخافتة، لما ذكرنا فيما تقدم أن
الجهر على الإمام إنما وجب تحصيلا لثمرة
القراءة في حق المقتدي، وهذا المعنى لا يوجد
في حق المنفرد فلم يجب الجهر فلا يتمكن النقص
في الصلاة بتركه، وكذا إذا جهر فيما يخافت؛
لأن المخافتة في الأصل إنما وجبت صيانة
للقراءة عن المغالبة واللغو فيها
ج / 1 ص -167-
; لأن صيانة القراءة عن ذلك واجبة وذلك في
الصلاة المؤداة على طريق الاشتهار وهي الصلاة
بجماعة فأما صلاة المنفرد فما كان يوجد فيها
المغالبة فلم تكن الصيانة بالمخافتة واجبة،
فلم يترك الواجب فلا يلزمه سجود السهو. ولو
أراد أن يقرأ سورة فأخطأ وقرأ غيرها لا سهو
عليه لانعدام سبب الوجوب، وهو تغيير فرض أو
واجب أو تركه إذ لا توقيت في القراءة. وروي عن
محمد أنه قال فيمن قرأ الحمد مرتين في
الأوليين فعليه السهو; لأنه أخر السورة بتكرار
الفاتحة. ولو قرأ الحمد ثم السورة ثم الحمد لا
سهو عليه، وصار كأنه قرأ سورة طويلة. ولو تشهد
مرتين لا سهو عليه، ولو قرأ القرآن في ركوعه
أو في سجوده أو في قيامه لا سهو عليه; لأنه
ثناء وهذه الأركان مواضع الثناء. "وأما"
القنوت فتركه سهوا يوجب سجود السهو; لأنه واجب
لما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى: -.
وكذلك تكبيرات العيدين إذا تركها أو نقص منها;
لأنها واجبة، وكذا إذا زاد عليها أو أتى بها
في غير موضعها; لأنه يحصل تغيير فرض أو واجب.
وكذلك قراءة التشهد إذا سها عنها في القعدة
الأخيرة ثم تذكرها قبل السلام أو بعد ما سلم
ساهيا قرأها وسلم وسجد للسهو، لأنها واجبة.
وأما في القعدة الأولى فكذلك استحسانا،
والقياس في هذا وقنوت الوتر وتكبيرات العيدين
سواء، ولا سهو عليه; لأن هذه الأذكار سنة، ولا
يتمكن بتركها كبير نقصان في الصلاة، فلا يوجب
السهو كما إذا ترك الثناء والتعوذ. "وجه"
الاستحسان أن هذه الأذكار واجبة، أما وجوب
القنوت وتكبيرات العيدين فلما يذكر في موضعه.
وأما وجوب التشهد في القعدة الأولى فلمواظبة
النبي صلى الله عليه وسلم على قراءته، ومواظبة
الصحابة رضي الله عنهم. وأما سائر الأذكار من
الثناء والتعوذ وتكبيرات الركوع والسجود
وتسبيحاتهما فلا سهو فيها عند عامة العلماء،
وقال مالك: "إذا سها عن ثلاث تكبيرات فعليه
السهو قياسا على تكبيرات العيدين، وهذا القياس
عندنا غير سديد؛ لأن تكبيرات العيد واجبة لما
يذكر فجاز أن يتعلق بها السهو، بخلاف تكبيرات
الركوع والسجود فإنها من السنن، ونقصان السنة
لا يجبر بسجود السهو; لأن سجود السهو واجب ولا
يجب جبر الشيء بما هو فوق الفائت، بخلاف
الواجب; لأن الشيء ينجبر بمثله ولهذا لا يتعلق
السهو بترك الواجب عمدا; لأن النقص المتمكن
بترك الواجب عمدا فوق النقص المتمكن بتركه
سهوا، والشرع لما جعل السجود جابرا لما فات
سهوا كان مثلا للفائت سهوا، وإذا كان مثلا
للفائت سهوا كان دون ما فات عمدا، والشيء لا
ينجبر بما هو دونه، ولهذا لا ينجبر به النقص
المتمكن بفوات الفرض. ولو سلم عن يساره قبل
سلامه عن يمينه فلا سهو عليه; لأن الترتيب في
السلام من باب السنن فلا يتعلق به سجود السهو.
ولو نسي التكبير في أيام التشريق لا سهو عليه;
لأنه لم يترك واجبا من واجبات الصلاة. ولو سها
في صلاته مرارا لا يجب عليه إلا سجدتان، وعند
بعضهم يلزمه لكل سهو سجدتان لقوله صلى الله
عليه وسلم:
"لكل سهو سجدتان بعد السلام " ولأن كل سهو أوجب نقصانا فيستدعي جابرا. "ولنا" ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"سجدتان تجزيان لكل زيادة ونقصان " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القعدة الأولى وسجد لها
سجدتين، وكأن سها عن القعدة وعن التشهد حيث
تركهما، وعن القيام حيث أتى به في غير محله،
ثم لم يزد على سجدتين فعلم أن السجدتين
كافيتان، ولأن سجود السهو إنما أخر عن محل
النقصان إلى آخر الصلاة لئلا يحتاج إلى تكراره
لو وقع السهو بعد ذلك، وإلا لم يكن للتأخير
معنى، والحديث محمول على جنس السهو الموجود في
صلاة واحدة لا أنه عين السهو بدليل ما ذكرنا.
فصل": وأما بيان المتروك ساهيا هل يقضى أم لا ؟ نقول وبالله التوفيق -:
إن المتروك الذي يتعلق به سجود السهو من
الفرائض والواجبات لا يخلو إما أن كان من
الأفعال أو من الأذكار، ومن أي القسمين كان
وجب أن يقضي إن أمكن التدارك بالقضاء وإن لم
يمكن فإن كان المتروك فرضا تفسد الصلاة، وإن
كان واجبا لا تفسد، ولكن تنتقص وتدخل في حد
الكراهة، وبيان هذه الجملة: أما الأفعال فإذا
ترك سجدة صلبية من ركعة ثم تذكرها آخر الصلاة
قضاها وتمت صلاته عندنا، وقال الشافعي: يقضيها
ويقضي ما بعدها، "وجه" قوله أن ما صلى بعد
المتروك حصل قبل
ج / 1 ص -168-
أوانه
فلا يعتد به; لأن هذه عبادة شرعت مرتبة فلا
تعتبر بدون الترتيب، كما لو قدم السجود على
الركوع أنه لا يعتد بالسجود لما قلنا كذا هذا.
"ولنا" أن الركعة الثانية صادفت محلها; لأن
محلها بعد الركعة الأولى، وقد وجدت الركعة
الأولى؛ لأن الركعة تتقيد بسجدة واحدة، وإنما
الثانية تكرار، ألا ترى أنه ينطلق عليها اسم
الصلاة ؟ حتى لو حلف لا يصلي فقيد الركعة
بالسجدة يحنث، فكان أداء الركعة الثانية
معتبرا معتدا به، فلا يلزمه إلا قضاء المتروك،
بخلاف ما إذا قدم السجود على الركوع; لأن
السجود ما صادف محله; لأن محله بعد الركوع
لتقييد الركعة، والركعة بدون الركوع لا تتحقق
فلم يقع معتدا به فهو الفرق. وعلى هذا الخلاف
إذا تذكر سجدتين من ركعتين في آخر الصلاة
قضاهما وتمت صلاته عندنا، ويبدأ بالأولى منهما
ثم بالثانية; لأن القضاء على حسب الأداء، ثم
الثانية مرتبة على الأولى في الأداء فكذا في
القضاء. ولو كانت إحداهما سجدة تلاوة تركها من
الركعة الأولى، والأخرى صلبية تركها من
الثانية يراعي الترتيب أيضا فيبدأ بالتلاوة
عند عامة العلماء، وقال زفر: يبدأ بالثانية؛
لأنها أقوى. "ولنا" أن القضاء معتبر بالأداء،
وقد تقدم وجوب التلاوة أداء فيجب تقديمها في
القضاء، ولو تذكر سجدة صلبية وهو راكع أو ساجد
لخر لها من ركوعه ورفع رأسه من سجوده فسجدها،
والأفضل أن يعود إلى حرمة هذه الأركان فيعيدها
ليكون على الهيئة المسنونة وهي الترتيب، وإن
لم يعد أجزأه عند أصحابنا الثلاثة. وعند زفر
لا يجزئه; لأن الترتيب في أفعال الصلاة فرض
عنده فالتحقت هذه السجدة بمحلها فبطل ما أدى
من القيام والقراءة والركوع لترك الترتيب،
وعندنا الترتيب في أفعال صلاة واحدة ليس بفرض،
ولهذا يبدأ المسبوق بما أدرك الإمام فيه دون
ما سبقه، ولئن كان فرضا فقد سقط بعذر النسيان،
فوقع الركوع والسجود معتبرا لمصادفته محله،
وعن أبي يوسف رحمه الله أن عليه إعادة الركوع
إذا خر لها من الركوع، بناء على أصله أن
القومة التي بين الركوع والسجود فرض، بخلاف ما
إذا سبقه الحدث في ركوعه أو سجوده أنه يتوضأ
ويعيد بعد ما أحدث فيه لا محالة; لأن الجزء
الذي لا قاه الحدث من الركن قد فسد فكان ينبغي
أن يفسد كل الصلاة; لأنها لا تتجزأ، إلا أنا
تركنا هذا القياس بالنص والإجماع في حق جواز
البناء، فيعمل به في حق الركن الذي أحدث فيه.
ولو لم يسجدها حتى سلم فلا يخلو إما أن سلم
وهو ذاكر لها، أو ساه عنها. فإن سلم وهو ذاكر
لها فسدت صلاته، وإن كان ساهيا لا تفسد،
والأصل أن السلام العمد يوجب الخروج عن الصلاة
إلا سلام من عليه السهو، وسلام السهو لا يوجب
الخروج عن الصلاة؛ لأن السلام محلل في الشرع،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم " ولأنه كلام، والكلام مضاد للصلاة، إلا أن الشرع منعه عن العمل حالة
السهو ضرورة دفع الحرج; لأن الإنسان قلما يسلم
عن النسيان، وفي حق من عليه سهو ضرورة تمكنه
من سجود السهو، ولا ضرورة في غير حالة السهو
في حق من لا سهو عليه فوجب اعتباره محللا
منافيا للصلاة إذا عرفنا هذا فنقول: "إذا سلم
وهو ذاكر أن عليه سجدة صلبية فسدت صلاته وعليه
الإعادة; لأن سلام العمد قاطع للصلاة، وقد بقي
عليه ركن من أركانها، ولا وجود للشيء بدون
ركنه وإن كان ساهيا لا تفسد; لأنه ملحق
بالعدم; ضرورة دفع الحرج على ما مر، ثم إن سلم
وهو في مكانه لم يصرف وجهه عن القبلة، ولم
يتكلم يعد إلى قضاء ما عليه. ولو اقتدى به رجل
صح اقتداؤه، وإذا عاد إلى السجدة يتابعه
المقتدي فيها ولكن لا يعتد بهذه السجدة; لأنه
لم يدرك الركوع، ويتابعه في التشهد دون
التسليم، وبعد التسليم يتابعه في سجود السهو،
فإذا سلم الإمام ساهيا لا يتابعه ولكنه يقوم
إلى قضاء ما سبق به، وإن لم يعد الإمام إلى
قضاء السجدة فسدت صلاته؛ لأنه بقي عليه ركن من
أركان الصلاة وفسدت صلاة المقتدي بفساد صلاة
الإمام بعد صحة الاقتداء به، وفائدة صحة
اقتدائه به أنه لو كان اقتدى به بنية التطوع
في صلاة الظهر أو العصر أو العشاء فعليه قضاء
أربع ركعات إن كان الإمام مقيما، وإن كان
مسافرا فعليه قضاء ركعتين. وأما إذا صرف وجهه
عن القبلة فإن كان في المسجد، ولم يتكلم فكذلك
الجواب استحسانا، والقياس أن لا يعود، وهو
رواية محمد. وجه القياس أن صرف الوجه عن
القبلة مفسد للصلاة بمنزلة الكلام فكان مانعا
من البناء. "وجه" الاستحسان أن المسجد كله في
حكم مكان واحد; لأنه مكان الصلاة ألا يرى أنه
صح اقتداء من هو في
ج / 1 ص -169-
المسجد
بالإمام وإن كان بينهما فرجة، واختلاف المكان
يمنع صحة الاقتداء فكان بقاؤه فيه كبقائه في
مكان صلاته، وصرف الوجه عن القبلة مفسد في غير
حالة العذر والضرورة، فأما في حال العذر
والضرورة فلا بخلاف الكلام; لأنه مضاد للصلاة
فيستوي فيه الحالان، وإن كان خرج من المسجد ثم
تذكر لا يعد وتفسد صلاته؛ لأن الخروج من مكان
الصلاة مانع من البناء وقد بقي عليه ركن من
أركان الصلاة فيلزمه الاستقبال. وأما إذا كان
في الصحراء فإن تذكر قبل أن يجاوز الصفوف من
خلفه أو من قبل اليمين أو اليسار عاد إلى قضاء
ما عليه، وإلا فلا; لأن ذلك الموضع بحكم اتصال
الصفوف التحق بالمسجد، ولهذا صح الاقتداء. وإن
مشى أمامه، لم يذكر في الكتاب، وقيل: إن مشى
قدر الصفوف التي خلفه عاد وبنى وإلا فلا، وهو
مروي عن أبي يوسف اعتبارا لأحد الجانبين
بالآخر، وقيل: إذا جاوز موضع سجوده لا يعود،
وهو الأصح; لأن ذلك القدر في حكم خروجه من
المسجد فكان مانعا من البناء، وهذا إذا لم يكن
بين يديه سترة فإن كان يعود ما لم يجاوزها;
لأن داخل السترة في حكم المسجد والله أعلم هذا
إذا سلم وعليه سجدة صلبية فإن سلم وعليه سجدة
تلاوة، أو قراءة التشهد الأخير فإن سلم وهو
ذاكر لها سقطت عنه; لأن سلامه سلام عمد فيخرجه
عن الصلاة، حتى لو اقتدى به رجل لا يصح
اقتداؤه. ولو ضحك قهقهة لا تنتقض طهارته، ولو
كان مسافرا فنوى الإقامة لا ينقلب فرضه أربعا،
ولا تفسد صلاته; لأنه لم يبق عليه ركن من
أركان الصلاة لكنها تنتقص لترك الواجب، وإن
كان ساهيا عنها لا تسقط; لأن سلام السهو لا
يخرج عن الصلاة، حتى يصح الاقتداء به وينتقض
وضوءه بالقهقهة، ويتحول فرضه بنية الإقامة لو
كان مسافرا أربعا، ثم الأمر في العود إلى قضاء
السجدة وقراءة التشهد على التفصيل الذي ذكرنا
في الصلبية، غير أن ههنا لو تذكر بعد ما خرج
عن المسجد أو جاوز الصفوف سقط عنه ولا تفسد
صلاته; لأن الجواز متعلق بالأركان وقد وجدت،
إلا أنها تنتقص لما بينا، ثم العود إلى هذه
المتروكات وهي السجدة الصلبية وسجدة التلاوة
وقراءة التشهد يرفع التشهد، حتى لو تكلم أو
قهقه أو أحدث متعمدا فسدت صلاته، بخلاف العود
إلى سجدتي السهو وقد مر الفرق. ولو سلم وعليه
سجدة صلبية وسجدتا سهو فإن سلم وهو ذاكر لهما
أو للصلبية خاصة فسدت صلاته; لأنه سلام عمد
وقد بقي عليه ركن من أركان الصلاة، وإن كان
ساهيا عنها وذاكرا للسهو خاصة لا تفسد صلاته،
أما إذا كان ساهيا عنهما فلا شك فيه، وكذا إذا
كان ذاكرا للسهو; لأنه سلام من عليه السهو،
وعليه أن يعود فيسجد أولا للصلبية ويتشهد; لأن
تشهده انتقض بالعود إليها، ثم يسلم، ثم يسجد
سجدتي السهو. ولو سلم وعليه سجدة التلاوة
والسهو فإن كان ذاكرا لهما أو للتلاوة خاصة
سقطتا عنه; لأنه سلام عمد فيخرجه عن الصلاة،
ولكن لا تفسد صلاته لما مر، وإن كان ساهيا
عنهما أو ذاكرا لسجدتي السهو خاصة لا يسقطان
عنه؛ لأنه سلام سهو أو سلام من عليه السهو،
وعليه أن يسجد التلاوة أولا ثم يتشهد لما مر
ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو. ولو سلم وعليه
سجدة صلبية وسجدة التلاوة فإن كان ساهيا عنهما
يعود فيقضهما الأول فالأول وإن كان ذاكرا لهما
أو للصلبية خاصة فسدت صلاته; لأنه سلام عمد،
وإن كان ذاكرا للتلاوة خاصة فكذلك في ظاهر
الرواية وعلى هذا إذا كان عليه مع الصلبية
والتلاوة سجدتا السهو إن كان ساهيا عن الكل أو
ذاكرا للسهو خاصة لا تفسد صلاته; لأنه سلام
سهو فيعود فيقضي الأول فالأول إن كانت الصلبية
أولا بدأ بها، وإن كانت التلاوة أولا بدأ بها
عنده، خلافا لزفر على ما مر ثم يتشهد بعدهما
ويسلم ثم يسجد سجدتي السهو، وإن كان ذاكرا
للصلبية خاصة فسدت صلاته; لأنه سلام عمد، وإن
كان ذاكرا للتلاوة ساهيا عن الصلبية فكذلك في
ظاهر الرواية، وروى أصحاب الإمام عن أبي يوسف
أنه لا تفسد صلاته في الفصلين، "ووجهه" أن
سلامه في حق الركن سلام سهو وذا لا يوجب فساد
الصلاة، وبعض الطاعنين على محمد في هذه
المسألة قرروا هذا الوجه فقالوا: "إن هذا سلام
سهو في حق الركن، وسلام عمد في حق الواجب،
وسلام السهو لا يخرجه وسلام العمد يخرجه فوقع
الشك، والتحريمة صحيحة فلا تبطل بالشك، بخلاف
ما إذا كان ذاكرا للصلبية غير ذاكر للتلاوة؛
لأن هناك ترجح جانب الركن على جانب الواجب،
وفيما قاله محمد ترجيح جانب
ج / 1 ص -170-
الواجب
وهذا لا يجوز; إلا أن هذا الطعن فاسد؛ لأن
جانب العمد يخرج وجانب الشك مسكوت عنه لا يخرج
ولا يمنع غيره عن الإخراج، فلا يقع التعارض
بين الواجب والركن. وإنما يقع التعارض أن لو
كان أحدهما مخرجا والآخر مبقيا، وههنا جانب
الواجب يوجب الخروج، وجانب الركن لا يوجب ولكن
لا يمنع غيره عن الإخراج، فأنى يقع التعارض ؟
على أن كل سلام ينبغي أن يكون مخرجا; لأنه جعل
محللا شرعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
وتحليلها التسليم، ولأنه من باب الكلام على ما
مر إلا أنه منع من الإخراج حالة السهو دفعا
للحرج لكثرة السهو وغلبة النسيان، ولا يكره
سلام من علم أن عليه الواجب; لأن الظاهر من
حال المسلم أنه لا يترك الواجب فبقي مخرجا على
أصل الوضع، ولأنا لو لم نحكم بفساد صلاته حتى
لو أتى بالصلبية يلزمنا القول بأنه يأتي بسجدة
التلاوة أيضا لبقاء التحريمة، ولا سبيل إليه;
لأنه سلم وهو ذاكر للتلاوة فكان سلام عمد في
حقه، وقراءة التشهد الأخير في هذا الحكم كسجدة
التلاوة; لأنها واجبة. ولو سلم وعليه سجود
السهو والتكبير والتلبية بأن كان محرما وهو في
أيام التشريق لا يسقط عنه شيء من ذلك، سواء
كان ساهيا عن الكل أو ذاكرا للكل; لأن موضع
هذه الأشياء بعد السلام، فإذا أراد أن يؤدي
بدأ بالسهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية; لأن سجود
السهو يختص بتحريمة الصلاة، والتكبير يؤتى به
في حرمة الصلاة لا في تحريمتها، والتلبية لا
تختص بحرمة الصلاة. ولو بدأ بالتلبية سقط عنه
السهو والتكبير، وكذا إذا لبى بعد السهو قبل
التكبير سقط عنه التكبير; لأن سجود السهو يختص
بتحريمة الصلاة، والتكبير يختص بحرمتها، وقد
بطل ذلك كله بالتلبية; لأنها كلام لكونها
جوابا لخطاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال
الله تعالى:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}. ولو بدأ بالتكبير لا يسقط عنه السهو; لأنه كلام قربة فلا يوجب
القطع، وعليه إعادة التكبير بعد السلام؛ لأنه
لم يقع موقعه، ولا تفسد صلاته في الأحوال كلها
لاستجماع شرائطها وأركانها.
ولو سلم وعليه سجدة صلبية وسجدة التلاوة
والسهو والتكبير والتلبية بأن كان محرما في
أيام التشريق، فإن كان ذاكرا للصلبية والتلاوة
أو للصلبية دون التلاوة فسدت صلاته، وكذا إذا
كان ذاكرا للتلاوة دون الصلبية على ظاهر
الرواية لما مر، وإن كان ساهيا عنها لا يخرج
عن الصلاة، وعليه أن يسجد لكل واحدة منها:
الأول فالأول منهما، ثم يتشهد بعدهما ويسلم،
ثم يسجد سجدتي السهو ثم يتشهد ثم يكبر، ثم
يلبي لما مر. ولو بدأ بالتلبية قبل هذه
الأشياء فسدت صلاته. ولو بدأ بالتكبير لا تفسد
لما مر وعليه إعادة التكبير بعد السلام؛ لأن
محله خارج الصلاة في حرمتها، فإذا كبر في
الصلاة لم يقع موقعه فلذلك تلزمه الإعادة.
"وأما" إذا كان المتروك ركوعا فلا يتصور فيه
القضاء، وكذا إذا ترك سجدتين من ركعة، وبيان
ذلك إذا افتتح الصلاة فقرأ وسجد قبل أن يركع
ثم قام إلى الثانية فقرأ وركع وسجد فهذا قد
صلى ركعة واحدة، فلا يكون هذا الركوع قضاء عن
الأول; لأنه إذا لم يركع لا يعتد بذلك السجود
لعدم مصادفته محله; لأن محله بعد الركوع
فالتحق السجود بالعدم، فكأنه لم يسجد فكان
أداء هذا الركوع في محله، فإذا أتى بالسجود
بعده صار مؤديا ركعة تامة. وكذا إذا افتتح
الصلاة فقرأ وركع ولم يسجد ثم رفع رأسه فقرأ
ولم يركع ثم سجد فهذا قد صلى ركعة واحدة، ولا
يكون هذا السجود قضاء عن الأول; لأن ركوعه وقع
معتبرا لمصادفته محله; لأن محله بعد القراءة،
وقد وجدت إلا أنه توقف على أن تتقيد بالسجدة،
فإذا قام وقرأ لم يقع قيامه ولا قراءته معتدا
به; لأنه لم يقع في محله فلغا، فإذا سجد صادف
السجود محله لوقوعه بعد ركوع معتبر فتقيد
ركوعه به، فقد وجد انضمام السجدتين إلى الركوع
فصار مصليا ركعة، وكذا إذا قرأ أو ركع، ثم رفع
رأسه وقرأ وركع وسجد، فإنما صلى ركعة واحدة;
لأنه تقدمه ركوعان ووجد السجود فيلحق بأحدهما
ويلغو الآخر، غير أن في باب الحدث جعل المعتبر
الركوع الأول، وفي باب السهو من نوادر أبي
سليمان جعل المعتبر الركوع الثاني، حتى أن من
أدرك الركوع الثاني لا يصير مدركا للركعة على
رواية باب الحدث، وعلى رواية هذا الباب يصير
مدركا للركعة، والصحيح رواية باب الحدث; لأن
ركوعه الأول صادف محله لحصوله بعد القراءة،
فوقع الثاني مكررا فلا يعتد به، فإذا سجد
يتقيد به الركوع الأول فصار مصليا ركعة. وكذلك
إذا قرأ
ج / 1 ص -171-
ولم
يركع وسجد ثم قام فقرأ وركع ولم يسجد ثم قام
فقرأ ولم يركع وسجد فإنما صلى ركعة واحدة; لأن
سجوده الأول لم يصادف محله لحصوله قبل الركوع
فلم يقع معتدا به، فإذا قرأ وركع توقف هذا
الركوع على أن يتقيد بسجوده بعده، فإذا سجد
بعد القراءة تقيد ذلك الركوع به فصار مصليا
ركعة. وكذلك إن ركع في الأولى ولم يسجد، ثم
ركع في الثانية ولم يسجد، وسجد في الثالثة ولم
يركع فلا شك أنه صلى ركعة واحدة لما مر غير أن
هذا السجود يلتحق بالركوع الأول أم بالثاني ؟
فعنه روايتان على ما مر، وعليه سجود السهو في
هذه المواضع لإدخاله الزيادة في الصلاة; لأن
إدخال الزيادة في الصلاة نقص فيها، ولا تفسد
صلاته إلا في رواية عن محمد فإنه يقول: "زيادة
السجدة الواحدة كزيادة الركعة، بناء على أصله
أن السجدة الواحدة قربة وهي سجود الشكر، وعند
أبي حنيفة وأبي يوسف السجدة الواحدة ليست
بقربة إلا سجدة التلاوة، ثم إدخال الركوع
الزائد أو السجود الزائد لا يوجب فساد الفرض;
لأنه من أفعال الصلاة، والصلاة لا تفسد بوجود
أفعالها بل بوجود ما يضادها، بخلاف ما إذا زاد
ركعة كاملة; لأنها فعل صلاة كامل، فانعقد نفلا
فصار منتقلا إليه فلا يبقى في الفرض ضرورة
لمكان فساد فرض بهذا الطريق لا بطريق المضادة،
بخلاف زيادة ما دون الركعة; لأنها ليست بفعل
كامل ليصير منتقلا إليه، وهذا لأن فساد الصلاة
بأحد أمرين: إما بوجود ما يضادها، أو
بالانتقال إلى غيرها، وقد انعدم الأمران جميعا
والله أعلم. ولو ترك القعدة الأخيرة من ذوات
الأربع وقام إلى الخامسة فإن لم يقيدها
بالسجدة يعود إلى القعدة; لأنه لما لم يقيد
الخامسة بالسجدة لم يكن ركعة فلم يكن فعل صلاة
كاملا، وما لم يكمل بعد فهو غير ثابت على
الاستقرار فكان قابلا للرفع، ويكون رفعه في
الحقيقة دفعا ومنعا عن الثبوت، فيدفع ليتمكن
من الخروج عن الفرض وهو القعدة الأخيرة وقد
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إلى
الخامسة فسبح به فعاد، وإن قيد الخامسة
بالسجدة لا يعود وفسد فرضه عندنا، وعند
الشافعي لا يفسد فرضه ويعود بناء على أن
الركعة الواحدة عنده بمحل النقص، وبه حاجة إلى
النقص لبقاء فرض عليه وهو الخروج بلفظ السلام،
وأنا نقول: وجد فعل كامل من أفعال الصلاة، وقد
انعقد نفلا فصار به خارجا عن الفرض; لأن من
ضرورة حصوله في النفل خروجه عن الفرض
لتغايرهما فيستحيل كونه فيهما وقد حصل في
النفل فصار خارجا عن الفرض ضرورة. ولو ترك
القعدة الأولى من ذوات الأربع وقام إلى
الثالثة فإن استتم قائما لا يعود لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام من الثانية
إلى الثالثة ولم يقعد فسبحوا به فلم يعد ولكن
سبح بهم فقاموا، وما روي أنهم سبحوا به فعاد
محمول على ما إذا لم يستتم قائما وكان إلى
القعود أقرب توفيقا بين الحديثين، ولأن القيام
فريضة والقعدة الأولى واجبة فلا يترك الفرض
لمكان الواجب، وإنما عرفنا جواز الانتقال من
القيام إلى سجدة التلاوة بالأثر لحاجة المصلي
إلى الاقتداء بمن أطاع الله تعالى: -، وإظهار
مخالفة من عصاه، واستنكف عن سجدته وأما إذا لم
يستتم قائما فإن كان إلى القيام أقرب فكذلك
الجواب لوجود حد القيام وهو انتصاب النصف
الأعلى والنصف الأسفل جميعا، وما بقي من
الانحناء فقليل غير معتبر، وإن كان إلى القعود
أقرب يقعد لانعدام القيام الذي هو فرض. ولم
يذكر محمد أنه هل يسجد سجدتي السهو أم لا ؟
وقد اختلف المشايخ فيه، كان الشيخ أبو بكر
محمد بن الفضل البخاري يقول: لا يسجد سجدتي
السهو؛ لأنه إذا كان إلى القعود أقرب كان كأنه
لم يقم، ولهذا يجب عليه أن يقعد، وقال غيره من
مشايخنا: إنه يسجد؛ لأنه بقدر ما اشتغل
بالقيام أخر واجبا وجب وصله بما قبله من الركن
فلزمه سجود السهو. "وأما" الأذكار فنقول: إذا
ترك القراءة في الأوليين قضاها في الأخريين،
وذكر القدوري من أصحابنا أن هذا عندي أداء
وليس بقضاء؛ لأن الفرض هو القراءة في ركعتين
غير عين، فإذا قرأ في الأخريين كان مؤديا لا
قاضيا، وقال غيره من أصحابنا: إنه يكون قاضيا
ومسائل الأصل تدل عليه، فإنه قال في المسافر
إذا اقتدى بالمقيم في الشفع الثاني بعد خروج
الوقت أنه لا يجوز وإن لم يكن قرأ الإمام في
الشفع الأول. ولو كانت القراءة في الأوليين
أداء لجاز؛ لأنه يكون اقتداء المفترض بالمفترض
في حق القراءة، ولكن لما كانت القراءة في
الأخريين قضاء عن الأوليين التحقت بالأوليين
فحلت الأخريان عن القراءة المفروضة، فيصير في
حق القراءة اقتداء المفترض بالمتنفل,
ج / 1 ص -172-
وإنه
فاسد. وذكر في باب السهو: من الأصل أن الإمام
إذا كان لم يقرأ في الأوليين فاقتدى به إنسان
في الأخريين، وقرأ الإمام فيهما، ثم قام
المسبوق إلى قضاء ما فاته فعليه القراءة وإن
ترك ذلك لم تجزه صلاته. ولو كان فرض القراءة
ركعتين غير عين لكان الإمام مؤديا فرض القراءة
في الأخريين وقد أدركهما المسبوق فحصل فرض
القراءة عينا بقراءة الإمام، فينبغي أن لا يجب
عليه القراءة، ومع هذا وجب فعلم أن الأوليين
محل أداء فرض القراءة عينا، والقراءة في
الأخريين قضاء عن الأوليين، فإذا قرأ الإمام
في الأخريين فقد قضى ما فاته من القراءة في
الأوليين، والفائت إذا قضي يلتحق بمحله فحلت
الأخريان عن القراءة المفروضة، فقد فات على
المسبوق القراءة فلا بد من تحصيلها؛ لأن
الصلاة بلا قراءة غير جائزة، وكذا لو كان قرأ
الإمام في الأوليين؛ لأن القراءة في الأخريين
وإن وجدت لم تكن فرضا لافتراضها في ركعتين
فحسب، فقد فات الفرض على المسبوق فيجب عليه
تحصيلها فيما يقضي. ولو تركها في الأوليين في
صلاة الفجر أو المغرب فسدت صلاته، ولا يتصور
القضاء ههنا. ولو ترك الفاتحة في الركعة
الأولى وبدأ بغيرها، فلما قرأ بعض السورة تذكر
يعود فيقرأ بفاتحة الكتاب ثم السورة؛ لأن
الفاتحة سميت فاتحة لافتتاح القراءة بها في
الصلاة، فإذا تذكر في محلها كان عليه مراعاة
الترتيب، كما لو سها عن تكبيرات العيد حتى
اشتغل بالقراءة ثم تذكر أنه لم يكبر يعود إلى
التكبيرات ويقرأ بعدها كذا، هذا. ولو ترك
الفاتحة في الأوليين وقرأ السورة لم يقضها في
الأخريين في ظاهر الرواية، وعن الحسن بن زياد
أنه يقضي الفاتحة في الأخريين؛ لأن الفاتحة
أوجب من السورة، ثم السورة تقضى فلأن تقضى
الفاتحة أولى. "ولنا" أن الأخريين محل الفاتحة
أداء فلا تكونا محلا لها قضاء بخلاف السورة،
ولأنه لو قضاها في الأخريين يؤدي إلى تكرار
الفاتحة في ركعة واحدة، وأنه غير مشروع. ولو
قرأ الفاتحة في الأوليين ولم يقرأ السورة
قضاها في الأخريين وعن أبي يوسف أنه لا يقضيها
كما لا يقضي الفاتحة؛ لأنها سنة فاتت عن
موضعها، والصحيح ظاهر الرواية لما روي عن عمر
رضي الله عنه أنه ترك القراءة في ركعة من صلاة
المغرب فقضاها في الركعة الثالثة وجهر. وروي
عن عثمان رضي الله عنه أنه ترك السورة في
الأوليين فقضاها في الأخريين وجهر؛ لأن
الأخريين ليستا محلا للسورة أداء فجاز أن يكون
محلا لها قضاء، ثم قال في الكتاب: وجهر ولم
يذكر أنه جهر بهما أو بالسورة خاصة، وفسره
البلخي فقال: أتى بالسورة خاصة؛ لأن القضاء
بصفة الأداء، ويجهر بالسورة أداء فكذا قضاء،
فأما الفاتحة فهي في محلها، ومن سننها الإخفاء
فيخفي بها. وعن أبي يوسف أنه يخافت بهما؛ لأنه
يفتتح القراءة بالفاتحة، والسورة تبنى عليها،
ثم السنة في الفاتحة: المخافتة، فكذا فيما
يبنى عليها، والأصح أنه يجهر بهما؛ لأن الجمع
بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة غير مشروع،
وقد وجب عليه الجهر بالسورة فيجهر بالفاتحة
أيضا، وهذا كله إذا تذكر بعد ما قيد الركعة
بالسجدة، فإن تذكر قراءة الفاتحة أو السورة في
الركوع أو بعدما رفع رأسه منه يعود إلى
القراءة، وينتقض ركوعه، بخلاف القنوت، والفرق
بينهما نذكره في صلاة الوتر. ولو ترك تكبيرات
العيد فتذكر في الركوع قضاها في الركوع، بخلاف
القنوت إذا تذكر في الركوع حيث يسقط، ونذكر
الفرق هناك أيضا. ولو ترك قراءة التشهد في
القعدة الأخيرة وقام ثم تذكر يعود ويتشهد إذا
لم يقيد الركعة بالسجدة؛ لأنه لو كان قرأ
التشهد ثم تذكر يعود ليكون خروجه من الصلاة
على الوجه المسنون فههنا أولى. وكذا إذا لم
يقم وتذكرها قبل السلام أو بعد ما سلم ساهيا،
ولو سلم وهو ذاكر لها سقطت عنه وسقط سجدتا
السهو لما مر. ولو ترك قراءة التشهد في القعدة
الأولى وقام إلى الثالثة ثم تذكر فإن استتم
قائما لا يعود؛ لأن القيام فرض وليس من الحكمة
ترك الفرض لتحصيل الواجب، وإن لم يستتم قائما
فإن كان إلى القيام أقرب لا يعود وتسقط، وإن
كان إلى القعود أقرب يعود لما ذكرنا في القعدة
الأخيرة والله أعلم.
"فصل": وأما بيان محل السجود للسهو فمحله المسنون بعد السلام عندنا، سواء
كان السهو بإدخال زيادة في الصلاة أو نقصان
فيها، وعند الشافعي قبل السلام بعد التشهد
فيهما جميعا، وقال مالك: إن كان يسجد للنقصان
فقبل السلام، وإن كان يسجد للزيادة فبعد
السلام. "احتج" الشافعي بما روى عبد الله ابن
بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم
ج / 1 ص -173-
سجد
للسهو قبل السلام، وما روي أنه سجد للسهو بعد
السلام فمحمول على التشهد كما حملتم السلام
على التشهد في قوله صلى الله عليه وسلم: وفي
كل ركعتين فسلم أي فتشهد، ويرجح ما روينا
بمعاضدة المعنى إياه من وجهين: أحدهما أن
السجدة إنما يؤتى بها جبرا للنقصان المتمكن في
الصلاة، والجابر يجب تحصيله في موضع النقص لا
في غير موضعه، والإتيان بالسجدة بعد السلام
تحصيل الجابر لا في محل النقصان، والإتيان بها
قبل السلام تحصيل الجابر في محل النقصان فكان
أولى. والثاني: أن جبر النقصان إنما يتحقق حال
قيام الأصل، وبالسلام القاطع لتحريمة الصلاة
يفوت الأصل فلا يتصور جبر النقصان بالسجود
بعده. "واحتج" مالك بما روى المغيرة بن شعبة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في مثنى من
صلاته فسجد سجدتي السهو قبل السلام، وكان سهوا
في نقصان، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا
فسجد سجدتي السهو بعد السلام، وكان سهوا في
الزيادة؛ ولأن السهو إذا كان نقصانا فالحاجة
إلى الجابر، فيؤتى به في محل النقصان على ما
قاله الشافعي، فأما إذا كان زيادة فتحصيل
السجدة قبل السلام يوجب زيادة أخرى في الصلاة،
ولا يوجب رفع شيء، فيؤخر إلى ما بعد السلام.
ولنا حديث ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لكل سهو
سجدتان بعد السلام" من غير فصل
بين الزيادة والنقصان. وروي عن عمران بن
الحصين والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص رضي
الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد
للسهو بعد السلام، وكذا روى ابن مسعود وعائشة
وأبو هريرة رضي الله عنهم، وروينا عن ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من شك في
صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتحر
أقرب ذلك إلى الصواب، وليبن عليه، وليسجد
سجدتين بعد السلام"؛ ولأن سجود
السهو أخر عن محل النقصان بالإجماع، وإنما كان
لمعنى، ذلك المعنى يقتضي التأخير عن السلام،
وهو أنه لو أداه هناك ثم سها مرة ثانية وثالثة
ورابعة يحتاج إلى أدائه في كل محل، وتكرار
سجود السهو في صلاة واحدة غير مشروع، فأخر إلى
وقت السلام احترازا عن التكرار، فينبغي أن
يؤخر أيضا عن السلام حتى أنه لو سها عن السهو
لا يلزمه أخرى فيؤدي إلى التكرار؛ ولأن إدخال
الزيادة في الصلاة يوجب نقصانا فيها، فلو أتى
بالسجود قبل السلام يؤدي إلى أن يصير الجابر
للنقصان موجبا زيادة نقص وذا غير صواب. "وأما"
الجواب عن تعلقهم بالأحاديث فهو أن رواية
الفعل متعارضة فبقي لنا رواية القول من غير
تعارض، أو ترجح ما ذكرنا لمعاضدة ما ذكرنا من
المعنى إياه، أو يوفق فيحمل ما روينا على أنه
سجد بعد السلام الأول ولا محمل له سواء فكان
محكما، وما رواه محتمل يحتمل أنه سجد قبل
السلام الأول، ويحتمل أنه سجد قبل السلام
الثاني، فكان متشابها فيصرف إلى موافقة
المحكم، وهو أنه سجد قبل السلام الأخير لا قبل
السلام الأول ردا للمحتمل إلى المحكم وما ذكر
مالك من الفصل بين الزيادة والنقصان غير سديد؛
لأنه سواء نقص أو زاد، كل ذلك كان نقصانا؛
ولأنه لو سها مرتين إحداهما بالزيادة والأخرى
بالنقصان ماذا يفعل ؟ وتكرار سجدتي السهو غير
مشروع. وقد روي أن أبا يوسف ألزم مالكا بين
يدي الخليفة بهذا الفصل فقال: أرأيت لو زاد
ونقص كيف يصنع ؟ فتحير مالك، وقد خرج الجواب
عن أحد معنى الشافعي أن الجابر يحصل في محل
الجبر لما مر أنه لا يؤتى به في محل الجبر
بالإجماع، بل يؤخر عنه لمعنى يوجب التأخير عن
السلام. وأما قوله: إن الجبر لا يتحقق إلا حال
قيام أصل الصلاة فنعم، لكن لم قلتم أن سلام من
عليه السهو قاطع لتحريمة الصلاة ؟ وقد اختلف
مشايخنا في ذلك، فعند محمد وزفر لا يقطع
التحريمة أصلا فيتحقق معنى الجبر، وعند أبي
حنيفة وأبي يوسف لا يقطعها على تقدير العود
إلى السجود أو يقطعها ثم يعود بالعود إلى
السجود فيتحقق معنى الجبر، وإذا عرف أن محله
المسنون بعد السلام فإذا فرغ من التشهد الثاني
يسلم ثم يكبر ويعود إلى سجود السهو، ثم يرفع
رأسه مكبرا، ثم يتشهد ويصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم ويأتي بالدعوات، وهو اختيار
الكرخي واختيار عامة مشايخنا بما وراء النهر،
وذكر الطحاوي أنه يأتي بالدعاء قبل السلام
وبعده وهو اختيار بعض مشايخنا، والأول أصح؛
لأن الدعاء إنما شرع بعد الفراغ من الأفعال
والأذكار الموضوعة في الصلاة، ومن عليه السهو
قد بقي عليه بعد التشهد الأول من الأفعال
والأذكار وهو سجود السهو، والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم فلم يتحقق الفراغ,
ج / 1 ص -174-
فلذلك
كان التأخير إلى التشهد الثاني أحق، ولكن
ينبغي أن لا يأتي بدعوات تشبه كلام الناس لئلا
تفسد صلاته، هذا الذي ذكرنا بيان محله
المسنون. وأما محل جوازه فنقول: جواز السجود
لا يختص بما بعد السلام، حتى لو سجد قبل
السلام يجوز ولا يعيد؛ لأنه أداء بعد الفراغ
من أركان الصلاة إلا أنه ترك سنته وهو الأداء
بعد السلام، وترك السنة لا يوجب سجود السهو،
ولأن الأداء بعد السلام سنة ولو أمرناه
بالإعادة كان تكرارا، وأنه بدعة، وترك السنة
أولى من فعل البدعة والله تعالى: أعلم.
"فصل": وأما قدر سلام السهو وصفته فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم:
تسليمة واحدة تلقاء وجهه، وهو اختيار الشيخ
الزاهد فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي وقال:
لو سلم تسليمتين تبطل التحريمة؛ لأن التسليمة
الثانية لمعنى التحية، ومعنى التحية ساقط عن
سلام السهو، فكان الاشتغال بالتسليمة الثانية
عبثا لخلوه عن الفائدة المطلوبة منه، فكان
قاطعا للتحريمة، وعامتهم على أنه يسلم
تسليمتين عن يمينه وعن يساره لقول النبي صلى
الله عليه وسلم:
" لكل سهو سجدتان بعد السلام" ذكر السلام بالألف واللام فينصرف إلى الحبس أو إلى المعهود وهما
التسليمتان.
"فصل": وأما عمل سلام السهو أنه هل يبطل التحريمة أم لا ؟ فقد اختلف فيه،
قال محمد وزفر: لا يقطع التحريمة أصلا، وعند
أبي حنيفة وأبي يوسف الأمر موقوف: إن عاد إلى
سجدتي السهو وصح عوده إليهما تبين أنه لم
يقطع، وإن لم يعد تبين أنه قطع، حتى لو ضحك
بعد ما سلم قبل أن يعود إلى سجدتي السهو لا
تنتقض طهارته عندهما. وعند محمد وزفر تنتقض،
ومن مشايخنا من قال: لا توقف في انقطاع
التحريمة بسلام السهو عند أبي حنيفة وأبي يوسف
بل تنقطع من غير توقف، وإنما التوقف عندهما في
عود التحريمة ثانيا، إن عاد إلى سجدتي تعد
وإلا فلا، وهذا أسهل لتخريج المسائل، والأول
وهو التوقف في بقاء التحريمة، وبطلانها أصح؛
لأن التحريمة تحريمة واحدة فإذا بطلت لا تعود
إلا بإعادة، ولم توجد. "وجه" قول محمد وزفر أن
الشرع أبطل عمل سلام من عليه سجدتا السهو؛ لأن
سجدتي السهو يؤتى بهما في تحريم الصلاة؛
لأنهما شرعتا لجبران النقصان، وإنما ينجبر إن
حصلتا في تحريمة الصلاة، ولهذا يسقطان إذا وجد
بعد القعود قدر التشهد ما ينافي التحريمة، ولا
يمكن تحصيلهما في تحريمة الصلاة إلا بعد بطلان
عمل هذا السلام، فصار وجوده وعدمه في هذه
الحالة بمنزلة، ولو انعدم حقيقة كانت التحريمة
باقية، فكذا إذا التحق بالعدم. ولأبي حنيفة
وأبي يوسف أن السلام جعل محللا في الشرع، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: وتحليلها، التسليم،
والتحليل ما يحصل به التحلل، ولأنه خطاب للقوم
فكان من كلام الناس، وإنه مناف للصلاة، غير أن
الشرع أبطل عمله في هذه الحالة لحاجة المصلي
إلى جبر النقصان، ولا ينجبر إلا عند وجود
الجابر في التحريمة ليلتحق الجابر بسبب بقاء
التحريمة لمحل النقصان فيجبر النقصان، فنفينا
التحريمة مع وجود المنافي لها لهذه الضرورة،
فإن اشتغل بسجدتي السهو وصح اشتغاله بهما
تحققت الضرورة إلى بقاء التحريمة فبقيت، وإن
لم يشتغل لم تتحقق الضرورة فيعمل السلام في
الإخراج عن الصلاة، وإبطال التحريمة عمله.
ويبنى على هذا الأصل ثلاث مسائل: إحداها: إذا
قهقه قبل العود إلى السجود بعد السلام تمت
صلاته وسقط عنه السهو بالإجماع، ولا تنتقض
طهارته عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو قول زفر
بناء على أصله في القهقهة: أنها في كل موضع لا
توجب فساد الصلاة لا توجب انتقاض الطهارة، كما
إذا قعد قدر التشهد الأخير قبل السلام، وعند
محمد تنتقض طهارته. والثانية إذا سلم وعليه
سجدتا السهو، فجاء رجل فاقتدى به قبل أن يعود
إلى السجود فاقتداؤه موقوف عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، فإن عاد إلى السجود صح وإلا فلا، وعند
محمد وزفر صح اقتداؤه به عاد أو لم يعد، وقال
بشر: لا يصح اقتداؤه به عاد أو لم يعد، فكأنه
جعل السلام قاطعا للتحريمة جزما. والثالثة:
المسافر إذا سلم على رأس الركعتين في ذوات
الأربع وعليه سهو فنوى الإقامة قبل أن يعود
إليه لا ينقلب فرضه أربعا ويسقط عنه السهو عند
أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد وزفر ينقلب
فرضه أربعا وعليه سجدتا السهو لكنه يؤخرهما
إلى آخر الصلاة، وأجمعوا على أنه لو عاد إلى
سجود السهو ثم اقتدى به رجل يصح اقتداؤه به،
إلا عند بشر. وكذلك لو قهقه في هذه الحالة
تنتقض طهارته إلا عند زفر. وكذلك لو نوى
الإقامة في هذه
ج / 1 ص -175-
الحالة
ينقلب فرضه أربعا ويؤخر سجود السهو إلى آخر
الصلاة، سواء نوى الإقامة بعد ما سجد سجدة
واحدة أو سجدتين، ثم لا يفترق الحال في سجود
السهو سيما إذا سلم وهو ذاكر له، أو ساه عنه
ومن نيته أن يسجد له أو لا يسجد حتى لا يسقط
عنه في الأحوال كلها؛ لأن محله بعد السلام إلا
إذا فعل فعلا يمنعه من البناء بأن تكلم أو
قهقه أو أحدث متعمدا أو خرج عن المسجد أو صرف
وجهه عن القبلة وهو ذاكر له؛ لأنه فات محله
وهو تحريمة الصلاة، فيسقط ضرورة فوات محله،
وكذا إذا طلعت الشمس بعد السلام في صلاة الفجر
أو احمرت في صلاة العصر سقط عنه السهو؛ لأن
السجدة جبر للنقص المتمكن فيجري مجرى القضاء،
وقد وجبت كاملة فلا يقضى الناقص.
"فصل": وأما بيان من يجب عليه سجود السهو ومن لا يجب عليه فسجود السهو،
يجب على الإمام وعلى المنفرد مقصودا لتحقق سبب
الوجوب منهما وهو السهو، فأما المقتدي إذا سها
في صلاته فلا سهو عليه؛ لأنه لا يمكنه السجود؛
لأنه إن سجد قبل السلام كان مخالفا للإمام،
وإن أخره إلى ما بعد سلام الإمام يخرج من
الصلاة بسلام الإمام؛ لأنه سلام عمد ممن لا
سهو عليه، فكان سهوه فيما يرجع إلى السجود
ملحقا بالعدم لتعذر السجود عليه، فسقط السجود
عنه أصلا، وكذلك اللاحق وهو المدرك لأول صلاة
الإمام إذا فاته بعضها بعد الشروع بسبب النوم
أو الحدث السابق، بأن نام خلف الإمام ثم انتبه
وقد سبقه الإمام بركعة أو فرغ من صلاته، أو
سبقه الحدث فذهب وتوضأ وقد سبقه الإمام بشيء
من صلاته أو فرغ عنها فاشتغل بقضاء ما سبق به
فسها فيه لا سهو عليه؛ لأنه في حكم المصلي خلف
الإمام، ألا ترى أنه لا قراءة عليه. وأما
المسبوق إذا سها فيما يقضي وجب عليه السهو؛
لأنه فيما يقضي بمنزلة المنفرد، ألا ترى أنه
يفترض عليه القراءة ؟. وأما المقيم إذا اقتدى
بالمسافر ثم قام إلى إتمام صلاته وسها هل
يلزمه سجود السهو ؟ ذكر في الأصل وقال: إنه
يتابع الإمام في سجود السهو وإذا سها فيما يتم
فعليه سجود السهو أيضا، وذكر الكرخي في مختصره
أنه كاللاحق لا يتابع الإمام في سجود السهو
وإذا سها فيما يتم لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه
مدرك لأول الصلاة فكان في حكم المقتدي فيما
يؤديه بتلك التحريمة كاللاحق، ولهذا لا يقرأ
كاللاحق، والصحيح ما ذكر في الأصل؛ لأنه ما
اقتدى بإمامه إلا بقدر صلاة الإمام، فإذا
انقضت صلاة الإمام صار منفردا فيما وراء ذلك،
وإنما لا يقرأ فيما يتم؛ لأن القراءة فرض في
الأوليين، وقد قرأ الإمام فيهما فكانت قراءة
له، وسهو الإمام يوجب السجود عليه وعلى
المقتدي؛ لأن متابعة الإمام واجبة، قال النبي
صلى الله عليه وسلم: " تابع إمامك على أي حال
وجدته" ولأن المقتدي تابع للإمام، والحكم في
التبع ثبت بوجود السبب في الأصل فكان سهو
الإمام سببا لوجوب السهو عليه وعلى المقتدي،
ولهذا لو سقط عن الإمام بسبب من الأسباب بأن
تكلم أو أحدث متعمدا أو خرج من المسجد يسقط عن
المقتدي، وكذلك اللاحق يسجد لسهو الإمام إذا
سها في حال نوم اللاحق، أو ذهابه إلى الوضوء؛
لأنه في حكم المصلي خلفه، ولكن لا يتابع
الإمام في سجود السهو إذا انتبه في حال اشتغال
الإمام بسجود السهو، أو جاء إليه من الوضوء في
هذه الحالة، بل يبدأ بقضاء ما فاته ثم يسجد في
آخر صلاته، بخلاف المسبوق أو المقيم خلف
المسافر حيث تابع الإمام في سجود السهو ثم
يشتغل بالإتمام. "والفرق" أن اللاحق التزم
متابعة الإمام فيما اقتدى به على نحو ما فصل
الإمام، وأنه اقتدى به في حق جميع الصلاة
فيتابعه في جميعها على نحو ما يؤدي الإمام،
والإمام أدى الأول فالأول وسجد لسهوه في آخر
صلاته فكذا هو، فأما المسبوق فقد التزم
بالاقتداء به متابعته بقدر ما هو صلاة الإمام
وقد أدرك هذا القدر فيتابعه فيه ثم ينفرد،
وكذا المقيم المقتدي بالمسافر. ولو سجد اللاحق
مع الإمام للسهو تابعه فيه لم يجزه؛ لأنه سجد
قبل أوانه في حقه فلم يقع معتدا به، فعليه أن
يعيد إذا فرغ من قضاء ما عليه، ولكن لا تفسد
صلاته؛ لأنه ما زاد إلا سجدتين بخلاف المسبوق
إذا تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه لم
يكن على الإمام سهو حيث تفسد صلاة المسبوق إذا
تابع الإمام وما زاد إلا سجدتين؛ لأن من
الفقهاء من قال: لا تفسد صلاة المسبوق على ما
نذكره، ثم الفرق أن فساد الصلاة هناك ليس
لزيادة السجدتين بل للاقتداء في موضع كان عليه
الانفراد في ذلك الموضع، ولم يوجد ههنا؛ لأن
اللاحق مقتد في جميع ما يؤدي، فلهذا لم تفسد
صلاته، وكذلك المسبوق يسجد
ج / 1 ص -176-
لسهو
الإمام سواء كان سهوه بعد الاقتداء به أو قبله
بأن كان مسبوقا بركعة وقد سها الإمام فيها وعن
إبراهيم النخعي أنه لا يسجد لسهوه أصلا؛ لأن
محل السهو بعد السلام وأنه لا يتابعه في
السلام، فلا يتصور المتابعة في السهو. "ولنا"
أن سجود السهو يؤدى في تحريمة الصلاة فكانت
الصلاة باقية، وإذا بقيت الصلاة بقيت التبعية
فيتابعه فيما يؤدي من الأفعال، بخلاف التكبير،
والتلبية حتى لا يلبي المسبوق، ولا يكبر مع
الإمام في أيام التشريق؛ لأن التكبير والتلبية
لا يؤديان في تحريمة الصلاة، ألا ترى أنه لو
ضحك قهقهة في تلك الحالة لا تنتقض طهارته. ولو
اقتدى به إنسان لا يصح ؟ بخلاف سجدتي السهو
فإنهما يؤديان في تحريمة الصلاة بخلاف انتقاض
الطهارة بالقهقهة، وصح الاقتداء به في تلك
الحالة. "فإن" قيل: ينبغي أن لا يسجد المسبوق
مع الإمام؛ لأنه ربما يسهو فيما يقضي فيلزمه
السجود أيضا فيؤدي إلى التكرار، وإنه غير
مشروع؛ ولأنه لو تابعه في السجود يقع سجوده في
وسط الصلاة وذا غير صواب "فالجواب" أن التكرار
في صلاة واحدة غير مشروع، وهما صلاتان حكما
وإن كانت التحريمة واحدة؛ لأن المسبوق فيما
يقضي كالمنفرد، ونظيره المقيم إذا اقتدى
بالمسافر فسها الإمام يتابعه المقيم في السهو،
وإن كان المقتدي ربما يسهو في إتمام صلاته،
وعلى تقدير السهو يسجد في أصح الروايتين على
ما مر، لكن لما كان منفردا في ذلك كانا صلاتين
حكما وإن كانت التحريمة واحدة كذا ههنا، ثم
المسبوق إنما يتابع الإمام في السهو دون
السلام، بل ينتظر الإمام حتى يسلم فيسجد
فيتابعه في سجود السهو لا في سلامه. وإن سلم
فإن كان عامدا تفسد صلاته، وإن كان ساهيا لا
تفسد، ولا سهو عليه؛ لأنه مقتد، وسهو المقتدي
باطل، فإذا سجد الإمام للسهو يتابعه في السجود
ويتابعه في التشهد، ولا يسلم إذا سلم الإمام؛
لأن هذا السلام للخروج عن الصلاة وقد بقي عليه
أركان الصلاة فإذا سلم مع الإمام فإن كان
ذاكرا لما عليه من القضاء فسدت صلاته؛ لأنه
سلام عمد، وإن لم يكن ذاكرا له لا تفسد؛ لأنه
سلام سهو فلم يخرجه عن الصلاة. وهل يلزمه سجود
السهو لأجل سلامه ؟ ينظر إن سلم قبل تسليم
الإمام أو سلما معا لا يلزمه؛ لأن سهوه سهو
المقتدي، وسهو المقتدي متعطل، وإن سلم بعد
تسليم الإمام لزمه؛ لأن سهوه سهو المنفرد
فيقضي ما فاته ثم يسجد للسهو في آخر صلاته.
ولو سها الإمام في صلاة الخوف سجد للسهو
وتابعه فيهما الطائفة الثانية. وأما الطائفة
الأولى فإنما يسجدون بعد الفراغ من الإتمام؛
لأن الطائفة الثانية بمنزلة المسبوقين، إذ لم
يدركوا مع الإمام أول الصلاة، والطائفة الأولى
بمنزلة اللاحقين لإدراكهم أول صلاة الإمام.
ولو قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به ولم يتابع
الإمام في السهو سجد في آخر صلاته استحسانا،
والقياس أن يسقط؛ لأنه منفرد فيما يقضى، وصلاة
المنفرد غير صلاة المقتدي فصار كمن لزمته
السجدة في صلاة فلم يسجد حتى خرج منها ودخل في
صلاة أخرى، لا يسجد في الثانية بل يسقط كذا
هذا. وجه الاستحسان: أن التحريمة متحدة، فإن
المسبوق يبني ما يقضى على تلك التحريمة، فجعل
الكل كأنها صلاة واحدة لاتحاد التحريمة، وإذا
كان الكل صلاة واحدة وقد تمكن فيها النقصان
بسهو الإمام، ولم يجبر ذلك بالسجدتين فوجب
جبره، وقد خرج الجواب عن وجه القياس أنه منفرد
في القضاء؛ لأنا نقول: نعم في الأفعال، أما هو
مقتد في التحريمة، ألا ترى أنه لا يصح اقتداء
غيره ؟ فجعل كأنه خلف الإمام في حق التحريمة.
ولو سها فيما يقضي ولم يسجد لسهو الإمام كفاه
سجدتان لسهوه ولما عليه من قبل الإمام؛ لأن
تكرار السهو في صلاة واحدة غير مشروع ولو سجد
لسهو الإمام ثم سها فيما يقضي فعليه السهو لما
مر أن ذلك إذا سهوان في صلاتين حكما، فلم يكن
تكرارا. ولو أدرك الإمام بعد ما سلم للسهو
فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: أما إن أدركه قبل
السجود، أو في حال السجود، أو بعد ما فرغ من
السجود فإن أدركه قبل السجود أو في حال السجود
يتابعه في السجود؛ لأنه بالاقتداء التزم
متابعة الإمام فيما أدرك من صلاته، وسجود
السهو من أفعال صلاة الإمام فيتابعه فيه، وليس
عليه قضاء السجدة الأولى إذا أدركه في
الثانية؛ لأن المسبوق لم يوجد منه السهو.
وإنما يجب عليه السجود لسهو الإمام لتمكن
النقص في تحريمة الإمام، وحين دخل في صلاة
الإمام كان النقصان بقدر ما يرتفع بسجدة
واحدة، وهو قد أتى بسجدة واحدة فانجبر النقص
فلا يجب عليه شيء آخر، بخلاف ما إذا اقتدى به
قبل أن يسجد شيئا، ثم لم يتابع إمامه وقام
وأتم صلاته حيث يسجد السجدتين استحسانا؛ لأن
ج / 1 ص -177-
هناك
اقتدى بالإمام وتحريمته ناقصة نقصانا لا ينجبر
إلا بسجدتين، وبقي النقصان لانعدام الجابر
فيأتي به في آخر الصلاة لاتحاد التحريمة على
ما مر. وإن أدركه بعد ما فرغ من السجود صح
اقتداؤه به، وليس عليه السهو بعد فراغه من
صلاة نفسه لما ذكرنا أن وجوب السجود على
المسبوق بسبب سهو الإمام لتمكن النقص في
تحريمة الإمام، وحين دخل في صلاة الإمام كان
النقص انجبر بالسجدتين، ولا يعقل وجود الجابر
من غير نقص والله أعلم.
ومن سلم وعليه سهو فسبقه الحدث فهذا لا يخلو:
إما إن كان منفردا أو إماما فإن كان منفردا
توضأ وسجد؛ لأن الحدث السابق لا يقطع التحريمة
ولا يمنع بناء بعض الصلاة على البعض؛ فلأن لا
يمنع بناء سجدتي السهو أولى وإن كان إماما
استخلف؛ لأنه عجز عن سجدتي السهو، فيقدم
الخليفة ليسجد كما لو بقي عليه ركن أو
التسليم، ثم لا ينبغي أن يقدم المسبوق ولا
للمسبوق أن يتقدم؛ لأن غيره أقدر على إتمام
صلاة الإمام، بل يقدم رجلا أدرك أول صلاة
الإمام فيسلم بهم ويسجد سجدتي السهو، ولكن مع
هذا لو قدمه أو تقدم جاز؛ لأنه قادر على إتمام
الصلاة في الجملة، ولا يأتي بسجدتي السهو؛ لأن
أوان السجود بعد التسليم وهو عاجز عن التسليم؛
لأن عليه البناء، فلو سلم لفسدت صلاته؛ لأنه
سلام عمد وعليه ركن، وحينئذ يتعذر عليه البناء
فيتأخر ويقيم مدركا ليسلم بهم. ويسجد سجدتي
السهو، ويسجد هو معهم كما لو كان الإمام هو
الذي يسجد لسهوه، ثم يقوم إلى قضاء ما سبق به
وحده، وإن لم يسجد مع خليفته سجد في آخر صلاته
استحسانا على ما ذكرنا في حق الإمام الأول،
فإن لم يجد الإمام المسبوق مدركا، وكان الكل
مسبوقين، قاموا وقضوا ما سبقوا به فرادى؛ لأن
تحريمة المسبوق انعقدت للأداء على الانفراد،
ثم إذا فرغوا لا يسجدون في القياس، وفي
الاستحسان يسجدون، وقد بينا وجه القياس
والاستحسان. ولو قام المسبوق إلى قضاء ما سبق
به بعد ما سلم الإمام، ثم تذكر الإمام أن عليه
سجود السهو فسجدهما يعود إلى صلاة الإمام ولا
يقتدي ولا يعتد بما قرأ وركع. "والجملة" في
المسبوق إذا قام إلى قضاء ما عليه فقضاه أنه
لا يخلو ما قام إليه وقضاه: إما أن يكون قبل
أن يقعد الإمام قدر التشهد، أو بعدما قعد قدر
التشهد فإن كان ما قام إليه وقضاه قبل أن يقعد
الإمام قدر التشهد لم يجزه؛ لأن الإمام ما بقي
عليه فرض لم ينفرد المسبوق به عنه؛ لأنه التزم
متابعته فيما بقي عليه من الصلاة، وهو قد بقي
عليه فرض وهو القعدة، فلم ينفرد فبقي مقتديا،
وقراءة المقتدي خلف الإمام لا تعتبر قراءة من
صلاته وإنما تعتبر من قيامه، وقراءته ما كان
بعد ذلك، فإن كان مسبوقا بركعة أو ركعتين فوجد
بعد ما قعد الإمام قدر التشهد قيام وقراءة قدر
ما تجوز به الصلاة جازت صلاته؛ لأنه لما قعد
الإمام قدر التشهد فقد انفرد لانقطاع التبعية
بانقضاء أركان صلاة الإمام، فقد أتى بما فرض
عليه من القيام والقراءة في أوانه فكان معتدا
به، وإن لم يوجد مقدار ذلك أو وجد القيام دون
القراءة لا تجوز صلاته لانعدام ما فرض عليه في
أوانه. وإن كان مسبوقا بثلاث ركعات فإن لم
يركع حتى فرغ الإمام من التشهد، ثم ركع وقرأ
في الركعتين بعد هذه الركعة جازت صلاته؛ لأن
القيام فرض في كل ركعة، وفرض القراءة في
الركعتين، ولا يعتد بقيامه ما لم يفرغ الإمام
من التشهد، فإذا فرغ الإمام من التشهد قبل أن
يركع هو فقد وجد القيام وإن قل في هذه الركعة،
ووجدت القراءة في الركعتين بعد هذه الركعة،
فقد أتى بما فرض عليه فتجوز صلاته. وإن كان
ركع قبل فراغ الإمام من التشهد أنجز صلاته؛
لأنه لم يوجد قيام معتد به في هذه الركعة؛ لأن
ذلك هو القيام بعد تشهد الإمام، ولم يوجد
فلهذا فسدت صلاته. وأما إذا قام المسبوق إلى
قضاء ما عليه بعد فراغ الإمام من التشهد قبل
السلام فقضاه أجزأه وهو مسيء أما الجواز فلأن
قيامه حصل بعد فراغ الإمام من أركان الصلاة.
وأما الإساءة فلتركه انتظار سلام الإمام؛ لأن
أوان قيامه للقضاء بعد خروج الإمام من الصلاة،
فينبغي أن يؤخر القيام عن السلام. ولو قام
بعدما سلم ثم تذكر الإمام سجدتي السهو فخر
لهما فهذا على وجهين: أما إن كان المسبوق قيد
ركعته بالسجدة أو لم يقيد فإن لم يقيد ركعته
بالسجدة رفض ذلك ويسجد مع الإمام؛ لأن ما أتى
به ليس بفعل كامل، وكان محتملا للرفض، ويكون
تركه قبل التمام منعا له عن الثبوت حقيقة،
فجعل كأن لم يوجد، فيعود ويتابع إمامه؛ لأن
متابعة الإمام في الواجبات واجبة، وبطل ما أتى
به من القيام والقراءة والركوع لما بينا فإن
لم يعد إلى متابعة الإمام ومضى على قضائه جازت
صلاته؛ لأن عود
ج / 1 ص -178-
الإمام
إلى سجود السهو لا يرفع التشهد، والباقي على
الإمام سجود السهو وهو واجب، والمتابعة في
الواجب واجبة، فترك الواجب لا يوجب فساد
الصلاة، ألا ترى لو تركه الإمام لا تفسد صلاته
؟ فكذا المسبوق، ويسجد سجدتي السهو بعد الفراغ
من قضائه استحسانا. وإن كان المسبوق قيد ركعته
بالسجدة لا يعود إلى متابعة الإمام؛ لأن
الانفراد قد تم وليس على الإمام ركن ولو عاد
فسدت صلاته؛ لأنه اقتدى بغيره بعد وجود
الانفراد ووجوبه فتفسد صلاته. ولو ذكر الإمام
سجدة تلاوة فسجدها فإن كان المسبوق لم يقيد
ركعته بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة
الإمام لما مر فيسجد معه للتلاوة ويسجد للسهو
ثم يسلم الإمام ويقوم المسبوق إلى قضاء ما
عليه، ولا يعتد بما أتى به من قبل لما مر، ولو
لم يعد فسدت صلاته؛ لأن عود الإمام إلى سجدة
التلاوة يرفض القعدة في حق الإمام، وهو بعد لم
يصر منفردا؛ لأن ما أتى به دون فعل صلاة
فترتفض القعدة في حقه أيضا، فإذا ارتفضت في
حقه لا يجوز له الانفراد؛ لأن هذا أوان وجوب
المتابعة، والانفراد في هذه الحالة مفسد
للصلاة. وإن كان قد قيد ركعته بالسجدة فإن عاد
إلى متابعة الإمام فسدت صلاته، رواية واحدة،
وإن لم يعد ومضى عليها ففيه روايتان: ذكر في
الأصل أن صلاته فاسدة، وذكر في نوادر أبي
سليمان أنه لا تفسد صلاته، "وجه" رواية الأصل
أن العود إلى سجدة التلاوة يرفض القعدة فتبين
أن المسبوق انفرد قبل أن يقعد الإمام،
والانفراد في موضع يجب فيه الاقتداء مفسد
للصلاة. "وجه" نوادر أبي سليمان أن ارتفاض
القعدة في حق الإمام لا يظهر في حق المسبوق؛
لأن ذلك بالعود إلى التلاوة، والعود حصل بعدما
تم انفراده عن الإمام، وخرج عن متابعته فلا
يتعدى حكمه إليه، ألا ترى أن جميع الصلاة لو
ارتفضت بعد انقطاع المتابعة لا يظهر في حق
المؤتم، بأن ارتد الإمام بعد الفراغ من الصلاة
والعياذ بالله بطلت صلاته ولا تبطل صلاة
القوم، ففي حق القعدة أولى، ولذا لو صلى الظهر
بقوم يوم الجمعة ثم راح إلى الجمعة فأدركها
ارتفض ظهره، ولم يظهر الرفض في حق القوم،
بخلاف ما إذا لم يقيد ركعته بالسجدة؛ لأن هناك
الانفراد لم يتم على ما قررنا "ونظير" هذه
المسألة: مقيم اقتدى بمسافر وقام إلى إتمام
صلاته بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم، ثم نوى
الإمام الإقامة حتى تحول فرضه أربعا فإن لم
يقيد ركعته بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة
الإمام، وإن لم يعد فسدت صلاته، وإن كان قيد
ركعته بالسجدة فإن عاد فسدت صلاته، وإن لم يعد
ومضى عليها وأتم صلاته لا تفسد. ولو ذكر
الإمام أن عليه سجدة صلبية فإن كان المسبوق لم
يقيد ركعته بالسجدة لا شك أنه يجب عليه العود
ولو لم يعد فسدت صلاته لما مر في سجدة
التلاوة، وإن قيد ركعته بالسجدة فصلاته فاسدة
عاد إلى المتابعة أو لم يعد في الروايات كلها؛
لأنه انتقل عن صلاة الإمام، وعلى الإمام
ركنان: السجدة، والقعدة، وهو عاجز عن متابعته
بعد إكمال الركعة، ولو انتقل وعليه ركن واحد
وعجز عن متابعته تفسد صلاته فههنا أولى.
رجل" صلى الظهر خمسا ثم تذكر فهذا لا يخلو أما
إن قعد في الرابعة قدر التشهد أو لم يقعد، وكل
وجه على وجهين: إما أن قيد الخامسة بالسجدة أو
لم يقيد فإن قعد في الرابعة قدر التشهد وقام
إلى الخامسة فإن لم يقيدها بالسجدة حتى تذكر
يعود إلى القعدة ويتمها ويسلم لما مر. وإن
قيدها بالسجدة لا يعود عندنا خلافا للشافعي
على ما مر ثم عندنا إذا كان ذلك في الظهر أو
في العشاء فالأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى
ليصيرا له نفلا، إذ التنفل بعدهما جائز، وما
دون الركعتين لا يكون صلاة تامة، كما قال ابن
مسعود: والله ما أجزأت ركعة قط. وإن كان في
العصر لا يضيف إليها ركعة أخرى بل يقطع؛ لأن
التنفل بعد العصر غير مشروع، وروى هشام عن
محمد أنه يضيف إليها أخرى أيضا؛ لأن التنفل
بعد العصر إنما يكره إذا شرع فيه قصدا، فأما
إذا وقع فيه بغير قصده فلا يكره، وإن لم يضف
إليها ركعة أخرى في الظهر بل قطعها لا قضاء
عليه عندنا، وعند زفر يقضي ركعتين. وهي مسألة
الشروع في الصلاة المظنونة والصوم المظنون؛
لأن الشروع ههنا في الخامسة على ظن أنها عليه،
وإن أضاف إليها أخرى في الظهر هل تجزئ هاتان
الركعتان عن السنة التي بعد الظهر ؟ قال
بعضهم: يجزيان؛ لأن السنة بعد الظهر ليست إلا
ركعتين يؤديان نفلا وقد وجد، والصحيح أنهما لا
يجزيان عنها؛ لأن السنة أن يتنفل بركعتين
بتحريمة على حدة لا بناء على تحريمة غيرها،
فلم يوجد هيئة السنة فلا تنوب عنها، وبه كان
يفتي الشيخ أبو عبد الله الجراجري ثم إذا أضاف
إليها ركعة
ج / 1 ص -179-
أخرى
فعليه السهو استحسانا، والقياس أن لا سهو
عليه؛ لأن السهو تمكن في الفرض وقد أدى بعدها
صلاة أخرى. "وجه" الاستحسان أنه إنما بنى
النفل على تلك التحريمة وقد تمكن فيها النقص
بالسهو فيجبر بالسجدتين على ما ذكرنا في
المسبوق. "ثم" اختلف أصحابنا أن هاتين
السجدتين للنقص المتمكن في الفرض أو للنقص
المتمكن في النفل، فعند أبي يوسف للنقص
المتمكن في النفل لدخوله فيه لا على وجه
السنة، وعند محمد للنقص الذي تمكن في الفرض
فالحاصل أن عند أبي يوسف انقطعت تحريمة الفرض
بالانتقال إلى النفل، فلا وجه إلى جبر نقصان
الفرض بعد الخروج منه وانقطاع تحريمته، وعند
محمد التحريمة باقية؛ لأنها اشتملت على أصل
الصلاة ووصفها، وبالانتقال إلى النفل انقطع
الوصف لا غير فبقيت التحريمة، ألا ترى أن بناء
النفل على تحريمة الفرض جائز في حق الاقتداء
حتى جاز اقتداء المتنفل بالمفترض ؟ فكذا بناء
فعل نفسه على تحريمة فرضه يكون جائزا، والأصل
في البناء هو البناء في إحرام واحد. وفائدة
هذا الخلاف أنه لو جاء إنسان واقتدى به في
هاتين الركعتين يصلي ركعتين عند أبي يوسف ولو
أفسده يلزمه قضاء ركعتين، وإن كان الإمام لو
أفسده لا قضاء عليه عند أصحابنا الثلاثة، ومن
هذا صحح مشايخ بلخ اقتداء البالغين بالصبيان
في التطوعات فقالوا: يجوز أن تكون الصلاة
مضمونة في حق المقتدي وإن لم تكن مضمونة في حق
الإمام، استدلالا بهذه المسألة، ومشايخنا بما
وراء النهر لم يجوزوا ذلك، وعند محمد يصلي ستا
ولو أفسدها لا يجب عليه القضاء كما لا يجب على
الإمام، وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي أن
الأصح أن تجعل السجدتان جبرا للنقص المتمكن في
الإحرام، وهو إحرام واحد، فينجبر بهما النقص
المتمكن في الفرض والنفل جميعا، وإليه ذهب
الشيخ أبو بكر بن أبي سعيد، هذا الذي ذكرنا
إذا قعد في الرابعة قدر التشهد فأما إذا لم
يقعد وقام إلى الخامسة فإن لم يقيدها بالسجدة
يعود لما مر، وإن قيد فسد فرضه، وعند الشافعي
لا يفسد، ويعود إلى القعدة ويخرج عن الفرض
بلفظ السلام بعد ذلك، وصلاته تامة بناء على
أصله الذي ذكرنا أن الركعة الكاملة في احتمال
النقص وما دونها سواء، فكان كما لو تذكر قبل
أن يقيد الخامسة بسجدة وروي أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى الظهر خمسا ولم ينقل أنه كان
قعد في الرابعة ولا أنه أعاد صلاته. "ولنا" ما
ذكرنا أنه وجد فعل كامل من أفعال الصلاة، وقد
انعقد نفلا فصار خارجا من الفرض ضرورة حصوله
في النفل لاستحالة كونه فيهما، وقد بقي عليه
فرض وهو القعدة الأخيرة، والخروج عن الصلاة مع
بقاء فرض من فرائضها يوجب فساد الصلاة. وأما
الحديث فتأويله أنه كان قعد في الرابعة، ألا
ترى أن الراوي قال: صلى الظهر والظهر اسم
لجميع أركانها، ومنها القعدة وهذا هو الظاهر
أنه قام إلى الخامسة على تقدير أن هذه القعدة
الأولى؛ لأن هذا أقرب إلى الصواب فيحمل فعله
عليه. والله أعلم ثم الفساد عند أبي يوسف بوضع
رأسه بالسجدة، وعند محمد برفع رأسه عنها، حتى
لو سبقه الحدث في هذه الحالة لا تفسد صلاته
عند محمد، وعليه أن ينصرف، ويتوضأ، ويعود،
ويتشهد، ويسلم، ويسجد سجدتي السهو؛ لأن السجدة
لا تصح مع الحدث فكأنه لم يسجد، وعند أبي
حنيفة وأبي يوسف فسدت صلاته بنفس الوضع فلا
يعود، ثم الذي يفسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف
الفرضية لا أصل الصلاة، حتى كان الأولى أن
يضيف إليها ركعة أخرى فتصير الست له نفلا، ثم
يسلم ثم يستقبل الظهر. وعند محمد يفسد أصل
الصلاة بناء على أن أصل الفرضية متى بطلت بطلت
التحريمة عنده، وعندهما لا تبطل، وهذا الخلاف
غير منصوص عليه وإنما استخرج من مسألة ذكرها
في الأصل في باب الجمعة، وهو أن مصلي الجمعة
إذا خرج وقتها وهو وقت الظهر قبل إتمام الجمعة
ثم قهقه تنتقض طهارته عندهما، وعنده لا تنتقض،
وهذا يدل على أنه بقي نفلا عندهما خلافا له،
وكذا ترك القعدة في كل شفع من التطوع عنده
مفسد، وعندهما غير مفسد، وهذه مسألة عظيمة لها
شعب كثيرة أعرضنا عن ذكر تفاصيلها وجملها
ومعاني الفصول وعللها حالة إلى الجامع الصغير،
وإنما أفردنا هذه المسألة بالذكر وإن كان بعض
فروعها دخل في بعض ما ذكرنا من الأقسام، لما
أن لها فروعا أخر لا تناسب مسائل الفصل،
وكرهنا قطع الفرع عن الأصل، فرأينا الصواب في
إيرادها بفروعها في آخر الفصل تتميما للفائدة
والله الموفق.
فصل" وأما سجدة التلاوة
فالكلام فيها يقع في مواضع: في بيان وجوبها،
وفي بيان كيفية الوجوب، وفي بيان سبب
ج / 1 ص -180-
الوجوب، وفي بيان من تجب عليه ومن لا تجب
ويتضمن بيان شرائط الوجوب، وفي بيان شرائط
جوازها، وفي بيان محل أدائها، وفي بيان كيفية
أدائها، وفي بيان سببها، وفي بيان مواضعها من
القرآن. أما الأول فقد قال أصحابنا: "إنها
واجبة، وقال الشافعي: "إنها مستحبة وليست
بواجبة" واحتج بحديث الأعرابي حين علمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم الشرائع، فقال: "هل
علي غيرهن" ؟ قال:"لا إلا أن تطوع" فلو كانت سجدة التلاوة واجبة لما احتمل ترك البيان بعد السؤال، وعن
عمر رضي الله عنه أنه تلا آية السجدة على
المنبر وسجد ثم تلاها في الجمعة الثانية فتشوف
الناس للسجود فقال:
"أما إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء".
"ولنا" ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تلا ابن
آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي
ويقول: "أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة
وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار"،
والأصل أن الحكيم متى حكى عن غير الحكيم أمرا
ولم يعقبه بالنكير يدل ذلك على أنه صواب فكان
في الحديث دليل على كون ابن آدم مأمورا
بالسجود ومطلق الأمر للوجوب ولأن الله تعالى:
ذم أقواما بترك السجود فقال:{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}
وإنما يستحق الذم بترك الواجب ولأن مواضع السجود في القرآن منقسمة
منها ما هو أمر بالسجود وإلزام للوجوب كما في
آخر سورة القلم، ومنها ما هو إخبار عن استكبار
الكفرة عن السجود فيجب علينا مخالفتهم
بتحصيله، ومنها ما هو إخبار عن خشوع المطيعين
فيجب علينا متابعتهم لقوله تعالى:
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وعن عثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وعبد الله
بن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا: "السجدة على
من تلاها، وعلى من سمعها، وعلى من جلس لها"
على اختلاف ألفاظهم وعلى كلمة إيجاب. وأما
حديث الأعرابي ففيه بيان الواجب ابتداء لا ما
يجب بسبب يوجد من العبد ألا ترى أنه لم يذكر
المنذور وهو واجب وأما قول عمر رضي الله عنه
فنقول بموجبه: إنها لم تكتب علينا بل أوجبت،
وفرق بين الفرض والواجب على ما عرف في موضعه.
فصل": وأما بيان كيفية وجوبها فأما خارج الصلاة فإنها تجب على سبيل
التراخي دون الفور عند عامة أهل الأصول؛ لأن
دلائل الوجوب مطلقة عن تعيين الوقت فتجب في
جزء من الوقت غير عين ويتعين ذلك بتعيينه
فعلا، وإنما يتضيق عليه الوجوب في آخر عمره
كما في سائر الواجبات الموسعة. "وأما" في
الصلاة فإنها تجب على سبيل التضييق لقيام دليل
التضييق وهو أنها وجبت بما هو من أفعال الصلاة
وهو القراءة فالتحقت بأفعال الصلاة وصارت جزءا
من أجزائها ولهذا يجب أداؤها في الصلاة ولا
يوجب حصولها في الصلاة نقصانا فيها، وتحصيل ما
ليس من الصلاة في الصلاة إن لم يوجب فسادها
يوجب نقصانا، وإذا التحقت بأفعال الصلاة وجب
أداؤها مضيقا كسائر أفعال الصلاة بخلاف خارج
الصلاة؛ لأن هناك لا دليل على التضييق ولهذا
قلنا إذا تلا آية السجدة فلم يسجد ولم يركع
حتى طالت القراءة ثم ركع ونوى السجود لم يجزه.
وكذا إذا نواها في السجدة الصلبية؛ لأنها صارت
دينا والدين يقضى بما له لا بما عليه والركوع
والسجود عليه فلا يتأدى به الدين على ما نذكر
ولهذا قلنا: إنه لا يجوز التيمم للتلاوة في
المصر؛ لأن عدم الماء في المصر لا يتحقق عادة
والجواز بالتيمم مع وجود الماء لن يكون إلا
لخوف الفوت أصلا كما في صلاة الجنازة والعيد
ولا خوف ههنا لانعدام وقت معين لها خارج
الصلاة فلم يتحقق التيمم طهارة والطهارة شرط
لأدائها بالإجماع.
فصل": وأما سبب وجوب السجدة فسبب وجوبها أحد شيئين: التلاوة، أو السماع
كل واحد منهما على حاله موجب فيجب على التالي
الأصم والسامع الذي لم يتل. أما التلاوة فلا
يشكل وكذا السماع لما بينا أن الله تعالى:
ألحق اللائمة بالكفار لتركهم السجود إذا قرئ
عليهم القرآن بقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ
لا يَسْجُدُونَ}،
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا
خَرُّوا سُجَّداً}
الآية، من غير فصل في الآيتين بين التالي
والسامع، وروينا عن كبار الصحابة رضي الله
عنهم السجدة على من سمعها ولأن حجة الله تعالى
تلزمه بالسماع كما تلزمه بالتلاوة فيجب أن
يخضع لحجة الله تعالى بالسماع كما يخضع
بالقراءة. ويستوي الجواب في حق التالي
ج / 1 ص -181-
بين ما إذا تلا السجدة بالعربية أو
بالفارسية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
حتى قال أبو حنيفة: يلزمه السجود في الحالين.
وأما في حق السامع فإن سمعها ممن يقرأ
بالعربية فقالوا: يلزمه بالإجماع فهم أو لم
يفهم؛ لأن السبب قد وجد فيثبت حكمه ولا يقف
على العلم اعتبارا بسائر الأسباب، وإن سمعها
ممن يقرأ بالفارسية فكذلك عند أبي حنيفة بناء
على أصله أن القراءة بالفارسية جائزة، وقال
أبو يوسف في الأمالي: "إن كان السامع يعلم أنه
يقرأ القرآن فعليه السجدة وإلا فلا" وهذا ليس
بسديد؛ لأنه إن جعل الفارسية قرآنا ينبغي أن
يجب سواء فهم أو لم يفهم كما لو سمعها ممن
يقرأ بالعربية، وإن لم يجعله قرآنا ينبغي أن
لا يجب وإن فهم.
اجتمع سببا الوجوب وهما: التلاوة، والسماع بأن
تلا السجدة ثم سمعها، أو سمعها ثم تلاها أو
تكرر أحدهما فنقول: "الأصل أن السجدة لا يتكرر
وجوبها إلا بأحد أمور ثلاثة": إما اختلاف
المجلس، أو التلاوة، أو السماع حتى أن من تلا
آية واحدة مرارا في مجلس واحد تكفيه سجدة
واحدة، والأصل فيه ما روي أن جبريل عليه
السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السجدة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يسمع ويتلقن ثم يقرأ على
أصحابه وكان لا يسجد إلا مرة واحدة وروي عن
أبي عبد الرحمن السلمي معلم الحسن والحسين رضي
الله عنهم أنه كان يعلم الآية مرارا وكان لا
يزيد على سجدة واحدة والظاهر أن عليا رضي الله
عنه كان عالما بذلك ولم ينكر عليه. وروي عن
أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يكرر
آية السجدة حين كان يعلم الصبيان وكان لا يسجد
إلا مرة واحدة ولأن المجلس الواحد جامع
للكلمات المتفرقة كما في الإيجاب والقبول ولأن
في إيجاب السجدة في كل مرة إيقاع في الحرج
لكون المعلمين مبتلين بتكرار الآية لتعليم
الصبيان والحرج منفي بنص الكتاب ولأن السجدة
متعلقة بالتلاوة والمرة الأولى هي الحاصلة
للتلاوة فأما التكرار فلم يكن لحق التلاوة بل
للتحفظ أو للتدبر والتأمل في ذلك، وكل ذلك من
عمل القلب ولا تعلق لوجوب السجدة به فجعل
الإجراء على اللسان الذي هو من ضرورة ما هو
فعل القلب أو وسيلة إليه من أفعاله فالتحق بما
هو فعل القلب وذلك ليس بسبب، كذا علل الشيخ
أبو منصور. "وأما" الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم بأن ذكره أو سمع ذكره في مجلس واحد
مرارا فلم يذكر في الكتب وذهب المتقدمون من
أصحابنا إلى أنه يكفيه مرة واحدة قياسا على
السجدة وقال بعض المتأخرين يصلى عليه في كل
مرة لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تجفوني
بعد موتي فقيل له: وكيف نجفوك يا رسول الله ؟
فقال: "أن أذكر في موضع فلا يصلى علي" وبه
تبين أنه حق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحقوق العباد لا تتداخل، وعلى هذا اختلفوا في
تشميت العاطس إن من عطس وحمد الله تعالى في
مجلس واحد مرارا فقال بعضهم: ينبغي للسامع أن
يشمت في كل مرة؛ لأنه حق العاطس والأصح أنه
إذا زاد على الثلاث لا يشمته لما روي عن عمر
رضي الله عنه أنه قال للعاطس في مجلسه بعد
الثلاث: "قم فانتثر فإنك مزكوم". "ثم" لا فرق
ههنا بين ما إذا تلا مرارا ثم سجد وبين ما إذا
تلا وسجد ثم تلا بعد ذلك مرارا في مجلس واحد
حتى لا يلزمه سجدة أخرى فرق بين هذا وبين ما
إذا زنى مرارا أنه لا يحد إلا مرة واحدة ولو
زنى مرة ثم حد ثم زنى مرة أخرى يحد ثانيا وكذا
ثالثا ورابعا، والفرق أن هناك تكرر السبب
لمساواة كل فعل الأول في المأثم، والقبح وفساد
الفراش، وكل معنى صار به الأول سببا إلا أنه
لما أقيم عليه الحد جعل ذلك حكما لكل سبب فجعل
بكماله حكما لهذا وحكما لذاك وجعل كأن كل سبب
ليس معه غيره في حق نفسه لحصول ما شرع له الحد
وهو الزجر عن المعاودة في المستقبل، فإذا وجد
الزنا بعد ذلك انعقد سببا كالذي تقدم فلا بد
من وجود حكمه بخلاف ما نحن فيه؛ لأن ههنا
السبب هو التلاوة والمرة الأولى هي الحاصلة
بحق التلاوة على ما مر فلم يتكرر السبب وهذا
المعنى لا يتبدل بتخلل السجدة بينهما وعدم
التخلل لحصول الثانية بحق التأمل والتحفظ في
الحالين. وكذا السامع لتلك التلاوات المتكررة
لا يلزمه إلا بالمرة الأولى؛ لأن ما وراءها في
حقه جعل غير سبب بل تبعا للتأمل والحفظ؛ لأنه
في حقه يفيد المعنيين جميعا أعني الإعانة على
الحفظ والتدبر بخلاف ما إذا سمع إنسان آخر
المرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة وذلك في
حقه أول ما سمع حيث تلزمه السجدة؛ لأن ذلك في
حقه سماع التلاوة؛ لأن كل مرة تلاوة حقيقة إلا
أن الحقيقة جعلت ساقطة
ج / 1 ص -182-
في حق
من تكررت في حقه ففي حق من لم تتكرر بقيت على
حقيقتها. وبخلاف ما إذا قرأ آية واحدة في
مجالس مختلفة؛ لأن هناك النصوص منعدمة والجامع
وهو المجلس غير ثابت والحرج منفي ومعنى التفكر
والتدبر زائل؛ لأنها في المجلس الآخر حصلت بحق
التلاوة لينال ثوابها في ذلك المجلس، وبخلاف
ما إذا قرأ آيات متفرقة في مجلس واحد لزوال
هذه المعاني أيضا. أما النصوص فلا تشكل وكذا
المعنى الجامع؛ لأن المجلس لا يجعل الكلمات
المختلفة الجنس بمنزلة كلمة واحدة كمن أقر
لإنسان بألف درهم والآخر بمائة دينار ولعبده
بالعتق في مجلس واحد لا يجعل المجلس الكل
إقرارا واحدا، وكذا الحرج منتف، وكذا التلاوة
الثانية لا تكون للتدبر في الأولى والله أعلم.
ولو تلاها في مكان وذهب عنه ثم انصرف إليه
فأعادها فعليه أخرى؛ لأنها عند اختلاف المجلس
حصلت بحق التلاوة فتجدد السبب، وعن محمد أن
هذا إذا بعد عن ذلك المكان فإن كان قريبا منه
لم يلزمه أخرى ويصير كأنه تلاها في مكانه؛
لحديث أبي موسى الأشعري أنه كان يعلم الناس
بالبصرة وكان يزحف إلى هذا تارة وإلى هذا تارة
أخرى فيعلمهم آية السجدة ولا يسجد إلا مرة
واحدة. ولو تلاها في موضع ومعه رجل يسمعها ثم
ذهب التالي عنه ثم انصرف إليه فأعادها والسامع
على مكانه سجد التالي لكل مرة لتجدد السبب في
حقه وهو التلاوة عند اختلاف المجلس. وأما
السامع فليس عليه إلا سجدة واحدة؛ لأن السبب
في حقه سماع التلاوة والثانية ما حصلت بحق
التلاوة في حقه لاتحاد المجلس. وكذلك إذا كان
التالي على مكانه ذلك والسامع يذهب ويجيء
ويسمع تلك الآية سجد السامع لكل مرة سجدة وليس
على التالي إلا سجدة واحدة لتجدد السبب في حق
السامع دون التالي على ما مر. ولو تلاها في
مسجد جماعة أو في المسجد الجامع في زاوية ثم
تلاها في زاوية أخرى لا يجب عليه إلا سجدة
واحدة؛ لأن المسجد كله جعل بمنزلة مكان واحد
في حق الصلاة ففي حق السجدة أولى، وكذا حكم
السماع، وكذلك البيت والمحمل والسفينة في حكم
التلاوة والسماع سواء كانت السفينة واقفة، أو
جارية بخلاف الدابة على ما نذكر. ولو تلاها
وهو يمشي لزمه لكل مرة سجدة لتبدل المكان،
وكذلك لو كان يسبح في نهر عظيم أو بحر لما
ذكرنا فإن كان يسبح في حوض أو غدير له حد
معلوم قيل يكفيه سجدة واحدة ولو تلاها على غصن
ثم انتقل إلى غصن آخر اختلف المشايخ فيه وكذا
التلاوة عند الكرس، وقالوا في تسدية الثوب إنه
يتكرر الوجوب. ولو قرأ آية السجدة مرارا وهو
يسير على الدابة إن كان خارج الصلاة سجد لكل
مرة سجدة على حدة بخلاف ما إذا قرأها في
السفينة وهي تجري حيث تكفيه واحدة. "والفرق"
أن قوائم الدابة جعلت كرجليه حكما لنفوذ تصرفه
عليها في السير والوقوف فكان تبدل مكانها
كتبدل مكانه فحصلت القراءة في مجالس مختلفة
فتعلقت بكل تلاوة سجدة بخلاف السفينة فإنها لم
تجعل بمنزلة رجلي الراكب لخروجها عن قبول
تصرفه في السير والوقوف ولهذا أضيف سيرها
إليها دون راكبها قال الله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وقال:
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبَالِ} فلم يجعل تبدل مكانها تبدل مكانه بل مكانه ما استقر هو فيه من
السفينة من حيث الحقيقة والحكم وذلك لم يتبدل
فكانت التلاوة متكررة في مكان واحد فلم يجب
لها إلا سجدة واحدة كما في البيت وعلى هذا حكم
السماع بأن سمعها من غيره مرتين وهو يسير على
الدابة لتبدل مكان السامع، هذا إذا كان خارج
الصلاة فأما إذا كان في الصلاة بأن تلاها وهو
يسير على الدابة ويصلي عليها إن كان ذلك في
ركعة واحدة لا يلزمه إلا سجدة واحدة بالإجماع؛
لأن الشرع حيث جوز صلاته عليها مع حكمه ببطلان
الصلاة في الأماكن المختلفة دل على أنه أسقط
اعتبار اختلاف الأمكنة أو جعل مكانه في هذه
الحالة ظهر الدابة لا ما هو مكان قوائمها وهذا
أولى من إسقاط اعتبار الأماكن المختلفة؛ لأنه
ليس بتغيير للحقيقة أو هو أقل تغييرا لها وذلك
تغيير للحقيقة من جميع الوجوه والظهر متحد فلا
يلزمه إلا سجدة واحدة وصار راكب الدابة في هذه
الحالة كراكب السفينة يحققه أن الشرع جوز
صلاته ولو جعل مكانه أمكنة قوائم الدابة لصار
هو ماشيا بمشيها، والصلاة ماشيا لا تجوز.
وأما" إذا كرر التلاوة في ركعتين فالقياس أن
يكفيه سجدة واحدة وهو قول أبي يوسف الأخير،
وفي الاستحسان يلزمه لكل تلاوة سجدة وهو قول
أبي يوسف الأول وهو قول محمد وهذه من المسائل
الثلاث التي رجع فيها أبو يوسف
ج / 1 ص -183-
عن
الاستحسان إلى القياس إحداها هذه المسألة،
والثانية أن الرهن بمهر المثل لا يكون رهنا
بالمتعة قياسا وهو قول أبي يوسف الأخير، وفي
الاستحسان يكون رهنا وهو قول أبي يوسف الأول
وهو قول محمد، والثانية أن العبد إذا جنى
جناية فيما دون النفس فاختار المولى الفداء ثم
مات المجني عليه القياس أن يخير المولى ثانيا
وهو قول أبي يوسف الأخير وفي الاستحسان لا
يخير وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد لا
يخير وعلى هذا الخلاف إذا صلى على الأرض وقرأ
آية السجدة في ركعتين ولا خلاف فيما إذا قرأها
في ركعة واحدة. وجه الاستحسان وهو قول محمد أن
المكان ههنا وإن اتحد حقيقة وحكما لكن مع هذا
لا يمكن أن يجعل الثانية تكرارا؛ لأن لكل ركعة
قراءة مستحقة فلو جعلنا الثانية تكرارا للأولى
والتحقت القراءة بالركعة الأولى لخلت الثانية
عن القراءة ولفسدت وحيث لم تفسد دل أنها لم
تجعل مكررة بخلاف ما إذا كرر التلاوة في ركعة
واحدة؛ لأن هناك أمكن جعل التلاوة المتكررة
متحدة حكما. وجه القياس أن المكان متحد حقيقة
وحكما فيوجب كون الثانية تكرارا للأولى كما في
سائر المواضع، وما ذكره محمد لا يستقيم؛ لأن
القراءة لها حكمان جواز الصلاة، ووجوب سجدة
التلاوة ونحن إنما نجعل القراءة الثانية
ملتحقة بالأولى في حق وجوب السجدة لا في غيره
من الأحكام. ولو افتتح الصلاة على الدابة
بالإيماء فقرأ آية السجدة في الركعة الأولى
فسجد بالإيماء ثم أعادها في الركعة الثانية
فعلى قول أبي يوسف الأخير لا يشكل أنه لا
يلزمه أخرى. واختلف المشايخ على قوله الأول
وهو قول محمد قال بعضهم: "يلزمه أخرى"، وقال
بعضهم: "يكفيه سجدة واحدة" ثم تبدل المجلس قد
يكون حقيقة وقد يكون حكما بأن تلا آية السجدة
ثم أكل أو نام مضطجعا، أو أرضعت صبيا، أو أخذ
في بيع أو شراء أو نكاح أو عمل يعرف أنه قطع
لما كان قبل ذلك ثم أعادها فعليه سجدة أخرى؛
لأن المجلس يتبدل بهذه الأعمال. ألا ترى أن
القوم يجلسون لدرس العلم فيكون مجلسهم مجلس
الدرس، ثم يشتغلون بالنكاح فيصير مجلسهم مجلس
النكاح، ثم بالبيع فيصير مجلسهم مجلس البيع،
ثم بالأكل فيصير مجلسهم مجلس الأكل، ثم
بالقتال فيصير مجلسهم مجلس القتال فصار تبدل
المجلس بهذه الأعمال كتبدله بالذهاب والرجوع
لما مر. ولو نام قاعدا أو أكل لقمة أو شرب
شربة أو تكلم بكلمة أو عمل عملا يسيرا ثم
أعادها فليس عليه أخرى؛ لأن بهذا القدر لا
يتبدل المجلس والقياس فيهما سواء أنه لا يلزمه
أخرى لاتحاد المكان حقيقة إلا أنا استحسنا إذا
طال العمل اعتبارا بالمخيرة إذا عملت عملا
كثيرا خرج الأمر عن يدها وكان قطعا للمجلس
بخلاف ما إذا أكل لقمة أو شرب شربة. ولو قرأ
آية السجدة فأطال القراءة بعدها أو أطال
الجلوس ثم أعادها ليس عليه سجدة أخرى؛ لأن
مجلسه لم يتبدل بقراءة القرآن وطول الجلوس،
وكذا لو اشتغل بالتسبيح أو بالتهليل ثم أعادها
لا يلزمه أخرى وإن قرأها وهو جالس ثم قام
فقرأها وهو قائم إلا أنه في مكانه ذلك يكفيه
سجدة واحدة؛ لأن المجلس لم يتبدل حقيقة وحكما.
أما الحقيقة فلأنه لم يبرح مكانه. وأما الحكم
فلأن الموجود قيام وهو عمل قليل كأكل لقمة، أو
شرب شربة وبمثله لا يتبدل المجلس، وهذا بخلاف
ما إذا خير امرأته فقامت من مجلسها حيث خرج
الأمر من يدها كما لو انتقلت إلى مجلس آخر؛
لأن خروج الأمر من يدها موجب الاعتراض عن قبول
التمليك إذ التخيير تمليك على ما يعرف في كتاب
الطلاق ومن ملك شيئا فأعرض عنه يبطل ذلك
التمليك وهذا لأن القيام دليل الإعراض؛ لأن
اختيارها نفسها أو زوجها أمر تحتاج فيه إلى
الرأي والتدبير لتنظر أي ذلك أعود لها وأنفع،
والقعود أجمع للذهن وأشد إحضارا للرأي فالقيام
من هذه الحالة إلى ما يوجب تفرق الذهن وفوات
الرأي دليل الإعراض أما ههنا فالحكم يختلف
باتحاد المجلس وتعدده لا بالإعراض وعدمه
والمجلس لم يتبدل فلم يعد متعددا متفرقا.
وكذلك لو قرأها وهو قائم فقعد ثم أعادها يكفيه
سجدة واحدة لما قلنا. ولو قرأها في مكان ثم
قام وركب الدابة على مكانه ثم أعادها قبل أن
يسير فعليه سجدة واحدة على الأرض، ولو سارت
الدابة ثم تلا بعدها فعليه سجدتان، وكذلك إذا
قرأها راكبا ثم نزل قبل السير فأعادها يكفيه
سجدة واحدة استحسانا وفي القياس فعليه سجدتان
لتبدل مكانه بالنزول أو الركوب. وجه الاستحسان
أن النزول أو الركوب عمل قليل فلا يوجب تبدل
المجلس وإن كان سار ثم نزل فعليه سجدتان؛ لأن
سير الدابة بمنزلة مشيه فيتبدل به المجلس
وكذلك لو قرأها ثم قام في مكانه ذلك وركب ثم
نزل
ج / 1 ص -184-
قبل
السير فأعادها لا تجب عليه إلا سجدة واحدة لما
قلنا. ولو قرأها راكبا ثم نزل ثم ركب فأعادها
وهو على مكانه فعليه سجدة واحدة لما بينا
والأصل أن النزول والركوب ليسا بمكانين
ولو قرأ آية السجدة خارج الصلاة ولم يسجد لها
ثم افتتح الصلاة وتلاها في عين ذلك المكان
صارت إحدى السجدتين تابعة للأخرى فتستتبع التي
وجدت في الصلاة التي وجدت قبلها ويسقط اعتبار
تلك التلاوة وتجعل كأنه لم يتل إلا في الصلاة
حتى أنه لو سجد للمتلوة في الصلاة خرج عن عهدة
الوجوب وإذا لم يسجد لم يبق عليه شيء إلا
المأثم وهذا على رواية الجامع الكبير، وكتاب
الصلاة من الأصل ونوادر الصلاة التي رواها
الشيخ أبو حفص الكبير ولنا على رواية الصلاة
التي رواها أبو سليمان لا تستتبع إحداهما
الأخرى بل كل واحدة منهما تستقل بنفسها ولا
يسقط اعتبار تلك التلاوة الأولى وبقيت السجدة
واجبة عليه سواء سجد للمتلوة في الصلاة أو لم
يسجد. وأما إذا تلاها وسجد لها ثم افتتح
الصلاة وأعادها في ذلك المكان يسجد للمتلوة في
الصلاة باتفاق الروايتين، أما على رواية
النوادر فلعدم الاستتباع وثبوت الاستقلال،
وأما على رواية الجامع والمبسوط فلكون
الموجودة خارج الصلاة تابعة للموجودة في
الصلاة والتابع لا يستتبع المتبوع فلا تصير
السجدة لتلك التلاوة مانعة من لزوم السجدة
بهذه التلاوة. وجه رواية نوادر أبي سليمان أن
الآية تليت في مجلسين مختلفين حكما؛ لأن
الأولى وجدت في مجلس التلاوة والثانية في مجلس
الصلاة والمجلس يتبدل بتبدل الأفعال فيه لما
ذكرنا أنه قد يكون مجلس عقد ثم يصير مجلس
مذاكرة ثم يصير مجلس أكل واعتبر هذا التبدل في
حق الإيجاب والقبول في باب العقود وكل ما
يتعلق باتحاد المجلس فكذا هذا؛ لأن التعدد
الحكمي ملحق بالتعدد الحقيقي في المواضع أجمع
فيتعلق بكل تلاوة وحكم ولا تستتبع إحداهما
الأخرى ولأن الثانية تفوت لالتحاقها بأجزاء
الصلاة لتعلقها بما هو ركن من الصلاة فلم يمكن
أن تجعل تابعة للأولى فالأولى أيضا تفوت
بالسبق فلا تصير تابعة لما بعدها إذ الشيء لا
يتبع ما بعده ولا يستتبع ما قبله. وجه رواية
الجامع والمبسوط أن المجلس متحد حقيقة وحكما
أما الحقيقة فظاهرة، وأما الحكم فلأنه وإن صار
مجلس صلاة ولكن في الصلاة تلاوة مفروضة فكان
مجلس الصلاة مجلس التلاوة ضرورة فلم يوجد
التبدل لا حقيقة ولا حكما فلا بد من إثبات صفة
الاتحاد من حيث الحكم للتلاوتين المتعددتين
حقيقة لوجود الموجب لصفة الاتحاد وهو المجلس
المتحد، وكذا المتعدد من أسباب السجدة قابل
للاتحاد حكما كالسماع والتلاوة فإن كل واحد
منهما على الانفراد سبب، ثم من قرأ وسمع من
نفسه لا يلزمه إلا سجدة واحدة فالتحق السببان
بسبب واحد فدل أن المتعدد من أسباب السجدة
قابل للاتحاد حكما فصار متحدا حكما وزمان وجود
الواحد واحد فجعل كأن التلاوتين وجدتا في زمان
واحد ولا وجه أن يجعل كأنهما وجدتا خارج
الصلاة ولأن الموجودة في الصلاتين متقررة في
محلها بدليل جواز الصلاة ولو جعل كأنهما وجدتا
خارج الصلاة في حق وجوب السجدة دون جواز
الصلاة لبقي التعدد من وجه مع وجود دليل
الاتحاد، ومهما أمكن العمل بالدليلين من جميع
الوجوه كان أولى من العمل بالدليل من وجه دون
وجه ولا يمكن أن تجعل الموجودة في الصلاة في
حكم التفكر لتعلق جواز الصلاة بها وهو من
أحكام القراءة دون التفكر ولا مانع من أن تجعل
الأولى كأنها وجدت في الصلاة فصار كما لو
تليتا في الصلاة في ركعة واحدة ولو كان كذلك
لا يتعلق بذلك إلا سجدة واحدة وهي من جملة
الصلاة كذا هذا. وعلى هذا إذا سمع من غيره آية
السجدة ثم شرع في الصلاة في ذلك المكان وتلا
تلك الآية بعينها في الصلاة فهذا والذي تلا
بنفسه ثم شرع في الصلاة مكانه ثم أعادها سواء
وقد مر الكلام فيه. ولو قرأها في الصلاة أولا
ثم سلم فأعادها قبل أن يبرح مكانه ذكر في كتاب
الصلاة أنه يلزمه أخرى، وذكر في النوادر أنه
لا يلزمه. وجه رواية النوادر أن الموجودة في
الصلاة تفوت بالسبق، وحرمة الصلاة جميعا
فيستتبع الأدنى درجة المتأخرة وقتا وبهذه
المسألة تبين أن التعليل لرواية النوادر في
المسألة الأولى باختلاف المجلس حكما ليس
بصحيح. وجه رواية كتاب الصلاة أن المتلوة في
الصلاة لا وجود لها بعد الصلاة لا حقيقة ولا
حكما أما الحقيقة فلا يشكل وكذا الحكم فإن بعد
انقطاع التحريمة لا بقاء لما هو من أجزاء
الصلاة أصلا والموجود هو الذي يستتبع دون
المعدوم بخلاف ما إذا كانت الأولى متلوة خارج
الصلاة فإن
ج / 1 ص -185-
تلك
باقية بعد التلاوة من حيث الحكم لبقاء حكمها
وهو وجوب السجدة فإذا تلاها في الصلاة وجدت
والأولى موجودة فاستتبع الأقوى الأضعف الأوهى.
وذكر الإمام السرخسي أنه إنما اختلف الجواب
لاختلاف الموضع فوضع المسألة في النوادر فيما
إذا أعادها بعد ما سلم قبل أن يتكلم وبالسلام
لم ينقطع فور الصلاة فكأنه أعادها في الصلاة
ووضعها في كتاب الصلاة فيما إذا أعادها بعد ما
سلم وتكلم وبالكلام ينقطع فور الصلاة ألا ترى
أنه لو تذكر سجدة تلاوة بعد السلام يأتي بها
وبعد الكلام لا يأتي بها ؟ فيكون هذا في معنى
تبدل المجلس وإن لم يسجدها في الصلاة حتى
سجدها الآن قال في الأصل: أجزأه عنهما، وهو
محمول على ما إذا أعادها بعد السلام قبل
الكلام؛ لأنه لم يخرج عن حرمة الصلاة فكأنه
كررها في الصلاة وسجد، أما لا يستقيم هذا
الجواب فيما إذا أعادها بعد الكلام؛ لأن
الصلاتية قد سقطت عنه بالكلام.
تلاها في صلاته ثم سمعها من أجنبي أجزأته سجدة
واحدة وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا تجزيه؛
لأن السماعية ليست بصلاتية والتي أداها صلاتية
فلا تنوب عما ليست بصلاتية. وجه ظاهر الرواية
أن التلاوة الأولى من أفعال صلاته والثانية لا
فحصلت الثانية تكرارا للأولى من حيث الأصل
والأولى باقية فجعل وصف الأولى للثانية فصارت
من الصلاة فيكتفي بسجدة واحدة، وقالوا على
رواية النوادر أيضا: تكون تكرارا؛ لأن الثانية
ليست بمستحقة بنفسها في محلها فتلتحق بالأولى
بخلاف تلك المسألة؛ لأن الثانية ركن من أركان
الصلاة فكانت مستحقة بنفسها في محلها فلا يمكن
أن تجعل ملحقة بالأولى. ولو سمعها أولا من
أجنبي وهو في الصلاة ثم تلاها بنفسه ففيه
روايتان على ما نذكر. ولو تلاها في الصلاة ثم
سجد ثم أحدث فذهب وتوضأ ثم عاد إلى مكانه وبنى
على صلاته ثم قرأ ذلك الأجنبي تلك الآية فعلى
هذا للمصلي أن يسجدها إذا فرغ من صلاته؛ لأنه
تحول عن مكانه فسمع الثانية بعدما تبدل المجلس
وفرق بين هذا وبين إذا قرأ آية سجدة ثم سبقه
الحدث فذهب وتوضأ ثم جاء وقرأ مرة أخرى لا
يلزمه سجدة أخرى وإن قرأ الثانية بعدما تبدل
المكان، والفرق أن في هذه المسألة الأولى
المكان قد تبدل حقيقة وحكما أما الحقيقة فلا
يشكل. وأما الحكم فلأن التحريمة لا تجعل
الأماكن المتفرقة كمكان واحد في حق ما ليس من
أفعال الصلاة، وسماع السجدة ليس من أفعال
الصلاة فلم يتحد المكان حقيقة وحكما فيلزمه
بكل مرة سجدة على حدة بخلاف تلك المسألة فإن
هناك القراءة من أفعال الصلاة والتحريمة تجعل
الأماكن المتفرقة مكانا واحدا حكما؛ لأن
الصلاة الواحدة لا تجوز في الأمكنة المختلفة
فجعلت الأمكنة كمكان واحد في حق أفعال الصلاة
لضرورة الجواز والقراءة من أفعال الصلاة فصار
المكان في حقها متحدا، فأما السماع فليس من
أفعال الصلاة فتبقى الأمكنة في حقه متفرقة
لعدم ضرورة توجب الاتحاد، والحقائق لا يسقط
اعتبارها حكما إلا لضرورة. ولو سمعها رجل من
إمام ثم دخل في صلاته فإن كان الإمام لم
يسجدها سجدها مع الإمام وإن كان سجدها الإمام
سقطت عنه حتى لا يجب عليه قضاؤها خارج الصلاة؛
لأنه لما اقتدى بالإمام صارت قراءة الإمام
قراءة له وجعل من حيث التقدير كأن الإمام
قرأها ثانيا فصارت تلك السجدة من أفعال الصلاة
ولو قرأ ثانيا لا يجب عليه مرة أخرى؛ لأن
الأولى صارت من أفعال الصلاة فكذا ههنا وإذا
صارت من أفعال صلاته لا تؤدى خارج الصلاة لما
مر. وذكر في زيادات الزيادات أنه يسجد لما سمع
قبل الاقتداء بعد ما فرغ من صلاته، وذكر في
نوادر الصلاة لأبي سليمان أنه لو تلا ما سمع
خارج الصلاة في صلاة نفسه في غير ذلك المكان
وسجد لها لا يسقط عنه ما لزمه خارج الصلاة
وهذا موافق لما ذكره في زيادات الزيادات فصار
في المسألة روايتان. وجه تلك الرواية أن
الثانية ليست بتكرار للأولى لأن التكرار إعادة
الشيء بصفته وههنا الأولى لم تكن واجبة ولا
فعلا من أفعال الصلاة والثانية واجبة وهي فعل
من أفعال الصلاة فاختلف الوصف فلم تكن إعادة
بخلاف ما إذا كانتا في الصلاة أو كانتا جميعا
خارج الصلاة حيث كان تكرارا لاتحاد الوصف ألا
ترى أن من باع بألف ثم باع بمائة دينار ما كان
تكرارا بل كان فسخا للأول ولو باع في الثانية
بألف كان تكرارا وإذا لم يكن تكرارا جعل كأنه
قرأ آيتين مختلفتين في مكان أو آية في مكانين
فيتعلق بكل واحدة منهما حكم على حدة دل عليه
أنه لو كان
ج / 1 ص -186-
قرأ
الأولى وسجد، ثم شرع في الصلاة في غير ذلك
المكان وأعادها يلزمه أخرى في الروايات أجمع
لما بينا أنه ليس بإعادة ولو كان إعادة لما
لزمه أخرى. وجه ظاهر الرواية أن الثانية إعادة
للأولى من حيث الأصل؛ لأنها عين تلك الآية
وليست بإعادة من حيث الوصف؛ لأن وصف كونها
ركنا من أركان الصلاة لم يكن في الأولى ووجد
في الثانية والأولى باقية حكما لبقاء حكمها
وهو وجوب السجدة فإذا كانت باقية، والثانية من
حيث الأصل تكرار للأولى فجعلت من حيث الأصل
كأنها عين الأولى فبقيت الصفة الثانية للتلاوة
والثانية للأولى لصيرورة الثانية عين الأولى
فتصير صفتها صفة تلك فصارت هي أيضا موصوفة
بكونها صلاتية فلا تؤدى خارج الصلاة لما مر
بخلاف ما إذا كان سجد للأولى؛ لأنها لم تبق
حكما بل انقضت بنفسها وحكمها فلم يجعل وصف
الثانية وصفا للأولى فبقيت الثانية إعادة من
حيث الأصل ابتداء من حيث الوصف فتجب سجدة أخرى
من حيث الوصف ولا تجب من حيث الأصل فلم يعتبر
جانب الأصل وإن كان هو المتبوع لما أن
الاحتياط في باب العبادات اعتبار جانب الوجوب
فيرجح جانب الوصف فوجبت سجدة أخرى على أن
اعتبار جانب الوصف موجب واعتبار جانب الأصل
ليس بمانع لكنه ليس بموجب فلم يقع التعارض
والله أعلم. ولو قرأ الإمام سجدة في ركعة
وسجدها ثم أحدث في الركعة الثانية فقدم رجلا
جاء ساعتئذ فقرأ تلك السجدة فعليه أن يسجدها
لوجود سبب الوجوب في حقه وهو ابتداء التلاوة
ولم يوجد منه أداء قبل هذا وعلى القوم أن
يسجدوها معه؛ لأنهم التزموا متابعته.
فصل": وأما بيان من تجب عليه فكل من كان أهلا لوجوب الصلاة عليه إما أداء
أو قضاء فهو من أهل وجوب السجدة عليه ومن لا
فلا؛ لأن السجدة جزء من أجزاء الصلاة فيشترط
لوجوبها أهلية وجوب الصلاة من الإسلام،
والعقل، والبلوغ، والطهارة من الحيض والنفاس
حتى لا تجب على الكافر والصبي والمجنون
والحائض والنفساء قرءوا أو سمعوا؛ لأن هؤلاء
ليسوا من أهل وجوب الصلاة عليهم وتجب على
المحدث والجنب؛ لأنهما من أهل وجوب الصلاة
عليهما، وكذا تجب على السامع بتلاوة هؤلاء إلا
المجنون؛ لأن التلاوة منهم صحيحة كتلاوة
المؤمن والبالغ وغير الحائض والمتطهر؛ لأن
تعلق السجدة بقليل القراءة وهو ما دون آية فلم
يتعلق به النهي فينظر إلى أهلية التالي
وأهليته بالتمييز وقد وجد فوجد سماع تلاوة
صحيحة فتجب السجدة بخلاف السماع من الببغاء
والصدى فإن ذلك ليس بتلاوة وكذا إذا سمع من
المجنون؛ لأن ذلك ليس بتلاوة صحيحة لعدم
أهليته لانعدام التمييز.
فصل": وأما شرائط الجواز فكل ما هو شرط جواز الصلاة من طهارة الحدث وهي
الوضوء والغسل، وطهارة النجس وهي طهارة البدن
والثوب، ومكان السجود والقيام والقعود فهو.
شرط جواز السجدة؛ لأنها جزء من أجزاء الصلاة
فكانت معتبرة بسجدات الصلاة ولهذا لا يجوز
أداؤها بالتيمم إلا أن لا يجد ثمة ماء أو يكون
مريضا؛ لأن شرط صيرورة التيمم طهارة حال وجود
الماء خشية الفوت ولم يوجد؛ لأن وجوبها على
التراخي على ما بينا فيما تقدم وكذا لا يجوز
أداؤها إلا إلى القبلة حال الاختيار إذا تلاها
على الأرض ولا يجزيه الإيماء كما في سجدات
الصلاة فإن اشتبهت عليه القبلة فتحرى وسجد إلى
جهة فأخطأ القبلة أجزأه؛ لأن الصلاة بالتحري
إلى غير جهة القبلة جائزة فالسجدة أولى. ولو
تلاها على الراحلة وهو مسافر أو تلاها على
الأرض وهو مريض لا يستطيع السجود أجزأه
الإيماء والقياس أن لا يجزئه الإيماء على
الراحلة وهو قول بشر؛ لأنها واجبة فلا يجوز
أداؤها على الراحلة من غير عذر كالنذر فإن
الراكب إذا نذر أن يصلي ركعتين لم يجز أن
يؤديهما على الدابة من غير عذر كذا هذا.
"ولنا" أن التلاوة أمر دائم بمنزلة التطوع
فكان في اشتراط النزول حرج بخلاف الفرض
والنذر، وما وجب من السجدة في الأرض لا يجوز
على الدابة وما وجب على الدابة يجوز على
الأرض؛ لأن ما وجب على الأرض وجب تاما فلا
يسقط بالإيماء الذي هو بعض السجود فأما ما وجب
على الدابة وجب بالإيماء لما روي عن علي رضي
الله عنه أنه تلا سجدة وهو راكب فأومأ بها
إيماء. وروي عن ابن عمر أنه سئل عمن سمع سجدة
وهو راكب قال فليوم
ج / 1 ص -187-
إيماء،
وإذا وجب الإيماء فإذا نزل وأداها على الأرض
فقد أداها تامة فكانت أولى بالجواز كما في
الصلاة على ما مر. ولو تلاها على الدابة فنزل
ثم ركب فأداها بالإيماء جاز إلا على قول زفر
هو يقول: "لما نزل وجب أداؤها على الأرض فصار
كما لو تلاها على الأرض". "ولنا" أنه لو أداها
قبل نزوله بالإيماء جاز فكذلك بعد ما نزل
وركب؛ لأنه يؤديها بالإيماء في الوجهين جميعا
وقد وجبت بهذه الصفة وصار كما لو افتتح الصلاة
في وقت مكروه فأفسدها ثم قضاها في وقت آخر
مكروه وأجزأه؛ لأنه أداها على الوصف الذي
وجبت، كذا هذا وكذا يشترط لها ستر العورة لما
قلنا ويشترط النية؛ لأنها عبادة فلا تصح بدون
النية وكذا الوقت حتى لو تلاها أو سمعها في
وقت غير مكروه فأداها في وقت مكروه لا تجزئه؛
لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص كالصلاة.
ولو تلاها في وقت مكروه وسجدها فيه أجزأه؛
لأنه أداها كما وجبت وإن لم يسجدها في ذلك
الوقت وسجدها في وقت آخر مكروه جاز أيضا؛ لأنه
أداها كما وجبت؛ لأنها وجبت ناقصة وأداها
ناقصة كما في الصلاة إلا أنه لا يشترط لها
التحريمة عندنا؛ لأنها لتوحيد الأفعال
المختلفة ولم توجد وكذلك كل ما يفسد الصلاة
عندنا من الحدث والعمل والكلام والقهقهة فهو
مفسد لها وعليه إعادتها كما لو وجدت في سجدة
الصلاة. وقيل هذا على قول محمد؛ لأن العبرة
عنده لتمام الركن وهو الرفع ولم يحصل بعد فأما
عند أبي يوسف فقد حصل الوضع قبل هذه العوارض
والعبرة عنده للوضع فينبغي أن لا تفسدها إلا
أنه لا وضوء عليه في القهقهة فيها لما ذكرنا
في كتاب الطهارة، وكذا محاذاة المرأة الرجل
فيها لا تفسد عليه السجدة وإن نوى إمامتها؛
لانعدام الشركة إذ هي مبنية على التحريمة ولا
تحريمة لهذه السجدة ولأن المحاذاة إنما
عرفناها مفسدة بأمر الشرع بتأخيرها والأمر ورد
في صلاة مطلقة وهذه ليست بصلاة مطلقة فلم تكن
المحاذاة فيها مفسدة كما في صلاة الجنازة.
فصل": وأما بيان محل أدائها فما تلا خارج الصلاة لا يؤديها في الصلاة
وكذا ما تلا في الصلاة لا يؤديها خارج الصلاة
وإنما كان كذلك؛ لأن ما وجب خارج الصلاة فليس
بفعل من أفعال الصلاة؛ لأنه ما وجب حكما لفعل
من أفعال الصلاة لخروج التلاوة خارج الصلاة عن
أفعال الصلاة فإذا أداها في الصلاة فقد أدخل
في الصلاة ما ليس منها فهي وإن لم تفسد لعدم
المضادة تنتقص لإدخاله فيها ما ليس منها؛ لأن
الزائد الداخل فيها لا بد أن يقطع نظمها ويمنع
وصل فعل بفعل وذا ترك الواجب فصار المؤدى
منهيا عنه وهو وجب خارج الصلاة على وجه الكمال
فلا يسقط بأدائه على وجه يكون منهيا عنه. وأما
ما تلا في الصلاة فقد صار فعلا من أفعال
الصلاة لكونه حكما لما هو من أركان الصلاة وهو
القراءة؛ ولهذا يجب أداؤه في الصلاة فلا يوجب
نقصا فيها وأداء ما هو من أفعال الصلاة لن
يتصور بدون التحريمة فلا يجوز الأداء خارج
الصلاة، ولا في صلاة أخرى؛ لأنه ليس من أفعال
هذه الصلاة لأنه ليس بحكم لقراءة هذه الصلاة
فلا يتصور أداؤه فسقط إذا عرف هذا الأصل
فنقول: إذا قرأ الرجل آية السجدة في الصلاة
وهو إمام أو منفرد فلم يسجدها حتى سلم وخرج من
الصلاة سقطت عنه لما قلنا. وكذلك لو سمعها في
صلاته ممن ليس معه في الصلاة لم يسجدها في
الصلاة لما قلنا، وإن سجدها فيها كان مسيئا
لما ذكرنا ولا تسقط عنه السجدة لكن لا تفسد
صلاته في ظاهر الرواية. وروي عن محمد أنها
تفسد؛ لأن هذه السجدة معتبرة في نفسها؛ لأنها
وجبت بسبب مقصود فكان إدخالها في الصلاة رفضا
لها. "ولنا" أن هذه زيادة من جنس ما هو مشروع
في الصلاة وهو دون الركعة فلا تفسد الصلاة كما
لو سجد سجدة زائدة في الصلاة تطوعا. وعلى هذا
الأصل يخرج ما إذا قرأ المقتدي آية السجدة خلف
الإمام فسمعها الإمام والقوم فنقول: أجمعوا
على أنه لا يجب على المقتدي أن يسجدها في
الصلاة وكذا على الإمام والقوم؛ لأنه لو سجد
بنفسه إذا خافت فقد انفرد عن إمامه فصار
مختلفا عليه. ولو سجدوا؛ لسماع تلاوته إذا جهر
به لانقلب التبع متبوعا؛ لأن التالي يكون
بمنزلة الإمام للسامعين، وفي حق بقية المقتدين
تصير صلاتهم بإمامين من غير أن يكون أحدهما
قائما مقام الآخر وكل ذلك لا يجوز. وأما بعد
الفراغ فلا يسجدون أيضا في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف، وقال محمد: "يسجدون" ولو سمعوا ممن ليس
في صلاتهم لا يسجدون في الصلاة ويسجدون بعد
الفراغ
ج / 1 ص -188-
بالإجماع ولو سمع من المقتدي من ليس في صلاته
يسجد كذا ذكر في نوادر الصلاة عقيب قول محمد.
وجه قول محمد أن السبب قد تحقق وهو التلاوة
الصحيحة في حق المؤتم وسماعها في حق الإمام
والقوم ولهذا يجب على من سمع منه وهو ليس في
صلاتهم إلا أنه لا يمكنهم الأداء في الصلاة؛
لأن تلاوته ليست من أعمال الصلاة؛ لأن قراءة
المقتدي غير محسوبة من الصلاة فيجب عليهم
الأداء خارج الصلاة كما إذا سمعوا ممن ليس في
صلاتهم ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن الوجوب يعتمد
القدرة على الأداء وهم يعجزون عن أدائها؛ لأنه
لا وجه إلى الأداء في الصلاة لما مر ولا وجه
إلى الأداء بعد الفراغ من الصلاة؛ لأن هذه
السجدة من أفعال هذه الصلاة؛ لأنها وجبت بسبب
التلاوة. وتلاوة المقتدي محسوبة من صلاته؛ لأن
الصلاة مفتقرة إلى القراءة إلا أن الإمام
يتحمل عنه هذه القراءة، فإذا أدى بنفسه ما
يتحمل عنه غيره وقع موقعه، فكانت القراءة
محسوبة من هذه الصلاة فصار ما هو في حكم هذه
القراءة من أفعال الصلاة فصارت السجدة من
أفعال هذه الصلاة. وإذا صارت في حق التالي من
أفعال هذه الصلاة صارت في حق الكل من أفعال
هذه الصلاة؛ لأن مبنى الصلاة على أنها جعلت من
أناس مختلفين عند اتحاد التحريمة في حق
القراءة كالموجودة من شخص واحد لحصول ثمرات
القراءة بالسماع ولهذا جعلت القراءة الموجودة
من الإمام كالقراءة الموجودة من الكل بخلاف
غيرها من الأركان وقياس هذه النكتة يقتضي أن
الإمام لو لم يقرأ كانت هذه القراءة قراءة
للكل في حق جواز الصلاة إلا أن ذلك لم يمكن
لئلا ينقلب التبع متبوعا والمتبوع تبعا فبقيت
في حق كونها من الصلاة مشتركة في حق الكل
فصارت السجدة من أفعال الصلاة في حق الكل،
وإذا صارت من أفعال الصلاة لا يتصور أداؤها
بلا تحريمة الصلاة فلا تؤدى بعد الصلاة، ومن
سلك هذه الطريقة يقول تجب على من سمع هذه
التلاوة من المقتدي ممن لا يشاركه في الصلاة؛
لأنها ليست في حقه من أفعال الصلاة وبخلاف ما
إذا سمع المصلي ممن ليس معه في الصلاة حيث
يسجد خارج الصلاة؛ لأن السجدة وجبت عليه وليست
من أفعال الصلاة؛ لأن تلك التلاوة ليست من
أفعال الصلاة؛ لعدم الشركة بينه وبين التالي
في الصلاة، والوجوب عليه بسبب سماعه والسماع
ليس من أفعال الصلاة وإذا لم يكن من أفعال
الصلاة أمكن أداؤها خارج الصلاة فيؤدى. ومن
أصحابنا من قال: "إن هذه القراءة منهي عنها
فلا يتعلق بها حكم يؤمر به"، بخلاف قراءة
الصبي والكافر حيث يوجب السجدة على من سمعها؛
لأنهما ليسا بمنهيين وبخلاف الجنب والحائض؛
لأنهما لم ينهيا عما يتعلق به وجوب السجدة؛
لأن ذلك القدر دون الآية وهما ليسا بمنهيين عن
تلاوة ما دون الآية، أما المقتدي فهو منهي عن
قراءة كلمة واحدة فكان منهيا عن قدر ما يتعلق
به وجوب السجدة فلم يجب، أو نقول إن المقتدي
محجور عليه في حق القراءة بدليل نفاذ تصرف
الإمام عليه، وتصرف المحجور لا ينعقد في حق
الحكم ومن سلك هاتين الطريقتين يقول: لا تجب
السجدة على السامع الذي لا يشاركهم في الصلاة
أيضا ولهذا اختلف المشايخ في هذه المسألة
لاختلاف الطرق
فصل": وأما كيفية أدائها فإن كان تلا خارج الصلاة يؤديها على نعت سجدات
الصلاة وإن كان تلا في الصلاة فالأفضل أن
يؤديها على هيئة السجدات أيضا كذا روي عن أبي
حنيفة؛ لأنه إذا سجد، ثم قام، وقرأ، وركع حصلت
له قربتان. ولو ركع تحصل له قربة واحدة، ولأنه
لو سجد لأدى الواجب بصورته ومعناه، ولو ركع
لأداه بمعناه لا بصورته ولا شك أن الأول أفضل
ثم إذا سجد وقام يكره له أن يركع كما رفع رأسه
سواء كانت آية السجدة في وسط الصورة أو عند
ختمها أو بقي بعدها إلى الختم قدر آيتين أو
ثلاث آيات؛ لأنه يصير بانيا للركوع على السجود
فينبغي أن يقرأ، ثم يركع فينظر إن كانت آية
السجدة في وسط السورة فينبغي أن يختم السورة
ثم يركع، وإن كانت عند ختم السورة فينبغي أن
يقرأ آيات من سورة أخرى ثم يركع وإن كان بقي
منها إلى الختم قدر آيتين أو ثلاث آيات كما في
سورة " بني إسرائيل "، وسورة " إذا السماء
انشقت " ينبغي أن يقرأ بقية السورة، ثم يركع
إن شاء، وإن شاء وصل إليها سورة أخرى فهو
أفضل؛ لأن الباقي من خاتمة السورة دون ثلاث
آيات فكان الأولى أن يقرأ ثلاث آيات كي لا
يكون باقيا للركوع على السجود، فلو لم يفعل
ذلك ولكنه ركع كما رفع رأسه من السجدة
ج / 1 ص -189-
أجزأه؛
لحصول القراءة قبل السجدة. ولو لم يأت بها على
هيئة السجدة ولكنه ركع بها ذكر في الأصل أن
القياس أن الركوع والسجود سواء، وفي الاستحسان
ينبغي أن يسجد قال: وبالقياس نأخذ، وإنما أخذ
أصحابنا بالقياس؛ لأن التفاوت ما بين القياس
والاستحسان أن ما ظهر من المعاني فهو قياس وما
خفي منها فهو استحسان ولا يرجح الخفي لخفائه
ولا الظاهر لظهوره فيرجع في طلب الرجحان إلى
ما اقترن بهما من المعاني، فمتى قوي الخفي
أخذوا به ومتى قوي الظاهر أخذوا به، وههنا قوي
دليل القياس على ما نذكر فأخذوا به ثم إن
مشايخنا اختلفوا في محل القياس والاستحسان
لاختلافهم فيما يقوم مقام سجدة التلاوة فقال
عامة مشايخنا: إن الركوع هو القائم مقام سجدة
التلاوة، ومحل القياس والاستحسان هذا أن
القياس أن يقوم الركوع مقامهما، وفي الاستحسان
لا يقوم. وقال بعضهم: محل القياس والاستحسان
خارج الصلاة بأن تلاها في غير الصلاة وركع في
القياس يجزئه وفي الاستحسان لا يجزئه وهذا ليس
بسديد بل لا يجزئه ذلك قياسا واستحسانا؛ لأن
الركوع خارج الصلاة لم يجعل قربة فلا ينوب
مناب القربة. وذكر الشيخ صدر الدين أبو المعين
وقال: رأيت في فتاوى أهل بلخ بخط الشيخ أبي
عبد الله الحديدي عن محمد بن سلمة أنه قال:
السجدة الصلبية هي التي تقوم مقام سجدة
التلاوة لا الركوع، فكان القياس على قوله أن
تقوم الصلبية مقام التلاوة وفي الاستحسان لا
تقوم. وجه قوله أن التحقيق لكون الجواز ثابتا
بالقياس، وعدم الجواز في الاستحسان لن يتصور
إلا على هذا فإن القياس أن يجوز؛ لأن الواجب
السجدة وقد وجدت، وسقوط ما وجب من السجدة
بالسجدة أمر ظاهر فكان قياسا. وفي الاستحسان
لا يجوز؛ لأن السجدة قائمة مقام نفسها فلا
تقوم مقام غيرها كصوم يوم من رمضان لا يقع عن
نفسه وعن قضاء يوم آخر عليه فكذا هذا. ولا شك
أن دليل القياس أظهر ودليل الاستحسان أأخفى؛
لأن التسوية بين الشيئين من نوع واحد وإقامة
أحدهما مقام الآخر أمر ظاهر والتفرقة بينهما
لمعنى من المعاني أمر خفي؛ لأن التسوية
باعتبار الذات والتفرقة باعتبار المعاني،
والعلم بذات ما يعاين أظهر من العلم بوصفه
لحصول العلم بالذات بالحس وبالمعنى بالعقل
عقيب التأمل ولا شك أن ذلك أظهر، فثبت أن
التسمية لكون الجواز ثابتا بالقياس وعدم
الجواز بالاستحسان ممكن من هذا الوجه فأما لو
كان الكلام في قيام الركوع مقام السجود
فالقياس يأبى الجواز وفي الاستحسان يجوز؛ لأن
الركوع مع السجود مختلفان ذاتا فلو ثبت بينهما
مساواة لثبت من حيث المعنى فكان عدم جواز
إقامة أحدهما مقام صاحبه من توابع الذات
والعلم به ظاهر، وجواز القيام من توابع المعنى
والعلم به خفي فإذا كانت قضية القياس أن لا
يجوز وقضية الاستحسان أن يجوز وجواب الكتاب
على القلب من هذا فدل أن الصحيح ما ذكرنا.
وعامة مشايخنا يقولون: لا بل الركوع هو القائم
مقام سجدة التلاوة، كذا ذكر محمد في الكتاب
فإنه قال في الكتاب قلت: فإن أراد أن يركع
بالسجدة بعينها هل يجزئه ذلك ؟ قال: أما في
القياس فالركعة في ذلك والسجدة سواء؛ لأن كل
ذلك صلاة ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَخَرَّ رَاكِعاً} وتفسيرها خر ساجدا، فالركعة والسجدة سواء في القياس. وأما في
الاستحسان ينبغي له أن يسجد وبالقياس نأخذ
وهذا كله لفظ محمد فثبت أن محل القياس
والاستحسان ما بينا وما قاله محمد بن سلمة
خلاف الرواية وذكر أبو يوسف في الأمالي وإذا
قرأ آية السجدة في الصلاة فإن شاء ركع لها وإن
شاء سجد لها يعني إن شاء أقام ركوع الصلاة
مقامها وإن شاء سجد لها ذكر هذا التفسير أبو
يوسف في الإملاء عن أبي حنيفة. وجه القياس على
ما ذكره أن معنى التعظيم فيهما ظاهر فكانا في
حق حصول التعظيم بهما جنسا واحدا والحاجة إلى
تعظيم الله تعالى: إما اقتداء بمن عظم الله
تعالى: وإما مخالفة لمن استكبر عن تعظيم الله
تعالى: فكان الظاهر هو الجواز. وجه الاستحسان
أن الواجب هو التعظيم بجهة مخصوصة وهي السجود
بدليل أنه لو لم يركع على الفور حتى طالت
القراءة ثم نوى بالركوع أن يقع عن السجدة لا
يجوز. وكذا خارج الصلاة لو تلا آية السجدة
وركع ولم يسجد لا يخرج عن الواجب كذا ههنا ثم
أخذوا بالقياس لقوة دليله؛ وذلك لما روي عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعبد الله بن
عمر رضي الله عنهما أنهما
ج / 1 ص -190-
كانا
أجازا أن يركع عن السجود في الصلاة ولم يرو عن
غيرهما خلاف ذلك فكان ذلك بمنزلة الإجماع.
والمعنى ما بينا أن الواجب هو التعظيم لله
تعالى: عند قراءة آية السجدة وقد وجد التعظيم
وهذا؛ لأن الخضوع لله والتعظيم له بالركوع
ليسا بأدون من الخضوع والتعظيم له بالسجود،
ولا حاجة هنا إلى السجود لعينه بل الحاجة إلى
تعظيم الله تعالى: مخالفة لمن استكبر عن
تعظيمه أو اقتداء بمن خضع له وأذعن لربوبيته
واعترف على نفسه بالعبودية وقد حصلت هذه
المعاني بالركوع حسب حصولها بالسجود. وهذا
المعنى يقتضي أنه لو ركع خارج الصلاة مكان
السجود أن يكون جائزا غير أنه لم يجز لا لمكان
أن الركوع أدون من السجود ولكن؛ لأن الركوع لم
يجعل عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى: إذ
انفرد عن تحريمة الصلاة، والسجود جعل عبادة
بدون تحريمة الصلاة ثبت ذلك شرعا غير معقول
المعنى، فإذا لم توجد تحريمة الصلاة لم يكن
الركوع مما يتقرب به إلى الله تعالى: فلا
يتأدى به التعظيم والخضوع لله اللذان وجبا
بالتلاوة، بخلاف السجدة وبخلاف ما إذا ركع
مكان السجدة الصلبية؛ لأن الواجب هناك عين
السجدة مقصودة بنفسها فلا يقوم غيرها من حيث
الصورة مقامها، وبيان هذا أن الصلاة عبادة
اشتملت على أفعال مختلفة شكرا لما أنعم الله
عليه من التقلب في الأحوال المختلفة بهذه
الأعضاء اللينة والمفاصل السليمة. وبالركوع لا
يحصل شكر حالة السجود فيتعلق ذلك بعين السجود
لا بما يوازيه في كونه تعظيما لله تعالى: أما
ههنا فبخلافه وبخلاف ما إذا لم يركع عقيب
التلاوة ولم يسجد حتى طالت القراءة ثم ركع
ونوى الركوع عن السجدة حيث لم يجز؛ لأنها تجب
في الصلاة مضيقا؛ لأنها لوجوبها بما هو من
أفعال الصلاة التحقت بأفعال الصلاة ولهذا يجب
أداؤها في الصلاة ولا يوجب حصولها فيها نقصانا
ما فيها، وتحصيل ما ليس من الصلاة فيها إن لم
يوجب فسادها يوجب نقصا، ولهذا لا تؤدى بعد
الفراغ من الصلاة لو ترك أداءها في الصلاة؛
لأنها صارت جزءا من أجزاء الصلاة لما بينا فلا
يتصور أداؤها لا بتحريمة الصلاة كسائر أفعال
الصلاة ومبنى أفعال الصلاة أن يؤدى كل فعل
منها في محله المخصوص فكذا هذه وإذا لم تؤد في
محلها حتى فات صار دينا، والدين يقضى بما له
لا بما عليه، والركوع والسجود عليه فلا يتأدى
به الدين بخلاف ما إذا لم يصر دينا بعد؛ لأن
الحاجة هناك إلى التعظيم والخضوع وقد وجد
فيكتفى بذلك كداخل المسجد إذا اشتغل بالفرض
ناب ذلك مناب تحية المسجد لحصول تعظيم المسجد،
والمعتكف في رمضان إذا صام عن رمضان وكان أوجب
اعتكاف شهر رمضان على نفسه كان ذلك كافيا عن
صوم هو شرط الاعتكاف، وبمثله لو أوجب على نفسه
اعتكاف شعبان فلم يعتكف حتى دخل رمضان فاعتكف
لا ينوب ذلك عما وجب عليه من الصوم الذي هو
شرط صحة الاعتكاف؛ لأن ذلك صار دينا عليه حقا
لله تعالى: بمضي الوقت، والدين يؤدى بما هو له
لمن هو عليه لا بما عليه فكذا هذا. وهذا بخلاف
ما إذا نذر أن يصلي ركعتين يوم الجمعة فلم يصل
حتى مضى يوم الجمعة ثم أداها بوضوء حصل بقصد
التبرد حيث يجوز، ولا يقال: أن الوضوء الذي هو
شرط صحة هذه العبادة وجب عليه بوجوب العبادة
ثم بالفوات عن الوقت المعين صار دينا عليه،
والدين يؤدى بما له لا بما عليه أو فاتته
فريضة عن وقتها فأداها بوضوء حصل للتبرد أو
للتعليم جاز؛ لأن هناك الوضوء شرط الأهلية
وليس هو مما يتقرب به إلى الله تعالى: فلم يصر
بفواته عن محله حقا لله تعالى: بل بقي في نفسه
غير عبادة فيجب تحصيله لضرورة حصول الأهلية
لأداء ما عليه وقد حصل بأي طريق كان فأما
السجدة والصوم فكل واحد منهما مما يتقرب به
إلى الله تعالى: فإذا فاتا عن المحل ووجبا
صارا حقين لله تعالى:، فلا يجوز أداؤهما بما
عليه. وهذا بخلاف ما إذا فاتت السجدة عن محلها
في الصلاة وصارت بمحل القضاء فركع ينوي به
قضاء السجدة الفائتة أنه لم يجز وإن حصل
الركوع في تحريمة الصلاة وهو فيها مما يتقرب
به إلى الله تعالى: ويحصل بذلك التعظيم لله
تعالى: والواجب عليه هذا القدر وذلك؛ لأن
الركوع لم يعرف قربة في الشريعة في غير محله
المخصوص فما أمكننا جعله قربة فلم يحصل به
التعظيم بخلاف السجدة فإنها عرفت قربة في غير
محلها الذي تكون فيه ولهذا ينجبر بها النقص
المتمكن في الصلاة بطريق السهو ولا ينجبر
ج / 1 ص -191-
بالركوع ثم إذا ركع قبل أن يطول القراءة هل
تشترط النية لقيام الركوع مقام سجدة التلاوة ؟
فقياس ما ذكرنا من النكتة يوجب أن لا يحتاج
إلى النية؛ لأن الحاجة إلى تحصيل الخضوع
والتعظيم في هذه الحالة وقد وجدا نوى أو لم
ينو كالمعتكف في رمضان إذا لم ينو بصيامه عن
الاعتكاف والذي دخل المسجد إذا اشتغل بالفرض
غير ناو أن يقوم مقام تحية المسجد. ومن
مشايخنا من قال: يحتاج ههنا إلى النية، ويدعي
أن محمدا أشار إليه فإنه قال: إذا تذكر سجدة
تلاوة في الركوع يخر ساجدا فيسجد كما تذكر، ثم
يقوم فيعود إلى الركوع ولم يفصل بين أن يكون
الركوع الذي تذكر فيه التلاوة كان عقيب
التلاوة بلا فصل أو تخلل بينهما فاصل ولو كان
الركوع مما ينوب عن السجدة من غير نية لكان لا
يأمره بأن يسجد للتلاوة بل قام نفس الركوع
مقام التلاوة ولكنا نقول ليس في هذه المسألة
كثير إشارة؛ لأن المسألة موضوعة فيما إذا تخلل
بين التلاوة والركوع ما يوجب صيرورة السجدة
دينا؛ لأنه قال: تذكر سجدة والتذكر إنما يكون
بعد النسيان والنسيان لسجدة التلاوة عند عدم
تخلل شيء بين التلاوة والركوع ممتنع أو نادر
غاية الندرة بحيث لا ينبني عليه حكم ثم يحتاج
هذا القائل إلى الفرق بين هذا وبين المعتكف في
رمضان حيث لا يحتاج إلى أن ينوي كون صومه شرطا
للاعتكاف لحصول ما هو المقصود وكذا الذي دخل
المسجد وأدى الفرض كما دخل فاشتغل بالفرق
بينهما فقال: الواجب الأصلي ههنا هو السجود
إلا أن الركوع أقيم مقامه من حيث المعنى
وبينهما من حيث الصورة فرق فلموافقة المعنى
تتأدى السجدة بالركوع إذا نوى ولمخالفة الصورة
لا تتأدى إذا لم ينو بخلاف صوم الشهر، فإن
بينه وبين صوم الاعتكاف موافقة من جميع
الوجوه، وكذا في الصلاة ولكن هذا غير سديد؛
لأن المخالفة من حيث الصورة إن كان لها عبرة
فلا يتأدى الواجب به وإن نوى فإن من نوى إقامة
غير ما وجب عليه مقام ما وجب لا يقوم إذا كان
بينهما تفاوت، وإن لم يكن لها عبرة فلا يحتاج
إلى النية كما في الصوم والصلاة. وعذر الصوم
ليس بمستقيم؛ لأن بين الصومين مخالفة من حيث
سبب الوجوب فكانا جنسين مختلفين ولهذا قال هذا
القائل: إنه لو لم ينو بالركوع أن يكون قائما
مقام سجدة التلاوة ولم يقم يحتاج في السجدة
الصلبية إلى أن ينوي أيضا؛ لأن بينهما مخالفة
لاختلاف سببي وجوبهما فدل أنه ليس بمستقيم.
وذكر القاضي الإمام الإسبيجابي في شرحه مختصر
الطحاوي أنه إذا أراد أن يركع يحتاج إلى
النية، ولو لم يوجد منه النية عند الركوع لا
يجزئه. ولو نوى في الركوع اختلف المشايخ فيه،
قال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز ولو نوى
بعدما رفع رأسه من الركوع لا يجوز بالإجماع
هذا الذي ذكرنا في قيام الركوع مقام السجود
فيما إذا لم تطل القراءة بين آية السجدة وبين
الركوع فأما إذا طال فقد فاتت السجدة وصارت
دينا فلا يقوم الركوع مقامها، وأكثر مشايخنا
لم يقدروا في ذلك تقديرا فكان الظاهر أنهم
فوضوا ذلك إلى رأي المجتهد كما فعلوا في كثير
من المواضع وبعض مشايخنا قالوا: إن قرأ آية أو
آيتين لم تطل القراءة، وإن قرأ ثلاث آيات طالت
وصارت السجدة بمحل القضاء ثم إنه ناقض فإنه
قال: لو لم ينو بالركوع أن يقوم مقام التلاوة
ونوى بالسجدة الصلبية قام. ولا شك أن مدة أداء
الركوع ورفع الرأس من الركوع والانحطاط إلى
السجود يكون مثل مدة قراءة ثلاث آيات، وكذا إن
كانت تلك قراءة معتبرة فالركوع ركن معتبر،
والأوجه أن يفوض ذلك إلى رأي المجتهد، أو
يعتبر ما يعد طويلا على أن جعل ثلاث آيات
قاطعة للفور، وإدخالها في حد الطول خلاف
الرواية فإن محمدا ذكر في كتاب الصلاة قلت:
أرأيت الرجل يقرأ السجدة وهو في الصلاة
والسجدة في آخر السورة إلا آيات بقيت من
السورة بعد آية السجدة قال: هو بالخيار إن شاء
ركع بها، وإن شاء سجد بها قلت: فإن أراد أن
يركع بها ختم السورة ثم ركع بها قال: نعم قلت:
فإن أراد أن يسجد بها عند الفراغ من السجدة ثم
يقوم فيتلو ما بعدها من السورة وهو آيتان أو
ثلاث ثم يركع قال: نعم إن شاء وإن شاء وصل
إليها سورة أخرى. وهذا نص على أن ثلاث آيات
ليست بقاطعة للفور ولا بمدخلة للسجدة في حيز
القضاء.
"فصل": وأما بيان وقت أدائها فما وجب أداؤها خارج الصلاة فوقتها جميع
العمر؛ لأن وجوبها على التراخي على ما مر.
وأما ما وجب أداؤها في الصلاة فوقتها فور
الصلاة؛ لما مر أن وجوبها في الصلاة على الفور
وهو أن
ج / 1 ص -192-
لا
تطول المدة بين التلاوة وبين السجدة، فأما إذا
طالت فقد دخلت في حيز القضاء وصار آثما
بالتفويت عن الوقت، ثم الأمر في مقدار الطول
على ما ذكرنا من اختلاف المشايخ.
"فصل": وأما سنن السجود فمنها، أن يكبر عند السجود وعند رفع الرأس من
السجود، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يكبر
عند الانحطاط وهي رواية عن أبي يوسف؛ لأن
التكبير للانتقال من الركن ولم يوجد ذلك عند
الانحطاط ووجد عند الرفع والصحيح ظاهر الرواية
لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال للتالي:
إذا قرأت سجدة فكبر واسجد وإذا رفعت رأسك
فكبر، ولو ترك التحريمة يجوز عندنا، وقال
الشافعي: "لا يجوز"؛ لأن هذا ركن من أركان
الصلاة فلا يتأدى بدون التحريمة كالقيام في
صلاة الجنازة ألا ترى أنه يشترط له جميع شرائط
الصلاة من ستر العورة، واستقبال القبلة ؟
ويفسدها الكلام عند محمد، وحرمة ما وراءها من
الأفعال أن يكون بدون التحريمة. "ولنا" أن
الأمر تعلق بمطلق السجود فلو أوجبنا شيئا آخر
لزدنا على النص ولأن السجود وجب تعظيما لله
تعالى وخضوعا له، وترك التحريمة ليس بمناف
للتعظيم. وأما انكشاف العورة، واستدبار
القبلة، والتكلم بما هو من كلام الناس فينافي
التعظيم والخشوع. وحرمة الكلام ممنوعة بل لا
يعتد بالسجود مع الكلام لانعدام ما هو
المقصود؛ ولأن السجود فعل واحد والتحريمة تجعل
الأفعال المختلفة عبادة واحدة وههنا الفعل
واحد فلا حاجة إلى التحريمة بخلاف صلاة
الجنازة؛ لأن هناك كل تكبيرة بمنزلة ركعة على
ما يعرف هناك إن شاء الله تعالى. ومنها أن
يقول في هذه السجدة من التسبيح ما يقول في
سجدة الصلاة فيقول: سبحان ربي الأعلى ثلاثا،
وذلك أدناه. وبعض المتأخرين استحبوا أن يقول
فيها سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا؛
لقوله تعالى:
{يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ
سُبْحَانَ رَبِّنَا} الآية، واستحبوا أيضا أن يقوم فيسجد؛ لأن الخرور سقوط من القيام،
والقرآن ورد به. وإن لم يفعل لم يضره. ومنها
أن الرجل إذا قرأ آية السجدة ومعه قوم فسمعوها
فالسنة أن يسجدوا معه لا يسبقونه بالوضع ولا
بالرفع؛ لأن التالي إمام السامعين؛ لما روي عن
عمر رضي الله عنه أنه قال للتالي: كنت إمامنا
لو سجدت لسجدنا معك وإن فعلوا أجزأهم؛ لأنه لا
مشاركة بينه وبينهم في الحقيقة ألا ترى أنه لو
فسدت سجدته بسبب لا يتعدى إليهم ولا تشهد في
هذه السجدة وكذا لا تسليم فيها؛ لأن التسليم
تحليل ولا تحريمة لها عندنا فلا يعقل التحليل،
وعلى قياس مذهب الشافعي يسلم للخروج عن
التحريمة ويكره للرجل ترك آية السجدة من سورة
يقرؤها؛ لأنه قطع لنظم القرآن وتغيير لتأليفه
واتباع النظم والتأليف مأمور به قال الله
تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي تأليفه فكان التغيير مكروها، ولأنه في صورة الفرار عن وجوب
العبادة والإعراض عن تحصيلها بالفعل وذلك
مكروه وكذا فيه صورة هجر آية السجدة وليس شيء
من القرآن مهجورا، ولو قرأ آية السجدة من بين
السورة لم يضره ذلك؛ لأنها من القرآن وقراءة
ما هو من القرآن طاعة كقراءة سورة من بين
السور والمستحب أن يقرأ معها آيات لتكون أدل
على مراد الآية وليحصل بحق القراءة لا بحق
إيجاب السجدة إذ القراءة للسجود ليست بمستحبة
فيقرأ معها آيات ليكون قصده إلى التلاوة لا
إلى إلزام السجود. ولو قرأ آية السجدة وعنده
ناس فإن كانوا متوضئين متهيئين للسجدة قرأها
فإن كانوا غير متهيئين ينبغي أن يخفض قراءتها؛
لأنه لو جهر بها لصار موجبا عليهم شيئا بما
يتكاسلون عن أدائه فيقعون في المعصية ويكره
للإمام أن يتلو آية السجدة في صلاة يخافت فيها
بالقراءة، وعند الشافعي لا يكره، واحتج بما
روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال "سجد بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي
العشاء إما الظهر وإما العصر حتى ظننا أنه قرأ
الم السجدة ولو كان مكروها لما فعله النبي صلى
الله عليه وسلم. "ولنا" إن هذا لا ينفك عن أمر
مكروه؛ لأنه إذا تلا ولم يسجد فقد ترك الواجب،
وإن سجد فقد لبس على القوم؛ لأنهم يظنون أنه
سها عن الركوع واشتغل بالسجدة الصلبية فيسبحون
ولا يتابعونه وذا مكروه، وما لا ينفك عن مكروه
كان مكروها. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم
محمول على بيان الجواز فلم يكن مكروها وإن
تلاها مع ذلك سجد بها لتقر والسبب في حقه وهو
التلاوة وسجد القوم معه لوجوب المتابعة عليهم
ألا ترى أنه سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسجد القوم معه ؟ ولو
ج / 1 ص -193-
تلاها
الإمام على المنبر يوم الجمعة سجدها وسجد معه
من سمعها؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم " أنه تلا سجدة على المنبر فنزل وسجد
وسجد الناس معه"، وفيه دليل على أن السامع
يتبع التالي في السجدة.
"فصل": وأما بيان مواضع السجدة في القرآن فنقول: إنها في أربعة عشر موضعا
من القرآن، أربع في النصف الأول في آخر
الأعراف، وفي الرعد، وفي النحل، وفي بني
إسرائيل، وعشر في النصف الآخر في مريم، وفي
الحج في الأولى، وفي الفرقان، وفي النمل، وفي
الم تنزيل السجدة، وفي "ص" وفي حم السجدة، وفي
النجم، وفي إذا السماء انشقت، وفي اقرأ. وقد
اختلف العلماء في ثلاثة مواضع منها: أحدها، أن
في سورة الحج عندنا سجدة واحدة وعند الشافعي
سجدتان إحداهما في قوله تعالى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}، واحتج بما روي عن عقبة بن عامر الجهني أنه قال: سئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم " أفي سورة الحج سجدتان ؟
قال: "نعم"،
أو قال:
"فضلت الحج بسجدتين من لم يسجدهما لم يقرأها". وهكذا روي عن عمر وعلي وابن عمر وأبي الدرداء رضي الله عنهم أنهم
قالوا: "فضلت سورة الحج بسجدتين". ولنا ما روي
عن أبي رضي الله عنه أنه " عد السجدات التي
سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد في
الحج سجدة واحدة"، وقال عبد الله بن عباس،
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: "سجدة
التلاوة في الحج هي الأولى والثانية سجدة
الصلاة"، وهو تأويل الحديث وهذا؛ لأن السجدة
متى قرنت بالركوع كانت عبارة عن سجدة الصلاة
كما في قوله تعالى:
{وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي}، والثاني أن في سورة "ص" عندنا سجدة التلاوة وعند الشافعي سجدة
الشكر. وفائدة الخلاف أنه لو تلاها في الصلاة
سجد عندنا، وعنده لا يسجدها واحتج بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه " قرأ آية
السجدة في ص وسجدها ثم قال: سجدها داود توبة
ونحن نسجدها شكرا". وروي عن أبي سعيد الخدري
أنه قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المنبر سورة ص فنزل وسجد وسجد الناس معه،
فلما كان في الجمعة الثانية قرأها فتشوف الناس
للسجود فنزل وسجد وسجد الناس معه وقال:"لم أرد
أن أسجدها فإنها توبة نبي من الأنبياء وإنما
سجدت؛ لأني رأيتكم تشوفتم للسجود". "ولنا"
حديث عثمان رضي الله عنه أنه قرأ في الصلاة
سورة "ص" وسجد الناس معه وكان ذلك بمحضر من
الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد، ولو
لم تكن واجبة لما جاز إدخالها في الصلاة. وروي
أن رجلا من الصحابة قال: "يا رسول الله رأيت
كما يرى النائم كأني أكتب سورة ص فلما انتهيت
إلى موضع السجدة سجدت الدواة والقلم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم
"نحن أحق
بها من الدواة والقلم"
فأمر حتى
تليت في مجلسه وسجدها مع أصحابه". وما تعلق به
الشافعي فهو دليلنا فإنا نقول نحن نسجد ذلك
شكرا لما أنعم الله على داود بالغفران والوعد
بالزلفى وحسن المآب، ولهذا لا يسجد عندنا عقيب
قوله " وأناب " بل عقيب قوله " مآب "، وهذه
نعمة عظيمة في حقنا فإنه يطمعنا في إقالة
عثراتنا وغفران خطايانا وزلاتنا فكانت سجدة
تلاوة؛ لأن سجدة التلاوة ما كان سببها
التلاوة، وسبب وجوب هذه السجدة تلاوة هذه
الآية التي فيها الإخبار عن هذه النعم على
داود عليه الصلاة والسلام وأطماعنا في نيل
مثله. وكذا سجدة النبي صلى الله عليه وسلم في
الجمعة الأولى وترك الخطبة لأجلها يدل على
أنها سجدة تلاوة، وتركه في الجمعة الثانية لا
يدل على أنها ليست بسجدة تلاوة بل كان يريد
التأخير. وهي عندنا لا تجب على الفور فكان
يريد أن لا يسجدها على الفور، والثالث أن في
المفصل عندنا ثلاث سجدات، وعند مالك لا سجدة
في المفصل واحتج بما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يسجد
في المفصل بعدما هاجر إلى المدينة". "ولنا" ما
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال:
"أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس
عشرة سجدة، ثلاث منها في المفصل"، وعن علي رضي
الله عنه أنه قال: "عزائم السجود في القرآن
أربعة: الم تنزيل السجدة، وحم السجدة، والنجم،
واقرأ باسم ربك"، وعن ابن مسعود قال: "رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم " قرأ سورة
النجم بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون
إلا شيخا وضع كفا من تراب على جبهته وقال هذا
يكفيني فلقيته قتل كافرا". وعن أبي هريرة رضي
الله عنه أن "النبي صلى الله عليه وسلم قرأ
إذا السماء انشقت فسجد وسجد معه أصحابه"؛
ولأنه أمر بالسجود في سورة النجم، واقرأ باسم
ربك والأمر للوجوب وحديث ابن عباس رضي الله
عنهما
ج / 1 ص -194-
محمول
على أنه كان لا يسجدها عقيب التلاوة كما كان
يسجد من قبل نحمله على هذا بدليل ما روينا، ثم
في سورة حم السجدة، عندنا السجدة عند قوله {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} وهو مذهب عبد الله بن عباس ووائل بن حجر، وعند الشافعي عند قوله:
{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وهو مذهب علي رضي الله عنه واحتج بما روي عن ابن مسعود وابن عمر
رضي الله عنهما هكذا، ولأن الأمر بالسجود ههنا
فكان السجود عنده. "ولنا" أن السجود مرة
بالأمر، ومرة بذكر استكبار الكفار فيجب علينا
مخالفتهم، ومرة عند ذكر خشوع المطيعين فيجب
علينا متابعتهم وهذه المعاني تتم عند قوله
{وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} فكان السجود عنده أولى ولأن فيما ذهب إليه أصحابنا أخذا بالاحتياط
عند اختلاف مذاهب الصحابة رضي الله عنهم فإن
السجدة لو وجبت عند قوله:
{تَعْبُدُونَ}
فالتأخير إلى قوله
{لا يَسْأَمُونَ} لا
يضر ويخرج عن الواجب. ولو وجبت عند قوله
{لا يَسْأَمُونَ} لكانت
السجدة المؤداة قبله حاصلة قبل وجوبها ووجود
سبب وجوبها فيوجب نقصانا في الصلاة ولم يؤد
الثانية فيصير المصلي تاركا ما هو واجب في
الصلاة، فيصير النقص متمكنا في الصلاة من
وجهين ولا نقص فيما قلنا ألبتة وهذا هو أمارة
التبحر في الفقه والله الموفق.
"فصل": وأما الذي هو عند الخروج من الصلاة فلفظ السلام عندنا، وعند مالك
والشافعي فرض والكلام في التسليم يقع في مواضع
في بيان صفته أنه فرض أم لا، وفي بيان قدره،
وفي بيان كيفيته، وفي بيان سننه، وفي بيان
حكمه. أما صفته فإصابة لفظة السلام ليست بفرض
عندنا ولكنها واجبة، ومن المشايخ من أطلق اسم
السنة عليها وأنها لا تنافي الوجوب لما عرف،
وعند مالك والشافعي فرض حتى لو تركها عامدا
كان مسيئا. ولو تركها ساهيا يلزمه سجود لسهو
عندنا، وعندهما لو تركها تفسد صلاته، احتجا
بقوله صلى الله عليه وسلم وتحليلها التسليم،
خص التسليم بكونه محللا فدل أن التحليل
بالتسليم على التعيين فلا يتحلل بدونه؛ ولأن
الصلاة عبادة لها تحليل وتحريم فيكون التحليل
فيها ركنا قياسا على الطواف في الحج. "ولنا"
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لابن مسعود حين علمه التشهد "إذا قلت هذا أو
فعلت هذا فقد قضيت ما عليك إن شئت أن تقوم فقم
وإن شئت أن تقعد فاقعد" والاستدلال به من
وجهين: أحدهما، أنه جعله قاضيا ما عليه عند
هذا الفعل أو القول وما للعموم فيما لا يعلم
فيقضي أن يكون قاضيا جميع ما عليه. ولو كان
التسليم فرضا لم يكن قاضيا جميع ما عليه
بدونه؛ لأن التسليم يبقى عليه، والثاني أنه
خيره بين القيام والقعود من غير شرط لفظ
التسليم ولو كان فرضا ما خيره؛ ولأن ركن
الصلاة ما تتأدى به الصلاة، والسلام خروج عن
الصلاة وترك لها؛ لأنه كلام وخطاب لغيره فكان
منافيا للصلاة فكيف يكون ركنا لها ؟. وأما
الحديث فليس فيه نفي التحليل بغير التسليم إلا
أنه خص التسليم لكونه واجبا، والاعتبار
بالطواف غير سديد؛ لأن الطواف ليس بمحلل إنما
المحلل هو الحلق إلا أنه توقف بالإحلال على
الطواف فإذا طاف حل بالحلق لا بالطواف، والحلق
ليس بركن فنزل السلام في باب الصلاة منزلة
الحلق في باب الحج وينبني على هذا أن السلام
ليس من الصلاة عندنا، وعند الشافعي التسليمة
الأولى من الصلاة والصحيح قولنا؛ لما بينا.
وأما" الكلام في قدره فهو أنه يسلم تسليمتين،
إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره عند عامة
العلماء، وقال بعضهم: "يسلم تسليمة واحدة
تلقاء وجهه"، وهو قول مالك، وقيل: هو قول
الشافعي، وقال بعضهم: "يسلم تسليمة واحدة عن
يمينه"، وقال مالك في قول: "يسلم المقتدي
تسليمتين ثم يسلم تسليمة ثالثة ينوي بها رد
السلام على الإمام"، واحتجوا بما روي عن عائشة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسلم تسليمة تلقاء وجهه. وروي عن سهل بن
سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسلم تسليمة عن يمينه ولأن التسليم شرع
للتحليل وأنه يقع بالواحدة فلا معنى للثانية.
"ولنا" ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
"صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكانوا يسلمون
تسليمتين عن أيمانهم وعن شمائلهم". وروي عن
علي أنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسلم تسليمتين أولهما أرفعهما"، ولأن
إحدى التسليمتين للخروج عن الصلاة والثانية
للتسوية بين القوم في التحية. وأما الأحاديث
فالأخذ بما روينا أولى لأن عليا وابن مسعود
كانا من كبار الصحابة وكانا يقومان بقربه صلى
الله عليه وسلم كما قال: "ليليني منكم أولوا
الأحلام والنهى" فكانا أعرف بحال
ج / 1 ص -195-
النبي
صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها كانت
تقوم في حيز صفوف النساء وهو آخر الصفوف، وسهل
بن سعد كان من الصغار وكان في أخريات الصفوف
وكانا يسمعان التسليمة الأولى لرفعه صلى الله
عليه وسلم بها صوته ولا يسمعان الثانية لخفضه
بها صوته"، وقولهم التحليل يحصل بالأولى فكذلك
ولكن الثانية ليست للتحليل بل للتسوية بين
القوم في التسليم عليهم والتحية، وبه تبين أنه
لا حاجة إلى التسليمة الثالثة؛ لأنه لا يحصل
بها التحليل ولا التسوية بين القوم، والتحية
ورد السلام على الإمام يحصل بالتسليمتين، إليه
أشار أبو حنيفة حين سأله أبو يوسف هل يرد على
الإمام السلام من خلفه فيقول وعليك ؟ قال:
"لا". وتسليمهم رد عليه ولأن التسليمة الثالثة
لو كانت ثابتة لفعلها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولعلمها الأمة فعلا كما فعلوا
التسليمتين.
وأما" كيفية التسليم فهو أن يقول: "السلام
عليكم ورحمة الله". وهذا قول عامة العلماء،
وقال مالك يقول: "السلام عليكم ولا يزيد عليه"
والصحيح قول العامة لما روي عن ابن مسعود
وعمار وعتبة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه كان يقول هكذا.
وأما" سنن التسليم فنذكرها في باب سنن هذه
الصلوات. "وأما" حكمه فهو الخروج من الصلاة،
ثم الخروج يتعلق بإحدى التسليمتين عند عامة
العلماء. وروي عن محمد أنه قال: "التسليمة
الأولى للخروج والتحية، والتسليمة الثانية
للتحية خاصة"، وقال بعضهم: "لا يخرج ما لم
يوجد التسليمتين جميعا" وهو خلاف إجماع السلف،
ولأن التسليم تكليم القوم؛ لأنه خطاب لهم فكان
منافيا للصلاة ألا ترى أنه لو وجد في وسط
الصلاة يخرجه عن الصلاة ؟.
"فصل": وأما الذي هو في حرمة الصلاة بعد الخروج منها، فالتكبير في أيام
التشريق فيه يقع في مواضع، في تفسيره، وفي
وجوبه، وفي وقته، وفي محل أدائه، وفيمن يجب
عليه، وفي أنه هل يقضى بعد الفوات في الصلاة
التي دخلت في حد القضاء ؟. "أما" الأول فقد
اختلفت الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم في
تفسير التكبير، روي الله أكبر الله أكبر لا
إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله
الحمد وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما،
وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر الله
أكبر وأجل، الله أكبر ولله الحمد، وبه أخذ
الشافعي. وكان ابن عباس يقول: "الله أكبر الله
أكبر لا إله إلا الله الحي القيوم يحيي ويميت
وهو على كل شيء قدير"، وإنما أخذنا بقول علي
وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأنه المشهور
والمتوارث من الأمة؛ ولأنه أجمع لاشتماله على
التكبير والتهليل والتحميد فكان أولى.
"فصل": "وأما" بيان وجوبه فالصحيح أنه واجب، وقد سماه الكرخي سنة ثم فسره
بالواجب فقال: "تكبير التشريق سنة ماضية نقلها
أهل العلم وأجمعوا على العمل بها"، وإطلاق اسم
السنة على الواجب جائز؛ لأن السنة عبارة عن
الطريقة المرضية أو السيرة الحسنة، وكل واجب
هذه صفته، ودليل الوجوب قوله تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، وقوله
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}
إلى قوله
{فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قيل: "الأيام المعدودات أيام التشريق، والمعلومات أيام العشر،
وقيل: كلاهما أيام التشريق، وقيل: المعلومات
يوم النحر ويومان بعده، والمعدودات أيام
التشريق؛ لأنه أمر في الأيام المعدودات بالذكر
مطلقا، وذكر في الأيام المعلومات الذكر على ما
رزقهم من بهيمة الأنعام، وهي الذبائح وأيام
الذبائح يوم النحر ويومان بعده ومطلق الأمر
للوجوب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "ما من أيام أحب إلى الله تعالى العمل
فيهن من هذه الأيام فأكثروا فيها من التكبير
والتهليل والتسبيح".
ج / 1 ص -196-
الظهر
من آخر أيام التشريق، وقال ابن عمر: يختم عند
الفجر من آخر أيام التشريق، وبه أخذ الشافعي.
"أما" الكلام في البداية فوجه رواية أبي يوسف
قول الله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أمر بالذكر عقيب قضاء المناسك، وقضاء المناسك إنما يقع في وقت
الضحوة من يوم النحر فاقتضى وجوب التكبير في
الصلاة التي تليه وهي الظهر. وجه ظاهر الرواية
قوله تعالى:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ} وهي أيام العشر فكان ينبغي أن يكون التكبير في جميعها واجبا إلا أن
ما قبل يوم عرفة خص بإجماع الصحابة ولا إجماع
في يوم عرفة والأضحى فوجب التكبير فيهما عملا
بعموم النص؛ ولأن التكبير لتعظيم الوقت الذي
شرع فيه المناسك، وأوله يوم عرفة إذ فيه يقام
معظم أركان الحج وهو الوقوف، ولهذا قال مكحول:
"يبدأ بالتكبير من صلاة الظهر من يوم عرفة"؛
لأن وقت الوقوف بعد الزوال ولا حجة له في
الآية؛ لأنها ساكتة عن الذكر قبل قضاء المناسك
فلا يصح التعلق بها. "وأما" الكلام في الختم
فالشافعي مر على أصله من الأخذ بقول الأحداث
من الصحابة رضي الله عنهم لوقوفهم على ما
استقر من الشرائع دون ما نسخ خصوصا في موضع
الاحتياط لكون رفع الصوت بالتكبير بدعة إلا في
موضع ثبت بالشرع، وأبو يوسف ومحمد احتجا بقوله
تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ} وهي أيام التشريق فكان التكبير فيها واجبا؛ ولأن التكبير شرع
لتعظيم أمر المناسك، وأمر المناسك إنما ينتهي
بالرمي فيمتد بالتكبير إلى آخر وقت الرمي؛
ولأن الأخذ بالأكثر من باب الاحتياط؛ لأن
الصحابة اختلفوا في هذا، ولأن يأتي بما ليس
عليه أولى من أن يترك ما عليه بخلاف تكبيرات
العيد حيث لم نأخذ هناك بالأكثر؛ لأن الأخذ
بالاحتياط عند تعارض الأدلة وهناك ترجح قول
ابن مسعود لما نذكر في موضعه والأخذ بالراجح
أولى، وههنا لا رجحان بل استوت مذاهب الصحابة
رضي الله عنهم في الثبوت وفي الرواية عن النبي
صلى الله عليه وسلم فيجب الأخذ بالاحتياط
ولأبي حنيفة أن رفع الصوت بالتكبير بدعة في
الأصل؛ لأنه ذكر والسنة في الأذكار المخافتة؛
لقوله تعالى:
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير الدعاء الخفي" ولذا هو أقرب
إلى التضرع والأدب وأبعد عن الرياء فلا يترك
هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص جاء
المخصص للتكبير من يوم عرفة إلى صلاة العصر من
يوم النحر، وهو قوله تعالى:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ} وهي عشر ذي الحجة. والعمل بالكتاب واجب إلا فيما خص بالإجماع
وانعقد الإجماع فيما قبل يوم عرفة أنه ليس
بمراد ولا إجماع في يوم عرفة ويوم النحر فوجب
العمل بظاهر الكتاب عند وقوع الشك في الخصوص.
وأما فيما وراء العصر من يوم النحر فلا تخصيص
لاختلاف الصحابة وتردد التكبير بين السنة
والبدعة فوقع الشك في دليل التخصيص فلا يترك
العمل بدليل عموم قوله تعالى:
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}. وبه تبين أن الاحتياط في الترك لا في الإتيان؛ لأن ترك السنة أولى
من إتيان البدعة. وأما قولهم إن أمر المناسك
إنما ينتهي بالرمي فنقول ركن الحج، الوقوف
بعرفة، وطواف الزيارة، وإنما يحصلان في هذين
اليومين فأما الرمي فمن توابع الحج فيعتبر في
التكبير وقت الركن لا وقت التوابع. وأما الآية
فقد اختلف أهل التأويل فيها قال بعضهم:
"المراد من الآية الذكر على الأضاحي"، وقال
بعضهم: "المراد منها الذكر عند رمي الجمار"
دليله قوله تعالى:
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} والتعجل والتأخير إنما يقعان في رمي الجمار لا في التكبير.
"فصل": وأما محل أدائه، فدبر الصلاة، وإثرها، وفورها من غير أن يتخلل ما
يقطع حرمة الصلاة حتى لو قهقه أو أحدث متعمدا
أو تكلم عامدا أو ساهيا أو خرج من المسجد أو
جاوز الصفوف في الصحراء لا يكبر؛ لأن التكبير
من خصائص الصلاة حيث لا يؤتى به إلا عقيب
الصلاة فيراعى لإتيانه حرمة الصلاة، وهذه
العوارض تقطع حرمة الصلاة فيقطع التكبير. ولو
صرف وجهه عن القبلة ولم يخرج من المسجد ولم
يجاوز الصفوف أو سبقه الحدث يكبر؛ لأن حرمة
الصلاة باقية لبقاء التحريمة ألا ترى أنه يبنى
؟ والأصل أن كل ما يقطع البناء يقطع التكبير
وما لا فلا، وإذا سبقه الحدث فإن شاء ذهب
فتوضأ ورجع فكبر وإن شاء كبر من غير تطهير؛
لأنه لا يؤدي في تحريمة الصلاة فلا تشترط له
الطهارة قال الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله
تعالى: "والأصح عندي أنه يكبر ولا يخرج من
المسجد
ج / 1 ص -197-
للطهارة"؛ لأن التكبير لما لم يفتقر إلى
الطهارة كان خروجه مع عدم الحاجة قاطعا لفور
الصلاة فلا يمكنه التكبير بعد ذلك فيكبر للحال
جزما. ولو نسي الإمام التكبير فللقوم أن
يكبروا وقد ابتلي به أبو يوسف رحمه الله تعالى
ذكر في الجامع الصغير قال أبو يعقوب: "صليت
بهم المغرب فقمت وسهوت أن كبر فكبر أبو حنيفة
رحمه الله تعالى: وفرق بين هذا وبين سجدتي
السهو إذا سلم الإمام وعليه سهو فلم يسجد
لسهوه ليس للقوم أن يسجدوا حتى لو قام وخرج من
المسجد أو تكلم سقط عنه وعنهم، والفرق أن سجود
السهو جزء من أجزاء الصلاة؛ لأنه قائم مقام
الجزء الفائت من الصلاة، والجابر يكون بمحل
النقص ولهذا يؤدي في تحريمة الصلاة بالإجماع،
إما؛ لأنه لم يخرج أو؛ لأنه عاد وشيء من
الصلاة لا يؤدى بعد انقطاع التحريمة ولا
تحريمة بعد قيام الإمام فلا يتأتى به المقتدي
فأما التكبير فليس من أجزاء الصلاة فيشترط له
التحريمة ويوجب المتابعة؛ لأنه يؤتى به بعد
التحلل فلا يجب فيه متابعة الإمام غير أنه إن
أتى به الإمام يتبعه في ذلك؛ لأنه يؤتى به
عقيب الصلاة متصلا بها فيندب إلى اتباع من كان
متبوعا في الصلاة، فإذا لم يأت به الإمام أتى
به القوم لانعدام المتابعة بانقطاع التحريمة
كالسامع مع التالي أي: إن سجد التالي يسجد معه
السامع، وإن لم يسجد التالي يأتي به السامع
كذا ههنا، ولهذا لا يتبع المقتدي رأي إمامه
حتى إن الإمام لو رأى رأي ابن مسعود، والمقتدي
يرى رأي علي فصلى صلاة بعد يوم النحر فلم يكبر
الإمام اتباعا لرأيه يكبر المقتدي اتباعا لرأي
نفسه؛ لأنه ليس بتابع له لانقطاع التحريمة
التي بها صار تابعا له فكذا هذا. وعلى هذا إذا
كان محرما وقد سها في صلاته سجد ثم كبر ثم
لبى؛ لأن سجود السهو يؤتى به في تحريمة الصلاة
لما ذكرنا، ولهذا يسلم بعده. ولو اقتدى به
إنسان في سجود السهو صح اقتداؤه فأما التكبير
والتلبية فكل واحد منهما يؤتى به بعد الفراغ
من الصلاة ولهذا لا يسلم بعده، ولا يصح اقتداء
المقتدي به اتباعا لرأي نفسه؛ لأنه ليس بتابع
له لانقطاع التحريمة التي بها صار تابعا له
فكذلك هذا، وعلى هذا إذا كان محرما وقد سها به
في حال التكبير والتلبية فيقدم السجدة ثم يأتي
بالتكبير ثم بالتلبية؛ لأن التكبير وإن كان
يؤتى به خارج الصلاة فهو من خصائص الصلاة فلا
يؤتى به إلا عقيب الصلاة، والتلبية ليست من
خصائص الصلاة بل يؤتى بها عند اختلاف الأحوال
كلما هبط واديا أو علا شرفا أو لقي ركبا. وما
كان من خصائص الشيء يجعل كأنه منه فيجعل
التكبير كأنه من الصلاة وما لم يفرغ من الصلاة
لم يوجد اختلاف الحال فكذا ما لم يفرغ من
التكبير يجعل كأنه لم يتبدل الحال فلا يأتي
بالتلبية. ولو سها وبدأ بالتكبير قبل السجدة
لا يوجب ذلك قطع صلاته وعليه سجدتا السهو؛ لأن
التكبير ليس من كلام الناس ولو لبى أولا فقد
انقطعت صلاته وسقطت عنه سجدتا السهو والتكبير؛
لأن التلبية تشبه كلام الناس؛ لأنها في الوضع
جواب لكلام الناس، وغيرها من كلام الناس يقطع
الصلاة فكذا هي، وتسقط سجدة السهو؛ لأنها لم
تشرع إلا في التحريمة ولا تحريمة، ويسقط
التكبير أيضا؛ لأنه غير مشروع إلا متصلا
بالصلاة وقد زال الاتصال وعلى هذا المسبوق لا
يكبر مع الإمام؛ لما بينا أن التكبير مشروع
بعد الفراغ من الصلاة والمسبوق بعد في خلال
الصلاة فلا يأتي به.
"فصل": وأما بيان من يجب عليه فقد قال أبو حنيفة: "إنه لا يجب إلا على
الرجال العاقلين المقيمين الأحرار من أهل
الأمصار والمصلين المكتوبة بجماعة مستحبة"،
فلا يجب على النسوان والصبيان والمجانين
والمسافرين وأهل القرى ومن يصلي التطوع
والفرض، وقال أبو يوسف ومحمد: "يجب على كل من
يؤدي مكتوبة في هذه الأيام على أي وصف كان في
أي مكان كان" وهو قول إبراهيم النخعي، وقال
الشافعي في أحد قوليه: "يجب على كل مصل فرضا
كانت الصلاة أو نفلا"؛ لأن النوافل أتباع
الفرائض فما شرع في حق الفرائض يكون مشروعا في
حقها بطريق التبعية. "ولنا" ما روي عن علي
وابن مسعود أنهما كانا لا يكبران عقيب
التطوعات ولم يرو عن غيرهما خلاف ذلك فحل محل
الإجماع؛ ولأن الجهر بالتكبير بدعة إلا في
موضع ثبت بالنص وما ورد النص إلا عقيب
المكتوبات ولأن الجماعة شرط عند أبي حنيفة لما
نذكر، والنوافل لا تؤدى بجماعة وكذا لا يكبر
عقيب الوتر عندنا. أما عند أبي يوسف ومحمد
فلأنه نفل، وأما عند أبي حنيفة فلأنه لا يؤدى
بجماعة في هذه الأيام، ولأنه وإن كان واجبا
فليس بمكتوبة والجهر
ج / 1 ص -198-
بالتكبير بدعة إلا في مورد النص والإجماع ولا نص ولا إجماع إلا في
المكتوبات. وكذا لا يكبر عقيب صلاة العيد
عندنا لما قلنا ويكبر عقيب الجمعة؛ لأنها
فريضة كالظهر. وأما الكلام مع أصحابنا فهما
احتجا بقوله تعالى:
{يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}، وقوله
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ} من غير تقييد مكان أو جنس أو حال؛ ولأنه من توابع الصلاة بدليل أن
ما يوجب قطع الصلاة من الكلام ونحوه يوجب قطع
التكبير فكل من صلى المكتوبة ينبغي أن يكبر.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قول النبي صلى
الله عليه وسلم
"لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع" وقول علي رضي الله عنه "لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في
مصر جامع". والمراد من التشريق هو رفع الصوت
بالتكبير هكذا قال النضر بن شميل وكان من
أرباب اللغة فيجب تصديقه، ولأن التصديق في
اللغة هو الإظهار، والشروق هو الظهور يقال:
شرقت الشمس إذا طلعت وظهرت سمي موضع طلوعها
وظهورها مشرقا لهذا، والتكبير نفسه إظهار
لكبرياء الله وهو إظهار ما هو من شعار الإسلام
فكان تشريقا، ولا يجوز حمله على صلاة العيد؛
لأن ذلك مستفاد بقوله: ولا فطر ولا أضحى في
حديث علي رضي الله عنه ولا على إلقاء لحوم
الأضاحي بالمشرقة؛ لأن ذلك لا يختص بمكان دون
مكان فتعين التكبير مرادا بالتشريق ولأن رفع
الصوت بالتكبير من شعائر الإسلام، وإعلام
الدين وما هذا سبيله لا يشرع إلا في موضع
يشتهر فيه ويشيع وليس ذلك إلا في المصر الجامع
ولهذا يختص به الجمع والأعياد وهذا المعنى
يقتضي أن لا يأتي به المنفرد والنسوان؛ لأن
معنى الاشتهار يختص بالجماعة دون الأفراد
ولهذا لا يصلي المنفرد صلاة الجمعة والعيد،
وأمر النسوان مبني على الستر دون الإشهار.
وأما الآية الثانية فقد ذكرنا اختلاف أهل
التأويل فيها. وأما الأولى فنحملها على خصوص
المكان والجنس والحال عملا بالدليلين بقدر
الإمكان وما ذكروا من معنى التبعية مسلم عند
وجود شرط المصر والجماعة وغيرهما من الشرائط،
فأما عند عدمها فلا نسلم التبيعة. ولو اقتدى
المسافر بالمقيم وجب عليه التكبير؛ لأنه صار
تابعا لإمامه ألا ترى أنه تغير فرضه أربعا
فيكبر بحكم التبعية، وكذا النساء إذا اقتدين
برجل وجب عليهن على سبيل المتابعة فإن صلين
بجماعة وحدهن فلا تكبير عليهن لما قلنا. وأما
المسافرون إذا صلوا في المصر بجماعة ففيه
روايتان روى الحسن عن أبي حنيفة أن عليهم
التكبير والأصح أن لا تكبير عليهم؛ لأن السفر
مغير للفرض مسقط للتكبير ثم في تغير الفرض لا
فرق بين أن يصلوا في المصر أو خارج المصر فكذا
في سقوط التكبير، ولأن المصر الجامع شرط
والمسافر ليس من أهل المصر فالتحق المصر في
حقه بالعدم.
"فصل": وأما بيان حكم التكبير فيما دخل من الصلوات في حد القضاء فنقول: لا
يخلو إما إن فاتته الصلاة في غير أيام التشريق
فقضاها في أيام التشريق، أو فاتته في هذه
الأيام فقضاها في غير هذه الأيام، أو فاتته في
هذه الأيام فقضاها في هذه الأيام من هذه السنة
فإن فاتته في غير أيام التشريق فقضاها في أيام
التشريق لا يكبر عقيبها؛ لأن القضاء على حسب
الأداء وقد فاتته بلا تكبير فيقضيها كذلك، وإن
فاتته في هذه الأيام فقضاها في غير هذه الأيام
لا يكبر عقيبها أيضا وإن كان القضاء على حسب
الأداء وقد فاتته مع التكبير؛ لأن رفع الصوت
بالتكبير بدعة في الأصل إلا حيث ورد الشرع
والشرع ما ورد به في وقت القضاء فبقي بدعة.
فإن فاتته في هذه الأيام وقضاها في العام
القابل في هذه الأيام لا يكبر أيضا وروي عن
أبي يوسف أنه يكبر والصحيح ظاهر الرواية لما
بينا أن رفع الصوت بالتكبير بدعة إلا في مورد
الشرع والشرع ورد بجعل هذا الوقت وقتا لرفع
الصوت بالتكبير عقيب صلاة هي من صلوات هذه
الأيام ولم يرد الشرع بجعله وقتا لغير ذلك
فبقي بدعة كأضحية فاتت عن وقتها أنه لا يمكن
التقرب بإراقة دمها في العام القابل وإن عاد
الوقت، وكذا رمي الجمار لما ذكرنا فكذا هذا
وإن فاتته في هذه الأيام وقضاها في هذه الأيام
من هذه السنة يكبر؛ لأن التكبير سنة الصلاة
الفائتة وقد قدر على القضاء لكون الوقت وقتا
لتكبيرات الصلوات المشروعات فيها.
"فصل": وأما سننها فكثيرة، بعضها صلاة بنفسه، وبعضها من لواحق الصلاة. أما
الذي هو الصلاة بنفسه فالسنن
ج / 1 ص -199-
المعهودة التي يؤدي بعضها قبل المكتوبة وبعضها
بعد المكتوبة ولها فصل منفرد نذكرها فيه
بعلائقها. وأما الذي هو من لواحق الصلاة
فثلاثة أنواع: نوع يؤتى به عند الشروع في
الصلاة، ونوع يؤتى به بعد الشروع في الصلاة،
ونوع يؤتى به عند الخروج من الصلاة. أما الذي
يؤتى به عند الشروع في الصلاة فسنن الافتتاح
وهي أنواع، منها أن تكون النية مقارنة
للتكبير؛ لأن اشتراط النية لإخلاص العمل لله
تعالى:، وقران النية أقرب إلى تحقيق معنى
الإخلاص فكان أفضل وهذا عندنا، وعند الشافعي
فرض والمسألة قد مرت. "ومنها" أن يتكلم بلسانه
ما نواه بقلبه ولم يذكره في كتاب الصلاة نصا
ولكنه أشار إليه في كتاب الحج فقال: "وإذا
أردت أن تحرم بالحج إن شاء الله فقل اللهم إني
أريد الحج فيسره لي وتقبله مني"، فكذا في باب
الصلاة ينبغي أن يقول: "اللهم إني أريد صلاة
كذا فيسرها لي وتقبلها مني"؛ لأن هذا سؤال
التوفيق من الله تعالى: للأداء والقبول بعده
فيكون مسنونا. "ومنها" حذف التكبير لما روي عن
إبراهيم النخعي موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأذان
جزم، والإقامة جزم، والتكبير جزم"
ولأن إدخال المد في ابتداء اسم الله تعالى:
يكون للاستفهام والاستفهام يكون للشك والشك في
كبرياء الله تعالى كفر، وقوله أكبر لا مد فيه؛
لأنه على وزن أفعل، وأفعل لا يحتمل المد لغة،
ومنها رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح والكلام
فيه يقع في مواضع في أصل الرفع، وفي وقته، وفي
كيفيته، وفي محله. أما أصل الرفع فلما روي عن
ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما موقوفا
عليهما ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة
مواطن" وذكر من جملتها تكبيرة الافتتاح، وعن
أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه كان في
عشرة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال لهم: "ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: "هات"،
فقال:"رأيته إذا كبر عند فاتحة الصلاة رفع
يديه" وعلى هذا إجماع السلف. وأما وقته فوقت
التكبير مقارنا له؛ لأنه سنة. التكبير شرع
لإعلام الأصم الشروع في الصلاة ولا يحصل هذا
المقصود إلا بالقران. وأما كيفيته فلم يذكر في
ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي أنه يرفع يديه
ناشرا أصابعه مستقبلا بهما القبلة، فمنهم من
قال: "أراد بالنشر تفريج الأصابع، وليس كذلك
بل أراد أن يرفعهما مفتوحتين لا مضمومتين حين
تكون الأصابع نحو القبلة، وعن الفقيه أبي جعفر
الهندواني أنه لا يفرج كل التفريج ولا يضم كل
الضم بل يتركهما على ما عليه الأصابع في
العادة بين الضم والتفريج. وأما محله فقد ذكر
في ظاهر الرواية أنه يرفع يديه حذاء أذنيه
وفسره الحسن بن زياد في المجرد فقال: قال: أبو
حنيفة "يرفع حتى يحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه"
وكذلك في كل موضع ترفع فيه الأيدي عند
التكبير، وقال الشافعي: "يرفع حذو منكبيه"،
وقال مالك: "حذاء رأسه" احتج الشافعي بما روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح
الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه". "ولنا" ما
روى أبو يوسف في الأمالي بإسناده عن البراء بن
عازب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حذاء
أذنيه" ولأن هذا الرفع شرع لإعلام الأصم
الشروع في الصلاة ولهذا لم يرفع في تكبيرة هي
علم للانتقال عندنا؛ لأن الأصم يرى الانتقال
فلا حاجة إلى رفع اليدين وهذا المقصود إنما
يحصل إذا رفع يديه إلى أذنيه. وأما الحديث
فالتوفيق عند تعارض الأخبار واجب فما روي
محمول على حالة العذر حين كانت عليهم الأكسية
والبرانس في زمن الشتاء فكان يتعذر عليهم
الرفع إلى الأذنين يدل عليه ما روى وائل بن
حجر أنه قال: "قدمت المدينة فوجدتهم يرفعون
أيديهم إلى الآذان ثم قدمت عليهم من القابل
وعليهم الأكسية والبرانس من شدة البرد فوجدتهم
يرفعون أيديهم إلى المناكب"، أو نقول: "المراد
بما روينا رءوس الأصابع"، وبما روي الأكف
والأرساغ عملا بالدلائل بقدر الإمكان. وهذا
حكم الرجل فأما المرأة فلم يذكر حكمها في ظاهر
الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها ترفع
يديها حذاء أذنيها كالرجل سواء؛ لأن كفيها
ليسا بعورة، وروى محمد بن مقاتل الرازي عن
أصحابنا أنها ترفع يديها حذو منكبيها لأن ذلك
أستر لها وبناء أمرهن على الستر ألا ترى أن
الرجل يعتدل في سجوده ويبسط ظهره في ركوعه
والمرأة تفعل كأستر ما يكون لها ؟.
أن الإمام يجهر بالتكبير ويخفي به المنفرد
والمقتدي؛ لأن الأصل في الأذكار هو الإخفاء
وإنما الجهر في حق الإمام
ج / 1 ص -200-
لحاجته
إلى الإعلام فإن الأعمى لا يعلم بالشروع إلا
بسماع التكبير من الإمام ولا حاجة إليه في حق
المنفرد والمقتدي ومنها أن يكبر المقتدي
مقارنا لتكبير الإمام فهو أفضل باتفاق
الروايات عن أبي حنيفة، وفي التسليم عنه
روايتان في رواية يسلم مقارنا لتسليم الإمام
كالتكبير وفي رواية يسلم بعد تسليم الإمام
بخلاف التكبير، وقال أبو يوسف: "السنة أن يكبر
بعد فراغ الإمام من التكبير وإن كبر مقارنا
لتكبيره" فعن أبي يوسف فيه روايتان في رواية
يجوز وفي رواية لا يجوز، وعن محمد يجوز ويكون
مسيئا وجه قولهما أن المقتدي تبع للإمام ومعنى
التبعية لا تتحقق في القران ولأبي حنيفة أن
الاقتداء مشاركة وحقيقة المشاركة المقارنة إذ
بها تتحقق المشاركة في جميع أجزاء العباد،
وبهذا فارق التسليم على إحدى الروايتين؛ لأنه
إذا سلم بعده فقد وجدت المشاركة في جميع
الصلاة؛ لأنه يخرج عنها بسلام الإمام.
أن المؤذن إذا قال "قد قامت الصلاة" كبر
الإمام في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف
والشافعي: "لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من
الإقامة"، والجملة فيه أن المؤذن إذا قال: حي
على الفلاح فإن كان الإمام معهم في المسجد
يستحب للقوم أن يقوموا في الصف، وعند زفر
والحسن بن زياد يقومون عند قوله: قد قامت
الصلاة في المرة الأولى، ويكبرون عند الثانية
لأن المنبئ عن القيام قوله: "قد قامت الصلاة
لا قوله حي على الفلاح". ولنا أن قوله: حي على
الفلاح دعاء إلى ما به فلاحهم وأمر بالمسارعة
إليه فلا بد من الإجابة إلى ذلك ولن تحصل
الإجابة إلا بالفعل وهو القيام إليها، فكان
ينبغي أن يقوموا عند قوله: "حي على الصلاة لما
ذكرنا غير أنا نمنعهم عن القيام كي لا يلغو"
قوله: حي على الفلاح؛ لأن من وجدت منه
المبادرة إلى شيء فدعاؤه إليه بعد تحصيله إياه
يلغو من الكلام. أما قوله إن المنبئ عن القيام
قوله قد قامت الصلاة فنقول: قوله قد قامت
الصلاة ينبئ عن قيام الصلاة لا عن القيام
إليها، وقيامها وجودها وذلك بالتحريمة ليتصل
بها جزء من أجزائها تصديقا له على ما نذكر، ثم
إذا قاموا إلى الصلاة إذا قال المؤذن قد قامت
الصلاة كبروا على الاختلاف الذي ذكرنا. وجه
قول أبي يوسف والشافعي أن في إجابة المؤذن
فضيلة، وفي إدراك تكبيرة الافتتاح فضيلة فلا
بد من الفراغ إحرازا للفضيلتين من الجانبين؛
ولأن فيما قلنا تكون جميع صلاتهم بالإقامة
وفيما قالوا بخلافه ولأبي حنيفة ومحمد ما روي
عن سويد بن غفلة أن عمر كان إذا انتهى المؤذن
إلى قوله: قد قامت الصلاة كبر. وروي عن بلال
رضي الله عنه أنه قال: " يا رسول الله إن كنت
تسبقني بالتكبير فلا تسبقني بالتأمين" ولو كبر
بعد الفراغ من الإقامة لما سبقه بالتكبير فضلا
عن التأمين فلم يكن للسؤال معنى؛ ولأن المؤذن
مؤتمن الشرع فيجب تصديقه وذلك فيما قلناه لما
ذكرنا أن قيام الصلاة وجودها فلا بد من تحصيل
التحريمة المقترنة بركن من أركان الصلاة ليوجد
جزء من أجزائها فيصير المخبر عن قيامها صادقا
في مقالته؛ لأن المخبر عن المتركب من أجزاء لا
بقاء لها لن يكون إلا عن وجود جزء منها وإن
كان الجزء وحده مما لا ينطلق عليه اسم المتركب
كمن يقول: "فلان يصلي في الحال يكون صادقا،
وإن كان لا يوجد في حالة الإخبار إلا جزء
منها"؛ لاستحالة اجتماع أجزائها في الوجود في
حالة واحدة. وبه تبين أن ما ذكروا من المعنيين
لا يعتبر بمقابلة فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفعل عمر رضي الله عنه ثم نقول في تصديق
المؤذن فضيلة كما أن إجابته فضلة بل فضيلة
التصديق فوق فضيلة الإجابة مع أن فيما قالوه
فوات فضيلة الإجابة أصلا إذ لا جواب لقوله: قد
قامت الصلاة من حيث القول، وليس فيما قلنا
تفويت فضيلة الإجابة أصلا بل حصلت الإجابة
بالفعل وهو إقامة الصلاة فكان ما قلنا سببا
لاستدراك الفضيلتين فكان أحق وبه تبين أن لا
بأس بأداء بعض الصلاة بعد أكثر الإقامة، وأداء
أكثرها بعد جميع الإقامة إذا كان سببا
لاستدراك الفضيلتين، وبعض مشايخنا اختاروا في
الفعل مذهب أبي يوسف لتعذر إحضار النية عليهم
في حال رفع المؤذن صوته بالإقامة، هذا إذا كان
الإمام في المسجد فإن كان خارج المسجد لا
يقومون ما لم يحضر لقول النبي صلى الله عليه
وسلم" لا تقوموا في الصف حتى تروني خرجت". وروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى الناس قياما
ينتظرونه فقال ما لي أراكم سامدين أي: واقفين
متحيرين ولأن القيام لأجل الصلاة ولا يمكن
أداؤها بدون الإمام فلم يكن القيام مفيدا، ثم
إن دخل الإمام من قدام الصفوف
ج / 1 ص -201-
فكما
رأوه قاموا؛ لأنه كلما دخل المسجد قام مقام
الإمامة وإن دخل من وراء الصفوف فالصحيح أنه
كلما جاوز صفا قام ذلك الصف؛ لأنه صار بحال لو
اقتدوا به جاز فصار في حقهم كأنه أخذه مكانه
وأما الذي يؤتى به بعد الفراغ من الافتتاح
فنقول: إذا فرغ من تكبيرة الافتتاح يضع يمينه
على شماله والكلام فيه في أربعة مواضع، أحدها
في أصل الوضع، والثاني في وقت الوضع، والثالث
في محل الوضع، والرابع في كيفية الوضع. أما
الأول قال عامة العلماء: إن السنة هي وضع
اليمين على الشمال، وقال مالك: "السنة هي
الإرسال". وجه قوله أن الإرسال أشق على البدن،
والوضع للاستراحة دل عليه ما روي عن إبراهيم
النخعي أنه قال: "إنهم كانوا يفعلون ذلك مخافة
اجتماع الدم في رءوس الأصابع؛ لأنهم كانوا
يطيلون الصلاة وأفضل الأعمال أحمزها على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنا ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاث من
سنن المرسلين، تعجيل الإفطار، وتأخير السحور،
وأخذ الشمال باليمين في الصلاة". وفي رواية
وضع اليمين على الشمال تحت السرة في الصلاة
وأما وقت الوضع فكلما فرغ من التكبير في ظاهر
الرواية وروي عن محمد في النوادر أنه يرسلهما
حالة الثناء فإذا فرغ منه يضع بناء على أن
الوضع سنة القيام الذي له قرار في ظاهر المذهب
وعن محمد سنة القراءة وأجمعوا على أنه لا يسن
الوضع في القيام المتخلل بين الركوع والسجود؛
لأنه لا قرار له ولا قراءة فيه، والصحيح جواب
ظاهر الرواية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم"إنا
معشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على
شمائلنا في الصلاة" من غير فصل بين حال وحال
فهو على العموم إلا ما خص بدليل، ولأن القيام
من أركان الصلاة والصلاة خدمة الرب تعالى
وتعظيم له والوضع في التعظيم أبلغ من الإرسال
كما في الشاهد فكان أولى. وأما القيام المتخلل
بين الركوع والسجود في صلاة الجمعة والعيدين
فقال: "بعض مشايخنا الوضع أولى"؛ لأن له ضرب
قرار. وقال بعضهم: "الإرسال أولى"؛ لأنه كما
يضع يحتاج إلى الرفع فلا يكون مفيدا. وأما في
حال القنوت فذكر في الأصل إذا أراد أن يقنت
كبر ورفع يديه حذاء أذنيه ناشرا أصابعه ثم
يكفهما قال أبو بكر الإسكاف: معناه يضع يمينه
على شماله، وكذلك روي عن أبي حنيفة ومحمد أنه
يضعهما كما يضع يمينه على يساره في الصلاة،
وذكر الكرخي والطحاوي أنه يرسلهما في حالة
القنوت وكذا روي عن أبي يوسف واختلفوا في
تفسير الإرسال، قال بعضهم: "لا يضع يمينه على
شماله"، ومنهم من قال: "لا بل يضع" ومعنى
الإرسال أن لا يبسطهما، كما روي عن أبي يوسف
أنه يبسط يديه بسطا في حالة القنوت وهو
الصحيح؛ لعموم الحديث الذي روينا؛ ولأن هذا
قيام في الصلاة له قرار فكان الوضع فيه أقرب
إلى التعظيم فكان أولى. وأما في صلاة الجنازة
فالصحيح أيضا أن يضع لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه صلى على جنازة ووضع يمينه
على شماله تحت السرة" ولأن الوضع أقرب إلى
التعظيم في قيام له قرار فكان الوضع أولى.
وأما محل الوضع فما تحت السرة في حق الرجل
والصدر في حق المرأة، وقال الشافعي: "محله
الصدر في حقهما جميعا" واحتج بقوله تعالى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قوله وانحر أي ضع اليمين على الشمال في النحر وهو الصدر، وكذا روي
عن علي في تفسير الآية ولنا ما روينا عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من سنن
المرسلين من جملتها وضع اليمين على الشمال تحت
السرة في الصلاة".وأما الآية فمعناه أي صل
صلاة العيد وانحر الجزور وهو الصحيح من
التأويل؛ لأنه حينئذ يكون عطف الشيء على غيره
كما هو مقتضى العطف في الأصل ووضع اليد من
أفعال الصلاة وأبعاضها ولا مغايرة بين البعض
وبين الكل، أو يحتمل ما قلنا فلا يكون حجة مع
الاحتمال على أنه روي عن علي وأبي هريرة رضي
الله عنهما أنهما قالا: "السنة وضع اليمين على
الشمال تحت السرة فلم يكن تفسير الآية عنه".
وأما كيفية الوضع فلم يذكر في ظاهر الرواية
واختلف فيها قال بعضهم: "يضع كفه اليمنى على
ظهر كفه اليسرى"، وقال بعضهم: "يضع على ذراعه
اليسرى"، وقال بعضهم: "يضع على المفصل". وذكر
في النوادر اختلافا بين أبي يوسف ومحمد فقال:
على قول أبي يوسف "يقبض بيده اليمنى على رسغ
يده اليسرى"، وعند محمد يضع كذلك، وعن الفقيه
أبي جعفر الهندواني أنه قال: قول أبي يوسف أحب
إلي؛ لأن في القبض وضعا وزيادة وهو اختيار
مشايخنا بما وراء النهر فيأخذ المصلي رسغ يده
اليسرى بوسط كفه اليمنى ويحلق إبهامه وخنصره
وبنصره ويضع الوسطى والمسبحة على
ج / 1 ص -202-
معصمه
ليصير جامعا بين الأخذ والوضع وهذا؛ لأن
الأخبار اختلفت، ذكر في بعضها الوضع وفي بعضها
الأخذ فكان الجمع بينهما عملا بالدلائل أجمع
فكان أولى، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك
وتبارك اسمك وتعالى: جدك ولا إله غيرك، سواء
كان إماما أو مقتديا أو منفردا هكذا ذكر في
ظاهر الرواية وزاد عليه في كتاب الحج، وجل
ثناؤك، وليس ذلك في المشاهير ولا يقرأ:
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} لا قبل التكبير
ولا بعده وفي قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي
يوسف الأول، ثم رجع وقال في الإملاء: يقول مع
التسبيح
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} {قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ} ولا يقول وأنا أول المسلمين؛ لأنه كذب وهل تفسد صلاته إذا قال ذلك
؟ قال بعضهم: "تفسد"؛ لأنه أدخل الكذب في
الصلاة، وقال بعضهم: "لا تفسد"؛ لأنه من
القرآن، ثم عن أبي يوسف روايتان، في رواية
يقدم التسبيح عليه. وفي رواية وهو بالخيار إن
شاء قدم وإن شاء أخر وهو أحد قولي الشافعي،
وفي قول "يفتتح" بقوله: وجهت وجهي لا بالتسبيح
واحتجا بحديث ابن عمر أن النبي كان إذا افتتح
الصلاة قال:"وجهت وجهي إلخ"، وقال سبحانك
اللهم وبحمدك إلى آخره، والشافعي زاد عليه ما
رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
قوله "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه
لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من
عندك وتب علي إنك أنت التواب الرحيم". وفي بعض
الروايات " اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت
أنت ربي، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما
استطعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي
فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت،
واهدني لأحسن الأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا
أنت، واصرف عني سيئها إنه لا يصرف عني سيئها
إلا أنت، أنا بك ولك تباركت وتعاليت أستغفرك
وأتوب إليك" وجه ظاهر الرواية قوله تعالى:
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} ذكر الجصاص عن الضحاك عن عمر رضي الله عنه أنه قول المصلي عند
الافتتاح سبحانك اللهم وبحمدك. وروى هذا الذكر
عمر وعلي وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه كان يقول عند الافتتاح ولا
تجوز الزيادة على الكتاب والخبر المشهور
بالآحاد، ثم تأويل ذلك كله أنه كان يقول ذلك
في التطوعات، والأمر فيها أوسع فأما في
الفرائض فلا يزاد على ما اشتهر فيه الأثر أو
كان في الابتداء ثم نسخ بالآية أو تأيد ما
روينا بمعاضدة الآية، ثم لم يرو عن أصحابنا
المتقدمين أنه يأتي به قبل التكبير، وقال بعض
مشايخنا المتأخرين: إنه لا بأس به قبل التكبير
لإحضار النية ولهذا لقنوه العوام.
ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه إذا
كان منفردا أو إماما، والكلام في التعوذ في
مواضع في بيان صفته، وفي بيان وقته، وفي بيان
من يسن في حقه، وفي بيان كيفيته. أما الأول
فالتعوذ سنة في الصلاة عند عامة العلماء وعند
مالك ليس بسنة والصحيح قول العامة لقوله
تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
من غير فصل بين حال الصلاة وغيرها. وروي أن
أبا الدرداء قام ليصلي فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن
شياطين الإنس والجن"، وكذا الناقلون صلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم نقلوا تعوذه بعد
الثناء قبل القراءة. وأما وقت التعوذ فما بعد
الفراغ من التسبيح قبل القراءة عند عامة
العلماء. وقال أصحاب الظواهر: وقته ما بعد
القراءة لظاهر قوله تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الآية، أمر بالاستعاذة بعد قراءة القرآن؛ لأن الفاء للتعقيب، ولنا
أن الذين نقلوا صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم نقلوا تعوذه بعد الثناء قبل القراءة ولأن
التعوذ شرع صيانة للقراءة عن وساوس الشيطان،
ومعنى الصيانة إنما يحتاج إليه قبل القراءة لا
بعدها والإرادة مضمرة في الآية معناه فإذا
أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله كذا قال أهل
التفسير كما في قوله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}
أي إذا أردتم القيام إليها. وأما من يسن في حقه التعوذ فهو الإمام
والمنفرد دون المقتدي في قول أبي حنيفة ومحمد،
وعند أبي يوسف هو سنة في حقه أيضا ذكر
الاختلاف في السير الكبير وحاصل الخلاف راجع
إلى أن التعوذ تبع للثناء أو تبع للقراءة فعلى
قولهما تبع للقراءة؛ لأنه شرع لافتتاح القراءة
صيانة لها عن وساوس الشيطان فكان كالشرط لها،
وشرط الشيء تبع له وعلى قوله تبع للثناء؛ لأنه
شرع بعد الثناء وهو من جنسه وتبع الشيء كاسمه
ما يتبعه. ويتفرع على هذا الأصل ثلاث مسائل،
إحداها أنه لا تعوذ على المقتدي عندهما
ج / 1 ص -203-
لأنه
لا قراءة عليه، وعنده يتعوذ؛ لأنه يأتي
بالثناء فيأتي بما هو تبع له، والثانية
المسبوق إذا شرع في صلاة الإمام وسبح لا يتعوذ
في الحال وإنما يتعوذ إذا قام إلى قضاء ما سبق
به عندهما؛ لأن ذلك وقت القراءة وعنده يتعوذ
بعد الفراغ من التسبيح؛ لأنه تبع له، والثالثة
الإمام في صلاة العيد يأتي بالتعوذ بعد
التكبيرات عندهما إذا كان يرى رأي ابن عباس أو
رأي ابن مسعود؛ لأن ذلك وقت القراءة، وعنده
يأتي به بعد التسبيح قبل التكبيرات لكونه تبعا
له. وأما كيفية التعوذ فالمستحب له أن يقول
أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم أو أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم؛ لأن أولى الألفاظ ما وافق
كتاب الله وقد ورد هذان اللفظان في كتاب الله
تعالى ولا ينبغي أن يزيد عليه إن الله هو
السميع العليم؛ لأن هذه الزيادة من باب الثناء
وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء
وينبغي أن لا يجهر بالتعوذ؛ لأن الجهر بالتعوذ
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي
وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: "أربع
يخفيهن الإمام وذكر منها التعوذ"، ولأن الأصل
في الأذكار هو الإخفاء لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} فلا يترك إلا لضرورة ثم يخفي بسم الله الرحمن الرحيم، وقال الشافعي
"يجهر به."
والكلام في التسمية في مواضع، أحدها أنها من
القرآن أم لا، والثاني أنها من الفاتحة أم لا،
والثالث أنها من رأس السورة أم لا، وينبني على
كل فصل ما يتعلق به من الأحكام. أما الأول
فالصحيح من مذهب أصحابنا أنها من القرآن؛ لأن
الأمة أجمعت على أن ما كان بين الدفتين مكتوبا
بقلم الوحي فهو من القرآن والتسمية كذلك، وكذا
روى المعلى عن محمد فقال: قلت لمحمد: "التسمية
آية من القرآن أم لا" ؟ فقال: "ما بين الدفتين
كله قرآن"، فقلت: "فما بالك لا تجهر بها فلم
يجبني". وكذا روى الجصاص عن محمد أنه قال:
"التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين
السورة للبداءة بها تبركا وليست بآية من كل
واحدة منها"، وإليه أشار في كتاب الصلاة فإنه
قال: ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن
الرحيم، وينبني على هذا أن فرض القراءة في
الصلاة يتأدى بها عند أبي حنيفة إذا قرأها على
قصد القراءة دون الثناء عند بعض مشايخنا؛
لأنها آية من القرآن. وكذا روي عن عبد الله بن
المبارك أن من ترك بسم الله الرحمن الرحيم في
القرآن فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية، وقال
بعضهم: "لا يتأدى"؛ لأن في كونها آية تامة
احتمال فإنه روي عن الأوزاعي أنه قال: "ما
أنزل الله في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم
إلا في سورة النمل"، وإنها في النمل وحدها
ليست بآية تامة وإنما الآية قوله
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ}
فوقع
الشك في كونها آية تامة فلا تجوز الصلاة بالشك
وكذا يحرم على الجنب والحائض والنفساء قراءتها
على قصد القرآن. أما على قياس رواية الكرخي
فظاهر؛ لأن ما دون الآية يحرم عليهم، وكذا على
رواية الطحاوي لاحتمال أنها آية تامة فتحرم
قراءتها عليهم احتياطا. وأما الثاني والثالث
فعند أصحابنا ليست من الفاتحة ولا من رأس كل
سورة، وقال الشافعي: "إنها من الفاتحة قولا
واحدا"، وله في كونها من رأس كل سورة قولان،
وقال الكرخي: "لا أعرف في هذه المسألة بعينها
عند متقدمي أصحابنا في الاختلاف نصا لكن أمرهم
بالإخفاء دليل على أنها ليست من الفاتحة؛
لامتناع أن يجهر ببعض السورة دون البعض" احتج
الشافعي بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان يقول:
"الحمد لله رب
العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن
الرحيم" فقد عد التسمية آية من الفاتحة دل أنها من الفاتحة؛ ولأنها كتبت في
المصاحف على رأس الفاتحة وكل سورة بقلم الوحي
فكانت من الفاتحة ومن كل سورة، ولنا قول النبي
صلى الله عليه وسلم خبرا عن الله تعالى: أنه
قال: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا
قال العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله:
حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله
تعالى: مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين
قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال:
إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى: هذا
بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل" وجه
الاستدلال به من وجهين، أحدهما أنه بدأ بقوله
الحمد لله رب العالمين لا بقوله بسم الله
الرحمن الرحيم، ولو كانت من الفاتحة لكانت
البداءة بها لا بالحمد. والثاني أنه نص على
المناصفة ولو كانت التسمية من الفاتحة لم
تتحقق المناصفة بل يكون ما لله أكثر؛ لأنه
يكون في النصف الأول أربع آيات ونصف؛ ولأن كون
الآية من سورة كذا ومن موضع كذا لا يثبت إلا
بالدليل المتواتر من النبي صلى الله عليه
ج / 1 ص -204-
وسلم
وقد ثبت بالتواتر أنها مكتوبة في المصاحف ولا
تواتر على كونها من السورة ولهذا اختلف أهل
العلم فيه فعدها قراء أهل الكوفة من الفاتحة
ولم يعدها قراء أهل البصرة منها، وذا دليل عدم
التواتر ووقوع الشك والشبهة في ذلك فلا يثبت
كونها من السورة مع الشك؛ ولأن كون التسمية من
كل سورة مما اختص به الشافعي لا يوافقه في ذلك
أحد من سلف الأمة وكفى به دليلا على بطلان
المذهب، والدليل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى
غفر له تبارك الذي بيده الملك" وقد اتفق القراء وغيرهم على أنها ثلاثون آية سوى بسم الله الرحمن
الرحيم. ولو كانت هي منها لكانت إحدى وثلاثين
آية وهو خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم
وكذا انعقد الإجماع من الفقهاء والقراء أن
سورة الكوثر ثلاث آيات وسورة الإخلاص أربع
آيات ولو كانت التسمية منها لكانت سورة الكوثر
أربع آيات وسورة الإخلاص خمس آيات وهو خلاف
الإجماع. وأما ما روي من الحديث ففيه اضطراب
فإن بعضهم شك في ذكر أبي هريرة في الإسناد
ولأن مداره على عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن
أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم
يرفعه، وذكر أبو بكر الحنفي وقال: "لقيت نوحا
فحدثني به عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم
يرفعه، والاختلاف في السند والوقف والرفع يوجب
ضعفا فيه؛ ولأنه في حد الآحاد وخبر الواحد لا
يوجب العلم وكون التسمية من الفاتحة لا تثبت
إلا بالنقل الموجب للعلم مع أنه عارضه ما هو
أقوى منه وأثبت وأشهر وهو حديث القسمة فلا
يقبل في معارضته. أما قوله إنها كتبت في
المصاحف بقلم الوحي على رأس السور فنعم لكن
هذا يدل على كونها من القرآن لا على كونها من
السور لجواز أنها كتبت للفصل بين السور لا
لأنها منها فلا يثبت كونها من السور
بالاحتمال، وينبني على هذا أنه لا يجهر
بالتسمية في الصلاة عندنا؛ لأنه لا نص في
الجهر بها وليست من الفاتحة حتى يجهر بها
ضرورة الجهر بالفاتحة، وعنده يجهر بها في
الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة كما يجهر
بالفاتحة لكونها من الفاتحة ولأن التسمية متى
ترددت بين أن تكون من الفاتحة وبين أن لا تكون
تردد الجهر بين السنة والبدعة؛ لأنها إذا لم
تكن منها التحقت بالأذكار، والجهر بالأذكار
بدعة والفعل إذا تردد بين السنة والبدعة تغلب
جهة البدعة؛ لأن الامتناع عن البدعة فرض ولا
فرضية في تحصيل السنة أو الواجب فكان الإخفاء
بها أولى، والدليل عليه ما روي عن أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد
الله بن الفضل وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم
رضي الله عنهم أنهم كانوا يخفون التسمية وكثير
منهم قال: الجهر بالتسمية إعرابية والمنسوب
إليهم باطل لغلبة الجهل عليهم بالشرائع. وروي
عن أنس رضي الله عنه أنه قال:"صليت خلف رسول
الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما وكانوا لا يجهرون بالتسمية"،
ثم عندنا إن لم يجهر بالتسمية لكن يأتي بها
الإمام لافتتاح القراءة بها تبركا كما يأتي
بالتعوذ في الركعة الأولى باتفاق الروايات،
وهل يأتي بها في أول الفاتحة في الركعات الأخر
؟ عن أبي حنيفة روايتان، روى الحسن عنه أنه لا
يأتي بها إلا في الركعة الأولى؛ لأنها ليست من
الفاتحة عندنا وإنما يفتتح القراءة بها تبركا
وذلك مختص بالركعة الأولى كالتعوذ، وروى
المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بها
في كل ركعة وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن
التسمية إن لم تجعل من الفاتحة قطعا بخبر
الواحد لكن خبر الواحد يوجب العمل فصارت من
الفاتحة عملا فمتى لزمه قراءة الفاتحة يلزمه
قراءة التسمية احتياطا. وأما عند رأس كل سورة
في الصلاة فلا يأتي بالتسمية عند أبي حنيفة
وأبي يوسف، وقال محمد يأتي بها احتياطا كما في
أول الفاتحة، والصحيح قولهما؛ لأن احتمال
كونها من السورة منقطع بإجماع السلف على ما مر
وفي أنها ليست من الفاتحة لا إجماع فبقي
الاحتمال فوجب العمل به في حق القراءة
احتياطا، ولكن لا يعتبر هذا الاحتمال في حق
الجهر؛ لأن المخافتة أصل في الأذكار والجهر
بها بدعة في الأصل فإذا احتمل أنها ذكر في هذه
الحالة واحتمل أنها من الفاتحة كانت المخافتة
أبعد عن البدعة فكانت أحق. وروي عن محمد أنه
إذا كان يخفي بالقراءة يأتي بالتسمية بين
الفاتحة والسورة؛ لأنه أقرب إلى متابعة المصحف
وإذا كان يجهر بها لا يأتي؛ لأنه لو فعل لأخفى
بها فيكون
ج / 1 ص -205-
سكتة
له في وسط القراءة وذلك غير مشروع ثم يقرأ
بفاتحة الكتاب والسورة وقد بينا أصل فرضية
القراءة وقدرها ومحل القراءة المفروضة في بيان
أركان الصلاة.
وههنا نذكر المقدار الذي يخرج به عن حد
الكراهة، والمقدار المستحب من القراءة. أما
الأول فالقدر الذي يخرج به عن حد الكراهة هو
أن يقرأ الفاتحة وسورة قصيرة قدر ثلاث آيات،
أو ثلاث آيات من أي سورة كانت، حتى لو قرأ
الفاتحة وحدها أو قرأ معها آية أو آيتين يكره
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها" وأقصر
السور ثلاث آيات ولم يرد به نفي الجواز بل نفي
الكمال، وأداء المفروض على وجه النقصان مكروه.
وأما القدر المستحب من القراءة فقد اختلفت
الروايات فيه عن أبي حنيفة ذكر في الأصل ويقرأ
الإمام في الفجر في الركعتين جميعا بأربعين
آية مع فاتحة الكتاب أي سواها، وذكر في الجامع
الصغير بأربعين خمسين ستين سوى فاتحة الكتاب،
وروى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة ما بين
ستين إلى مائة وإنما اختلفت الروايات لاختلاف
الأخبار. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
كان يقرأ في صلاة الفجر سورة "ق" حتى أخذ بعض
النسوان منه في صلاة الفجر منهن أم هشام بنت
الحارث بن النعمان وعن مورق العجلي قال: تلقنت
سورة "ق" واقترب، من في رسول الله صلى الله
عليه وسلم من كثرة قراءته لهما في صلاة الفجر،
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "
قرأ في صلاة الفجر والمرسلات وعم يتساءلون"،
وفي رواية
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}.
وروى ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة رضي الله
عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
الركعة الأولى من الفجر ب {الم تَنْزِيلٌ}
السجدة، وفي الأخرى
{بهَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ}، وعن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
في صلاة الفجر ما بين ستين آية إلى مائة" كذا
ذكر وكيع. وروي أن أبا بكر قرأ في الفجر سورة
البقرة فلما فرغ قال له عمر: "كادت الشمس تطلع
يا خليفة رسول الله فقال رضي الله عنه: لو
طلعت لم تجدنا" غافلين. وروي أن عمر رضي الله
عنه قرأ سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} خنقته العبرة فركع، ووفق بعض هم بين الروايات فقال: "المساجد ثلاث
مسجد له قوم زهاد وعباد يرغبون في العبادة،
ومسجد له قوم كسالى غير راغبين في العبادة،
ومسجد له قوم أوساط فينبغي للإمام أن يعمل
بأكثر الروايات قراءة في الأول وبأدناها قراءة
في الثاني وبأوسطها قراءة في الثالث عملا
بالروايات كلها بقدر الإمكان"، ويجوز أن يكون
اختلاف الروايات محمولا على هذا، ويقرأ في
الظهر بنحو من ذلك أو دونه. وذكره في الأصل
لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه
قال: "حررنا قراءة رسول الله صلى الله عليه
وسلم في صلاة الظهر في الركعتين بثلاثين آية"،
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه قال:
"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر
وقرأ
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
، وفي العصر يقرأ بعشرين آية مع فاتحة الكتاب أي سواها" ذكره في
الأصل؛ لما روي عن أبي هريرة وجابر بن سمرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العصر
بسورة
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
و
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.
وفي العشاء مثل ذلك" في رواية الأصل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم
لمعاذ حين كان يقرأ البقرة في صلاة العشاء أين
أنت من الشمس وضحاها
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؛ ولأنها تؤخر إلى ثلث الليل فلو طول القراءة لتشوش أمر الصلاة على
القوم لغلبة النوم إياهم، وفي المغرب بسورة
قصيرة خمس آيات أو ست آيات مع فاتحة الكتاب أي
سواها ذكره في الأصل؛ لما روي عن عمر رضي الله
عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن اقرأ في
الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء
بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل. ولأنا
أمرنا بتعجيل المغرب وفي تطويل القراءة
تأخيرها، وذكر في الجامع الصغير ويقرأ في
الظهر في الأوليين مثل ركعتي الفجر والعصر
والعشاء سواء والمغرب دون ذلك، وروى الحسن في
المجرد عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الظهر بعبس
أو إذا الشمس كورت في الأولى، وفي الثانية بلا
أقسم أو والشمس وضحاها، وفي العصر يقرأ في
الأولى والضحى أو والعاديات، وفي الثانية
بألهاكم أو
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}. وفي المغرب في الأولى مثل ما في العصر، وفي العشاء في الأوليين
مثل ما في الظهر فقد جعلها في الأصل كالعصر
وفي المجرد كالظهر، وذكر الكرخي
ج / 1 ص -206-
وقال:
"وقدر القراءة في الفجر للمقيم قدر ثلاثين آية
إلى ستين آية سوى الفاتحة في الركعة الأولى،
وفي الثانية ما بين عشرين إلى ثلاثين، وفي
الظهر في الركعتين جميعا سوى فاتحة الكتاب مثل
القراءة في الركعة الأولى من الفجر، وفي العصر
والعشاء يقرأ في كل ركعة قدر عشرين آية سوى
فاتحة الكتاب، وفي المغرب في الركعتين
الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة من قصار
المفصل". قال: "وهذه الرواية أحب الروايات
التي رواها المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة"،
ويحتمل أن يكون اختلاف مقادير القراءة في
الصلوات لاختلاف أحوال الناس فوقت الفجر وقت
نوم وغفلة فتطول فيه القراءة كي لا تفوتهم
الجماعة، وكذا وقت الظهر في الصيف؛ لأنهم
يقيلون، ووقت العصر وقت رجوع الناس إلى
منازلهم فينقص عما في الظهر والفجر، وكذا وقت
العشاء وقت عزمهم على النوم فكان مثل وقت
العصر، ووقت المغرب وقت عزمهم على الأكل فقصر
فيها القراءة لقلة صبرهم عن الأكل خصوصا
للصائمين وهذا كله ليس بتقدير لازم بل يختلف
باختلاف الوقت والزمان وحال الإمام والقوم.
فيه أنه ينبغي للإمام أن يقرأ مقدار ما يخف
على القوم ولا يثقل عليهم بعد أن يكون على
التمام؛ لما روي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي
أنه قال: "آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن أصلي بالقوم صلاة أضعفهم". وروي
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أم قوما
فليصل بهم صلاة أضعفهم فإن فيهم الصغير
والكبير وذا الحاجة". وروي أن قوم معاذ لما
شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل
القراءة دعاه فقال: "أفتان أنت يا معاذ" ؟
قالها ثلاثا، أين أنت من
{وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
؟ قال الراوي فما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم في موعظة أشد منه في تلك الموعظة"،
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: "ما صليت خلف
أحد أتم وأخف مما صليت خلف رسول الله صلى الله
عليه وسلم". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ
بالمعوذتين في صلاة الفجر يوما فلما فرغ
قالوا: "أوجزت، فقال صلى الله عليه وسلم: سمعت
بكاء صبي فخشيت على أمه أن تفتتن" دل على أن
الإمام ينبغي له أن يراعي حال قومه؛ ولأن
مراعاة حال القوم سبب لتكثير الجماعة فكان ذلك
مندوبا إليه هذا الذي ذكرنا في المقيم فأما
المسافر فينبغي أن يقرأ مقدار ما يخف عليه
وعلى القوم بأن يقرأ الفاتحة وسورة من قصار
المفصل لما روي عن عقبة بن عامر الجهني أنه
قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في السفر صلاة الفجر فقرأ بفاتحة الكتاب
والمعوذتين" ولأن السفر مكان المشقة فلو قرأ
فيه مثل ما يقرأ في الحضر لوقعوا في الحرج
وانقطع بهم السير وهذا لا يجوز، ولهذا أثر في
قصر الصلاة فلأن يؤثر في قصر القراءة أولى.
ويستحب للإمام أن يفضل الركعة الأولى في
القراءة على الثانية في الفجر بالإجماع. وأما
في سائر الصلوات فيسوي بينهما عند أبي حنيفة
وأبي يوسف، وقال محمد: "يفضل في الصلوات
كلها"، وكذا هذا الاختلاف في الجمعة والعيدين
واحتج محمد بما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة
الأولى على غيرها في الصلوات كلها" ولأن
التفضيل تسبيب إلى إدراك الجماعة فيفضل كما في
صلاة الفجر، ولهما ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان يقرأ في الجمعة سورة الجمعة
في الركعة الأولى وفي الثانية سورة المنافقين
وهما في الآي مستويتان، وكان يقرأ في الأولى
سورة الأعلى وفي الثانية الغاشية وهما
مستويتان"، ولأنهما مستويتان في استحقاق
القراءة فلا تفضل إحداهما على الأخرى إلا لداع
وقد وجد الداعي في الفجر وهو الحاجة إلى
الإعانة على إدراك الجماعة لكون الوقت وقت نوم
وغفلة فكان التفضيل من باب النظر ولا داعي له
في سائر الصلوات لكون الوقت وقت يقظة فالتخلف
عن الجماعة يكون تقصيرا والمقصر لا يستحق
النظر، وأما الحديث فنقول كان يطيل الركعة
الأولى بالثناء في أول الصلاة لا بالقراءة.
أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة تامة
كذا ورد في الحديث. ولو قرأ سورة واحدة في
الركعتين قال بعض المشايخ: "يكره"؛ لأنه خلاف
ما جاء به الأثر وقال عامتهم: "لا يكره" وكذا
روى عيسى بن أبان عن أصحابنا أنه لا يكره،
وروى في ذلك حديثا بإسناده عن ابن مسعود أنه
قرأ في الفجر سورة بني إسرائيل إلى قوله
{قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}
في الركعة الأولى ثم قام إلى الثانية وختم
السورة" ولو جمع بين السورتين في ركعة
ج / 1 ص -207-
لا
يكره؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
أوتر بسبع سور من المفصل والأفضل أن لا يجمع
ولو قرأ من وسط السورة أو آخرها لا بأس به كذا
روى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله
تعالى لكن المستحب ما ذكرنا.
فإذا فرغ من الفاتحة يقول آمين إماما كان أو
مقتديا أو منفردا وهذا قول عامة العلماء. وقال
بعض الناس: "لا يؤتى بالتأمين أصلا"، وقال
مالك: "يأتي به المقتدي دون الإمام والمنفرد"
والصحيح قول العامة لما روي عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أمن
الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق
تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر" حثنا على التأمين من غير فصل. ثم
السنة فيه المخافتة عندنا، وعند الشافعي الجهر
في صلاة الجهر واحتج بما روينا من الحديث،
ووجه التعلق به أنه صلى الله عليه وسلم علق
تأمين القوم بتأمين الإمام ولو لم يكن مسموعا
لم يكن معلوما فلا معنى للتعلق، وعن وائل بن
حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "آمين
ومد بها صوته". "ولنا" ما روي عن وائل بن حجر
أن النبي صلى الله عليه وسلم "أخفى التأمين"
وهو قول علي وابن مسعود، وروي عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "إذا قال الإمام ولا
الضالين فقولوا آمين فإن الإمام يقولها". ولو
كان مسموعا لما احتيج إلى قوله فإن الإمام
يقولها ولأنه من باب الدعاء؛ لأن معناه اللهم
أجب أو ليكن كذلك قال الله تعالى:
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وموسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، والسنة في الدعاء الإخفاء، وحديث
وائل طعن فيه النخعي وقال: "أشهد وائل ؟ وغاب
عبد الله على أنه يحتمل أنه صلى الله عليه
وسلم جهر مرة للتعليم ولا حجة في الحديث
الآخر"؛ لأن مكانه معلوم، وهو ما بعد الفراغ
من الفاتحة فكان التعليق صحيحا.
وإذا فرغ من القراءة ينحط للركوع ويكبر مع
الانحطاط ولا يرفع يديه. أما التكبير عند
الانتقال من القيام إلى الركوع فسنة عند عامة
العلماء، وقال بعضهم: "لا يكبر حال ما ركع
وإنما يكبر حال ما يرفع رأسه من الركوع،
والصحيح قول العامة لما روي عن علي وابن مسعود
وأبي موسى الأشعري وغيرهم أن النبي صلى الله
عليه وسلم " كان يكبر عند كل خفض ورفع". وروي
أنه كان يكبر وهو يهوي والواو للحال ولأن
الذكر سنة في كل ركن ليكون معظما لله تعالى:
فيما هو من أركان الصلاة بالذكر كما هو معظم
له بالفعل فيزداد معنى التعظيم والانتقال من
ركن إلى ركن بمعنى الركن لكونه وسيلة إليه
فكان الذكر فيه مسنونا.
وأما رفع اليدين عند التكبير فليس بسنة في
الفرائض عندنا إلا في تكبيرة الافتتاح، وقال
الشافعي: "يرفع يديه عند الركوع وعند رفع
الرأس من الركوع"، وقال بعضهم: "يرفع يديه عند
كل تكبيرة"، وأجمعوا على أنه يرفع الأيدي في
تكبير القنوت وتكبيرات العيدين احتج الشافعي
بما روي عن جماعة من الصحابة مثل علي وابن عمر
ووائل بن حجر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند
الركوع وعند رفع الرأس من الركوع". "ولنا" ما
روى أبو حنيفة بإسناده عن عبد الله بن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يرفع يديه
عند تكبيرة الافتتاح ثم لا يعود بعد ذلك"، وعن
علقمة أنه قال: "صليت خلف عبد الله بن مسعود
فلم يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس من
الركوع فقلت له: لم لا ترفع يديك ؟ فقال: صليت
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي
بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا في التكبيرة
التي تفتتح بها الصلاة". وروي عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال "إن العشرة الذين شهد لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ما كانوا
يرفعون أيديهم إلا لافتتاح الصلاة وخلاف هؤلاء
الصحابة قبيح". وفي المشاهير أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال
"لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة، وفي العيدين،
والقنوت في الوتر، وعند استلام الحجر، وعلى
الصفا والمروة، وبعرفات وبجمع وعند المقامين
عند الجمرتين".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم رأى بعض أصحابه
يرفعون أيديهم عند الركوع وعند رفع الرأس من
الركوع فقال:
"ما لي أراكم
رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في
الصلاة"
، وفي رواية " قاروا في الصلاة" ولأن هذه تكبيرة يؤتى بها في حالة
الانتقال فلا يسن رفع اليدين عندها كتكبيرة
السجود، وتأثيره أن المقصود من رفع اليدين
إعلام الأصم الذي خلفه وإنما يحتاج إلى
الإعلام بالرفع في التكبيرات التي يؤتى بها في
حالة الاستواء كتكبيرات الزوائد في العيدين
وتكبيرات القنوت، فأما فيما يؤتى به في حالة
الانتقال فلا حاجة إليه؛ لأن الأصم يرى
ج / 1 ص -208-
الانتقال فلا حاجة إلى رفع اليدين وما رواه
منسوخ فإنه روي أنه صلى الله عليه وسلم كان
يرفع ثم ترك ذلك بدليل ما روى ابن مسعود رضي
الله عنه أنه قال: "رفع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فرفعنا وترك فتركنا دل عليه أن مدار
حديث الرفع على علي وابن عمر وعاصم بن كليب.
قال: "صليت خلف علي سنتين فكان لا يرفع يديه
إلا في تكبيرة الافتتاح"، ومجاهد قال: "صليت
خلف عبد الله بن عمر سنتين فكان لا يرفع يديه
إلا في تكبيرة الافتتاح فدل عملهما على خلاف
ما رويا على معرفتهما انتساخ ذلك على أن ترك
الرفع عند تعارض الأخبار أولى؛ لأنه لو ثبت
الرفع لا تربو درجته على السنة ولو لم يثبت
كان بدعة وترك البدعة أولى من إتيان السنة؛
ولأن ترك الرفع مع ثبوته لا يوجب فساد الصلاة
والتحصيل مع عدم الثبوت يوجب فساد الصلاة؛
لأنه اشتغال بعمل ليس من أعمال الصلاة باليدين
جميعا وهو تفسير العمل الكثير وقد بينا
المقدار المفروض من الركوع في موضعه
وأما سنن الركوع فمنها أن يبسط ظهره لما روي
عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع بسط ظهره حتى
لو وضع على ظهره قدح من ماء لاستقر"، ومنها أن
لا ينكس رأسه ولا يرفعه أي: يسوي رأسه بعجزه؛
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
ركع لم يرفع رأسه ولم ينكسه". وروي أنه نهى أن
يدبح المصلي تدبيح الحمار" وهو أن يطأطئ رأسه
إذا شم البول أو أراد أن يتمرغ؛ ولأن بسط
الظهر سنة، وإنه لا يحصل مع الرفع والتنكيس،
ومنها أن يضع يديه على ركبتيه وهو قول عامة
الصحابة وقال ابن مسعود: "السنة هي التطبيق"
وهو أن يجمع بين كفيه ويرسلهما بين فخذيه،
والصحيح قول العامة لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال لأنس رضي الله عنه: "إذا
ركعت فضع كفيك على ركبتيك وفرج بين أصابعك"
وفي رواية وفرق بين أصابعك. وروي عن عمر رضي
الله عنه أنه قال: "ثنيت لكم الركب فخذوا
بالركب"، والتطبيق منسوخ لما روي أن سعيد بن
العاص رأى ابنه يطبق في الصلاة فنهاه عن ذلك
فقال: "رأيت ابن مسعود يطبق في الصلاة"، فقال:
"رحم ابن مسعود كنا نطبق في الابتداء ثم نهينا
عنه" فيحتمل أن ابن مسعود كان يفعله؛ لأن
النسخ لم يبلغه. ومنها أنه يفرق بين أصابعه
لما روينا ولأن السنة هي الوضع مع الأخذ لحديث
عمر رضي الله عنه والتفريق أمكن من الأخذ،
ومنها أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم
ثلاثا، وهذا قول العامة، وقال مالك في قول:
"من ترك التسبيح في الركوع تبطل صلاته" وفي
رواية عنه أنه قال: "لا نجد في الركوع دعاء
مؤقتا". وروي عن أبي مطيع البلخي أنه قال: "من
نقص من الثلاث في تسبيحات الركوع والسجود لم
تجزه صلاته"، وهذا فاسد؛ لأن الأمر تعلق بفعل
الركوع والسجود مطلقا عن شرط التسبيح فلا يجوز
نسخ الكتاب بخبر الواحد فقلنا بالجواز مع كون
التسبيح سنة عملا بالدليلين بقدر الإمكان
ودليل كونه سنة ما روي عن عقبة بن عامر أنه
قال: "لما نزل قوله تعالى:
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها
في سجودكم" ثم السنة
فيه أن يقول ثلاثا وذلك أدناه، وقال الشافعي:
"يقول مرة واحدة"؛ لأن الأمر بالفعل لا يقتضي
التكرار فيصير ممتثلا بتحصيله مرة واحدة، ولنا
ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال "إذا صلى أحدكم فليقل في ركوعه:
سبحان ربي العظيم ثلاثا، وفي سجوده سبحان ربي
الأعلى ثلاثا، وذلك أدناه" والأمر بالفعل
يحتمل التكرار فيحمل عليه عند قيام الدليل.
وروي عن محمد أنه إذا سبح مرة واحدة يكره؛ لأن
الحديث جعل الثلاث أدنى التمام فما دونه يكون
ناقصا فيكره ولو زاد على الثلاث فهو أفضل؛ لأن
قوله وذلك أدناه دليل استحباب الزيادة، وهذا
إذا كان منفردا فإن كان مقتديا يسبح إلى أن
يرفع الإمام رأسه. وأما إذا كان إماما فينبغي
أن يسبح ثلاثا ولا يطول على القوم لما روينا
من الأحاديث ولأن التطويل سبب التنفير وذلك
مكروه، وقال بعضهم: "يقولها أربعا حتى يتمكن
القوم من أن يقولوها ثلاثا"، وعن سفيان الثوري
أنه يقولها خمسا، وقال الشافعي: "يزيد في
الركوع على التسبيحة الواحدة اللهم لك ركعت
ولك خشعت ولك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت
ويقول في السجود سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه
وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين كذا روي عن
علي رضي الله عنه وهو عندنا محمول
ج / 1 ص -209-
على
النوافل ثم الإمام إذا كان في الركوع فسمع خفق
النعل ممن دخل المسجد هل ينتظره أم لا ؟ قال
أبو يوسف: "سألت أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن
ذلك فكرهاه، وقال أبو حنيفة: أخشى عليه أمرا
عظيما يعني الشرك"، وروى هشام عن محمد أنه كره
ذلك، وعن أبي مطيع أنه كان لا يرى بأسا، وقال
الشافعي: "لا بأس به مقدار تسبيحة أو
تسبيحتين"، وقال بعضهم: "يطول التسبيحات ولا
يزيد على العدد، وقال أبو القاسم الصفار: "إن
كان الرجل غنيا لا يجوز له الانتظار وإن كان
فقيرا يجوز"، وقال الفقيه أبو الليث: "إن كان
الإمام قد عرف الجائي فإنه لا ينتظره"؛ لأنه
يشبه الميل وإن لم يعرفه فلا بأس به؛ لأن في
ذلك إعانة على الطاعة.
وإذا اطمأن راكعا رفع رأسه وقال: "سمع الله
لمن حمده" ولم يرفع يديه فيحتاج فيه إلى بيان
المفروض والمسنون. أما المفروض فقد ذكرناه وهو
الانتقال من الركوع إلى السجود لما بينا أنه
وسيلة إلى الركن، فأما رفع الرأس وعوده إلى
القيام فهو تعديل الانتقال وإنه ليس بفرض عند
أبي حنيفة ومحمد بل هو واجب أو سنة عندهما
وعند أبي يوسف والشافعي فرض على ما مر. وأما
سنن هذا الانتقال فمنها أن يأتي بالذكر؛ لأن
الانتقال فرض فكان الذكر فيه مسنونا واختلفوا
في ماهية الذكر، والجملة فيه أن المصلي لا
يخلو إما أن يكون إماما أو مقتديا أو منفردا،
فإن كان إماما يقول سمع الله لمن حمده ولا
يقول ربنا لك الحمد في قول أبي حنيفة، وقال
أبو يوسف ومحمد والشافعي: يجمع بين التسميع
والتحميد. وروي عن أبي حنيفة مثل قولهما،
احتجوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده
ربنا لك الحمد" وغالب أحواله كان هو الإمام،
وكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه؛ ولأن الإمام
منفرد في حق نفسه والمنفرد يجمع بين هذين
الذكرين فكذا الإمام، ولأن التسميع تحريض على
التحميد فلا ينبغي أن يأمر غيره بالبر وينسى
نفسه كي لا يدخل تحت قوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} واحتج أبو حنيفة بما روى أبو موسى الأشعري وأبو هريرة رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به فلا تختلفوا
عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا،
وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين، وإذا ركع
فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا
ربنا لك الحمد" قسم التحميد والتسميع بين
الإمام والقوم فجعل التحميد لهم والتسميع له،
وفي الجمع بين الذكرين من أحد الجانبين إبطال
هذه القسمة وهذا لا يجوز، وكان ينبغي أن لا
يجوز للإمام التأمين أيضا بقضية هذا الحديث،
وإنما عرفنا ذلك لما روينا من الحديث، ولأن
إتيان التحميد من الإمام يؤدي إلى جعل التابع
متبوعا والمتبوع تابعا وهذا لا يجوز، بيان ذلك
أن الذكر يقارن الانتقال فإذا قال الإمام
مقارنا للانتقال سمع الله لمن حمده يقول
المقتدي مقارنا له: ربنا لك الحمد، فلو قال
الإمام بعد ذلك لوقع قوله بعد قول المقتدي
فينقلب المتبوع تابعا والتابع متبوعا، ومراعاة
التبعية في جميع أجزاء الصلاة واجبة بقدر
الإمكان، وحديث عائشة رضي الله عنها محمول على
حالة الانفراد في صلاة الليل، وقولهم: الإمام
منفرد في حق نفسه مسلم لكن المنفرد لا يجمع
بين الذكرين على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة
ولأن ما ذكرنا من معنى التبعية لا يتحقق في
المنفرد فبطل الاستدلال. وأما قولهم: "إنه
يأمر غيره بالبر فينبغي أن لا ينسى نفسه"
فنقول: "إذا أتى بالتسميع فقد صار دالا على
التحميد والدال على الخير كفاعله فلم يكن
ناسيا نفسه"، هذا إذا كان إماما فإن كان
مقتديا يأتي بالتحميد لا غير عندنا، وعند
الشافعي يجمع بينهما استدلالا بالمنفرد؛ لأن
الاقتداء لا أثر له في إسقاط الأذكار بالإجماع
وإن اختلفا في القراءة. "ولنا" أن النبي صلى
الله عليه وسلم قسم التسميع والتحميد بين
الإمام والمقتدي وفي الجمع بينهما من الجانبين
إبطال القسمة وهذا لا يجوز، ولأن التسميع دعاء
إلى التحميد وحق من دعي إلى شيء الإجابة إلى
ما دعي إليه لإعادة قول الداعي، وإن كان
منفردا فإنه يأتي بالتسميع في ظاهر الرواية،
وكذا يأتي بالتحميد عندهم وعن أبي حنيفة
روايتان روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
أنه يأتي بالتسميع دون التحميد وإليه ذهب
الشيخ الإمام أبو القاسم الصفار والشيخ أبو
بكر الأعمش، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع
بينهما، وذكر في بعض النوادر عنه أنه يأتي
بالتحميد لا غير، وفي الجامع الصغير ما يدل
عليه فإن أبا يوسف قال: "سألت أبا حنيفة رحمه
الله تعالى: عن الرجل يرفع رأسه من
ج / 1 ص -210-
الركوع
في الفريضة أيقول اللهم اغفر لي ؟ قال: يقول
ربنا لك الحمد ويسكت وما أراد به الإمام؛ لأنه
لا يأتي بالتحميد عنده فكان المراد منه
المنفرد. وجه هذه الرواية أن التسميع ترغيب في
التحميد وليس معه من يرغبه، والإنسان لا يرغب
نفسه فكانت حاجته إلى التحميد لا غير. وجه
رواية المعلى أن التحميد يقع في حالة القومة
وهي مسنونة وسنة الذكر تختص بالفرائض
والواجبات كالتشهد في القعدة الأولى ولهذا لم
يشرع في القعدتين السجدتين. وجه رواية الحسن
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بينهما
في حديث عائشة رضي الله عنها ولا محمل له سوى
حالة الانفراد لما مر ولهذا كان عمل الأمة على
هذا وما كان الله ليجمع أمة محمد صلى الله
عليه وسلم على ضلالة، واختلفت الأخبار في لفظ
التحميد في بعضها ربنا ولك الحمد وفي بعضها
ربنا لك الحمد والأشهر هو الأول.
وإذا اطمأن قائما ينحط للسجود؛ لأنه فرغ من
الركوع وأتى به على وجه التمام فيلزمه
الانتقال إلى ركن آخر وهو السجود إذ الانتقال
من ركن إلى ركن فرض؛ لأنه وسيلة إلى الركن لما
مر، ومن سنن الانتقال أن يكبر مع الانحطاط ولا
يرفع يديه؛ لما تقدم، ومنها أن يضع ركبتيه على
الأرض ثم يديه وهذا عندنا، وقال مالك
والشافعي: "يضع يديه أولا" واحتجا بما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بروك الجمل
في الصلاة" وهو أن يضع ركبتيه أولا، ولنا عين
هذا الحديث؛ لأن الجمل يضع يديه أولا وروي عن
عمر وابن مسعود رضي الله عنهما مثل قولنا،
وهذا إذا كان الرجل حافيا يمكنه ذلك فإن كان
ذا خف لا يمكنه وضع الركبتين قبل اليدين فإنه
يضع يديه أولا ويقدم اليمنى على اليسرى، ومنها
أن يضع جبهته ثم أنفه، وقال بعضهم: "أنفه ثم
جبهته". والكلام في فرضية أصل السجود والقدر
المفروض منه ومحل إقامة الفرض قد مر في موضعه.
وههنا نذكر سنن السجود، منها أن يسجد على
الأعضاء السبعة لما روينا فيما تقدم، ومنها أن
يجمع في السجود بين الجبهة والأنف فيضعهما،
وعند الشافعي فرض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"لا يقبل
الله صلاة من لم يمس أنفه الأرض كما يمس
جبهته"،
وهو عندنا محمول على التهديد ونفي الكمال لما
مر، ومنها أن يسجد على الجبهة والأنف من غير
حائل من العمامة والقلنسوة. ولو سجد على كور
العمامة ووجد صلابة الأرض جاز عندنا كذا ذكر
محمد في الآثار، وقال الشافعي: "لا يجوز،
والصحيح قولنا؛ لما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم " كان يسجد على كور عمامته"؛ ولأنه
لو سجد على عمامته وهي منفصلة عنه ووجد صلابة
الأرض يجوز فكذا إذا كانت متصلة به ولو سجد به
على حشيش أو قطن إن تسفل جبينه فيه حتى وجد
حجم الأرض أجزأه، وإلا فلا، وكذا إذا صلى على
طنفسة محشوة جاز إذا كان متلبدا، وكذا إذا صلى
على الثلج إذا كان موضع سجوده متلبدا يجوز
وإلا فلا. ولو زحمه الناس فلم يجد موضعا
للسجود فسجد على ظهر رجل أجزأه لقول عمر اسجد
على ظهر أخيك فإنه مسجد لك. وروى الحسن عن أبي
حنيفة أنه إن سجد على ظهر شريكه في الصلاة
يجوز، وإلا فلا؛ لأن الجواز للضرورة وذلك عند
المشاركة في الصلاة، ومنها أن يضع يديه في
السجود حذاء أذنيه لما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم "كان إذا سجد وضع يديه حذاء
أذنيه"، ومنها أن يوجه أصابعه نحو القبلة لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا سجد
العبد سجد كل عضو منه فليوجه من أعضائه إلى
القبلة ما استطاع"، ومنها أن يعتمد على راحتيه " لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله
بن عمر
"إذا سجدت فاعتمد على راحتيك"،
ومنها أن يبدي ضبعيه لقوله صلى الله عليه وسلم
لابن عمر"وأبد ضبعيك"
أي أظهر الضبع وهو وسط العضد بلحمه، وروى جابر
رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى يرى بياض
إبطيه"، ومنها أن يعتدل في سجوده ولا يفترش
ذراعيه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال
"اعتدلوا في السجود ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب"، وقال مالك: "يفترش في النفل دون الفرض" وهو فاسد لما روينا من
الحديث من غير فصل وهذا في حق الرجل فأما
المرأة فينبغي أن تفترش ذراعيها وتنخفض ولا
تنتصب كانتصاب الرجل وتلزق بطنها بفخذيها لأن
ذلك أستر لها، ومنها أن يقول في سجوده: سبحان
ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه؛ لما ذكرنا ثم
يرفع رأسه ويكبر حتى يطمئن قاعدا والرفع فرض؛
لأن السجدة الثانية فرض فلا بد من الرفع
للانتقال إليها والطمأنينة في القعدة بين
السجدتين للاعتدال وليست بفرض في قول
ج / 1 ص -211-
أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: ولكنها سنة أو
واجبة، وعند أبي يوسف والشافعي رحمهما الله
تعالى فرض على ما مر. وأما مقدار الرفع بين
السجدتين فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى فيمن رفع رأسه من السجدة مقدار ما
تمر الريح بينه وبين الأرض أنه تجوز صلاته،
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا رفع رأسه
مقدار ما يسمى به رافعا جاز، وكذا قال محمد بن
سلمة: إنه إذا رفع رأسه مقدار ما يشكل على
الناظر أنه رفع رأسه جاز وهو الصحيح؛ لأنه وجد
الفصل بين الركنين والانتقال وهذا هو المفروض
فأما الاعتدال فمن باب السنة أو الواجب على ما
مر والسنة فيه أن يكبر مع الرفع لما مر ثم
ينحط للسجدة الثانية مكبرا ويقول ويفعل فيها
مثل ما فعل في الأولى ثم ينهض على صدور قدميه
ولا يقعد يعني إذا قام من الأولى إلى الثانية
ومن الثالثة إلى الرابعة، وقال الشافعي: "يجلس
جلسة خفيفة ثم يقوم واحتج بما روى مالك بن
الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعدا
واعتمد بيديه على الأرض حالة القيام" ولنا ما
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا قام من السجدة الثانية ينهض على صدور
قدميه". وروي عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود
وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي
الله عنهم أن هم كانوا ينهضون على صدور
أقدامهم، وما رواه الشافعي محمول على حالة
الضعف حتى كان يقول لأصحابه لا تبادروني
بالركوع والسجود فإني قد بدنت أي كبرت وأسننت
فاختار أيسر الأمرين، ويعتمد بيديه على ركبتيه
لا على الأرض ويرفع يديه قبل ركبتيه وعند
الشافعي يعتمد بيديه على الأرض ويرفع ركبتيه
قبل يديه؛ لما روينا من حديث مالك بن الحويرث
ولنا ما روي عن علي أنه قال: "من السنة في
الصلاة المكتوبة أن لا يعتمد بيديه على الأرض
إلا أن يكون شيخا كبيرا" وبه تبين أن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك في حالة
العذر، ثم يفعل ذلك في الركعة الثانية مثل ما
فعل في الأولى ويقعد على رأس الركعتين.
وقد بينا فيما تقدم صفة القعدة الأولى وأنها
واجبة شرعت للفصل بين الشفعين، وههنا نذكر
كيفية القعدة وذكر القعدة. أما كيفيتها فالسنة
أن يفترش رجله اليسرى في القعدتين جميعا ويقعد
عليها وينصب اليمنى نصبا وقال الشافعي: "السنة
في القعدة الأولى كذلك فأما في الثانية فإنه
يتورك"، وقال مالك: "يتورك فيهما جميعا"،
وتفسير التورك أن يضع أليتيه على الأرض ويخرج
رجليه إلى الجانب الأيمن ويجلس على وركه
الأيسر احتج الشافعي بما روي عن أبي حميد
الساعدي أنه قال فيما وصف صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم: كان إذا جلس في الأولى فرش
رجله اليسرى وقعد عليها ونصب اليمنى نصبا وإذا
جلس في الثانية أماط رجليه وأخرجهما من تحت
وركه اليمنى"، ولنا ما روي عن عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد
فرش رجله اليسرى وقعد عليها ونصب اليمنى
نصبا"، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه نهى عن التورك في الصلاة"،
وحديث أبي حميد محمول على حال الكبر والضعف،
وهذا في حق الرجل فأما المرأة فإنها تقعد
كأستر ما يكون لها فتجلس متوركة؛ لأن مراعاة
فرض الستر أولى من مراعاة سنة القعدة، ويوجه
أصابع رجله اليمنى نحو القبلة لما مر وينبغي
أن يضع يده اليمنى على فخذه الأيمن واليسرى
على فخذه الأيسر في حالة القعدة كذا روي عن
محمد في النوادر، وذكر الطحاوي أنه يضع يديه
على ركبتيه والأول أفضل؛ لما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا قعد وضع مرفقه اليمنى
على فخذه الأيمن وكذا اليسرى على فخذه
الأيسر"؛ ولأن في هذا توجيه أصابعه إلى
القبلة، وفيما قاله الطحاوي توجيهها إلى
الأرض.
وأما ذكر القعدة فالتشهد والكلام في التشهد في
مواضع، في بيان كيفية التشهد، وفي بيان قدر
التشهد، وفي بيان أنه واجب أو سنة، وفي بيان
سنة التشهد. أما الأول فقد اختلف الصحابة رضي
الله عنهم في كيفيته وأصحابنا أخذوا بتشهد عبد
الله بن مسعود وهو أن يقول:
ج / 1 ص -212-
التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا
الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والشافعي
أخذ بتشهد عبد الله بن عباس وهو أن يقول:
"التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" ومالك أخذ
بتشهد عمر رضي الله عنه وهو أن يقول التحيات
الناميات الزاكيات المباركات الطيبات لله"
والباقي كتشهد ابن مسعود رضي الله عنه ومن
الناس من اختار تشهد أبي موسى الأشعري وهو أن
يقول التحيات لله الطيبات والصلوات لله
والباقي كتشهد ابن مسعود. وفي هذا حكاية فإنه
روي أن أعرابيا دخل على أبي حنيفة فقال:
"أبواو أم بواوين" ؟ فقال: "بواوين"، فقال
الأعرابي: "بارك الله فيك كما بارك في لا
ولا"، ثم ولى فتحير أصحابه فسألوه عن سؤاله
فقال: إن هذا سألني عن التشهد أبواوين كتشهد
ابن مسعود أم بواو كتشهد أبي موسى الأشعري ؟
فقلت: "بواوين"، قال: "بارك الله فيك كما بارك
في شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية"،
وإنما أوردت هذه الحكاية ليعلم كمال فطنة أبي
حنيفة ونفاذ بصيرته حيث كان يقف على المراد
بحرف تغمده الله برحمته، احتج الشافعي بأن ابن
عباس كان من شبان الصحابة وإنما كان يختار ما
استقر عليه الأمر فأما ابن مسعود فهو من
الشيوخ ينقل ما كان في الابتداء كما نقل عنه
التطبيق وغيره؛ ولأن هذا موافق لكتاب الله؛
لأن فيه وصف التحية بالبركة على ما قال الله
تعالى:
{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}
وفيه ذكر السلام منكرا كما في قوله تعالى:
{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
{سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} {سَلامٌ
قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فكان الأخذ به أولى. واحتج مالك بأن عمر رضي الله عنه علم الناس
التشهد بهذه الصفة على منبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولنا ما روي عن عبد الله بن
مسعود أنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيدي وعلمني التشهد كما كان يعلمني
السورة من القرآن وقال: قل التحيات لله
والصلوات والطيبات إلى آخرها، وقال: "إذا قلت
هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك" وأخذ اليد عند
التعليم لتأكيد التعليم وتقريره عند المتعلم،
وكذا أمر به بقوله: قل وكذا علق تمام الصلاة
بهذا التشهد فمن لم يأت به لا توصف صلاته
بالتمام؛ ولأن هذا التشهد هو المستفيض في
الأمة الشائع في الصحابة فإنه روي عن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه أنه علم الناس التشهد على
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا ولم
ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا، وكذا
روى ابن عمر عن الصديق رضي الله عنهما أنه كان
يعلم الناس التشهد كما يعلم الصبيان في
الكتاب، وذكر مثل تشهد ابن مسعود، وكذا روي عن
معاوية أنه علم الناس التشهد على المنبر على
نحو ما نقله ابن مسعود، وكذا المروي عن " علي
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
علمه التشهد" وذكر تشهد ابن مسعود وكذا المروي
عن عائشة رضي الله عنها وقالت هكذا تشهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولأن تشهد ابن مسعود
أبلغ في الثناء؛ لأن الواو توجب عطف بعض
الكلمات على البعض فكان كل لفظ ثناء على حدة
وفيما ذكره ابن عباس إخراج الكلام مخرج الصفة
فيكون الكل كلاما واحدا كما في اليمين فإن
قوله والله والرحمن والرحيم ثلاثة أيمان،
وقوله والله الرحمن الرحيم يمين واحد وكذا
السلام في التشهد مذكور بالألف واللام، وفي
ذلك التشهد مذكور على طريق التنكير ولا شك أن
اللام أبلغ؛ لأن اللام لاستغراق الجنس مع أن
هذا موافق لكتاب الله أيضا قال الله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} {وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُ}
وما ذكر الشافعي من الترجيح غير سديد؛ لأنه
يؤدي إلى تقديم رواية الأحداث على رواية
المهاجرين، واحد لا يقول به وما ذكره مالك
ضعيف فإن أبا بكر رضي الله عنه علم الناس
التشهد على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما هو تشهد ابن مسعود فكان الأخذ به أولى.
وأما مقدار التشهد فمن قوله التحيات لله إلى
قوله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ويكره أن
يزيد في التشهد حرفا أو يبتدئ بحرف قبله؛ لما
روي عن ابن مسعود أنه قال: "كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأخذ علينا التشهد بالواو
والألف" فهذا نص على أنه لا يجوز الزيادة
عليه، وما نقل في أول التشهد باسم الله وبالله
أو باسم الله خير الأسماء وفي آخره أرسله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو
كره المشركون فشاذ لم يشتهر فلا يقبل في
معارضة المشهور وكذا لا يزيد على هذا المقدار
من الصلوات والدعوات في القعدة الأولى عندنا،
وعند مالك والشافعي يزيد عليهم اللهم صل على
محمد واحتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم
"وفي كل ركعتين فتشهد وسلم على المرسلين وعلى من تبعهم من عباد الله
الصالحين"، ولنا
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان
لا يزيد في الركعتين الأوليين على التشهد"
وروي أنه كان يسرع النهوض في الشفع الأول ولا
يزيد على التشهد ولأن الزيادة على التشهد
ج / 1 ص -213-
مخالفة
للإجماع فإن الطحاوي قال: "من زاد على هذا فقد
خالف الإجماع وهو كان أعلم الناس بمذهب السلف
وكفى بمخالفة الإجماع فسادا في المذهب"؛ ولأن
هذا دعاء ومحل الدعاء آخر الصلاة، والمراد من
الحديث سلام التشهد أو نحمله على التطوعات؛
لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة ولو زاد
على التشهد قوله اللهم صل على محمد ساهيا لا
يلزمه سجود السهو عند أبي يوسف ومحمد، وذكر في
أمالي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يلزمه،
والمسألة قد مرت.
وأما في القعدة الأخيرة فيدعو بعد التشهد
ويسأل حاجته لقوله تعالى:
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} جاء في التفسير أن المراد منه الدعاء في آخر الصلاة فانصب للدعاء،
وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود:
"إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك، ثم
اختر من الدعوات ما شئت" ولكن ينبغي أن يدعو بما لا يشبه كلام الناس حتى يكون خروجه من
الصلاة على وجه السنة وهو إصابة لفظة السلام،
وفسره أصحابنا فقالوا: "ما يشبه كلام الناس هو
ما لا يستحيل سؤاله من غيره تعالى" كقوله
أعطني كذا أو زوجني امرأة، وما لا يشبه كلام
الناس هو ما يستحيل سؤاله من غيره كقوله:
اللهم اغفر لي ونحو ذلك، ثم لم يذكر في الأصل
أنه يقدم الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم. وذكر الطحاوي في مختصره أنه بعد التشهد
يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو
بحاجته ويستغفر لنفسه ولوالديه إن كانا مؤمنين
وللمؤمنين والمؤمنات وهذا هو الصحيح أن يقدم
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على
الدعاء ليكون أقرب إلى الإجابة؛ لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا صلى
أحدكم فليبدأ بالحمد والثناء على الله ثم
بالصلاة علي ثم بالدعاء والصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم" ما هو المعروف المتداول على
ألسنة الأمة، ولا يكره أن يقول فيها: وارحم
محمدا عند عامة المشايخ، وبعضهم كرهوا ذلك
وزعموا أنه يوهم التقصير منه في الطاعة ولهذا
لا يقال عند ذكره: رحمه الله والصحيح أنه لا
يكره؛ لأن أحدا وإن جل قدره من العباد لا
يستغني عن رحمة الله تعالى: وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لا يدخل الجنة أحد بعمله
إلا برحمة الله" قيل: "ولا
أنت يا رسول الله" ؟ فقال: "ولا أنا إلا أن
يتغمدني الله برحمته" دل عليه أنه جاز قوله:
اللهم صل على محمد والصلاة من الله رحمة ثم
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في
الصلاة ليست بفرض عندنا بل هي سنة مستحبة،
وعند الشافعي فرض لا تجوز الصلاة بدونها وهي
اللهم صل على محمد، وله في فرضية الصلاة في
الأولى قولان واحتج بقوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ}
ومطلق الأمر للفرضية، وقال صلى الله عليه وسلم
"لا صلاة لمن لم يصل علي في صلاته" ولنا ما روينا من حديث ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم
بتمام الصلاة عند القعود قدر التشهد من غير
شرط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا
حجة في الآية؛ لأن المراد منها الندب بدليل ما
روينا وروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما
أنهما قالا: الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم سنة في الصلاة على أن الأمر المطلق لا
يقتضي التكرار بل يقتضي الفعل مرة واحدة، وقد
قال الكرخي من أصحابنا: إن الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم فرض العمر كالحج، وليس في
الآية تعيين حالة الصلاة والحديث محمول على
نفي الكمال لقوله صلى الله عليه وسلم
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وبه نقول. وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في غير حالة
الصلاة فقد كان الكرخي يقول: إنها فريضة على
كل بالغ عاقل في العمر مرة واحدة وقال
الطحاوي: كلما ذكره أو سمع اسمه تجب. وجه قول
الكرخي ما ذكرنا أن الأمر المطلق لا يقتضي
التكرار فإذا امتثل مرة في الصلاة أو في غيرها
سقط الفرض عنه كما يسقط فرض الحج بالحج مرة
واحدة. وجه ما ذكره الطحاوي أن سبب وجوب
الصلاة هو الذكر أو السماع، والحكم يتكرر
بتكرر السبب كما يتكرر وجوب الصلاة والصوم
وغيرهما من العبادات بتكرر أسبابها. وأما بيان
أنه واجب أو سنة، فأما التشهد في القعدة
الأولى فواجب استحسانا وقال القاضي أبو جعفر
الأسروشني: "إنه سنة" وهذا أقرب إلى القياس؛
لأن ذكر التشهد أدنى رتبة من القعدة ألا ترى
أن القعدة الأخيرة لما كانت فرضا كانت القراءة
فيها واجبة ؟ فالقعدة الأولى لما كانت واجبة
يجب أن تكون القراءة فيها سنة ليظهر انحطاط
رتبته والصحيح أنه واجب فإن محمدا أوجب سجود
السهو بتركه ساهيا وأنه لا يجب إلا
ج / 1 ص -214-
بترك
الواجب على ما ذكرنا فيما تقدم وكذا في القعدة
الأخيرة عندنا حتى لو تركه عمدا لا تفسد صلاته
ولكن يكون مسيئا، ولو تركه سهوا يلزمه سجود
السهو وعند الشافعي فرض حتى لا تجوز الصلاة
بدونه وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم.
وأما سنة التشهد فهي الإخفاء لما روي عن ابن
مسعود أنه قال: "أربع يخفيهن الإمام وعد منها
التشهد"؛ ولأنه من باب الثناء، والأصل في
الأثنية والأدعية هو الإخفاء وهل يشير
بالمسبحة إذا انتهى إلى قوله: أشهد أن لا إله
إلا الله ؟ قال بعض مشايخنا: "لا يشير"؛ لأن
فيه ترك سنة اليد وهي الوضع، وقال بعضهم:
"يشير" فإن محمدا قال في كتاب المسبحة حدثنا
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير
بأصبعه فيفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه
وسلم ويصنع ما صنعه وهو قول أبي حنيفة، وقولنا
ثم كيف يشير ؟ قال أهل المدينة: يعقد ثلاثة
وخمسين ويشير بالمسبحة، وذكر الفقيه أبو جعفر
الهندواني أنه يعقد الخنصر والبنصر ويحلق
الوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة، وقال: "إن
النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يفعل والله
أعلم.
وأما الذي يؤتى به عند الخروج من الصلاة وهو
التسليم فالكلام في صفة التسليم وقدره وكيفيته
وحكمه قد ذكرناه فيما تقدم وههنا نذكر سنن
التسليم، فمنها أن يبدأ بالتسليم عن اليمين؛
لما روينا من الأحاديث؛ ولأن لليمين فضلا على
الشمال فكانت البداية بها أولى. ولو سلم أولا
عن يساره أو سلم تلقاء وجهه، روى الحسن عن أبي
حنيفة أنه إذا سلم عن يساره يسلم عن يمينه ولا
يعيد التسليم عن يساره، ولو سلم تلقاء وجهه
سلم بعد ذلك عن يساره، ومنها أن يبالغ في
تحويل الوجه في التسليمتين ويسلم عن يمينه حتى
يرى بياض خده الأيمن وعن يساره حتى يرى بياض
خده الأيسر؛ لما روي عن ابن مسعود أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم" كان يحول وجهه في
التسليمة الأولى حتى يرى بياض خده الأيمن أو
قال خده الأيسر" ولا يكون ذلك إلا عند شدة
الالتفات. ومنها أن يجهر بالتسليم إن كان
إماما؛ لأن التسليم للخروج من الصلاة فلا بد
من الإعلام، ومنها أن يسلم مقارنا لتسليم
الإمام إن كان مقتديا في رواية عن أبي حنيفة
كما في التكبير، وفي رواية يسلم بعد تسليمه
وهو قول أبي يوسف ومحمد كما قالا في التكبير
وقد مر الفرق لأبي حنيفة على إحدى الروايتين،
ومنها أن ينوي من يخاطبه بالتسليم؛ لأن خطاب
من لا ينوي خطابه لغو وسفه ثم لا يخلو إما إن
كان إماما أو منفردا أو مقتديا فإن كان إماما
ينوي بالتسليمة الأولى من على يمينه من الحفظة
والرجال والنساء وبالتسليمة الثانية من على
يساره منهم، كذا ذكر في الأصل وأخر ذكر الحفظة
في الجامع الصغير، فمن مشايخنا من ظن أن في
المسألة روايتين في رواية كتاب الصلاة يقدم
الحفظة في النية؛ لأن السلام خطاب فيبدأ
بالنية الأقرب فالأقرب وهم الحفظة ثم الرجال
ثم النساء، وفي رواية الجامع الصغير يقدم
البشر في النية استدلالا بالسلام في التشهد
وهو قوله السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين، قدم ذكر البشر على الملائكة إذ
المراد بالصالحين الملائكة فكذا في السلام في
آخر الصلاة، ومنهم من قال: "إن أبا حنيفة كان
يرى تفضيل الملائكة على البشر ثم رجع فرأى
تفضيل البشر على الملائكة وهذا كله غير سديد؛
لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بحرف الواو
وأنه لا يوجب الترتيب؛ ولأن النية من عمل
القلب وهي تنتظم الكل جملة بلا ترتيب ألا ترى
أن من يسلم على جماعة لا يمكنه أن يرتب في
النية فيقدم الرجال على الصبيان ؟ ثم اختلف
المشايخ في كيفية نية الحفظة قال بعضهم: "ينوي
الكرام الكاتبين واحدا عن يمينه وواحدا عن
يساره، والصحيح أنه ينوي الحفظة عن يمينه وعن
يساره ولا ينوي عددا؛ لأن ذلك لا يعرف بطريق
الإحاطة وكذا اختلفوا في كيفية نية الرجال
والنساء قال بعضهم: "ينوي من كان معه في
الصلاة من المؤمنين والمؤمنات لا غير"، وكان
الحاكم الشهيد يقول: "ينوي جميع رجال العالم
ونسائهم من المؤمنين والمؤمنات، والأول أصح؛
لأن التسليم خطاب وخطاب الغائب ممن لا يبقى
خطابه وليس بخير من خطاب من يبقى خطابه غير
صحيح، وإن كان منفردا فعلى قول الأولين ينوي
الحفظة لا غير وعلى قول الحاكم ينوي الحفظة
وجميع البشر من أهل الإيمان. وأما المقتدي
فينوي ما ينوي الإمام، وينوي أيضا إن كان على
يمين الإمام ينويه في يساره وإن كان على يساره
ينويه في يمينه وإن كان بحذائه فعند أبي يوسف
ينويه في يمينه، وهكذا ذكر في بعض نسخ الجامع
الصغير؛ لأن لليمين فضلا على
ج / 1 ص -215-
اليسار، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ينويه في
الجانبين جميعا، وهكذا ذكر في بعض نسخ الجامع
الصغير وهو قول محمد؛ لأن يمين الإمام عن يمين
المقتدي ويساره عن يساره فكان له حظ في
الجانبين فينويه في التسليمتين والله أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يستحب فيها وما يكره. فالأصل فيه أنه ينبغي للمصلي أن
يخشع في صلاته؛ لأن الله تعالى مدح الخاشعين
في الصلاة، ويكون منتهى بصره إلى موضع سجوده؛
لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يصلي خاشعا شاخصا بصره إلى السماء فلما نزل
قوله تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خَاشِعُونَ} رمى
ببصره نحو مسجده" أي موضع سجوده؛ ولأن هذا
أقرب إلى التعظيم ثم أطلق محمد رحمه الله
تعالى قوله ويكون منتهى بصره إلى موضع سجوده
وفسره الطحاوي في مختصره فقال: "يرمي ببصره
إلى موضع سجوده في حالة القيام وفي حالة
الركوع إلى رءوس أصابع رجليه وفي حالة السجود
إلى أرنبة أنفه وفي حالة القعدة إلى حجره"؛
لأن هذا كله تعظيم وخشوع. وروي في بعض الأخبار
أن الله تعالى حين أمر الملائكة بالصلاة أمرهم
كذلك، وزاد بعضهم عند التسليمة الأولى على
كتفه الأيمن، وعند التسليمة الثانية على كتفه
الأيسر ولا يرفع رأسه ولا يطأطئه؛ لأن فيه ترك
سنة العين وهي النظر إلى المسجد فيخل بمعنى
الخشوع وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه"
نهى أن يدبح الرجل تدبيح الحمار" أي يطأطئ
رأسه ولا يتشاغل بشيء غير صلاته من عبث بثيابه
أو بلحيته؛ لأن فيه ترك الخشوع؛ لما روي" أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يعبث
بلحيته في الصلاة فقال: "أما هذا لو خشع قلبه
لخشعت جوارحه".
ولا يفرقع أصابعه؛ لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه" قال لعلي رضي الله عنه:
"إني أحب لك ما
أحب لنفسي لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي"؛
ولأن فيه ترك الخشوع، ولا يشبك بين أصابعه لما
فيه من ترك سنة الوضع، ولا يجعل يديه على
خاصرته؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه" نهى عن الاختصار في الصلاة" وقيل: إنه
استراحة أهل النار، وقيل: "إن الشيطان لما
أهبط أهبط مختصرا" والتشبه بالكفرة وبإبليس
مكروه خارج الصلاة ففي الصلاة أولى، وعن عائشة
أنه عمل اليهود وقد نهينا عن التشبه بأهل
الكتاب؛ ولأن فيه ترك سنة اليد وهي الوضع.
ولا يقلب الحصى إلا أن يسويه مرة واحدة
لسجوده؛ لما روي عن أبي ذر أنه قال:"سألت
خليلي عن كل شيء حتى سألته عن تسوية الحصى في
الصلاة فقال: يا أبا ذر مرة أو ذر". وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لأن يمسك أحدكم عن الحصى خير له من مائة ناقة سود الحدقة" إلا أنه رخص مرة واحدة إذا كان الحصى لا يمكنه من السجود لحاجته
إلى السجود المسنون وهو وضع الجبهة والأنف
وتركه أولى؛ لما روينا ولأنه أقرب إلى الخشوع.
ولا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ لقول النبي صلى الله
عليه وسلم
"لو علم المصلي من يناجي ما التفت"، "وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال
تلك خلسة يختلسها الشيطان من صلاة أحدكم" وحد
الالتفات المكروه أن يحول وجهه عن القبلة.
وأما النظر بمؤخر العين يمنة أو يسرة من غير
تحويل الوجه فليس بمكروه؛ لما روي "أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ أصحابه بمؤخر
عينيه" ولأن هذا مما لا يمكن التحرز عنه.
ولا يقعي لما روي عن "أبي ذر" أنه قال ":
نهاني خليلي عن ثلاث، أن أنقر نقر الديك، وأن
أقعى إقعاء الكلب، وأن أفترش افتراش الثعلب"
واختلفوا في تفسير الإقعاء قال الكرخي: هو نصب
القدمين والجلوس على العقبين وهو عقب الشيطان
الذي نهي عنه في الحديث، وقال الطحاوي: هو
الجلوس على الأليتين ونصب الركبتين ووضع
الفخذين على البطن وهذا أشبه بإقعاء الكلب؛
ولأن في ذلك ترك الجلسة المسنونة فكان مكروها،
ولا يفترش ذراعيه؛ لما روينا، ولا يتربع من
غير عذر؛ لما روي أن عبد الله بن عمر رأى ابنه
يتربع في صلاته فنهاه عن ذلك فقال: "رأيتك
تفعله يا أبت"، فقال: "إن رجلي لا تحملاني
ولأن الجلوس على الركبتين أقرب إلى الخشوع
فكان أولى"، ولا يكره في حالة العذر؛ لأن
مواضع الضرورة مستثناة من قواعد الشرع.
ولا يتمطى ولا يتثاءب في الصلاة؛ لأنه استراحة
في الصلاة فتكره كالاتكاء على شيء ولأنه مخل
بمعنى الخشوع فإذا عرض له شيء من ذلك كظم ما
استطاع فإن غلب عليه التثاؤب جعل يده على فيه؛
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع فإن لم
يستطع فليضع
ج / 1 ص -216-
يده
على فيه"، ويكره أن يغطي فاه في الصلاة؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ ولأن في
التغطية منعا من القراءة والأذكار المشروعة؛
ولأنه لو غطى بيده فقد ترك سنة اليد، وقد قال
صلى الله عليه وسلم
"كفوا
أيديكم في الصلاة" ولو غطاه
بثوب فقد تشبه بالمجوس؛ لأنهم يتلثمون في
عبادتهم النار والنبي صلى الله عليه وسلم "نهى
عن التلثم في الصلاة" إلا إذا كانت التغطية
لدفع التثاؤب فلا بأس به لما مر.
ويكره أن يكف ثوبه؛ لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال "أمرت أن أسجد على سبعة
أعظم، وأن لا أكف ثوبا ولا أكفت شعرا"؛ ولأن
فيه ترك سنة وضع اليد.
ويكره أن يصلي عاقصا شعره؛ لما روي عن رفاعة
بن رافع أنه رأى "الحسن بن علي رضي الله عنهما
يصلي عاقصا شعره فحل العقدة فنظر إليه الحسن
مغضبا فقال: "يا ابن بنت رسول الله أقبل على
صلاتك ولا تغضب فإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن ذلك وقال ذاك كفل الشيطان"،
وفي رواية مقعد الشيطان من صلاة العبد، والعقص
أن يشد الشعر ضفيرة حول رأسه كما تفعله النساء
أو يجمع شعره فيعقده في مؤخر رأسه.
ويكره أن يصلي معتجرا؛ لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه "نهى عن الاعتجار"، واختلف
في تفسير الاعتجار قيل: هو أن يشد حوالي رأسه
بالمنديل ويتركها منه وهو تشبه بأهل الكتاب،
وقيل: هو أن يلف شعره على رأسه بمنديل فيصير
كالعاقص شعره والعقص مكروه؛ لما ذكرنا، وعن
محمد رحمه الله أنه قال: "لا يكون الاعتجار
إلا مع تنقب وهو أن يلف بعض العمامة على رأسه
ويجعل طرفا منها على وجهه كمعتجر النساء إما
لأجل الحر والبرد أو للتكبر".
ويكره أن يغمض عينيه في الصلاة؛ لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تغميض
العين في الصلاة؛ ولأن السنة أن يرمي ببصره
إلى موضع سجوده وفي التغميض ترك هذه السنة؛
ولأن كل عضو وطرف ذو حظ من هذه العبادة فكذا
العين، ولا يروح في الصلاة لما فيه من ترك سنة
وضع اليد وترك الخشوع.
ويكره أن يبزق على حيطان المسجد أو بين يديه
على الحصى أو يتمخط لقول النبي صلى الله عليه
وسلم "إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي
الجلدة في النار" ولأن ذلك سبب لتنفير الناس
عن الصلاة في المسجد؛ ولأن النخامة والمخاط
مما يستقذر طبعا وإذا عرض له ذلك ينبغي أن
يأخذه بطرف ثوبه وإن ألقاه في المسجد فعليه أن
يرفعه ولو دفنه في المسجد تحت الحصير يرخص له
ذلك والأفضل أن لا يفعل؛ لما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم "رخص في دفن النخامة في
المسجد"؛ ولأنه طاهر في نفسه إلا أنه مستقذر
طبعا فإذا دفن لا يستقذر ولا يؤدي إلى التنفير
والرفع أولى تنزيها للمسجد عما ينزوي منه.
ويكره عد الآي والتسبيح في الصلاة عند أبي
حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: "لا بأس بذلك في
الفرض والتطوع". وروي عن أبي حنيفة أنه كره في
الفرض ورخص في التطوع، وذكر في الجامع الصغير
قول محمد مع أبي حنيفة. وجه قولهما أن العد
محتاج إليه لمراعاة السنة وفي قدر القراءة
وعدد التسبيح خصوصا في صلاة التسبيح التي
توارثتها الأمة ولأبي حنيفة أن في العد باليد
تركا لسنة اليد وذلك مكروه؛ ولأنه ليس من
أعمال الصلاة فالقليل منه إن لم يفسد الصلاة
فلا أقل من أن يوجب الكراهة ولا حاجة إلى العد
باليد في الصلاة فإنه يمكنه أن يعد خارج
الصلاة مقدار ما يقرأ في الصلاة ويعين ثم يقرأ
بعد ذلك المقدار المعين أو يعد بقلبه.
ويكره أن يكون الإمام على دكان والقوم أسفل
منه، والجملة فيه أنه لا يخلو إما أن كان
الإمام على الدكان والقوم أسفل منه أو كان
القوم على الدكان والإمام أسفل منهم، ولا يخلو
إما أن كان الإمام وحده أو كان بعض القوم معه،
وكل ذلك لا يخلو إما أن كان في حالة الاختيار
أو في حالة العذر، أما في حالة الاختيار فإن
كان الإمام وحده على الدكان والقوم أسفل منه
يكره سواء كان المكان قدر قامة الرجل أو دون
ذلك في ظاهر الرواية وروى الطحاوي أنه لا يكره
ما لم يجاوز القامة؛ لأن في الأرض هبوطا
وصعودا وقليل الارتفاع عفو والكثير ليس بعفو
فجعلنا الحد الفاصل ما يجاوز القامة. وروي عن
أبي يوسف أنه إذا كان دون القامة لا يكره،
والصحيح جواب ظاهر الرواية لما روي أن حذيفة
بن اليمان قام بالمدائن ليصلي بالناس على دكان
فجذبه سلمان الفارسي ثم قال: "ما الذي أصابك"
؟ أطال العهد أم نسيت ؟ أما سمعت رسول ول الله
صلى الله عليه وسلم يقول "لا يقوم الإمام على
مكان أنشز مما عليه أصحابه ؟" وفي رواية أما
علمت أن أصحابك يكرهون ذلك ؟ فقال:
ج / 1 ص -217-
"تذكرت حين جذبتني"، ولا شك أن المكان الذي
يمكن الجذب عنه ما دون القامة، وكذا الدكان
المذكور يقع على المتعارف وهو ما دون القامة؛
ولأن كثير المخالفة بين الإمام والقوم يمنع
الصحة فقليلها يورث الكراهة؛ ولأن هذا صنيع
أهل الكتاب، وإن كان الإمام أسفل من القوم
يكره في ظاهر الرواية، وروى الطحاوي عن
أصحابنا أنه لا يكره ووجهه أن الموجب للكراهة
التشبه بأهل الكتاب في صنيعهم ولا تشبه ههنا؛
لأن مكان إمامهم لا يكون أسفل من مكان القوم
وجواب ظاهر الرواية أقرب إلى الصواب؛ لأن
كراهة كون المكان أرفع كان معلولا بعلتين
التشبه بأهل الكتاب ووجود بعض المفسد وهو
اختلاف المكان وههنا وجدت إحدى العلتين وهي
وجود بعض المخالفة هذا إذا كان الإمام وحده
فإن كان بعض القوم معه اختلف المشايخ فيه فمن
اعتبر معنى التشبه قال: "لا يكره" وهو قياس
رواية الطحاوي؛ لزوال معنى التشبه؛ لأن أهل
الكتاب لا يشاركون الإمام في المكان، ومن
اعتبر وجود بعض المفسد قال: "يكره" وهو قياس
ظاهر الرواية؛ لوجود بعض المخالفة. وأما في
حالة العذر كما في الجمع والأعياد لا يكره
كيفما كان لعدم إمكان المراعاة.
ويكره للمار أن يمر بين يدي المصلي؛ لقول
النبي صلى الله عليه وسلم "لو علم المار بين
يدي المصلي ما عليه من الوزر لكان أن يقف
أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه"، ولم يوقت
يوما أو شهرا أو سنة ولم يذكر في الكتاب قدر
المرور، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: "قدر
موضع السجود"، وقال بعضهم: "مقدار الصفين"،
وقال بعضهم: "قدر ما يقع بصره على المار لو
صلى بخشوع"، وفيما وراء ذلك لا يكره وهو
الأصح، وينبغي للمصلي أن يدرأ المار أي يدفعه
حتى لا يمر حتى لا يشغله عن صلاته؛ لما روي عن
أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال
"لا يقطع
الصلاة مرور شيء فادرءوا ما استطعتم".
ولو مر لا تقطع الصلاة سواء كان المار رجلا أو
امرأة؛ لما نذكر في موضعه إلا أنه ينبغي أن
يدفع بالتسبيح أو بالإشارة أو الأخذ بطرف ثوبه
من غير مشي ومعالجة شديدة حتى لا تفسد صلاته،
ومن الناس من قال: "إن لم يقف بإشارته جاز
دفعه بالقتال"؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه كان
يصلي فأراد ابن مروان أن يمر بين يديه فأشار
إليه فلم يقف فلما حاذاه ضربه في صدره ضربة
أقعده على استه فجاء إلى أبيه يشكو أبا سعيد
فقال: "لم ضربت ابني" ؟ فقال: "ما ضربت ابنك
إنما ضربت شيطانا"، فقال: "لم تسمي ابني
شيطانا"، فقال: "لأني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:
"إذا صلى
أحدكم فأراد مار أن يمر بين يديه فليدفعه فإن
أبى فليقاتله فإنه شيطان"، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
"إن في الصلاة لشغلا" يعني أعمال الصلاة، والقتال ليس من أعمال الصلاة فلا يجوز الاشتغال
به، وحديث أبي سعيد كان في وقت كان العمل في
الصلاة مباحا، ومن المشايخ من قال:
"إن الدرء رخصة
والأفضل أن لا يدرأ"؛ لأنه ليس
من أعمال الصلاة. وكذا روى إمام الهدى الشيخ
أبو منصور عن أبي حنيفة أن الأفضل أن يترك
الدرء، والأمر بالدرء في الحديث لبيان الرخصة
كالأمر بقتل الأسودين هذا إذا لم يكن بينهما
حائل كالأسطوانة ونحوها، فأما إن كان بينهما
حائل فلا بأس بالمرور فيما وراء الحائل
والمستحب لمن يصلي في الصحراء أن ينصب بين
يديه عودا أو يضع شيئا أدناه طول ذراع كي لا
يحتاج إلى الدرء؛ لقول النبي صلى الله عليه
وسلم
"إذا صلى أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه سترة". وروي أن "العنزة كانت تحمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتركز
في الصحراء بين يديه فيصلي إليها حتى قال: عون
بن جحيفة عن أبيه "رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالبطحاء في قبة حمراء من أدم فأخرج
بلال العنزة وخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصلى إليها والناس يمرون من ورائها"
وإنما قدر أدناه بذراع طولا دون اعتبار العرض،
وقيل: ينبغي أن يكون في غلظ أصبع؛ لقول ابن
مسعود يجزئ من السترة السهم؛ ولأن الغرض منه
المنع من المرور، وما دون ذلك لا يبدو للناظر
من بعيد فلا يمتنع ويدنو من السترة؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم
"من صلى إلى سترة فليدن منها" فإن لم يجد سترة هل يخط بين يديه خطا ؟ حكى أبو عصمة عن محمد أنه
قال: "لا يخط بين يديه فإن الخط وتركه سواء"؛
لأنه لا يبدو للناظر من بعيد فلا يمتنع فلا
يحصل المقصود، ومن الناس من قال: "يخط بين
يديه خطا إما طولا شبه ظل السترة أو عرضا شبه
المحراب"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"إذا صلى أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه سترة فإن لم
ج / 1 ص -218-
يجد فليخط
بين يديه خطا" ولكن الحديث غريب ورد فيما تعم به البلوى فلا نأخذ به.
ولا بأس بقتل العقرب أو الحية في الصلاة؛ لأنه
يشغل القلب وذلك أعظم من قتله، وقال النبي صلى
الله عليه وسلم
"اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة وهما
الحية والعقرب" وهذا ترخيص وإباحة وإن كانت صيغته صيغة الأمر؛ لأن قتلهما ليس من
أعمال الصلاة حتى لو عالج معالجة كثيرة في
قتلهما تفسد صلاته على ما نذكر.
ويكره للمأموم أن يسبق الإمام بالركوع
والسجود؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال "لا تبادروني بالركوع والسجود فإني قد
بدنت" ولو سبقه ينظر إن لم يشاركه الإمام في
الركن الذي سبقه أصلا لا يجزئه ذلك حتى إنه لو
لم يعد الركن وسلم تفسد صلاته؛ لأن الاقتداء
عبارة عن المشاركة والمتابعة ولم توجد في
الركن وإن شاركه الإمام في ذلك الركن أجزأه
عندنا خلافا لزفر. وجه قوله أن الابتداء وقع
باطلا والباقي بناء عليه فأخذ حكمه ولنا أن
القدر الذي وقعت فيه المشاركة ركوع تام فيكتفى
به، وانعدام المشاركة فيما قبله لا يضر؛ لأنه
ملحق بالعدم، ويكره أن يرفع رأسه من الركوع
والسجود قبل الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه".
ويكره أن يقرأ في غير حال القيام؛ لأنه صلى
الله عليه وسلم "نهى عن القراءة في الركوع
والسجود" وقال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب
وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فإنه قمن
أن يستجاب لكم".ويكره النفخ في الصلاة؛ لأنه
ليس من أعمال الصلاة ولا ضرورة فيه بخلاف
التنفس فإن فيه ضرورة، وهل تفسد الصلاة بالنفخ
؟ فإن لم يكن مسموعا لا تفسد وإن كان مسموعا
تفسد في قول أبي حنيفة ومحمد، ونذكر المسألة
في بيان ما يفسد الصلاة.
ويكره لمن أتى الإمام وهو راكع أن يركع دون
الصف وإن خاف الفوت؛ لما روي عن أبي بكرة أنه
"دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في
الركوع فكبر كما دخل المسجد ودب راكعا حتى
التحق بالصفوف فلما فرغ النبي صلى الله عليه
وسلم قال له: "زادك الله حرصا ولا تعد"؛ لأنه
لا يخلو عن إحدى الكراهتين إما أن يتصل
بالصفوف فيحتاج إلى المشي في الصلاة وإنه فعل
مناف للصلاة في الأصل حتى قال بعض المشايخ:
"إن مشى خطوة خطوة لا تفسد صلاته وإن مشى
خطوتين خطوتين تفسد، وعند بعضهم لا تفسد كيفما
كان"؛ لأن المسجد في حكم مكان واحد لكن لا أقل
من الكراهة، وإما أن يتم الصلاة في الموضع
الذي ركع فيه فيكون مصليا خلف الصفوف وحده
وإنه مكروه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام
"لا صلاة لمنتبذ خلف الصفوف"
وأدنى أحوال النفي هو نفي الكمال، ثم الصلاة
منفردا خلف الصف إنما تكره إذا وجد فرجة في
الصف فأما إذا لم يجد فلا تكره؛ لأن الحال حال
العذر وإنها مستثناة ألا ترى أنها لو كانت
امرأة يجب عليها أن تقوم خلف الصف ؟ لأن
محاذاتها الرجل مفسدة صلاة الرجل فوجب
الانفراد للضرورة، وينبغي إذا لم يجد فرجة أن
ينتظر من يدخل المسجد ليصطف معه خلف الصف فإن
لم يجد أحدا وخاف فوت الركعة جذب من الصف إلى
نفسه من يعرف منه علما وحسن الخلق لكي لا يغضب
عليه فإن لم يجد يقف حينئذ خلف الصف بحذاء
الإمام، قال محمد: ويؤمر من أدرك القوم ركوعا
أن يأتي وعليه السكينة والوقار ولا يعجل في
الصلاة حتى يصل إلى الصف فما أدرك مع الإمام
صلى بالسكينة والوقار وما فاته قضى، وأصله قول
النبي صلى الله عليه وسلم
"إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا
تأتوها وأنتم تسعون، عليكم بالسكينة والوقار
ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا".
ويكره لمصلي المكتوبة أن يعتمد على شيء إلا من
عذر؛ لأن الاعتماد يخل بالقيام وترك القيام في
الفريضة لا يجوز إلا من عذر فكان الإخلال به
مكروها إلا من عذر. ولو فعل جازت صلاته لوجود
أصل القيام وهل يكره ذلك لمصلي التطوع ؟ لم
يذكره في الأصل واختلف المشايخ فيه قال بعضهم:
"لا بأس به"؛ لأن ترك القيام في التطوع جائز
من غير عذر فالإخلال به أولى، وقال بعضهم:
"يكره"؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم "رأى حبلا ممدودا في المسجد فقال:
"لمن هذا"
؟ فقيل: لفلانة تصلي بالليل فإذا أعيت اتكأت
فقال صلى الله عليه وسلم
"لتصلي فلانة بالليل فإذا أعيت فلتنم"؛ ولأن في الاعتماد بعض التنعم والتحبر ولا ينبغي للمصلي أن يفعل
شيئا من ذلك من غير عذر.ويكره السدل في
الصلاة، واختلف في تفسيره ذكر الكرخي أن سدل
الثوب هو أن يجعل ثوبه على رأسه أو على
ج / 1 ص -219-
كتفيه
ويرسل أطرافه من جوانبه إذا لم يكن عليه
سراويل. وروي عن الأسود وإبراهيم النخعي أنهما
قالا: "السدل يكره سواء كان عليه قميص أو لم
يكن وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه
يكره السدل على القميص وعلى الإزار" وقال:
"لأنه صنع أهل الكتاب"، فإن كان السدل بدون
السراويل فكراهته لاحتمال كشف العورة عند
الركوع والسجود وإن كان مع الإزار فكراهته
لأجل التشبه بأهل الكتاب وقال مالك: "لا بأس
به كيفما كان" وقال الشافعي: "إن كان من
الخيلاء يكره وإلا فلا، والصحيح مذهبنا؛ لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن
السدل من غير فصل"
ويكره لبسة الصماء واختلف في تفسيرها ذكر
الكرخي هو أن يجمع طرفي ثوبه ويخرجهما تحت
إحدى يديه على إحدى كتفيه إذا لم يكن عليه
سراويل وإنما كره؛ لأنه لا يؤمن انكشاف
العورة، ومحمد رحمه الله فصل بين الاضطباع
ولبسة الصماء فقال: "إنما تكون لبسة الصماء
إذا لم يكن عليه إزار فإن كان عليه إزار فهو
اضطباع"؛ لأنه يدخل طرفي ثوبه تحت إحدى ضبعيه
وهو مكروه؛ لأنه لبس أهل الكبر، وذكر بعض أهل
اللغة أن لبسة الصماء أن يلف الثوب على جميع
بدنه من العنق إلى الركبتين وأنه مكروه؛ لأن
فيه ترك سنة اليد، ولا بأس أن يصلي في ثوب
واحد متوشحا به أو في قميص واحد، والجملة فيه
أن اللبس في الصلاة ثلاثة أنواع: لبس مستحب،
ولبس جائز من غير كراهة، ولبس مكروه. أما
المستحب فهو أن يصلي في ثلاثة أثواب قميص
وإزار ورداء وعمامة كذا ذكر الفقيه أبو جعفر
الهندواني في غريب الرواية عن أصحابنا، وقال
محمد: إن المستحب للرجل أن يصلي في ثوبين إزار
ورداء؛ لأن به يحصل ستر العورة والزينة جميعا.
وأما اللبس الجائز بلا كراهة فهو أن يصلي في
ثوب واحد متوشحا به أو قميص واحد؛ لأنه حصل به
ستر العورة وأصل الزينة إلا أنه لم تتم
الزينة، وأصله ما روي عن علي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم "سئل عن الصلاة في ثوب واحد
فقال: "أو كلكم يجد ثوبين" ؟ أشار إلى الجواز
ونبه على الحكمة وهي أن كل واحد لا يجد ثوبين،
وهذا كله إذا كان الثوب صفيقا لا يصف ما تحته
فإن كان رقيقا يصف ما تحته لا يجوز؛ لأن عورته
مكشوفة من حيث المعنى، قال النبي صلى الله
عليه وسلم "لعن الله الكاسيات العاريات" ثم لم
يذكر في ظاهر الرواية أن القميص الواحد إذا
كان محلول الجيب والزر هل تجوز الصلاة فيه ذكر
ابن شجاع فيمن صلى محلول الإزار وليس عليه
إزار أنه إن كان بحيث لو نظر رأى عورة نفسه من
زيقه لم تجز صلاته وإن كان بحيث لو نظر لم ير
عورته جازت. وروي عن محمد رحمه الله في غير
رواية الأصول إن كان بحال لو نظر إليه غيره
يقع بصره على عورته من غير تكلف فسدت صلاته
وإن كان بحال لو نظر إليه غيره لا يقع بصره
على عورته إلا بتكلف فصلاته تامة فكأنه شرط
ستر العورة في حق غيره لا في حق نفسه، وعن
داود الطائي أنه قال: "إن كان الرجل خفيف
اللحية لم يجز"؛ لأنه يقع بصره على عورته إذا
نظر من غير تكلف فيكون مكشوف العورة في حق
نفسه وستر العورة عن نفسه وعن غيره شرط
الجواز، وإن كان كث اللحية جاز؛ لأنه لا يقع
بصره على عورته إلا بتكلف فلا يكون مكشوف
العورة. وأما اللبس المكروه فهو أن يصلي في
إزار واحد وسراويل واحد؛ لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه "نهى أن يصلي الرجل في ثوب
واحد ليس على عاتقه منه شيء" ولأن ستر العورة
إن حصل فلم تحصل الزينة، وقد قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. وروي أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في ثوب واحد فقال:
أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت منطلقا في ثوب
واحد ؟ فقال: "لا"، فقال: "الله أحق أن تتزين
له"، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الصلاة في
إزار واحد فعل أهل الجفاء وفي ثوب متوشحا به
أبعد من الجفاء وفي إزار ورداء من أخلاق
الكرام. هذا الذي ذكرنا في حق الرجل فأما
المرأة فالمستحب لها ثلاثة أثواب في الروايات
كلها درع وإزار وخمار فإن صلت في ثوب واحد
متوشحة به يجزئها إذا سترت به رأسها وسائر
جسدها سوى الوجه والكفين وإن كان شيء مما سوى
الوجه والكفين منها مكشوفا فإن كان قليلا جاز
وإن كان كثيرا لا يجوز وسنذكر الحد الفاصل
بينهما إن شاء الله تعالى:، وهذا في حق الحرة
فأما الأمة إذا صلت مكشوفة الرأس يجوز؛ لأن
رأسها ليس بعورة.
ولا بأس بأن يمسح جبهته من التراب بعد ما فرغ
من صلاته قبل أن يسلم بلا خلاف؛ لأنه لو قطع
الصلاة في هذه الحالة لا يكره فلأن
ج / 1 ص -220-
لا
يكره إدخال فعل قليل أولى وأما قبل الفراغ من
الأركان فقد ذكر في رواية أبي سليمان فقال:
"قلت فإن مسح جبهته قبل أن يفرغ ؟ قال: لا،
أكرهه"، من مشايخنا من فهم من هذه اللفظة نفي
الكراهة وجعل كلمة لا داخلة في قوله أكره،
وكذا ذكر في آثار أبي حنيفة وفي اختلاف أبي
حنيفة وابن أبي ليلى ووجهه ما روي عن ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح العرق
عن جبينه في الصلاة" وإنما كان يفعل ذلك؛ لأنه
كان يؤذيه فكذا هذا، ومنهم من قال: "كلمة "لا"
مقطوعة عن قوله أكره فكأنه قال: "هل يمسح" ؟
فقال: "لا نفيا له"، ثم ابتدأ الكلام وقال:
"أكره له ذلك"، وهو رواية هشام في نوادره عن
محمد أنه يكره فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين
المسح قبل الفراغ من الأركان وبين المسح بعد
الفراغ منها قبل السلام والفرق أن المسح قبل
الفراغ لا يفيد؛ لأنه يحتاج إلى أن يسجد ثانيا
فيلتزق التراب بجبهته ثانيا والمسح بعد الفراغ
من الأركان مفيد ولأن هذا فعل ليس من أفعال
الصلاة فيكره تحصيله في وقت لا يباح فيه
الخروج عن الصلاة كسائر الأفعال بخلاف المسح
بعد الفراغ من الأركان، وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال
"أربع من الجفاء وعد منها مسح الجبهة في الصلاة" ومنهم من وفق فقال: جواب محمد فيما إذا كان تركه لا يؤذيه وجواب
أبي حنيفة مثله في هذه الحالة، والحديث محمول
على هذه الحالة أو على المسح باليدين، وجواب
أبي حنيفة فيما إذا كان ترك المسح يؤذيه ويشغل
قلبه عن أداء الصلاة ومحمد يساعده في هذه
الحالة ولهذا "كان النبي صلى الله عليه وسلم
يمسح العرق عن جبينه"؛ لأن الترك كان يؤذيه
ويشغل قلبه وقد بينا ما يستحب للإمام أن يفعله
بعد الفراغ من الصلاة وما يكره له في فصل
الإمامة والله أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يفسد الصلاة. فالمفسد لها أنواع، منها الحدث العمد
قبل تمام أركانها بلا خلاف حتى يمتنع عليه
البناء، واختلف في الحدث السابق وهو الذي سبقه
من غير قصد وهو ما يخرج من بدنه من بول أو
غائط أو ريح أو رعاف أو دم سائل من جرح أو دمل
به بغير صنعه قال أصحابنا: لا يفسد الصلاة
فيجوز البناء استحسانا، وقال الشافعي: "يفسدها
فلا يجوز البناء قياسا"، والكلام في البناء في
مواضع، في بيان أصل البناء أنه جائز أم لا ؟،
وفي بيان شرائط جوازه لو كان جائزا، وفي بيان
محل البناء وكيفيته. أما الأول القياس أن لا
يجوز البناء وفي الاستحسان جائز وجه القياس أن
التحريمة لا تبقى مع الحدث كما لا تنعقد معه
لفوات أهلية أداء الصلاة في الحالين بفوات
الطهارة فيهما إذ الشيء كما لا ينعقد من غير
أهليته لا يبقى مع عدم الأهلية فلا تبقى
التحريمة؛ لأنها شرعت لأداء أفعال الصلاة
ولهذا لا تبقى مع الحدث العمد؛ ولأن صرف الوجه
عن القبلة والمشي في الصلاة مناف لها وبقاء
الشيء مع ما ينافيه محال. وجه الاستحسان النص
وإجماع الصحابة، أما النص فما روي عن عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من قاء أو رعف في صلاته انصرف وتوضأ وبنى على صلاته ما لم يتكلم" وكذا روى
ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم. وأما إجماع الصحابة فإن
الخلفاء الراشدين والعبادلة الثلاثة وأنس بن
مالك وسلمان الفارسي رضي الله عنهم قالوا مثل
مذهبنا. وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
سبقه الحدث في الصلاة فتوضأ وبنى، وعمر رضي
الله عنه سبقه الحدث وتوضأ وبنى على صلاته،
وعلي رضي الله عنه كان يصلي خلف عثمان فرعف
فانصرف وتوضأ وبنى على صلاته فثبت البناء من
الصحابة رضي الله عنهم قولا وفعلا والقياس
يترك بالنص والإجماع.
"فصل": وأما شرائط جواز البناء. فمنها الحدث السابق فلا يجوز البناء في
الحدث العمد؛ لأن جواز البناء ثبت معدولا به
عن القياس بالنص والإجماع، وكل ما كان في معنى
المنصوص والمجمع عليه يلحق به وإلا فلا،
والحدث العمد ليس في معنى الحدث السابق؛
لوجهين: أحدهما أن الحدث السابق مما يبتلى به
الإنسان فلو جعل مانعا من البناء لأدى إلى
الحرج ولا حرج في الحدث العمد؛ لأنه لا يكثر
وجوده، والثاني الإنسان يحتاج إلى البناء في
الجمع والأعياد لإحراز الفضيلة المتعلقة بهما
وكذا يحتاج إلى إحراز فضيلة الصلاة خلف أفضل
القوم خصوصا من كان بحضرة النبي صلى الله عليه
وسلم فلو لم يجز البناء وربما فرغ الإمام من
الصلاة قبل فراغه من الوضوء لفات عليه فضيلة
الجمعة والعيدين وفضيلة الصلاة خلف الأفضل على
وجه لا يمكنه
ج / 1 ص -221-
التلاقي فالشرع نظر له بجواز البناء صيانة
لهذه الفضيلة عليه من الفوت وهو مستحق للنظر
لحصول الحدث من غير قصده واختياره بخلاف الحدث
العمد؛ لأن متعمد الحدث في الصلاة جان فلا
يستحق النظر، وعلى هذا يخرج ما إذا كان به دمل
فعصره حتى سال، أو كان في موضع ركبته فانتفخ
من اعتماده على ركبته في سجوده لا يجوز له
البناء؛ لأن هذا بمنزلة الحدث العمد، وكذا إذا
تكلم في الصلاة عامدا أو ناسيا أو عمل فيها ما
ليس من أعمال الصلاة وهو كثير لا يجوز له
البناء؛ لأن كل ذلك نادر في الصلاة فلم يكن في
معنى المنصوص والمجمع عليه، وكذا إذا جن في
الصلاة أو أغمي عليه ثم أفاق لا يبني وإن كان
ذلك في معنى الحدث السابق؛ لأنه لا صنع له
فيهما؛ لأن اعتراضهما في الصلاة نادر فلم
يكونا في معنى ما ورد فيه النص والإجماع، وكذا
لو انتضح البول على بدن المصلي أو ثوبه أكثر
من قدر الدرهم من موضع فانفتل فغسله لا يبني
على صلاته في ظاهر الرواية، وروي عن أبي يوسف
في غير رواية الأصول أنه يبني. وجه هذه
الرواية أن النجاسة وصلت إلى بدنه من غير قصد
فكان معنى الحدث السابق ولأن هذا بعض ما ورد
فيه الخبر؛ لأنه لو رعف فأصاب بدنه أو ثوبه
نجاسة فإنه يتوضأ ويغسل تلك النجاسة وههنا لا
يحتاج إلى غسل النجاسة لا غير، فلما جاز
البناء هناك فلأن يجوز هنا أولى وجه ظاهر
الرواية أن هذا النوع مما لا يغلب وجوده فلم
يكن في معنى مورد النص والإجماع؛ ولأن له بدا
من غسل النجاسة عن الثوب في الجملة بأن يكون
عليه ثوبان فيلقي ما تنجس من ساعته ويصلي في
الآخر بخلاف الوضوء فإنه أمر لا بد منه. ولو
انتضح البول على ثوب المصلي فإن كان أكثر من
قدر الدرهم من موضع فإن كان عليه ثوبان ألقى
النجس من ساعته ومضى على صلاته استحسانا،
والقياس أن يستقبل لوجود شيء من الصلاة مع
النجاسة لكنا نقول: "إن هذا مما لا يمكن
التحرز عنه فيجعل عفوا وإن أدى ركنا أو مكث
بقدر ما يتمكن من أداء ركن يستقبل قياسا
واستحسانا، وإن لم يكن عليه إلا ثوب واحد
فانصرف وغسله لا يبني في ظاهر الرواية. ولو
أصابته بندقة فشجته أو رماه إنسان بحجر فشجه
أو مس رجل قرحه فأدماه أو عصره فانفلت منه ريح
أو حدث آخر لا يجوز له البناء" في قول أبي
حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: "يبني" واحتج بما
روي أن عمر رضي الله عنه لما طعن في المحراب
استخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ولو
فسدت صلاته لفسدت صلاة القوم ولم يستخلف؛ لأن
هذا حدث حصل بغير صنعه فكان كالحدث السماوي،
ولأن الشاج لم يوجد منه إلا فتح باب الدم فبعد
ذلك خروج الدم بنفسه لا بتسييل أحد فأشبه
الرعاف. وجه قولهما أن هذا الحدث حصل بصنع
العباد بخلاف الحدث السماوي، وكذا هذا النوع
من الحدث في الصلاة مما يندر وقوعه؛ لأن
الرامي منهي عن الرمي فلا يقصده غالبا
والإصابة خطأ نادر؛ لأنه يتحرز خوفا من الضمان
فلم يكن في معنى مورد النص والإجماع فيعمل فيه
بالقياس المحض ألا ترى أن من عجز عن القيام
بسبب المرض جاز له أداء الصلاة قاعدا ؟ ولو
عجز عن القيام بفعل البشر بأن قيده إنسان لم
يجز لغلبة الأول وندرة الثاني كذا هذا. وأما
قوله إن هذا فتح باب الدم فنقول: "نعم ولكن من
فتح باب المائع حتى سال المائع جعل ذلك مضافا
إلى الفاتح؛ لانعدام اختيار السائل في سيلانه
ولهذا يجب ضمان الدهن على شاق الزق إذا سال
الدهن والله أعلم. ولو سقط المدر من السقف من
غير مشي أحد على السطح على المصلي أو سقط
الثمر من الشجر على المصلي أو أصابه حشيش
المسجد فأدماه اختلف المشايخ فيه، منهم من جوز
له البناء بالإجماع لانقطاع ذلك عن فعل
العباد، ومنهم من جعل المسألة على الخلاف
لوقوع ذلك في حد القلة. وأما حديث عمر رضي
الله عنه فقد قيل كان الاستخلاف قبل افتتاح
الصلاة فاستخلفه ليفتتح الصلاة ألا ترى أنه
روي أنه رضي الله عنه لما طعن قال آه قتلني
الكلب من يصلي بالناس، ثم قال: تقدم يا عبد
الرحمن ومعلوم أن هذا كلام يمنع البناء على
الصلاة، ومنها حقيقة الحدث لا وهم الحدث ولا
ما جعل حدثا حكما حتى لو علم أنه لم يسبقه
الحدث لكنه خاف أن يبتدره فانصرف قبل أن يسبقه
الحدث ثم سبقه لا يجوز له البناء في ظاهر
الرواية، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز. وجه قوله
أنه عجز عن المضي فصار كما لو سبقه الحدث ثم
انصرف. وجه ظاهر الرواية أنه صرف وجهه عن
القبلة من غير عذر فلم يكن في معنى مورد النص
والإجماع فبقي على أصل القياس. وكذا إذا جن في
الصلاة أو أغمي عليه أو نام مضطجعا
ج / 1 ص -222-
لا
يجوز له البناء؛ لأن هذه العوارض يندر وقوعها
في الصلاة فلم تكن في معنى مورد النص
والإجماع. وكذا المتيمم إذا وجد الماء في خلال
الصلاة، وصاحب الجرح السائل إذا جرح وقت
صلاته، والماسح على الخف إذا انقضت مدة مسحه
ونحو ذلك لا يجوز له البناء؛ لأن في هذه
المواضع يظهر أن الشروع في الصلاة لم يصح على
ما ذكرنا ولأنه ليس في معنى الحدث السابق في
كثرة الوقوع فتعذر الإلحاق، وكذا لو اعترضت
هذه الأشياء بعد ما قعد قدر التشهد الأخير
يوجب فساد الصلاة ويمنع البناء عند أبي حنيفة
خلافا لهما على ما ذكرنا في المسائل الاثني
عشرية، ومنها الحدث الصغير حتى لا يجوز البناء
في الحدث الكبير وهو الجنابة بأن نام في
الصلاة فاحتلم أو نظر إلى امرأة بشهوة أو تفكر
فأنزل؛ لما قلنا؛ ولأن الوضوء عمل يسير
والاغتسال عمل كثير فتعذر الإلحاق في موضع
العفو؛ ولأن الاغتسال لا يمكن إلا بكشف العورة
وذلك من قواطع الصلاة وهذا استحسان، والقياس
يجوز يريد به القياس على الاستحسان الأول،
ومنها أن لا يفعل بعد الحدث فعلا منافيا
للصلاة لو لم يكن أحدث إلا ما لا بد للبناء
منه أو كان من ضرورات ما لا بد منه أو من
توابعه وتتماته، وبيان ذلك إذا سبقه الحدث ثم
تكلم أو أحدث متعمدا أو ضحك متعمدا أو قهقه أو
أكل أو شرب أو نحو ذلك لا يجوز له البناء؛ لأن
هذه الأفعال منافية للصلاة في الأصل لما نذكر
فلا يسقط اعتبار المنافي إلا لضرورة ولا
ضرورة؛ لأن البناء منها بدا، وكذا إذا جن أو
أغمي عليه أو أجنب؛ لأنه لا يكثر وقوعه فكان
للبناء منه بد، وكذا لو أدى ركنا من أركان
الصلاة مع الحدث أو مكث بقدر ما يتمكن فيه من
أداء ركن؛ لأنه عمل كثير وليس من أعمال الصلاة
وله منه بد. وكذا لو استقى من البئر وهو لا
يحتاج إليه ولو مشى إلى الوضوء فاغترف الماء
من الإناء أو استقى من البئر وهو محتاج إليه
فتوضأ جاز له البناء؛ لأن الوضوء أمر لا بد
للبناء منه والمشي والاغتراف والاستقاء عند
الحاجة من ضرورات الوضوء ولو استنجى فإن كان
مكشوف العورة بطل البناء؛ لأن كشف العورة مناف
للصلاة وللبناء منه بد في الجملة، فإن استنجى
تحت ثيابه بحيث لا تنكشف عورته جاز له البناء؛
لأن الاستنجاء على هذا الوجه من سنن الوضوء
فكان من تتماته. ولو توضأ ثلاثا ثلاثا ذكر في
ظاهر الرواية ما يدل على الجواز فإنه قال إذا
سبقه الحدث يتوضأ ويبني من غير فصل وحكي عن
أبي القاسم الصفار أنه لا يجوز ووجهه أن الفرض
يسقط بالغسل مرة واحدة فكانت الزيادة إدخال
عمل لا حاجة إليه في الصلاة فيوجب فساد
الصلاة. وجه ظاهر الرواية أن الزيادة من باب
إكمال الوضوء وبه حاجة إلى إقامة الصلاة على
وصف الكمال وذلك بتحصيل الوضوء على وجه الكمال
فتتحمل الزيادة كما يتحمل الأصل وهذا جواب أبي
بكر الأعمش فإن عنده المرة الأولى هي الفرض
والثانية والثالثة نفل، فأما عند أبي بكر
الإسكاف فالثلاثة كلها فرض؛ لأن الثانية
والثالثة لما التحقتا بالأولى صار الكل وضوءا
واحدا فيصير الكل فرضا كالقيام إذا طال
والقراءة أو الركوع أو السجود، وعلى هذا إذا
استوعب المسح وتمضمض واستنشق وأتى بسائر سنن
الوضوء جاز له البناء؛ لأن ذلك من باب إكمال
الوضوء فكان من توابعه فيتحمل كما يتحمل
الأصل، ولو افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه
الحدث فلم يجد ماء تيمم وبنى؛ لأن ابتداء
الصلاة بالتيمم عند فقد الماء جائز فالبناء
أولى فإن تيمم ثم وجد الماء فإن وجده بعد ما
عاد إلى مقامه استقبل الصلاة وإن وجده في
الطريق قبل أن يقوم مقامه فالقياس أن يستقبل،
وقيل القياس قول محمد وفي الاستحسان يتوضأ
ويبني. وجه القياس أنه متيمم وجد الماء في
صلاته فتفسد صلاته كما إذا عاد إلى مكانه ثم
وجد الماء وهذا؛ لأن قدر ما مشى متيمما حصل
فعلا غير محتاج إليه فلا يعفى. وجه الاستحسان
أنه لم يؤد شيئا من الصلاة مع الحدث ولم يدخل
فعلا في الصلاة هو مضاد لها فلا يفسدها، وما
مشى كل ذلك كان محتاجا إليه لتحصيل التطهير
فلا يوجب فساد الصلاة بخلاف ما إذا عاد إلى
مكانه ثم وجد؛ لأنه إذا عاد إلى مكانه وجد
أداء جزء من أجزاء الصلاة وإن قل مع التيمم
فظهر بوجود الماء أنه كان محدثا من وقت الحدث
السابق، وإن التيمم ما كان طهارته فتبين أنه
أدى شيئا من الصلاة مع الحدث فتفسد صلاته، ثم
ما ذكرنا من جواز البناء لا يختلف سيما إذا
كان الحدث في وسط الصلاة أو في آخرها حتى لو
سبقه الحدث بعد ما قعد قدر التشهد الأخير
يتوضأ ويبني عندنا؛ لأنه يحتاج إلى الخروج
بلفظة السلام التي هي واجبة أو سنة عندنا فلا
بد له من الطهارة، وكذا لا يختلف
ج / 1 ص -223-
الجواب
في جواز البناء سيما إذا صرف وجهه عن القبلة
على علم بالحدث أو على ظن به بعد أن كان في
المسجد في ظاهر الرواية حتى إنه لو صرف وجهه
عن القبلة على ظن أنه أحدث ثم علم أنه لم يحدث
وهو في المسجد رجع وبنى فإن علم بعد الخروج من
المسجد لا يبني. وروي عن محمد أنه لا يبني في
الوجهين جميعا، ووجهه أنه صرف وجهه عن القبلة
من غير عذر فتفسد صلاته كما إذا علم خارج
المسجد وكما إذا انصرف على ظن أنه على غير
وضوء أو على ظن أنه على ثوبه نجاسة أو كان
متيمما فرأى سرابا فظنه ماء فانصرف فإنه لا
يبني سواء كان في المسجد أو خارج المسجد. وجه
ظاهر الرواية أن حكم المكان لم يتبدل ما دام
في المسجد والانصراف لم يكن على قصد الخروج من
الصلاة وعزم الرفض بل لإصلاح صلاته ألا ترى
أنه لو تحقق ما توهم توضأ وبنى على صلاته فسقط
حكم هذا الانصراف فكأنه لم ينصرف بخلاف ما إذا
خرج من المسجد ثم علم؛ لأن حكم المكان قد تبدل
وبخلاف تلك الصلاة؛ لأن هناك الانصراف ليس
لإصلاح صلاته بل لقصد الخروج عن الصلاة وعزم
الرفض ألا ترى أنه لو تحقق ما توهم لا يمكنه
البناء فأشبه الكلام والحدث العمد والقهقهة،
وعلى هذا إذا سلم على رأس الركعتين في ذوات
الأربع ساهيا على ظن أنه أتم الصلاة ثم تذكر
فحكمه وحكم الذي ظن أنه أحدث سواء على التفصيل
والاختلاف الذي ذكرنا، وذكر في العيون أنه إذا
صلى العشاء فظن بعد ركعتين أنها ترويحة فسلم
أو صلى الظهر وهو يظن أنه يصلي الجمعة أو يظن
أنه مسافر فسلم على رأس الركعتين أنه يستقبل
العشاء والظهر، وقد مر الفرق هذا إذا كان يصلي
في المسجد فأما إذا كان يصلي في الصحراء فإن
كان يصلي بجماعة يعطى لما انتهى إليه الصفوف
حكم المسجد إن مشى يمنة أو يسرة أو خلفا، وإن
مشى أمامه وليس بين يديه بناء ولا سترة فقد
ذكرنا اختلاف المشايخ والصحيح هو التقدير
بموضع السجود، وإن كان بين يديه بناء أو سترة
فإنه يبني ما لم يجاوزه؛ لأن السترة تجعل لما
دونها حكم المسجد حتى لا يباح المرور داخل
السترة ويباح خارجها، وإن كان يصلي وحده
فمسجده قدر موضع سجوده من الجوانب الأربع إلا
إذا مشى أمامه وبين يديه سترة فيعطى لداخل
السترة حكم المسجد، لمن سبقه الحدث أن يتكلم
ويتوضأ ويستقبل القبلة ليخرج عن عهدة الفرض
بيقين.
"فصل": الكلام في محل البناء وكيفيته. فنقول وبالله التوفيق، المصلي لا
يخلو إما إن كان منفردا أو مقتديا أو إماما
فإن كان منفردا فانصرف وتوضأ فهو بالخيار إن
شاء أتم صلاته في الموضع الذي توضأ فيه وإن
شاء عاد إلى الموضع الذي افتتح الصلاة فيه؛
لأنه إذا أتم الصلاة حيث هو فقد سلمت صلاته عن
المشي لكنه صلى صلاة واحدة في مكانين، وإن عاد
إلى مصلاه فقد أدى جميع الصلاة في مكان واحد
لكن مع زيادة مشي فاستوى الوجهان فيخير، وقال
بعض مشايخنا: يصلي في الموضع الذي توضأ من غير
خيار. ولو أتى المسجد تفسد صلاته؛ لأنه تحمل
زيادة مشي من غير حاجة وعامة مشايخنا قالوا:
لا تفسد صلاته؛ لأن المشي إلى الماء والعود
إلى مكان الصلاة ألحق بالعدم شرعا في الجملة،
وإن كان مقتديا فانصرف وتوضأ فإن لم يفرغ
إمامه من الصلاة فعليه أن يعود؛ لأنه في حكم
المقتدي بعد. ولو لم يعد وأتم بقية صلاته في
بيته لا يجزيه؛ لأنه إن صلى مقتديا بإمامه لا
يصح؛ لانعدام شرط الاقتداء وهو اتحاد البقعة
إلا إذا كان بيته قريبا من المسجد بحيث يصح
الاقتداء وإن صلى منفردا في بيته فسدت صلاته؛
لأن الانفراد في حال وجوب الاقتداء يفسد
صلاته؛ لأن بين الصلاتين تغيرا وقد ترك ما كان
عليه وهو الصلاة مقتديا وما أدى وهو الصلاة
منفردا لم يوجد له ابتداء تحريمة وهو بعض
الصلاة؛ لأنه صار منتقلا عما كان هو فيه إلى
هذا فيبطل ذلك. وما حصل فيه بعض الصلاة فلا
يخرج عن كل الصلاة بأداء هذا القدر، ثم إذا
عاد ينبغي أن يشتغل أولا بقضاء ما سبق به في
حال تشاغله بالوضوء؛ لأنه لاحق فكأنه خلف
الإمام فيقوم مقدار قيام الإمام من غير قراءة
ومقدار ركوعه وسجوده ولا يضره إن زاد أو نقص.
ولو تابع إمامه أولا ثم اشتغل بقضاء ما سبق به
بعد تسليم الإمام جازت صلاته عند علمائنا
الثلاثة خلافا لزفر بناء على أن الترتيب في
أفعال الصلاة الواحدة ليس بشرط عندنا وعنده
شرط، وإن كان قد فرغ إمامه من الصلاة يخير لما
ذكرنا في المنفرد ولو توضأ وقد فرغ
الإمام من صلاته ولم
يقعد في الثانية لا يقعد هذا المقتدي في
الثانية. وروي عن زفر أنه يقعد، ذكر المسألة
في النوادر. وجه قول زفر أن القعدة الأولى
واجبة في الصلاة ولا يجوز ترك الواجب إلا لأمر
فوقه كما إذا كان خلف الإمام فترك الإمام
القعدة وقام بتركها المقتدي موافقة للإمام
فيما هو أعلى منه وهو القيام لكونه فرضا ولم
يوجد هذا المعنى في اللاحق؛ لأن موافقة الإمام
بعد فراغه لا تتحقق فيجب عليه الإتيان
بالقعدة، ولنا أن اللاحق خلف الإمام تقديرا
حتى يسجد لسهو الإمام ولا يسجد لسهو نفسه ولا
يقرأ في القضاء كأنه خلف الإمام. ولو كان خلفه
حقيقة يترك القعدة متابعة للإمام فكذا إذا كان
خلفه تقديرا، وإن كان إماما يستخلف ثم يتوضأ
ويبني على صلاته والأمر في موضع البناء
وكيفيته على نحو ما ذكرنا في المقتدي؛ لأنه
بالاستخلاف تحولت الإمامة إلى الثاني وصار هو
كواحد من المقتدين به.
ج / 1 ص -224-
"فصل": ثم الكلام في الاستخلاف. في مواضع: أحدها في جواز الاستخلاف في
الجملة، والثاني في شرائط جوازه، والثالث في
بيان حكم الاستخلاف. أما الأول فقد اختلف
العلماء فيه قال علماؤنا: يجوز، وقال الشافعي:
لا يجوز ويصلي القوم وحدانا بلا إمام. وجه
قوله أنه لا ولاية للإمام إذ هو في نفسه
بمنزلة المنفرد فلا يملك النقل إلى غيره وكذا
القوم لا يملكون النقل وإنما تثبت الإمامة لا
بتفويض منهم بل باقتدائهم به ولم يوجد
الاقتداء بالثاني؛ لأن الاقتداء بالتكبيرة وهي
منعدمة في حق الثاني بخلاف الإمامة الكبرى؛
لأنها عبارة عن ولايات تثبت له شرعا بالتفويض
والبيعة كما يثبت للوكيل والقاضي فيقبل
التمليك والعزل لنا ما روي عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف في صلاته فليضع
يده على فمه وليقدم من لم يسبق بشيء من صلاته
ولينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم
يتكلم". وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أمر أبا بكر رضي الله
عنه أن يصلي بالناس وجد في نفسه خفة فخرج
يهادى بين اثنين وقد افتتح أبو بكر الصلاة
فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم
تأخر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وافتتح
القراءة من الموضع الذي انتهى إليه أبو بكر"
وإنما تأخر؛ لأنه عجز عن المضي لكون المضي من
باب التقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال الله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فصار هذا أصلا في حق كل إمام عجز عن الإتمام أن يتأخر ويستخلف
غيره، وعن عمر رضي الله عنه أنه سبقه الحدث
فتأخر وقدم رجلا، وعن عثمان رضي الله عنه
مثله؛ ولأن بهم حاجة إلى تمام صلاتهم بالإمام
وقد التزم الإمام ذلك فإذا عجز عن الوفاء بما
التزم بنفسه يستعين بمن يقدر عليه نظرا لهم كي
لا تبطل عليهم الصلاة بالمنازعة. وأما قوله:
إن الإمام لا ولاية له فليس كذلك بل له ولاية
المتبوعية في هذه الصلاة وأن لا تصح صلاتهم
إلا بناء على صلاته وأن يقرأ فتصير قراءته
قراءة لهم فإذا عجز عن الإمامة بنفسه ملك
النقل إلى غيره فأشبه الإمامة الكبرى على أن
هذا من باب الخلافة لا من باب التفويض
والتمليك فإن الثاني يخلف الأول في بقية صلاته
كالوارث يخلف الميت فيما بقي من أمواله
والخلافة لا تفتقر إلى الولاية والأمر بل
شرطها العجز، وإنما التقديم من الإمام للتعيين
كي لا تبطل بالمنازعة حتى إنه لو لم يبق خلفه
إلا رجل واحد يصير إماما وإن لم يعينه ولا فوض
إليه، وكذا التقديم من القوم للتعيين دون
التفويض فصار كالإمامة الكبرى فإن البيعة
للتعيين لا للتمليك. ألا ترى أن الإمام يملك
أمورا لا تملكها الرعية وهي إقامة الحدود فكذا
هذا فإن لم يستخلف الإمام واستخلف القوم رجلا
جاز ما دام الإمام في المسجد؛ لأن الإمام لو
استخلف كان سعيه للقوم نظرا لهم كي لا تبطل
عليهم الصلاة فإذا فعلوا بأنفسهم جاز كما في
الإمامة الكبرى لو لم يستخلف الإمام غيره ومات
واجتمع أهل الرأي والمشورة ونصبوا من يصلح
للإمامة جاز؛ لأن الأول لو فعل فعل لهم فجاز
لهم أن يفعلوا لأنفسهم لحاجتهم إلى ذلك كذا
هذا، ولو تقدم واحد من القوم من غير استخلاف
الإمام وتقديم القوم والإمام في المسجد جاز
أيضا؛ لأن به حاجة إلى صيانة صلاته ولا طريق
لها عند امتناع الإمام عن الاستخلاف والقوم عن
التقديم إلا ذلك ولأن القوم لما ائتموا به فقد
رضوا بقيامه مقام الأول فجعل كأنهم قدموه، ولو
قدم الإمام أو القوم رجلين فإن وصل أحدهما
ج / 1 ص -225-
إلى
موضع الإمامة قبل الآخر تعين هو للإمامة.
وجازت صلاته وصلاة من اقتدى به وفسدت صلاة
الثاني وصلاة من اقتدى به؛ لأن الأول لما تقدم
بتقديم من له ولاية لتقديم قام مقام الأول
وصار إماما للكل كالأول فصار الإمام الثاني
ومن اقتدى به منفردين عمن صار إماما لهم ففسدت
صلاتهم لما مر من الفقه، وإن وصلا معا فإن
اقتدى القوم بأحدهما تعين هو للإمامة وإن
اقتدوا بهما جميعا بعضهم بهذا وبعضهم بذاك فإن
استوت الطائفتان فسدت صلاتهم جميعا؛ لأن الأمر
لا يخلو إما أن يقال: لم يصح استخلاف كل واحد
من الفريقين لمكان التعارض فبطلت إمامتهما
وفسدت صلاة الكل لخروج الإمام الأول عن المسجد
من غير خليفة للقوم ولأدائهم الصلاة منفردين
في حال وجوب الاقتداء، وإما أن يقال: صح تقديم
كل واحد منهما لعدم ترجيح الفريقين الآخر عليه
فجعل في حق كل فريق كأن ليس معهم غيرهم فحينئذ
يصير إمام كل طائفة إماما للكل كإمام أكثر
الطائفتين عند التفاوت وعدم الاستواء فحينئذ
يجب على إمام كل طائفة ومن تابعه الاقتداء
بالآخر فإن لم يقتدوا جعلوا منفردين أو أن
وجوب الاقتداء وإن اقتدوا أدوا صلاة واحدة في
حالة واحدة بإمامين وذلك مما لم يرد به الشرع
فلم يجز. ولو كانت الطائفتان على التفاوت فإن
اقتدى جماعة القوم بأحد الإمامين إلا رجل أو
رجلان اقتديا بالثاني فصلاة من اقتدى به
الجماعة صحيحة وصلاة الآخر ومن اقتدى به
فاسدة؛ لأنهما لما وصلا معا وقد تعذر أن يكونا
إمامين فلا بد من الترجيح وأمكن الترجيح
بالكثرة نصا واعتبارا، أما النص فقول النبي
صلى الله عليه وسلم
"يد الله مع الجماعة"، وقوله
"من شذ شذ في النار"، وقوله
"كدر الجماعة خير من صفو الفرقة". وأما
الاعتبار فهو الاستدلال بالإمامة الكبرى حتى
قال عمر رضي الله عنه في الشورى: إن اتفقوا
على شيء وخالفهم واحد فاقتلوه، وإن اقتدى بكل
إمام جماعة لكن أحد الفريقين أكثر عددا من
الآخر اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تفسد صلاة
الفريقين جميعا وإليه مال الإمام السرخسي
فقال: إن كل واحد منهما جمع تام يتم به نصاب
الجمعة فيكون الأقل مساويا للأكثر حكما
كالمدعيين يقيم أحدهما شاهدين والآخر أربعة،
وقال بعضهم: جازت صلاة الأكثرين وتعين الفساد
في الآخرين كما في الواحد والمثنى، وعليه
اعتمد الشيخ صدر الدين أبو المعين واستدل بوضع
محمد فإن محمدا قال: إذا قدم القوم أو الإمام
رجلين فأم كل واحد منهما طائفة جازت صلاة أكثر
الطائفتين فهذا يدل على أن كل طائفة لو كانت
جماعة ترجح أيضا بالكثرة؛ لأن اسم الطائفة في
اللغة يقع على الواحد والاثنين والثلاثة وما
زاد على ذلك، قال الله تعالى:
{وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا}
ولا شك أن كل فريق لو كان أكثر من الثلاث لدخل
تحت هذه الآية وقال تعالى:
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً
يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ولا شك أن كل فريق كان جماعة كثيرة وكذا ذكر محمد في السير الكبير
أن أمير عسكر في دار الحرب قال: من جاء منكم
بشيء فله طائفة منه فجاء رجل برءوس فإن الإمام
ينفل له من ذلك على قدر ما يرى حتى إنه لو
أعطي نصف ما أتى به أو أكثر بأن كانت الرءوس
عشرة فرأى الإمام أن يعطي تسعة من ذلك لهذا
الرجل كان له ذلك فتبين أن اسم الطائفة يقع
على الجماعة فيرجح بالكثرة لما مر والله
تعالى: أعلم. هذا إذا كان خلف الإمام الذي
سبقه الحدث اثنان أو أكثر فأما إذا كان خلفه
رجل واحد صار إماما نوى الإمامة أو لم ينو،
قام في مكان الإمام أو لم يقم، قدمه الإمام أو
لم يقدمه؛ لأن عدم تعيين واحد من القوم
للإمامة ما لم يقدمه أو يتقدم حتى بقيت
الإمامة للأول كان بحكم التعارض وعدم ترجيح
البعض على البعض، وههنا لا تعارض فتعين هو
لحاجته إلى إبقاء صلاته على الصحة وصلاحيته
للإمامة حتى إن الإمام الأول لو أفسد صلاته
على نفسه لا تفسد صلاة هذا الثاني، والثاني لو
أفسد صلاته على نفسه فسدت صلاة الأول؛ لأن
الأول صار في حكم المقتدي بالثاني وفساد صلاة
المقتدي لا تؤثر في فساد صلاة الإمام، ولفساد
صلاة الإمام أثر في فساد صلاة المقتدي ودخل في
صلاة الثاني؛ لأن الإمامة تحولت إليه على ما
ذكرنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا أحدث
الإمام ولم يكن معه إلا رجل واحد فوجد الماء
في المسجد فتوضأ قال: يتم صلاته مقتديا
بالثاني؛ لأنه متعين للإمامة فبنفس انصرافه
تتحول الإمامة إليه، وإن كان معه جماعة فتوضأ
في المسجد عاد إلى مكان الإمامة
ج / 1 ص -226-
وصلى
بهم؛ لأن الإمامة لا تتحول منه إلى غيره في
هذه الحالة إلا بالاستخلاف ولم يوجد، فإن جاء
رجل واقتدى بهذا الثاني ثم أحدث الثاني صار
الثالث إماما لتعينه لذلك فإن أحدث الثالث
وخرج قبل رجوعهما أو رجوع أحدهما فسدت صلاة
الأول والثاني؛ لأن الثالث لما صار إماما صار
الأول والثاني مقتديين به فإذا خرج هو لم تفسد
صلاته على الرواية الصحيحة؛ لأنه في حق نفسه
منفرد وفسدت صلاة الأول والثاني؛ لأن إمامهما
خرج عن المسجد فتحقق تباين المكان ففسد
الاقتداء لفوت شرطه وهو اتحاد البقعة، وإن كان
تباين المكان موجودا حال بقائه في المسجد؛ لأن
ذلك سقط اعتباره شرعا لحاجة المقتدي إلى صيانة
صلاته على ما نذكر، وههنا لا حاجة لكون ذلك في
حد الندرة ولو رجع أحدهما فدخل المسجد ثم خرج
الثالث جازت صلاتهم؛ لأن الراجع صار إماما لهم
لتعينه. ولو رجع الأول والثاني فإن قدم أحدهما
صار هو الإمام وإن لم يقدم حتى خرج الثالث من
المسجد فسدت صلاتهما؛ لأن أحدهما لم يصر إماما
للتعارض وعدم الترجيح فبقي الثالث إماما فإذا
خرج من المسجد شرط صحة الاقتداء وهو اتحاد
البقعة ففسدت صلاتهما.
"فصل": وأما شرائط جواز الاستخلاف. فمنها أن كل ما هو شرط جواز البناء فهو
شرط جواز الاستخلاف حتى لا يجوز مع الحدث
العمد والكلام والقهقهة وسائر نواقض الصلاة
كما لا يجوز البناء مع هذه الأشياء؛ لأن
الاستخلاف يكون للقائم ولا قيام للصلاة مع هذه
الأشياء بل تفسد ولو حصر الإمام عن القراءة
فاستخلف غيره جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
وعند محمد لا يجوز وتفسد صلاتهم. وجه قولهما
أن جواز الاستخلاف حكم ثبت على خلاف القياس
بالنص وأنه ورد في الحديث السابق الذي هو غالب
الوقوع، والحصر في القراءة ليس نظيره فالنص
الوارد ثمة لا يكون واردا هنا وصار كالإغماء
والجنون والاحتلام في الصلاة أنه يمنع
الاستخلاف، كذا هذا ولأبي حنيفة أنا جوزنا
الاستخلاف ههنا بالنص الخاص لا بالاستدلال
بالحديث وهو حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه
"كان يصلي بالناس بجماعة بأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فوجد صلى
الله عليه وسلم خفة فحضر المسجد فلما أحس
الصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم حضر في
القراءة فتأخر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم
وأتم الصلاة"، ولو لم يكن جائزا لما فعل ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاز له يكون
جائزا لأمته هو الأصل لكونه قدوة.
ومنها أن يكون الاستخلاف قبل خروج الإمام من
المسجد حتى إنه لو خرج عن المسجد قبل أن يقدم
هو أو يقدم القوم إنسانا أو يتقدم أحد بنفسه
فصلاة القوم فاسدة؛ لأنه اختلف مكان الإمام
والقوم فبطل الاقتداء لفوت شرطه وهو اتحاد
المكان وهذا لأن غيره إذا لم يتقدم بقي هو
إماما في نفسه كما كان؛ لأنه إنما يخرج عن
الإمامة لقيام غيره مقامه وانتقال الإمامة
إليه ولم يوجد والمكان قد اختلف حقيقة وحكما،
أما الحقيقة فلا تشكل. وأما الحكم فلأن من كان
خارج المسجد إذا اقتدى بمن يصلي في المسجد
وليست الصفوف متصلة لا يجوز بخلاف ما إذا كان
بعد في المسجد؛ لأن المسجد كله بمنزلة بقعة
واحدة حكما ولهذا حكم بجواز الاقتداء في
المسجد وإن لم تتصل الصفوف كذلك فسدت صلاتهم
بخلاف المقتدي إذا سبقه الحدث وخرج من المسجد
حيث لم تفسد صلاته وإن فات شرط صحة الاقتداء
وهو اتحاد المكان فإن هناك ضرورة؛ لأن صيانة
صلاته لن تحصل إلا بهذا الطريق بخلاف ما إذا
كان الإمام هو الذي سبقه الحدث فإن صيانة صلاة
القوم تمكنه بأن يستخلف الإمام أو يقدم القوم
رجلا أو يتقدم واحد منهم فإذا لم يفعلوا فقد
فرضوا وما سعوا في صيانة صلاتهم فتفسد عليهم.
وأما المقتدي فليس شيء منها في وسعه فبقيت
صلاته صحيحة ليتمكن من الإتمام. وأما حال صلاة
الإمام فلم يذكر في الأصل وذكر الطحاوي أن
صلاته تفسد أيضا؛ لأن ترك استخلافه لما أثر في
فساد صلاة القوم فلأن يؤثر في فساد صلاته
أولى، وذكر أبو عصمة أن صلاته لا تفسد وهو
الصحيح؛ لأنه بمنزلة المنفرد في حق نفسه،
والمنفرد الذي سبقه الحدث فذهب ليتوضأ بقيت
صلاته صحيحة كذا هذا. ولو كان خارج المسجد
صفوف متصلة فخرج الإمام من المسجد ولم يجاوز
الصفوف فسدت صلاة القوم في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف وعند محمد لا تفسد حتى لو استخلف
ج / 1 ص -227-
الإمام
رجلا من الصفوف الخارجة لا يصح عندهما وعنده
يصح. وجه قول محمد أن مواضع الصفوف لها حكم
المسجد ألا ترى أنه لو صلى في الصحراء جاز
استخلافه ما لم يجاوز الصفوف ؟ فجعل الكل
كمكان واحد ولهما أن البقعة مختلفة حقيقة
وحكما في الأصل إلا أنه أعطى لها حكم الاتحاد
إذا كانت الصفوف متصلة بالمسجد في حق الخارج
عن المسجد خاصة لضرورة الحاجة إلى الأداء فلا
يظهر الاتحاد في حق غيره ألا ترى أن الإمام لو
كبر يوم الجمعة وحده في المسجد وكبر القوم
بتكبيره خارج المسجد لم تنعقد الجمعة ؟ وإذا
ظهر حكم اختلاف البقعة في حق المستخلف لم يصح
الاستخلاف هذا إذا كان يصلي في المسجد فإن كان
يصلي في الصحراء فمجاوزة الصفوف بمنزلة الخروج
من المسجد إن مشى على يمينه أو على يساره أو
خلفه فإن مشى أمامه وليس بين يديه سترة فإن
جاوز مقدار الصفوف التي خلفه أعطي له حكم
الخروج عند بعضهم، وهكذا روي عن أبي يوسف وعند
بعضهم إذا جاوز موضع سجوده وإن كان بين يديه
سترة يعطى لداخل السترة حكم المسجد لما مر.
ومنها أن يكون المقدم صالحا للخلافة حتى لو
استخلف محدثا أو جنبا فسدت صلاته وصلاة القوم
كذا ذكر في كتاب الصلاة في باب الحدث؛ لأن
المحدث لا يصلح خليفة فكان اشتغاله باستخلاف
من لا يصلح خليفة له عملا كثيرا ليس من أعمال
الصلاة فكان إعراضا عن الصلاة فتفسد صلاته
وتفسد صلاة القوم بفساد صلاته؛ ولأن الإمام
لما استخلفه فقد اقتدى به ومتى صار هو مقتديا
به صار القوم أيضا مقتدين به والاقتداء
بالمحدث والجنب لا يصح فتفسد صلاة الإمام
والقوم جميعا وهذا عندنا؛ لأن حدث الإمام إذا
تبين للقوم بعد الفراغ من الصلاة فصلاتهم
فاسدة عندنا فكذا في حال الاستخلاف وعند
الشافعي إذا اقتدوا به مع العلم بكونه محدثا
لا يصح الاقتداء وإذا لم يعلموا به ثم علموا
بعد الفراغ فصلاتهم تامة فكذا في حال
الاستخلاف وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم، وذكر
القدوري في شرحه مختصر الكرخي ما يدل على أن
استخلاف المحدث صحيح حتى لا تفسد صلاته فإنه
قال: إذا قدم الإمام رجلا والمقدم على غير
وضوء فلم يقم مقامه ينوي أن يؤم الناس حتى قدم
غيره صح الاستخلاف ولو لم يكن أهلا للخلافة؛
لما صح استخلافه غيره ولفسدت صلاة الإمام
باستخلافه من لا يصلح للخلافة فتفسد صلاة
القوم وحينئذ لا يصح استخلاف المقدم غيره
ووجهه أن المقدم من أهل الإمامة في الجملة
وإنما التعذر لمكان الحدث فصار أمره بمنزلة
أمر الإمام، والأول أصح؛ لما ذكرنا، وكذلك لو
قدم صبيا فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن الصبي
لا يصلح خليفة للإمام في الفرض كما لا يصلح
أصيلا في الإمامة في الفرائض، وهذا على أصلنا
أيضا فإنه يجوز اقتداء البالغ بالصبي في
المكتوبة عندنا خلافا للشافعي بناء على أن
اقتداء المفترض بالمتنفل لا يصح عندنا وعنده
يصح، وقد مرت المسألة. وكذلك إن قدم الإمام
المحدث امرأة فسدت صلاتهم جميعا من الرجال
والنساء والإمام والمقدم، وقال زفر صلاة
المقدم والنساء جائزة وإنما تفسد صلاة الرجال،
وجه قوله أن المرأة تصلح لإمامة النساء في
الجملة وإنما لا تصلح لإمامة الرجال كما في
الابتداء، ولنا أن المرأة لا تصلح لإمامة
الرجال قال صلى الله عليه وسلم
"أخروهن من حيث أخرهن الله"
فصار باستخلافه إياها معرضا عن الصلاة فتفسد
صلاته وتفسد صلاة القوم بفساد صلاته؛ لأن
الإمامة لم تتحول منه إلى غيره. وكذلك لو قدم
الأمي أو العاري أو المومي وقال زفر: إن
الإمام إذا قرأ في الأوليين فاستخلف أميا في
الأخريين لا تفسد صلاتهم؛ لاستواء حال القارئ
والأمي في الأخريين لتأدي فرض القراءة في
الأوليين، والصحيح أنه تفسد صلاتهم؛ لأن
استخلاف من لا يصلح إماما له عمل كثير منه ليس
من أعمال الصلاة فتفسد صلاته وصلاتهم بفساد
صلاته، وكذلك إن استخلفه بعد ما قعد قدر
التشهد عند أبي حنيفة وهي من المسائل الاثني
عشرية، وبعض مشايخنا قالوا: لا تفسد بالإجماع؛
لوجود الصنع منه ههنا وهو الاستخلاف، إلا أن
بناء مذهب أبي حنيفة في هذه المسائل على هذا
الأصل غير سديد على ما ذكرنا في كتاب الطهارة
في فصل التيمم، والأصل في باب الاستخلاف أن كل
من يصح اقتداء الإمام به يصلح خليفة له وإلا
فلا ولو كان الإمام متيمما فأحدث فقدم متوضئا
جاز؛ لأن اقتداء المتيمم بالمتوضئ صحيح بلا
خلاف. ولو قدمه ثم وجد الإمام الأول الماء
فسدت صلاته وحده؛ لأن الإمامة تحولت منه إلى
الثاني وصار هو كواحد من القوم ففساد صلاته
ج / 1 ص -228-
لا
يتعدى إلى صلاة غيره، وإن كان الإمام الأول
متوضئا والخليفة متيمما فوجد الخليفة الماء
فسدت صلاته وصلاة الأول والقوم جميعا؛ لأن
الإمامة تحولت إليه وصار الأول كواحد من
المقتدين به، وفساد صلاة الإمام يتعدى إلى
صلاة القوم. ولو قدم مسبوقا جاز والأولى
للإمام المحدث أن يستخلف مدركا لا مسبوقا؛
لأنه أقدر على إتمام الصلاة وقد قال صلى الله
عليه وسلم
"من قلد إنسانا
عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله
ورسوله وجماعة المؤمنين" ومع هذا لو قدم المسبوق جاز ولكن ينبغي له أن لا يتقدم؛ لأنه عاجز
عن القيام بجميع ما بقي من الأفعال. ولو تقدم
مع هذا جاز؛ لأنه أهل للإمامة وهو قادر على
أداء الأركان وهو المقصود من الصلاة فإذا صح
استخلافه يتم الصلاة من الموضع الذي وصل إليه
الإمام؛ لأنه قائم مقامه فإذا انتهى إلى
السلام يستخلف هذا الثاني رجلا أدرك أول
الصلاة ليسلم بهم؛ لأنه عاجز عن السلام لبقاء
ما سبق به عليه فصار بسبب العجز عن إتمام
الصلاة كالذي سبقه الحدث فثبتت له ولاية
استخلاف غيره فيقدم مدركا ليسلم ثم يقوم هو
إلى قضاء ما سبق به، والإمام الأول صار مقتديا
بالثاني؛ لأن الثاني صار إماما فيخرج الأول من
الإمامة ضرورة أن الصلاة الواحدة لا يكون لها
إمامان وإذا لم يبق إماما وقد بقي هو في
الصلاة التي كانت مشتركة بينهم صار مقتديا
ضرورة فإن توضأ الأول وصلى في بيته ما بقي من
صلاته فإن كان قبل فراغ الإمام الثاني من بقية
صلاة الأول فسدت صلاته وإن كان بعد فراغه
فصلاته تامة لما مر.
ولو قعد الإمام الثاني في الرابعة قدر التشهد
ثم قهقه انتقض وضوءه وصلاته، وكذلك إذا أحدث
متعمدا أو تكلم أو خرج من المسجد فسدت صلاته؛
لأن الجزء الذي لاقته القهقهة من صلاته قد فسد
وقد بقي عليه أركان ومن باشر المفسد قل أداء
جميع الأركان تفسد صلاته وصلاة المقتدين الذين
ليسوا بمسبوقين تامة؛ لأن جزءا من صلاتهم وإن
فسد بفساد صلاة الإمام لكن لم يبق عليهم شيء
من الأفعال وصلاتهم بدون هذا الجزء جائزة فحكم
بجوازها. وأما المسبوقون فصلاتهم فاسدة؛ لأن
هذا الجزء من صلاتهم قد فسد وعليهم أركان لم
تؤد بعد كما في حق الإمام الثاني، فأما الإمام
الأول فإن كان قد فرغ من صلاته خلف الإمام
الثاني مع القوم فصلاته تامة كغيره من
المدركين، وإن كان في بيته لم يدخل مع الإمام
الثاني في الصلاة ففيه روايتان، ذكر في رواية
أبي سليمان أن صلاته فاسدة وذكر في رواية أبي
حفص أنه لا تفسد صلاته. وجه رواية أبي سليمان
أن قهقهة الإمام كقهقهة المقتدي في إفساد
الصلاة ألا ترى أن صلاة المسبوقين فاسدة ولو
قهقه المقتدي نفسه في هذه الحالة لفسدت صلاته
لبقاء الأركان عليه فكذا هذا وجه رواية أبي
حفص أن صلاة الإمام والمسبوقين إنما تفسد؛ لأن
الجزء الذي لاقته القهقهة وأفسدته من وسط
صلاتهم فإذا فسد الجزء فسدت الصلاة فأما هذا
الجزء في حق صلاة الإمام الأول وهو مدرك أول
الصلاة فمن آخر صلاته؛ لأنه يأتي بما تركه
أولا ثم يأتي بما يدرك مع الإمام وإلا فيأتي
به وحده فلا يكون فساد هذا الجزء موجبا فساد
صلاته كما لو كان أتى وصلى ما تركه وأدرك
الإمام وصلى بقية الصلاة وقعد مع الإمام ثم
قهقه الإمام الثاني لا تفسد صلاة الإمام الأول
كذا هذا، ولو كان الذين خلف الإمام المحدث
كلهم مسبوقين ينظر إن بقي على الإمام شيء من
الصلاة فإنه يستخلف واحدا منهم؛ لأن المسبوق
يصلح خليفة لما بينا فيتم صلاة الإمام ثم يقوم
إلى قضاء ما سبق به من غير تسليم لبقاء بعض
أركان الصلاة عليه، وكذا القوم يقومون من غير
تسليم ويصلون وحدانا وإن لم يبق على الإمام
شيء من صلاته قاموا من غير أن يسلموا وأتموا
صلاتهم وحدانا لوجوب الانفراد عليهم في هذه
الحالة.
ولو صلى الإمام ركعة ثم أحدث فاستخلف رجلا نام
عن هذه الركعة وقد أدرك أولها أو كان ذهب
ليتوضأ جاز لكن لا ينبغي للإمام أن يقدمه ولا
لذلك الرجل أن يتقدم وإن قدم ينبغي أن يتأخر
ويقدم هو غيره؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة
الإمام فإنه يحتاج إلى البداية بما فاته فإن
لم يفعل وتقدم جاز؛ لأنه قادر على الإتمام في
الجملة وإذا تقدم ينبغي أن يشير إليهم بأن
ينتظروه ليصلي ما فاته وقت نومه أو ذهابه
للتوضؤ ثم يصلي بهم بقية الصلاة؛ لأنه مدرك
فينبغي أن يصلي الأول فالأول فإن لم يفعل هكذا
ولكنه أتم صلاة الإمام ثم قدم مدركا وسلم بهم
ثم قام فقضى ما فاته أجزأه عندنا، وقال زفر لا
يجزيه. وجه قوله أنه مأمور بالبداية بالركعة
الأولى فإذا لم يفعل فقد ترك الترتيب
ج / 1 ص -229-
المأمور به فتفسد صلاته كالمسبوق إذا بدأ
بقضاء ما فاته قبل أن يتابع الإمام فيما أدرك
معه، ولنا أنه أتى بجميع أركان الصلاة إلا أنه
ترك الترتيب في أفعالها والترتيب في أفعال
الصلاة واجب وليس بفرض؛ لأن الترتيب لو ثبت
افتراضه لكانت فيه زيادة على الأركان والفرائض
وذا جار مجرى النسخ ولا يثبت نسخ ما ثبت بدليل
مقطوع به إلا بدليل مثله ولا دليل لمن جعل
الترتيب فرضا يساوي دليل افتراض سائر الأركان،
والدليل عليه أنه لو ترك سجدة من الركعة
الأولى إلى آخر صلاته لم تفسد صلاته ولو كان
الترتيب في أفعال صلاة واحدة فرضا لفسدت، وكذا
المسبوق إذا أدرك الإمام في السجود يتابعه فيه
فدل أن مراعاة الترتيب في صلاة واحدة ليست
بفرض فتركها لا يوجب فساد الصلاة بخلاف
المسبوق؛ لأن الفساد هناك ليس لترك الترتيب بل
للعمل بالمنسوخ أو للانفراد عند وجوب الاقتداء
ولم يوجد ههنا، وكذلك لو صلى بهم ركعة ثم ذكر
ركعته الثانية فالأفضل أن يومئ إليهم لينتظروه
حتى يقضي تلك الركعة ثم يصلي بهم بقية صلاته
كما في الابتداء لما مر، وإن لم يفعل وتأخر
حين تذكر ذلك وقدم رجلا منهم ليصلي بهم فهو
أفضل أيضا كما في الابتداء لما مر فإن لم يفعل
وأتم صلاة الإمام وهو ذاكر لركعته ثم تأخر
وقدم من يسلم بهم جاز أيضا لما ذكرنا.
ولو كان الإمام المحدث مسافرا وخلفه مقيمون
ومسافرون فقدم مقيما جاز والأفضل أن لا يقدم
مقيما ولو قدمه فالمستحب له أن لا يتقدم؛ لأن
غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام فإنه لا يقدر
على التسليم بعد القعود على رأس الركعتين غير
أنه إن تقدم مع هذا جاز؛ لأنه قادر على إتمام
أركان صلاة الإمام بالكلية وإنما يعجز عن
الخروج وهو ليس بركن فإذا أتم صلاة الإمام
وقعد قدر التشهد تأخر هو وقدم مسافرا؛ لأنه
غير عاجز عن الخروج فيستخلف مسافرا حتى يسلم
فإذا سلم قام هو وبقية المقيمين وأتموا صلاتهم
وحدانا كما لو لم يكن الأول أحدث على ما ذكرنا
قبل هذا. ولو مضى الإمام الثاني في صلاته مع
القوم حتى أتمها يعني صلاة الإقامة فإن كان
قعد في الثانية قدر التشهد فصلاته وصلاة
المسافرين تامة، أما صلاة الإمام فلأنه لما
قعد قدر التشهد فقد تم ما التزم بالاقتداء؛
لأن تحريمته انعقدت على أن يؤدي ركعتين مع
الإمام وركعتين على سبيل الانفراد وقد فعل؛
لأنه منفرد في حق نفسه لا تتعلق صلاته بصلاة
غيره. وأما المسافرون فلأنهم انتقلوا إلى
النفل بعد إكمال الفرض وذا لا يمنع جواز
الصلاة وأما صلاة المقيمين ففاسدة؛ لأنهم لما
قعدوا قدر التشهد فقد انقضت مدة اقتدائهم؛
لأنهم التزموا بالاقتداء به أن يصلوا الأوليين
مقتدين به والأخريين على سبيل الانفراد فإذا
اقتدوا فيهما فقد اقتدوا في حال وجوب الانفراد
وبينهما مغايرة على ما ذكرنا فبالاقتداء خرجوا
عما كانوا دخلوا فيه وهو الفرض ففسدت صلاتهم
المفروضة وما دخلوا فيه دخلوا بدون التحريمة
ولا شروع بدون التحريمة وإن لم يقعد قدر
التشهد فسدت صلاته وصلاة القوم كلها؛ لأن
القعدة صارت فرضا في حق الإمام الثاني لكونه
خليفة الأول فإذا ترك القعدة فقد ترك ما هو
فرض ففسدت صلاته وصلاة المسافرين لتركهم
القعدة المفروضة أيضا ولفساد صلاة الإمام
وفسدت صلاة المقيمين بفساد صلاة إمامهم بتركه
القعدة المفروضة. ولو أن مسافرا أم قوما
مسافرين ومقيمين فصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث
فقدم رجلا دخل في صلاته ساعتئذ وهو مسافر جاز
لما مر، ولا ينبغي له أن يقدمه ولا لهذا الرجل
أن يتقدم لما مر أيضا أن غير المسبوق أقدر على
إتمام صلاة الإمام ولو قدمه مع هذا جاز لما
بينا.
وينبغي أن يأتي بالسجدة الثانية ويتم صلاة
الإمام فإن سها عن الثانية وصلى ركعة وسجد ثم
أحدث فقدم رجلا جاء ساعتئذ سجد الأولى
والثانية والإمام الأول يتبعه في السجدة
الأولى ولا يتبعه في الثانية إلا أن يدركه بعد
ما يقضي، والإمام الثاني لا يتبعه في الأولى
ويتبعه في الثانية، وإذا قعد قدر التشهد قدم
من أدرك أول الصلاة ليسلم ثم يقوم هو فيقضي
ركعتين إن كان مسافرا، وإن كانوا أدركوا أول
الصلاة اتبعه كل إمام في السجدة الأولى ويتبعه
الإمام ومن بعده في السجدة الثانية، والأصل في
هذا أن المدرك لا يتابع الإمام بل يأتي
بالأول، والمسبوق يتابع إمامه فيما أدرك ثم
بعد فراغه يقوم إلى قضاء ما سبق به، وأصل آخر
أن الإمام الثاني والثالث يقومان مقام الأول
ويتمان صلاته، إذا عرف هذا الأصل فنقول:
الإمام الأول لما سبقه الحدث وقدم هذا الثاني
ينبغي له أن يأتي بالسجدة الثانية ويتم صلاة
الإمام الأول؛ لأنه قائم مقامه والأول
ج / 1 ص -230-
لو لم
يسبقه الحدث لسجد هذه السجدة كذا الثاني، فلو
أنه سها عن هذه السجدة وصلى الركعة الثانية،
فلما سجد سجدة سبقه الحدث فقدم رجلا جاء
ساعتئذ، وتقدم هذا الثالث ينبغي لهذا الإمام
الثالث أن يسجد السجدتين أولا لأن هذا الثالث
قائم مقام الأول والأول كان يأتي بالأول
فالأول فكذا هذا، وإذا سجد الثالث السجدة
الأولى وكان جاء الإمام الأول والثاني فإن
الأول يتابعه في السجدة الأولى؛ لأنه صار
مقتديا به وانتهت صلاته إلى هذه السجدة فيأتي
بها وكذا القوم يتابعونه فيها؛ لأنهم قد صلوا
تلك الركعة أيضا وإنما بقي عليهم منها تلك
السجدة. وأما الإمام الثاني فلا يتابعه في
السجدة الأولى في ظاهر الرواية وذكر في نوادر
الصلاة لأبي سليمان أنه يتابعه فيها، ووجهه أن
الثالث قائم مقام الأول ولو كان الأول يأتي
بهذه السجدة كان يتابعه الثاني بأن أدرك
الإمام في السجدة وإن كانت السجدة غير محسوبة
من صلاته بل يتبعه الإمام فكذا إذا سجدها
الإمام الثالث ويأتي بها الثاني بطريق
المتابعة. وجه ظاهر الرواية أن السجدة الأولى
غير محسوبة من صلاة الإمام الثالث فلا يجب على
الثاني متابعته فيها بل هي في حقه بمنزلة سجدة
زائدة، والإمام إذا كان يأتي بسجدة زائدة لا
يتابعه المقتدي فيها بخلاف ما لو أدرك الإمام
الأول في السجدة حيث يتابعه فيها؛ لأنها
محسوبة من صلاة الإمام فيجب عليه متابعته.
وأما في السجدة الثانية فلا يتابعه الإمام
الأول؛ لأنه مدرك يأتي بالأول فالأول إلا إذا
كان صلى الركعة الثانية وسجد سجدة وانتهى إلى
هذه وتابعه الإمام الثاني فيها لأنه مدرك هذه
الركعة وانتهت هي إلى هذه السجدة فيتابعه
فيها، وإن لم تكن محسوبة للإمام الثالث؛ لأنها
محسوبة للإمام الثاني، وكذا القوم يتابعونه
فيها؛ لأنهم قد صلوا هذه الركعة أيضا وانتهت
إلى هذه السجدة، ثم إذا سجد الإمام الثالث
السجدتين وقعد قدر التشهد يقدم مدركا ليسلم
بهم لعجزه عن ذلك بنفسه، ويسجد الإمام الرابع
للسهو ليجبر بها النقص المتمكن في هذه الصلاة
بتأخير السجدة الأولى عن محلها الأصلي ويسجدون
معه ثم يقوم الثالث فيقضي ركعتين بقراءة ثم
يقوم الثاني فيقضي الركعة التي سبق بها بقراءة
ويتم المقيمون صلاتهم. وأما إذا كانوا كلهم
مدركين والمسألة بحالها فإن الإمام الأول
يتابع الإمام الثالث في السجدة الأولى؛ لأن
صلاة الإمام الأول انتهت إلى هذه السجدة
فيتابعه فيها لا محالة، فكذا الإمام الثاني؛
لأنه أدرك الركعة الأولى وهذه السجدة منها وقد
فاتته فقلنا بأنه يأتي بها. وأما في السجدة
الثانية فلا يتابعه الأول؛ لأنه مدرك فيقضي
الأول فالأول وهو ما أتى بهذه الركعة الثانية
فينبغي له أن يأتي بها أولا ثم يأتي بهذه
السجدة في آخر الركعة الثانية إذا انتهى إليها
ويتابعه الإمام الثاني؛ لأن صلاته انتهت إلى
هذه السجدة فإنه صلى الركعة الثانية وترك هذه
السجدة فيأتي بها والله أعلم.
هذا إذا كان الإمام مسافرا فأما إذا كان مقيما
والصلاة من ذوات الأربع فصلى الأئمة الأربعة
كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم
خامسا فإن كانت الأئمة الأربعة مسبوقين بأن
كان كل واحد بعد الأول جاء ساعتئذ فأحدث
الرابع وقدم رجلا جاء ساعتئذ وتوضأ الأئمة
وجاءوا ينبغي أن يسجد الإمام الخامس السجدات
الأربع فيسجد الأولى فيتابعه فيها القوم
والإمام الأول؛ لأن صلاتهم انتهت إليها ولا
يتابعه فيها الإمام الثاني والثالث والرابع في
ظاهر الرواية؛ لأنها غير محسوبة من صلاة
الإمام الخامس فلا تجب عليهم متابعته فيها،
وفي رواية النوادر يسجدونها معه بطريق
المتابعة على ما ذكرنا ثم يسجد الثانية
ويتابعه فيها القوم والإمام الثاني؛ لأنه صلى
تلك الركعة وانتهت إلى هذه ولا يتابعه فيها
الإمام الأول؛ لأنه يصلي الأول فالأول وهو ما
صلى تلك الركعة بعد حتى لو كان صلاها وانتهى
إلى السجدة الثانية ثم سجد الإمام يتابعه،
وكذا لا يتابعه الثالث والرابع في ظاهر
الرواية إلا على رواية النوادر على ما ذكرنا،
ثم يسجد الثالثة ويتابعه فيها القوم والإمام
الثالث فقط، ثم يسجد الرابعة ويتابعه فيها
القوم والإمام الرابع فقط، والحاصل أن كل إمام
يتابعه في سجدة ركعته التي صلاها؛ لأنه انتهى
إليها ولا يتابعه في سجدة الركعة التي هي بعد
الركعة التي أدركها؛ لأنه في حق تلك الركعة
مدرك فيقضي الأول فالأول إلا إذا انتهت صلاته
إليها، وهل يتابعه في سجدة الركعة التي فاتته
؟ فعلى ظاهر الرواية لا وعلى رواية النوادر
نعم ثم يتشهد ويتأخر فيقدم سادسا ليسلم بهم
لعجزه عن التسليم ويسجد سجدتي السهو لما مر،
ثم يقوم الخامس فيصلي
ج / 1 ص -231-
أربع
ركعات؛ لأنه مسبوق فيها يقرأ في الأوليين وفي
الأخريين هو بالخيار على ما عرف. وأما الإمام
الأول فيقضي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه مدرك
والإمام الثاني يقضي ركعتين بغير قراءة أيضا
لأنه لا حق فيهما ثم يقضي ركعة بقراءة لأنه
مسبوق فيها والإمام الثالث يقضي الرابعة أولا
بغير قراءة؛ لأنه لا حق فيها ثم يقضي ركعتين
بقراءة؛ لأنه مسبوق فيهما، والإمام الرابع
يقضي ثلاث ركعات يقرأ في ركعتين منها وفي
الثالثة هو بالخيار؛ لأنه مسبوق فيها، هذا إذا
كانت الأئمة الأربعة مسبوقين، فأما إذا كانوا
مدركين فصلى كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث
الرابع وقدم خامسا وجاء الأئمة الأربعة فإنه
ينبغي للخامس أن يبدأ بالسجدة الأولى ويتابعه
فيها الأئمة والقوم؛ لأنهم صلوا هذه الركعة
وانتهت إلى هذه السجدة، ثم يسجد الثانية
ويتابعه فيها الثاني والثالث والرابع والقوم
لهذا المعنى، ولا يتابعه الأول؛ لأنه يصلي
الأول فالأول وهو ما أدى تلك الركعة بعد إلا
إذا كان عجز فصلى الركعة الثانية وأدرك الإمام
في السجدة الثانية فحينئذ يتابعه فيها، ثم
يسجد الثالثة ويتابعه فيها الثالث والرابع لما
بينا ولا يتابعه الأول والثاني؛ لأنهما لم
يصليا الركعة الثالثة بعد، ثم يسجد الرابعة
ويتابعه فيها الرابع؛ لأنهم صلوا هذه الركعة
وانتهت إلى هذه السجدة ولا يتابعه الأول
والثاني والثالث؛ لأنهم ما صلوا هذه الركعة
بعد، ثم يقوم الإمام الأول فيقضي ثلاث ركعات
والإمام الثاني ركعتين والإمام الثالث الركعة
الرابعة بغير قراءة لأنهم مدركون أول الصلاة،
ثم يسلم الخامس ويسجد للسهو والقوم معه لما مر
وكل إمام فرغ من إتمام صلاته وأدركه تابعه في
سجود السهو ومن لم يدركه أخر سجود السهو إلى
آخر الصلاة على ما ذكرنا قبل هذا، والصحيح أنه
يفسد صلاتهم؛ لأن استخلاف من لا يصلح أما ما
له عمل كثير منه ليس من أعمال الصلاة فتفسد
صلاته وصلاتهم بفساد صلاته، وكذلك عند أبي
حنيفة وهي من المسائل الاثني عشرية، وبعض
مشايخنا قالوا: لا تفسد بالإجماع لوجود الصنع
من هذا وهو الاستخلاف إلا أن بناء مذهب أبي
حنيفة في هذه المسائل على هذا الأصل غير سديد
لما ذكرنا في كتاب الطهارة في فصل التيمم،
والأصل في باب الاستخلاف أن كل من صح اقتداء
الإمام به يصلح خليفة له وإلا فلا. ولو كان
الإمام متيمما وأحدث وقدم متوضئا جاز لأن
اقتداء المتيمم بالمتوضئ صحيح بلا خلاف. ولو
قدمه ثم وجد الإمام الأول الماء فسدت صلاته
وحده؛ لأن الإمامة تحولت منه إلى الثاني وصار
هو كواحد من القوم ففساد صلاته لا يتعدى إلى
غيره، وإن كان الإمام الأول متوضئا والخليفة
متيمم فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة
الأول وصلاة القوم جميعا؛ لأن الإمامة تحولت
إليه وصار الأول كواحد من المقتدين به وفساد
صلاة الإمام يتعدى إلى صلاة القوم. ولو قدم
مسبوقا جاز والأولى للإمام المحدث أن يستخلف
مدركا لا مسبوقا؛ لأنه أقدر على إتمام الصلاة،
وقد قال عليه الصلاة والسلام
"من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه
فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين" ومع هذا لو قدم المسبوق جاز ولكن ينبغي أن لا يتقدم؛ لأنه عاجز عن
القيام بجميع ما بقي من الأعمال ولو تقدم مع
هذا جاز؛ لأنه أهل للإمامة وهو قادر على أداء
الأركان وهي المقصودة من الصلاة، فإذا صح
استخلافه يتم الصلاة من الموضع الذي وصل إليه
الإمام؛ لأنه قائم مقامه فإذا انتهى إلى
السلام يستخلف هذا الثاني رجلا أدرك أول
الصلاة ليسلم بهم؛ لأنه عاجز عن السلام لبقاء
ما سبق به عليه فصار بسبب العجز عن إتمام
الصلاة كالذي سبقه الحدث فيثبت له ولاية
استخلاف غيره فيقدم مدركا ليسلم، ويقوم هو
لقضائه ما سبق به والإمام الأول صار مقتديا
بالإمام الثاني؛ لأن الثاني صار إماما فيخرج
الأول من الإمامة ضرورة أن الصلاة الواحدة لا
يكون لها إمامان، وإذا لم يبق إماما وقد بقي
هو في الصلاة التي كانت مشتركة بينهم صار
مقتديا ضرورة، فإن توضأ الأول وصلى في بيته ما
بقي من صلاته فإن كان قبل فراغ الإمام الثاني
من صلاة الأول فسدت صلاته وإن كان بعد فراغه
فصلاته تامة على ما مر. ولو قعد الثاني في
الرابعة قدر التشهد ثم قهقه انتقض وضوءه
وصلاته، وكذلك إذا أحدث متعمدا أو تكلم أو خرج
من المسجد فسدت صلاته لأن الجزء الذي لاقته
القهقهة من صلاته قد فسد وقد بقي عليه أركان،
ومن باشر المفسد قبل أداء جميع الأركان يفسد
صلاته، وصلاة المقتدين الذين ليسوا بمسبوقين
تامة؛ لأن جزءا من صلاتهم وإن فسد بفساد
ج / 1 ص -232-
صلاة
الإمام لكن لم يبق عليهم شيء من الأفعال
فصلاتهم بدون هذا الجزء جائزة فحكم بجوازها،
فأما المسبوقون فصلاتهم فاسدة؛ لأن هذا الجزء
من صلاتهم قد فسد وعليهم أركان لم تؤد بعد
كمال حق الإمام الثاني، فأما الإمام الأول فإن
كان قد فرغ من صلاته خلف الإمام الثاني فصلاته
تامة كغيره من المدركين، وإن كان في بيته ولم
يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة ففيه
روايتان، ذكر في رواية أبي سليمان أن صلاته
فاسدة وذكر في رواية أبي حفص أن صلاته لا
تفسد. وجه رواية أبي سليمان أن قهقهة الإمام
كقهقهة المقتدي في إفساد الصلاة ألا يرى أن
صلاة المسبوقين فاسدة ولو قهقه المقتدي نفسه
في هذه الحالة لفسدت صلاته لبقاء الأركان عليه
فكذا هذا. وجه رواية أبي حفص أن صلاة الإمام
والمسبوق إنما تفسد؛ لأن الجزء الذي لابسته
القهقهة أفسدته من وسط صلاتهم فإذا فسد الجزء
فسدت الصلاة، فأما هذا الجزء في حق صلاة
الإمام الأول وهو مدرك لأول الصلاة فمن آخر
صلاته؛ لأنه يأتي بما يدركه أولا ثم يأتي بما
يدرك مع الإمام وإلا فيأتي به وحده فلا يكون
فساد هذا الجزء موجبا فساد صلاته كما لو كان
أتى وصلى ما تركه وأدرك الإمام وصلى بقية
الصلاة وقعد مع الإمام ثم قهقه الإمام الثاني
لا تفسد صلاة الإمام الأول كذا هذا. ولو كان
من خلف المحدث كلهم مسبوقين ينظر إن بقي على
الإمام شيء من الصلاة فإنه يستخلف واحدا منهم؛
لأن المسبوق يصلح خليفة لما بينا فيتم صلاة
الإمام ثم يقوم إلى قضاء ما سبق به من غير
تسليم لبقاء بعض أركان الصلاة عليه وكذا القوم
يقومون من غير تسليم ويصلون وحدانا وإن لم يبق
على الإمام شيء من صلاته قاموا من غير أن
يسلموا وأتموا صلاتهم وحدانا لوجوب الانفراد
عليهم في هذه الحالة. ولو صلى الإمام ركعة ثم
أحدث فاستخلف رجلا نام من هذه الركعة وقد أدرك
أولها أو كان ذهب ليتوضأ جاز لكن لا ينبغي
للإمام أن يقدمه ولا لذلك الرجل أن يتقدم وإن
قدم ينبغي أن يتأخر ويقدم هو غيره؛ لأن غيره
أقدر على إتمام صلاة الإمام وإنه يحتاج إلى
البداية بما فاته فإن لم يفعل وتقدم جاز؛ لأنه
قادر على الإتمام في الجملة، وإذا تقدم ينبغي
أن يشير إليهم لينتظروه إلى أن يصلي ما فاته
وقت نومه أو ذهابه للتوضؤ ثم يصلي بهم بقية
الصلاة؛ لأنه مدرك فينبغي أن يصلي الأول
فالأول، وإن لم يفعل هكذا ولكنه أتم صلاة
الإمام ثم قدم مدركا فسلم بهم ثم قام فيقضي ما
فاته أجزأه عندنا خلافا لزفر. وجه قوله أنه
مأمور بالبداية بالركعة الأولى فإذا لم يفعل
فقد ترك الترتيب المأمور به فتفسد صلاته
كالمسبوق إذا بدأ بقضاء ما فاته قبل أن يتابع
الإمام فيما أدركه معه. "ولنا" أنه أتى بجميع
أركان الصلاة إلا أنه ترك الترتيب في أفعالها،
والترتيب في أفعال الصلاة واجب وليس بفرض؛ لأن
الترتيب لو ثبتت فرضيته لكان فيه زيادة على
الأركان والفرائض، وذا جار مجرى النسخ ولا
يثبت نسخ ما ثبت بدليل مقطوع به إلا بدليل
مثله، ولا دليل لمن جعل الترتيب فرضا ليساوي
دليل افتراض سائر الأركان، والدليل عليه أنه
لو ترك سجدة من الركعة الأولى إلى آخر صلاته
لم تسقط صلاته ولو كان الترتيب في أفعال صلاة
واحدة فرضا لفسدت، وكذا المسبوق إذا أدرك
الإمام في السجود يتابعه فيه فدل أن مراعاة
الترتيب في صلاة واحدة ليست بفرض فتركها لا
يوجب فساد الصلاة.
"فصل": وأما بيان حكم الاستخلاف. فحكمه صيرورة الثاني إماما وخروج الأول
عن الإمامة وصيرورته في حكم المقتدي بالثاني،
ثم إنما يصير الثاني إماما ويخرج الأول عن
الإمامة بأحد أمرين: إما بقيام الثاني مقام
الأول ينوي صلاته، أو بخروج الأول عن المسجد
حتى لو استخلف رجلا وهو في المسجد بعد ولم يقم
الخليفة مقامه فهو على إمامته حتى لو جاء رجل
فاقتدى به صح اقتداؤه. ولو أفسد الأول صلاته
فسدت صلاتهم جميعا؛ لأن الأول كان إماما وإنما
يخرج عن الإمامة بانتقالها إلى غيره ضرورة أن
الصلاة الواحدة لا يجتمع عليها إمامان أو
بخروجه عن المسجد لفوت شرط صحة الاقتداء وهو
اتحاد البقعة، فإذا لم يتقدم غيره ولم يخرج من
المسجد لم ينتقل والبقعة متحدة فبقي إماما في
نفسه كما كان وقولنا ينوي صلاة الإمام حتى لو
استخلف رجلا جاء ساعتئذ قبل أن يقتدي به فتقدم
وكبر، فإن نوى الاقتداء بالإمام وأن يصلي
بصلاته صح استخلافه وجازت صلاتهم، وقال بشر:
لا يصح الاستخلاف بناء على أن الاقتداء
بالإمام المحدث عنده غير صحيح ابتداء؛ لأن
بقاء الاقتداء به بعد الحدث أمر عرف
ج / 1 ص -233-
بالنص
بخلاف القياس، والابتداء ليس في معنى البقاء
ألا ترى أن حدث الإمام يمنع الشروع في الصلاة
ابتداء ولا يمنع البقاء فيها ؟ فيمنع الاقتداء
به أيضا ابتداء، ولنا أنه لما كبر ونوى الدخول
في صلاة الأول والأول بعد في المسجد وحرمة
صلاته باقية صح الاقتداء وبقي الإمام الأول
بعد صحة الاقتداء على الاستخلاف أي صار الثاني
بعد اقتدائه به خليفة الأول بالاستخلاف السابق
فصار مستخلفا من كان مقتديا به فيجوز، وإن كان
مسبوقا لما مر وإن كان كبر ونوى أن يصلي بهم
صلاة مستقلة لم يصر مقتديا بالإمام الأول
فتبين أن الإمام استخلف من ليس بمقتد به فلم
يصح الاستخلاف وهذا؛ لأن الاستخلاف أمر جوز
شرعا بخلاف القياس فيراعى عين ما ورد فيه النص
والنص ورد في استخلاف من هو مقتد به فبقي غير
ذلك على أصل القياس وصلاة هذا الثاني صحيحة
لأنه افتتحها منفردا بها وصلاة المنفرد جائزة
وصلاة القوم فاسدة؛ لأنه لما لم يصح استخلاف
الثاني بقي الأول إماما لهم وقد خرج من المسجد
فتفسد صلاتهم ولأنهم لما صلوا خلف الإمام
الثاني صلوا خلف من ليس بإمام لهم وتركوا
الصلاة خلف من هو إمامهم وكلا الأمرين مفسد
للصلاة؛ ولأنهم كانوا مقتدين بالأول فلا
يمكنهم إتمامها مقتدين بالثاني؛ لأن الصلاة
الواحدة لا تؤدى بإمامين بخلاف خليفة الإمام
الأول؛ لأنه قام مقام الأول فكأنه هو بعينه
فكان الإمام واحدا معنى وإن كان مثنى صورة،
وههنا الثاني ليس بخليفة للأول؛ لأنه لم يقتد
به قط فكان هذا أداء صلاة واحدة خلف إمامين
صورة ومعنى وهذا لا يجوز. وأما صلاة الإمام
الأول فلم يتعرض لها في الكتاب، واختلف
مشايخنا فيها قال بعضهم: تفسد؛ لأنه لما
استخلفه اقتدى به والاقتداء بمن ليس معه في
الصلاة يوجب فساد الصلاة وقال بعضهم: لا تفسد؛
لأنه خرج من المسجد من غير استخلاف والأول
أصح.
وقد ذكر في العيون لو أن إماما أحدث وقدم رجلا
من آخر الصفوف ثم خرج من المسجد فإن نوى
الثاني أن يكون إماما من ساعته جازت صلاتهم
وصار الأول كواحد من القوم وإن نوى أن يكون
إماما إذا قام مقام الأول فسدت صلاتهم إذا خرج
الأول قبل أن يصل الثاني إلى مقامه ولو قام
الثاني مقام الأول قبل خروجه من المسجد جازت
صلاتهم والله الموفق.
ومنها أي من مفسدات الصلاة الكلام عمدا أو
سهوا، وقال الشافعي: كلام الناسي لا يفسد
الصلاة إذا كان قليلا وله في الكثير قولان
واحتج بما روي عن أبي هريرة أنه قال "صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي
العشي إما الظهر وإما العصر فسلم على رأس
الركعتين فخرج سرعان القوم فقام رجل يقال له
ذو اليدين فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة
أم نسيت ؟ فقال: صلى الله عليه وسلم
"كل ذلك لم يكن"
، فقال: والذي بعثك بالحق لقد كان بعض ذلك، ثم
أقبل على القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما فقال صلى الله عليه وسلم:
"أحق ما يقول ذو اليدين" ؟
فقالا: نعم صدق ذو اليدين صليت ركعتين فقام
وصلى الباقي وسجد سجدتي السهو بعد السلام"
فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم ناسيا فإن
عنده أنه كان أتم الصلاة وذو اليدين تكلم
ناسيا فإنه زعم أن الصلاة قد قصرت ورسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يستقبل الصلاة ولم يأمر
ذا اليدين ولا أبا بكر ولا عمر بالاستقبال
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
"رفع عن أمتي الخطأ،
والنسيان، وما استكرهوا عليه" ولأن
كلام الناسي بمنزلة سلام الناسي وذلك لا يوجب
فساد الصلاة وإن كان كلاما؛ لأنه خطاب
الآدميين ولهذا يخرج عمده من الصلاة وكذا هذا،
ولنا ما روينا من حديث البناء وهو قوله صلى
الله عليه وسلم
"وليبن على
صلاته ما لم يتكلم" جوز البناء
إلى غاية التكلم فيقضي انتهاء الجواز بالتكلم.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"
خرجنا إلى الحبشة وبعضنا يسلم على بعض في
صلاته فلما قدمت رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الصلاة فسلمت عليه فلم يرد علي فأخذني
ما قدم وما حدث فلما سلم قال: يا ابن أم عبد
إن الله تعالى: يحدث من أمره ما يشاء وإن مما
أحدث أن لا نتكلم في الصلاة". وروي عن معاوية
بن الحكم السلمي أنه قال:" صليت خلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعطس بعض القوم فقلت يرحمك
الله فرماني بعض القوم بأبصارهم فقلت واثكل
أماه ما لي أراكم تنظرون إلي شزرا فضربوا
أيديهم على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فلما
فرغ النبي صلى الله عليه وسلم دعاني فوالله ما
رأيت معلما أحسن تعليما منه ما نهرني ولا
زجرني ولكن قال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها
شيء من كلام الناس
ج / 1 ص -234-
إنما
هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن"، وما لا
يصلح في الصلاة فمباشرته مفسدة للصلاة كالأكل
والشرب ونحو ذلك، ولهذا لو كثر كان مفسدا ولو
كان النسيان فيها عذرا لاستوى قليله وكثيره
كالأكل في باب الصوم، وحديث ذي اليدين محمول
على الحالة التي كان يباح فيها التكلم في
الصلاة وهي ابتداء الإسلام بدليل أن ذا اليدين
وأبا بكر وعمر رضي الله عنهم تكلموا في الصلاة
عامدين ولم يأمرهم بالاستقبال مع أن الكلام
العمد مفسد للصلاة بالإجماع، والرفع المذكور
في الحديث محمول على رفع الإثم والعقاب ونحن
نقول به والاعتبار بسلام الناسي غير سديد فإن
الصلاة تبقى مع سلام العمد في الجملة وهو
قوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
والنسيان دون العمد فجاز أن تبقى مع النسيان
في كل الأحوال، وفقهه أن السلام بنفسه غير
مضاد للصلاة لما فيه من معنى الدعاء إلا أنه
إذا قصد به الخروج في أوان الخروج جعل سببا
للخروج شرعا، فإذا كان ناسيا وبقي عليه شيء من
الصلاة لم يكن السلام موجودا في أوانه فلم
يجعل سببا للخروج بخلاف الكلام فإنه مضاد
للصلاة؛ ولأن النسيان في أعداد الركعات يغلب
وجوده فلو حكمنا بخروجه عن الصلاة يؤدي إلى
الحرج فأما الكلام فلا يغلب وجوده ناسيا فلو
جعلناه قاطعا لا يؤدي إلى الحرج فبطل الاعتبار
والله أعلم.
والنفخ المسموع مفسد للصلاة عند أبي حنيفة
ومحمد، وجملة الكلام فيه أن النفخ على ضربين
مسموع وغير مسموع، وغير المسموع منه لا يفسد
الصلاة بالإجماع؛ لأنه ليس بكلام معهود وهو
الصوت المنظوم المسموع ولا عمل كثير، إلا أنه
يكره لما مر أن إدخال ما ليس من أعمال الصلاة
في الصلاة من غير ضرورة مكروه وإن كان قليلا،
فأما المسموع منه فإنه يفسد الصلاة في قول أبي
حنيفة ومحمد سواء أراد به التأفيف أو لم يرد،
وكان أبو يوسف يقول أولا: إن أراد به التأفيف
بأن قال: أف أو تف على وجه الكراهة للشيء،
وتبعيده يفسد، وإن لم يرد به التأفيف لا يفسد،
ثم رجع وقال: لا يفسد أراد به التأفيف أو لم
يرد. وجه قوله الأول أنه إذا أراد به التأفيف
كان من كلام الناس لدلالته على الضمير فيفسد
وإذا لم يرد به التأفيف لم يكن من كلام الناس
لعدم دلالته على الضمير فلا يفسد كالتنحنح.
وجه قوله الأخير أنه ليس من كلام الناس في
الوضع فلا يصير من كلامهم بالقصد والإرادة
ولأن أحد الحرفين ههنا من الزوائد التي يجمعها
قولك اليوم تنساه والحرف الزائد ملحق بالعدم
بقي حرف واحد، وأنه ليس بكلام حتى لو كانت
ثلاثة أحرف أصلية أو زائدة أو كانا حرفين
أصليين يوجب فساد الصلاة ولأبي حنيفة ومحمد أن
الكلام في العرف اسم للحروف المنظومة المسموعة
وأدنى ما يحصل به انتظام الحروف حرفان، وقد
وجد في التأفيف وليس من شرط كون الحروف
المنظومة كلاما في العرف أن تكون مفهومة
المعنى فإن الكلام العربي نوعان، مهمل ومستعمل
ولهذا لو تكلم بالمهملات فسدت صلاته مع ما أن
التأفيف مفهوم المعنى؛ لأنه وضع في اللغة
للتبعيد على طريق الاستخفاف حتى حرم استعمال
هذا اللفظ في حق الأبوين احتراما لهما لقوله
تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
وهذا النص من أقوى الحجج لهما أن الله تعالى:
سمى التأفيف قولا فدل أنه كلام، والدليل على
أن النفخ كلام ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال "لغلام يقال له رباح حين مر به
وهو ينفخ التراب من موضع سجوده في صلاته:
"لا تنفخ فإن النفخ كلام"، وفي رواية أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلم ؟ وهذا نص في
الباب. وأما التنحنح عن عذر فإنه لا يفسد
الصلاة بلا خلاف وأما من غير عذر فقد اختلف
المشايخ فيه على قولهما قال بعضهم: يفسد لوجود
الحرفين من حروف الهاء، وقال بعضهم إن تنحنح
لتحسين الصوت لا يفسد؛ لأن ذلك سعي في أداء
الركن وهو القراءة على وصف الكمال، وروى إمام
الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي عن
الشيخ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان
الجوزجاني أنه قال: إذا قال أخ فسدت صلاته؛
لأن له هجاء ويسمع فهو كالنفخ المسموع وبه
تبين أن ما ذكره أبو يوسف من المعنى غير سديد
لما ذكرنا أن الله تعالى: سماه قولا، ولما
ذكرنا أن الحروف المنظومة المسموعة كافية
للفساد وإن لم يكن لها معنى مفهوما كما لو
تكلم بمهمل كثرت حروفه. وأما قوله أن أحد
الحرفين من الحروف الزوائد فنعم هو من جنس
الحروف الزوائد لكنه من هذه الكلمة ليس هو
بزائد وإلحاق ما هو من جنس الحروف الزوائد من
كلمة ليس هو فيها زائدا بالزوائد محال، وكذا
قوله بامتناع
ج / 1 ص -235-
التغير
بالقصد والإرادة غير صحيح بدليل أن من قال: لا
يبعث الله من يموت وأراد به قراءة القرآن يثاب
عليه ولو أراد به الإنكار للبعث يكفر فدل أن
ما ليس من كلام الناس في الوضع يجوز أن يصير
من كلامهم بالقصد والإرادة. ولو أن في صلاته
أو بكى وارتفع بكاؤه فإن كان ذلك من ذكر الجنة
أو النار لا تفسد الصلاة وإن كان من وجع أو
مصيبة يفسدها؛ لأن الأنين أو البكاء من ذكر
الجنة والنار يكون لخوف عذاب الله وأليم عقابه
ورجاء ثوابه فيكون عبادة خالصة ولهذا مدح الله
تعالى: خليله عليه الصلاة والسلام بالتأوه
فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وقال في موضع آخر
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}؛ لأنه كان كثير التأوه في الصلاة "وكان لجوف رسول الله صلى الله
عليه وسلم أزير كأزيز المرجل في الصلاة"، وإذا
كان كذلك فالصوت المنبعث عن مثل الأنين لا
يكون من كلام الناس فلا يكون مفسدا؛ ولأن
التأوه والبكاء من ذكر الجنة والنار يكون
بمنزلة التصريح بمسألة الجنة والتعوذ من النار
وذلك غير مفسد كذا هذا، وإذا كان ذلك من وجع
أو مصيبة كان من كلام الناس وكلام الناس مفسد.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: إذا قال آه لا تفسد
صلاته وإن كان من وجع أو مصيبة، وإذا قال: أوه
تفسد صلاته؛ لأن الأول ليس من قبيل الكلام بل
هو شبيه بالتنحنح والتنفس، والثاني من قبيل
الكلام والجواب ما ذكرنا. ولو عطس رجل فقال له
رجل في الصلاة: يرحمك الله فسدت صلاته؛ لأن
تشميت العاطس من كلام الناس؛ لما روينا من
حديث معاوية بن الحكم السلمي؛ ولأنه خطاب
للعاطس بمنزلة قوله: أطال الله بقاءك، وكلام
الناس مفسد بالنص وإن أخبر بخبر يسره فقال:
الحمد لله أو أخبر بما يتعجب منه فقال: سبحان
الله فإن لم يرد جواب المخبر لم تقطع صلاته،
وإن أراد به جوابه قطع عند أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف لا يقطع وإن أراد به الجواب.
وجه قوله أن الفساد لو فسدت إنما تفسد بالصيغة
أو بالنية لا وجه للأول؛ لأن الصيغة صيغة
الأذكار ولا وجه للثاني؛ لأن مجرد النية غير
مفسد، ولهما أن هذا اللفظ لما استعمل في محل
الجواب وفهم منه ذلك صار من هذا الوجه من كلام
الناس وإن لم يصر من حيث الصيغة، ومثل هذا
جائز كمن قال لرجل اسمه يحيى وبين يديه كتاب
موضوع: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد به
الخطاب بذلك لا قراءة القرآن أنه يعد متكلما
لا قارئا، وكذا إذا قيل للمصلي بأي موضع مررت
فقال: بئر معطلة وقصر مشيد، وأراد به جواب
الخطاب لما ذكرنا كذا هذا، وكذلك إذا أخبر
بخبر يسوءه فاسترجع لذلك فإن لم يرد به جوابه
لم يقطع صلاته وإن أراد به الجواب قطع؛ لأن
معنى الجواب في استرجاعه أعينوني فإني مصاب
ولم يذكر خلاف أبي يوسف في مسألة الاسترجاع في
الأصل، والأصح أنه على الاختلاف ومن سلم فرق
بينهما فقال: الاسترجاع إظهار المصيبة وما
شرعت الصلاة لأجله فأما التحميد فإظهار الشكر
والصلاة شرعت لأجله، ولو مر المصلي بآية فيها
ذكر الجنة فوقف عندها وسأل الله الجنة، أو
بآية فيها ذكر النار فوقف عندها وتعوذ بالله
من النار فإن كان في صلاة التطوع فهو حسن إذا
كان وحده؛ لما روي عن حذيفة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم "قرأ البقرة وآل عمران في صلاة
الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف
وسأل الله تعالى:، وما مر بآية فيها ذكر النار
إلا وقف وتعوذ، وما مر بآية فيها مثل إلا وقف
وتفكر". وأما الإمام في الفرائض فيكره له ذلك؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في
المكتوبات وكذا الأئمة بعده إلى يومنا هذا
فكان من المحدثات؛ ولأنه يثقل على القوم وذلك
مكروه، ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه يزيد في
خشوعه والخشوع زينة الصلاة، وكذا المأموم
يستمع وينصت لقوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
ولو استأذن على المصلي
إنسان فسبح وأراد به إعلامه أنه في الصلاة لم
يقطع صلاته؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه
قال "كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدخلان في كل يوم بأيهما شئت دخلت فكنت إذا
أتيت الباب فإن لم يكن في الصلاة فتح الباب
فدخلت وإن كان في الصلاة رفع صوته بالقراءة
فانصرفت" ولأن المصلي يحتاج إليه لصيانة
صلاته؛ لأنه لو لم يفعل ربما يلح المستأذن حتى
يبتلى هو بالغلط في القراءة فكان القصد به
صيانة صلاته فلم تفسد، وكذا إذا عرض للإمام
شيء فسبح المأموم ولا بأس به؛ لأن القصد به
إصلاح الصلاة فسقط حكم الكلام عنه للحاجة إلى
الإصلاح، ولا يسبح الإمام إذا قام إلى
الأخريين؛ لأنه لا يجوز له
ج / 1 ص -236-
الرجوع
إذا كان إلى القيام أقرب فلم يكن التسبيح
مفيدا.
ولو فتح على المصلي إنسان فهذا على وجهين: إما
أن كان الفاتح هو المقتدي به أو غيره فإن كان
غيره فسدت صلاة المصلي سواء كان الفاتح خارج
الصلاة أو في صلاة أخرى غير صلاة المصلي وفسدت
صلاة الفاتح أيضا إن كان هو في الصلاة؛ لأن
ذلك تعليم وتعلم فإن القارئ إذا استفتح غيره
فكأنه يقول: ماذا بعد ما قرأت فذكرني، والفاتح
بالفتح كأنه يقول: بعد ما قرأت كذا فخذ مني.
ولو صرح به لا يشكل في فساد الصلاة فكذا هذا،
وكذا المصلي إذا فتح على غير المصلي فسدت
صلاته لوجود التعليم في الصلاة ولأن فتحه بعد
استفتاحه جواب وهو من كلام الناس فيوجب فساد
الصلاة وإن كان مرة واحدة، هذا إذا فتح على
المصلي عن استفتاح فأما إذا فتح عليه من غير
استفتاح لا تفسد صلاته بمرة واحدة وإنما تفسد
عند التكرار؛ لأنه عمل ليس من أعمال الصلاة
وليس بخطاب لأحد فقليله يورث الكراهة وكثيره
يوجب الفساد، وإن كان الفاتح هو المقتدي به
فالقياس هو فساد الصلاة إلا أنا استحسنا
الجواز؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم "قرأ سورة المؤمنون فترك حرفا فلما فرغ
قال: ألم يكن فيكم أبي ؟ قال: نعم يا رسول
الله، قال: هلا فتحت علي، فقال: ظننت أنها
نسخت فقال: صلى الله عليه وسلم
"لو نسخت لأنبأتكم"، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: إذا استطعمك الإمام فأطعمه. وعن
ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ الفاتحة في
صلاة المغرب فلم يتذكر سورة فقال نافع: إذا
زلزلت فقرأها ولأن المقتدي مضطر إلى ذلك
لصيانة صلاته عن الفساد عند ترك الإمام
المجاوزة إلى آية أخرى أو الانتقال إلى الركوع
حتى إنه لو فتح على الإمام بعد ما انتقل إلى
آية أخرى فقد قيل: إنه إن أخذه الإمام فسدت
صلاة الإمام والقوم وإن لم يأخذه فسدت صلاة
الفاتح خاصة لعدم الحاجة إلى الصيانة، ولا
ينبغي للمقتدي أن يعجل بالفتح ولا للإمام أن
يحوجهم إلى ذلك بل يركع أو يتجاوز إلى آية أو
سورة أخرى فإن لم يفعل الإمام ذلك وخاف
المقتدي أن يجري على لسانه ما يفسد الصلاة
فحينئذ يفتح عليه لقول علي إذا استطعمك الإمام
فأطعمه وهو مليم أي مستحق الملامة؛ لأنه أحوج
المقتدي واضطره إلى ذلك، وقد قال بعض مشايخنا:
ينبغي للمقتدي أن ينوي بالفتح على إمامه
التلاوة، وهو غير سديد؛ لأن قراءة المقتدي خلف
الإمام منهي عنها عندنا، والفتح على الإمام
غير منهي عنه فلا يجوز ترك ما رخص له فيه بنية
ما هو منهي عنه وإنما يستقيم هذا إذا كان
الفتح على غير إمامه فعند ذلك ينبغي له أن
ينوي التلاوة دون التعليم ولا يضره ذلك.
ولو قرأ المصلي من المصحف فصلاته فاسدة عند
أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد تامة ويكره
وقال الشافعي: لا يكره واحتجوا بما روي أن
مولى لعائشة رضي الله عنها يقال له ذكوان كان
يؤم الناس في رمضان وكان يقرأ من المصحف ولأن
النظر في المصحف عبادة والقراءة عبادة وانضمام
العبادة إلى العبادة لا يوجب الفساد إلا أنه
يكره عندهما؛ لأنه تشبه بأهل الكتاب، والشافعي
يقول ما نهينا عن التشبه بهم في كل شيء فإنا
نأكل ما يأكلون ولأبي حنيفة طريقتان: إحداهما
أن ما يوجد منه من حمل المصحف وتقليب الأوراق
والنظر فيه أعمال كثيرة ليست من أعمال الصلاة
ولا حاجة إلى تحملها في الصلاة فتفسد الصلاة،
وقياس هذه الطريقة أنه لو كان المصحف موضوعا
بين يديه ويقرأ منه من غير حمل وتقليب الأوراق
أو قرأ ما هو مكتوب على المحراب من القرآن لا
تفسد صلاته لعدم المفسد وهو العمل الكثير،
والطريقة الثانية أن هذا يلقن من المصحف فيكون
تعلما منه ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى
متعلما فصار كما لو تعلم من معلم وذا يفسد
الصلاة وكذا هذا، وهذه الطريقة لا توجب الفصل
بين ما إذا كان حاملا للمصحف مقلبا للأوراق
وبين ما إذا كان موضوعا بين يديه ولا يقلب
الأوراق، وأما حديث ذكوان فيحتمل أن عائشة ومن
كان من أهل الفتوى من الصحابة لم يعلموا بذلك
وهذا هو الظاهر بدليل أن هذا الصنيع مكروه بلا
خلاف ولو علموا بذلك لما مكنوه من عمل المكروه
في جميع شهر رمضان من غير حاجة، ويحتمل أن
يكون قول الراوي كان يؤم الناس في رمضان وكان
يقرأ من المصحف إخبارا عن حالتين مختلفتين أي
كان يؤم الناس في رمضان وكان يقرأ من المصحف
في غير حالة الصلاة إشعارا منه أنه لم يكن
يقرأ القرآن ظاهره فكان يؤم ببعض سور القرآن
دون أن يختم أو كان يستظهر كل يوم ورد كل ليلة
ليعلم أن قراءة جميع القرآن في ليست بفرض.
ولو دعا في
ج / 1 ص -237-
صلاته
فسأل الله تعالى: شيئا فإن دعا بما في القرآن
لا تفسد صلاته لأنه ليس من كلام الناس، وكذا
لو دعا بما يشبه ما في القرآن وهو كل دعاء
يستحيل سؤاله من الناس لما قلنا. ولو دعا بما
لا يمتنع سؤاله من الناس تفسد صلاته عندنا نحو
قوله: اللهم أعطني درهما، وزوجني فلانة،
وألبسني ثوبا، وأشباه ذلك، وقال الشافعي: إذا
دعا في صلاة بما يباح له أن يدعو به خارج
الصلاة لا تفسد صلاته، واحتج بقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وقوله صلى الله عليه وسلم
"سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم والملح لقدوركم"، وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقنت في صلاة الفجر يدعو على من
ناوأه أي عاداه، ولنا أن ما يجوز أن يخاطب به
العبد فهو من كلام الناس وضعا ولم يخلص دعاء،
وقد جرى الخطاب فيما بين العباد بما ذكرنا ألا
ترى أن بعضهم يسأل بعضا ذلك فيقول أعطني درهما
أو زوجني امرأة ؟ وكلام الناس مفسد ولهذا عد
النبي صلى الله عليه وسلم تشميت العاطس كلاما
مفسدا للصلاة في ذلك الحديث لما خاطب الآدمي
به وقصد قضاء حقه وإن كان دعاء صيغة وهذا
صيغته من كلام الناس وإن خاطب الله تعالى:
فكان مفسدا بصيغته والكتاب والسنة محمولان على
دعاء لا يشبه كلام الناس أو على خارج الصلاة.
وأما حديث علي رضي الله عنه فلم يسوغوا له ذلك
الاجتهاد حتى كتب إليه أبو موسى الأشعري أما
بعد فإذا أتاك كتابي هذا فأعد صلاتك، وذكر في
الأصل أرأيت لو أنشد شعرا أما كان مفسدا
لصلاته، ومن الشعر ما هو ذكر الله تعالى: كما
قال الشاعر ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
ولا ينبغي للرجل أن يسلم على المصلي ولا
للمصلي أن يرد سلامه بإشارة ولا غير ذلك أما
السلام فلأنه يشغل قلب المصلي عن صلاته فيصير
مانعا له عن الخير وإنه مذموم. وأما رد السلام
بالقول والإشارة فلأن رد السلام من جملة كلام
الناس لما روينا من حديث عبد الله بن مسعود،
وفيه أنه لا يجوز الرد بالإشارة؛ لأن عبد الله
قال فسلمت عليه فلم يرد علي فيتناول جميع
أنواع الرد ولأن في الإشارة ترك سنة اليد وهي
الكف لقوله صلى الله عليه وسلم
"كفوا أيديكم في الصلاة"
غير أنه إذا رد بالقول فسدت صلاته؛ لأنه كلام
ولو رد بالإشارة لا تفسد؛ لأن ترك السنة لا
يفسد الصلاة ولكن يوجب الكراهة. "ومنها"
السلام متعمدا وهو سلام الخروج من الصلاة؛
لأنه إذا قصد به الخروج من الصلاة صار من كلام
الناس؛ لأنه خاطبهم به وكلام الناس مفسد.
"ومنها" القهقهة عامدا كان أو ناسيا؛ لأن
القهقهة في الصلاة أفحش من الكلام ألا ترى
أنها تنتقض الوضوء والكلام لا ينقض ثم لما جعل
الكلام قاطعا للصلاة ولم يفصل فيه بين العمد
والسهو فالقهقهة أولى.
ومنها الخروج عن المسجد من غير عذر؛ لأن
استقبال القبلة حال الاختيار شرط جواز الصلاة
هذا كله من الحدث العمد والكلام والسلام
والقهقهة والخروج من المسجد إذا فعل شيئا من
ذلك قبل أن يقعد قدر التشهد الأخير فأما إذا
قعد قدر التشهد ثم فعل شيئا من ذلك فقد أجمع
أصحابنا على أنه لو تكلم أو خرج من المسجد لا
تفسد صلاته سواء كان منفردا أو إماما خلفه
لاحقون أو مسبوقون وسواء أدرك اللاحقون الإمام
في صلاته وصلوا معه أو لم يدركوا، وكذلك لو
قهقه أو أحدث متعمدا وهو منفرد وإن كان إماما
خلفه لاحقون ومسبوقون فصلاة الإمام تامة بلا
خلاف بين أصحابنا وصلاة المسبوقين فاسدة في
قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد تامة. وجه
قولهما أن القهقهة والحدث لم يفسدا صلاة
الإمام فلا يفسدان صلاة المقتدي وإن كان
مسبوقا؛ لأن صلاة المقتدي لو فسدت إنما تفسد
بإفساد الإمام صلاته لا بإفساد المقتدي
لانعدام المفسد من المقتدي فلما لم تفسد صلاة
الإمام مع وجود المفسد من جهته فلأن لا تفسد
صلاة المقتدي أولى، وصار كما لو تكلم أو خرج
من المسجد، ولأبي حنيفة الفرق بين الحدث العمد
والقهقهة وبين الكلام والخروج من المسجد،
والفرق أن حدث الإمام إفساد للجزء الذي لاقاه
من صلاته فيفسد ذلك الجزء من صلاته ويفسد من
صلاة المسبوق إلا أن الإمام لم يبق عليه فرض
فيقتصر الفساد في حقه على الجزء وقد بقي
للمسبوق فروض فتمنعه من البناء، فأما الكلام
فقطع للصلاة ومضاد لها كما ذكرنا فيمنع من
الوجود ولا تفسد وشرح هذا الكلام أن القهقهة
والحدث العمد ليسا بمضادين للصلاة بل هما
مضادان للطهارة والطهارة شرط أهلية الصلاة
فصار الحدث مضادا للأهلية بواسطة مضادته
شرطها، والشيء لا ينعدم بما لا يضاده فلم
تنعدم الصلاة
ج / 1 ص -238-
بوجود
الحدث؛ لأنه لا مضادة بينهما، وإنما تنعدم
الأهلية فيوجد جزء من الصلاة لانعدام ما يضاده
ويفسد هذا الجزء لحصوله ممن ليس بأهل ولا صحة
للفعل الصادر من غير الأهل وإذا فسد هذا الجزء
من صلاة الإمام فسدت صلاة المقتدي؛ لأن صلاته
مبنية على صلاة الإمام فتتعلق بها صحة وفسادا؛
لأن الجزء لما فسد من صلاة الإمام فسدت
التحريمة المقارنة لهذا الفعل الفاسد؛ لأنها
شرعت لأجل الأفعال فتتصف بما تتصف الأفعال صحة
وفسادا فإذا فسدت هي فسدت تحريمة المقتدي
فتفسد صلاته إلا أن صلاة الإمام ومن تابعه من
المدركين اتصفت بالتمام بدون الجزء الفاسد.
فأما المسبوق فقد فسد جزء من صلاته وفسدت
التحريمة المقارنة لذلك الجزء فبعد ذلك لا
يعود إلا بالتحريمة ولم يوجد فلم يتصور حصول
ما بقي من الأركان في حق المسبوق فتفسد صلاته
بخلاف الكلام فإنه ليس بمضاد لأهلية أداء
الصلاة بل هو مضاد للصلاة نفسها، ووجود الضد
لا يفسد الضد الآخر بل يمنعه من الوجود فإن
أفعال الصلاة كانت توجد على التجدد والتكرار
فإذا انعدم فعل يعقبه غيره من جنسه فإذا تعقبه
ما هو مضاد للصلاة لا يتصور حصول جزء منها
مقارنا للضد بل يبقى على العدم على ما هو
الأصل عندنا في المتضادات وانتهت أفعال الصلاة
فلم تتجدد التحريمة؛ لأن تجددها كان لتجدد
الأفعال وقد انتهت فانتهت هي أيضا وما فسدت،
وبانتهاء تحريمة الإمام لا تنتهي تحريمة
المسبوق كما لو سلم فإن تحريمة الإمام منتهية
وتحريمة المسبوق غير منتهية؛ لما ذكرنا فلم
تفسد صلاة المسبوقين بخلاف ما نحن فيه. وأما
اللاحقون فإنه ينظر إن أدركوا الإمام في صلاته
وصلوا معه فصلاتهم تامة وإن لم يدركوا ففيه
روايتان في رواية أبي سليمان تفسد، وفي رواية
أبي حفص لا تفسد هذا إذا كان العارض في هذه
الحالة فعلى المصلي فإذا لم يكن فعله كالمتيمم
إذا وجد ماء بعدما قعد قدر التشهد الأخير أو
بعد ما سلم وعليه سجود السهو وعاد إلى السجود
فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويلزمه الاستقبال،
وعند أبي يوسف ومحمد صلاته تامة وهذه من
المسائل الاثني عشرية وقد ذكرناها وذكرنا
الحجج في كتاب الطهارة في فصل التيمم أمي صلى
بعض صلاته ثم تعلم سورة فقرأها فيما بقي من
صلاته فصلاته فاسدة، مثل الأخرس يزول خرسه في
خلال الصلاة، وكذلك لو كان قارئا في الابتداء
فصلى بعض صلاته بقراءة ثم نسي القراءة فصار
أميا فسدت صلاته وهذا قول أبي حنيفة، وقال
زفر: لا تفسد في الوجهين جميعا، وقال أبو يوسف
ومحمد: تفسد في الأول ولا تفسد في الثاني
استحسانا. وجه قول زفر أن فرض القراءة في
الركعتين فقط ألا ترى أن القارئ لو ترك
القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين أجزأه
فإذا كان قارئا في الابتداء فقد أدى فرض
القراءة في الأوليين فعجزه عنها بعد ذلك لا
يضره كما لو ترك مع القدرة، وإذا تعلم وقرأ في
الأخريين فقد أدى فرض القراءة فلا يضره عجزه
عنها في الابتداء كما لا يضره لو تركها. وجه
قولهما أنه لو استقبل الصلاة في الأول لحصل
الأداء على الوجه الأكمل فأمر بالاستقبال. ولو
استقبلها في الثاني لأدى كل الصلاة بغير قراءة
فكان البناء أولى ليكون مؤديا البعض بقراءة،
ولأبي حنيفة أن القراءة ركن فلا يسقط إلا بشرط
العجز عنها في كل الصلاة فإذا قدر على القراءة
في بعضها فات الشرط فظهر أن المؤدى لم يقع
صلاة؛ ولأن تحريمة الأمي لم تنعقد للقراءة بل
انعقدت لأفعال صلاته لا غير، فإذا قدر صارت
القراءة من أركان صلاته فلا يصح أداؤها بلا
تحريمة كأداء سائر الأركان والصلاة لا توجد
بدون أركانها ففسدت ولأن الأساس الضعيف لا
يحتمل بناء القوي عليه والصلاة بقراءة أقوى
فلا يجوز بناؤها على الضعيف كالعاري إذا وجد
الثوب في خلال صلاته والمتيمم إذا وجد الماء،
وإذا كان قارئا في الابتداء فقد عقد تحريمته
لأداء كل الصلاة بقراءة وقد عجز عن الوفاء بما
التزم فيلزمه الاستقبال.
ولو اقتدى الأمي بقارئ بعد ما صلى ركعة فلما
فرغ الإمام قام الأمي لإتمام الصلاة فصلاته
فاسدة في القياس، وقيل: هو قول أبي حنيفة، وفي
الاستحسان يجوز وهو قولهما. وجه القياس أنه
بالاقتداء بالقارئ التزم أداء هذه الصلاة
بقراءة وقد عجز عن ذلك حين قام للقضاء؛ لأنه
منفرد فيما يقضي فلا تكون قراءة الإمام قراءة
له فتفسد صلاته. وجه الاستحسان أنه إنما التزم
القراءة ضمنا للاقتداء وهو مقتد فيما بقي على
الإمام لا فيما سبقه به ولأنه لو بنى كان
مؤديا بعض الصلاة بقراءة ولو استقبل كان مؤديا
جميعها بغير قراءة ولا شك أن الأول أولى.
"ومنها" انكشاف
ج / 1 ص -239-
العورة
في خلال الصلاة إذا كان كثيرا؛ لأن استتارها
من شرائط الجواز فكان انكشافها في الصلاة
مفسدا إلا أنه سقط اعتبار هذا الشرط في القليل
عندنا خلافا للشافعي للضرورة كما في قليل
النجاسة؛ لعدم إمكان التحرز عنه على ما بيناه
فيما تقدم وكذلك الحرة إذا سقط قناعها في خلال
الصلاة فرفعته وغطت رأسها بعمل قليل قبل أن
تؤدي ركنا من أركان الصلاة أو قبل أن تمكث ذلك
القدر لا تفسد صلاتها؛ لأن المرأة قد تبتلى
بذلك فلا يمكنها التحرز عنه، فأما إذا بقيت
كذلك حتى أدت ركنا أو مكثت ذلك القدر أو غطت
من ساعتها لكن بعمل كثير فسدت صلاتها لانعدام
الضرورة، وكذلك الأمة إذا أعتقت في خلال
صلاتها وهي مكشوفة الرأس فأخذت قناعها فهو على
ما ذكرنا في الحرة وكذلك المدبرة والمكاتبة
وأم الولد؛ لأن رءوس هؤلاء ليست بعورة على ما
يعرف في كتاب الاستحسان فإذا أعتقن أخذن
القناع للحال؛ لأن خطاب الستر توجه للحال إلا
إن تبين أن عليها الستر من الابتداء؛ لأن
رأسها إنما صار عورة بالتحرير وهو مقصور على
الحال فكذا صيرورة الرأس عورة بخلاف العاري
إذا وجد كسوة في خلال الصلاة حيث تفسد صلاته؛
لأن عورته ما صارت عورة للحال بل كانت عند
الشروع في الصلاة إلا أن الستر كان قد سقط
لعذر العدم فإذا زال تبين أن الوجوب كان ثابتا
من ذلك الوقت وعلى هذا إذا كان الرجل يصلي في
إزار واحد فسقط عنه في خلال الصلاة وهذا كله
مذهب علمائنا الثلاثة وهو جواب الاستحسان
والقياس أن تفسد صلاته في جميع ذلك وهو قول
زفر والشافعي؛ لأن ستر العورة فرض بالنص
والاستتار يفوت بالانكشاف وإن قل إلا أنا
استحسنا الجواز وجعلنا ما لا يمكن التحرز عنه
عفوا دفعا للحرج، وكذلك إذا حضرته الصلاة وهو
عريان لا يجد ثوبا جازت صلاته لمكان الضرورة.
ولو كان معه ثوب نجس فقد ذكرنا تفصيل الجواب
فيه أنه إن كان ربع منه طاهرا لا يجوز له أن
يصلي عريانا ولكن يجب عليه أن يصلي في ذلك
الثوب بلا خلاف وإن كان كله نجسا فقد ذكرنا
الاختلاف فيه بين أبي حنيفة وأبي يوسف وبين
محمد في كيفية الصلاة فيما تقدم.
ومنها محاذاة المرأة الرجل في صلاة مطلقة
يشتركان فيها فسدت صلاته عندنا استحسانا
والقياس أن لا تكون المحاذاة مفسدة صلاة الرجل
وبه أخذ الشافعي، حتى لو قامت امرأة خلف
الإمام ونوت صلاته وقد نوى الإمام إمامة
النساء ثم حاذته فسدت صلاته عندنا، وعنده لا
تفسد. وجه القياس أن الفساد لا يخلو إما أن
يكون لخساستها أو لاشتغال قلب الرجل بها
والوقوع في الشهوة، لا وجه للأول؛ لأن المرأة
لا تكون أخس من الكلب والخنزير ومحاذاتهما غير
مفسدة؛ ولأن هذا المعنى يوجد في المحاذاة في
صلاة لا يشتركان فيها والمحاذاة فيها غير
مفسدة بالإجماع ولا سبيل إلى الثاني لهذا
أيضا، ولأن المرأة تشارك الرجل في هذا المعنى
فينبغي أن تفسد صلاتها أيضا ولا تفسد
بالإجماع، والدليل عليه أن المحاذاة في صلاة
الجنازة وسجدة التلاوة غير مفسدة فكذا في سائر
الصلوات. وجه الاستحسان ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "أخروهن من حيث أخرهن الله" عقيب قوله
"خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف
النساء آخرها وشرها أولها" والاستدلال بهذا الحديث من وجهين: أحدهما أنه لما أمر بالتأخير صار
التأخير فرضا من فرائض الصلاة فيصير بتركه
التأخير تاركا فرضا من فرائضها فتفسد، والثاني
أن الأمر بالتأخير أمر بالتقدم عليها ضرورة
فإذا لم تؤخر ولم يتقدم فقد قام مقاما ليس
بمقام له فتفسد كما إذا تقدم على الإمام،
والحديث ورد في صلاة مطلقة مشتركة فبقي غيرها
على أصل القياس وإنما لا تفسد صلاتها؛ لأن
خطاب التأخير يتناول الرجل ويمكنه تأخيرها من
غير أن تتأخر هي بنفسها ويتقدم عليها فلم يكن
التأخير فرضا عليها فتركه لا يكون مفسدا،
ويستوي الجواب بين محاذاة البالغة وبين محاذاة
المراهقة التي تعقل الصلاة في حق فساد صلاة
الرجل استحسانا، والقياس أن لا تفسد محاذاة
غير البالغة؛ لأن صلاتها تخلق واعتياد لا
حقيقة صلاة. وجه الاستحسان أنها مأمورة
بالصلاة مضروبة عليها كما نطق به الحديث فجعلت
المشاركة في أصل الصلاة والمشاركة في أصل
الصلاة تكفي للفساد إذا وجدت المحاذاة، وإذا
عرف أن المحاذاة مفسدة فنقول: إذا قامت في
الصف امرأة فسدت صلاة رجل عن يمينها ورجل عن
يسارها ورجل خلفها بحذائها؛ لأن الواحدة تحاذي
هؤلاء الثلاثة ولا تفسد صلاة غيرهم؛ لأن
هؤلاء
ج / 1 ص -240-
صاروا
حائلين بينها وبين غيرهم بمنزلة أسطوانة أو
كارة من الثياب فلم تتحقق المحاذاة ولو كانتا
اثنتين أو ثلاثا فالمروي عن محمد أن المرأتين
تفسدان صلاة أربعة نفر من على يمينهما ومن على
يسارهما ومن خلفهما بحذائهما، والثلاث منهن
يفسدن صلاة من على يمينهن ومن على يسارهن
وثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف، وعن أبي يوسف
روايتان في رواية قال: الثنتان يفسدان صلاة
أربعة نفر من على يمينهما ومن على يسارهما
واثنان من خلفهما بحذائهما، والثلاث يفسدن
صلاة خمسة نفر من كان على يمينهن ومن كان على
شمالهن وثلاثة خلفهن بحذائهن، وفي رواية
اثنتان تفسدان صلاة رجلين عن يمينهما ويسارهما
وصلاة رجلين رجلين إلى آخر الصفوف والثلاث
يفسدن صلاة رجل عن يمينهن ورجل عن يسارهن
وصلاة ثلاثة ثلاثة إلى آخر الصفوف، ولا خلاف
في أنهن إذا كن صفا تاما فسدت صلاة الصفوف
التي خلفهن وإن كانوا عشرين صفا. وجه الرواية
الأولى لأبي يوسف أن فساد الصلاة ليس لمكان
الحيلولة؛ لأن الحيلولة إنما تقع بالصف التام
من النساء بالحديث، ولم توجد وإنما يثبت
الفساد بالمحاذاة ولم توجد المحاذاة إلا بهذا
القدر. وجه الرواية الثانية له أن للمثنى حكم
الثلاث بدليل أن الإمام يتقدم الاثنين ويصطفان
خلفه كالثلاثة ثم حكم الثلاثة هذا فكذا حكم
الاثنين. وجه المروي عن محمد أن المرأتين لا
تحاذيان إلا أربعة نفر فلا تفسدان صلاة غيرهم
وفي الصف التام، القياس هكذا أن تفسد صلاة صف
واحد خلفهن لا غير لانعدام محاذاتهن لمن وراء
هذا الصف الواحد إلا أنا استحسنا فحكمنا بفساد
صلاة الصفوف أجمع لحديث عمر موقوفا ومرفوعا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف
من النساء فلا صلاة له" جعل صف النساء حائلا
كالنهر والطريق ففي حق الصف الذي يليهن من
خلفهن وجد ترك التأخير منهم والحيلولة بينهم
وبين الإمام بهن وفي حق الصفوف الأخر وجدت
الحيلولة لا غير وكل واحد من المعنيين
بانفراده علة كاملة للفساد ثم الثنتان ليستا
بجمع حقيقة فلا يلحقان بالصف من النساء التي
هي اسم جمع فانعدمت الحيلولة فيتعلق الفساد
بالمحاذاة لا غير والمحاذاة لم توجد إلا بهذا
القدر فأما الثلاث منهن فجمع حقيقة فألحقن بصف
كامل في حق من صرن حائلات بينه وبين الإمام
ففسدت صلاة ثلاثة ثلاثة إلى آخر الصفوف وفسدت
صلاة واحد عن يمينهن وواحد عن يسارهن؛ لأن
هناك الفساد بالمحاذاة لا بالحيلولة ولم توجد
المحاذاة إلا بهذا القدر والله أعلم.
ولو وقفت بحذاء الإمام فأتمت به وقد نوى
الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم كلهم
أما صلاة الإمام فلوجود المحاذاة في الصلاة
مطلقة مشتركة. وأما صلاة القوم فلفساد صلاة
الإمام، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: لا
يصح اقتداؤها؛ لأن المحاذاة قارنت شروعها في
الصلاة. ولو طرأت كانت مفسدة فإذا اقترنت منعت
من صحة اقتدائها به وهذا غير سديد؛ لأن
المحاذاة إنما تؤثر في فساد صلاة مشتركة ولا
تقع الشركة إلا بعد شروعها في صلاة الإمام فلم
يكن المفسد مقارنا للشروع فلا يمنع من الشروع،
وإن كانت بحذاء الإمام ولم تأتم به لم تفسد
صلاة الإمام؛ لانعدام المشاركة، وكذا إذا قامت
أمام الإمام فأتمت به؛ لأن اقتداءها لم يصح
فلم تقع المشاركة، وكذا إذا قامت إلى جنبه
ونوت فرضا آخر بأن كان الإمام في الظهر ونوت
هي العصر فأتمت به ثم حاذته لم تفسد على
الإمام صلاته وهذا على رواية باب الحدث؛ لأنها
لم تصر شارعة في الصلاة أصلا فلم تتحقق
المشاركة، فأما على رواية باب الآذان تفسد
صلاة الإمام؛ لأنها صارت شارعة في أصل الصلاة
فوجدت المحاذاة في صلاة مشتركة ففسدت صلاته
وفسدت صلاتها بفساد صلاة الإمام وعليها قضاء
التطوع لحصول الفساد بعد صحة شروعها كما إذا
كان الإمام في الظهر وقد نوى إمامتها فأتمت به
تنوي التطوع ثم قامت بجنبه تفسد صلاته وصلاتها
وعليها قضاء التطوع فكذا هذا وقد مرت المسألة
من قبل، وبعض مشايخنا قالوا: الجواب ما ذكر في
باب الآذان، وتأويل ما ذكر في باب الحدث أن
الرجل لم ينو إمامتها في صلاة العصر فتجعل هي
في الاقتداء به بنية العصر بمنزلة ما لم ينو
إمامتها أصلا فلهذا لا تصير شارعة في صلاته
تطوعا.
ولو قام رجل وامرأة يقضيان ما سبقهما الإمام
لم تفسد صلاته. ولو كانا أدركا أول الصلاة
وكانا ناما أو أحدثا فسدت صلاته؛ لأن
المسبوقين فيما يقضيان كل واحد منهما في حكم
المنفرد ألا ترى أن القراءة فرض على المسبوق،
ولو سها يلزمه سجود السهو فلم
ج / 1 ص -241-
يشتركا في صلاة فلا تكون المحاذاة مفسدة
صلاته، فأما المدركان فهما كأنهما خلف الإمام
بعد بدليل سقوط القراءة عنهما وانعدام وجوب
سجدتي السهو عند وجود السهو كأنهما خلف الإمام
حقيقة فوقعت المشاركة فوجدت المحاذاة في صلاة
مشتركة فتوجب فساد صلاته.
ومرور المرأة والحمار والكلب بين يدي المصلي
لا يقطع الصلاة عند عامة العلماء وقال أصحاب
الظواهر: يقطع، واحتجوا بما روى أبو ذر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يقطع الصلاة
مرور المرأة والحمار والكلب" وفي
بعض الروايات، "والكلب الأسود فقيل لأبي ذر:
وما بال الأسود من غيره ؟ فقال أشكل علي ما
أشكل عليكم فسألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال: الكلب الأسود شيطان"، ولنا
ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يقطع
الصلاة مرور شيء وادرءوا ما استطعتم".
وأما الحديث الذي رووا فقد ردته عائشة رضي
الله عنها فإنها قالت لعروة: "يا عروة ما يقول
أهل العراق ؟ قال: يقولون يقطع الصلاة مرور
المرأة والحمار والكلب، فقالت: يا أهل العراق
والنفاق والشقاق بئسما قرنتمونا بالكلاب
والحمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض
الجنازة"، وقد ورد في المرأة نص خاص وكذا في
الحمار والكلب روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه "كان يصلي في بيت أم سلمة فأراد
ابنها عمر أن يمر بين يديه فأشار عليه أن قف
فوقف ثم أرادت زينب بنتها أن تمر بين يديه
فأشار إليها أن قفي فلم تقف فلما فرغ رسول
الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: إنهن
أغلب". وروي عن "ابن عباس رضي الله عنه أنه
قال: زرت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخي
الفضل على حمار في بادية فنزلنا فوجدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي فصلينا معه
والحمار يرتع بين يديه"، وفي بعض الروايات
والكلب والحمار يمران بين يديه.
ولو دفع المار بالتسبيح أو بالإشارة أو أخذ
طرف ثوبه من غير مشي ولا علاج لا تفسد صلاته
لقوله صلى الله عليه وسلم
"فادرءوا ما استطعتم"،
وقوله
"إذا نابت أحدكم نائبة في الصلاة فليسبح فإن التسبيح للرجال والتصفيق
للنساء"، وذكر
في كتاب الصلاة إذا مرت الجارية بين يدي
المصلي فقال: سبحان الله وأومأ بيده ليصرفها
لم تقطع صلاته وأحب إلي أن لا يفعل، منهم من
قال معناه أي لا يجمع بين التسبيح والإشارة
باليد؛ لأن بإحداها كفاية، ومنهم من قال: أي
لا يفعل شيئا من ذلك، وتأويل قول النبي صلى
الله عليه وسلم أنه كان في وقت كان العمل في
الصلاة مباحا.
ومنها الموت في الصلاة والجنون والإغماء فيها
أما الموت فظاهر؛ لأنه معجز عن المضي فيها.
وأما الجنون والإغماء فلأنهما ينقضان الطهارة
ويمنعان البناء؛ لما بينا فيما تقدم أن
اعتراضهما في الصلاة نادر فلا يلحقان بمورد
النص والإجماع في جواز البناء وهو الحدث
السابق وسواء كان منفردا أو مقتديا أو إماما
حتى يستقبل القوم صلاتهم عندنا، وعند الشافعي
يقوم القوم فيصلون وحدانا كما إذا أحدث
الإمام.
ومنها العمل الكثير الذي ليس من أعمال الصلاة
في الصلاة من غير ضرورة فأما القليل فغير
مفسد، واختلف في الحد الفاصل بين القليل
والكثير قال بعضهم: الكثير ما يحتاج فيه إلى
استعمال اليدين والقليل ما لا يحتاج فيه إلى
ذلك حتى قالوا: إذا زر قميصه في الصلاة فسدت
صلاته، وإذا حل إزاره لا تفسد، وقال بعضهم: كل
عمل لو نظر الناظر إليه من بعيد لا يشك أنه في
غير الصلاة فهو كثير، وكل عمل لو نظر إليه
ناظر ربما يشبه عليه أنه في الصلاة فهو قليل
وهو الأصح، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا قاتل
في صلاته في غير حالة الخوف أنه تفسد صلاته؛
لأنه عمل كثير ليس من أعمال الصلاة لما بينا،
وكذا إذا أخذ قوسا ورمى بها فسدت صلاته؛ لأن
أخذ القوس وتثقيف السهم عليه ومده حتى يرمي
عمل كثير ألا ترى أنه يحتاج فيه إلى استعمال
اليدين، وكذا الناظر إليه من بعيد لا يشك أنه
في غير الصلاة، وبعض أهل الأدب عابوا على محمد
في هذا اللفظ وهو قوله ورمى بها فقالوا: الرمي
بالقوس إلقاؤها من يده وإنما يقال في الرمي
بالسهم رمى عنها لا رمى بها، والجواب عن هذا
أن غرض محمد تعليم العامة وقد وجد هذا اللفظ
معروفا في لسانهم فاستعمله ليكون أقرب إلى
فهمهم فلذلك ذكره، وكذا لو ادهن أو سرح رأسه
أو حملت امرأة صبيها وأرضعته لوجود حد العمل
الكثير على العبارتين، فأما حمل الصبي بدون
الإرضاع فلا يوجب فساد الصلاة لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصلي في بيته
وقد حمل أمامة بنت
ج / 1 ص -242-
أبي
العاص على عاتقه فكان إذا سجد وضعها وإذا قام
رفعها" ثم هذا الصنيع لم يكره منه صلى الله
عليه وسلم؛ لأنه كان محتاجا إلى ذلك لعدم من
يحفظها أو لبيانه الشرع بالفعل إن هذا غير
موجب فساد الصلاة، ومثل هذا في زماننا أيضا لا
يكره لواحد منا لو فعل ذلك عند الحاجة أما
بدون الحاجة فمكروه.
ولو صلى وفي فيه شيء يمسكه إن كان لا يمنعه من
القراءة ولكن يخل بها كدرهم أو دينار أو لؤلؤة
لا تفسد صلاته؛ لأنه لا يفوت شيء من الركن
ولكن يكره؛ لأنه يوجب الإخلال بالركن حتى لو
كان لا يخل به لا يكره وإن كان يمنعه من
القراءة فسدت صلاته؛ لأنه يفوت الركن، وإن كان
في فيه سكرة لا تجوز صلاته؛ لأنه أكل، وكذلك
إن كان في كفه متاع يمسكه جازت صلاته غير أنه
إن كان يمنعه عن الأخذ بالركب في الركوع أو
الاعتماد على الراحتين عند السجود يكره لمنعه
عن تحصيل السنة وإلا فلا. ولو رمى طائرا بحجر
لا تفسد صلاته؛ لأنه عمل قليل ويكره؛ لأنه ليس
من أعمال الصلاة.
ولو أكل أو شرب في الصلاة فسدت صلاته لوجود
العمل الكثير وسواء كان عامدا أو ساهيا فرق
بين الصلاة والصوم حيث كان الأكل والشرب في
الصوم ناسيا غير مفسد إياه، والفرق أن القياس
أن لا يفصل في باب الصوم بين العمد والسهو
أيضا لوجود ضد الصوم في الحالين وهو ترك الكف
إلا أنا عرفنا ذلك بالنص، والصلاة ليست في
معناه؛ لأن الصائم كثيرا ما يبتلى به في حالة
الصوم فلو حكمنا بالفساد يؤدي إلى الحرج بخلاف
الصلاة؛ لأن الأكل والشرب في الصلاة ساهيا
نادر غاية الندرة فلم يكن في معنى مورد النص
فيعمل فيها بالقياس المحض وهو أنه عمل كثير
ليس من أعمال الصلاة ألا ترى أنه لو نظر
الناظر إليه لا يشك أنه في غير الصلاة ؟ ولو
مضغ العلك في الصلاة فسدت صلاته كذا ذكره
محمد؛ لأن الناظر إليه من بعد لا يشك أنه في
غير الصلاة وبهذا تبين أن الصحيح من التحديد
هو العبارة الثانية حيث حكمنا بفساد الصلاة من
غير الحاجة إلى استعمال اليد رأسا فضلا عن
استعمال اليدين. ولو بقي بين أسنانه شيء
فابتلعه إن كان دون الحمصة لم يضره؛ لأن ذلك
القدر في حكم التبع لريقه لقلته ولأنه لا يمكن
التحرز عنه؛ لأنه يبقى بين الأسنان عادة فلو
جعل مفسدا لوقع الناس في الحرج ولهذا لا يفسد
الصوم به، وإن كان قدر الحمصة فصاعدا فسدت
صلاته. ولو قلس أقل من ملء فيه ثم رجع فدخل
جوفه وهو لا يملكه لا تفسد صلاته؛ لأن ذلك
بمنزلة ريقه ولهذا لا ينقض وضوءه، وكذا
المتهجد بالليل قد يبتلى به خصوصا في ليالي
رمضان عند امتلاء الطعام عند الفطر فلو جعل
مفسدا لأدى إلى الحرج.
وقتل الحية والعقرب في الصلاة لا يفسدها لقول
النبي صلى الله عليه وسلم "اقتلوا الأسودين
ولو كنتم في الصلاة". وروي أن عقربا لدغ رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فوضع عليه
نعله وغمزه حتى قتله فلما فرغ من صلاته قال:
"لعن الله العقرب لا تبالي نبيا ولا غيره أو قال مصليا ولا غيره" وبه تبين
أنه لا يكره أيضا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما
كان ليفعل المكروه خصوصا في الصلاة ولأنه
يحتاج إليه لدفع الأذى فكان موضع الضرورة، هذا
إذا أمكنه قتل الحية بضربة واحدة كما فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم في العقرب. وأما إذا
احتاج إلى معالجة وضربات فسدت صلاته كما إذا
قاتل في صلاته؛ لأنه عمل كثير ليس من أعمال
الصلاة، وذكر شيخ الإسلام السرخسي أن الأظهر
أنه لا تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل رخص فيه
للمصلي فأشبه المشي بعد الحدث والاستقاء من
البئر والتوضؤ، هذا الذي ذكرنا من العمل
الكثير الذي ليس من أعمال الصلاة إذا عملها
المصلي في الصلاة من غير ضرورة فأما في حالة
الضرورة فإنه لا يفسد الصلاة كما في حالة
الخوف والله أعلم.
"فصل": والكلام في صلاة الخوف. في مواضع، في بيان شرعيتها بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وفي بيان قدرها، وفي بيان
كيفيتها، وفي بيان شرائط جوازها. أما الأول
فصلاة الخوف مشروعة بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي
يوسف الأول، وقال الحسن بن زياد لا تجوز وهو
قول أبي يوسف الآخر، واحتجا بقوله تعالى:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
مَعَكَ} الآية
جوز صلاة الخوف بشرط كون الرسول فيهم فإذا خرج
من الدنيا انعدمت الشرطية ولأن الجواز حال
حياته ثبت مع المنافي لما فيها من أعمال كثيرة
ليست من الصلاة وهي الذهاب والمجيء ولا بقاء
للشيء مع ما ينافيه إلا أن الشرع أسقط اعتبار
المنافي
ج / 1 ص -243-
حال
حياة النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس
إلى استدراك فضيلة الصلاة خلفه وهذا المعنى
منعدم في زماننا فوجب اعتبار المنافي فيصلي كل
طائفة بإمام على حدة، ولأبي حنيفة ومحمد إجماع
الصحابة رضي الله عنهم على جوازها فإنه روي عن
علي رضي الله عنه أنه صلى صلاة الخوف وروي عن
أبي موسى الأشعري أنه صلى صلاة الخوف بأصبهان،
وسعيد بن العاص كان يحارب المجوس بطبرستان
ومعه جماعة من الصحابة منهم الحسن وحذيفة وعبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقال:
أيكم شهد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال حذيفة: أنا، فقام وصلى بهم صلاة الخوف
على نحو ما يقوله فانعقد إجماع الصحابة على
الجواز وبه تبين أن ما ذكرا من المعنى غير
سديد لخروجه عن معارضة الإجماع مع أن ذلك ترك
الواجب وهو ترك المشي في الصلاة لإحراز
الفضيلة وذا لا يجوز على أن الحاجة إلى
استدراك الفضيلة قائمة؛ لأن كل طائفة يحتاجون
إلى الصلاة خلف أفضلهم وإلى إحراز فضيلة تكثير
الجماعة؛ ولأن الأصل في الشرع أن يكون عاما في
الأوقات كلها إلا إذا قام دليل التخصيص،
وإحراز الفضيلة لا يصلح مخصصا؛ لما بينا. وأما
الآية فليس فيها أنه إذا لم يكن الرسول فيهم
لا تجوز فكان تعليقا بالسكوت وأنه غير صحيح.
"فصل": وأما مقدارها. فيصلي الإمام بهم ركعتين إن كانوا مسافرين أو كانت
الصلاة من ذوات ركعتين كالفجر، وإن كانوا
مقيمين والصلاة من ذوات الأربع أو الثلاث صلى
بهم أربعا أو ثلاثا، ولا ينتقض عدد الركعات
بسبب الخوف عندنا وهو قول عامة الصحابة، وكان
ابن عباس يقول صلاة المقيم أربع ركعات وصلاة
المسافر ركعتان وصلاة الخوف ركعة واحدة وبه
أخذ بعض العلماء، واحتج بما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم "صلى صلاة الخوف في غزوة ذات
الرقاع بكل طائفة ركعة فكانت له ركعتان ولكل
طائفة ركعة"، ولنا ما روى ابن مسعود وغيره من
الصحابة رضي الله عنهم صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم على نحو ما قلنا، وهكذا فعل
الصحابة بعده فيكون إجماعا منهم، وما نقل عن
ابن عباس فتأويله أنها ركعة مع الإمام وعندنا
يصلي الإمام بكل طائفة ركعة واحدة إذا كانوا
مسافرين وهو تأويل الحديث.
"فصل": وأما كيفيتها. فقد اختلف العلماء فيها اختلافا فاحشا لاختلاف
الأخبار في الباب قال علماؤنا يجعل الإمام
الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو ويفتتح
الصلاة بطائفة فيصلي بهم ركعة إن كان مسافرا
أو كانت الصلاة صلاة الفجر وركعتين إن كان
مقيما والصلاة من ذوات الأربع وينصرفون إلى
وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم
بقية الصلاة فينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي
الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة
وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تجيء الطائفة
الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة، وقال مالك
يجعل الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو ويفتتح
الصلاة بطائفة فيصلي بهم ركعة، ثم يقوم الإمام
ويمكث قائما فتتم هذه الطائفة صلاتهم ويسلمون
وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة
الثانية فيصلي بهم الركعة الثانية ويسلم
الإمام ولا يسلمون بل يقومون فيتمون صلاتهم،
وهو قول الشافعي إلا أنه يقول: لا يسلم الإمام
حتى تتم الطائفة الثانية صلاتهم، ثم يسلم
الإمام ويسلمون معه، وروى أبو هريرة رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "لما صلى
بالطائفة الأولى ركعة انتظرهم حتى أتموا
صلاتهم وذهبوا إلى العدو وجاءت الطائفة الأخرى
فبدءوا بالركعة الأولى والنبي صلى الله عليه
وسلم ينتظرهم ثم صلى بهم الركعة الثانية" ولم
يأخذ به أحد من العلماء. وروي شاذا أن النبي
صلى الله عليه وسلم "صلى بكل طائفة ركعتين
فكانت له أربع ركعات ولكل طائفة ركعتين". احتج
الشافعي بما روى سهل بن أبي خيثمة أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف على نحو ما
قلنا، ولنا ما روى ابن مسعود وابن عمر رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها
على نحو ما قلنا وروينا عن حذيفة أنه أقام
صلاة الخوف بطبرستان بجماعة من الصحابة على
نحو ما قلنا ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا
وبه تبين أن الأخذ بما روينا عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أولى؛ ولأن الرواية عن هؤلاء
لم تتعارض، والرواية عن سهل بن أبي خيثمة
متعارضة فإن بعضهم روي عنه مثل
ج / 1 ص -244-
مذهبنا
فكان الأخذ بروايتهم أولى مع أن فيما رواه
الشافعي ما يدل على كونه منسوخا؛ لأن فيه أن
الطائفة الثانية يقضون ما سبقوا به قبل فراغ
الإمام ثم يسلمون معه، وهذا كان في الابتداء
أن المسبوق يبدأ بقضاء ما فاته ثم يتابع
الإمام ثم نسخ، ولهذا لم يأخذ أحد من العلماء
برواية أبي هريرة، وما روي في الشاذ غير
مقبول؛ لأن في حق الطائفة الثانية يكون اقتداء
المفترض بالمتنفل وذا لا يصح عندنا إلا أن
يكون مؤولا وتأويله أنه كان مقيما فصلى بكل
طائفة ركعتين وقضت كل طائفة ركعتين وهو
المذهب، وعندنا أنه يصلي بكل طائفة شطر الصلاة
هذا إذا لم يكن العدو بإزاء القبلة فإن كان
العدو بإزاء القبلة فالأفضل عندنا أن يجعل
الناس طائفتين فيصلي بكل طائفة شطر الصلاة على
النحو الذي ذكرنا، وإن صلى بهم جملة جاز وهو
أن يجعل الناس صفين ويفتتح الصلاة بهم جميعا
فإذا ركع الإمام ركع الكل معه وإذا رفع رأسه
من الركوع رفعوا جميعا وإذا سجد الإمام سجد
معه الصف الأول والصف الثاني قيام يحرسونهم،
فإذا رفعوا رءوسهم سجد الصف الثاني والصف
الأول قعود يحرسونهم، فإذا رفعوا رءوسهم سجد
الإمام السجدة الثانية وسجد معه الصف الأول
والصف الثاني قعود يحرسونهم، فإذا رفعوا
رءوسهم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني
فيصلي بهم الركعة الثانية بهذه الصفة أيضا،
فإذا قعد وسلم سلموا معه. وعند الشافعي وابن
أبي ليلى لا تجوز إلا بهذه الصفة واحتجا بما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة
الخوف هكذا بعسفان عند استقبال العدو القبلة
ولأنه ليس في هذه الصلاة بهذه الصفة ذهابا
ومجيئا واستدبار القبلة وأنها أفعال منافية
للصلاة في الأصل فيجب اعتبارها ما أمكن ونحن
نقول كل ذلك جائز والأفضل أن يصلي على نحو ما
يصلي أن لو كان العدو مستدبر القبلة؛ لأنه
موافق لظاهر الآية قال الله تعالى:
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}
وقال
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} أمر بجعل الناس طائفتين ولأن الحراسة بهذا الوجه أبلغ؛ لأن الطائفة
الثانية لم يكونوا يشاركونهم في الصلاة في
الركعة الأولى فكانوا أقدر على الحراسة؛ ولأن
فيما قالا يخالف كل صف إمامهم في سجدة،
ومخالفة الإمام منهية لا تجوز بحال من الأحوال
بخلاف المشي واستدبار القبلة فإن ذلك جائز
بحال، فإن من سبقه الحدث يستدبر القبلة ويمشي
عندنا، وعند الشافعي المتطوع على الدابة يصلي
أينما توجهت الدابة، ثم لا شك أن الطائفة
الأولى لا يقرءون في الركعة الثانية؛ لأنهم
أدركوا أول الصلاة وعجزوا عن الإتمام لمعنى من
المعاني فصار كالنائم ومن سبقه الحدث فذهب
وتوضأ وجاء، ولا شك أيضا أن الطائفة الثانية
يقرءون؛ لأنهم مسبوقون فيقضون بقراءة هذا الذي
ذكرنا في ذوات الأربع أو ذوات ركعتين. وأما في
المغرب فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين
وبالثانية الركعة الثالثة، وقال سفيان الثوري:
يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين،
وقال الشافعي: هو بالخيار. وجه قول سفيان إن
فرض القراءة في الركعتين الأوليين فينبغي أن
يكون لكل طائفة في ذلك حظا وذلك فيما قلنا،
والشافعي يقول: مراعاة التنصيف غير ممكن فإن
شاء صلى بهؤلاء ركعتين وإن شاء صلى بأولئك،
ولنا أن التنصيف واجب وقد تعذر ههنا وكان
تفويت التنصيف على الطائفة الثانية أولى؛ لأنه
لا تفويت قصدا بل حكما لإيفاء حق الطائفة
الأولى؛ لأنه يجب على الإمام أن يصلي بهم ركعة
ونصفا لتتحقق المعادلة في القسمة فشرع في
الركعة الثانية قضاء لحقهم إلا أنها لا تتجزأ
فيجب عليه إتمامها، فأما لو صلى بالطائفة
الأولى ركعة وبالثانية ركعتين فقد فوت التنصيف
على الطائفة الأولى قصدا لا حكما لإيفاء حقهم؛
لأنه لم يشتغل بعد بإيفاء حق الثانية، ومعلوم
أن تفويت الحق حكما دون تفويته قصدا؛ لذلك كان
الأمر على ما وصفنا والله أعلم. ثم الطائفة
الأولى تقضي الركعة الثانية بغير قراءة؛ لأنهم
لاحقون والطائفة الثانية يصلون الركعتين
الأوليين بغير قراءة ويقعدون بينهما وبعدهما
كما يفعل المسبوق بركعتين في المغرب.
"فصل": وأما شرائط الجواز. فمنها أن لا يقاتل في الصلاة فإن قاتل في صلاته
فسدت صلاته عندنا، وقال مالك: لا تفسد وهو قول
الشافعي في القديم واحتجا بقوله تعالى:
{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}
أباح لهم أخذ السلاح فيباح القتال ولأن أخذ
السلاح لا يكون إلا للقتال به ولأنه سقط
اعتبار المشي في الصلاة فيسقط اعتبار القتال،
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع
صلوات يوم الخندق فقضاهن بعد هوي من الليل
وقال:
"شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ
ج / 1 ص -245-
الله
قبورهم وبطونهم نارا" فلو جازت
الصلاة مع القتال لما أخرها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولأن إدخال عمل كثير ليس من
أعمال الصلاة في الصلاة مفسد في الأصل فلا
يترك هذا الأصل إلا في مورد النص والنص ورد في
المشي لا في القتال مع أن مورد النص بقاء
الصلاة مع المشي لا الأداء والأداء فوق البقاء
فأنى يصح الاستدلال بخلاف أخذ السلاح؛ لأنه
عمل قليل ولأن النص ورد بالجواز معه.
ومنها أن ينصرف ماشيا ولا يركب عند انصرافه
إلى وجه العدو ولو ركب فسدت صلاته عندنا سواء
كان انصرافه من القبلة إلى العدو أو من العدو
إلى القبلة لأن الركوب عمل كثير وهو مما لا
يحتاج إليه بخلاف المشي فإنه أمر لا بد منه
حتى يصطفوا بإزاء العدو، وكذا أخذ السلاح أمر
لا بد منه لإرهاب العدو والاستعداد للدفع
ولأنهم لو غفلوا عن أسلحتهم يميلون عليهم على
ما نطق به الكتاب والأصل أن الإتيان بعمل كثير
ليس من أعمال الصلاة فيها لأجل الضرورة فيختص
بمحل الضرورة، ولو كان الخوف أشد ولا يمكنهم
النزول عن دوابهم صلوا ركبانا بالإيماء؛ لقوله
تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ثم إن قدروا على استقبال القبلة يلزمهم الاستقبال وإلا فلا بخلاف
التطوع إذا صلاها على الدابة حيث لا يلزمه
الاستقبال وإن قدر عليه؛ لأن حالة الفرض أضيق
ألا ترى أنه يجوز الإيماء في التطوع مع القدرة
على النزول ولا يجوز ذلك في الفرض، ويصلون
وحدانا ولا يصلون جماعة ركبانا في ظاهر
الرواية، وقد روي عن محمد أنه جوز لهم في
الخوف أن يصلوا ركبانا بجماعة وقال أستحسن ذلك
لينالوا فضيلة الصلاة بالجماعة وقد جوزنا لهم
ما هو أعظم من ذلك وهو الذهاب والمجيء لإحراز
فضيلة الجماعة. وجه ظاهر الرواية أن بينهم
وبين الإمام طريقا فيمنع ذلك صحة الاقتداء على
ما بينا فيما تقدم إلا أن يكون الرجل مع
الإمام على دابة واحدة فيصح اقتداؤه به لعدم
المانع، والاعتبار بالمشي غير سديد؛ لأن ذلك
أمر لا بد منه فسقط اعتباره للضرورة ولا ضرورة
ههنا ولو صلى راكبا والدابة سائرة فإن كان
مطلوبا فلا بأس به؛ لأن السير فعل الدابة في
الحقيقة وإنما يضاف إليه من حيث المعنى
لتسييره فإذا جاء العذر انقطعت الإضافة إليه
بخلاف ما إذا صلى ماشيا أو سابحا حيث لا يجوز؛
لأن ذلك فعله حقيقة فلا يتحمل إلا إذا كان في
معنى مورد النص وليس ذلك في معناه على ما مر
وإن كان الراكب طالبا فلا يجوز؛ لأنه لا خوف
في حقه فيمكنه النزول وكذلك الراجل إذا لم
يقدر على الركوع والسجود يومئ إيماء لمكان
العذر كالمريض.
ومنها أن يكون في حال معاينة العدو حتى لو
صلوا صلاة الخوف ولم يعاينوا العدو جاز للإمام
ولم يجز للقوم إذا صلوا بصفة الذهاب والمجيء
وكذا لو رأوا سوادا ظنوه عدوا فإذا هو إبل لا
يجوز عندنا، وعند الشافعي تجوز صلاة الكل. وجه
قوله أن صلاة الخوف شرعت عند الخوف وقد صلوا
عند الخوف فتجزئهم، ولنا أن شرط الجواز الخوف
من العدو وقال الله تعالى:
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا} ولم يوجد الشرط إلا أن صلاة الإمام مقضية بالجواز؛ لانعدام الذهاب
والمجيء منه بخلاف القوم فلا يتحمل ذلك إلا
لضرورة الخوف من العدو ولم تتحقق، ثم الخوف من
سبع يعاينوه كالخوف من العدو؛ ولأن الجواز
بحكم العذر وقد تحقق والله أعلم.
"فصل": وأما حكم هذه الصلوات إذا فسدت أو فاتت عن أوقاتها أو فات شيء من
هذه الصلوات عن الجماعة أو عن محله الأصلي، ثم
تذكره في آخر تلك الصلاة. أما إذا فسدت يجب
إعادتها ما دام الوقت باقيا؛ لأنها إذا فسدت
التحقت بالعدم فبقي وجوب الأداء في الذمة فيجب
تفريقها عنه بالأداء. وأما إذا فاتت صلاة منها
عن وقتها بأن نام عنها أو نسيها ثم تذكرها بعد
خروج الوقت أو اشتغل عنها حتى خرج الوقت يجب
عليه قضاؤها، والكلام في القضاء. يقع في
مواضع: في بيان أصل وجوب القضاء بعد خروج
الوقت، وفي بيان شرائط الوجوب، وفي بيان شرائط
الجواز، وفي بيان كيفية القضاء. أما الأول
فالدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها أو استيقظ فإن ذلك وقتها" وفي بعض
الروايات لا وقت لها إلا ذلك، وقوله صلى الله
عليه وسلم
"ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"
ولأن الأصل في العبادات المؤقتة إذا فاتت عن
وقتها أنها تقضى إذا استجمع شرائط وجوب القضاء
وأمكن قضاؤها؛ لأن وجوبها في الوقت لمعان هي
قائمة بعد خروج الوقت وهي خدمة الرب تعالى:
ج / 1 ص -246-
وتعظيمه وقضاء حق العبودية وشكر النعمة وتكفير
الزلل والخطايا التي تجري على يد العبد بين
الوقتين وأمكن قضاؤها؛ لأن من جنسها مشروع
خارج الوقت من حيث الأصل حقا له فيقضي به ما
عليه والله أعلم.
وأما شرائط الوجوب فمنها أهلية الوجوب إذ
الإيجاب على غير الأهل تكليف ما ليس في الوسع،
ومنها فوات الصلاة عن وقتها؛ لأن قضاء الفائت
ولا فائت محال، ومنها أن يكون من جنسها مشروعا
له في وقت القضاء إذا القضاء صرف ما له إلى ما
عليه؛ لأن ما عليه يقع عن نفسه فلا يقع عن
غيره، ومنها أن لا يكون في القضاء حرج إذ
الحرج مدفوع شرعا، فأما وجوب الأداء في الوقت
فليس من شرائط الوجوب هو الصحيح؛ لأن القضاء
يجب استدراكا للمصلحة الفائتة في الوقت وهو
الثواب وفوات هذه المصلحة لا يقف على الوجوب
فلا يكون وجوب الأداء شرطا لوجوب القضاء على
ما عرف في الخلافيات، وإذا عرف هذا فنقول: لا
قضاء على الصبي والمجنون في زمان الصبا
والجنون؛ لعدم أهلية الوجوب ولا على الكافر؛
لأنه ليس من أهل وجوب العبادة إذ الكفار غير
مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا فلا يجب عليهم
بعد البلوغ والإفاقة والإسلام أيضا؛ لأن في
الإيجاب عليهم حرجا؛ لأن مدة الصبا مديدة
والجنون إذا استحكم وهو الطويل منه قلما يزول
والإسلام من الكافر المقلد لآبائه وأجداده
نادر فكان في الإيجاب عليهم حرج. وأما المغمى
عليه فإن أغمي عليه يوما وليلة أو أقل يجب
عليه القضاء لانعدام الحرج وإن زاد على يوم
وليلة لا قضاء عليه؛ لأنه يحرج في القضاء
لدخول العبادة في حد التكرار، وكذا المريض
العاجز عن الإيماء إذا فاتته صلوات ثم برأ فإن
كان أقل من يوم وليلة أو يوما وليلة قضاه، وإن
كان أكثر لا قضاء عليه لما قلنا في المغمى
عليه ومن المشايخ من قال في المريض: إنه يقضي
وإن امتد وطال؛ لأن المرض لا يعجزه عن فهم
الخطاب بخلاف الإغماء والصحيح أنه لا فرق
بينهما لأن سقوط القضاء عن المغمى عليه ليس؛
لعدم فهم الخطاب بدليل أنه لا قضاء على الحائض
والنفساء وإن كانتا تفهمان الخطاب بل لمكان
الحرج وقد وجد في المريض وروي عن محمد أن
الجنون القصير بمنزلة الإغماء ودلت هذه
المسائل على أن سابقية وجوب الأداء ليست بشرط
لوجوب القضاء وعلى هذا تخرج الصلوات الفائتة
في أيام التشريق إذا قضاها في غير أيام
التشريق أنه يقضيها بلا تكبير؛ لأن في وقت
القضاء صلاة مشروعة من جنس الفائتة وليس فيه
تكبير مشروع من جنسه وهو الذي يجهر به.
وأما شرائط جواز القضاء فجميع ما ذكرنا أنه
شرط جواز الأداء فهو شرط جواز القضاء إلا
الوقت فإنه ليس للقضاء وقت معين بل جميع
الأوقات وقت له إلا ثلاثة وقت طلوع الشمس ووقت
الزوال ووقت الغروب فإنه لا يجوز القضاء في
هذه الأوقات لما مر أن من شأن القضاء أن يكون
مثل الفائت والصلاة في هذه الأوقات تقع ناقصة
والواجب في ذمته كامل فلا ينوب الناقص عنه،
وهذا عندنا. وأما عند الشافعي فقضاء الفرائض
في هذه الأوقات جائز كما قال بجواز أداء الفجر
مع طلوع الشمس وكما يجوز أداء عصر يومه عند
مغيب الشمس بلا خلاف واحتج بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره من غير فصل بين وقت ووقت، والدليل
عليه أنه يجوز عصر يومه أداء فكذا قضاء، ولنا
عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات بصيغته
وبمعناه على ما نذكر في صلاة التطوع إن شاء
الله تعالى:، وما رواه عام في الأوقات كلها،
وما نرويه خاص في الأوقات الثلاثة فيخصصها عن
عموم الأوقات مع ما أن عند التعارض الرجحان
للحرمة على الحل احتياطا لأمر العبادة بخلاف
عصر يومه فإن الاستثناء بعصر يومه ثبت في
الروايات كلها فجوزناها، ولأنا لو لم نجوز
لأمرنا بالتفويت، وتفويت الصلاة عن وقتها
كبيرة وهي معصية من جميع الوجوه ولو جوزنا
الأداء كان الأداء طاعة من وجه من حيث تحصيل
أصل الصلاة وإن كان معصية من حيث التشبيه
بعبدة الشمس ولا شك أن هذا أولى؛ ولأن الصلاة
يتضيق وجوبها بآخر الوقت ألا ترى أن كافرا لو
أسلم في هذا الوقت أو صبيا احتلم تلزمه هذه
الصلاة والصلاة منهي عنها في هذا الوقت وفي
عصر يومه يتضيق الوجوب في هذا الوقت وقد وجبت
عليه ناقصة وأداها كما وجبت بخلاف الفجر إذا
طلعت فيها الشمس؛ لأن الوجوب يتضيق بآخر وقتها
ولا نهي في آخر وقت الفجر وإنما النهي يتوجه
بعد خروج وقتها فقد وجبت عليه
ج / 1 ص -247-
الصلاة
كاملة فلا تتأدى بالناقصة فهو الفرق والله
أعلم.
وأما بيان كيفية قضاء هذه الصلوات فالأصل أن
كل صلاة ثبت وجوبها في الوقت وفاتت عن وقتها
أنه يعتبر في كيفية قضائها وقت الوجوب وتقضى
على الصفة التي فاتت عن وقتها؛ لأن قضاءها بعد
سابقية الوجوب، والفوت يكون تسليم مثل الواجب
الفائت فلا بد وأن يكون على صفة الفائت لتكون
مثله إلا لعذر وضرورة؛ لأن أصل الأداء يسقط
بعذر فلأن يسقط وصفه لعذر أولى؛ ولأن كل صلاة
فاتت عن وقتها من غير تقدير وجوب الأداء لعذر
مانع من الوجوب ثم زال العذر يعتبر في قضائها
الحال وهي حال القضاء لا وقت الوجوب؛ لأن
الوجوب لم يثبت فيقضى على الصفة التي هو عليها
للحال؛ لأن الفائت ليس بأصل بل أقيم مقام صفة
الأصل خلفا عنه للضرورة وقد قدر على الأصل قبل
حصول المقصود بالبدل فيراعى صفة الأصل لا صفة
الفائت كمن فاتته صلوات بالتيمم أنه يقضيها
بطهارة الماء إذا كان قادرا على الماء وعلى
هذا يخرج المسافر إذا كان عليه فوائت في
الإقامة أنه يقضيها أربعا؛ لأنها وجبت في
الوقت كذلك وفاتته كذلك فيراعى وقت الوجوب لا
وقت القضاء وكذا المقيم إذا كان عليه فوائت
السفر يقضيها ركعتين؛ لأنها فاتته بعد وجوبها
كذلك فأما المريض إذا قضى فوائت الصحة قضاها
على حسب ما يقدر عليه لعجزه عن القضاء على حسب
الفوات، وأصل الأداء يسقط عنه بالعجز فلأن
يسقط وصفه أولى، والصحيح أنه إذا كان عليه
فوائت المرض يقضيها على اعتبار حال الصحة لا
على اعتبار حال الفوات حتى لو قضاها كما فاتته
لا يجوز فإن فاتته الصلاة بالإيماء فقضاها في
حال الصحة بالإيماء لم تجز؛ لأن الإيماء ليس
بصلاة حقيقة لانعدام أركان الصلاة فيه وإنما
أقيم مقام الصلاة خلفا عنها لضرورة العجز على
تقدير الأداء بالإيماء فإذا لم يؤد بالإيماء
لم يقم مقامها فبقي الأصل واجبا عليه فيؤديه
كما وجب والله أعلم.
وأما إذا فات شيء من هذه الصلوات عن الجماعة
وأدرك الباقي كالمسبوق وهو الذي لم يدرك أول
الصلاة مع الإمام أو اللاحق وهو الذي أدرك أول
الصلاة مع الإمام ثم نام خلفه أو سبقه الحدث
حتى صلى الإمام بعض صلاته ثم انتبه أو رجع من
الوضوء فكيف يقضي ما سبق به ؟ أما المسبوق
فإنه يجب عليه أن يتابع الإمام فيما أدرك ولا
يتابعه في التسليم فإذا سلم الإمام يقوم هو
إلى قضاء ما سبق به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" ولو بدأ بما سبق به تفسد صلاته؛ لأنه انفرد في موضع وجب عليه
الاقتداء لوجوب متابعة الإمام فيما أدرك بالنص
والانفراد عند وجوب الاقتداء مفسد للصلاة ولأن
ذلك حديث منسوخ بحديث معاذ رضي الله عنه حيث
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"سن لكم سنة
حسنة فاستنوا بها" أمر
بالاستنان بسنته فيقتضي وجوب متابعة الإمام
فيما أدرك عقيب الإدراك بلا فصل فصار ناسخا
لما كان قبله. وأما اللاحق فإنه يأتي بما سبقه
الإمام ثم يتابعه؛ لأنه في الحكم كأنه خلف
الإمام لالتزامه متابعة الإمام في جميع صلاته
وإتمامه الصلاة مع الإمام فصار كأنه خلف
الإمام ولهذا لا قراءة عليه لا سهو عليه كما
لو كان خلف الإمام حقيقة بخلاف المسبوق فإنه
منفرد؛ لأنه ما التزم متابعة الإمام إلا في
قدر ما أدرك ألا ترى أنه يقرأ ويسجد لسهوه
بخلاف اللاحق ولو لم يشتغل بما سبقه الإمام
ولكنه تابع الإمام في بقية صلاته لا تفسد
صلاته عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر تفسد
بناء على أن الترتيب في أفعال الصلاة الواحدة
ليس بشرط عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر،
والمسألة قد مرت ثم ما أدركه المسبوق مع
الإمام هل هو أول صلاته أو آخر صلاته، وكذا ما
يقضيه اختلف فيهما قال أبو حنيفة وأبو يوسف:
ما أدركه مع الإمام آخر صلاته حكما وإن كان
أول صلاته حقيقة وما يقضيه أول صلاته حكما وإن
كان آخر صلاته حقيقة، وقال بشر بن غياث
المريسي وأبو طاهر الدباس أن ما يصلي مع
الإمام أول صلاته حكما كما هو أول صلاته حقيقة
وما يقضى آخر صلاته حكما كما هو آخر صلاته
حقيقة وهو قول الشافعي وهو اختيار القاضي
الإمام صدر الإسلام البزدوي رحمه الله
والمسألة مختلفة بين الصحابة روي عن علي وابن
عمر مثل قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعن ابن
مسعود رضي الله عنه مثل قولهم، وذكر الشيخ
الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري وقال:
وجدت في غير رواية الأصول عن محمد أنه قال: ما
أدرك المسبوق مع الإمام أول صلاته حقيقة
وحكما، وما يقضي آخر صلاته حقيقة وحكما كما
قال أولئك إلا في حق ما يتحمل
ج / 1 ص -248-
الإمام
عنه وهو القراءة فإنه يعتبر آخر صلاته وفائدة
الخلاف تظهر في حق القنوت والاستفتاح فعلى قول
أولئك يأتي بالاستفتاح عقيب تكبيرة الافتتاح
لا فيما يقضي؛ لأن ذلك أول صلاته حقيقة وحكما
وكذا عند محمد؛ لأن هذا مما لا يتحمل عنه
الإمام فكانت الركعة المدركة مع الإمام أول
صلاته في حق الاستفتاح فيأتي به هناك. وأما
القنوت فيأتي به ثانيا في آخر ما يقضي في
قولهم؛ لأنه آخر صلاته وما أتى به مع الإمام
أتى بطريق التبعية وإن كان في غير محله فلا بد
وأن يأتي بعد ذلك في محله وعلى قول محمد ينبغي
أن يأتي به ثانيا في آخر ما يقضي كما هو قول
أولئك لأن الإمام لا يتحمل القنوت عن القوم
ومع ذلك روي عنه أنه لا يأتي به ثانيا؛ لأن في
القنوت عنه روايتان في رواية يتحمله الإمام
لشبهه بالقراءة وعلى هذه الرواية لا يشكل أنه
لا يأتي به ثانيا؛ لأنه جعل المدرك مع الإمام
آخر صلاته في حق القراءة وفي رواية عنه لا
يتحمل الإمام القنوت ومع هذا قال لا يأتي به
المسبوق ثانيا؛ لأنه أتى به مرة مع الإمام ولو
أتى به في غير محله فلا يأتي به ثانيا؛ لأنه
يؤدي إلى تكرار القنوت وهو غير مشروع في صلاة
واحدة بخلاف التشهد حيث يأتي به إذا قضى ركعة
وإن كان أتى به مع الإمام في غير محله؛ لأنه
وإن أدى إلى التكرار لكن التكرار في التشهد
مشروع في صلاة واحدة. وأما على قول أبي حنيفة
وأبي يوسف لا يأتي بالاستفتاح فيما أدرك مع
الإمام بل فيما يقضي؛ لأن أول صلاته حكما هذا،
وهو ما يقضي لا ذاك ولا يأتي بالقنوت فيما
يقضي؛ لأنه أتى به مع الإمام في محله؛ لأن ذاك
آخر صلاته حكما وما يقضي أول صلاته ومحل
القنوت آخر الصلاة لا أولها فتظهر فائدة
الاختلاف بين أصحابنا في الاستفتاح لا في
القنوت، وهكذا ذكر القدوري عن محمد بن شجاع
البلخي أن فائدة الاختلاف بين أصحابنا تظهر في
حق الاستفتاح احتج المخالفون لأصحابنا بما روى
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"ما أدركتم
فصلوا وما فاتكم فأتموا" أطلق لفظ
الإتمام على أداء ما سبق به وإتمام الشيء يكون
بآخره فدل أن الذي يقضي آخر صلاته والدليل
عليه وجوب القعدة على من سبق بركعتين من
المغرب إذا قضى ركعة ولو كان ما يقضي أول
صلاته لما وجبت القعدة الواحدة؛ لأنها تجب على
رأس الركعتين لا عقيب ركعة واحدة، وكذا إذا
قضى الركعة الثانية تفترض عليه القعدة والقعدة
لا تفترض عقيب الركعتين، وكذا لو كان ما أدرك
مع الإمام آخر صلاته كان ما قعد مع الإمام في
محله فيكون فرضا له كما للإمام فلا يفترض
ثانيا فيما يقضي كما لا يأتي بالقنوت عندكم
ثانيا لحصول ما أدرك مع الإمام في محله، ولا
يلزمنا إذا سبق بركعتين من المغرب حيث يقضيهما
مع قراءة الفاتحة والسورة جميعا ولو كان ما
يقضي آخر صلاته حقيقة وحكما لكان لا تجب عليه
القراءة في الثانية من الركعتين اللتين
يقضيهما؛ لأنها ثالثة ولا تجب القراءة في
الثالثة؛ لأنا نقول: إن الإمام وإن كان لم
يقرأ في الثالثة فلا بد للمسبوق من القراءة
فيها قضاء عن الأولى، كما في حق الإمام إذا لم
يقرأ في الأولى يقضي في الثالثة وإن كان قرأ
فقراءته التي وجدت في ثالثته ليست بفريضة
وقراءة الإمام إنما تنوب عن قراءة المقتدي
التي هي فرض على المقتدي إذا كانت فرضا في حق
الإمام والقراءة في الثالثة ليست بفرض في حق
الإمام فلا تنوب عن المقتدي فيجب عليه القراءة
في الثالثة لهذا لا لأنها أول صلاته. وجه قول
محمد أن المؤدى مع الإمام أول الصلاة حقيقة
وما يقضى آخرها حقيقة وكل حقيقة يجب تقريرها
إلا إذا قام الدليل على التغيير، وما أدرك في
حق الإمام آخر صلاته فتصير آخر صلاة المقتدي
بحكم التبعية إلا أن التبعية تظهر في حق ما
يتحمل الإمام عن المقتدي لا في حق ما لا يتحمل
فلا يظهر فيه حكم التبعية فانعدم الدليل
المعتبر فبقيت الحقيقة على وجوب اعتبارها
وتقريرها. وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ما روى
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"
والقضاء اسم لما يؤدى من الفائت والفائت أول
الصلاة فكان ما يؤديه المسبوق قضاء لما فاته
وهو أول الصلاة، والمعنى في المسألة أن المدرك
لما كان آخر صلاة الإمام يجب أن يكون آخر صلاة
المقتدي إذ لو كان أول صلاته لفات الاتفاق بين
الفرضين وإنه مانع صحة الاقتداء؛ لأن المقتدي
تابع للإمام فيقضي الاتفاق أن يكون للتابع ما
للمتبوع وإلا فاتت التبعية، والدليل على
انعدام الاتفاق بين أول الصلاة وآخرها أنهما
يختلفان في حكم القراءة فإن القراءة لا توجد
في الأوليين
ج / 1 ص -249-
إلا
فرضا وتوجد في الأخريين غير فرض وكذا تجب في
الأوليين قراءة الفاتحة والسورة لا تجب في
الأخريين، وكذا الشفع الأول مشروع على الأصالة
والشفع الثاني مشروع زيادة على الأول فإن
الصلاة فرضت في الأصل ركعتين فأقرت في السفر
وزيدت في الحضر على ما روي في الخبر فينبغي أن
لا يصح الاقتداء ومع هذا صح فدل على ثبوت
الموافقة وذلك في حق الإمام آخر الصلاة فكذا
في حق المقتدي ولا حجة لهم في الحديث؛ لأن
تمام الشيء لا يكون بآخره لا محالة فإن حد
التمام ما إذا حررناه لم يحتج معه إلى غيره
وذا لا يختص بأول ولا بآخر فإن من كتب آخر
الكتاب أولا ثم كتب أوله يصير متمما بالأول لا
بالآخر وكذا قراءة الكتاب بأن قرأ أولا نصفه
الأخير ثم الأول. وأما وجوب القعدة بعد قضاء
الأوليين من الركعتين اللتين سبق بهما فنقول
القياس أن يقضي الركعتين ثم يقعد إلا أنا
استحسنا وتركنا القياس بالأثر وهو ما روي أن
جندبا ومسروقا ابتليا بهذا فصلى جندب ركعتين
ثم قعد وصلى مسروق ركعة ثم قعد ثم صلى ركعة
أخرى فسألا ابن مسعود عن ذلك فقال كلاكما أصاب
ولو كنت أنا لصنعت كما صنع مسروق، وإنما حكم
بتصويبهما لما أن ذلك من باب الحسن والأحسن
كما في قوله تعالى: في قصة داود وسليمان
عليهما الصلاة والسلام
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً
آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فلا يؤدي إلى تصويب كل مجتهد ويحمل على التصويب في نفس الاجتهاد لا
فيما أدى إليه اجتهاده على ما روي عن أبي
حنيفة أنه قال: كل مجتهد مصيب والحق عند الله
واحد والأول أصح ثم العذر عنه أن المدرك مع
الإمام أول صلاته حقيقة وفعلا لكنا جعلنا آخر
صلاته حكما للتبعية وبعد انقطاع تحريمة الإمام
زالت التبعية فصارت الحقيقة معتبرة فكانت هذه
الركعة ثانية هذا المسبوق، والقعدة بعد الركعة
الثانية في المغرب واجبة إن لم تكن فرضا
فينبغي أن يقعد وكذا القعدة بعد قضاء الركعتين
افترضت؛ لأنها من حيث الحقيقة وجدت عقيب
الركعة الأخيرة وصارت الحقيقة واجبة الاعتبار،
وقولهم إنها وقعت في محلها فلا يؤتى بها ثانيا
قلنا هي وإن وقعت في آخر الصلاة في حق المقتدي
كما وقعت في حق الإمام غير أنها ما وقعت فرضا
في حق المسبوق؛ لأن فرضيتها ما كانت لوقوعها
في آخر الصلاة بل لحصول التحلل بها حتى أن
المتطوع إذا قام إلى الثالثة انقلبت قعدته
واجبة عندنا ولم تبق فرضا لانعدام التحلل فكذا
هذه القعدة عندنا جعلت فعلا في حق المسبوق
وبعد الفراغ مما سبق جاء أوان التحلل فافترضت
القعدة. وأما حكم القراءة في هذه المسألة
فنقول: إذا أدرك مع الإمام ركعة من المغرب ثم
قام إلى القضاء يقضي ركعتين ويقرأ في كل ركعة
بفاتحة الكتاب وسورة. ولو ترك القراءة في
إحداهما فسدت صلاته، أما عندهما فلأنه يقضي
أول صلاته، وكذا عند محمد في حق القراءة،
والقراءة في الأوليين فرض فتركها يوجب فساد
الصلاة وأما على قول المخالفين فلعلة أخرى على
ما ذكرنا، وكذا إذا أدرك مع الإمام ركعتين
منها قضى ركعة بقراءة ولو أدرك مع الإمام ركعة
في ذوات الأربع فقام إلى القضاء قضى ركعة يقرأ
فيها بفاتحة الكتاب وسورة ويتشهد ثم يقوم
فيقضي ركعة أخرى يقرأ فيها بفاتحة الكتاب
وسورة. ولو ترك القراءة في إحداهما تفسد صلاته
لما قلنا وفي الثالثة هو بالخيار، والقراءة
أفضل لما عرف، ولو أدرك ركعتين منها قضى
ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وسورة، ولو
ترك القراءة في إحداهما فسدت صلاته لما ذكرنا
ويستوي الجواب بين ما إذا قرأ إمامه في
الأوليين وبين ما إذا ترك القراءة فيهما، وقرأ
في الأخريين قضاء عن الأوليين وأدركه المسبوق
فيهما لما ذكرنا فيما تقدم أن قراءة الإمام في
الأخريين تلتحق بالأوليين فتخلو الأخريان عن
القراءة فكأنه لم يقرأ فيهما. وأما إذا فات
شيء عن محله ثم تذكره في آخر الصلاة بأن ترك
شيئا من سجدات صلاته ساهيا ثم تذكره بعد ما
قعد قدر التشهد قضاه سواء كان المتروك سجدة
واحدة أو أكثر وسواء علم أنه من أية ركعة تركه
أو لم يعلم لكن الكلام في كيفية القضاء وما
يتعلق به وهي المسائل المعروفة بالسجدات.
"فصل": والكلام في مسائل السجدات يدور على أصول، منها أن السجدة الأخيرة
إذا فاتت عن محلها وقضيت التحقت بمحلها على ما
هو الأصل في القضاء ومنها أن الصلاة إذا ترددت
بين الجواز والفساد فالحكم بالفساد أولى وإن
كان للجواز وجوه وللفساد وجه واحد؛ لأن الوجوب
كان ثابتا بيقين فلا يسقط بالشك ولأن الاحتياط
فيما
ج / 1 ص -250-
قلنا؛
لأن إعادة ما ليس عليه أولى من ترك ما عليه.
ومنها أن السجدة المؤداة في وقتها لا تحتاج
إلى النية والتي صارت بمحل القضاء لا بد لها
من النية؛ لأنها إذا أديت في محلها تناولتها
نية أصل الصلاة فإنها جعلت متناولة كل فعل في
محله المتعين له شرعا، فأما ما وجد في غير
محله فلم تتناوله النية الحاصلة لأصل الصلاة.
ومنها أن الفعل متى دار بين السنة والبدعة كان
ترك البدعة واجبا وتحصيل الواجب أولى من تحصيل
السنة ومتى دار بين البدعة والفريضة كان
التحصيل أولى؛ لأن ترك البدعة واجب والفرض أهم
من الواجب ولأن ترك الفرض يفسد الصلاة وتحصيل
البدعة لا يفسدها فكان تحصيل الفرض أولى.
ومنها أن المتروك متى دار بين سجدة وركعة يأتي
بالسجدة ثم يتشهد ثم يأتي بالركعة ثم يتشهد ثم
يسلم ويأتي بسجدتي السهو وإنما يبدأ بالسجدة؛
لأن المتروك إن كان سجدة فقد تمت صلاته فيتشهد
وإن كان المتروك ركعة لا يضره تحصيل زيادة
السجدة وإنما لا يبدأ بالركعة؛ لأن المتروك لو
كان هو الركعة جازت صلاته. ولو كان هو السجدة
فإذا أتى بالركعة فقد زاد ركعة كاملة في خلال
صلاته قبل تمام الصلاة فانعقدت الركعة تطوعا
فصار منتقلا من الفرض إلى النفل قبل تمام
الفرض فيفسد فرضه وإذا سجد قعد؛ لأن المتروك
لو كان سجدة تمت صلاته وافترضت القعدة ولو صلى
ركعة قبل التشهد تفسد صلاته؛ لأنه يصير منتقلا
من الفرض إلى النفل قبل تمام الفرض. ولو كان
المتروك هو الركعة لا يضره تحصيل السجدة
والقعدة وقد دارت بين الفرض والبدعة فكان
التحصيل أولى ومنها أن زيادة ما دون الركعة
قبل إكمال الفريضة لا يوجب فساد الفريضة بأن
زاد ركوعا أو سجودا أو قياما أو قعودا إلا على
رواية عن محمد أن زيادة السجدة الواحدة مفسدة
فزيادة الركعة الكاملة قبل إكمال الفريضة
يفسدها وذلك بأن يقيد الركعة بالسجدة لما مر
من الفقه.
ومنها أن الترتيب في أفعال الصلاة الواحدة لا
يكون ركنا وتركه لا يفسد الصلاة عمدا كان أو
سهوا عند أصحابنا الثلاثة لما ذكرنا فيما
تقدم.
ومنها أن القعدة الأولى في ذوات الأربع أو
الثلاث من المكتوبات ليست بفريضة والقعدة
الأخيرة فريضة لما مر أيضا.
ومنها أن سلام السهو لا يفسد الصلاة وأن سجدتي
السهو تجب بتأخير ركن عن محله وتؤدى بعد
السلام عندنا وقد مر هذا أيضا.
ومنها أن ينظر في تخريج المسائل إلى المؤديات
من السجدات وإلى المتروكات فتخرج على الأقل؛
لأنه أسهل وعند استوائهما يخير لاستواء
الأمرين والله أعلم.
وإذا عرفت الأصول فنقول وبالله التوفيق: إذا
ترك سجدة من هذه الصلوات فالمتروك منه إما أن
كان صلاة الفجر وإما أن كان صلاة الظهر والعصر
والعشاء وإما أن كان صلاة المغرب، والمصلي لا
يخلو إما أن يكون زاد على ركعات هذه الصلوات
أو لم يزد فإن كان المتروك منه صلاة الغداة
ولم يزد على ركعتيها فترك منها سجدة ثم تذكرها
قبل أن يسلم أو بعدما سلم قبل أن يتكلم سجدها
سواء علم أنه تركها من الركعة الأولى أو من
الثانية أو لم يعلم؛ لأنها فاتت عن محلها ولم
تفسد الصلاة بفواتها فلا بد من قضائها؛ لأنها
ركن ولو لم يقض حتى خرج عن الصلاة فسدت صلاته
كالقراءة في الأوليين إذا فاتت عنهما تقضى في
الأخريين؛ لأنها ركن ولو لم تقض حتى خرج عن
الصلاة فسدت صلاته فلا بد من القضاء، وإن فاتت
عن محلها الأصلي لوجود المحل لقيام التحريمة
كذا هذا، وينوي القضاء عند تحصيل هذه السجدة؛
لأنها إن كانت من الركعة الأولى تحتاج إلى
النية لدخولها تحت القضاء وإن كانت من الركعة
الثانية لا تحتاج؛ لأن نية أصل الصلاة تناولته
فعند الاشتباه يأتي بالنية احتياطا وقيل ينوي
ما عليه من السجدة في هذه الصلاة وكذلك كل
سجدة متروكة يسجدها في هذا الكتاب ويتشهد عقيب
السجدة؛ لأن العود إلى السجدة الصلبية يرفع
التشهد؛ لأنه تبين أنه وقع في غير محله فلا بد
من التشهد. ولو تركه لا تجوز صلاته؛ لأن
القعدة الأخيرة فرض فيتشهد ويسلم ثم يسجد
للسهو ثم يتشهد ثم يسلم لما مر وإن ترك منها
سجدتين فإن علم أنه تركهما من ركعتين أو من
الركعة الثانية فإنه يسجدهما ويتشهد ويسلم ثم
يسجد للسهو ويتشهد ويسلم لأنه إذا تركهما من
ركعتين فقد تقيد كل ركعة بسجدة وتوقف تمامها
على سجدة فيسجد سجدتين على وجه القضاء فيتم
صلاته وإذا تركهما من الركعة الثانية فيتمها
بسجدتين على وجه الأداء لوجودهما وإن علم أنه
تركهما من الركعة الأولى صلى ركعة
ج / 1 ص -251-
واحدة؛
لأنه لما ركع ولم يسجد حتى رفع رأسه وقرأ وركع
وسجد سجدتين صار مصليا ركعة واحدة لأن الركوع
وقع مكررا فلا بد وأن يلغو أحدهما؛ لأن ما وجد
من السجدتين عقيب الركعة الثانية يلتحقان بأحد
الركوعين لكنهما يلتحقان بالأول أو بالآخر
ينظر في ذلك إن كان الركوع قبل القراءة
يلتحقان بالركوع الثاني ويلغو الأول؛ لأنه وقع
قبل أوانه إذ أوانه بعد القراءة ولم توجد فلا
يعتد به والركوع الثاني وقع في أوانه فكان
معتبرا حتى أن من أدرك الركوع الثاني كان
مدركا للركعة كلها. ولو أدرك الأول لا يكون
مدركا للركعة وإن كان الركوع الأول بعد
القراءة، والثاني كذلك فكذلك الجواب في رواية
باب السهو، وفي رواية باب الحدث المعتبر هو
الأول، ويضم السجدتان للسهو ويلغو الثاني، ومن
أدرك الركوع الثاني دون الأول لم يكن مدركا
لتلك الركعة وإن لم يعلم سجد سجدتين ثم صلى
ركعة كاملة؛ لأنه إن كان ترك إحدى السجدتين من
الأولى والأخرى من الثانية فإن صلاته تتم
بسجدتين؛ لأن كل ركعة تقيدت بالسجدة فيلتحق
بكل ركعة سجدة فتتم صلاته وتكون السجدتان على
وجه القضاء لفواتهما عن محلهما وإن كان تركهما
من الركعة الأخيرة فليس عليه إلا السجدتان
أيضا؛ لأنه إذا سجد سجدتين فقد حصلت السجدتان
على وجه الأداء لحصولهما بعدهما عقيب هذه
الركعة فيحكم بجواز الصلاة ولا ركعة عليه في
هذين الوجهين، وإن كان تركهما من الركعة
الأولى صلى ركعة ثم ما وجد من السجدتين عقيب
الركعة الثانية يلتحقان بالركوع الأول إن كان
الركوع بعد القراءة على رواية باب الحدث وحصل
القيام والركوع مكررا فلم يكن بهما عبرة فتحصل
له ركعة واحدة فالواجب عليه قضاء ركعة وعلى
رواية باب السهو تنصرف السجدتان إلى الركوع
الثاني لقربهما منه فعلا على ما مر ويرتفض
الركوع الأول والقيام قبله ويلغوان، فعلى
الروايتين جميعا في هذه الحالة تلزمه ركعة ففي
حالتين يجب سجدتان وفي حالة ركعة فيجمع بين
الكل ويبدأ بالسجدتين لا محالة؛ لأن المتروك
إن كان سجدتين تتم صلاته بهما وبالتشهد بعدهما
فالركعة بعد تمام الفرض لا تضر، وإن كان
المتروك ركعة فزيادة السجدتين وقعدة لا تضر
أيضا. ولو بدأ بالركعة قبل السجدتين تفسد
صلاته؛ لأن المتروك إن كان ركعة فقد تمت صلاته
بهما وإن كان سجدتان فزيادة الركعة قبل إكمال
الفرض تفسد الصلاة لما مر ويقعد بين السجدتين
لما ذكرنا أن ذلك آخر صلاته على بعض الوجوه
وينبغي أن ينوي بالسجدتين القضاء. وإن كان ذلك
مترددا أخذ بالاحتياط. ولو ترك ثلاث سجدات فإن
وقع تحريه على شيء يعمل به وإن لم يقع تحريه
على شيء يسجد سجدة ويصلي ركعة؛ لأن المؤدى أقل
فيعتبر ذلك فنقول لا يتقيد بسجدة واحدة إلا
ركعة واحدة فعليه سجدة واحدة تكميلا لتلك
الركعة ولا يتشهد ههنا؛ لأن بتحصيل ركعة لا
يتوهم تمام الصلاة ليتشهد بل عليه أن يصلي
ركعة أخرى ثم يتشهد ويسلم ويسجد للسهو إلا أنه
ينبغي أن ينوي بالسجدة قضاء المتروكة لجواز
أنه إنما أتى بسجدة بعد الركوع الأول فإذا لم
ينو بهذه السجدة القضاء تتقيد بها الركعة
الثانية فإذا قام بعدها وصلى ركعة كان متنفلا
بها قبل إكمال الفريضة فتفسد صلاته وإذا نوى
بها القضاء التحقت بمحلها وانتقض الركوع
المؤدى بعدها؛ لأن ما دون الركعة يحتمل النقض
فلهذا ينوي بها القضاء، ولم يذكر محمد رحمه
الله أنه لو ترك أربع سجدات ماذا يفعل، وقيل
إنه يسجد سجدتين ثم يقوم فيصلي ركعة من غير
تشهد بين السجدتين والركعة؛ لأنه في الحقيقة
قام وركع مرتين فيسجد سجدتين ليلتحق بأحد
الركوعين على اختلاف الروايتين ويلغو الركوع
الآخر وقيامه ويحصل له ركعة، وبعد ذلك إن صلى
ركعة تمت صلاته والله تعالى: أعلم.
وإن ترك من الظهر أو من العصر أو من العشاء
سجدة فيسجد سجدة ويتشهد على ما ذكرنا في
الفجر. ولو ترك سجدتين يسجد سجدتين ويصلي ركعة
وعليه سجدتا السهو؛ لأنه إن تركهما من ركعتين
أيتهما كانتا فعليه سجدتان، وكذا لو تركهما من
الركعة الأخيرة ولو تركهما من إحدى الثلاث
الأول فعليه ركعة؛ لأن قياما وركوعا ارتفضا
على اختلاف الروايتين فإذا كان يجب في حال
ركعة وفي حال سجدتان يجمع بين الكل احتياطا،
وإذا سجد سجدتين يقعد لجواز أنه آخر صلاته
والقعدة الأخيرة فرض وينوي بالسجدتين ما عليه
لجواز أن تركهما من ثنتين قبل الأخيرة أو من
ركعة قبلها ويبدأ بالسجدتين احتياطا لما بينا.
ولو ترك ثلاث سجدات يسجد ثلاث سجدات
ج / 1 ص -252-
ويصلي
ركعة؛ لأن من الجائز أنه ترك ثلاث سجدات من
الثلاث الأول فيقيد كل ركعة بسجدة فعليه ثلاث
سجدات، ومن الجائز أنه ترك سجدة من إحدى
الثلاث الأول وسجدتين من الرابعة فيتم الرابعة
بسجدتين ويلتحق سجدة بمحلها ومن الجائز أنه
ترك سجدتين من ركعة من الثلاث الأول وسجدة من
ركعة فيلغو قيام وركوع على اختلاف الروايتين
فعليه سجدة لتنضم إلى تلك الركعة التي سجد
فيها سجدة وركعة فعليه ثلاث سجدات في حالتين
وركعة في حال فيجمع بين الكل ويقدم السجدات
على الركعة لما بينا وينوي بالسجدات الثلاث ما
عليه لما مر ويجلس بين السجدات والركعة لما مر
فإن ترك أربع سجدات يسجد أربع سجدات ويصلي
ركعتين؛ لأنه لو ترك أربع سجدات من أربع ركعات
فعليه أربع سجدات. ولو ترك سجدتين من ركعتين
من الثلاث الأول وسجدتين من الرابعة فعليه
أربع سجدات. ولو ترك الأربع كلها من الركعتين
من الثلاث الأول وسجد سجدتين في ركعة منها
وسجدتين في الرابعة فقد لغا قيامان وركوعان
فكان الواجب عليه ركعتان، ولو ترك سجدتين من
ركعة من إحدى الثلاث الأول وسجدتين من ركعتين
من الثلاث فعليه ركعة وسجدتان فيجمع بين الكل
احتياطا فيسجد أربع سجدات ويصلي ركعتين ويقدم
السجدات على الركعتين؛ لأن تقديمها لا يضر،
وتقديم الركعتين يفسد الفرض على بعض الوجوه
لما بينا، والصلاة إذا فسدت من وجه يحكم
بفسادها احتياطا لما مر وينوي في ثلاث سجدات
ما عليه؛ لأن ثنتين فيها قضاء لا محالة
والرابعة ليست بقضاء لا محالة؛ لأنها إما أن
كانت زائدة أو من الرابعة فلا ينوي فيها
والثالثة محتملة يحتمل أنها من الرابعة ويحتمل
أنها من إحدى الثلاث الأول فينوي احتياطا وإذا
سجد أربع سجدات يتشهد لاحتمال أن ذلك آخر
صلاته والقعدة الأخيرة فريضة، ثم يقوم فيصلي
ركعة ثم يتشهد؛ لأن من الجائز أن عليه ركعة
وسجدتين فيكون ما بعد الركعة آخر صلاته فلا بد
من القعدة فيقعد، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى
ويقعد ويسلم، ثم يسجد سجدتي السهو ويقعد
ويسلم، وإن ترك خمس سجدات يسجد ثلاث سجدات
ويصلي ركعتين، وههنا يعتبر المؤدى؛ لأنه أقل
فهذا رجل سجد ثلاث سجدات فإن سجدها في ثلاث
ركعات تقيدت ثلاث ركعات فعليه ثلاث سجدات
وركعة. ولو سجد سجدتين في ركعة وسجدة في ركعة
فعليه سجدة وركعتان ففي حال عليه ثلاث سجدات
وركعة وفي حال ركعتان وسجدة فيجمع بين الكل
احتياطا فيسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعتين ويقدم
السجدات على الركعتين لما بينا، وإذا سجد ثلاث
سجدات فهل يقعد قبل أن يصلي الركعتين ؟ عند
عامة المشايخ لا يقعد؛ لأنه لو كان سجد ثلاث
سجدات في ثلاث ركعات فإذا سجد ثلاث سجدات فقد
التحقت بكل ركعة سجدة فتمت له الثلاث، والقعدة
على رأس الثالثة بدعة. ولو كان سجد سجدتين في
ركعة وسجدة في ركعة فإذا سجد ثلاث سجدات فقد
تمت له ركعتان وسجدتان إلا أن السجدتين لغتا،
والقعدة على رأس الركعتين عند بعض مشايخنا سنة
فدارت القعدة بين السنة والبدعة فكان ترك
البدعة أولى، وعند بعض مشايخنا وإن كانت واجبة
لكن ترك البدعة فرض وهو أهم من الواجب فكان
ترك البدعة أولى، وعند بعض مشايخنا أنه يقعد
بعد السجدات الثلاث؛ لأن القعدة لما دارت بين
الواجب وترك البدعة كان تحصيل الواجب مستحبا
فقالوا: يقعد ههنا قعدة مستحبة لا مستحقة؛ لأن
الواجب ملحق بالفرض في حق العمل ثم بعد ذلك
يصلي ركعة ويقعد؛ لأن هذه رابعته من وجه بأن
كان أدى السجدات الثلاث في ثلاث ركعات فإذا
سجد ثلاث سجدات تمت له ثلاث ركعات وإذا صلى
ركعة فهذه رابعته، والقعدة بعدها فرض وهي
ثالثته من وجه بأن أدى السجدتين من ركعة وسجدة
من ركعة، فإذا سجد ثلاث سجدات التحقت سجدة
بالركعة التي سجد فيها سجدة وتمت له ركعتان
فكانت هذه ثالثته، والقعدة بعدها بدعة فدارت
بين الفرض والبدعة فيغلب الفرض؛ لأن ترك
البدعة وإن كان فرضا واستويا من هذا الوجه لكن
ترجحت جهة الفرض لما في ترك الفرض من ضرر وجوب
القضاء، ثم بعد التشهد يقوم فيصلي ركعة أخرى،
ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو، ثم يتشهد،
ثم يسلم. ولو ترك ست سجدات يسجد سجدتين ويصلي
ثلاث ركعات؛ لأنه ما سجد إلا سجدتين فإن
سجدهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات وإن سجدهما
في ركعتين
ج / 1 ص -253-
فعليه
سجدتان لتتم الركعتان وركعتان أخراوان، فيجمع
بين الكل احتياطا ويقدم السجدتين؛ لما قلنا،
وبعد السجدتين هل يسجد أم لا ؟ على ما ذكرنا
من اختلاف المشايخ؛ لأن القعدة دائرة بين أنها
بعد ركعة أم بعد ركعتين؛ لأنه إن كان سجد
السجدتين في ركعة كانت القعدة بعد ركعة، وإن
كان سجدهما في ركعتين كانت القعدة بين
الركعتين وبعد ركعة بدعة، وبعدهما عند بعضهم
سنة وعند بعضهم واجبة، وكذا هذا الاختلاف فيما
إذا صلى بعد السجدتين ركعة واحدة لكون الركعة
دائرة بين كونها ثانية وبين كونها ثالثة؛ لأنه
إن كان سجد السجدتين في ركعة كانت هذه الركعة
ثانية، وإن كان سجدهما في ركعتين كانت هذه
الركعة ثالثة، وإذا صلى ركعة أخرى يجلس
بالاتفاق لكونها دائرة بين كونها رابعة وبين
كونها ثالثة فافهم. ولو ترك سبع سجدات يسجد
سجدة ويصلي ثلاث ركعات؛ لأنه ما سجد إلا سجدة
واحدة فلم تتقيد إلا ركعة فعليه سجدة لتتم هذه
الركعة وثلاث ركعات لتتم الأربع. ولو ترك ثمان
سجدات يسجد سجدتين ويصلي ثلاث ركعات؛ لأنه أتى
بأربع ركعات فإذا أتى بسجدتين يلتحقان بركوع
واحد ويرتفض الباقي على اختلاف الروايتين
فيصير مصليا ركعة فيكون عليه ثلاث ركعات لتتم
الأربع. ولو ترك من المغرب سجدة سجدها لا غير
لما مر وإن ترك سجدتين يسجد سجدتين ويصلي ركعة
لما بينا ويقعد بعد السجدتين لجواز أن فرضه تم
بأن تركها من ركعتين والركعة تكون تطوعا فلا
بد من القعود، وإن ترك ثلاث سجدات يسجد ثلاث
سجدات ويصلي ركعة؛ لأنه إن ترك ثلاث سجدات من
ثلاث ركعات فإذا سجدها فقد تمت صلاته فيتشهد،
وإن ترك سجدة من إحدى الأوليين وسجدتين من
الثالثة فعليه ثلاث سجدات، وإن ترك سجدتين من
إحدى الأوليين فعليه سجدة وركعة فيجمع بين
الكل. ولو ترك أربع سجدات يسجد سجدتين ويصلي
ركعتين والعبرة في هذا للمؤداة؛ لأنها أقل
فهذا رجل سجد سجدتين فإن سجدهما في ركعة فقد
صلى ركعة فيصلي ركعتين أخراوين، وإن سجدهما في
ركعتين فقد تقيد بكل سجدة ركعة فعليه سجدتان
ليتما ثم يصلي ركعة، ففي حال عليه ركعتان وفي
حال سجدتان وركعة فيجمع بين الكل احتياطا
ويسجد سجدتين ويصلي ركعتين. وبعد السجدتين
الجلسة مختلف فيها وأكثرهم على أنه لا يقعد
على ما مر وبين الركعتين يجلس لا محالة لجواز
أنها ثالثة، وإن ترك خمس سجدات يسجد سجدة
ويصلي ركعتين لكن ينبغي أن ينوي بهذه السجدة
عن الركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنه لو لم ينو
وقد كان قيد الركعة الأولى بالسجدة لالتحقت
هذه السجدة بالركوع الثاني أو الثالث على
اختلاف الروايتين فيتقيد له ركعتان يتوقفان
على سجدتين، فإذا صلى ركعتين قبل أدائها بين
السجدتين اللتين تتم بهما الركعتان المقيدتان
فسدت فرضية صلاته، فإذا نوى بهذه السجدة عن
الركعة التي تقيدت بتلك السجدة تمت به فبعد
ذلك يصلي ركعتين ويقعد بين الركعتين؛ لأن هذه
ثانيته بيقين فلم يكن في القعدة شبهة البدعة.
ولو ترك ست سجدات يسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛
لأنه أتى بثلاث ركعات فيسجد سجدتين لتلتحقا
بركوع منها على اختلاف الروايتين فتتم له
ركعة، ثم يصلي ركعة ويقعد لعدم شبهة البدعة ثم
أخرى ويقعد فرضا هذا إذا كان لم يزد على عدد
ركعات صلاته فأما إذا زاد بأن صلى الغداة ثلاث
ركعات فإن ترك منها سجدة فسدت صلاته وكذلك إذا
ترك سجدتين وثلاثا، وإن ترك أربعا لم تفسد.
والأصل في هذه المسائل أن الصلاة متى دارت بين
الجواز والفساد نحكم بفسادها احتياطا، وإن من
انتقل من الفرض إلى النفل وقيد النفل بالسجدة
قبل إتمام الفرض بأن بقي عليه القعدة الأخيرة
أو بقي عليه سجدة فسدت صلاته لما مر أن من
ضرورة دخوله في النفل خروجه عن الفرض وقد بقي
عليه ركن فيفسد فرضه كما لو اشتغل بعمل آخر
قبل تمام الفرض، وأصل آخر أنه إذا زاد على
ركعات الفرض ركعة يضم الركعة الزائدة إلى
الركعات الأصلية وينظر إلى عددها ثم ينظر إلى
سجدات عددها فتكون سجدات الفجر بالمزيد ستا؛
لأنها مع الركعة الزائدة ثلاث ركعات ولكل ركعة
سجدتان وسجدات الظهر بالمزيد عشرا وسجدات
المغرب بالمزيد ثمانيا، ثم ينظر إن كان
المتروك أقل من النصف أو النصف يحكم بفساد
صلاته؛ لأن من الجائز أنه أتى في كل ركعة
بسجدة فتتقيد ركعات الفرض كلها، ثم انتقل منها
إلى الركعة الزائدة
ج / 1 ص -254-
وهي
تطوع قبل أداء تلك السجدات فتفسد صلاته، وإن
كان المتروك أكثر من النصف يعلم يقينا أن
المفروض مع الزائد لم يتقيد الكل فإن الفجر مع
الزائد لم يتقيد بسجدتين بل لو تقيد تقيد
ركعتان لا غير؛ لأن ثلاث ركعات لا يتصور أن
تتقيد بسجدتين فلم يوجد الانتقال إلى النفل
بعد، وكذا خمس ركعات في الظهر لا يتصور أن
تتقيد بأربع سجدات، ولا المغرب مع الزيادة
بثلاث سجدات فلا يتحقق الانتقال إلى النفل، ثم
في كل موضع لم تفسد فتكون المؤديات أقل لا
محالة، فينظر إلى المؤديات في ذلك الفرض ثم
يتمم الفرض على ما بينا وإذا عرفت هذه الأصول
فنقول: إذا صلى الغداة ثلاث ركعات وترك منها
سجدة فسدت صلاته؛ لأنه إن تركها من الأولى أو
من الثانية فسدت؛ لأنه لما قيد الثالثة بسجدة
فقد انعقدت نفلا فصار خارجا من الفرض ضرورة
دخوله في النفل فخرج من الفرض وقد بقي عليه
منه سجدة ففسد فرضه، كما لو صلى الفجر ركعتين
وترك منها سجدة فلم يسجدها حتى قام وذهب، وإن
تركها من الثالثة لا تفسد فدارت بين الجواز
والفساد فنحكم بالفساد، فإن ترك سجدتين إن ترك
سجدة من الأولى وسجدة من الثانية فسدت صلاته
لتقيد كل واحدة من ركعتي الفرض بسجدة، ثم دخل
في النفل قبل الفراغ من الفرض، وكذا إن ترك
سجدة من إحدى الأوليين وسجدة من الثالثة؛ لأن
ترك سجدة من الأوليين يكفي لفساد الفرض لما
قلنا، وإن تركهما من الثالثة لا يفسد فرضه؛
لأنه قد صلى ركعتين كل ركعة بسجدتين، فإذا في
حالين تفسد وفي حال تجوز. ولو كانت تجوز في
حالين وتفسد في حال للزم الفساد فههنا أولى،
وذكر محمد في الأصل في هذه المسألة قولين، أما
أحدهما فتفسد صلاته، والقول الآخر لا تفسد
صلاته وإن أراد بالقولين الوجهين اللذين يحتمل
أحدهما الجواز والآخر الفساد على ما بينا
فنحكم بالفساد، ومن المشايخ من حقق القولين
فقال في قول: تفسد لما قلنا، وفي قول: لا
تفسد؛ لأنه يحمل على أن السجدتين المتروكتين
من الثالثة تحريا للجواز، وهذا غير سديد؛ لأنه
لو كان كذلك لوجب أن يكون فيما إذا ترك سجدة
واحدة قولان في قول لا تفسد؛ لأنه يحمل على
أنه تركها من الثالثة تحريا للجواز، وكذلك لو
ترك ثلاث سجدات تفسد لما قلنا. ولو ترك أربع
سجدات لا تفسد؛ لأن المتروك أكثر من النصف
فهذا الرجل ما سجد إلا سجدتين سواء سجدهما في
ركعتين أو في ركعة واحدة فلم يصر بذلك خارجا
من الفرض إلى النفل؛ لأن الزائد على الركعتين
أقل من ركعة فلم يصر منتقلا إلى النفل بعد فلا
يفسد فرضه وعليه أن يسجد سجدتين ويتشهد ولا
يسلم ثم يقوم ويصلي ركعة كاملة؛ لأنه قد أتى
بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين فعليه
سجدتان لا غير، وإن كان أتى بهما في ركعة
واحدة فعليه ركعة كاملة فيجمع بين الكل
احتياطا ويسجد سجدتين أولا ويتشهد ثم يقوم
ويصلي ركعة لما ذكرنا فيما تقدم، وصار هذا كما
لو صلى الغداة ركعتين وترك منها سجدتين وجوابه
ما ذكرنا كذا هذا وكذلك لو ترك خمس سجدات لا
تفسد؛ لأن هذا الرجل ما صلى إلا ركعة واحدة
فيسجد سجدة أخرى لتتم الركعة ثم يصلي ركعة
أخرى كما إذا صلى الغداة ركعتين وترك منها
ثلاث سجدات والجواب فيه ما ذكرنا فكذا هذا
وكذلك لو ترك ست سجدات؛ لأنه لم يسجد شيئا
وإنما ركع ثلاث ركوعات فيأتي بسجدتين حتى يصير
له ركعة كاملة ثم يصلي ركعة أخرى، كما إذا صلى
الفجر ركعتين وترك منها أربع سجدات، وعلى هذا
إذا صلى الظهر أو العصر أو العشاء خمسا وترك
منها سجدة ثم قام وذهب. ولو ترك منها سجدتين
فكذلك الجواب إن تركها من الأربع الأول، وكذلك
إن ترك ثلاثا أو أربعا أو خمسا لاحتمال أنه
ترك من كل ركعة سجدة فترك ثلاثا من ثلاث
وأربعا من الأربع وخمسا من خمس وذلك جهة
الفساد. ولو ترك ست سجدات لا تفسد؛ لأن
المتروك ههنا أكثر؛ لأنه ما سجد إلا أربع
سجدات فيسجد أربع سجدات أخر ثم يقوم ويصلي
ركعتين ويكون كما إذا صلى أربع ركعات وترك
منها أربع سجدات، والجواب والمعنى فيه ما
ذكرنا هنالك كذا ههنا وكذلك إن ترك منها سبعا
أو ثمانيا أو تسعا أو عشرا فالجواب فيه
كالجواب فيما إذا صلى أربعا وترك ثلاث سجدات
أو سجدتين أو سجدة أو لم يسجد رأسا لا يختلف
الجواب ولا المعنى وقد مر ذلك كله وكذلك لو
صلى المغرب أربع ركعات وترك منها سجدة أو
سجدتين أو ثلاثا أو أربعا فسدت صلاته لما
ذكرنا في الظهر والعصر والعشاء إذا صلاها خمسا
وترك منها خمس سجدات أو أقل، وإن ترك منها
ج / 1 ص -255-
خمس
سجدات أو ستا أو سبعا لا تفسد وينظر إلى
المؤدى ويكون حكمه حكم ما إذا صلى المغرب
ثلاثا وترك منها ثلاث سجدات أو أربعا أو خمسا
وهناك ينظر إلى المؤدى من السجدات فيضم إلى كل
سجدة أداها سجدة ثم يتم صلاته على نحو ما
ذكرنا هناك وكذا ههنا.
ولو كبر رجل خلف الإمام ثم نام فصلى إمامه
أربع ركعات وترك من كل ركعة سجدة ثم أحدث فقدم
النائم بعد ما انتبه فإنه يشير إليهم حتى لا
يتبعوه فيصلي ركعة وسجدة، ثم يسجد فيتبعه
القوم في السجدة الثانية، وكذا يصلي الثانية
والثالثة والرابعة والإمام مسيء بتقديمه
النائم ينبغي له أن يقدم من أدرك أول صلاته،
وكذا لو لم ينم ولكنه أحدث فتوضأ ثم جاء فقدمه
فهذا حكمه مسافرا كان أو مقيما لا ينبغي
للإمام أن يقدمه ولا له أن يتقدم؛ لأنه لا
يقدر على إتمام الصلاة على الوجه؛ لأنه إن
اشتغل بقضاء السجدات كما وجب على الإمام الأول
لصار مرتكبا أمرا مكروها؛ لأنه مدرك والمدرك
يأتي بالأول فالأول وإن ابتدأ الأول فالأول
فقد ألجأ القوم إلى زيادة مكث في الصلاة فإنه
يحتاج إلى أن يشير لئلا يتبعوه في كل ركعة مع
سجدة، فإذا سجد السجدة الثانية يتابعونه؛
لأنهم صلوا الركعات فليس لهم أن يصلوا ثانيا
فلما كان تقدمه يؤدي إلى أحد أمرين مكروهين لا
ينبغي للإمام أن يقدمه ولا أن يتقدم هو. ولو
تقدم مع هذا واشتغل بالمتروكات أولا وتابعه
القوم جاز لكونه خليفة الإمام الأول، ثم وإن
كانت هذه السجدات لا تحتسب من صلاته لا يصير
اقتداء المفترض بالمتنفل؛ لأن هذا لا يعد منه
نفلا بل هو في أداء هذه الأفعال قائم مقام
الأول وجعل كأنه يؤدي الفرض نظير ما ذكرنا
فيما تقدم أن إماما لو رفع رأسه من الركوع
فسبقه الحدث فقدم رجلا جاء ساعتئذ فتقدم أنه
يتم صلاة الإمام فيسجد سجدتين ثم يقوم إلى
الركعة الثانية، وإن كانت السجدتان غير
محسوبتين في حقه فإن الواجب عليه أن يقضي
الركعة التي سبق بها بسجدتيها ومع ذلك جازت
إمامته؛ لأن السجدتين فرضان على الإمام الأول
وهو قائم مقامه ولو بدأ بالأول فالأول يصلي
ركعة ويشير إلى القوم لئلا يتبعوه؛ لأنهم صلوا
هذه الركعة بسجدة فإذا سجد السجدة الثانية
تابعه القوم؛ لأنهم لم يسجدوا هذه السجدة هكذا
في الركعات كلها. وإذا فعل هكذا جازت صلاته
وصلاة القوم عند بعض مشايخنا، وعند بعضهم تفسد
صلاة الكل، وإنما وقع الاختلاف بينهم؛ لأن
محمدا قال في الكتاب بعد ما حكى جواب أبي
حنيفة أنه يصلي الأول فالأول والقوم لا
يتابعونه في كل ركعة فإذا انتهى إلى السجدة
تابعوه، حكى محمد رضي الله عنه هذا ثم قال:
قلت أما تفسد عليه ؟ قال: فلماذا ؟ قلت: إن
الإمام مرة يصير إماما للقوم وغير إمام مرة
وهذا قبيح ولو كان هذا ركعة استحسنت في ركعة
ذكر محمد سؤاله هذا ولم يذكر جواب أبي حنيفة،
فمن مشايخنا من جعل حكاية هذا السؤال مع ترك
الجواب إخبارا عن الرجوع، وقال: تفسد صلاته
واعتمد على ما احتج به محمد وتقريره أن
الاستخلاف ينبغي أن لا يجوز؛ لأن المؤتم يصير
إماما وبين كونه مؤتما تابعا وبين كونه إماما
متبوعا منافاة، والصلاة في نفسها لا تتجزأ
حكما، فمن كان في بعض تابعا لا يجوز أن يصير
متبوعا في شيء منها؛ لأن صيرورته تابعا في شيء
بمنزلة صيرورته تابعا في الكل لضرورة عدم
التجزيء، وكذا صيرورته متبوعا في بعض يصير
بمنزلة صيرورته متبوعا في الكل لعدم التجزيء،
فإذا كان في بعضها حسا تابعا وفي بعضها متبوعا
كأنه في الكل تابع وفي الكل متبوع حكما؛ لعدم
التجزيء حكما، وذا لا يجوز إلا أنا جوزنا
الاستخلاف بالنص فيتقدر الجواز بقدر ما ورد
فيه النص، والنص ما ورد فيما يصير إماما مرارا
ثم يصير مؤتما وهذا في كل ركعة يؤديها مؤتما،
فإذا انتهى إلى السجدة المتروكة من كل ركعة
يصير إماما فبقي على أصل ما يقتضيه الدلائل.
وقول محمد: استحسنت هذا في ركعة واحدة، أراد
بذلك أن الإمام لو ترك سجدة لا غير من ركعة
فاستخلف هذا النائم وابتدأ الأول فالأول
والقوم يتربصون بلوغه تلك السجدة فإذا سجدها
سجدوا معه ثم بعده يصير مؤتما ففي هذا القياس
أن تفسد؛ لأنه يصير إماما مرة ومؤتما مرتين
إلا أنا استحسنا وقلنا إنه يجوز؛ لأن مثل هذا
في الجملة جائز فإن الإمام إذا سبقه الحدث
فقدم مسبوقا يجوز وقبل الاستخلاف كان مؤتما
وبعد الاستخلاف إلى تمام صلاة الإمام كان
إماما ثم إذا تأخر وقدم غيره حتى سلم وقام
المسبوق إلى قضاء ما سبق عاد مؤتما من وجه
بدليل أنه لو اقتدى به غيره لم يجز، أما في
مسألتنا فيصير مؤتما وإماما مرارا إلا أن أكثر
مشايخنا جوزوا وقالوا: لا تفسد صلاته ولا يجعل
هذا رجوعا من
ج / 1 ص -256-
أبي حنيفة مع عدم النص على الرجوع ويحتمل أنه أجاب أبو حنيفة ومحمد
لم يذكر الجواب ووجه ذلك أن جواز الاستخلاف إن
ثبت نصا لكونه معقول المعنى وهو الحاجة إلى
إصلاح الصلاة على ما بينا فيما تقدم والحاجة
ههنا متحققة فيجوز وقوله إن بين كون الشخص
الواحد تابعا ومتبوعا منافاة قلنا: في شيء
واحد مسلم أما في شيئين فلا والصلاة أفعال
متغايرة حقيقة فجاز أن يكون الشخص الواحد
تابعا في بعضها ومتبوعا في بعض، وبه تبين أن
الصلاة متجزئة حقيقة؛ لأنها أفعال متغايرة إلا
في حق الجواز والفساد وهذا؛ لأن البعض موجود
حقيقة فارتفاعه يكون بخلاف الحقيقة فلا يثبت
إلا بالشرع، وفي حق الجواز والفساد قام الدليل
بخلاف الحقيقة فغيرها فلم تبق متبعضة متجزئة
في حقهما، فأما في حق التبعية والمتبوعية في
غير أوان الحاجة انعقد الإجماع وفي أوان
الحاجة لا إجماع، والحقائق تتبدل بقدر الدليل
الموجب للتغير والتبدل ولا دليل في هذه الحالة
بل ورد الشرع بتقرير هذه الحقيقة حيث جوز
الاستخلاف فعلم أن الاستخلاف عند الحاجة جائز،
وكون الإنسان مرة تابعا ومرة متبوعا غير مانع،
وينظر إلى الحاجة لا إلى ورود الشرع في كل
حالة من أحوال الحاجة ألا ترى أن في الركعة
الواحدة التي استحسن محمد لم يرد الشرع الخاص
؟ وما استدل به من مسألة المسبوق لم يرد الشرع
الخاص فيه، وإنما جاز لما ذكرنا من اعتبار
الحقيقة في موضع لم يرد الشرع بتغييرها، ومن
جعل ورود الشرع بالجواز لذي الحاجة ورودا في
كل محل تحققت الحاجة. ألا ترى أن الشرع لم يرد
بصلاة واحدة بالأئمة الخمسة ومع ذلك جاز عند
الحاجة، وكذا الواحد إذا ائتم فسبق الإمام
الحدث تعين هذا الواحد للإمامة فإذا جاء الأول
صار مقتديا به، ثم لو سبق الثاني حدث تعين
الأول للإمامة، ثم إذا جاء هذا الثاني وسبق
الأول حدث تعين هذا الثاني للإمامة هكذا
مرارا، لكن لما تحققت الحاجة جوز وجعل النص
الوارد في الاستخلاف واردا في كل محل تحققت
الحاجة فيه فكذا هذا والله أعلم.
"فصل": وأما صلاة الجمعة فالكلام فيها يقع في مواضع: في بيان فرضيتها، وفي
بيان كيفية الفريضة، وفي بيان شرائطها، وفي
بيان قدرها، وفي بيان ما يفسدها، وفي بيان
حكمها إذا فسدت أو خرج وقتها، وفي بيان ما
يستحب في يوم الجمعة وما يكره فيه. أما الأول
فالجمعة فرض لا يسع تركها ويكفر جاحدها
والدليل على فرضية الجمعة الكتاب والسنة
وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} قيل ذكر الله هو صلاة الجمعة، وقيل هو الخطبة وكل ذلك حجة؛ لأن
السعي إلى الخطبة إنما يجب لأجل الصلاة بدليل
أن من سقطت عنه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى
الخطبة فكان فرض السعي إلى الخطبة فرضا
للصلاة، ولأن ذكر الله يتناول الصلاة ويتناول
الخطبة من حيث إن كل واحد منهما ذكر الله
تعالى. وأما السنة فالحديث المشهور وهو ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إن الله تعالى: فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري
هذا، في سنتي هذه فمن تركها في حياتي أو بعد
مماتي استخفافا بها وجحودا عليها وتهاونا
بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله
شمله ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له،
ألا لا زكاة له، ألا لا حج له، ألا لا صوم له
إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه". وروي
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه"، ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بترك الفرض وعليه إجماع الأمة.
"فصل": وأما كيفية فرضيتها. فقد اختلف فيها قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن
فرض الوقت هو الظهر في حق المعذور وغير
المعذور لكن غير المعذور وهو الصحيح المقيم
الحر مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة حتما،
والمعذور مأمور بإسقاطه على سبيل الرخصة حتى
لو أدى الجمعة يسقط عنه الظهر وتقع الجمعة
فرضا، وإن ترك الترخص يعود الأمر إلى العزيمة
ويكون الفرض هو الظهر لا غير، وعن محمد قولان
في قول قال: فرض الوقت هو الجمعة ولكن له أن
يسقطه بالظهر رخصة، وفي قول قال: الفرض أحدهما
غير عين ويتعين ذلك بتعيينه فعلا فأيهما فعل
تبين أنه هو الفرض، وقال زفر وقت الفرض هو
الجمعة والظهر بدل عنها وهذا كله قول أصحابنا،
وقال الشافعي: الجمعة ظهر قاصر، وعندنا هي
صلاة مبتدأة غير صلاة الظهر، وفائدة الاختلاف
تظهر في بناء الظهر على تحريمة الجمعة بأن خرج
ج / 1 ص -257-
وقت
الظهر وهو في صلاة الجمعة فعند أصحابنا يستقبل
الظهر، وعنده يتمها ظهرا. أما الكلام مع
الشافعي فإنه احتج بما روي عن عمر وعائشة رضي
الله عنهما أنهما قالا: إنما قصرت الجمعة لأجل
الخطبة ولأن الوقت سبب لوجوب الظهر والوقت متى
جعل سببا لوجوب صلاة كان سببا لوجوبها في كل
يوم كسائر أوقات الصلاة، ثم إذا وجد سبب القصر
تقصر كما تقصر بعذر السفر وههنا وجد سبب القصر
وهو الخطبة ومشقة قطع المسافة إلى الجامع،
ولنا أن الجمعة مع الظهر صلاتان متغايرتان؛
لأنهما مختلفتان شروطا لما نذكر اختصاص الجمعة
بشروط ليست للظهر والفرص الواحد لا تختلف
شروطه بالقصر فكانا غيرين فلا يصح بناء أحدهما
على الآخر كبناء العصر على الظهر بعد خروج وقت
الظهر. وأما حديث عمر وعائشة رضي الله عنهما
ففيه بيان علة القصر، أما ليس فيه أن المقصور
ظهر ؟ وما ذكره من المعنى غير سديد؛ لأن الوقت
قد يخلو عن فرضه أداء لعذر من الأعذار كوقت
العصر عن العصر يوم عرفة بعرفة، ووقت المغرب
عن المغرب ليلة المزدلفة فكذا ههنا جاز أن
يخلو وقت الظهر عن الظهر أداء إن كان لا يخلو
عنه وجوبا لكنه يسقط عنه بأداء الجمعة على ما
نذكر. وأما الخلاف بين أصحابنا رحمهم الله
فبناء على الخلاف في كيفية العمل بالأحاديث
المشهورة المتعارضة من حيث الظاهر فإنه روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وأول وقت
الظهر حين تزول الشمس" ونحو ذلك
من الأحاديث من غير فصل بين الجمعة وغيره، وقد
وردت الأحاديث المشهورة في فرضية صلاة الجمعة
في هذا الوقت بعينه على ما ذكرنا والجمع
بينهما فعلا غير مشروع بلا خلاف بين الأئمة
فمحمد رحمه الله على أحد قوليه عمل بطريق
التناسخ فجعل الآخر وهو حديث الجمعة ناسخا
للأول على ما هو الأصل عند معرفة التاريخ إلا
أنه رخص له أن يسقط الجمعة بالظهر، وعلى القول
الآخر قال: إنه قام دليل فرضية كل واحدة من
الصلاتين ولا سبيل إلى القول بفرضيتهما على
الجمع، ولهذا لو فعل إحداهما أيتهما كانت سقط
الفرض عنه فكان الفرض إحداهما غير عين وإنما
يتعين بفعله، وأبو حنيفة وأبو يوسف عملا
بالأحاديث بطريق التوفيق إذ العمل بالحديثين
أولى من نسخ أحدهما، فقالا إن: فرض الوقت هو
الظهر لكن أمر بإسقاط الظهر بالجمعة
ليكون عملا بالدليلين بقدر الإمكان ولهذا يجب
قضاء الظهر بعد فوت الجمعة وخروج الوقت
والقضاء خلف عن الأداء دل أن الظهر هو الأصل
إذ الأربع لا تصلح أن تكون خلفا عن ركعتين
وزفر يقول: لما انتسخ الظهر بالجمعة دل أن
الجمعة أصل، ولما وجب القضاء بعد خروج الوقت
بأداء الظهر دل أنه بدل عن الجمعة إذا عرف هذا
الأصل تخرج عليه المسائل فنقول: من يصلي الظهر
يوم الجمعة وهو غير معذور قبل صلاة الجمعة ولم
يحضر الجمعة بعد ذلك ولم يؤدها يقع فرضا عند
علمائنا الثلاثة حتى لا تلزمه الإعادة خلافا
لزفر، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلأنه أدى
فرض الوقت؛ لأن فرض الوقت هو الظهر عندهما
ولكنه أمر بإسقاطه بأداء الجمعة فإذا لم يؤد
الجمعة بقي الفرض ذلك فإذا أداه فقد أدى فرض
الوقت فلا يلزمه الإعادة. وأما عند محمد فعلى
أحد قوليه، الفرض أحدهما غير عين ويتعين
بفعله، فإذا صلى الظهر تعين فرضا من الأصل،
وعلى قوله الآخر فرض الوقت وإن كان هو الجمعة
وهي العزيمة لكن له أن يسقطها بالظهر رخصة وقد
ترخص بالظهر وفي قول زفر لما كان الظهر بدلا
عن الجمعة، وإنما يجوز البدل عند العجز عن
الأصل كما في التراب مع الماء وههنا هو قادر
على الأصل فلا يجزيه البدل فتلزمه الإعادة،
وعلى هذا يخرج المعذور كالمريض والمسافر إذا
صلى الظهر في بيته وحده أنه يقع فرضا في قول
أصحابنا جميعا على اختلاف طرقهم. أما عند أبي
حنيفة وأبي يوسف فلأن فرض الوقت هو الظهر إلا
أن غير المعذور مأمور بإسقاطه بالجمعة على
طريق الحتم، والمعذور مأمور بإسقاطه بالجمعة
بطريق الرخصة ولم يترخص فبقيت العزيمة وهي
الظهر وقد أداها فتقع فرضا. وأما عند محمد
فلأن الجمعة فرض عليه على طريق العزيمة لكن مع
رخصة الترك وقد ترخص بتركها بالظهر. وأما على
قول زفر فلأن المفروض عليه الظهر بدلا عن
الجمعة بعذر المرض والسفر وعلى هذا يخرج
المعذور إذا صلى الظهر في بيته ثم شهد الجمعة
وصلاها مع الإمام أنه يرتفض ظهره ويصير تطوعا،
وفرضه الجمعة في قول أصحابنا الثلاثة؛ لأن
القادر مأمور بإسقاط الظهر بالجمعة
ج / 1 ص -258-
وقد قدر فإذا أدى انعقدت جمعته فرضا ولا تنعقد فرضا إلا بعد ارتفاض
الظهر؛ لأن اجتماع فرضي الوقت لا يتصور فيرتفض
ظهره ضرورة انعقاد الجمعة فرضا، وعند زفر لا
يرتفض ظهره؛ لأن الظهر عنده خلف عن الجمعة
فكان شرطه العجز عن الأصل وقد تحقق عند الأداء
فصح الخلف فالقدرة على الأصل بعد ذلك لا
تبطله. وأما غير المعذور إذا صلى الظهر في
بيته ثم خرج إلى الجمعة فهذا على أربعة أوجه:
أحدها إذا خرج من بيته وكان الإمام قد فرغ من
الجمعة حين خرج لا يرتفض ظهره بالإجماع،
والثاني إذا حضر الجامع وشرع في الجمعة وأتمها
مع الإمام يرتفض ظهره عند علمائنا الثلاثة لما
ذكرنا. وأما عند زفر فلا يقع ظهره فرضا أصلا؛
لأنه خلف فيشترط له العجز عن الأصل ولم يوجد،
والثالث إذا شرع في الجمعة ثم تكلم قبل إتمام
الجمعة مع الإمام يرتفض ظهره في قول أبي
حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد لا يرتفض، كذا
ذكر الحسن بن زياد الاختلاف في كتاب صلاته،
والرابع إذا حضر الجامع وقد كان فرغ الإمام من
الجمعة وحين خرج من البيت كان لم يفرغ فهو على
هذا الاختلاف، وحاصل الاختلاف أن عند أبي
حنيفة بأداء بعض الجمعة يرتفض ظهره، وكذا
بوجود ما هو من خصائص الجمعة وهو السعي،
وعندهما لا يرتفض. وجه قولهما في المسألتين أن
ارتفاض الظهر لضرورة صيرورة الجمعة فرضا؛ لأن
اجتماع فرضي الوقت لا يتحقق ولم يوجد فلم
يرتفض الظهر وهذا؛ لأن الحكم ببطلان ما صح
وفرغ منه من حيث الظاهر لا يكون إلا عن ضرورة
ولا ضرورة قبل تمام الجمعة ووقوعها فرضا،
ولأبي حنيفة أن ما أدى من البعض انعقد فرضا
ولم ينعقد الفعل من الجمعة مع بقاء الظهر فرضا
فكان من ضرورة انعقاد هذا الجزء من الجمعة
فرضا ارتفاض الظهر، وكذا السعي إلى الجمعة من
خصائص الجمعة فكان ملحقا بها ولن ينعقد فرضا
مع بقاء الظهر فرضا، وكان من ضرورة وقوعه فرضا
ارتفاض الظهر، به علل هذا الشيخ أبو منصور
الماتريدي. وعلى هذا إذا شرع الرجل في صلاة
الجمعة ثم تذكر أن عليه الفجر فهذا على ثلاثة
أوجه: إن كان بحال لو اشتغل بالفجر لا تفوته
الجمعة فعليه أن يقطع الجمعة ويبدأ بالفجر ثم
بالجمعة مراعاة للترتيب فإنه واجب عندنا، وإن
كان بحال لو اشتغل بالفجر تفوته الجمعة والظهر
عن الوقت يمضي فيها ولا يقطع بالإجماع؛ لأن
الترتيب ساقط عنه لضيق الوقت، وإن كان بحال لو
اشتغل بالفجر تفوته الجمعة ولكن لا يفوته
الظهر فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف يصلي
الفجر ثم يصلي الظهر ولا تجزئه الجمعة، وعلى
قول محمد يمضي في الجمعة ولا يقطع؛ لأن عنده
فرض الوقت هو الجمعة وهو يخاف فوتها لو اشتغل
بالفجر فيسقط عنه الترتيب، كما لو تذكر العشاء
في صلاة الفجر وهو يخالف طلوع الشمس لو اشتغل
بالعشاء، وعندهما فرض الوقت هو الظهر وأنه لا
يفوت بالاشتغال بالفائتة فلا يسقط الترتيب
والله أعلم.
"فصل": وأما بيان شرائط الجمعة. فللجمعة شرائط، بعضها يرجع إلى المصلي،
وبعضها يرجع إلى غيره. أما الذي يرجع إلى
المصلي فستة: العقل، والبلوغ، والحرية
والذكورة، والإقامة، وصحة البدن فلا تجب
الجمعة على المجانين والصبيان والعبيد إلا
بإذن مواليهم، والمسافرين والزمنى، والمرضى.
أما العقل والبلوغ فلأن صلاة الجمعة اختصت
بشرائط لم تشترط في سائر الصلوات ثم لما كانا
شرطا لوجوب سائر الصلوات فلأن يكونا شرطا
لوجوب هذه الصلاة أولى. وأما الحرية فلأن
منافع العبد مملوكة لمولاه إلا فيما استثني
وهو أداء الصلوات الخمس على طريق الانفراد دون
الجماعة لما في الحضور إلى الجماعة وانتظار
الإمام والقوم من تعطيل كثير من المنافع على
المولى، ولهذا لا يجب عليه الحج والجهاد وهذا
المعنى موجود في السعي إلى الجمعة وانتظار
الإمام والقوم فسقطت عنه الجمعة. وأما الإقامة
فلأن المسافر يحتاج إلى دخول المصر وانتظار
الإمام والقوم فيتخلف عن القافلة فيلحقه
الحرج. وأما المريض فلأنه عاجز عن الحضور أو
يلحقه الحرج في الحضور. وأما المرأة فلأنها
مشغولة بخدمة الزوج ممنوعة عن الخروج إلى
محافل الرجال لكون الخروج سببا للفتنة؛ ولهذا
لا جماعة عليهن ولا جمعة عليهن أيضا، والدليل
على أنه لا جمعة على هؤلاء ما روي عن جابر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة
إلا
ج / 1 ص -259-
مسافرا
أو مملوكا أو صبيا أو امرأة أو مريضا فمن
استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه
{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وأما الأعمى فهل تجب عليه أجمعوا على أنه إذا لم يجد قائدا لا تجب
عليه كما لا تجب على الزمن وإن وجد من يحمله.
وأما إذا وجد قائدا إما بطريق التبرع أو كان
له مال يمكنه أن يستأجر قائدا فكذلك في قول
أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد يجب وهو
على الاختلاف في الحج إذا كان له زاد وراحلة
وأمكنه أن يستأجر قائدا أو وعد له إنسان أن
يقوده إلى مكة ذاهبا وجائيا لا يجب عليه الحج
عند أبي حنيفة وعندهما يجب، والمسألة نذكرها
في كتاب الحج إن شاء الله تعالى: ثم هؤلاء
الذين لا جمعة عليهم إذا حضروا الجامع وأدوا
الجمعة فمن لم يكن من أهل الوجوب كالصبي
والمجنون فصلاة الصبي تكون تطوعا ولا صلاة
للمجنون رأسا، ومن هو من أهل الوجوب كالمريض
والمسافر والعبد والمرأة وغيرهم تجزيهم ويسقط
عنهم الظهر؛ لأن امتناع الوجوب عليهم لما
ذكرنا من الأعذار وقد زالت وصار الإذن من
المولى موجودا دلالة، وقد روي عن الحسن البصري
أنه قال: "كن النساء يجمعن مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويقال لهن لا تخرجن إلا تفلات
غير متطيبات"، وفرق بين هذا وبين الحج في
العبد فإنه لو أدى الحج مع مولاه لا يحكم
بجوازه حتى يؤاخذ بحجة الإسلام بعد الحرية،
والفرق أن المنع من الجمعة كان نظرا للمولى
والنظر ههنا في الحكم بالجواز؛ لأنا لو لم
نجوز وقد تعطلت منافعه على المولى لوجب عليه
الظهر فتتعطل عليه منافعه ثانيا فينقلب النظر
ضررا وذا ليس بحكمة فتبين في الآخرة أن النظر
في الحكم بالجواز فصار مأذونا دلالة كالعبد
المحجور عليه إذا أجر نفسه أنه لا يجوز. ولو
سلم نفسه للعمل يجوز ويجب كمال الأجرة لما
ذكرنا، كذا هذا بخلاف الحج فإن هناك لا يتبين
أن النظر للمولى في الحكم بالجواز؛ لأنه لا
يؤاخذ للحال بشيء آخر إذا لم نحكم بجوازه بل
يخاطب بحجة الإسلام بعد الحرية فلا يتعطل على
المولى منافعه فهو الفرق.
وأما الشرائط التي ترجع إلى غير المصلي فخمسة
في ظاهر الروايات، المصر الجامع، والسلطان،
والخطبة، والجماعة، والوقت. أما المصر الجامع
فشرط وجوب الجمعة وشرط صحة أدائها عند أصحابنا
حتى لا تجب الجمعة إلا على أهل المصر ومن كان
ساكنا في توابعه وكذا لا يصح أداء الجمعة إلا
في المصر وتوابعه فلا تجب على أهل القرى التي
ليست من توابع المصر ولا يصح أداء الجمعة فيها
وقال الشافعي المصر ليس بشرط للوجوب ولا لصحة
الأداء فكل قرية يسكنها أربعون رجلا من
الأحرار المقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا
صيفا تجب عليهم الجمعة ويقام بها الجمعة واحتج
بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
أول جمعة في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة
لجمعة جمعت بجواثى وهي قرية من قرى عبد القيس
بالبحرين. وروي عن أبي هريرة أنه كتب إلى عمر
يسأله عن الجمعة بجؤاثى فكتب إليه أن أجمع بها
وحيث ما كنت؛ ولأن جواز الصلاة مما لا يختص
بمكان دون مكان كسائر الصلوات، ولنا ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع"، وعن علي رضي الله تعالى: عنه
"لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في
مصر جامع"، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقيم الجمعة بالمدينة"، وما
روي الإقامة حولها، وكذا الصحابة رضي الله
تعالى: عنهم فتحوا البلاد وما نصبوا المنابر
إلا في الأمصار فكان ذلك إجماعا منهم على أن
المصر شرط؛ ولأن الظهر فريضة فلا يترك إلا بنص
قاطع والنص ورد بتركها إلا الجمعة في الأمصار
ولهذا لا تؤدى الجمعة في البراري؛ ولأن الجمعة
من أعظم الشعائر فتختص بمكان إظهار الشعائر
وهو المصر. وأما الحديث فقد قيل: إن جؤاثى مصر
بالبحرين، واسم القرية ينطلق على البلدة
العظيمة؛ لأنها اسم لما اجتمع فيها من البيوت
قال تعالى:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} وهي مصر وقال
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ
قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْنَاهُمْ}
وهي مكة، وما ذكر من المعنى غير سديد؛ لأنه
يبطل بالبراري ثم لا بد من معرفة حد المصر
الجامع ومعرفة ما هو من توابعه. أما المصر
الجامع فقد اختلفت الأقاويل في تحديده ذكر
الكرخي أن المصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود
ونفذت فيه الأحكام، وعن أبي يوسف روايات ذكر
في الإملاء كل مصر فيه منبر وقاض ينفذ الأحكام
ويقيم الحدود فهو مصر جامع تجب على أهله
الجمعة، وفي رواية قال: إذا اجتمع في قرية من
لا يسعهم مسجد واحد بنى لهم الإمام جامعا ونصب
لهم من يصلي
ج / 1 ص -260-
بهم
الجمعة، وفي رواية لو كان في القرية عشرة آلاف
أو أكثر أمرتهم بإقامة الجمعة فيها، وقال بعض
أصحابنا: المصر الجامع ما يتعيش فيه كل محترف
بحرفته من سنة إلى سنة من غير أن يحتاج إلى
الانتقال إلى حرفة أخرى، وعن أبي عبد الله
البلخي أنه قال: أحسن ما قيل فيه إذا كانوا
بحال لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك
حتى احتاجوا إلى بناء مسجد الجمعة فهذا مصر
تقام فيه الجمعة، وقال سفيان الثوري: المصر
الجامع ما يعده الناس مصرا عند ذكر الأمصار
المطلقة، وسئل أبو القاسم الصفار عن حد المصر
الذي تجوز فيه الجمعة فقال: أن تكون لهم منعة
لو جاءهم عدو قدروا على دفعه فحينئذ جاز أن
يمصر وتمصره أن ينصب فيه حاكم عدل يجري فيه
حكما من الأحكام، وهو أن يتقدم إليه خصمان
فيحكم بينهما. وروي عن أبي حنيفة أنه بلدة
كبيرة فيها سكك وأسواق ولها رساتيق وفيها وال
يقدر على إنصاف المظلوم من الظالم بحشمه وعلمه
أو علم غيره والناس يرجعون إليه في الحوادث
وهو الأصح. وأما تفسير توابع المصر فقد
اختلفوا فيها روي عن أبي يوسف أن المعتبر فيه
سماع النداء إن كان موضعا يسمع فيه النداء من
المصر فهو من توابع المصر وإلا فلا، وقال
الشافعي إذا كان في القرية أقل من أربعين
فعليهم دخول المصر إذا سمعوا النداء وروى ابن
سماعة عن أبي يوسف كل قرية متصلة بربض المصر
فهي من توابعه وإن لم تكن متصلة بالربض فليست
من توابع المصر، وقال بعضهم: ما كان خارجا عن
عمران المصر فليس من توابعه، وقال بعضهم:
المعتبر فيه قدر ميل وهو ثلاثة فراسخ، وقال
بعضهم: إن كان قدر ميل أو ميلين فهو من توابع
المصر وإلا فلا، وبعضهم قدره بستة أميال،
ومالك قدره بثلاثة أميال، وعن أبي يوسف أنها
تجب في ثلاثة فراسخ، وعن الحسن البصري أنها
تجب في أربعة فراسخ، وقال بعضهم: إن أمكنه أن
يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه
الجمعة وإلا فلا وهذا حسن، ويتصل بهذا إقامة
الجمعة في أيام الموسم بمنى. قال أبو حنيفة
وأبو يوسف: تجوز إقامة الجمعة بها إذا كان
المصلي بهم الجمعة هو الخليفة، أو أمير
العراق، أو أمير الحجاز، أو أمير مكة سواء
كانوا مقيمين أو مسافرين، أو رجلا مأذونا من
جهتهم، ولو كان المصلي بهم الجمعة أمير الموسم
وهو الذي أمر بتسوية أمور الحجاج لا غير لا
يجوز سواء كان مقيما أو مسافرا؛ لأنه غير
مأمور بإقامة الجمعة إلا إذا كان مأذونا من
جهة أمير العراق أو أمير مكة، وقيل: إن كان
مقيما يجوز وإن كان مسافرا لا يجوز، والصحيح
هو الأول، وقال محمد لا تجوز الجمعة بمنى
وأجمعوا على أنه لا تجوز الجمعة بعرفات وإن
أقامها أمير العراق أو الخليفة نفسه، وقال بعض
مشايخنا: الخلاف بين أصحابنا في هذا بناء على
أن منى من توابع مكة عندهما، وعند محمد ليس من
توابعها وهذا غير سديد؛ لأن بينهما أربعة
فراسخ وهذا قول بعض الناس في تقدير التوابع
فأما عندنا فبخلافه على ما مر والصحيح أن
الخلاف فيه بناء على أن المصر الجامع شرط
عندنا إلا أن محمدا يقول إن منى ليس بمصر جامع
بل هو قرية فلا تجوز الجمعة بها كما لا تجوز
بعرفات وهما يقولان إنها تتمصر في أيام
الموسم؛ لأن لها بناء وينقل إليها الأسواق
ويحضرها وال يقيم الحدود وينفذ الأحكام فالتحق
بسائر الأمصار بخلاف عرفات فإنها مفازة فلا
تتمصر باجتماع الناس وحضرة السلطان.
وهل تجوز صلاة الجمعة خارج المصر منقطعا عن
العمران أم لا ؟ ذكر في الفتاوى رواية عن أبي
يوسف أن الإمام إذا خرج يوم الجمعة مقدار ميل
أو ميلين فحضرته الصلاة فصلى جاز، وقال بعضهم:
لا تجوز الجمعة خارج المصر منقطعا عن العمران،
وقال بعضهم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز،
وعلى قول محمد لا يجوز، كما اختلفوا في الجمعة
بمنى. وأما إقامة الجمعة في مصر واحد في
موضعين فقد ذكر الكرخي أنه لا بأس بأن يجمعوا
في موضعين أو ثلاثة عند محمد هكذا ذكر وعن أبي
يوسف روايتان في رواية قال: لا يجوز إلا إذا
كان بين موضعي الإقامة نهر عظيم كدجلة أو
نحوها فيصير بمنزلة مصرين، وقيل: إنما تجوز
على قوله إذا كان لا جسر على النهر فأما إذا
كان عليه جسر فلا؛ لأن له حكم مصر واحد وكان
يأمر بقطع الجسر يوم الجمعة حتى ينقطع الفصل،
وفي رواية قال: يجوز في موضعين إذا كان المصر
عظيما ولم يجز في الثلاث وإن كان بينهما نهر
صغير لا يجوز فإن أدوها في موضعين فالجمعة لمن
سبق منهما وعلى الآخرين أن يعيدوا
ج / 1 ص -261-
الظهر،
وإن أدوها معا أو كان لا يدري كيف كان لا تجوز
صلاتهم وروى محمد عن أبي حنيفة أنه يجوز الجمع
في موضعين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، وذكر محمد
في نوادر الصلاة، وقال: لو أن أميرا أمر
إنسانا أن يصلي بالناس الجمعة في المسجد
الجامع وانطلق هو إلى حاجة له ثم دخل المصر في
بعض المساجد وصلى الجمعة قال: تجزئ أهل المصر
الجامع ولا تجزئه إلا أن يكون أعلم الناس بذلك
فيجوز وهذا كجمعة في موضعين، وقال أيضا: لو
خرج الإمام يوم الجمعة للاستسقاء يدعو وخرج
معه ناس كثير وخلف إنسانا يصلي بهم في المسجد
الجامع فلما حضرت الصلاة صلى بهم الجمعة في
الجبانة وهي على قدر غلوة من مصره وصلى خليفته
في المصر في المسجد الجامع قال: تجزئهما جميعا
فهذا يدل على أن الجمعة تجوز في موضعين في
ظاهر الرواية وعليه الاعتماد أنه تجوز في
موضعين، ولا تجوز في أكثر من ذلك فإنه روي عن
علي رضي الله عنه أنه كان يخرج إلى الجبانة في
العيد ويستخلف في المصر من يصلي بضعفة الناس
وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولما جاز
هذا في صلاة العيد فكذا في صلاة الجمعة؛
لأنهما في اختصاصهما بالمصر سيان ولأن الحرج
يندفع عند كثرة الزحام بموضعين غالبا فلا يجوز
أكثر من ذلك، وما روي عن محمد من الإطلاق في
ثلاثة مواضع محمول على موضع الحاجة والضرورة.
وأما السلطان فشرط أداء الجمعة عندنا حتى لا
يجوز إقامتها بدون حضرته أو حضرة نائبه، وقال
الشافعي السلطان ليس بشرط؛ لأن هذه صلاة
مكتوبة فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر
الصلوات، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
شرط الإمام لإلحاق الوعيد بتارك الجمعة بقوله
في ذلك الحديث "وله إمام عادل أو جائر". وروي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع
إلى الولاة وعد من جملتها الجمعة"؛ ولأنه لو
لم يشترط السلطان لأدى إلى الفتنة؛ لأن هذه
صلاة تؤدى بجمع عظيم والتقدم على جميع أهل
المصر يعد من باب الشرف وأسباب العلو والرفعة
فيتسارع إلى ذلك كل من جبل على علو الهمة
والميل إلى الرئاسة فيقع بينهم التجاذب
والتنازع وذلك يؤدي إلى التقاتل والتقالي ففوض
ذلك إلى الوالي ليقوم به أو ينصب من رآه أهلا
له فيمتنع غيره من الناس عن المنازعة لما يرى
من طاعة الوالي أو خوفا من عقوبته؛ ولأنه لو
لم يفوض إلى السلطان لا يخلو إما أن تؤدي كل
طائفة حضرت الجامع فيؤدي إلى تفويت فائدة
الجمعة وهي اجتماع الناس لإحراز الفضيلة على
الكمال، وإما أن لا تؤدى إلا مرة واحدة فكانت
الجمعة للأولين وتفوت عن الباقين فاقتضت
الحكمة أن تكون إقامتها متوجهة إلى السلطان
ليقيمها بنفسه أو بنائبه عند حضور عامة أهل
البلدة مع مراعاة الوقت المستحب والله أعلم،
هذا إذا كان السلطان أو نائبه حاضرا.
فأما إذا لم يكن إماما بسبب الفتنة أو بسبب
الموت ولم يحضر وال آخر بعد حتى حضرت الجمعة
ذكر الكرخي أنه لا بأس أن يجمع الناس على رجل
حتى يصلي بهم الجمعة، وهكذا روي عن محمد ذكره
في العيون؛ لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه
لما حوصر قدم الناس عليا رضي الله عنه فصلى
بهم الجمعة. وروي في العيون عن أبي حنيفة في
والي مصر مات ولم يبلغ الخليفة موته حتى حضرت
الجمعة فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب الشرط
أو القاضي أجزأهم، وإن قدم العامة رجلا لم
يجز؛ لأن هؤلاء قائمون مقام الأول في الصلاة
حال حياته فكذا بعد وفاته ما لم يفوض الخليفة
الولاية إلى غيره.
وذكر في نوادر الصلاة أن السلطان إذا كان يخطب
فجاء سلطان آخر إن أمره أن يتم الخطبة يجوز
ويكون ذلك القدر خطبة ويجوز له أن يصلي بهم
الجمعة؛ لأنه خطب بأمره فصار نائبا عنه وإن لم
يأمره بالإتمام ولكنه سكت حتى أتم الأول خطبته
فأراد الثاني أن يصلي بتلك الخطبة لا تجوز
الجمعة، وله أن يصلي الظهر؛ لأن سكوته محتمل
يحتمل أن يكون أمرا ويحتمل أن لا يكون أمرا
فلا يعتبر مع الاحتمال، وكذلك إذا حضر الثاني
وقد فرغ الأول من خطبته فصلى الثاني بتلك
الخطبة لا يجوز؛ لأنها خطبة إمام معزول ولم
توجد الخطبة من الثاني والخطبة شرط هذا كله
إذا علم الأول بحضور الثاني وإن لم يعلم فخطب
وصلى والثاني ساكت يجوز؛ لأنه يصير معزولا إلا
بالعلم كالوكيل إلا إذا كتب إليه كتاب العزل
أو أرسل إليه رسولا فصار معزولا.
وأما العبد إذا كان سلطانا فجمع بالناس أو أمر
غيره جاز، وكذا إذا كان حرا مسافرا وهذا قول
أصحابنا الثلاثة، وقال زفر شرط صحة الجمعة هو
الإمام الذي هو حر مقيم
ج / 1 ص -262-
حتى
إذا كان عبدا أو مسافرا لا تصح منه إقامة
الجمعة وجه قول زفر أنه لا جمعة على العبد
والمسافر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أربعة لا جمعة عليهم المسافر والمريض والعبد
والمرأة" فلو جمع بالناس كان متطوعا في أداء الجمعة، واقتداء المفترض
بالمتنفل لا يجوز ولنا ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه: "صلى الجمعة بالناس عام
فتح مكة وكان مسافرا حتى قال لهم في صلاة
الظهر بعد ما صلى ركعتين وسلم: أتموا صلاتكم
يا أهل مكة فإنا قوم سفر"، وعن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "أطيعوا السلطان ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع" ولو لم يصلح إماما لم تفترض طاعته؛ ولأنهما من أهل الوجوب إلا أنه
رخص لهما التخلف عنها والاشتغال بتسوية أسباب
السفر وخدمة المولى نظرا فإذا حضر الجامع لم
يسلك طريقة الترخص واختار العزيمة فيعود حكم
العزيمة ويلتحق بالأحرار المقيمين كالمسافر
إذا صام رمضان فيصح الاقتداء به، وبه تبين أن
هذا اقتداء المفترض بالمفترض فيصح.
وأما المرأة والصبي العاقل فلا يصح منهما
إقامة الجمعة؛ لأنهما لا يصلحان للإمامة في
سائر الصلوات ففي الجمعة أولى إلا أن المرأة
إذا كانت سلطانا فأمرت رجلا صالحا للإمامة حتى
صلى بهم الجمعة جاز؛ لأن المرأة تصلح سلطانا
أو قاضيا في الجملة فتصح إمامتها.
وأما الخطبة فالكلام في الخطبة في مواضع، في
بيان كونها شرطا لجواز الجمعة، وفي بيان وقت
الخطبة، وفي بيان كيفية الخطبة ومقدارها، وفي
بيان ما هو المسنون في الخطبة، وفي بيان
محظورات الخطبة. أما الأول فالدليل على كونها
شرطا قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والخطبة ذكر الله فتدخل في الأمر بالسعي لها من حيث هي ذكر الله أو
المراد من الذكر الخطبة وقد أمر بالسعي إلى
الخطبة فدل على وجوبها وكونها شرطا لانعقاد
الجمعة، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما
قالا: إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبة أخبرا أن
شطر الصلاة سقط لأجل الخطبة وشطر الصلاة كان
فرضا فلا يسقط إلا لتحصيل ما هو فرض ولأن ترك
الظهر بالجمعة عرف بالنص والنص ورد بهذه
الهيئة وهي وجوب الخطبة، ثم هي وإن كانت قائمة
مقام ركعتين شرط وليست بركن؛ لأن صلاة الجمعة
لا تقام بالخطبة فلم تكن من أركانها.
وأما وقت الخطبة فوقت الجمعة وهو وقت الظهر
لكن قبل صلاة الجمعة لما ذكرنا أنها شرط
الجمعة وشرط الشيء يكون سابقا عليه وهكذا
فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقت
الخطبة بعرفة قبل الصلاة أيضا لكنها سنت
لتعليم المناسك. وأما الخطبة في العيدين
فوقتها بعد الصلاة وهي سنة لما نذكر إن شاء
الله تعالى:.
وأما كيفية الخطبة ومقدارها فقد قال أبو
حنيفة: إن الشرط أن يذكر الله تعالى: على قصد
الخطبة، كذا نقل عنه في الأمالي مفسرا قل
الذكر أم كثر حتى لو سبح أو هلل أو حمد الله
تعالى: على قصد الخطبة أجزأه، وقال أبو يوسف
ومحمد: الشرط أن يأتي بكلام يسمى خطبة في
العرف، وقال الشافعي: الشرط أن يأتي بخطبتين
بينهما جلسة؛ لأن الله تعالى: قال
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ}
وهذا ذكر مجمل ففسره النبي صلى الله عليه وسلم
بفعله، وتبين أن الله تعالى: أمر بخطبتين
ولهما أن المشروط هو الخطبة والخطبة في
المتعارف اسم لما يشتمل على تحميد الله
والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه
وسلم والدعاء للمسلمين والوعظ والتذكير لهم
فينصرف المطلق إلى المتعارف، ولأبي حنيفة
طريقان: أحدهما أن الواجب هو مطلق ذكر الله
لقوله
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
وذكر الله تعالى: معلوم لا جهالة فيه فلم يكن
محملا؛ لأنه تطاوع العمل من غير بيان يقترن به
فتقييده بذكر يسمى خطبة أو بذكر طويل لا يجوز
إلا بدليل، والثاني أن يقيد ذكر الله تعالى:
بما يسمى خطبة لكن اسم الخطبة في حقيقة اللغة
يقع على ما قلنا فإنه روي عن عثمان رضي الله
عنه أنه لما استخلف خطب في أول جمعة فلما قال
الحمد لله ارتج عليه فقال: أنتم إلى إمام فعال
أحوج منكم إلى إمام قوال وإن أبا بكر وعمر
كانا يعدان لهذا المكان مقالا وستأتيكم الخطب
من بعد وأستغفر الله لي ولكم ونزل وصلى بهم
الجمعة، وكان ذلك بمحضر من المهاجرين والأنصار
وصلوا خلفه وما أنكروا عليه صنيعه مع أنهم
كانوا موصوفين بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر فكان هذا إجماعا من الصحابة رضي الله
عنهم على أن الشرط هو مطلق ذكر الله تعالى:
ومطلق ذكر الله تعالى: مما ينطلق عليه اسم
الخطبة لغة وإن كان لا ينطلق عليه عرفا، وتبين
بهذا أن الواجب هو الذكر لغة وعرفا وقد وجد أو
ذكر هو خطبة لغة وإن لم يسم خطبة في العرف وقد
أتي به وهذا؛ لأن العرف إنما يعتبر في
ج / 1 ص -263-
معاملات الناس فيكون دلالة على غرضهم. وأما في
أمر بين العبد وبين ربه فيعتبر فيه حقيقة
اللفظ لغة وقد وجد، على أن هذا القدر من
الكلام يسمى خطبة في المتعارف. ألا ترى إلى ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"للذي قال من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن
عصاهما فقد غوى:
"بئس
الخطيب أنت" سماه خطيبا بهذا القدر من الكلام.
وأما سنن الخطبة فمنها أن يخطب خطبتين على ما
روي عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال:
ينبغي أن يخطب خطبة خفيفة يفتتح فيها بحمد
الله تعالى: ويثني عليه ويتشهد ويصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم ويعظ ويذكر ويقرأ
سورة ثم يجلس جلسة خفيفة، ثم يقوم فيخطب خطبة
أخرى يحمد الله تعالى: ويثني عليه ويصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين
والمؤمنات ويكون قدر الخطبة قدر سورة من طوال
المفصل لما روي عن جابر بن سمرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "كان يخطب خطبتين قائما
يجلس فيما بينهما جلسة خفيفة ويتلو آيات من
القرآن"، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن
الفضل البخاري يستحب أن يقرأ الخطيب في خطبته
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً}، ثم القعدة بين الخطبتين سنة عندنا وكذا القراءة في الخطبة، وعند
الشافعي شرط والصحيح مذهبنا؛ لأن الله تعالى:
أمر بالذكر مطلقا عن قيد القعدة والقراءة فلا
تجعل شرطا بخبر الواحد؛ لأنه يصير ناسخا لحكم
الكتاب وأنه لا يصلح ناسخا له ولكن يصلح مكملا
له، فقلنا إن قدر ما ثبت بالكتاب يكون فرضا
وما ثبت بخبر الواحد يكون سنة عملا بهما بقدر
الإمكان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان
يخطب خطبة واحدة فلما ثقل أي أسن جعلها خطبتين
وقعد بينهما فهذا دليل على أن القعدة
للاستراحة لا أنه شرط لازم، ومنها الطهارة في
حالة الخطبة فهي سنة عندنا وليست بشرط حتى إن
الإمام إذا خطب وهو جنب أو محدث فإنه يعتبر
شرطا لجواز الجمعة، وعند أبي يوسف لا يجوز وهو
قول الشافعي؛ لأن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة
لما ذكرنا من الأثر ولهذا لا تجوز في غير وقت
الصلاة فيشترط لها الطهارة كما تشترط للصلاة،
ولنا أنه ليس في ظاهر الرواية شرط الطهارة؛
ولأنها من باب الذكر والمحدث والجنب لا يمنعان
من ذكر الله تعالى:، والاعتبار بالصلاة غير
سديد. ألا ترى أنها تؤدى مستدبر القبلة ولا
يفسدها الكلام بخلاف الصلاة، ثم لم يذكر إعادة
الخطبة ههنا، وذكر في أذان الجنب أنه يعاد،
والفرق أن الأذان إن تحلى بحلية الصلاة، وهي
استقبال القبلة بخلاف الخطبة فكان الخلل
المتمكن في الأذان أشد، وكثير النقص مستحق
الرفع دون قليله، كما يجبر نقص ترك الواجب
بسجدتي السهو دون ترك السنن، ويحتمل أن تكون
الإعادة مستحبة في الموضعين كذا ذكر في نوادر
أبي يوسف أنه يعيدها وإن لم يعدها جاز؛ لأنه
ليس من شرطها استقبال القبلة هكذا ذكر أشار
إلى أنها ليست نظير الصلاة فلا تشترط لها
الطهارة إلا أنها سنة؛ لأن السنة هي الوصل بين
الخطبة والصلاة ولا يتمكن من إقامة هذه السنة
إلا بالطهارة، ومنها أن يخطب قائما فالقيام
سنة وليس بشرط حتى لو خطب قاعدا يجوز عندنا
لظاهر النص، وكذا روي عن عثمان أنه كان يخطب
قاعدا حين كبر وأسن ولم ينكر عليه أحد من
الصحابة إلا أنه مسنون في حال الاختيار؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما.
وروي أن "رجلا سأل ابن مسعود رضي الله عنه
أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما
أو قاعدا فقال: ألست تقرأ قوله تعالى:
{وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ومنها
أن يستقبل القوم بوجهه ويستدبر القبلة؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يخطب، وكذا
السنة في حق القوم أن يستقبلوه بوجوههم؛ لأن
الإسماع والاستماع واجب للخطبة وذا لا يتكامل
إلا بالمقابلة. وروي عن أبي حنيفة أنه كان لا
يستقبل الإمام بوجهه حتى يفرغ المؤذن من
الأذان فإذا أخذ الإمام في الخطبة انحرف بوجهه
إليه، ومنها أن لا يطول الخطبة؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر بتقصير الخطب، وعن عمر رضي
الله عنه أنه قال: طولوا الصلاة وقصروا
الخطبة، وقال: ابن مسعود طول الصلاة وقصر
الخطبة من فقه الرجل أي أن هذا مما يستدل به
على فقه الرجل.
وأما محظورات الخطبة فمنها أنه يكره الكلام
حالة الخطبة، وكذا قراءة القرآن، وكذا
الصلاة،. وقال الشافعي: إذا دخل الجامع
والإمام في الخطبة ينبغي أن يصلي ركعتين
خفيفتين تحية المسجد احتج الشافعي بما روي عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: "دخل
سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي صلى الله
عليه وسلم يخطب فقال له
ج / 1 ص -264-
أصليت
؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين" فقد أمره بتحية
المسجد حالة الخطبة ولنا قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والصلاة تفوت الاستماع والإنصات فلا يجوز ترك الفرض لإقامة السنة
والحديث منسوخ كان ذلك قبل وجود الاستماع
ونزول قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} دل عليه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم "أمر سليكا أن يركع ركعتين ثم نهى الناس
أن يصلوا والإمام يخطب" فصار منسوخا أو كان
سليك مخصوصا بذلك والله أعلم وكذا كل ما شغل
عن سماع الخطبة من التسبيح والتهليل والكتابة
ونحوها بل يجب عليه أن يستمع ويسكت وأصله قوله
تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قيل نزلت الآية في شأن الخطبة أمر بالاستماع والإنصات ومطلق الأمر
للوجوب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"من قال لصاحبه والإمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا فلا صلاة له" ثم ما
ذكرنا من وجوب الاستماع والسكوت في حق القريب
من الخطيب فأما البعيد منه إذا لم يسمع الخطبة
كيف يصنع اختلف المشايخ فيه قال محمد بن سلمة
البلخي: الإنصات له أولى من قراءة القرآن،
وهكذا روى المعلى عن أبي يوسف وهو اختيار
الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري،
ووجهه ما روي عن عمر وعثمان أنهما قالا: إن
أجر المنصت الذي لا يسمع مثل أجر المنصت
السامع؛ ولأنه في حال قربه من الإمام كان
مأمورا بشيئين الاستماع والإنصات، وبالبعد إن
عجز عن الاستماع لم يعجز عن الإنصات فيجب
عليه، وعن نصير بن يحيى أنه أجاز له قراءة
القرآن سرا، وكان الحكم بن زهير من أصحابنا
ينظر في كتب الفقه، ووجهه أن الاستماع
والإنصات إنما وجب عند القرب ليشتركوا في
ثمرات الخطبة بالتأمل والتفكر فيها، وهذا لا
يتحقق من البعيد عن الإمام فليحرز لنفسه ثواب
قراءة القرآن ودراسة كتب العلم ولأن الإنصات
لم يكن مقصودا بل ليتوصل به إلى الاستماع فإذا
سقط عنه فرض الاستماع سقط عنه الإنصات أيضا
والله أعلم ويكره تشميت العاطس ورد السلام
عندنا، وعند الشافعي لا يكره وهو رواية عن أبي
يوسف؛ لأن رد السلام فرض، ولنا أنه ترك
الاستماع المفروض والإنصات، وتشميت العاطس ليس
بفرض فلا يجوز ترك الفرض لأجله، وكذا رد
السلام في هذه الحالة ليس بفرض؛ لأنه يرتكب
بسلامه مأثما فلا يجب الرد عليه كما في حالة
الصلاة ولأن السلام في حالة الخطبة لم يقع
تحية فلا يستحق الرد؛ ولأن رد السلام مما يمكن
تحصيله في كل حالة، أما سماع الخطبة لا يتصور
إلا في هذه الحالة فكان إقامته أحق، ونظيره ما
قال أصحابنا: إن الطواف تطوعا بمكة في حق
الآفاقي أفضل من صلاة التطوع، والصلاة في حق
المكي أفضل من الطواف لما قلنا وعلى هذا قال
أبو حنيفة: إن سماع الخطبة أفضل من الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يستمع ولا
يصلي عليه عند سماع اسمه في الخطبة لما أن
إحراز فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم مما يمكن في كل وقت وإحراز ثواب سماع
الخطبة يختص بهذه الحالة فكان السماع أفضل.
وروي عن أبي يوسف أنه ينبغي أن يصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم في نفسه عند سماع اسمه لأن
ذلك مما لا يشغله عن سماع الخطبة فكان إحراز
الفضيلتين أحق. وأما العاطس فهل يحمد الله
تعالى: فالصحيح أنه يقول ذلك في نفسه؛ لأن ذلك
مما لا يشغله عن سماع الخطبة وكذا السلام حالة
الخطبة مكروه لما قلنا هذا الذي ذكرنا في حالة
الخطبة، فأما عند الأذان الأخير حين خرج
الإمام إلى الخطبة وبعد الفراغ من الخطبة حين
أخذ المؤذن في الإقامة إلى أن يفرغ هل يكره ما
يكره في حال الخطبة ؟ على قول أبي حنيفة يكره،
وعلى قولهما لا يكره الكلام وتكره الصلاة
واحتجا بما روي في الحديث خروج الإمام يقطع
الصلاة وكلامه يقطع الكلام جعل القاطع للكلام
هو الخطبة فلا يكره قبل وجودها، ولأن النهي عن
الكلام لوجوب استماع الخطبة، وإنما يجب حالة
الخطبة بخلاف الصلاة؛ لأنها تمتد غالبا فيفوت
الاستماع وتكبيرة الافتتاح ولأبي حنيفة ما روي
عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما موقوفا
عليهما ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس
الأول فالأول فإذا خرج الإمام طووا الصحف
وجاءوا يستمعون الذكر" فقد
ج / 1 ص -265-
أخبر
عن طي الصحف عند خروج الإمام وإنما يطوون
الصحف إذا طوى الناس الكلام؛ لأنهم إذا تكلموا
يكتبونه عليهم لقوله تعالى:
{مَا
يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ} ولأنه إذا خرج للخطبة كان مستعدا لها والمستعد للشيء كالشارع فيه
ولهذا ألحق الاستعداد بالشروع في كراهة الصلاة
فكذا في كراهة الكلام. وأما الحديث فليس فيه
أن غير الكلام يقطع الكلام فكان تمسكا بالسكوت
وأنه لا يصح ويكره للخطيب أن يتكلم في حالة
الخطبة ولو فعل لا تفسد الخطبة؛ لأنها ليست
بصلاة فلا يفسدها كلام الناس لكنه يكره؛ لأنها
شرعت منظومة كالآذان والكلام يقطع النظم إلا
إذا كان الكلام أمرا بالمعروف فلا يكره؛ لما
روي عن عمر أنه كان يخطب يوم الجمعة فدخل عليه
عثمان فقال له أية ساعة هذه ؟ فقال: ما زدت
حين سمعت النداء يا أمير المؤمنين على أن
توضأت فقال: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال وهذا؛
لأن الأمر بالمعروف يلتحق بالخطبة؛ لأن الخطبة
فيها وعظ فلم يبق مكروها.
ولو أحدث الإمام بعد الخطبة قبل الشروع في
الصلاة فقدم رجلا يصلي بالناس إن كان ممن شهد
الخطبة أو شيئا منها جاز، وإن لم يشهد شيئا من
الخطبة لم يجز ويصلي بهم الظهر أما إذا شهد
الخطبة فلأن الثاني قام مقام الأول والأول
يقيم الجمعة فكذا الثاني وكذا إذا شهد شيئا
منها؛ لأن ذلك القدر لو وجد وحده وقع معتدا به
فكذا إذا وجد مع غيره، ويستوي الجواب بين ما
إذا كان الإمام مأذونا في الاستخلاف أو لم يكن
بخلاف القاضي فإنه لا يملك الاستخلاف إذا لم
يكن مأذونا فيه، والفرق أن الجمعة مؤقتة تفوت
بتأخيرها عند العذر إذا لم يستخلف فالأمر
بإقامتها مع علم الوالي أنه قد يعرض له عارض
يمنعه من الإقامة يكون إذنا بالاستخلاف دلالة
بخلاف القاضي؛ لأن القضاء غير مؤقت لا يفوت
بتأخيره عند العذر فانعدم الإذن نصا ودلالة
فهو الفرق. وأما إذا لم يشهد الخطبة فلأنه
منشئ للجمعة وليس بيان تحريمته على تحريمة
الإمام والخطبة شرط إنشاء الجمعة ولم توجد،
ولو شرع الإمام في الصلاة ثم أحدث فقدم رجلا
جاء ساعتئذ أي لم يشهد الخطبة جاز وصلى بهم
الجمعة؛ لأن تحريمة الأول انعقدت للجمعة لوجود
شرطها وهو الخطبة، والثاني بنى تحريمته على
تحريمة الإمام، والخطبة شرط انعقاد الجمعة في
حق من ينشئ التحريمة في الجمعة لا في حق من
يبني تحريمته على تحريمة غيره بدليل أن
المقتدي بالإمام تصح جمعته وإن لم يدرك الخطبة
لهذا المعنى فكذا هذا.
,ولو تكلم الخليفة بعد ما شرع الإمام في
الصلاة فإنه يستقبل بهم الجمعة إن كان ممن شهد
الخطبة وإن كان لم يشهد الخطبة فالقياس أن
يصلي بهم الظهر وفي الاستحسان يصلي بهم
الجمعة. وجه القياس ظاهر؛ لأنه ينشئ التحريمة
في الجمعة، والخطبة شرط انعقاد الجمعة في حق
المنشئ لتحريمة الجمعة. وجه الاستحسان أنه لما
قام مقام الأول التحق به حكما ولو تكلم الأول
استقبل بهم الجمعة فكذا الثاني.
وذكر الحاكم في المختصر أن الإمام إذا أحدث
وقدم رجلا لم يشهد الخطبة فأحدث قبل الشروع لم
يجز. ولو قدم هذا الرجل محدثا آخر قد شهد
الخطبة لم يجز؛ لأنه ليس من أهل إقامة الجمعة
بنفسه فلا يجوز منه الاستخلاف، وبمثله لو قدم
جنبا قد شهد الخطبة فقدم هذا الجنب رجلا طاهرا
قد شهد الخطبة جاز؛ لأن الجنب الذي شهد الخطبة
من أهل الإقامة بواسطة الاغتسال فيصح منه
الاستخلاف. ولو كان المقدم صبيا أو معتوها أو
امرأة أو كافرا فقدم غيره ممن شهد الخطبة لم
يجز تقديمه بخلاف الجنب، والفرق أن الجنب أهل
لأداء الجمعة؛ لأنه قادر على اكتساب أهلية
الأداء بإزالة الجنابة والحدث عن نفسه فكان
هذا استخلافا لمن له قدرة القيام بما استخلف
عليه فصح كما في سائر المواضع التي يستخلف
فيها، فإذا قدم هو غيره صح؛ لأنه استخلفه بعد
ما صار خليفة فكان له ولاية الاستخلاف بخلاف
الصبي والمعتوه والمرأة فإن الصبي والمعتوه
ليسا من أهل أداء الجمعة والمرأة ليست من أهل
إمامة الرجال ولا قدرة لهم على اكتساب شرط
الأهلية فلم يصح استخلافهم إذ الاستخلاف شرع
إبقاء للصلاة على الصحة، واستخلاف من لا قدرة
له على اكتساب الأهلية غير مفيد فلم يصح، وإذا
لم يصح استخلافهم كيف يصح منهم استخلاف ذلك
الغير فإذا تقدم ذلك الغير فكأنه تقدم بنفسه
لالتحاق تقدمهم بالعدم شرعا. ولو تقدم بنفسه
في هذه الصلاة لا يجوز بخلاف سائر الصلوات حيث
لا يحتاج فيها إلى التقديم، والفرق أن إقامة
الجمعة متعلقة بالإمام
ج / 1 ص -266-
والمتقدم ليس بمأمور من جهة السلطان أو نائبه
فلم يجز تقدمه، فأما سائر الصلوات فإقامتها
غير متعلقة بالإمام، وبخلاف ما إذا استخلف
الكافر مسلما فأدى الجمعة لا يجوز وإن كان
الكافر قادرا على اكتساب الأهلية بالإسلام؛
لأن هذا من أمور الدين وهو يعتمد ولاية
السلطنة ولا يجوز أن يثبت للكافر ولاية
السلطنة على المسلمين فلم يصح استخلافه بخلاف
المحدث والجنب والله أعلم.
قدم مسافرا أو عبدا أو مكاتبا وصلى بهم الجمعة
جاز عندنا خلافا لزفر؛ لأن هؤلاء من أهل إقامة
الجمعة على ما بينا هذا إذا قدم الإمام أحدا
فإن لم يقدم وتقدم صاحب الشرط أو القاضي جاز؛
لأن هذا من أمور العامة وقد قلدهما الإمام ما
هو من أمور العامة فنزلا منزلة الإمام، ولأن
الحاجة إلى الإمام لدفع التنازع في التقدم وذا
يحصل بتقدمهما لوجود دليل اختصاصهما من بين
سائر الناس وهو كون كل واحد منهما نائبا
للسلطان وعاملا من عماله، وكذا لو قدم أحدهما
رجلا قد شهد الخطبة جاز؛ لأنه ثبت لكل واحد
منهما ولاية التقدم على ما مر فتثبت ولاية
التقديم؛ لأن كل من يملك إقامة الصلاة يملك
إقامة غيره مقامه.
وأما الجماعة فالكلام في الجماعة في مواضع، في
بيان كونها شرطا للجمعة، وفي بيان كيفية هذا
الشرط، وفي بيان مقداره، وفي بيان صفة القوم
الذين تنعقد بهم الجمعة. أما الأول فالدليل
على أنها شرط أن هذه الصلاة تسمى جمعة فلا بد
من لزوم معنى الجمعة فيه اعتبارا للمعنى الذي
أخذ اللفظ منه من حيث اللغة كما في الصرف
والسلم والرهن ونحو ذلك؛ ولأن ترك الظهر ثبت
بهذه الشريطة على ما مر ولهذا لم يؤد رسول
الله صلى الله عليه وسلم الجمعة إلا بجماعة
وعليه إجماع العلماء. وأما بيان كيفية هذا
الشرط فنقول: لا خلاف في أن الجماعة شرط
لانعقاد الجمعة حتى لا تنعقد الجمعة بدونها
حتى إن الإمام إذا فرغ من الخطبة ثم نفر الناس
عنه إلا واحدا يصلي بهم في الظهر دون الجمعة،
وكذا لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب الإمام
وحده ثم حضروا فصلى بهم الجمعة لا يجوز؛ لأن
الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشروع
في الصلاة فهي شرط حال سماع الخطبة؛ لأن
الخطبة بمنزلة شفع من الصلاة، قالت عائشة رضي
الله عنها إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة
فتشترط الجماعة حال سماعها كما تشترط حال
الشروع في الصلاة، واختلفوا في أنها هل هي شرط
بقائها منعقدة إلى آخر الصلاة ؟ قال أصحابنا
الثلاثة: إنها ليست بشرط، وقال زفر: إنها شرط
للانعقاد والبقاء جميعا فيشترط دوامها من أول
الصلاة إلى آخرها كالطهارة وستر العورة
واستقبال القبلة ونحوها، حتى إنهم لو نفروا
بعد ما قيد الركعة بالسجدة له أن يتم الجمعة
عندنا، وعند زفر إذا نفروا قبل أن يقعد الإمام
قدر التشهد فسدت الجمعة وعليه أن يستقبل
الظهر. وجه قوله أن الجماعة شرط لهذه الصلاة
فكانت شرط الانعقاد والبقاء كسائر الشروط من
الوقت وستر العورة واستقبال القبلة وهذا؛ لأن
الأصل فيما جعل شرطا للعبادة أن يكون شرطا
لجميع أجزائها لتساوي أجزاء العبادة إلا إذا
كان شرطا لا يمكن قرانه لجميع الأجزاء لتعذر
ذلك أو لما فيه من الحرج كالنية فتجعل شرطا
لانعقادها وهنا لا حرج في اشتراط دوام الجماعة
إلى آخر الصلاة في حق الإمام؛ لأن فوات هذا
الشرط قبل تمام الصلاة في غاية الندرة فكان
شرط الأداء كما هو شرط الانعقاد، ولهذا شرط
أبو حنيفة دوام هذا الشرط ركعة كاملة وذا لا
يشترط في شرط الانعقاد بخلاف المقتدي؛ لأن
استدامة هذا الشرط في حق المقتدي يوقعه في
الحرج؛ لأنه كثيرا ما يسبق بركعة أو ركعتين
فجعل في حقه شرط الانعقاد لا غير وجه قول
أصحابنا الثلاثة أن المعنى يقتضي أن لا تكون
الجماعة شرطا أصلا لا شرط الانعقاد ولا شرط
البقاء؛ لأن الأصل أن يكون شرط العبادة شيئا
يدخل تحت قدرة المكلف تحصيله ليكون التكليف
بقدر الوسع إلا إذا كان شرطا هو كائن لا محالة
كالوقت؛ لأنه إذا لم يكن كائنا لا محالة لم
يكن للمكلف بد من تحصيله ليتمكن من الأداء،
ولا ولاية لكل مكلف على غيره فلم يكن قادرا
على تحصيل شرط الجماعة فكان ينبغي أن لا تكون
الجماعة شرطا أصلا إلا أنا جعلناها شرطا
بالشرع فتجعل شرطا بقدر ما يحصل قبول حكم
الشرع وذلك يحصل بجعله شرط الانعقاد فلا حاجة
إلى جعله شرط البقاء وصار كالنية بل أولى؛ لأن
في وسع المكلف تحصيل النية لكن لما كان في
استدامتها حرج جعل شرط الانعقاد دون البقاء
دفعا للحرج فالشرط الذي لا يدخل تحت ولاية
العباد أصلا أولى أن لا يجعل شرطا لبقاء
ج / 1 ص -267-
فجعل
شرط الانعقاد ولهذا كان من شرائط الانعقاد دون
البقاء في حق المقتدي بالإجماع فكذا في حق
الإمام ثم اختلف أصحابنا الثلاثة فيما بينهم
فقال أبو حنيفة: إن الجماعة في حق الإمام شرط
انعقاد الأداء لا شرط انعقاد التحريمة، وقال
أبو يوسف ومحمد: إنها شرط انعقاد التحريمة حتى
إنهم لو نفروا بعد التحريمة قبل تقييد الركعة
بسجدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر عنده كما قال
زفر وعندهما يتم الجمعة. وجه قولهما أن
الجماعة شرط انعقاد التحريمة في حق المقتدي
فكذا في حق الإمام والجامع أن تحريمة الجمعة
إذا صحت صح بناء الجمعة عليها ولهذا لو أدركه
إنسان في التشهد صلى الجمعة ركعتين عنده وهو
قول أبي يوسف إلا أن محمدا ترك القياس هناك
بالنص لما يذكر، ولأبي حنيفة أن الجماعة في حق
الإمام لو جعلت شرط انعقاد التحريمة لأدى إلى
الحرج؛ لأن تحريمته حينئذ لا تنعقد بدون
مشاركة الجماعة إياه فيها، وذا لا يحصل إلا
وأن تقع تكبيراتهم مقارنة لتكبيرة الإمام،
وأنه مما يتعذر مراعاته، وبالإجماع ليس بشرط
فإنهم لو كانوا حضورا وكبر الإمام ثم كبروا صح
تكبيره وصار شارعا في الصلاة وصحت مشاركتهم
إياه فلم تجعل شرط انعقاد التحريمة لعدم
الإمكان فجعلت شرط انعقاد الأداء بخلاف القوم
فإنه أمكن أن تجعل في حقهم شرط انعقاد
التحريمة؛ لأنه تحصل مشاركتهم إياه في
التحريمة لا محالة وإن سبقهم الإمام بالتكبير،
وإن ثبت أن الجماعة في حق الإمام شرط انعقاد
الأداء لا شرط انعقاد التحريمة، فانعقاد
الأداء بتقييد الركعة بسجدة؛ لأن الأداء فعل
والحاجة إلى كون الفعل أداء للصلاة، وفعل
الصلاة هو القيام والقراءة والركوع والسجود،
ولهذا لو حلف لا يصلي فما لم يقيد الركعة
بالسجدة لا يحنث، فإذا لم يقيد الركعة بالسجدة
لم يوجد الأداء فلم تنعقد فشرط دوام مشاركة
الجماعة الإمام إلى الفراغ عن الأداء. ولو
افتتح الجمعة وخلفه قوم ونفروا منه وبقي
الإمام وحده فسدت صلاته ويستقبل الظهر؛ لأن
الجماعة شرط انعقاد الجمعة ولم توجد، ولو جاء
قوم آخرون فوقفوا خلفه ثم نفر الأولون فإن
الإمام يمضي على صلاته لوجود الشرط هذا الذي
ذكرنا اشتراط المشاركة في حق الإمام.
وأما المشاركة في حق المقتدي فنقول لا خلاف في
أنه لا تشترط المشاركة في جميع الصلاة، ثم
اختلفوا بعد ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
المشاركة في التحريمة كافية، وعن محمد روايتان
في رواية لا بد من المشاركة في ركعة واحدة وفي
رواية المشاركة في ركن منها كافية وهو قول زفر
حتى أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الجمعة إن
أدركه في الركعة الأولى أو الثانية أو كان في
ركوعها يصير مدركا للجمعة بلا خلاف. وأما إذا
أدركه في سجود الركعة الثانية أو في التشهد
كان مدركا للجمعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف
لوجود المشاركة في التحريمة، وعند محمد لا
يصير مدركا في رواية لعدم المشاركة في ركعة،
وفي رواية يصير مدركا لوجود المشاركة في بعض
أركان الصلاة، وهو قول زفر. وأما إذا أدركه
بعدما قعد قدر التشهد قبل السلام أو بعد ما
سلم وعليه سجدة السهو وعاد إليهما فعند أبي
حنيفة وأبي يوسف يكون مدركا للجمعة لوقوع
المشاركة في التحريمة، وعند زفر لا يكون مدركا
لعدم المشاركة في شيء من أركان الصلاة ويصلي
أربعا ولا تكون الأربع عند محمد ظهرا محضا،
حتى قال: يقرأ في الأربع كلها، وعنه في افتراض
القعدة الأولى روايتان في رواية الطحاوي عنه
فرض، وفي رواية المعلى عنه ليست بفرض فكأن
محمدا رحمه الله سلك طريقة الاحتياط لتعارض
الأدلة عليه فأوجب ما يخرجه عن الفرض بيقين،
جمعة كان الفرض أو ظهرا، وقيل على قول الشافعي
الأربع ظهر محض حتى لو ترك القعدة الأولى لا
يوجب فساد الصلاة، واحتجوا في المسألة بما روي
عن الزهري بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"من أدرك ركعة
من الجمعة فقد أدركها وليضف إليها أخرى وإن
أدركهم جلوسا صلى أربعا" وفي بعض الروايات صلى الظهر أربعا، وهذا نص في الباب؛ ولأن إقامة
الجمعة مقام الظهر عرف بنص الشرع بشرائط
الجمعة، منها الجمعة والسلطان ولم توجد في حق
المقتدي فكان ينبغي أن يقضي كل مسبوق أربع
ركعات إلا أن مدرك الركعة يقضي ركعة بالنص ولا
نص في المتنازع فيه، ثم مع هذه الأدلة يسلك
محمد رحمه الله تعالى: مسلك الاحتياط لتعارض
الأدلة. واحتج أبو حنيفة وأبو يوسف بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما
أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" أمر
المسبوق بقضاء ما فاته وإنما فاتته صلاة
الإمام وهي ركعتان والحديث في حد الشهرة وروى
أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"من أدرك الإمام في التشهد يوم الجمعة فقد
ج / 1 ص -268-
أدرك
الجمعة" ولأن سبب اللزوم هو التحريمة وقد شارك الإمام في التحريمة وبنى
تحريمته على تحريمة الإمام فيلزمه ما لزم
الإمام كما في سائر الصلوات، وتعلقهم بحديث
الزهري غير صحيح فإن الثقات من أصحاب الزهري
كمعمر والأوزاعي ومالك رووا أنه قال: من أدرك
ركعة من صلاة فقد أدركها، فأما ذكر الجمعة
فهذه الزيادة أو من أدركهم جلوسا صلى أربعا
رواه ضعفاء أصحابه هكذا قال الحاكم الشهيد
ولئن ثبتت الزيادة فتأويلها وإن أدركهم جلوسا
قد سلموا عملا بالدليلين بقدر الإمكان وما
ذكروا من المعنى يبطل بما إذا أدرك ركعة،
وقولهم هناك يقضي ركعة بالنص قلنا وههنا أيضا
يقضي ركعتين بالنص الذي روينا، وما ذكروا من
الاحتياط غير سديد؛ لأن الأربع إن كانت ظهرا
فلا يمكن بناؤها على تحريمة عقدها للجمعة. ألا
يرى أنه لو أدركه في التشهد ونوى الظهر لم يصح
اقتداؤه به وإن كانت جمعة فالجمعة كيف تكون
أربع ركعات على أنه لا احتياط إلا عند ظهور
فساد أدلة الخصوم وصحة دليلنا والله تعالى:
أعلم.
وأما الكلام في مقدار الجماعة فقد قال أبو
حنيفة ومحمد: أدناه ثلاثة سوى الإمام، وقال
أبو يوسف: اثنان سوى الإمام، وقال الشافعي: لا
تنعقد الجمعة إلا بأربعين سوى الإمام. أما
الكلام مع الشافعي فهو يحتج بما روي عن عبد
الرحمن بن كعب بن مالك أنه قال: كنت قائد أبي
حين كف بصره فكان إذا سمع النداء يوم الجمعة
استغفر الله لأبي أمامة أسعد بن زرارة فقلت
لأسألنه عن استغفاره لأبي أمامة فبينما أنا
أقوده في جمعة إذ سمع النداء فاستغفر الله
لأبي أمامة فقلت: يل: إن أول من جمع بنا
بالمدينة أسعد، فقلت: وكم كنتم يومئذ ؟ فقال:
كنا أربعين رجلا ولأن ترك الظهر إلى الجمعة
يكون بالنص ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام
أقام الجمعة بثلاثة. "ولنا" أن النبي صلى الله
عليه وسلم "كان يخطب فقدم عير تحمل الطعام
فانفضوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم قائما وليس معه إلا اثنا عشر رجلا منهم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
أجمعين وقد أقام الجمعة بهم". وروي أن مصعب بن
عمير قد أقام الجمعة بالمدينة مع اثني عشر
رجلا؛ ولأن الثلاثة تساوي ما وراءها في كونها
جمعا فلا معنى لاشتراط جمع الأربعين بخلاف
الاثنين فإنه ليس بالجمع، ولا حجة له في حديث
أسعد بن زرارة؛ لأن الإقامة بالأربعين وقع
اتفاقا. ألا يرى أنه روي أن أسعد أقامها بسبعة
عشر رجلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم
"أقامها باثني عشر رجلا حين انفضوا إلى
التجارة وتركوه قائما". وأما الكلام مع
أصحابنا فوجه قول أبي يوسف إن شرط أداء الجمعة
بجماعة وقد وجد؛ لأنهما مع الإمام ثلاثة وهي
جمع مطلق ولهذا يتقدمهما الإمام ويصطفان خلفه
ولهما أن الجمع المطلق شرط انعقاد الجمعة في
حق كل واحد منهم، وشرط جواز صلاة كل واحد منهم
ينبغي أن يكون سواه فيحصل هذا الشرط ثم يصلي،
ولا يحصل هذا الشرط إلا إذا كان سوى الإمام
ثلاثة إذ لو كان مع الإمام ثلاثة لا يوجد في
حق كل واحد منهم إلا اثنان والمثنى ليس بجمع
مطلق، وهذا بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الجماعة
هناك ليست بشرط للجواز حتى يجب على كل واحد
تحصيل هذا الشرط غير أنهما يصطفان خلف الإمام؛
لأن المقتدي تابع لإمامه فكان ينبغي أن يقوم
خلفه لإظهار معنى التبعية غير أنه إن كان
واحدا لا يقوم خلفه لئلا يصير منتبذا خلف
الصفوف فيصير مرتكبا للنهي، فإذا صار اثنين
زال هذا المعنى فقاما خلفه والله تعالى: أعلم.
وأما صفة القوم الذين تنعقد بهم الجمعة فعندنا
أن كل من يصلح إماما للرجال في الصلوات
المكتوبات تنعقد بهم الجمعة فيشترط صفة
الذكورة والعقل والبلوغ لا غير، ولا تشترط
الحرية والإقامة حتى تنعقد الجمعة بقوم عبيد
أو مسافرين ولا تنعقد بالصبيان والمجانين
والنساء على الانفراد، وقال الشافعي: يشترط
الحرية والإقامة في صفة القوم فلا تنعقد
بالعبيد والمسافرين. وجه قوله أنه لا جمعة
عليهم فلا تنعقد بهم كالنسوان والصبيان.
"ولنا" أن درجة الإمام أعلى ثم صفة الحرية
والإقامة ليست بشرط في الإمام لما مر فلأن لا
تشترط في القوم أولى، وإنما لا تجب الجمعة على
العبيد والمسافرين إذا لم يحضروا فأما إذا
حضروا تجب؛ لأن المانع من الوجوب قد زال بخلاف
الصبيان والنسوان على ما ذكرنا فيما تقدم
والله تعالى: أعلم.
وأما الوقت فمن شرائط الجمعة وهو وقت الظهر
حتى لا يجوز تقديمها على زوال الشمس لما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث مصعب
ج / 1 ص -269-
بن
عمير إلى المدينة قال له: "إذا مالت الشمس
فصل بالناس الجمعة" وروي أنه "كتب إلى أسعد بن
زرارة إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه
اليهود لسبتها فازدلف إلى الله تعالى:
بركعتين" وما روي أن ابن مسعود أقام الجمعة
ضحى يعني بالقرب منه ومراد الراوي أنه ما
أخرها بعد الزوال فإن لم يؤدها حتى دخل وقت
العصر تسقط الجمعة؛ لأنها لا تقضى لما نذكر،
وقال مالك: تجوز إقامة الجمعة في وقت العصر
وهو فاسد؛ لأنها أقيمت مقام الظهر بالنص فيصير
وقت الظهر وقتا للجمعة، وما أقيمت مقام غير
الظهر من الصلوات فلم تكن مشروعة في غير وقته
والله أعلم هذا الذي ذكرنا من الشرائط مذكورة
في ظاهر الرواية.
وذكر في النوادر شرطا آخر لم يذكره في ظاهر
الرواية وهو أداء الجمعة بطريق الاشتهار حتى
إن أميرا لو جمع جيشه في الحصن وأغلق الأبواب
وصلى بهم الجمعة لا تجزئهم كذا ذكر في
النوادر، فإنه قال: السلطان إذا صلى في فهندرة
والقوم مع أمراء السلطان في المسجد الجامع
قال: إن فتح باب داره وأذن للعامة بالدخول في
فهندرة جاز وتكون الصلاة في موضعين ولو لم
يأذن للعامة وصلى مع جيشه لا تجوز صلاة
السلطان وتجوز صلاة العامة وإنما كان هذا
شرطا؛ لأن الله تعالى: شرع النداء لصلاة
الجمعة بقوله
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ}
والنداء للاشتهار ولذا يسمى جمعة لاجتماع
الجماعات فيها فاقتضى أن تكون الجماعات كلها
مأذونين بالحضور إذنا عاما تحقيقا لمعنى الاسم
والله أعلم.
"فصل": وأما بيان مقدارها فمقدارها ركعتان عرفنا ذلك بفعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بعده
وعليه إجماع الأمة وينبغي للإمام أن يقرأ في
كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة مقدار ما يقرأ في
صلاة الظهر وقد ذكرناه. ولو قرأ في الركعة
الأولى بفاتحة الكتاب وسورة الجمعة وفي
الثانية بفاتحة الكتاب وسورة المنافقين تبركا
بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسن فإنه
روي أنه كان يقرأهما في صلاة الجمعة. وروي أنه
"قرأ في صلاة العيدين والجمعة سبح اسم ربك
الأعلى والغاشية" فإن تبرك بفعله صلى الله
عليه وسلم وقرأ هذه السورة في أكثر الأوقات
فنعم ما فعل ولكن لا يواظب على قراءتها بل
يقرأ غيرها في بعض الأوقات حتى لا يؤدي إلى
هجر بعض القرآن ولئلا تظنه العامة حتما، ويجهر
بالقراءة فيها لورود الأثر فيها بالجهر وهو ما
روي عن ابن عباس أنه قال سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم "يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة
الأولى سورة الجمعة وفي الثانية سورة
المنافقين" ولو لم يجهر لما سمع وكذا الأمة
توارثت ذلك، ولأن الناس يوم الجمعة فرغوا
قلوبهم عن الاهتمام لأمور التجارة لعظم ذلك
الجمع فيتأملون قراءة الإمام فتحصل لهم ثمرات
القراءة فيجهر بها كما في صلاة الليل.
"فصل": وأما بيان ما يفسدها. وبيان حكمها إذا فسدت أو فاتت عن وقتها
فنقول: إنه يفسد الجمعة ما يفسد سائر الصلوات
وقد بينا ذلك في موضعه، والذي يفسدها على
الخصوص أشياء، منها خروج وقت الظهر في خلال
الصلاة عند عامة المشايخ، وعند مالك لا يفسدها
بناء على أن الجمعة فرض مؤقت بوقت الظهر عند
العامة حتى لا يجوز أداؤها في وقت العصر،
وعنده يجوز وقد مر الكلام فيه، وكذا خروج
الوقت بعد ما قعد قدر التشهد عند أبي حنيفة،
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: لا
تفسد وهي من المسائل الاثني عشرية وقد مرت،
ومنها فوت الجماعة الجمعة قبل أن يقيد الإمام
الركعة بالسجدة بأن نفر الناس عنه، عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى:، وعندهما لا تفسد.
وأما فوتها بعد تقييد الركعة بالسجدة فلا تفسد
عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر تفسد، وقد
ذكرنا هذه المسائل.
وأما حكم فسادها فإن فسدت بخروج الوقت أو بفوت
الجماعة يستقبل الظهر وإن فسدت بما تفسد به
عامة الصلوات من الحدث العمد والكلام وغير ذلك
يستقبل الجمعة عند وجود شرائطها. وأما إذا
فاتت عن وقتها وهو وقت الظهر سقطت عند عامة
العلماء؛ لأن صلاة الجمعة لا تقضى؛ لأن القضاء
على حسب الأداء، والأداء فات بشرائط مخصوصة
يتعذر تحصيلها على كل فرد فتسقط بخلاف سائر
المكتوبات إذا فاتت عن أوقاتها والله أعلم.
ج / 1 ص -270-
يكون
المقيم لها على أحسن وصف، وقال مالك: غسل يوم
الجمعة فريضة، واحتج بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "غسل يوم
الجمعة واجب على كل محتلم"
أو قال:
"حق على كل محتلم"؛ ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "من توضأ يوم
الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل"،
وما روي من الحديث فتأويله مروي عن ابن عباس
وعائشة أنهما قالا: كان الناس عمال أنفسهم
وكانوا يلبسون الصوف ويعرقون فيه والمسجد قريب
السمك فكان يتأذى بعضهم برائحة بعض فأمروا
بالاغتسال لهذا، ثم انتسخ هذا حين لبسوا غير
الصوف وتركوا العمل بأيديهم ثم غسل يوم الجمعة
لصلاة الجمعة أم ليوم الجمعة ؟ قال الحسن بن
زياد: ليوم الجمعة إظهارا لفضيلته، قال النبي:
صلى الله عليه وسلم
"سيد الأيام يوم الجمعة"، وقال أبو يوسف: لصلاة الجمعة؛ لأنها مؤداة بشرائط ليست لغيرها
فلها من الفضيلة ما ليس لغيرها، وفائدة
الاختلاف أن من اغتسل يوم الجمعة قبل صلاة
الجمعة ثم أحدث فتوضأ وصلى به الجمعة فعند أبي
يوسف لا يصير مدركا لفضيلة الغسل، وعند الحسن
يصير مدركا لها، وكذا إذا توضأ وصلى به الجمعة
ثم اغتسل فهو على هذا الاختلاف فأما إذا اغتسل
يوم الجمعة وصلى به الجمعة فإنه ينال فضيلة
الغسل بالإجماع على اختلاف الأصلين لوجود
الاغتسال والصلاة به والله أعلم.
وأما ما يكره في يوم الجمعة فنقول تكره صلاة
الظهر يوم الجمعة بجماعة في المصر في سجن وغير
سجن هكذا روي عن علي رضي الله عنه، وهكذا جرى
التوارث بإغلاق أبواب المساجد في وقت الظهر
يوم الجمعة في الأمصار فدل ذلك على كراهة
الجماعة فيها في حق الكل؛ ولأنا لو أطلقنا
للمعذور إقامة الظهر بالجماعة في المصر فربما
يقتدي به غير المعذور فيؤدي إلى تقليل جمع
الجمعة، وهذا لا يجوز؛ ولأن ساكن المصر مأمور
بشيئين في هذا الوقت بترك الجماعات وشهود
الجمعة، والمعذور قدر على أحدهما وهو ترك
الجماعات فيؤمر بالترك. وأما أهل القرى فإنهم
يصلون الظهر بجماعة بأذان وإقامة؛ لأنه ليس
عليهم شهود الجمعة ولأن في إقامة الجماعة فيها
تقليل جمع الجمعة فكان هذا اليوم في حقهم
كسائر الأيام، وكذا يكره البيع والشراء يوم
الجمعة إذا صعد الإمام المنبر وأذن المؤذنون
بين يديه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} والأمر بترك البيع يكون نهيا عن مباشرته وأدنى درجات النهي
الكراهة. ولو باع يجوز؛ لأن الأمر بترك البيع
ليس لعين البيع بل لترك استماع الخطبة.
"فصل": وأما فرض الكفاية فصلاة الجنازة. ونذكرها في آخر الكتاب إن شاء
الله تعالى.
"فصل": وأما الصلاة الواجبة فنوعان: صلاة الوتر، وصلاة العيدين. "أما
صلاة الوتر" فالكلام في الوتر يقع في مواضع،
في بيان صفة الوتر أنه واجب أم سنة، وفي بيان
من يجب عليه، وفي بيان مقداره، وفي بيان وقته،
وفي بيان صفة القراءة التي فيه ومقدارها، وفي
بيان ما يفسده، وفي بيان حكمه إذا فسد أو فات
عن وقته، وفي بيان القنوت. أما الأول فعند أبي
حنيفة فيه ثلاث روايات، روى حماد بن زيد عنه
أنه فرض، وروى يوسف بن خالد السمتي أنه واجب،
وروى نوح بن أبي مريم المروزي في الجامع عنه
أنه سنة وبه أخذ أبو يوسف ومحمد والشافعي
رحمهم الله وقالوا: إنه سنة مؤكدة آكد من سائر
السنن المؤقتة، واحتجوا بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الوتر والضحى
والأضحى" وفي رواية
"ثلاث كتبت علي وهي لكم سنة الوتر والضحى
والأضحى"، وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله كتب عليكم في كل يوم وليلة خمس صلوات"، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:
"صلوا خمسكم"
وكذا المروي في حديث "معاذ أنه لما بعثه إلى
اليمن قال له: أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس
صلوات في كل يوم وليلة" ولو كان الوتر واجبا
لصار المفروض ست صلوات في كل يوم وليلة ولأن
زيادة الوتر على الخمس المكتوبات نسخ لها؛ لأن
الخمس قبل الزيادة كانت كل وظيفة اليوم
والليلة، وبعد الزيادة تصير بعض الوظيفة فينسخ
وصف الكلية بها، ولا يجوز نسخ الكتاب
والمشاهير من الأحاديث بالآحاد ولأن علامات
السنن فيها ظاهرة فإنها تؤدى تبعا للعشاء،
والفرض ما لا يكون تابعا لفرض آخر، وليس لها
وقت ولا أذان ولا إقامة ولا جماعة، ولفرائض
الصلوات أوقات وأذان وإقامة جماعة ولذا يقرأ
في الثلاث
ج / 1 ص -271-
كلها،
وهذا من أمارات السنن ولأبي حنيفة ما روى
خارجة بن حذافة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال:
"إن الله تعالى: زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى
طلوع الفجر"
والاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه أمر بها
ومطلق الأمر للوجوب، والثاني أنه سماها زيادة
والزيادة على الشيء لا تتصور إلا من جنسه فأما
إذا كان غيره فإنه يكون قرانا لا زيادة ولأن
الزيادة إنما تتصور على المقدر وهو الفرض،
فأما النفل فليس بمقدر فلا تتحقق الزيادة
عليه، ولا يقال: إنها زيادة على الفرض لكن في
الفعل لا في الوجوب؛ لأنهم كانوا يفعلونها قبل
ذلك ألا ترى أنه قال: ألا وهي الوتر ؟ ذكرها
معرفة بحرف التعريف، ومثل هذا التعريف لا يحصل
إلا بالعهد ولذا لم يستفسروها. ولو لم يكن
فعلها معهودا لاستفسروا فدل أن ذلك في الوجوب
لا في الفعل، ولا يقال: إنها زيادة على السنن؛
لأنها كانت تؤدى قبل ذلك بطريق السنة. وروي عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوتروا يا أهل القرآن فمن لم يوتر فليس منا" ومطلق الأمر للوجوب، وكذا التوعد على الترك دليل الوجوب، وروى أبو
بكر أحمد بن علي الرازي بإسناده عن أبي سليمان
ابن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"الوتر حق
واجب فمن لم يوتر فليس منا" وهذا
نص في الباب، وعن الحسن البصري أنه قال: أجمع
المسلمون على أن الوتر حق واجب، وكذا حكى
الطحاوي فيه إجماع السلف ومثلهما لا يكذب؛
ولأنه إذا فات عن وقته يقضى عندهما وهو أحد
قولي الشافعي، ووجوب القضاء عن الفوات لا عن
عذر يدل على وجوب الأداء؛ ولذا لا يؤدى على
الراحلة بالإجماع عند القدرة على النزول،
وبعينه ورد الحديث وذا من أمارات الوجوب
والفرضية ولأنها مقدرة بالثلاث والتنفل
بالثلاث ليس بمشروع. وأما الأحاديث أما الأول
ففيه نفي الفرضية دون الوجوب؛ لأن الكتابة
عبارة عن الفرضية ونحن به نقول: إنها ليست
بفرض ولكنها واجبة وهي آخر أقوال أبي حنيفة،
والرواية الأخرى محمولة على ما قبل الوجوب ولا
حجة لهم في الأحاديث الأخر؛ لأنها تدل على
فرضية الخمس، والوتر عندنا ليست بفرض بل هي
واجبة، وفي هذا حكاية وهو ما روي أن يوسف بن
خالد السمتي سأل أبا حنيفة عن الوتر فقال: هي
واجبة، فقال يوسف: كفرت يا أبا حنيفة وكان ذلك
قبل أن يتلمذ عليه كأنه فهم من قول أبي حنيفة
أنه يقول إنها فريضة فزعم أنه زاد على الفرائض
الخمس فقال أبو حنيفة ليوسف أيهولني إكفارك
إياي وأنا أعرف الفرق بين الواجب والفرض كفرق
ما بين السماء والأرض، ثم بين له الفرق بينهما
فاعتذر إليه وجلس عنده للتعلم بعد أن كان من
أعيان فقهاء البصرة، وإذا لم يكن فرضا لم تصر
الفرائض الخمس ستا بزيادة الوتر عليها وبه
تبين أن زيادة الوتر على الخمس ليست نسخا لها؛
لأنها بقيت بعد الزيادة كل وظيفة اليوم
والليلة فرضا. أما قولهم: إنه لا وقت لها فليس
كذلك بل لها وقت وهو وقت العشاء إلا أن تقديم
العشاء عليها شرط عند التذكر، وذا لا يدل على
التبعية كتقديم كل فرض على ما يعقبه من
الفرائض، ولهذا اختص بوقت استحسانا فإن
تأخيرها إلى آخر الليل مستحب وتأخير العشاء
إلى آخر الليل يكره أشد الكراهة، وذا أمارة
الأصالة إذ لو كانت تابعة للعشاء لتبعته في
الكراهة والاستحباب جميعا. وأما الجماعة
والأذان والإقامة فلأنها من شعائر الإسلام
فتختص بالفرائض المطلقة ولهذا لا مدخل لها في
صلاة النساء وصلاة العيدين والكسوف. وأما
القراءة في الركعات كلها فلضرب احتياط عند
تباعد الأدلة عن إدخالها تحت الفرائض المطلقة
على ما نذكر.
"فصل": وأما بيان من تجب عليه. فوجوبه لا يختص بالبعض دون البعض كالجمعة
وصلاة العيدين بل يعم الناس أجمع من الحر
والعبد والذكر والأنثى بعد أن كان أهلا
للوجوب؛ لأن ما ذكرنا من دلائل الوجوب لا يوجب
الفصل.
"
فصل": وأما الكلام في مقداره. فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا: الوتر
ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في الأوقات كلها،
وقال الشافعي هو بالخيار إن شاء أوتر بركعة أو
ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو أحد عشر في
الأوقات كلها، وقال الزهري: في شهر رمضان ثلاث
ركعات وفي غيره ركعة احتج الشافعي بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شاء أوتر
بركعة ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس"،
ولنا ما روي عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة
رضي الله عنهم أنهم قالوا: "كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوتر بثلاث ركعات"، وعن الحسن
قال أجمع
ج / 1 ص -272-
المسلمون على أن الوتر ثلاث لا سلام إلا في
آخرهن، ومثله لا يكذب؛ ولأن الوتر نفل عنده
والنوافل اتباع الفرائض فيجب أن يكون لها
نظيرا من الأصول والركعة الواحدة غير معهودة
فرضا وحديث التخيير محمول على ما قبل استقرار
أمر الوتر بدليل ما روينا.
"فصل": وأما بيان وقته. فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في بيان أصل الوقت،
وفي بيان الوقت المستحب. أما أصل الوقت فوقت
العشاء عند أبي حنيفة إلا أنه شرع مرتبا عليه
حتى لا يجوز أداؤه قبل صلاة العشاء مع أنه
وقته لعدم شرطه وهو الترتيب إلا إذا كان ناسيا
كوقت أداء الوقتية وهو وقت الفائتة لكنه شرع
مرتبا عليه، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي
وقته بعد أداء صلاة العشاء وهذا بناء على ما
ذكرنا أن الوتر واجب عند أبي حنيفة وعندهم،
سنة ويبنى على هذا الأصل مسألتان: إحداهما أن
من صلى العشاء على غير وضوء وهو لا يعلم ثم
توضأ فأوتر ثم تذكر أعاد صلاة العشاء بالاتفاق
ولا يعيد الوتر في قول أبي حنيفة، وعندهما
يعيد ووجه البناء على هذا الأصل أنه لما كان
واجبا عند أبي حنيفة كان أصلا بنفسه في حق
الوقت لا تبعا للعشاء فكما غاب الشفق دخل وقته
كما دخل وقت العشاء إلا أن وقته بعد فعل
العشاء إلا أن تقديم أحدهما على الآخر واجب
حالة التذكر فعند النسيان يسقط كما في العصر
والظهر التي لم يؤدها حتى دخل وقت العصر يجب
ترتيب العصر على الظهر عند التذكر، ثم يجوز
تقديم العصر على الظهر عند النسيان كذا هذا،
والدليل على أن وقته ما ذكرنا لا ما بعد فعل
العشاء أنه لو لم يصل العشاء حتى طلع الفجر
لزمه قضاء الوتر كما يلزمه قضاء العشاء ولو
كان وقتها ذلك لما وجب قضاؤها إذا لم يتحقق
وقتها لاستحالة تحقق ما بعد فعل العشاء بدون
فعل العشاء، هذا هو تخريج قول أبي حنيفة على
هذا الأصل. وأما تخريج قولهما أنه لما كان سنة
كان وقته ما بعد وقت العشاء لكونه تبعا للعشاء
كوقت ركعتي الفجر ولهذا قال النبي صلى الله
عليه وسلم في ذلك الحديث:
"زادكم صلاة وجعلها لكم ما بين العشاء إلى طلوع الفجر" ووجود ما بين شيئين سابقا على وجودهما محال، والجواب أن إطلاق
الفعل بعد العشاء لا ينفي الإطلاق قبله، وعلى
هذا الاختلاف إذا صلى الوتر على ظن أنه صلى
العشاء ثم تبين أنه لم يصل العشاء يصلي العشاء
بالإجماع ولا يعيد الوتر عنده، وعندهما يعيد،
والمسألة الثانية مسألة الجامع الصغير وهو أن
من صلى الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر وفي الوقت
سعة لا يجوز عنده؛ لأن الواجب ملحق بالفرض في
العمل فيجب مراعاة الترتيب بينه وبين الفرض
وعندهما يجوز؛ لأن مراعاة الترتيب بين السنة
والمكتوبة غير واجبة. ولو ترك الوتر عند وقته
حتى طلع الفجر يجب عليه القضاء عند أصحابنا
خلافا للشافعي، أما عند أبي حنيفة فلا يشكل؛
لأنه واجب فكان مضمونا بالقضاء كالفرض، وعدم
وجوب القضاء عند الشافعي لا يشكل أيضا؛ لأنه
سنة عندهما، وكذا القياس عندهما أن لا يقضي،
وهكذا روي عنهما في غير رواية الأصول لكنهما
استحسنا في القضاء بالأثر وهو قول النبي صلى
الله عليه وسلم "من نام عن وتر أو نسيه فليصله
إذا ذكره" فإن ذلك وقته، ولم يفصل بين ما إذا
تذكر في الوقت أو بعده؛ ولأنه محل الاجتهاد
فأوجب القضاء احتياطا. وأما الوقت المستحب
للوتر فهو آخر الليل لما روي عن عائشة رضي
الله عنها أنها سئلت عن وتر رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت "تارة كان يوتر في أول
الليل وتارة في وسط الليل وتارة في آخر الليل
ثم صار وتره في آخر عمره في آخر الليل"، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم
"صلاة الليل
مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة"
وهذا إذا كان لا يخاف فوته فإن كان يخاف فوته
يجب أن لا ينام إلا عن وتر ",وأبو بكر رضي
الله عنه كان يوتر في أول الليل، وعمر كان
يوتر في آخر الليل فقال النبي صلى الله عليه
وسلم لأبي بكر: أخذت بالثقة وقال لعمر: أخذت
بفضل القوة".
"فصل": وأما صفة القراءة فيه. فالقراءة فيه فرض في الركعات كلها أما عندهم
فلا يشكل؛ لأنه نفل، وعند أبي حنيفة وإن كان
واجبا لكن الواجب ما يحتمل أنه فرض ويحتمل أنه
نفل لكن يرجح جهة الفرضية فيه بدليل فيه شبهة
فيجعل واجبا مع احتمال النفلية فإن كان فرضا
يكتفى بالقراءة في ركعتين منه كما في المغرب،
وإن كان نفلا يشترط في الركعات كلها كما في
النوافل فكان الاحتياط في وجوبها في الكل لم
يذكر الكرخي في مختصره قدر
ج / 1 ص -273-
القراءة في الوتر وذكر محمد في الأصل وقال:
وما قرأ في الوتر فهو حسن، وبلغنا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه "قرأ في الوتر في
الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي
الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة
بقل هو الله أحد"، ولا ينبغي أن يوقت شيئا من
القرآن في الوتر لما مر، ولو قرأ في الركعة
الأولى
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}،
وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم كان حسنا لكن لا يواظب عليه كي لا
يظنه الجهال حتما، ثم إذا فرغ من القراءة في
الركعة الثانية كبر ورفع يديه حذاء أذنيه ثم
أرسلهما ثم يقنت. أما التكبير فلما روي عن علي
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
"كان إذا أراد أن يقنت كبر وقنت". وأما رفع
اليدين فلقول النبي صلى الله عليه وسلم
"لا ترفع اليدين إلا في سبعة مواطن"
وذكر من جملتها القنوت. وأما الإرسال فقد
ذكرنا تفسيره فيما تقدم والله الموفق.
"فصل": وأما القنوت فالكلام فيه في مواضع: في صفة القنوت، ومحل أدائه،
ومقداره ودعائه، وحكمه إذا فات عن محله. أما
الأول فالقنوت واجب عند أبي حنيفة وعندهما
سنة، والكلام فيه كالكلام في أصل الوتر. وأما
محل أدائه فالوتر في جميع السنة قبل الركوع
عندنا، وقد خالفنا الشافعي في المواضع الثلاثة
فقال: يقنت في صلاة الفجر في الركعة الثانية
بعد الركوع ولا يقنت في الوتر إلا في النصف
الأخير من رمضان بعد الركوع، واحتج في المسألة
الأولى بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان "يقنت في صلاة الفجر وكان يدعو على
قبائل"، ولنا ما روى ابن مسعود وجماعة من
الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه
وسلم "قنت في صلاة الفجر شهرا كان يدعو في
قنوته على رعل وذكوان ويقول اللهم اشدد وطأتك
على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ثم تركه
فكان منسوخا" دل عليه أنه روي أنه صلى الله
عليه وسلم "كان يقنت في صلاة المغرب كما في
صلاة الفجر" وذلك منسوخ بالإجماع، وقال أبو
عثمان النهدي صليت خلف أبي بكر وخلف عمر كذلك
فلم أر أحدا منهما يقنت في صلاة الفجر واحتج
في المسألة الثانية بما روي أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لما أمر أبي بن كعب بالإمامة في
ليالي رمضان أمره بالقنوت في النصف الأخير
منه، ولنا ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن
عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا: "راعينا صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل يقنت قبل
الركوع" ولم يذكروا وقتا في السنة، وتأويل ما
رواه الشافعي أنه طول القيام بالقراءة، وطول
القيام يسمى قنوتا؛ لأنه أراد به القنوت في
الوتر وإنما حملناه على هذا؛ لأن إمامة أبي بن
كعب كانت بمحضر من الصحابة ولا يخفى عليهم
حاله، وقد روينا عنهم بخلافه، واستدل في
المسألة الثالثة بصلاة الفجر، ثم قد صح في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان
يقنت في صلاة الفجر بعد الركوع" فقاس عليه
القنوت في الوتر، ولنا ما روينا عن جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم "قنوت رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الوتر قبل الركوع"،
واستدلاله بصلاة الفجر غير سديد؛ لأنه استدلال
بالمنسوخ على ما مر.
وأما مقدار القنوت فقد ذكر الكرخي أن مقدار
القيام في القنوت مقدار سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وكذا ذكر في الأصل؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
"كان يقرأ في القنوت اللهم إنا نستعينك، اللهم
اهدنا فيمن هديت، وكلاهما على مقدار هذه
السورة". وروي أنه صلى الله عليه وسلم "كان لا
يطول في دعاء القنوت".
وأما دعاء القنوت فليس في القنوت دعاء موقت
كذا ذكر الكرخي في كتاب الصلاة؛ لأنه روي عن
الصحابة أدعية مختلفة في حال القنوت؛ ولأن
الموقت من الدعاء يجري على لسان الداعي من غير
احتياجه إلى إحضار قلبه وصدق الرغبة منه إلى
الله تعالى: فيبعد عن الإجابة؛ ولأنه لا توقيت
في القراءة لشيء من الصلوات ففي دعاء القنوت
أولى، وقد روي عن محمد أنه قال: التوقيت في
الدعاء يذهب رقة القلب، وقال بعض مشايخنا:
المراد من قوله ليس في القنوت دعاء موقت ما
سوى قوله اللهم إنا نستعينك؛ لأن الصحابة رضي
الله عنهم اتفقوا على هذا في القنوت فالأولى
أن يقرأه. ولو قرأ غيره جاز ولو قرأ معه غيره
كان حسنا، والأولى أن يقرأ بعده ما علم رسول
الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي
الله عنهما في قنوته "اللهم اهدنا فيمن هديت"
إلى آخره، وقال بعضهم: الأفضل في الوتر أن
يكون فيه دعاء موقت؛ لأن الإمام ربما
ج / 1 ص -274-
يكون جاهلا فيأتي بدعاء يشبه كلام الناس فيفسد الصلاة، وما روي عن
محمد أن التوقيت في الدعاء يذهب رقة القلب
محمول على أدعية المناسك دون الصلاة لما
ذكرنا.
وأما صفة دعاء القنوت من الجهر والمخافتة فقد
ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه إن كان
منفردا فهو بالخيار إن شاء جهر وأسمع غيره وإن
شاء جهر وأسمع نفسه وإن شاء أسر كما في
القراءة وإن كان إماما يجهر بالقنوت لكن دون
الجهر بالقراءة في الصلاة والقوم يتابعونه
هكذا إلى قوله إن عذابك بالكفار ملحق، وإذا
دعا الإمام بعد ذلك هل يتابعه القوم ؟ ذكر في
الفتاوى اختلافا بين أبي يوسف ومحمد، في قول
أبي يوسف يتابعونه ويقرءون وفي قول محمد لا
يقرءون ولكن يؤمنون، وقال بعضهم إن شاء القوم
سكتوا.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في
القنوت فقد قال: أبو القاسم الصفار لا يفعل؛
لأن هذا ليس موضعها، وقال الفقيه أبو الليث:
يأتي بها؛ لأن القنوت دعاء فالأفضل أن يكون
فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكره
في الفتاوى هذا كله مذكور في شرح القاضي مختصر
الطحاوي، واختار مشايخنا بما وراء النهر
الإخفاء في دعاء القنوت في حق الإمام والقوم
جميعا لقوله تعالى:
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "خير الدعاء الخفي".
وأما حكم القنوت إذا فات عن محله فنقول: إذا
نسي القنوت حتى ركع ثم تذكر بعد ما رفع رأسه
من الركوع لا يعود ويسقط عنه القنوت وإن كان
في الركوع فكذلك في ظاهر الرواية. وروي عن أبي
يوسف في غير رواية الأصول أنه يعود إلى
القنوت؛ لأنه له شبها بالقراءة فيعود كما لو
ترك الفاتحة أو السورة. ولو تذكر في الركوع أو
بعد ما رفع رأسه منه أنه ترك الفاتحة أو
السورة يعود وينتقض ركوعه كذا ههنا ووجه الفرق
على ظاهر الرواية أن الركوع يتكامل بقراءة
الفاتحة والسورة؛ لأن الركوع لا يعتبر بدون
القراءة أصلا فيتكامل بتكامل القراءة، وقراءة
الفاتحة والسورة على التعيين واجبة فينتقض
الركوع بتركها فكان نقض الركوع للأداء على
الوجه الأكمل والأحسن فكان مشروعا فأما القنوت
فليس مما يتكامل به الركوع. ألا ترى أنه لا
قنوت في سائر الصلوات ؟ والركوع معتبر بدونه
فلم يكن النقض للتكميل لكماله في نفسه. ولو
نقض كان النقض لأداء القنوت الواجب ولا يجوز
نقض الفرض لتحصيل الواجب فهو الفرق، ولا يقنت
في الركوع أيضا بخلاف تكبيرات العيد إذا
تذكرها في حال الركوع حيث يكبر فيه، والفرق أن
تكبيرات العيد لم تختص بالقيام المحض. ألا ترى
أن تكبيرة الركوع يؤتى بها في حال الانحطاط ؟
وهي محسوبة من تكبيرات العيد بإجماع الصحابة،
فإذا جاز أداء واحدة منها في غير محض القيام
من غير عذر جاز أداء الباقي مع قيام العذر
بطريق الأولى، فأما القنوت فلم يشرع إلا في
محض القيام غير معقول المعنى فلا يتعدى إلى
الركوع الذي هو قيام من وجه. ولو أنه عاد إلى
القيام وقنت ينبغي أن لا ينتقض ركوعه على قياس
ظاهر الرواية بخلاف ما إذا عاد إلى قراءة
الفاتحة أو السورة حيث ينتقض ركوعه، والفرق أن
محل القراءة قائم ما لم يقيد الركعة بالسجدة.
ألا ترى أنه يعود فإذا عاد وقرأ الفاتحة أو
السورة وقع الكل فرضا ؟ فيجب مراعاة الترتيب
بين الفرائض ولا يتحقق ذلك إلا بنقض الركوع
بخلاف القنوت؛ لأن محله قد فات. ألا ترى أنه
لا يعود ؟ فإذا عاد فقد قصد نقض الفرض لتحصيل
واجب فات عليه فلا يملك ذلك. ولو عاد إلى
قراءة الفاتحة أو السورة فقرأها وركع مرة أخرى
فأدركه رجل في الركوع الثاني كان مدركا
للركعة. ولو كان أتم قراءته وركع فظن أنه لم
يقرأ فرفع رأسه منه يعود فيقرأ ويعيد القنوت
والركوع، وهذا ظاهر؛ لأن الركوع ههنا حصل قبل
القراءة فلم يعتبر أصلا ولو حصل قبل قراءة
الفاتحة أو السورة يعود ويعيد الركوع فههنا
أولى.
"فصل": وأما بيان ما يفسده، وبيان حكمه إذا فسد أو فات عن وقته. أما ما
يفسده وحكمه إذا فسد فما ذكرنا في الصلوات
المكتوبات، وإذا فات عن وقته يقضي على اختلاف
الأقاويل على ما بينا والله تعالى: أعلم.
"فصل": "وأما صلاة العيدين" فالكلام فيها يقع في مواضع: في بيان أنها
واجبة أم سنة، وفي بيان شرائط وجوبها وجوازها،
وفي بيان وقت أدائها، وفي بيان قدرها وكيفية
أدائها، وفي بيان ما يفسدها، وفي بيان حكمها
إذا فسدت أو فاتت عن وقتها، وفي بيان ما يستحب
في يوم العيد. أما الأول فقد نص الكرخي على
الوجوب فقال
ج / 1 ص -275-
وتجب
صلاة العيدين على أهل الأمصار كما تجب الجمعة
وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنه تجب صلاة
العيد على من تجب عليه صلاة الجمعة، وذكر في
الأصل ما يدل على الوجوب فإنه قال: لا يصلى
التطوع بالجماعة ما خلا قيام رمضان وكسوف
الشمس، وصلاة العيد تؤدى بجماعة فلو كانت سنة
ولم تكن واجبة لاستثناها كما استثنى التراويح
وصلاة الكسوف وسماه سنة في الجامع الصغير فإنه
قال في العيدين اجتمعا في يوم واحد فالأول سنة
وهذا اختلاف من حيث العبارة فتأويل ما ذكره في
الجامع الصغير أنها واجبة بالسنة أم هي سنة
مؤكدة وأنها في معنى الواجب على أن إطلاق اسم
السنة لا ينفي الوجوب بعد قيام الدليل على
وجوبها، وذكر أبو موسى الضرير في مختصره أنها
فرض كفاية والصحيح أنها واجبة، وهذا قول
أصحابنا، وقال الشافعي: إنها سنة وليست
بواجبة. وجه قوله أنها بدل صلاة الضحى وتلك
سنة فكذا هذه؛ لأن البدل لا يخالف الأصل، ولنا
قوله تعالى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قيل في التفسير صل صلاة العيد وانحر الجزور، ومطلق الأمر للوجوب،
وقوله تعالى:
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ}
قيل المراد منه صلاة العيد؛ ولأنها من شعائر
الإسلام فلو كانت سنة فربما اجتمع الناس على
تركها فيفوت ما هو من شعائر الإسلام فكانت
واجبة صيانة لما هو من شعائر الإسلام عن
الفوت.
"فصل": وأما شرائط وجوبها وجوازها فكل ما هو شرط وجوب الجمعة وجوازها فهو
شرط وجوب صلاة العيدين وجوازها من الإمام
والمصر والجماعة والوقت إلا الخطبة فإنها سنة
بعد الصلاة. ولو تركها جازت صلاة العيد. أما
الإمام فشرط عندنا لما ذكرنا في صلاة الجمعة
وكذا المصر لما روينا عن علي رضي الله عنه أنه
قال: لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا
في مصر جامع ولم يرد بذلك نفس الفطر ونفس
الأضحى ونفس التشريق؛ لأن ذلك مما يوجد في كل
موضع بل المراد من لفظ الفطر والأضحى صلاة
العيدين؛ ولأنها ما ثبتت بالتوارث من الصدر
الأول إلا في الأمصار، ويجوز أداؤها في
موضعين؛ لما ذكرنا في الجمعة، والجماعة شرط؛
لأنها ما أديت إلا بجماعة والوقت شرط فإنها لا
تؤدى إلا في وقت مخصوص به جرى التوارث، وكذا
الذكورة، والعقل، والبلوغ، والحرية، وصحة
البدن، والإقامة من شرائط وجوبها كما هي من
شرائط وجوب الجمعة حتى لا تجب على النسوان
والصبيان والمجانين والعبيد بدون إذن مواليهم
والزمنى والمرضى والمسافرين، كما لا تجب عليهم
لما ذكرنا في صلاة الجمعة ولأن هذه الأعذار
لما أثرت في إسقاط الفرض فلأن تؤثر في إسقاط
الواجب أولى، وللمولى أن يمنع عبده عن حضور
العيدين كما له منعه عن حضور الجمعة لما ذكرنا
هناك.
وأما النسوة فهل يرخص لهن أن يخرجن في العيدين
؟ أجمعوا على أنه لا يرخص للشواب منهن الخروج
في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة؛ لقوله
تعالى:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} والأمر بالقرار نهي عن الانتقال ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك،
والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.
وأما العجائز فلا خلاف في أنه يرخص لهن الخروج
في الفجر والمغرب والعشاء والعيدين، واختلفوا
في الظهر والعصر والجمعة قال أبو حنيفة: لا
يرخص لهن في ذلك وقال أبو يوسف ومحمد يرخص لهن
في ذلك. وجه قولهما أن المنع لخوف الفتنة بسبب
خروجهن، وذا لا يتحقق في العجائز ولهذا أباح
أبو حنيفة خروجهن في غيرهما من الصلوات، ولأبي
حنيفة أن وقت الظهر والعصر وقت انتشار الفساق
في المحال والطرقات فربما يقع من صدقت رغبته
في النساء في الفتنة بسببهن أو يقعن هن في
الفتنة لبقاء رغبتهن في الرجال وإن كبرن، فأما
في الفجر والمغرب والعشاء فالهواء مظلم
والظلمة تحول بينهن وبين نظر الرجال، وكذا
الفساق لا يكونون في الطرقات في هذه الأوقات
فلا يؤدي إلى الوقوع في الفتنة، وفي الأعياد
وإن كان تكثر الفساق تكثر الصلحاء أيضا فتمنع
هيبة الصلحاء أو العلماء إياهما عن الوقوع في
المأثم، والجمعة في المصر فربما تصدم أو تصدم
لكثرة الزحام وفي ذلك فتنة. وأما صلاة العيد
فإنها تؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية
عن الرجال كي لا تصدم فرخص لهن الخروج والله
أعلم ثم هذا الخلاف في الرخصة والإباحة فأما
لا خلاف في أن الأفضل أن لا يخرجن في صلاة لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في
مسجدها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في
دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في
ج / 1 ص -276-
بيتها" ثم إذا رخص في صلاة العيد هل يصلين ؟ روى الحسن عن أبي حنيفة
يصلين؛ لأن المقصود بالخروج هو الصلاة قال
النبي صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات أي غير
متطيبات"، وروى
المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لا يصلين
العيد مع الإمام؛ لأن خروجهن لتكثير سواد
المسلمين لحديث أم عطية رضي الله عنها: "كن
النساء يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى ذوات الخدور والحيض" ومعلوم أن الحائض لا
تصلي فعلم أن خروجهن كان لتكثير سواد المسلمين
فكذلك في زماننا.
وأما العبد إذا حضر مع مولاه العيدين والجمعة
ليحفظ دابته هل له أن يصلي بغير رضاه ؟ اختلف
المشايخ فيه قال بعضهم: ليس له ذلك إلا إذا
كان لا يخل بحق مولاه في إمساك دابته.
وأما الخطبة فليست بشرط؛ لأنها تؤدى بعد
الصلاة وشرط الشيء يكون سابقا عليه أو مقارنا
له، والدليل على أنها تؤدى بعد الصلاة ما روي
عن ابن عمر أنه قال: "صليت خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما وكانوا يبدءون بالصلاة قبل الخطبة" وكذا
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
"صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف
أبي بكر وعمر وعثمان فبدءوا بالصلاة قبل
الخطبة ولم يؤذنوا ولم يقيموا" ولأنها وجبت
لتعليم ما يجب إقامته يوم العيد والوعظ
والتكبير فكان التأخير أولى ليكون الامتثال
أقرب إلى زمان التعليم، والدليل على أنها بعد
صلاة العيد ما روي أن مروان لما خطب العيد قبل
الصلاة قام رجل فقال أخرجت المنبر يا مروان
ولم يخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبت
قبل الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يخطب بعد الصلاة فقال مروان ذاك شيء قد ترك،
فقال أبو سعيد الخدري أما هذا فقد قضى ما عليه
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
الإيمان" أي أقل
شرائع الإيمان وإنما أحدث بنو أمية الخطبة قبل
الصلاة؛ لأنهم كانوا يتكلمون في خطبتهم بما لا
يحل وكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها
فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس، فإن خطب
أولا ثم صلى أجزأهم؛ لأنه لو ترك الخطبة أصلا
أجزأهم فهذا أولى.
وكيفية الخطبة في العيدين كهي في الجمعة فيخطب
خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة ويقرأ فيها
سورة من القرآن ويستمع لها القوم وينصتوا لأنه
يعلمهم الشرائع ويعظهم وإنما ينفعهم ذلك إذا
استمعوا، وليس في العيدين أذان ولا إقامة؛ لما
روينا من حديث ابن عباس. وروي عن جابر بن سمرة
أنه قال: "صليت العيد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا
إقامة" وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ولأنهما
شرعا علما على المكتوبة وهذه ليست بمكتوبة.
"فصل": وأما بيان وقت أدائها فقد ذكر الكرخي وقت صلاة العيد: من حين تبيض
الشمس إلى أن تزول لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان يصلي العيد والشمس على قدر
رمح، أو رمحين وروي أن قوما شهدوا برؤية
الهلال في آخر يوم من رمضان فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى المصلى من
الغد. ولو جاز الأداء بعد الزوال لم يكن
للتأخير معنى؛ ولأنه المتوارث في الأمة فيجب
اتباعهم، فإن تركها في اليوم الأول في عيد
الفطر بغير عذر حتى زالت الشمس سقطت أصلا سواء
تركها لعذر أو لغير عذر. وأما في عيد الأضحى
فإن تركها في اليوم الأول لعذر أو لغير عذر
صلى في اليوم الثاني، فإن لم يفعل ففي اليوم
الثالث، سواء كان لعذر أو لغير عذر غير أن
التأخير إذا كان لغير عذر تلحقه الإساءة وإن
كان لعذر لا تلحقه الإساءة وهذا؛ لأن القياس
أن لا تؤدى إلا في يوم عيد؛ لأنها عرفت بالعيد
فيقال صلاة لعيد، إلا أنا جوزنا الأداء في
اليوم الثاني في عيد الفطر بالنص الذي روينا
والنص الذي ورد في حالة العذر فبقي ما رواه
على أصل القياس وإنما جوزنا الأداء في اليوم
الثاني والثالث في عيد الأضحى استدلالا
بالأضحية فإنها جائزة في اليوم الثاني والثالث
فكذا صلاة العيد؛ لأنها معروفة بوقت الأضحية
فتتقيد بأيامها وأيام النحر ثلاثة، وأيام
التشريق ثلاثة، ويمضي ذلك كله في أربعة أيام
فاليوم العاشر من ذي الحجة للنحر خاصة، واليوم
الثالث عشر للتشريق خاصة، واليومان فيما
بينهما للنحر والتشريق جميعا.
ج / 1 ص -277-
فصل": وأما بيان قدر صلاة العيدين، وكيفية أدائها فنقول: يصلي الإمام
ركعتين: فيكبر تكبيرة الافتتاح، ثم يستفتح
فيقول: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره عند عامة
العلماء، وعند ابن أبي ليلى يأتي بالثناء بعد
التكبيرات وهذا غير سديد؛ لأن الاستفتاح كاسمه
وضع لافتتاح الصلاة فكان محله ابتداء الصلاة،
ثم يتعوذ عند أبي يوسف، ثم يكبر ثلاثا، وعند
محمد يؤخر التعوذ عن التكبيرات بناء على أن
التعوذ سنة الافتتاح، أو سنة القراءة على ما
ذكرنا، ثم يقرأ ثم يكبر تكبيرة الركوع فإذا
قام إلى الثانية يقرأ أولا، ثم يكبر ثلاثا،
ويركع بالرابعة فحاصل الجواب أن عندنا يكبر في
صلاة العيدين تسع تكبيرات: ستة من الزوائد
وثلاثة أصليات: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرتا
الركوع ويوالي بين القراءتين فيقرأ في الركعة
الأولى بعد التكبيرات وفي الثانية قبل
التكبيرات. وروي عن أبي يوسف أنه يكبر ثنتي
عشرة تكبيرة: سبعا في الأولى وخمسا في
الثانية؛ فتكون الزوائد تسعا: خمس في الأولى
وأربع في الثانية، وثلاث أصليات، ويبدأ
بالتكبيرات في كل واحدة من الركعتين، وقال
الشافعي: يكبر اثنتي عشرة تكبيرة: سبعا في
الأولى وخمسا في الثانية سوى الأصليات، وهو
قول مالك ويبدأ بالتكبيرات قبل القراءة في
الركعتين جميعا، والمسألة مختلفة بين الصحابة،
روي عن عمر وعبد الله بن مسعود وأبي مسعود
الأنصاري وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان
رضي الله عنهم أنهم قالوا مثل قول أصحابنا.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين الفطر
والأضحى فقال: في الفطر يكبر إحدى عشرة
تكبيرة: ثلاث أصليات وثمان زوائد في كل ركعة
أربعة، وفي الأضحى يكبر خمس تكبيرات: ثلاث
أصليات وتكبيرتان زائدتان، وعنده يقدم القراءة
على التكبيرات في الركعتين جميعا، عن ابن عباس
رضي الله عنهما ثلاث روايات روي عنه كقول ابن
مسعود وأنه شاذ، والمشهور عنه روايتان إحداهما
أنه يكبر في العيدين ثلاثة عشرة تكبيرة: ثلاث
أصليات وعشرة زوائد، في كل ركعة خمس تكبيرات،
والثانية أنه يكبر اثني عشرة تكبيرة كما قال
أبو يوسف، ومن مذهبه أنه لا يقدم القراءة على
التكبيرات في الركعتين جميعا؛ والمختار في
المذهب عندنا مذهب ابن مسعود لاجتماع الصحابة
عليه فإنه روي أن الوليد بن عقبة أتاهم فقال
غدا العيد فكيف تأمروني أن أفعل فقالوا لابن
مسعود علمه فعلمه هذه الصفة ووافقوه على ذلك.
وقيل: إنه مختار أبي بكر الصديق، ولأن رفع
الصوت بالتكبيرات بدعة في الأصل فبقدر ما ثبت
بالإجماع لم تبق بدعة بيقين، وما دخل تحت
الاختلاف كان توهم البدعة، وإنما الأخذ بالأقل
أولى وأحوط، إلا أن برواية ابن عباس ظهر العمل
بأكثر بلادنا؛ لأن الخلافة في بني العباس
فيأمرون عمالهم بالعمل بمذهب جدهم، وبيان هذه
الفصول في الجامع الكبير ولم يبين في الأصل.
مقدار الفصل بين التكبيرات وقد روي عن أبي
حنيفة أنه يسكت بين كل تكبيرتين قدر ثلاث
تسبيحات ويرفع يديه عند تكبيرات الزوائد وحكى
أبو عصمة عن أبي يوسف أنه لا يرفع يديه في شيء
منها لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله
عليه وسلم "كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في
تكبيرة الافتتاح". ولأنها سنة فتلتحق بجنسها
وهو تكبيرتا الركوع، ولنا ما روينا من الحديث
المشهور "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن
وذكر من جملتها تكبيرات العيد"؛ ولأن المقصود
وهو إعلام الأصم لا يحصل إلا بالرفع فيرفع
كتكبيرة الافتتاح وتكبيرات القنوت بخلاف
تكبيرتي الركوع؛ لأنه يؤتى بهما في حال
الانتقال فيحصل المقصود بالرؤية، فلا حاجة إلى
رفع اليد للإعلام، وحديث ابن مسعود محمول على
الصلاة المعهودة المكتوبة.
ويقرأ في الركعتين أي سورة شاء، وقد روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في
صلاة العيد
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فإن تبرك بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة هاتين
السورتين في أغلب الأحوال فحسن، لكن يكره أن
يتحد بهما حتما لا يقرأ فيها غيرهما؛ لما
ذكرنا في الجمعة، وبجهر القراءة كذا ورد النقل
المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر
به، وبه جرى التوارث من الصدر الأول إلى يومنا
هذا.
ثم المقتدي يتابع الإمام في التكبيرات على
رأيه، وإن كبر أكثر من تسع ما لم يكبر تكبيرا
لم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه
تبع لإمامه فيجب عليه متابعته وترك رأيه برأي
الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"إنما جعل الإمام ليؤتم به
ج / 1 ص -278-
فلا
تختلفوا" وقوله صلى الله عليه وسلم "تابع
إمامك على أي حال وجدته" ما لم يظهر
خطؤه بيقين كان اتباعه واجبا ولا يظهر ذلك في
المجتهدات، فأما إذا خرج عن أقاويل الصحابة
فقد ظهر خطؤه بيقين فلا يجب اتباعه إذ لا
متابعة في الخطإ ولهذا لو اقتدى بمن يرفع يديه
عند الركوع ورفع الرأس منه، أو بمن يقنت في
الفجر، أو بمن يرى خمس تكبيرات في صلاة
الجنازة لا يتابعه لظهور خطئه بيقين؛ لأن ذلك
كله منسوخ، ثم إلى كم يتابعه ؟ اختلف مشايخنا
فيه قال عامتهم: إنه يتابعه إلى ثلاث عشرة
تكبيرة، ثم يسكت بعد ذلك، وقال بعضهم يتابعه
إلى ستة عشرة تكبيرة؛ لأن فعله إلى هذا الموضع
محتمل للتأويل فلعل هذا القائل ذهب إلى ابن
عباس أراد بقوله ثلاث عشرة تكبيرة الزوائد،
فإذا ضممت إليها تكبيرة الافتتاح وتكبيرتي
الركوع صارت ست عشرة تكبيرة لكن هذا إذا كان
يقرب من الإمام يسمع التكبيرات منه، فأما إذا
كان يبعد منه يسمع من المكبرين يأتي بجميع ما
يسمع وإن خرج عن أقاويل الصحابة لجواز أن
الغلط من المكبرين، فلو ترك شيئا منها ربما
كان المتروك ما أتى به الإمام، والمأتي به ما
أخطأ فيه المكبرون فيتابعهم ليتأدى ما يأتيه
الإمام بيقين ولهذا قيل إذا كان المقتدي يبعد
من الإمام يسمع من المكبرين ينبغي أن ينوي بكل
تكبيرة الافتتاح لجواز أن ما سمع قبل هذه كان
غلطا من المنادي، وإنما كبر الإمام للافتتاح
الآن.
ولو شرع الإمام في صلاة العيد فجاء رجل واقتدى
به فإن كان قبل التكبيرات الزوائد يتابع
الإمام على مذهبه، ويترك رأيه؛ لما قلنا، وإن
أدركه بعد ما كبر الإمام الزوائد وشرع في
القراءة فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح ويأتي
بالزوائد برأي نفسه لا برأي الإمام؛ لأنه
مسبوق وإن أدرك الإمام في الركوع فإن لم يخف
فوت الركوع مع الإمام يكبر للافتتاح قائما
ويأتي بالزوائد، ثم يتابع الإمام في الركوع،
وإن كان الاشتغال بقضاء ما سبق به المصلي قبل
الفراغ بما أدركه منسوخا؛ لأن النسخ إنما يثبت
فيما يتمكن من قضائه بعد فراغ الإمام، فأما ما
لا يتمكن من قضائه بعد فراغ الإمام فلم يثبت
فيه النسخ؛ ولأنه لو تابع الإمام لا يخلو إما
أن يأتي بهذه التكبيرات، أو لا يأتي بها، فإن
كان لا يأتي بها فهذا تفويت الواجب، وإن كان
يأتي بها فقد أدى الواجب فيما هو محل له من
وجه دون وجه فكان فيه تفويته عن محله من وجه،
ولا شك أن أداء الواجب فيما هو محل له من وجه
أولى من تفويته رأسا، وإن خاف إن كبر يرفع
الإمام رأسه من الركوع كبر للافتتاح وكبر
للركوع وركع؛ لأنه لو لم يركع يفوته الركوع
فتفوته الركعة بفوته، وتبين أن التكبيرات أيضا
فاتته فيصير بتحصيل التكبيرات مفوتا لها
ولغيرها من أركان الركعة وهذا لا يجوز، ثم إذا
ركع يكبر تكبيرات العيد في الركوع عند أبي
حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يكبر؛ لأنه
فات عن محلها وهو القيام فيسقط كالقنوت، ولهما
أن للركوع حكم القيام ألا ترى أن مدركه يكون
مدركا للركعة فكان محلها قائما فيأتي بها ولا
يرفع يديه، بخلاف القنوت؛ لأنه بمعنى القراءة
فكان محله القيام المحض، وقد فات ثم إن أمكنه
الجمع بين التكبيرات والتسبيحات جمع بينهما،
وإن لم يمكنه الجمع بينهما بالتكبيرات دون
التسبيحات؛ لأن التكبيرات واجبة والتسبيحات
سنة، والاشتغال بالواجب أولى، فإن رفع الإمام
رأسه من الركوع قبل أن يتمها رفع رأسه؛ لأن
متابعة الإمام واجبة وسقط عنه ما بقي من
التكبيرات؛ لأنه فات محلها. ولو ركع الإمام
بعد فراغه من القراءة في الركعة الأولى فتذكر
أنه لم يكبر فإنه يعود ويكبر، وقد انتقض ركوعه
ولا يعيد القراءة فرق بين الإمام والمقتدي حيث
أمر الإمام بالعود إلى القيام ولم يأمره بأداء
التكبيرات في حالة الركوع، وفي المسألة
المتقدمة أمر المقتدي بالتكبيرات في حالة
الركوع، والفرق أن محل التكبيرات في الأصل
القيام المحض، وإنما ألحقنا حالة الركوع
بالقيام في حق المقتدي ضرورة وجوب المتابعة،
وهذه الضرورة لم تتحقق في حق الإمام فبقي
محلها القيام المحض فأمر بالعود إليه، ثم من
ضرورة العود إلى القيام ارتفاض الركوع كما لو
تذكر الفاتحة في الركوع أنه يعود ويقرأ ويرتفض
ركوعه كذا ههنا ولا يعيد القراءة؛ لأنها تمت
بالفراغ عنها، والركن بعد تمامه والانتقال عنه
غير قابل للنقض والإبطال فبقيت على ما تمت،
هذا إذا تذكر بعد الفراغ من القراءة، فأما إن
تذكر قبل الفراغ عنها بأن قرأ الفاتحة دون
السورة ترك القراءة ويأتي بالتكبيرات؛ لأنه
اشتغل بالقراءة قبل أوانها فيتركها ويأتي بما
هو الأهم ليكون المحل محلا له ثم يعيد القراءة
ج / 1 ص -279-
لأن
الركن متى ترك قبل تمامه ينتقض من الأصل؛ لأنه
لا يتجزأ في نفسه، وما لا يتجزأ في الحكم
فوجوده معتبر بوجود الجزء الذي به تمامه في
الحكم، ونظيره من تذكر سجدة في الركوع خر لها
ويعيد الركوع؛ لما مر والله أعلم هذا إذا أدرك
الإمام في الركعة الأولى فإن أدركه في الركعة
الثانية كبر للافتتاح، وتابع إمامه في الركعة
الثانية يتبع فيها رأي إمامه؛ لما قلنا فإذا
فرغ الإمام من صلاته يقوم إلى قضاء ما سبق به،
ثم إن كان رأيه يخالف رأي الإمام يتبع رأي
نفسه؛ لأنه منفرد فيما يقضي، بخلاف اللاحق؛
لأنه في الحكم كأنه خلف الإمام، وإن كان رأيه
موافقا لرأي إمامه بأن كان إمامه يرى رأي ابن
مسعود وهو كذلك بدأ بالقراءة، ثم بالتكبيرات
كذا ذكر في الأصل والجامع والزيادات وفي نوادر
أبي سليمان في أحد الموضعين، وقال في الموضع
الآخر يبدأ بالتكبير ثم بالقراءة ومن مشايخنا
من قال ما ذكر في الأصل قول محمد؛ لأن عنده ما
يقضي المسبوق آخر صلاته، وعندنا في الركعة
الثانية يقرأ ثم يكبر وما ذكر في النوادر قول
أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن عندهما ما يقضيه
المسبوق أول صلاته، وعندنا في الركعة الأولى
يكبر، ثم يقرأ ومنهم من قال: لا خلاف في
المسألة بين أصحابنا، بل فيها اختلاف
الروايتين وجه رواية والنوادر ما ذكرنا أن ما
يقضيه المسبوق أول صلاته؛ لأنه يقضي ما فاته
فيقضيه كما فاته، وقد فاته على وجه يقدم
التكبير فيه على القراءة فيقضيه كذلك، ووجه
رواية الأصل: أن المقضي وإن كان أول صلاته
حقيقة ولكنه الركعة الثانية صورة وفيما أدرك
مع الإمام قرأ، ثم كبر؛ لأنها ثانية الإمام
فلو قدم ههنا ما يقضي أدى ذلك إلى الموالاة
بين التكبيرتين، ولم يقل به أحد من الصحابة
فلا يفعل كذلك احترازا عن مخالفة الإجماع
بصورة هذا الفعل. ولو بدأ بالقراءة لكان فيه
تقديم القراءة في الركعتين، لكن هذا مذهب علي
رضي الله عنه ولا شك أن العمل بما قاله أحد من
الصحابة أولى من العمل بما لم يقل به أحد إذ
هو باطل بيقين.
"فصل": وأما بيان ما يفسدها، وبيان حكمها إذا فسدت، أو فاتت عن وقتها، فكل
ما يفسد سائر الصلوات وما يفسد الجمعة يفسد
صلاة العيدين من خروج الوقت في خلال الصلاة،
أو بعدما قعد قدر التشهد، وفوت الجماعة على
التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا في الجمعة، غير
أنها إن فسدت بما يفسد به سائر الصلوات من
الحدث العمد وغير ذلك يستقبل الصلاة على
شرائطها، وإن فسدت بخروج الوقت أو فاتت عن
وقتها مع الإمام سقطت، ولا يقضيها عندنا، وقال
الشافعي يصليها وحده كما يصلي الإمام يكبر
فيها تكبيرات العيد، والصحيح قولنا؛ لأن
الصلاة بهذه الصفة ما عرفت قربة إلا بفعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم كالجمعة، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم ما فعلها إلا بالجماعة
كالجمعة، فلا يجوز أداؤها إلا بتلك الصفة؛
ولأنها مختصة بشرائط يتعذر تحصيلها في القضاء،
فلا تقضى كالجمعة ولكنه يصلي أربعا مثل صلاة
الضحى إن شاء؛ لأنها إذا فاتت لا يمكن تداركها
بالقضاء لفقد الشرائط، فلو صلى مثل صلاة الضحى
لينال الثواب كان حسنا لكن لا يجب لعدم دليل
الوجوب، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال من
فاتته صلاة العيد صلى أربعا.
"فصل": وأما بيان ما يستحب في يوم العيد فيستحب فيه أشياء منها ما قال أبو
يوسف: إنه يستحب أن يستاك، ويغتسل، ويطعم
شيئا، ويلبس أحسن ثيابه، ويمس طيبا، ويخرج
فطرته قبل أن يخرج، أما الاغتسال والاستياك
ومس الطيب ولبس أحسن الثياب جديدا كان أو
غسيلا -؛ فلما ذكرنا في الجمعة. وأما إخراجه
الفطرة قبل الخروج إلى المصلى في عيد الفطر؛
فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان
يخرج قبل أن يخرج إلى المصلى"؛ ولأنه مسارعة
إلى أداء الواجب فكان مندوبا إليه. وأما الذوق
فيه فلكون اليوم يوم فطر. وأما في عيد الأضحى
فإن شاء ذاق وإن شاء لم يذق، والأدب أنه لا
يذوق شيئا إلى وقت الفراغ من الصلاة حتى يكون
تناوله من القرابين ومنها أن يغدو إلى المصلى
جاهرا بالتكبير في عيد الأضحى، فإذا انتهى إلى
المصلى ترك؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه "كان يكبر في الطريق". وأما في عيد
الفطر فلا يجهر بالتكبير عند أبي حنيفة، وعند
أبي يوسف ومحمد يجهر، وذكر الطحاوي أنه يجهر
في العيدين جميعا، واحتجوا بقوله تعالى:
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ} وليس
بعد إكمال العدة إلا
ج / 1 ص -280-
هذا
التكبير، ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس أنه
حمله قائده يوم الفطر فسمع الناس يكبرون فقال
لقائده: أكبر الإمام ؟ قال: لا قال: أفجن
الناس ؟ ولو كان الجهر بالتكبير سنة لم يكن
لهذا الإنكار معنى؛ ولأن الأصل في الأذكار هو
الإخفاء إلا فيما ورد التخصيص فيه، وقد ورد في
عيد الأضحى فبقي الأمر في عيد الفطر على
الأصل. وأما الآية فقد قيل: إن المراد منه
صلاة العيد على أن الآية تتعرض لأصل التكبير،
وكلامنا في وصف التكبير من الجهر والإخفاء،
والآية ساكتة عن ذلك، "ومنها" أن يتطوع بعد
صلاة العيد أي بعد الفراغ من الخطبة؛ لما روي
عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"من صلى بعد
العيد أربع ركعات كتب الله له بكل نبت نبت،
وبكل ورقة حسنة". وأما قبل صلاة العيد فلا يتطوع في المصلى ولا في بيته عند أكثر
أصحابنا؛ لما نذكر في بيان الأوقات التي يكره
فيها التطوع إن شاء الله تعالى:، "ومنها" أنه
يستحب للإمام إذا خرج إلى الجبانة لصلاة العيد
أن يخلف رجلا يصلي بأصحاب العلل في المصر صلاة
العيد؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه لما
قدم الكوفة استخلف أبا موسى الأشعري ليصلي
بالضعفة صلاة العيد في المسجد، وخرج إلى
الجبانة مع خمسين شيخا يمشي ويمشون؛ ولأن في
هذا إعانة للضعفة على إحراز الثواب فكان حسنا،
وإن لم يفعل لا بأس بذلك؛ لأنه لم ينقل ذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء
الراشدين سوى علي رضي الله عنه؛ ولأنه لا صلاة
على الضعفة، ولكن لو خلف كان أفضل؛ لما بينا
ولا يخرج المنبر في العيدين؛ لما روينا أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وقد صح
أنه "كان يخطب في العيدين على ناقته"، وبه جرى
التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى يومنا هذا؛ ولهذا اتخذوا في المصلى منبرا
على حدة من اللبن والطين، واتباع ما اشتهر
العمل به في الناس واجب.
"فصل": وأما صلاة الكسوف، والخسوف، أما صلاة الكسوف فالكلام في صلاة
الكسوف في مواضع: في بيان أنها واجبة أم سنة،
وفي بيان قدرها وكيفيتها، وفي بيان موضعها،
وفي بيان وقتها. أما الأول فقد ذكر محمد رحمه
الله تعالى: في الأصل ما يدل على عدم الوجوب،
فإنه قال: ولا تصلى نافلة في جماعة إلا قيام
رمضان وصلاة الكسوف، فاستثنى صلاة الكسوف من
الصلوات النافلة، والمستثنى من جنس المستثنى
منه؛ فيدل على كونها نافلة، وكذا روى الحسن بن
زياد ما يدل عليه، فإنه روى عن أبي حنيفة أنه
قال في كسوف الشمس: إن شاءوا صلوا ركعتين، وإن
شاءوا صلوا أربعا، وإن شاءوا أكثر من ذلك،
والتخيير يكون في النوافل لا في الواجبات،
وقال بعض مشايخنا: إنها واجبة؛ لما روي عن ابن
مسعود أنه قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم فقال
الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم فسمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى: لا
ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم من
هذا شيئا فاحمدوا الله وكبروه وسبحوه وصلوا
حتى تنجلي" وفي رواية أبي مسعود الأنصاري "فإذا رأيتموها فقوموا وصلوا" ومطلق
الأمر للوجوب وعن أبي موسى الأشعري أنه قال
"انكسفت الشمس في زمن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقام فزعا فخشي أن تكون الساعة حتى أتى
المسجد فقام فصلى فأطال القيام والركوع
والسجود وقال: إن هذه الآيات ترسل لا تكون
لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى: يرسلها
ليخوف بها عباده فإذا رأيتم منها شيئا فارغبوا
إلى ذكر الله تعالى: "واستغفروه"، وفي بعض
الروايات "فافزعوا إلى الله تعالى: بالصلاة"
وتسمية محمد رحمه الله إياها نافلة لا ينفي
الوجوب؛ لأن النافلة عبارة عن الزيادة، وكل
واجب زيادة على الفرائض الموظفة ألا ترى أنه
قربها بقيام رمضان وهو التراويح، وأنها سنة
مؤكدة، وهي في معنى الواجب، ورواية الحسن لا
تنفي الوجوب؛ لأن التخيير قد يجري بين
الواجبات كما في قوله تعالى:
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ}.
"فصل": وأما الكلام في قدرها وكيفيتها فيصلي ركعتين، كل ركعة بركوع
وسجدتين كسائر الصلوات، وهذا عندنا وعند
الشافعي ركعتان، كل ركعة بركوعين وقومتين
وسجدتين يقرأ ثم يركع ثم يرفع رأسه ثم يقرأ ثم
يركع، واحتج بما روي عن ابن عباس وعائشة رضي
الله عنهما أنهما قالا: "كسفت الشمس على عهد
رسول الله صلى الله
ج / 1 ص -281-
عليه
وسلم فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة،
ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع رأسه فقام قياما
طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا
طويلا وهو دون الركوع الأول" وهذا نص في
الباب. "ولنا" ما روى محمد بإسناده عن أبي
بكرة أنه قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم يجر ثوبه حتى دخل المسجد فصلى
ركعتين فأطالهما حتى تجلت الشمس وذلك حين مات
ولده إبراهيم، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان
من آيات الله تعالى:، وإنهما لا ينكسفان لموت
أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم من هذه الأفزاع
شيئا فافزعوا إلى الصلاة والدعاء؛ لينكشف ما
بكم" ومطلق اسم الصلاة ينصرف إلى الصلاة
المعهودة. وفي رواية عن أبي بكرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "صلى ركعتين نحو صلاة
أحدكم"، وروى الجصاص عن علي والنعمان بن بشير
وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب والمغيرة بن
شعبة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه
وسلم "صلى في الكسوف ركعتين كهيئة صلاتنا"،
والجواب عن تعلقه بحديث ابن عباس وعائشة رضي
الله عنهما أن روايتهما قد تعارضت روي كما
قلتم. وروي أنه صلى أربع ركعات في أربع سجدات،
والمتعارض لا يصلح معارضا، أو نقول تعاضد ما
روينا بالاعتبار بسائر الصلوات؛ فكان العمل
به، أولى أو نحمل ما رويتم على أن النبي صلى
الله عليه وسلم ركع فأطال الركوع كثيرا زيادة
على قدر ركوع سائر الصلوات؛ لما روي أنه عرض
عليه الجنة والنار في تلك الصلاة فرفع أهل
الصف الأول رءوسهم ظنا منهم أنه صلى الله عليه
وسلم رفع رأسه من الركوع فرفع من خلفهم رءوسهم
فلما رأى أهل الصف الأول رسول الله صلى الله
عليه وسلم راكعا ركعوا وركع من خلفهم، فلما
رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من
الركوع رفع القوم رءوسهم فمن كان خلف الصف
الأول ظنوا أنه ركع ركوعين فرووا على حسب ما
وقع عندهم، وعلم الصف الأول حقيقة الأمر
فنقلوا على حسب ما علموه، ومثل هذا الاشتباه
قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة رضي
الله عنها كانت واقفة في خير صفوف النساء وابن
عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت فنقلا كما
وقع عندهما، فيحمل على هذا توفيقا بين
الروايتين، كذا وفق محمد رحمه الله في صلاة
الأثر، وذكر الشيخ أبو منصور أن اختلاف
الروايات خرج مخرج التناسخ لا مخرج التخيير؛
لاختلاف الأئمة في ذلك. ولو كان على التخيير
لما اختلفوا ثم فيظهر أنه قد ظهر انتساخ
زيادات كانت في الابتداء في الصلوات، واستقرت
الصلاة على الصلاة المعهودة اليوم عندنا، فكان
صرف النسخ إلى ما ظهر انتساخه أولى من صرفه
إلى ما لم يظهر أنه نسخه غيره، وروى الشيخ أبو
منصور عن أبي عبد الله البلخي أنه قال: إن
الزيادة ثبتت في صلاة الكسوف لا للكسوف، بل
لأحوال اعترضت، حتى روي أنه صلى الله عليه
وسلم تقدم في الركوع حتى كان كمن يأخذ شيئا ثم
تأخر كمن ينفر عن شيء فيجوز أن تكون الزيادة
منه باعتراض تلك الأحوال، فمن لا يعرفها لا
يسعه التكلم فيها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك؛
لأنه سنة فلما أشكل الأمر لم يعدل عن المعتمد
عليه إلا بيقين.
هذه الصلاة تقام بالجماعة؛ لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أقامها بالجماعة، ولا يقيمها
إلا الإمام الذي يصلي بالناس الجمعة والعيدين،
فأما أن يقيمها كل قوم في مسجدهم فلا. وروي عن
أبي حنيفة أنه قال: إن كان لكل مسجد إمام يصلي
بجماعة؛ لأن هذه الصلاة غير متعلقة بالمصر،
فلا تكون متعلقة بالسلطان كغيرها من الصلوات
والصحيح ظاهر الرواية لأن أداء هذه الصلاة
بالجماعة عرف بإقامة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلا يقيمها إلا من هو قائم مقامه، ولا
نسلم عدم تعلقها بالمصر؛ لأن مشايخنا قالوا:
إنها متعلقة بالمصر فكانت متعلقة بالسلطان،
فإن لم يقمها الإمام حينئذ صلى الناس فرادى:
إن شاءوا ركعتين، وإن شاءوا أربعا والأربع
أفضل، ثم إن شاءوا طولوا القراءة، وإن شاءوا
قصروا واشتغلوا بالدعاء حتى تنجلي الشمس؛ لأن
عليهم الاشتغال بالتضرع إلى أن تنجلي الشمس
وذلك بالدعاء تارة، وبالقراءة أخرى، وقد صح في
الحديث أن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الركعة الأولى كان بقدر سورة البقرة، وفي
الركعة الثانية بقدر سورة آل عمران" فالأفضل
تطويل القراءة فيها.
ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف
الشمس عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف يجهر بها،
وقول محمد مضطرب، ذكر في عامة الروايات قوله
مع قول أبي حنيفة، وجه قول من خالف أبا
ج / 1 ص -282-
حنيفة
ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "صلى صلاة الكسوف وجهر
فيها بالقراءة"؛ لأنها صلاة تقام بجمع عظيم
فيجهر بالقراءة فيها كالجمعة والعيدين ولأبي
حنيفة حديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم "قام قياما طويلا لم يسمع له
صوت" وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلاة الكسوف وكنت إلى جنبه فلم أسمع منه
حرفا"، وقال صلى الله عليه وسلم "صلاة النهار
عجماء" أي ليس فيها قراءة مسموعة؛ ولأن القوم لا يقدرون على التأمل في
القراءة لتصير ثمرة القراءة مشتركة؛ لاشتغال
قلوبهم بهذا الفزع، كما لا يقدرون على التأمل
في سائر الأيام في صلوات النهار؛ لاشتغال
قلوبهم بالمكاسب، وحديث عائشة تعارض بحديث ابن
عباس فبقي لنا الاعتبار الذي ذكرنا مع ظواهر
الأحاديث الأخر، ونحمل ذلك على أنه جهر ببعضها
اتفاقا، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسمع الآية والآيتين في صلاة الظهر أحيانا
والله أعلم.
وليس في هذه الصلاة أذان ولا إقامة؛ لأنهما من
خواص المكتوبات، ولا خطبة فيها عندنا، وقال
الشافعي يخطب خطبتين لحديث عائشة رضي الله
عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلى في
كسوف الشمس ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه"،
ولنا أن الخطبة لم تنقل على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومعنى قولها خطب أي دعا، أو؛
لأنه احتاج إلى الخطبة ردا لقول الناس: إنما
كسفت الشمس لموت إبراهيم لا للصلاة، والله
أعلم.
"وأما" خسوف القمر فالصلاة فيها حسنة لما
روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فافزعوا إلى
الصلاة" وهي لا تصلى بجماعة عندنا، وعند
الشافعي تصلى بجماعة، واحتج بما روي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه صلى بالناس في خسوف
القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم"، ولنا أن الصلاة بجماعة في
خسوف القمر لم تنقل عن النبي صلى الله عليه
وسلم مع أن خسوفه كان أكثر من كسوف الشمس؛
ولأن الأصل أن غير المكتوبة لا تؤدى بجماعة
قال النبي صلى الله عليه وسلم
"صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة" إلا إذا ثبت بالدليل كما في العيدين، وقيام رمضان، وكسوف الشمس؛
ولأن الاجتماع بالليل متعذر، أو سبب الوقوع في
الفتنة، وحديث ابن عباس غير مأخوذ به؛ لكونه
خبر آحاد في محل الشهرة.
وكذا تستحب الصلاة في كل فزع: كالريح الشديدة،
والزلزلة، والظلمة، والمطر الدائم؛ لكونها من
الأفزاع، والأهوال، وقد روي عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه صلى لزلزلة بالبصرة.
وأما موضع الصلاة: أما في خسوف القمر فيصلون
في منازلهم؛ لأن السنة فيها أن يصلوا وحدانا
على ما بينا. وأما في كسوف الشمس فقد ذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه يصلى في
الموضع الذي يصلى فيه العيد، أو المسجد
الجامع؛ ولأنها من شعائر الإسلام فتؤدى في
المكان المعد؛ لإظهار الشعائر. ولو اجتمعوا في
موضع آخر وصلوا بجماعة أجزأهم، والأول أفضل؛
لما مر. وأما وقتها فهو الوقت الذي يستحب فيه
أداء سائر الصلوات دون الأوقات المكروهة؛ ولأن
هذه الصلاة إن كانت نافلة فالنوافل في هذه
الأوقات مكروهة وإن كانت لها أسباب عندنا
كركعتي التحية، وركعتي الطواف؛ لما نذكر في
موضعه، وإن كانت واجبة فأداء الواجبات في هذه
الأوقات مكروهة كسجدة التلاوة وغيرها والله
الموفق.
"فصل:
وأما صلاة الاستسقاء". فظاهر الرواية عن أبي
حنيفة أنه قال: " لا صلاة في الاستسقاء، وإنما
فيه الدعاء " وأراد بقوله لا صلاة في
الاستسقاء الصلاة بجماعة أي لا صلاة فيه
بجماعة بدليل ما روي عن أبي يوسف أنه قال: "
سألت أبا حنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو
دعاء موقت أو خطبة ؟ فقال: أما الصلاة بجماعة
فلا، ولكن الدعاء والاستغفار، وإن صلوا وحدانا
فلا بأس به "، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال
محمد: " يصلي الإمام أو نائبه في الاستسقاء
ركعتين بجماعة كما في الجمعة " ولم يذكر في
ظاهر الرواية قول أبي يوسف، وذكر في بعض
المواضع قوله مع قول أبي حنيفة، وذكر الطحاوي
قوله مع قول محمد وهو الأصح واحتجا بحديث ابن
عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بجماعة
في الاستسقاء ركعتين" والمروي في حديث عبد
الله بن عامر بن ربيعة "أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى فيه ركعتين كصلاة العيد"، ولأبي
حنيفة قوله تعالى:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}. والمراد منه الاستغفار، بدليل قوله
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ
ج / 1 ص -283-
عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} أمر بالاستغفار في الاستسقاء فمن زاد عليه الصلاة فلا بد من دليل
وكذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الروايات المشهورة أنه صلى في الاستسقاء فإنه
روي أنه صلى الله عليه وسلم "صلى الجمعة فقام
رجل فقال: يا رسول الله أجدبت الأرض وهلكت
المواشي فاسق لنا الغيث فرفع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يديه إلى السماء ودعا، فما ضم
يديه حتى مطرت السماء فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "لله در أبي
طالب لو كان في الأحياء لقرت عيناه"
فقال علي رضي الله عنه: تعني يا رسول الله
قوله
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال صلى الله عليه وسلم:
"أجل" وفي بعض الروايات قام ذلك الأعرابي وأنشد فقال
أتيناك والعذراء يدمى لبانها
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وقال في آخره
وليس لنا إلا إليك فرارنا
وليس فرار الناس إلا إلى الرسل
فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت
لحيته الشريفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه ورفع يديه إلى السماء وقال:
"اللهم
اسقنا غيثا مغيثا عذبا طيبا نافعا غير ضار
عاجلا غير آجل"
فما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى
صدره حتى مطرت السماء وجاء أهل البلد يصيحون
الغرق الغرق يا رسول الله فضحك رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فقال:
"اللهم حوالينا ولا علينا"
فانجابت السحابة حتى أحدقت بالمدينة كالإكليل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه"
من ينشدنا قوله ؟ فقام علي رضي الله عنه وأنشد
البيت المتقدم أولا" وما روي أنه صلى الله
عليه وسلم صلى وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج
إلى الاستسقاء ولم يصل بجماعة بل صعد المنبر
واستغفر الله وما زاد عليه فقالوا ما استسقيت
يا أمير المؤمنين ؟ فقال لقد استسقيت بمجاديح
السماء التي بها يستنزل الغيث وتلا قوله
تعالى:
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}.
وروي أنه خرج بالعباس فأجلسه على المنبر ووقف
بجنبه يدعو ويقول: اللهم إنا نتوسل إليك بعم
نبيك ودعا بدعاء طويل فما نزل عن المنبر حتى
سقوا، وعن علي أنه استسقى ولم يصل، وما روي
أنه صلى الله عليه وسلم صلى بجماعة حديث شاذ
ورد في محل الشهرة؛ لأن الاستسقاء يكون بملأ
من الناس، ومثل هذا الحديث يرجح كذبه على
صدقه، أو وهمه على ضبطه فلا يكون مقبولا مع أن
هذا مما تعم به البلوى في ديارهم، وما تعم به
البلوى، ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا
يقبل فيه الشاذ والله أعلم.
ثم عندهما يقرأ في الصلاة ما شاء جهرا كما في
صلاة العيدين لكن الأفضل أن يقرأ بسبح اسم ربك
الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقرؤهما في صلاة العيد ولا
يكبر فيها في المشهور من الرواية عنهما. وروي
عن محمد أنه يكبر، وليس في الاستسقاء أذان ولا
إقامة، أما عند أبي حنيفة فلا يشكل؛ لأنه ليس
فيه صلاة الجماعة، وإن شاءوا صلوا فرادى، وذلك
في معنى الدعاء وعندهما إن كان فيه صلاة
بالجماعة، ولكنها ليست بمكتوبة، والأذان
والإقامة من خواص المكتوبات كصلاة العيد، ثم
بعد الفراغ من الصلاة يخطب عندهما، وعند أبي
حنيفة لا يخطب، ولكن لو صلوا وحدانا يشتغلون
بالدعاء بعد الصلاة؛ لأن الخطبة من توابع
الصلاة بجماعة، والجماعة غير مسنونة في هذه
الصلاة عنده، وعندهما سنة فكذا الخطبة، ثم عند
محمد يخطب خطبتين يفصل بينهما بالجلسة كما في
صلاة العيد، وعن أبي يوسف أنه يخطب خطبة
واحدة؛ لأن المقصود منها الدعاء فلا يقطعها
بالجلسة، ولا يخرج المنبر في الاستسقاء، ولا
يصعده لو كان في موضع الدعاء منبر؛ لأنه خلاف
السنة، وقد عاب الناس على مروان بن الحكم عند
إخراجه المنبر في العيدين ونسبوه إلى خلاف
السنة على ما بينا، ولكن يخطب على الأرض
معتمدا على قوس أو سيف وإن توكأ على عصا فحسن؛
لأن خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا،
ويخطب مقبلا بوجهه إلى الناس وهم مقبلون عليه؛
لأن الإسماع والاستماع إنما يتم عند المقابلة،
ويستمعون الخطبة وينصتون؛ لأن الإمام يعظهم
فيها فلا بد من الإنصات والاستماع، وإذا فرغ
من الخطبة جعل ظهره إلى الناس ووجهه إلى
القبلة ويشتغل بدعاء الاستسقاء، والناس قعود
مستقبلون بوجوههم إلى القبلة في الخطبة
والدعاء؛ لأن الدعاء مستقبل
ج / 1 ص -284-
القبلة
أقرب إلى الإجابة فيدعو الله ويستغفر
للمؤمنين، ويجددون التوبة ويستسقون.
وهل يقلب الإمام رداءه لا يقلب في قول أبي
حنيفة، وعندهما يقلب إذا مضى صدر من خطبته
فاحتجا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"قلب رداءه" ولأبي حنيفة ما روي "أنه عليه
السلام استسقى يوم الجمعة ولم يقلب الرداء"؛
ولأن هذا دعاء فلا معنى لتغيير الثوب فيه كما
في سائر الأدعية، وما روي أنه قلب الرداء
محتمل، يحتمل أنه تغير عليه فأصلحه فظن الراوي
أنه قلب، أو يحتمل أنه عرف من طريق الوحي أن
الحال ينقلب من الجدب إلى الخصب متى قلب
الرداء بطريق التفاؤل ففعل، وهذا لا يوجد في
حق غيره، وكيفية تقليب الرداء عندهما أنه كان
مربعا جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، وإن كان
مدورا جعل الجانب الأيمن على الأيسر والأيسر
على الأيمن. وأما القوم فلا يقلبون أرديتهم
عند عامة العلماء، وعند مالك يقلبون أيضا،
واحتج بما روي عن عبد الله بن يزيد "أن النبي
صلى الله عليه وسلم حول رداءه وحول الناس
أرديتهم" وهما يقولان: إن تحويل الرداء في حق
الإمام أمر ثبت بخلاف القياس بالنص على ما
ذكرنا فنقتصر على مورد النص، وما روي من
الحديث شاذ على أنه يحتمل أنه صلى الله عليه
وسلم عرف ذلك فلم ينكر عليهم؛ فيكون تقريرا،
ويحتمل أنه لم يعرف؛ لأنه كان مستقبل القبلة
مستدبرا لهم فلا يكون حجة مع الاحتمال.
ثم إن شاء رفع يديه نحو السماء عند الدعاء،
وإن شاء أشار بأصبعه كذا روي عن أبي يوسف؛ لأن
رفع اليدين عند الدعاء سنة؛ لما روي "أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعرفات باسطا
يديه كالمستطعم المسكين".
المستحب أن يخرج الإمام، والناس إلى الاستسقاء
ثلاثة أيام متتابعة؛ لأن المقصود من الدعاء
الإجابة، والثلاثة مدة ضربت لإبلاء الأعذار
وإن أمر الأمام الناس بالخروج ولم يخرج بنفسه
خرجوا؛ لما روي "أن قوما شكوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم القحط فأمرهم أن يجثوا على
الركب" ولم يخرج بنفسه، وإذا خرجوا اشتغلوا
بالدعاء ولم يصلوا بجماعة إلا إذا أمر الإمام
إنسانا أن يصلي بهم جماعة؛ لأن هذا دعاء فلا
يشترط له حضور الإمام، وإن خرجوا بغير إذنه
جاز؛ لأنه دعاء فلا يشترط له إذن الإمام.
ولا يمكن أهل الذمة من الخروج إلى الاستسقاء
عند عامة العلماء. وقال مالك إن خرجوا لم
يمنعوا، والصحيح قول العامة؛ لأن المسلمين
بخروجهم إلى الاستسقاء ينظرون نزول الرحمة
عليهم، والكفار منازل اللعنة والسخطة فلا
يمكنون من الخروج والله أعلم.
"فصل": وأما الصلاة المسنونة فهي السنن المعهودة للصلوات المكتوبة،
والكلام فيها يقع في مواضع: في بيان مواقيت
هذه السنن، ومقاديرها جملة وتفصيلا، وفي بيان
صفة القراءة فيها، وفي بيان ما يكره فيها، وفي
بيان أنها إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا ؟
أما الأول فوقت جملتها وقت المكتوبات؛ لأنها
توابع للمكتوبات فكانت تابعة لها في الوقت،
ومقدار جملتها اثنتا عشرة ركعة: ركعتان وأربع،
وركعتان وركعتان، وركعتان في ظاهر الرواية.
وأما مقدار كل واحدة منها، ووقتها على
التفصيل: فركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر
لا يسلم إلا في آخرهن، وركعتان بعده، وركعتان
بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء كذا ذكر محمد
في الأصل، وذكر في العصر والعشاء إن تطوع
بأربع قبله فحسن، وذكر الكرخي هكذا إلا أنه
قال في العصر: وأربع قبل العصر، وفي العشاء
وأربع بعد العشاء، وروى الحسن عن أبي حنيفة
وركعتان قبل العصر، والعمل فيما روينا على
المذكور في الأصل. والأصل في السنن ما روي عن
عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال "من ثابر على اثنتي عشرة
ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في
الجنة: ركعتين قبل الفجر، وأربع قبل الظهر،
وركعتين بعدها، وركعتين بعد العشاء"، وقد واظب
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ولم يترك
شيئا منها إلا مرة أو مرتين لعذر وهذا تفسير
السنة، وأقوى السنن ركعتا الفجر لورود الشرع
بالترغيب فيهما ما لم يرد في غيرهما فإنه روي
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما
فيها" وعن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} أنه ركعتا الفجر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"صلوهما فإن فيهما لرغائب". وروي عنه أنه قال:
"صلوهما ولو طردتكم الخيل"
وروى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه "كان يصلي بعد الزوال في كل يوم أربع
ركعات" منهم أبو أيوب الأنصاري
ج / 1 ص -285-
رضي
الله عنه وروى عنه أيضا قولا على ما نذكر وعن
عبيدة السلماني أنه قال ما اجتمع أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم على شيء كاجتماعهم
على محافظة الأربع قبل الظهر وتحريم نكاح
الأخت في عدة الأخت ثم في هذه الأربع بتسليمة
واحدة عندنا، وعند الشافعي بتسليمتين واحتج
بحديث ابن عمر رضي الله عنه أنه ذكر اثنتي
عشرة ركعة كما ذكرت عائشة إلا أنه زاد وأربعا
قبل الظهر بتسليمتين، ولنا حديث أبي أيوب
الأنصاري أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي بعد الزوال أربع ركعات فقلت: ما هذه
الصلاة التي تداوم عليها يا رسول الله ؟ فقال:
هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد
لي فيها عمل صالح فقلت: أفي كلهن قراءة ؟ قال:
نعم فقلت: بتسليمة أم بتسليمتين ؟ فقال
بتسليمة واحدة"، وهذا نص في الباب، والتسليم
في حديث ابن عمر عبارة عن التشهد؛ لما فيه من
السلام كما فيه من الشهادة على ما مر، وإنما
ذكر في الأصل في التطوع بالأربع قبل العصر
حسن؛ لأن كون الأربع من السنن الراتبة غير
ثابت؛ لأنها لم تذكر في حديث عائشة، ولم يرو
أنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على ذلك؛
ولذا اختلفت الروايات في فصله إياها. وروي في
بعضها أنه صلى أربعا، وفي بعضها ركعتين فإن
صلى أربعا كان حسنا لحديث أم حبيبة رضي الله
عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من صلى أربع
ركعات قبل العصر كانت له جنة من النار"
وذكر في الأصل وإن تطوع بعد المغرب بست ركعات
كتب من الأوابين وتلا قوله تعالى:
{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}، وإنما قال في الأصل: إن التطوع بالأربع قبل العشاء حسن؛ لأن
التطوع بها لم يثبت أنه من السنن الراتبة، ولو
فعل ذلك فحسن؛ لأن العشاء نظير الظهر في أنه
يجوز التطوع قبلها وبعدها، ووجه رواية الكرخي
في الأربع بعد العشاء ما روي عن ابن عمر رضي
الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من صلى بعد
العشاء أربع ركعات كن له كمثلهن من ليلة
القدر"
وروي عن عائشة أنها "سئلت عن قيام رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان فقالت: كان
قيامه في رمضان وغيره سواء، كان يصلي بعد
العشاء أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم
أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم كان يوتر
بثلاث". وأما السنة قبل الجمعة وبعدها فقد ذكر
في الأصل: وأربع قبل الجمعة، وأربع بعدها،
وكذا ذكر الكرخي، وذكر الطحاوي عن أبي يوسف
أنه قال يصلي بعدها ستا وقيل: هو مذهب علي رضي
الله عنه وما ذكرنا أنه كان يصلي أربعا مذهب
ابن مسعود، وذكر محمد في كتاب الصوم أن
المعتكف يمكث في المسجد الجامع مقدار ما يصلي
أربع ركعات، أو ست ركعات أما الأربع قبل
الجمعة؛ فلما روي عن ابن عمر رضي الله عنه "أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطوع قبل
الجمعة بأربع ركعات"؛ ولأن الجمعة نظير الظهر،
ثم التطوع قبل الظهر أربع ركعات كذا قبلها.
وأما بعد الجمعة فوجه قول أبي يوسف إن فيما
قلنا جمعا بين قول النبي صلى الله عليه وسلم
وبين فعله فإنه روي "أنه أمر بالأربع بعد
الجمعة" وروي أنه "صلى ركعتين بعد الجمعة"،
فجمعنا بين قوله وفعله قال أبو يوسف: ينبغي أن
يصلي أربعا، ثم ركعتين كذا روي عن علي رضي
الله عنه كي لا يصير متطوعا بعد صلاة الفرض
بمثلها، وجه ظاهر الرواية ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "من كان مصليا بعد
الجمعة فليصل أربعا" وما روي من فعله صلى الله
عليه وسلم فليس فيه ما يدل على المواظبة، ونحن
لا نمنع من يصلي بعدها كم شاء، غير أنا نقول:
السنة بعدها أربع ركعات لا غير؛ لما روينا.
"فصل": وأما صفة القراءة فيها فالقراءة في السنن في الركعات كلها فرض؛ لأن
السنة تطوع وكل شفع من التطوع صلاة على حدة؛
لما نذكر في صلاة التطوع فكان كل شفع منها
بمنزلة الشفع الأول من الفرائض، وقد روينا في
حديث أبي أيوب أنه "سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الأربع قبل الظهر أفي كلهن قراءة
؟ قال: نعم" والله أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يكره منها فيكره للإمام أن يصلي شيئا من السنن في
المكان الذي صلى فيه المكتوبة؛ لما ذكرنا فيما
تقدم، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال "أيعجز
أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر"
ولا يكره ذلك للمأموم؛ لأن الكراهة في حق
الإمام للاشتباه وهذا لا يوجد في حق المأموم،
لكن يستحب له أن يتنحى أيضا حتى تنكسر الصفوف
ويزول الاشتباه على الداخل من كل وجه على ما
مر. ويكره أن
ج / 1 ص -286-
يصلي
شيئا منها والناس في الصلاة، أو أخذ المؤذن في
الإقامة إلا ركعتي الفجر فإنه يصليهما خارج
المسجد، وإن فاتته ركعة من الفجر، فإن خاف أن
تفوته الفجر تركهما وجملة الكلام فيه أن
الداخل إذا دخل المسجد للصلاة لا يخلو إما أن
كان يصلي المكتوبة، وإما أن كان لم يصل، وإما
أن كان لم يصلها فلا يخلو إما أن دخل المسجد
وقد أخذ المؤذن في الإقامة، أو دخل المسجد
وشرع في الصلاة ثم أخذ المؤذن في الإقامة فإن
دخل وقد كان المؤذن أخذ في الإقامة يكره له
التطوع في المسجد سواء كان ركعتي الفجر، أو
غيرهما من التطوعات؛ لأنه يتهم بأنه لا يرى
صلاة الجماعة، وقد قال النبي: صلى الله عليه
وسلم
"من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يقفن مواقف التهم". وأما
خارج المسجد فكذلك في سائر التطوعات. وأما في
ركعتي الفجر فالأمر فيه على التفصيل الذي
ذكرنا؛ لأن إدراك فضيلة الافتتاح أولى من
الاشتغال بالنفل، قال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"تكبيرة الافتتاح خير من الدنيا وما فيها" وليست هذه المرتبة لسائر النوافل، وفي الاشتغال باستدراكها فوات
النوافل، وفي الاشتغال باستدراك النوافل فوتها
وهي أعظم ثوابا فكان إحراز فضيلتها أولى،
بخلاف ركعتي الفجر فإن الترغيب فيهما قد وجد
حسبما وجد في تكبيرة الافتتاح قال صلى الله
عليه وسلم:
"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"
فقد استويا في الدرجة واختلف تخريج مشايخنا في
ذلك منهم من قال: موضوع المسألة أن الرجل إذا
انتهى إلى الإمام وقد سبقه بالتكبير وشرع في
قراءة السورة فيأتي بركعتي الفجر لينال هذه
الفضيلة عند فوت تلك الفضيلة؛ لأن إدراك
تكبيرة الافتتاح غير موهوم، فإذا عجز عن إحراز
إحدى الفضيلتين يحرز الأخرى، فإذا كان الإمام
لم يأت بتكبيرة الافتتاح بعد يشتغل بإحرازها؛
لأنها عند التعارض تأيدت بالانضمام إلى فضيلة
الجماعة، فكان إحرازها أولى، غير أن موضوع
المسألة على خلاف هذا فإن محمدا وضع المسألة
فيما إذا أخذ المؤذن في الإقامة ومع ذلك قال:
إنه يشتغل بالتطوع إذا كان يرجو إدراك ركعة
واحدة، وإن استويا في الدرجة على ما مر،
والوجه فيه أنه لو اشتغل بإحراز فضيلة تكبيرة
الافتتاح لفاتته فضيلة ركعتي الفجر أصلا. ولو
اشتغل بركعتي الفجر لما فاتته فضيلة تكبيرة
الافتتاح من جميع الوجوه؛ لأنها باقية من كل
وجه ما دامت الصلاة باقية؛ لأن تكبيرة
الافتتاح هي التحريمة، وهي تبقى ما دامت
الأركان باقية فكانت تكبيرة الافتتاح باقية
ببقاء التحريمة من وجه، فصار مدركا من وجه
وصار مدركا أيضا فضيلة الجماعة، قال النبي صلى
الله عليه وسلم "من أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها"؛ ولأنه أدرك أكثر الصلاة؛ لأن الفائت ركعة لا غير، والمستدرك ركعة
وقعدة، وللأكثر حكم الكل فكان الاشتغال بركعتي
الفجر أولى بخلاف ما إذا كان يخاف فوت
الركعتين جميعا؛ لأنهما إذا فاتتا لم يبق شيء
من الأركان الأصلية. ولو بقي شيء قليل لا عبرة
له بمقابلة ما فات؛ لأنه أقل، والفائت أكثر
وللأكثر حكم الكل فعجز عن إحرازهما فيختار
تكبيرة الافتتاح لما انضم إلى إحرازها فضيلة
الجماعة في الفرض، والنبي صلى الله عليه وسلم
يقول
"تفضل الصلاة بجماعة على صلاة الفذ بخمس
وعشرين درجة وفي رواية بسبع وعشرين درجة" فكان هذا أولى والله أعلم.
أما إذا دخل المسجد وشرع في الصلاة ثم أخذ
المؤذن في الإقامة فهذا أيضا على وجهين إما إن
شرع في التطوع وإما إن شرع في الفرض، فإن شرع
في التطوع ثم أقيمت الصلاة أتم الشفع الذي هو
فيه، ولا يزيد عليه أما إتمام الشفع، فلأن
صونه عن البطلان واجب، وقد أمكنه ذلك ولا يزيد
عليه؛ لأنه لا يلزمه بالشروع في التطوع زيادة
على الشفع فكانت الزيادة عليه كابتداء تطوع
آخر. وقد ذكرنا أن ابتداء التطوع في المسجد
بعد الإقامة مكروه. وأما إذا شرع في الفرض ثم
أقيمت الصلاة فإن كان في صلاة الفجر يقطعها ما
لم يقيد الثانية بالسجدة؛ لأن القطع وإن كان
نقصا صورة فليس بنقص معنى لأنه للأداء على وجه
الأكمل، والهدم ليبني أكمل يعد إصلاحا لا
هدما، ألا ترى أن من هدم مسجدا ليبني أحسن من
الأول لا يأثم، وإذا قيد الثانية بالسجدة لم
يقطع؛ لأنه أتى بالأكثر وللأكثر حكم الكل،
والفرض بعد إتمامه لا يحتمل الانتقاض، ولا
يدخل في صلاة الإمام؛ لأن التنفل بعد صلاة
الفجر مكروه وإن كان في صلاة الظهر فإن كان
صلى ركعة ضم إليها أخرى، لأنه يمكنه صون
المؤدى واستدراك فضيلة الجماعة؛ لأن "صلاة الرجل بالجماعة تزيد على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"
ج / 1 ص -287-
على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صلى ركعتين تشهد وسلم
لما قلنا، وكذا إذا قام إلى الثالثة قبل أن
يقيدها بالسجدة يعود إلى التشهد ويسلم، ولا
يسلم على حاله قائما؛ لأن ما أتى به من القعدة
كانت سنة، وقعدة الختم فرض فعليه أن يعود إلى
القعدة ثم يسلم ليكون متنفلا بركعتين، فإن كان
قيد الثالثة بالسجدة أتمها؛ لأنه أدى الأكثر
فلا يمكنه القطع، ويدخل مع الإمام فيجعلها
تطوعا لما روي "عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه صلى في مسجد الخيف فرأى رجلين خلف
الصف فقال علي بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما
فقال ما لكما لم تصليا معنا فقالا: كنا صلينا
في رحالنا فقال: صلى الله عليه وسلم إذا
صليتما في رحالكما ثم أتيتما إمام قوم فصليا
معه واجعلا ذلك سبحة" أي: نافلة وكان ذلك في
الظهر كذا روي عن أبي يوسف في الإملاء ولو كان
في الركعة الأولى ولم يقيدها بالسجدة لم يذكر
في الكتاب، والصحيح أنه يقطعها ليدخل مع
الإمام فيحرز ثواب تكبيرة الافتتاح؛ لأن ما
دون الركعة ليس له حكم الصلاة، ألا ترى أنه
يعود من الركعة الثالثة ما لم يقيدها بالسجدة،
وكذا الجواب في العصر والعشاء إلا أنه لا يدخل
في العصر مع الإمام؛ لأن التنفل بعده مكروه،
ويخرج من المسجد؛ لأن المخالفة في الخروج أقل
منها في المكث. وأما في المغرب فإن صلى ركعة
قطعها؛ لأنه لو ضم إليها أخرى لأدى الأكثر فلا
يمكنه القطع. ولو قطع كان به متنفلا بركعتين
قبل المغرب، وهو منهي عنه وإن قيد الثالثة
بالسجدة مضى فيها لما قلنا، ولا يدخل مع
الإمام؛ لأنه لا يخلو إما أن يقتصر على الثلاث
كما يفعله الإمام، والتنفل بالثلاث غير مشروع،
وإما أن يصلي أربعا فيصير مخالفا لإمامه، وعن
أبي يوسف أنه يدخل مع الإمام فإذا فرغ الإمام
يصلي ركعة أخرى لتصير شفعا له، وقال بشر
المريسي: يسلم مع الإمام؛ لأن هذا التغيير
بحكم الاقتداء وذلك جائز كالمسبوق يدرك الإمام
في القعدة أنه يقعد معه وابتداء الصلاة لا
يكون بالقعدة ثم جاز هذا التغيير بحكم
الاقتداء، كذا هذا فإن دخل مع الإمام صلى
أربعا كما قال أبو يوسف؛ لأن بالقيام إلى
الركعة الثانية صار ملتزما للركعتين لخروج
الركعة الواحدة عن جواز التنفل بها، قال ابن
مسعود: والله ما أجزأت ركعة قط فلذلك يتم
أربعا لو دخل مع الإمام، هذا إذا كان لم يصل
المكتوبة، فإن كان قد صلاها ثم دخل المسجد فإن
كان صلاة لا يكره التطوع بعدها شرع في صلاة
الإمام وإلا فلا.
"فصل": وأما بيان أن السنة إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا ؟ فنقول
وبالله التوفيق: لا خلاف بين أصحابنا في سائر
السنن سوى ركعتي الفجر أنها إذا فاتت عن وقتها
لا تقضى سواء فاتت وحدها، أو مع الفريضة، وقال
الشافعي في قول: تقضى قياسا على الوتر، ولنا
ما روت أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل حجرتي بعد العصر فصلى ركعتين فقلت: يا
رسول الله ما هاتان الركعتان اللتان لم تكن
تصليهما من قبل ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر" وفي رواية "ركعتا الظهر شغلني عنهما الوفد فكرهت أن أصليهما بحضرة
الناس فيروني، فقلت: أفأقضيهما إذا فاتتا ؟
فقال: لا" وهذا نص على أن القضاء غير واجب على
الأمة، وإنما هو شيء اختص به النبي صلى الله
عليه وسلم ولا شركة لنا في خصائصه وقياس هذا
الحديث أن لا يجب قضاء ركعتي الفجر أصلا، إلا
أنا استحسنا القضاء إذا فاتتا مع الفرض لحديث
ليلة التعريس، ولأن سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم عبارة عن طريقته وذلك بالفعل في وقت
خاص على هيئة مخصوصة على ما فعله النبي صلى
الله عليه وسلم فالفعل في وقت آخر لا يكون
سلوك طريقته، فلا يكون سنة بل يكون تطوعا
مطلقا. وأما ركعتا الفجر إذا فاتتا مع الفرض
فقد فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم مع الفرض
ليلة التعريس فنحن نفعل ذلك لنكون على طريقته،
وهذا بخلاف الوتر؛ لأنه واجب عند أبي حنيفة
على ما ذكرنا، والواجب ملحق بالفرض في حق
العمل، وعندهما وإن كان سنة مؤكدة لكنهما عرفا
وجوب القضاء بالنص الذي روينا فيما تقدم. أما
سنة الفجر فإن فاتت مع الفرض تقضى مع الفرض
استحسانا لحديث ليلة التعريس فإن النبي صلى
الله عليه وسلم "لما نام في ذلك الوادي ثم
استيقظ بحر الشمس فارتحل منه ثم نزل وأمر
بلالا فأذن فصلى ركعتي الفجر، ثم أمره فأقام
فصلى صلاة الفجر". وأما إذا فاتت وحدها لا
تقضى عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد:
تقضى إذا ارتفعت الشمس قبل الزوال، واحتج
بحديث ليلة التعريس أنه صلى الله عليه وسلم
"قضاهما بعد
ج / 1 ص -288-
طلوع
الشمس قبل الزوال" فصار ذلك وقت قضائهما،
ولهما أن السنن شرعت توابع للفرائض فلو قضيت
في وقت لا أداء فيه للفرائض لصارت السنن أصلا،
وبطلت التبعية فلم تبق سنن مؤكدة؛ لأنها كانت
سنة بوصف التبعية، وليلة التعريس فاتتا مع
الفرض فقضيتا تبعا للفرض، ولا كلام فيه إنما
الخلاف فيما إذا فاتتا وحدهما، ولا وجه إلى
قضائهما وحدهما لما بينا، ولهذا لا يقضى
غيرهما من السنن ولا هما يقضيان بعد الزوال.
وأما الذي هو سنن الصحابة فصلاة التراويح في
ليالي رمضان، والكلام في صلاة التراويح في
مواضع: في بيان، وقتها، وفي بيان صفتها، وفي
بيان قدرها، وفي سننها، وفي بيان أنها إذا
فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا ؟. أما صفتها فهي
سنة كذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال:
القيام في شهر رمضان سنة لا ينبغي تركها، وكذا
روي عن محمد أنه قال: التراويح سنة إلا أنها
ليست بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما واظب
عليه ولم يتركه إلا مرة أو مرتين لمعنى من
المعاني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما
واظب عليها بل أقامها في بعض الليالي، روي
"أنه صلاها لليلتين بجماعة ثم ترك وقال:
"أخشى أن تكتب عليكم" لكن الصحابة واظبوا عليها فكانت سنة الصحابة.
"فصل": وأما قدرها فعشرون ركعة في عشر تسليمات، في خمس ترويحات كل
تسليمتين ترويحة وهذا قول عامة العلماء. وقال
مالك في قول: ستة وثلاثون ركعة، وفي قول ستة
وعشرون ركعة، والصحيح قول العامة لما روي أن
عمر رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شهر رمضان على أبي بن كعب
فصلى بهم في كل ليلة عشرين ركعة، ولم ينكر أحد
عليه فيكون إجماعا منهم على ذلك.
وأما وقتها فقد اختلف مشايخنا فيه قال بعضهم:
وقتها ما بين العشاء والوتر، فلا تجوز قبل
العشاء ولا بعد الوتر، وقال عامتهم: وقتها ما
بعد العشاء إلى طلوع الفجر فلا تجوز قبل
العشاء؛ لأنها تبع للعشاء فلا تجوز قبلها كسنة
العشاء، وذكر الناطفي في إمام صلى بقوم صلاة
العشاء على غير وضوء ناسيا، ثم صلى بهم إمام
آخر التراويح متوضئا، ثم علم أن الأول كان على
غير وضوء ؟ أن عليهم أن يعيدوا العشاء
والتراويح جميعا: أما العشاء فلا شك فيها.
وأما التراويح؛ فلأنها تصلى إلى طلوع الفجر؛
لأن ذلك وقتها.
وهل يكره تأخيرها إلى نصف الليل ؟ قال بعضهم:
يكره؛ لأنها تبع للعشاء، ويكره تأخير العشاء
إلى نصف الليل فكذا تأخيرها، والصحيح أنه لا
يكره؛ لأنها قيام الليل، وقيام الليل في آخر
الليل أفضل.
"فصل": وأما سننها فمنها الجماعة والمسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قدر ما صلى من التراويح صلى بجماعة في المسجد،
فكذا الصحابة رضي الله عنهم صلوها بجماعة في
المسجد فكان أداؤها بالجماعة في المسجد سنة،
ثم اختلف المشايخ في كيفية سنة الجماعة،
والمسجد، أنها سنة عين أم سنة كفاية ؟ قال
بعضهم: إنها سنة على سبيل الكفاية إذا قام بها
بعض أهل المسجد في المسجد بجماعة سقط عن
الباقين. ولو ترك أهل المسجد كلهم إقامتها في
المسجد بجماعة فقد أساءوا وأثموا، ومن صلاها
في بيته وحده، أو بجماعة لا يكون له ثواب سنة
التراويح لتركه ثواب سنة الجماعة والمسجد.
ومنها نية التراويح أو نية قيام رمضان، أو نية
سنة الوقت. ولو نوى الصلاة مطلقا، أو نوى
التطوع، قال بعض المشايخ: لا يجوز؛ لأنها سنة
والسنة لا تتأدى بنية مطلق الصلاة، أو نية
التطوع واستدلوا بما روى الحسن عن أبي حنيفة
أن ركعتي الفجر لا تتأدى إلا بنية السنة، وقال
عامة مشايخنا: إن التراويح وسائر السنن تتأدى
بمطلق النية؛ ولأنها وإن كانت سنة لا تخرج عن
كونها نافلة، والنوافل تتأدى بمطلق النية إلا
أن الاحتياط أن ينوي التراويح، أو سنة الوقت،
أو قيام رمضان احترازا عن موضع الخلاف.
ولو اقتدى من يصلي التراويح بمن يصلي
المكتوبة، أو النافلة قيل: يصح اقتداؤه ويكون
مؤديا التراويح، وقيل: لا يصح اقتداؤه به وهو
الصحيح؛ لأنه مكروه لكونه مخالفا لعمل السلف.
ولو اقتدى من يصلي التسليمة الأولى بمن يصلي
التسليمة الثانية قيل: لا يجوز اقتداؤه، وقيل:
يجوز وهو الصحيح؛ لأن الصلاة متحدة فكان نية
الأولى والثانية لغوا، ولهذا صح اقتداء مصلي
الركعتين بمصلي الأربع قبله فكذا هذا.
ومنها أن الإمام بعد تكبيرة الافتتاح يأتي
بالثناء والتعوذ والتسمية في الركعة الأولى،
والمقتدي أيضا يأتي بالثناء، وفي التعوذ خلاف
معروف بناء على أن التعوذ تبع الثناء، أو تبع
القراءة على ما ذكرنا
ج / 1 ص -289-
في
موضعه ولا يزيد الإمام على قدر التشهد إن علم
أنه يثقل على القوم، وإن علم أنه لا يثقل على
القوم يزيد عليه ويأتي بالدعوات المشهورة.
ومنها أن يقرأ في كل ركعة عشر آيات كذا روى
الحسن عن أبي حنيفة، وقيل: يقرأ فيها كما يقرأ
في أخف المكتوبات وهي المغرب، وقيل: يقرأ كما
يقرأ في العشاء؛ لأنها تبع للعشاء، وقيل: يقرأ
في كل ركعة من عشرين إلى ثلاثين؛ لأنه روي أن
عمر رضي الله عنه دعا بثلاثة من الأئمة
فاستقرأهم وأمر أولهم أن يقرأ في كل ركعة
بثلاثين آية، وأمر الثاني أن يقرأ في كل ركعة
خمسة وعشرين آية، وأمر الثالث أن يقرأ في كل
ركعة عشرين آية، وما قاله أبو حنيفة سنة إذ
السنة أن يختم القرآن مرة في التراويح وذلك
فيما قاله أبو حنيفة، وما أمر به عمر فهو من
باب الفضيلة وهو أن يختم القرآن مرتين أو
ثلاثا وهذا في زمانهم. وأما في زماننا فالأفضل
أن يقرأ الإمام على حسب حال القوم من الرغبة
والكسل فيقرأ قدر ما لا يوجب تنفير القوم عن
الجماعة؛ لأن تكثير الجماعة أفضل من تطويل
القراءة، والأفضل تعديل القراءة في الترويحات
كلها، وإن لم يعدل فلا بأس به، وكذا الأفضل
تعديل القراءة في الركعتين في التسليمة
الواحدة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعند محمد
يطول الأولى على الثانية كما في الفرائض.
ومنها أن يصلي كل ركعتين بتسليمة على حدة. ولو
صلى ترويحة بتسليمة واحدة وقعد في الثانية قدر
التشهد، لا شك أنه يجوز على أصل أصحابنا أن
صلوات كثيرة تتأدى بتحريمة واحدة بناء على أن
التحريمة شرط وليست بركن عندنا خلافا للشافعي،
لكن اختلف المشايخ أنه هل يجوز عن تسليمتين أو
لا يجوز إلا عن تسليمة واحدة ؟ قال بعضهم: لا
يجوز إلا عن تسليمة واحدة؛ لأنه خالف السنة
المتوارثة بترك التسليمة، والتحريمة، والثناء،
والتعوذ والتسمية فلا يجوز إلا عن تسليمة
واحدة، وقال عامتهم: إنه يجوز عن تسليمتين وهو
الصحيح، وعلى هذا لو صلى التراويح كلها
بتسليمة واحدة وقعد في كل ركعتين. أن الصحيح
أنه يجوز عن الكل؛ لأنه قد أتى بجميع أركان
الصلاة وشرائطها؛ لأن تجديد التحريمة لكل
ركعتين ليس بشرط عندنا هذا إذا قعد على رأس
الركعتين قدر التشهد، فأما إذا لم يقعد فسدت
صلاته عند محمد، وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف
يجوز، وأصل المسألة يصلي التطوع أربع ركعات
إذا لم يقعد في الثانية قدر التشهد وقام وأتم
صلاته أنه يجوز استحسانا عندهما، ولا يجوز عند
محمد قياسا، ثم إذا جاز عندهما فهل يجوز عن
تسليمتين أو لا يجوز إلا عن تسليمة واحدة
الأصح أنه لا يجوز إلا عن تسليمة واحدة؛ لأن
السنة أن يكون الشفع الأول كاملا، وكماله
بالقعدة ولم توجد والكامل لا يتأدى بالناقص.
ولو صلى ثلاث ركعات بتسليمة واحدة ولم يقعد في
الثانية قال بعضهم: لا يجزئه أصلا بناء على أن
من تنفل بثلاث ركعات، ولم يقعد إلا في آخرها
جاز عند بعضهم؛ لأنه لو كان فرضا وهو المغرب
جاز، فكذا النفل، ولا يجوز عند بعضهم؛ لأن
القعدة على رأس الثالثة في النوافل غير مشروعة
بخلاف المغرب فصار كأنه لم يقعد فيها، ولو لم
يقعد فيها لم تجز النافلة فكذا في التراويح،
ثم إن كان ساهيا في الثالثة لا يلزمه قضاء
شيء؛ لأنه شرع في صلاة مظنونة؛ ولأنه لا يوجب
القضاء عند أصحابنا الثلاثة، وإن كان عمدا
فعلى قول من قال بالجواز يلزمه ركعتان؛ لأن
الركعة الثانية قد صحت لبقاء التحريمة، وإن لم
يكملها يضم ركعة أخرى إليها فيلزمه القضاء،
وعلى قول من قال بعدم الجواز يلزمه ركعتان عند
أبي يوسف، وعند أبي حنيفة لا يلزمه شيء؛ لأن
التحريمة قد فسدت بترك القعدة في الركعة
الثانية فشرع في الثالثة بلا تحريمة، وأنه لا
يوجب القضاء عند أبي حنيفة، وعلى هذا لو صلى
عشر تسليمات كل تسليمة بثلاث ركعات بقعدة
واحدة. ولو صلى التراويح كلها بتسليمة واحدة
ولم يقعد إلا في آخرها قال بعضهم: يجزئه عن
التراويح كلها، وقال بعضهم: لا يجزئه إلا عن
تسليمة واحدة، وهو الصحيح؛ لأنه أخل بكل شفع
بترك القعدة.
ومنها أن يصلي كل ترويحة إمام واحد، وعليه عمل
أهل الحرمين، وعمل السلف ولا يصلي الترويحة
الواحدة إمامان؛ لأنه خلاف عمل السلف، ويكون
تبديل الإمام بمنزلة الانتظار بين الترويحتين،
وأنه غير مستحب.
ولا يصلي إمام واحد التراويح في مسجدين في كل
مسجد على الكمال ولا له فعل ولا يحتسب التالي
من التراويح، وعلى القوم أن يعيدوا؛ لأن صلاة
إمامهم نافلة، وصلاتهم سنة والسنة أقوى فلم
يصح الاقتداء؛ لأن السنة لا تتكرر في وقت
واحد، وما صلى في المسجد الأول محسوب، وليس
على القوم أن يعيدوا ولا
ج / 1 ص -290-
بأس
لغير الإمام أن يصلي التراويح في مسجدين؛ لأنه
اقتداء المتطوع بمن يصلي السنة، وأنه جائز كما
لو صلى المكتوبة ثم أدرك الجماعة ودخل فيها
والله أعلم.
إذا صلوا التراويح ثم أرادوا أن يصلوها ثانيا
يصلون فرادى لا بجماعة؛ لأن الثانية تطوع
مطلق، والتطوع المطلق بجماعة مكروه.
ويجوز التراويح قاعدا من غير عذر لأنه تطوع
إلا أنه لا يستحب؛ لأنه خلاف السنة المتوارثة
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن من صلى ركعتي
الفجر قاعدا من غير عذر لا يجوز، وكذا لو
صلاها على الدابة من غير عذر وهو يقدر على
النزول لاختصاص هذه السنة بزيادة توكيد وترغيب
بتحصيلها، وترهيب وتحذير على تركها فالتحقت
بالواجبات كالوتر.
ويجوز التراويح قاعدا من غير عذر لأنه تطوع
إلا أنه لا يستحب؛ لأنه خلاف السنة المتوارثة
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن من صلى ركعتي
الفجر قاعدا من غير عذر لا يجوز، وكذا لو
صلاها على الدابة من غير عذر وهو يقدر على
النزول لاختصاص هذه السنة بزيادة توكيد وترغيب
بتحصيلها، وترهيب وتحذير على تركها فالتحقت
بالواجبات كالوتر. ومنها أن الإمام كلما صلى
ترويحة قعد بين الترويحتين قدر ترويحة يسبح
ويهلل ويكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم ويدعو وينتظر أيضا بعد الخامسة قدر
ترويحة لأنه متوارث من السلف وأما الإستراحة
بعد خمس تسليمات فهل يستحب قال بعضهم نعم وقال
بعضهم لايستحب وهو الصحيح لأنه خلاف السلف
والله الموفق.
"فصل": وأما بيان أدائها إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا ؟ فقد قيل: إنها
تقضى والصحيح أنها لا تقضى؛ لأنها ليست بآكد
من سنة المغرب والعشاء، وتلك لا تقضى فكذلك
هذه.
"فصل": وأما صلاة التطوع فالكلام فيها يقع في مواضع: في بيان أن التطوع هل
يلزم بالشروع، وفي بيان مقدار ما يلزم منه
بالشروع، وفي بيان أفضل التطوع، وفي بيان ما
يكره من التطوع، وفي بيان ما يفارق التطوع
الفرض فيه. أما الأول فقد قال أصحابنا: إذا
شرع في التطوع يلزمه المضي فيه، وإذا أفسده
يلزمه القضاء، وقال الشافعي: لا يلزمه المضي
في التطوع ولا القضاء بالإفساد وجه قوله: أن
التطوع تبرع وأنه ينافي الوجوب، وإذا لم يجب
المضي فيه لا يجب القضاء بالإفساد؛ لأن القضاء
تسليم مثل الواجب، ولنا أن المؤدى عبادة،
وإبطال العبادة حرام لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
فيجب صيانتها عن الإبطال، وذا بلزوم المضي فيها، وإذا أفسدها فقد
أفسد عبادة واجبة الأداء فيلزمه القضاء جبرا
للفائت كما في المنذور والمفروض، وقد خرج
الجواب كما ذكره أنه تبرع؛ لأنا نقول: نعم قبل
الشروع. وأما بعد الشروع فقد صار واجبا لغيره
وهو صيانة المؤدى عن البطلان ولو افتتح الصلاة
مع الإمام وهو ينوي التطوع والإمام في الظهر
ثم قطعها فعليه قضاؤها لما قلنا، فإن دخل معه
فيها ينوي التطوع فهذا على ثلاثة أوجه: إما أن
ينوي قضاء الأولى، أو لم يكن له نية أصلا، أو
نوى صلاة أخرى ففي الوجهين الأولين يسقط عنه،
وتنوب هذه عن قضاء ما لزمه بالإفساد عندنا،
وعند زفر لا يسقط وجه قوله: إن ما لزمه
بالإفساد صار دينا في ذمته كالصلاة المنذورة
فلا يتأدى خلف إمام يصلي صلاة أخرى، ولنا أنه
لو أتمها حين شرع فيها لا يلزمه شيء آخر، فكذا
إذا أتمها بالشروع الثاني؛ لأنه ما التزم
بالشروع إلا أداء هذه الصلاة مع الإمام، وقد
أداها وإن نوى تطوعا آخر ذكر في الأصل أنه
ينوب عما لزمه بالإفساد، وهو قول أبي حنيفة،
وأبي يوسف، وذكر في زيادات الزيادات أنه لا
ينوب وهو قول محمد ووجهه أنه لما نوى صلاة
أخرى فقد أعرض عما كان دينا عليه بالإفساد،
فلا ينوب هذا المؤدى عنه بخلاف الأول وجه
قولهما: أنه ما التزم في المرتين إلا أداء هذه
الصلاة مع الإمام، وقد أداها والله أعلم.
ثم الشروع في التطوع في الوقت المكروه وغيره
سواء في كونه سببا للزوم في قول أصحابنا
الثلاثة، وقال زفر: الشروع في التطوع في
الأوقات المكروهة غير ملزم حتى لو قطعها لا
شيء عليه عنده، وعندنا الأفضل أن يقطع وإن أتم
فقد أساء، ولا قضاء عليه؛ لأنه أداها كما
وجبت، وإن قطعها فعليه القضاء. وأما الشروع في
الصوم في الوقت المكروه فغير ملزم عند أبي
حنيفة، وزفر وعندهما ملزم فهما سويا بين الصوم
والصلاة، وجعلا الشروع فيهما ملزما كالنذر
لكون المؤدى عبادة وزفر سوى بينهما بعلة
ارتكاب المنهي وجعل الشروع فيهما غير ملزم،
وأبو حنيفة فرق والفرق له من وجوه: أحدها: أنه
لا بد له من تقديم مقدمة، وهي أن ما تركب من
أجزاء متفقة ينطلق اسم الكل فيه على البعض
كالماء، فإن ماء البحر يسمى ماء، وقطرة منه
تسمى ماء، وكذا الخل والزيت، وكل مائع، وما
تركب من أجزاء مختلفة لا يكون للبعض منه اسم
الكل كالسكنجبين، لا يسمى الخل وحده ولا السكر
وحده سكنجيبا، وكذا الأنف وحده لا يسمى وجها،
ولا الخد
ج / 1 ص -291-
وحده
ولا العظم وحده يسمى آدميا، ثم الصوم يتركب من
أجزاء متفقة فيكون لكل جزء اسم الصوم، والصلاة
تتركب من أجزاء مختلفة، وهي: القيام،
والقراءة، والركوع، والسجود فلا يكون للبعض
اسم الكل. ومن هذا قال أصحابنا: إن من حلف لا
يصوم، ثم شرع في الصوم فكما شرع يحنث ولو حلف
لا يصلي فما لم يقيد الركعة بالسجدة لا يحنث،
وإذا تقرر هذا الأصل فنقول: إنه نهي عن الصوم
فكما شرع باشر الفعل المنهي، ونهى عن الصلاة
فما لم يقيد الركعة بالسجدة لم يباشر منها
فيما انعقد انعقد قربة خالصة غير منهي عنها،
فبعد هذا يقول بعض مشايخنا: إن الشروع سبب
الوجوب وهو في الصوم منهي ففسد في نفسه فلم
يصر سبب الوجوب، وفي الصلاة ليس بمنهي فصار
سببا للوجوب وإذا تحقق هذا فنقول: وجوب المضي
في التطوع لصيانة ما انعقد قربة، وفي باب
الصوم ما انعقد انعقد معصية من وجه والمضي
أيضا معصية والمضي لو وجب وجب لصيانة ما انعقد
وما انعقد عبادة وهو منهي عنه وتقرير العبادة
وصيانتها واجب، وتقرير المعصية وصيانتها
معصية، فالصيانة واجبة من وجه، محظورة من وجه
فلم تجب الصيانة عند الشك، وترجحت جهة الحظر
على ما هو الأصل، والصيانة لا تحصل إلا بما هو
عبادة وبما هو معصية وإيجاب العبادة ممكن،
وإيجاب المعصية غير ممكن فلم يجب المضي عند
التعارض، بل يرجح جانب الحظر فأما في باب
الصلاة فما انعقد انعقد عبادة خالصة لا حظر
فيها فوجب تقريرها وصيانتها، ثم صيانتها وإن
كانت بالمضي وبالمضي يقع في المحظور ولكن لو
مضى تقررت العبادة، وتقريرها واجب، وما يأتي
به عبادة ومحظور أيضا فكان محصلا للعبادة من
وجهين ومرتكبا للنهي من وجه فترجحت جهة
العبادة. ولو امتنع عن المضي امتنع عن تحصيل
ما هو منهي، ولكن امتنع أيضا عن تحصيل ما هو
عبادة وأبطل العبادة المتقررة، وإبطالها محظور
محض فكان المضي للصيانة أولى من الامتناع
فيلزمه المضي فإذا أفسده يلزمه القضاء، ومنهم
من فرق بينهما فقال: إن النهي عن الصلاة في
هذه الأوقات ثبت بدليل فيه شبهة العدم، وهو
خبر الواحد. وقد اختلف العلماء في صحته ووروده
فكان في ثبوته شك وشبهة، وما كان هذا سبيله
كان قبوله بطريق الاحتياط، والاحتياط في حق
إيجاب القضاء على من أفسد بالشروع أن يجعل
كأنه ما ورد بخلاف النهي عن الصوم؛ لأنه ثبت
بالحديث المشهور وتلقته أئمة الفتوى بالقبول،
فكان النهي ثابتا من جميع الوجوه فلم يصح
الشروع فلم يجب القضاء بالإفساد، والفقيه
الجليل أبو أحمد العياضي السمرقندي ذكر هذه
الفروق، وأشار إلى فرق آخر وهو أن الصوم وجوبه
بالمباشرة، وهو فعل من الصوم المنهي عنه، فأما
الصلاة فوجوبها بالتحريمة وهي قول، وليست من
الصلاة فكانت بمنزلة النذر والله أعلم غير أنه
لو أفسدها مع هذا وقضى في وقت آخر كان أحسن؛
لأن الإفساد ليؤدي أكمل لا يعد إفسادا وههنا
كذلك؛ لأنه يؤدى خاليا عن اقتران النهي به،
ولكن لو صلى مع هذا جاز؛ لأنه ما لزمه إلا هذه
الصلاة، وقد أساء حيث أدى مقرونا بالنهي.
ولو افتتح التطوع وقت طلوع الشمس فقطعها ثم
قضاها وقت تغير الشمس أجزأه؛ لأنها وجبت ناقصة
وأداها كما وجبت فيجوز كما لو أتمها في ذلك
الوقت، ثم الشروع إنما يكون سبب الوجوب إذا
صح، فأما إذا لم يصح فلا، حتى لو شرع في
التطوع على غير وضوء، أو في ثوب نجس لا يلزمه
القضاء، وكذا القارئ إذا شرع في صلاة الأمي
بنية التطوع، أو في صلاة امرأة، أو جنب، أو
محدث ثم أفسدها على نفسه لا قضاء عليه؛ لأن
شروعه في الصلاة لم يصح حيث اقتدى بمن لا يصلح
إماما له، وكذا الشروع في الصلاة المظنونة غير
موجب حتى لو شرع في الصلاة على ظن أنها عليه،
ثم تبين أنها ليست عليه لا يلزمه المضي. ولو
أفسد لا يلزمه القضاء عند أصحابنا الثلاثة
خلافا لزفر، وفي باب الحج يلزمه التطوع
بالشروع معلوما كان، أو مظنونا والفرق يذكر في
كتاب الصوم إن شاء لله تعالى:.
"فصل": وأما بيان مقدار ما يلزم منه بالشروع فنقول لا يلزمه بالافتتاح
أكثر من ركعتين، وإن نوى أكثر من ذلك في ظاهر
الروايات عن أصحابنا إلا بعارض الاقتداء. وروي
عن أبي يوسف ثلاث روايات روى بشر بن الوليد
عنه أنه قال فيمن افتتح التطوع ينوي أربع
ركعات ثم أفسدها: قضى أربعا ثم رجع وقال: يقضي
ركعتين وروى بشر بن أبي الأزهر عنه أنه قال
فيمن افتتح النافلة ينوي عددا: يلزمه
بالافتتاح ذلك العدد وإن كان مائة ركعة وروى
غسان
ج / 1 ص -292-
عنه
أنه قال: إن نوى أربع ركعات لزمه وإن نوى أكثر
من ذلك لم يلزمه، ولا خلاف في أنه يلزمه
بالنذر ما تناوله، وإن كثر وجه رواية ابن أبي
الأزهر عنه أن الشروع في كونه سببا للزوم
كالنذر ثم يلزمه بالنذر جميع ما تناوله وكذا
بالشروع، وجه رواية غسان عنه أن ما وجب بإيجاب
الله تعالى: بناء على مباشرة سبب الوجوب من
العبد دون ما وجب بإيجاب الله تعالى: ابتداء
وذا لا يزيد على الأربع فهذا أولى، وجه ظاهر
الرواية أن الوجوب بسبب الشروع ما ثبت وضعا بل
ضرورة صيانة المؤدي عن البطلان، ومعنى الصيانة
يحصل بتمام الركعتين فلا تلزم الزيادة من غير
ضرورة بخلاف النذر؛ لأنه سبب الوجوب بصيغته
وضعا فيتقدر الوجوب بقدر ما تناوله السبب.
وأما قوله: إن الشروع سبب الوجوب كالنذر فنقول
نعم لكنه سبب لوجوب ما وجد الشروع فيه، ولم
يوجد الشروع في الشفع الثاني فلا يجب، ولأنه
ما وضع سببا للوجوب بل الوجوب لما ذكرنا من
الضرورة ولا ضرورة في حق الشفع الثاني، بخلاف
النذر فإنه التزم صريحا فيلزمه بقدر ما التزم.
وكذا الجواب في السنن الراتبة أنه لا يجب
بالشروع فيها إلا ركعتين حتى لو قطعها قضى
ركعتين في ظاهر الرواية عن أصحابنا؛ لأنه نفل،
وعلى رواية أبي يوسف قضى أربعا في كل موضع
يقضي في التطوع أربعا ومن المتأخرين من
مشايخنا اختار قول أبي يوسف فيما يؤدي من
الأربع منها بتسليمة واحدة وهو الأربع قبل
الظهر، وقال: لو قطعها يقضي أربعا. ولو أخبر
بالبيع فانتقل إلى الشفع الثاني لا تبطل
شفعته، ويمنع صحة الخلوة وهو الشيخ الإمام أبو
بكر محمد بن الفضل البخاري وإذا عرف هذا الأصل
فنقول: من وجب عليه ركعتان بالشروع ففرغ منهما
وقعد على رأس الركعتين وقام إلى الثالثة على
قصد الأداء يلزمه إتمام ركعتين أخراوين
وبينهما على التحريمة الأولى؛ لأن قدر المؤدى
صار عبادة فيجب عليه إتمام الركعتين صيانة له
عن البطلان، والقيام إلى الثالثة على قصد
الأداء بناء، منه الشفع الثاني على التحريمة
الأولى وأمكن البناء عليها، لأن التحريمة شرط
الصلاة عندنا، والشرط الواحد يكفي لأفعال
كثيرة كالطهارة الواحدة أنها تكفي لصلوات
كثيرة، ويلزمه في هاتين الركعتين القراءة كما
في الأوليين؛ ولأن كل شفع من التطوع صلاة على
حدة، ولهذا قالوا: إن المتنفل إذا قام إلى
الثالث لقصد الأداء ينبغي أن يستفتح فيقول:
سبحانك اللهم وبحمدك إلخ كما يستفتح في
الابتداء؛ لأن هذا بناء الافتتاح، وفي كل
ركعتين من النفل صلاة على حدة لكن بناء على
التحريمة الأولى فيأتي بالثناء المسنون فيه.
ولو صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما فسجد لسهوه
بعد السلام ثم أراد أن يبني عليهما ركعتين
أخراوين ليس له ذلك؛ لأنه لو فعل ذلك لوقع
سجوده للسهو في وسط الصلاة، وأنه غير مشروع
بخلاف المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وسها
فيهما فسجد للسهو ثم نوى الإقامة حيث يصح،
ويقوم لإتمام صلاته وإن كان يقع سهوه في وسط
الصلاة، والفرق أن السلام محلل في الشرع، إلا
أن الشرع منعه عن العمل في هذه الحالة، أو حكم
بعود التحريمة ضرورة تحصيل السجود؛ لأن سجود
السهو لا يؤتى به إلا في تحريمة الصلاة،
والضرورة في حق تلك الصلاة، وفيما يرجع إلى
إكمالها فظهر بقاء التحريمة، أو عودها في حقها
لا في حق صلاة أخرى، ولا ضرورة في صلاة
التطوع؛ لأن كل شفع صلاة على حدة فيعمل
التسليم عمله في التحليل، وكان القياس في
المتنفل بالأربع إذا ترك القعدة الأولى أن
تفسد صلاته، وهو قول محمد؛ لأن كل شفع لما كان
صلاة على حدة كانت القعدة عقيبه فرضا كالقعدة
الأخيرة في ذوات الأربع من الفرائض، إلا أن في
الاستحسان لا تفسد وهو قول أبي حنيفة، وأبي
يوسف؛ لأنه لما قام إلى الثالثة قبل القعدة
فقد جعلها صلاة واحدة شبيهة بالفرض، واعتبار
النفل بالفرض مشروع في الجملة؛ لأنه تبع للفرض
فصارت القعدة الأولى فاصلة بين الشفعين
والخاتمة هي الفريضة فأما الفاصلة فواجبة وهذا
بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين في
التطوع، وقام إلى الأخريين وقرأ فيهما حيث
يفسد الشفع الأول بالإجماع، ولم نجعل هذه
الصلاة صلاة واحدة في حق القراءة بمنزلة ذوات
الأربع؛ لأن القعدة إنما صارت فرضا لغيرها وهو
الخروج فإذا قام إلى الثالثة وصارت الصلاة من
ذوات الأربع لم يأت أوان الخروج فلم تبق
القعدة فرضا، فأما القراءة فهي ركن بنفسها
فإذا تركها في الشفع الأول فسد فلم يصح بناء
الشفع الثاني عليه، وعلى هذا قالوا: إذا صلى
التطوع ثلاث ركعات بقعدة
ج / 1 ص -293-
واحدة
ينبغي أن يجوز اعتبارا للتطوع بالفرض وهو صلاة
المغرب إذا صلاها بقعدة واحدة، والأصح أنه لا
يجوز؛ لأن ما اتصل به القعدة وهي الركعة
الأخيرة فسدت؛ لأن التنفل بالركعة الواحدة غير
مشروع فيفسد ما قبلها. ولو تطوع بست ركعات
بقعدة واحدة اختلف المشايخ فيه قال بعضهم:
يجوز؛ لأنها لما جازت بتحريمة واحدة وتسليمة
واحدة فيجوز بقعدة واحدة أيضا، والأصح أنه لا
يجوز؛ لأنا إنما استحسنا جواز الأربع بقعدة
واحدة اعتبارا بالفريضة، وليس في الفرائض ست
ركعات يجوز أداؤها بقعدة واحدة، فيعود الأمر
فيه إلى أصل القياس والله أعلم.
ثم إنما يجب بإفساد التطوع قضاء الشفع الذي
اتصل به المفسد دون الشفع الذي مضى على الصحة
حتى لو صلى أربعا فتكلم في الثالثة أو الرابعة
قضى الشفع الثاني دون الأول؛ لأن كل شفع صلاة
على حدة ففساد الثاني لا يوجب فساد الأول
بخلاف الفرض؛ لأنه كله صلاة واحدة، ففساد
البعض يوجب فساد الكل.
ولو اقتدى المتطوع بمصلي الظهر في أول الصلاة
ثم قطعها، أو اقتدى به في القعدة الأخيرة
فعليه قضاء أربع ركعات؛ لأنه بالاقتداء التزم
صلاة الإمام وهي أربع ركعات.
ومن نوى أن يصلي الظهر ستا لم يلزمه ركعتان؛
لأن الشروع لم يوجد في الركعتين، وإنما وجد في
الظهر وهي أربع ولم يوجد في حق الركعتين إلا
مجرد النية ومجرد النية لا يلزم شيئا.
وكذا المسافر إذا نوى أن يصلي الظهر أربعا
فصلى ركعتين فصلاته تامة؛ لأن الظهر في حق
المسافر ركعتان فكانت نية الزيادة لغوا.
هذا إذا أفسد التطوع بشيء من أضداد الصلاة في
الوضع من الحدث العمد والكلام والقهقهة وعمل
كثير ليس من أعمال الصلاة، فأما إذا أفسده
بترك القراءة بأن صلى التطوع أربعا، ولم يقرأ
فيهن شيئا فعليه قضاء ركعتين في قول أبي حنيفة
ومحمد، وعند أبي يوسف عليه قضاء الأربع وهي من
المسائل المعروفة بثمان مسائل، والأصل فيها أن
الشفع الأول متى فسد بترك القراءة تبقى
التحريمة عند أبي يوسف فيصح الشروع في الشفع
الثاني، وعند محمد متى فسد الشفع الأول لا
تبقى التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع
الثاني، وعند أبي حنيفة إن فسد الشفع الأول
بترك القراءة فيهما بطلت التحريمة، فلا يصح
الشروع في الشفع الثاني، وإن فسد بترك القراءة
في إحداهما بقيت التحريمة فيصح الشروع في
الشفع الثاني. وجه قول محمد: أن القراءة فرض
في كل شفع من النفل في الركعتين جميعا فكما
يفسد الشفع بترك القراءة فيهما، يفسد بترك
القراءة في إحداهما لفوات ما هو ركن، كما لو
ترك الركوع أو السجود أنه لا يفترق الحال بين
الترك في الركعتين أو في إحداهما، كذا هذا
وصار ترك القراءة في الإفساد، والحدث العمد
والكلام سواء فإذا فسدت الأفعال لم تبق
التحريمة؛ لأنها تبقى لتوحيد الأفعال المختلفة
فإذا فسدت الأفعال لا تبقى هي فلم يصح الشروع
في الشفع الثاني لعدم التحريمة فلا يتصور
الفساد ولأبي يوسف أن الأفعال وإن بطلت بترك
القراءة ركنا ولكن بقيت التحريمة؛ لأنها ما
عقدت لهذا الشفع خاصة بل له الشفع الثاني ألا
ترى أنه لو قرأ يصح بناء الشفع الثاني عليه
فإذا لم تبطل التحريمة صح الشروع في الشفع
الثاني، ثم يفسد هو أيضا بترك القراءة فيه،
ولأبي حنيفة أنه لا بقاء للتحريمة مع بطلان
الأفعال كما إذا ترك ركنا آخرا، وتكلم أو أحدث
عمدا؛ لأنها للجمع بين الأفعال المختلفة
لتجعلها كلها عبادة واحدة فتبطل ببطلان
الأفعال كما قال محمد غير أنه إذا ترك القراءة
في الشفع الأول في الركعتين جميعا علم فساد
الشفع بيقين لترك الركن بيقين، فأما إذا قرأ
في إحدى الأوليين لم يعلم يقينا بفساد هذا
الشفع؛ لأن الحسن البصري كان يقول: بجواز
الصلاة بوجود القراءة في ركعة واحدة، وقوله
وإن كان فاسدا لكن إنما عرفنا فساده بدليل
اجتهادي غير موجب علم اليقين، بل يجوز أن يكون
الصحيح قوله غير أنا عرفنا صحة ما ذهبنا إليه
وفساد ما ذهب إليه بغالب الرأي فلم نحكم
ببطلان التحريمة الثانية بيقين بالشك، ولأن
الشفع الأول متى دار بين الجواز والفساد كان
الاحتياط في الحكم بفساده ليجب عليه القضاء،
وببقاء التحريمة ليصح الشروع في الشفع الثاني
ليجب عليه القضاء بوجود مفسد في هذا الشفع
أيضا إذا عرفت هذا الأصل، فنقول إذا ترك
القراءة في الأربع كلها يلزمه قضاء ركعتين في
قول أبي حنيفة، ومحمد وزفر؛ لأن التحريمة قد
بطلت بفساد الشفع الأول بيقين فلم يصح الشروع
في الشفع الثاني، فلا يلزمه القضاء بالإفساد
لعدم الإفساد، وعند أبي يوسف عليه قضاء
الأربع؛ لأن التحريمة بقيت وإن فسد الشفع
ج / 1 ص -294-
الأول،
فيصح الشروع في الشفع الثاني ثم يفسد بترك
القراءة أيضا، فيجب قضاء الشفعين جميعا. ولو
ترك القراءة في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين،
أو قرأ في إحدى الأوليين فحسب عند محمد يلزمه
قضاء الشفع الأول لا غير؛ لأن الشفع الأول فسد
بترك القراءة في إحدى الركعتين من هذا الشفع
فبطلت التحريمة فلم يصح الشروع في الشفع
الثاني، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يلزمه قضاء
الأربع أما عند أبي يوسف فلعدم بطلان التحريمة
بفساد الصلاة، وعند أبي حنيفة لكون الفساد غير
ثابت بدليل مقطوع به فبقيت التحريمة فصح
الشروع في الشفع الثاني، ثم فسد الشفع الثاني
بترك القراءة في الركعتين أو في إحداهما. ولو
ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين
يلزمه قضاء ركعتين وهو الشفع الأول بالإجماع؛
لأنه فسد بترك القراءة في الركعتين فيلزمه
قضاؤه؛ فأما الشفع الثاني فعند أبي يوسف صلاة
كاملة؛ لأن الشروع فيه قد صح لبقاء التحريمة،
وقد وجدت القراءة في الركعتين جميعا فصح، وعند
أبي حنيفة ومحمد وزفر لما بطلت التحريمة لم
يصح الشروع في الشفع الثاني فلم تكن صلاة فلا
يجب إلا قضاء الشفع الأول، والأخريان لا
يكونان قضاء عن الأوليين بالإجماع أما عند أبي
حنيفة ومحمد وزفر؛ فلأن الشفع الثاني ليس
بصلاة لانعدام التحريمة، وعند أبي يوسف وإن
كان صلاة لكنه بناه على تلك التحريمة، وأنها
انعقدت للأداء، والتحريمة الواحدة لا يتسع
فيها الأداء والقضاء. ولو قرأ في إحدى
الأوليين لا غير عند محمد يلزمه قضاء ركعتين،
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف، قضاء الأربع، وذكر
في بعض نسخ الجامع الصغير قول أبي حنيفة مع
محمد، والصحيح ما ذكرنا من الدلائل. ولو قرأ
في إحدى الأخريين لا غير عند أبي يوسف يلزمه
قضاء الأربع، وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر يلزمه
قضاء الشفع الأول لا غير. ولو قرأ في الأوليين
لا غير يلزمه قضاء الشفع الأخير عند الكل
وكذا، لو ترك القراءة في إحدى الأخريين وهذا
كله إذا قعد بين الشفعين قدر التشهد فأما إذا
لم يقعد تفسد صلاته عند محمد بترك القعدة ولا
تتأتى هذه التفريعات عنده.
ولو كان خلفه رجل اقتدى به فحكمه حكم إمامه
يقضي ما يقضي إمامه؛ لأن صلاة المقتدي متعلقة
بصلاة الإمام صحة وفسادا. ولو تكلم المقتدي
ومضى الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات وقرأ
في الأربع كلها، وقعد بين الشفعين فإن تكلم
قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد فعليه قضاء
الأوليين فقط؛ لأنه لم يلتزم الشفع الأخير؛
لأن الالتزام بالشروع ولم يشرع فيه وإنما وجد
منه الشروع في الشفع الأول فقط فيلزمه قضاؤه
بالإفساد لا غير، وإن تكلم بعدما قعد قدر
التشهد قبل أن يقوم إلى الثالثة لا شيء عليه؛
لأنه أدى ما التزم بوصف الصحة. وأما إذا قام
إلى الثالثة ثم تكلم المقتدي لم يذكر هذه
المسألة في الأصل وذكر عصام بن يوسف في مختصره
أن عليه قضاء أربع ركعات، قال الشيخ الإمام
الزاهد صدر الدين أبو المعين: ينبغي أن يكون
هذا الجواب على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛
لأنهما يجعلان هذا كله صلاة واحدة بدليل أنهما
لم يحكما بفسادها بترك القعدة الأولى. وأما
عند محمد فقد بقي كل شفع صلاة على حدة حتى حكم
بافتراض القعدة الأولى فكان هذا المقتدي مفسدا
للشفع الأخير لا غير فيلزمه قضاؤه لا غير.
الأول، فيصح الشروع في الشفع الثاني ثم يفسد بترك
القراءة أيضا، فيجب قضاء الشفعين جميعا. ولو
ترك القراءة في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين،
أو قرأ في إحدى الأوليين فحسب عند محمد يلزمه
قضاء الشفع الأول لا غير؛ لأن الشفع الأول فسد
بترك القراءة في إحدى الركعتين من هذا الشفع
فبطلت التحريمة فلم يصح الشروع في الشفع
الثاني، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يلزمه قضاء
الأربع أما عند أبي يوسف فلعدم بطلان التحريمة
بفساد الصلاة، وعند أبي حنيفة لكون الفساد غير
ثابت بدليل مقطوع به فبقيت التحريمة فصح
الشروع في الشفع الثاني، ثم فسد الشفع الثاني
بترك القراءة في الركعتين أو في إحداهما. ولو
ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين
يلزمه قضاء ركعتين وهو الشفع الأول بالإجماع؛
لأنه فسد بترك القراءة في الركعتين فيلزمه
قضاؤه؛ فأما الشفع الثاني فعند أبي يوسف صلاة
كاملة؛ لأن الشروع فيه قد صح لبقاء التحريمة،
وقد وجدت القراءة في الركعتين جميعا فصح، وعند
أبي حنيفة ومحمد وزفر لما بطلت التحريمة لم
يصح الشروع في الشفع الثاني فلم تكن صلاة فلا
يجب إلا قضاء الشفع الأول، والأخريان لا
يكونان قضاء عن الأوليين بالإجماع أما عند أبي
حنيفة ومحمد وزفر؛ فلأن الشفع الثاني ليس
بصلاة لانعدام التحريمة، وعند أبي يوسف وإن
كان صلاة لكنه بناه على تلك التحريمة، وأنها
انعقدت للأداء، والتحريمة الواحدة لا يتسع
فيها الأداء والقضاء. ولو قرأ في إحدى
الأوليين لا غير عند محمد يلزمه قضاء ركعتين،
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف، قضاء الأربع، وذكر
في بعض نسخ الجامع الصغير قول أبي حنيفة مع
محمد، والصحيح ما ذكرنا من الدلائل. ولو قرأ
في إحدى الأخريين لا غير عند أبي يوسف يلزمه
قضاء الأربع، وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر يلزمه
قضاء الشفع الأول لا غير. ولو قرأ في الأوليين
لا غير يلزمه قضاء الشفع الأخير عند الكل
وكذا، لو ترك القراءة في إحدى الأخريين وهذا
كله إذا قعد بين الشفعين قدر التشهد فأما إذا
لم يقعد تفسد صلاته عند محمد بترك القعدة ولا
تتأتى هذه التفريعات عنده.
ولو كان خلفه رجل اقتدى به فحكمه حكم إمامه
يقضي ما يقضي إمامه؛ لأن صلاة المقتدي متعلقة
بصلاة الإمام صحة وفسادا. ولو تكلم المقتدي
ومضى الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات وقرأ
في الأربع كلها، وقعد بين الشفعين فإن تكلم
قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد فعليه قضاء
الأوليين فقط؛ لأنه لم يلتزم الشفع الأخير؛
لأن الالتزام بالشروع ولم يشرع فيه وإنما وجد
منه الشروع في الشفع الأول فقط فيلزمه قضاؤه
بالإفساد لا غير، وإن تكلم بعدما قعد قدر
التشهد قبل أن يقوم إلى الثالثة لا شيء عليه؛
لأنه أدى ما التزم بوصف الصحة. وأما إذا قام
إلى الثالثة ثم تكلم المقتدي لم يذكر هذه
المسألة في الأصل وذكر عصام بن يوسف في مختصره
أن عليه قضاء أربع ركعات، قال الشيخ الإمام
الزاهد صدر الدين أبو المعين: ينبغي أن يكون
هذا الجواب على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛
لأنهما يجعلان هذا كله صلاة واحدة بدليل أنهما
لم يحكما بفسادها بترك القعدة الأولى. وأما
عند محمد فقد بقي كل شفع صلاة على حدة حتى حكم
بافتراض القعدة الأولى فكان هذا المقتدي مفسدا
للشفع الأخير لا غير فيلزمه قضاؤه لا غير.
وما أراد به الإيجاب؛ لأنه غير واجب فتعين الاستحباب
مرادا به؛ ولأن عمل الأمة في التراويح فظهر
مثنى مثنى من لدن عمر رضي الله عنه إلى يومنا
هذا فدل أن ذلك أفضل، ولأبي حنيفة ما روينا عن
عائشة رضي الله عنها أنها "سئلت عن قيام رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان
فقالت: كان قيامه في رمضان وغيره سواء؛ لأنه
كان يصلي بعد العشاء أربع ركعات لا تسأل عن
حسنهن وطولهن، ثم أربعا لا تسأل عن حسنهن
وطولهن ثم كان يوتر بثلاث"، وفي بعض الروايات
أنها سئلت عن ذلك فقالت وأيكم يطيق ذلك، ثم
ذكرت الحديث وكلمة كان عبارة عن العادة،
والمواظبة وما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يواظب إلا على أفضل الأعمال وأحبها إلى
الله تعالى:، وفيه دلالة على أنه ما كان يسلم
على رأس الركعتين إذ لو كان كذلك لم يكن لذكر
الأربع فائدة؛ ولأن الوصل بين الشفعين بمنزلة
التتابع في باب الصوم، ألا ترى أنه لو نذر أن
يصلي أربعا بتسليمة فصلى بتسليمتين لا يخرج عن
العهدة كذا ذكر محمد في الزيادات كما في صفة
التتابع في باب الصوم، ثم الصوم متتابعا أفضل
فكذا الصلاة، والمعنى فيه ما ذكرنا أنه أشق
على البدن فكان أفضل ومعنى قوله صلى الله عليه
وسلم فسلم أي: فتشهد؛ لأن التحيات تسمى تشهدا
لما فيها من الشهادة وهي قوله: " أشهد أن لا
إله إلا الله " وكذا تسمى تسليما لما فيها من
التسليم بقوله: " السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين " وحمله على هذا أولى؛ لأنه أمر
بالتسليم ومطلق الأمر للوجوب، والتسليم ليس
بواجب ألا ترى أنه لو صلى أربعا جاز، أما
التشهد فواجب فكان الحمل عليه أولى، فأما
التراويح فإنما تؤدى مثنى مثنى؛ لأنها تؤدى
بجماعة فتؤدى على وجه السهولة واليسر لما فيهم
من المريض وذي الحاجة ولا كلام فيه، وإنما
الكلام فيما إذا كان وحده.
ج / 1 ص -295-
"فصل": وأما بيان ما يكره من التطوع، فالمكروه منه نوعان: نوع يرجع إلى
القدر، ونوع يرجع إلى الوقت. أما الذي يرجع
إلى القدر فأما في النهار فتكره الزيادة على
الأربع بتسليمة واحدة، وفي الليل لا تكره وله
أن يصلي ستا وثمانيا، ذكره في الأصل وذكر في
الجامع الصغير في صلاة الليل إن شئت فصل
بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستا
ولم يزد عليه، والأصل في ذلك أن النوافل شرعت
تبعا للفرائض والتبع لا يخالف الأصل فلو زيدت
على الأربع في النهار لخالفت الفرائض، وهذا هو
القياس في الليل إلا أن الزيادة على الأربع
إلى الثمان، أو إلى الست عرفناه بالنص، وهو ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي
بالليل خمس ركعات سبع ركعات تسع ركعات إحدى
عشرة ركعة ثلاث عشرة ركعة، والثلاث من كل واحد
من هذه الأعداد الوتر، وركعتان من ثلاثة عشر
سنة الفجر فيبقى ركعتان وأربع وست وثمان فيجوز
إلى هذا القدر بتسليمة واحدة من غير كراهة.
واختلف المشايخ في الزيادة على الثمان بتسليمة
واحدة، قال بعضهم: يكره؛ لأن الزيادة على هذا
لم ترو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
بعضهم؛ لا يكره وإليه ذهب الشيخ الإمام الزاهد
السرخسي رحمه الله قال: لأن فيه وصل العبادة
بالعبادة فلا يكره وهذا يشكل بالزيادة على
الأربع في النهار، والصحيح أنه يكره لما
ذكرنا، وعليه عامة المشايخ. ولو زاد على
الأربع في النهار أو على الثمان في الليل
يلزمه لوجود سبب اللزوم وهو الشروع.
ثم اختلف في أن الأفضل في التطوع طول القيام
في الأربع والمثنى على حسب ما اختلف فيه أم
كثرة الصلاة ؟ قال أصحابنا طول القيام أفضل،
وقال: الشافعي كثرة الصلاة أفضل، ولقب المسألة
أن طول القنوت أفضل أم كثرة السجود ؟ والصحيح
قولنا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه "سئل عن أفضل الصلاة فقال: طول
القنوت" أي: القيام وعن ابن عمر أنه قال في
قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}: إن القنوت طول القيام وقرأ قوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} وروي عن أبي يوسف أنه قال: إذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل.
وأما إذا كان له ورد من القرآن يقرؤه فكثرة
السجود أفضل؛ لأن القيام لا يختلف ويضم إليه
زيادة الركوع والسجود والله أعلم.
وأما الذي يرجع إلى الوقت فيكره التطوع في
الأوقات المكروهة وهي اثنا عشر بعضها يكره
التطوع فيها لمعنى في الوقت، وبعضها يكره
التطوع فيها لمعنى في غير الوقت. أما الذي
يكره التطوع فيها لمعنى يرجع إلى الوقت فثلاثة
أوقات: أحدها ما بعد طلوع الشمس إلى أن ترتفع
وتبيض، والثاني عند استواء الشمس إلى أن تزول،
والثالث عند تغير الشمس وهو احمرارها،
واصفرارها إلى أن تغرب. ففي هذه
ج / 1 ص -296-
الأوقات الثلاثة يكره كل تطوع في جميع الأزمان
يوم الجمعة وغيره، وفي جميع الأماكن بمكة
وغيرها، وسواء كان تطوعا مبتدأ لا سبب له، أو
تطوعا له سبب كركعتي الطواف وركعتي تحية
المسجد ونحوهما. وروي عن أبي يوسف أنه لا بأس
بالتطوع وقت الزوال يوم الجمعة، وقال: الشافعي
لا بأس بالتطوع في هذه الأوقات بمكة، احتج أبو
يوسف بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام
"نهى عن الصلاة وقت الزوال إلا يوم الجمعة"،
واحتج الشافعي رحمه الله تعالى: بما روي أن
النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة في
هذه الأوقات إلا بمكة، ولنا ما روي عن عقبة بن
عامر الجهني أنه قال: "ثلاث ساعات كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها،
وأن نقبر فيها موتانا إذا طلعت الشمس حتى
ترتفع، وإذا تضيقت للمغيب، وعند الزوال" وروي
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى
عن الصلاة وقت الطلوع والغروب، وقال: لأن
الشمس تطلع وتغرب بين قرني شيطان" وروى
الصنابحي أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن
الصلاة عند طلوع الشمس، وقال: إنها تطلع بين
قرني شيطان يزينها في عين من يعبدها حتى يسجد
لها فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت عند قائم
الظهيرة قارنها، فإذا مالت فارقها، فإذا دنت
للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها فلا تصلوا في
هذه الأوقات" فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن الصلاة في هذه الأوقات من غير فصل فهو على
العموم والإطلاق، ونبه على معنى النهي، وهو
طلوع الشمس بين قرني الشيطان وذلك؛ لأن عبدة
الشمس يعبدون الشمس، ويسجدون لها عند الطلوع
تحية لها، وعند الزوال لاستتمام علوها، وعند
الغروب وداعا لها فيجيء الشيطان فيجعل الشمس
بين قرنيه ليقع سجودهم نحو الشمس له، فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذه
الأوقات لئلا يقع التشبيه بعبدة الشمس، وهذا
المعنى يعم المصلين أجمع فقد عم النهي بصيغته
ومعناه فلا معنى للتخصيص، وما روي من النهي
إلا بمكة شاذ لا يقبل في معارضة المشهور، وكذا
رواية استثناء يوم الجمعة غريبة فلا يجوز
تخصيص المشهور بها. وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ
الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ
لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا:
مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ
الْفَجْرِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ
إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ
الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَلَا
خِلَافَ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ
وَالْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَا خِلَافَ
فِي أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ الْمُبْتَدَإِ
مَكْرُوهٌ فِيهَا. وَأَمَّا التَّطَوُّعُ
الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ،
وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ
فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ
فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ
فَصْلٍ" وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بَعْدَ
الْعَصْرِ" وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه
"أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ
حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: عَزَمْت
عَلَى مَنْ أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ
وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَقُمْ فَقَالَ
جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لَوْ
تَوَضَّأْنَا جَمِيعًا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ
فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه
وَقَالَ لَهُ: كُنْت سَيِّدًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا فِي الْإِسْلَامِ
فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ
وَالصَّلَاةَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ
الصَّلَاةَ مِمَّنْ لَمْ يُحْدِثْ كَانَتْ
نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا
يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ فِي هَذِهِ
الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ. "وَلَنَا"
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ
وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ،
وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ
حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ" فَهُوَ
عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ،
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ
طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ
أَشْوَاطٍ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ إلَى
ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ مَا
طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَقَالَ رَكْعَتَانِ
مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ أَدَاءُ
رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ
لَمَا أَخَّرَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ
بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا
الطَّوَافِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ إنَّ عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بَعْدَ
الْعَصْرِ فَقَالَ:
"إنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ وَنَحْنُ نَفْعَلُ مَا أُمِرْنَا" أَشَارَ
إلَى أَنَّهُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا
شِرْكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ أَلَا تَرَى
إلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:
"شَغَلَنِي وَفْدٌ عَنْ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا"
فَقَالَتْ وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فَقَالَ"لَا" أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ، لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عَلَيْهِ
ج / 1 ص -297-
السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ، وَمَذْهَبُنَا
مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ
مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ،
وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهم،
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا
يُقْبَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ
ذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عَنْ عُهْدَةِ
الْفَرْضِ، وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ
الْمَكْرِ لِمِثْلِهِ، وَالِاعْتِبَارُ
بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ
الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ
لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ إخْرَاجُ مَا
بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ عَنْ كَوْنِهِ تَبَعًا
لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ
مَقْصُودَةٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا
يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي حَقِّ الْفَرْضِ
فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وكذا أداء الواجب الذي
وجب بصنع العبد من النذر وقضاء التطوع الذي
أفسده في هذه الأوقات مكروه في ظاهر الرواية،
وعن أبي يوسف أنه لا يكره؛ لأنه واجب فصار
كسجدة التلاوة وصلاة الجنازة، وجه ظاهر
الرواية أن المنذور عينه ليس بواجب بل هو نفل
في نفسه، وكذا عين الصلاة لا تجب بالشروع،
وإنما الواجب صيانة المؤداة عن البطلان فبقيت
الصلاة نفلا في نفسها فتكره في هذه الأوقات.
"ومنها" ما بعد الغروب يكره فيه النفل وغيره؛
لأن فيه تأخير المغرب وأنه مكروه.
ومنها ما بعد شروع الإمام في الصلاة وقبل
شروعه بعد ما أخذ المؤذن في الإقامة يكره
التطوع في ذلك الوقت قضاء لحق الجماعة، كما
تكره السنة إلا في سنة الفجر على التفصيل الذي
ذكرنا في السنن.
ومنها وقت الخطبة يوم الجمعة يكره فيه الصلاة؛
لأنها سبب لترك استماع الخطبة، وعند الشافعي
يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد، والمسألة قد
مرت في صلاة الجمعة، ومنها ما بعد خروج الإمام
للخطبة يوم الجمعة قبل أن يشتغل بها، وما بعد
فراغه منها قبل أن يشرع في الصلاة يكره التطوع
فيه والكلام، وجميع ما يكره في حالة الخطبة
عند أبي حنيفة وعندهما لا يكره الكلام وتكره
الصلاة، وقد مر الكلام فيها في صلاة الجمعة.
"ومنها" ما قبل صلاة العيد يكره التطوع فيه؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوع قبل
العيدين مع شدة حرصه على الصلاة وعن علي رضي
الله عنه أنه خرج إلى صلاة العيد فوجد الناس
يصلون فقال: إنه لم يكن قبل العيد صلاة فقيل
له: ألا تنهاهم فقال: لا فإني أخشى أن أدخل
تحت قوله {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} وعن عبد الله بن مسعود وحذيفة أنهما كانا ينهيان الناس عن الصلاة
قبل العيد؛ ولأن المبادرة إلى صلاة العيد
مسنونة، وفي الاشتغال بالتطوع تأخير. ولو
اشتغل بأداء التطوع في بيته يقع في وقت طلوع
الشمس، وكلاهما مكروهان، وقال محمد بن مقاتل
الرازي من أصحابنا: إنما يكره ذلك في المصلى
كي لا يشتبه على الناس أنهم يصلون العيد قبل
صلاة العيد، فأما في بيته فلا بأس بأن يتطوع
بعد طلوع الشمس، وعامة أصحابنا على أنه لا
يتطوع قبل صلاة العيد لا في المصلى ولا في
بيته، فأول الصلاة في هذا اليوم صلاة العيد
والله أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يفارق التطوع الفرض فيه فنقول: إنه يفارقه في أشياء:
منها أنه يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على
القيام، ولا يجوز ذلك في الفرض؛ لأن التطوع
خير دائم فلو ألزمناه القيام يتعذر عليه إدامة
هذا الخير، فأما الفرض فإنه يختص ببعض
الأوقات، فلا يكون في إلزامه مع القدرة عليه
حرج، والأصل في جواز النفل قاعدا مع القدرة
على القيام ما روي عن عائشة رضي الله عنها "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قاعدا
فإذا أراد أن يركع قام فقرأ آيات، ثم ركع وسجد
ثم عاد إلى القعود".
وكذا لو افتتح الفرض قائما ثم أراد أن يقعد
ليس له ذلك بالإجماع. ولو افتتح التطوع قائما
ثم أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي
حنيفة استحسانا، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز
وهو القياس؛ لأن الشروع ملزم كالنذر. ولو نذر
أن يصلي ركعتين قائما لا يجوز له القعود من
غير عذر، فكذا إذا شرع قائما ولأبي حنيفة أنه
متبرع وهو مخير بين القيام والقعود في
الابتداء، فكذا بعد الشروع لكونه متبرعا أيضا.
وأما قولهما: إن الشروع ملزم فنقول: إن الشروع
ليس بملزم وضعا، وإنما يلزم لضرورة صيانة ما
انعقد عبادة عن البطلان، وما انعقد يتعلق
بقاؤه عبادة بوجود أصل ما بقي من الصلاة لا
بوجود وصف ما بقي، فإن التطوع قاعدا جائز في
الجملة فلم يلزم تحصيل وصف القيام فيما بقي؛
لأن لزوم ما بقي لأجل الضرورة ولا ضرورة في حق
وصف القيام، ولهذا لا يلزمه أكثر من ركعتين
لاستغناء المؤدى عن الزيادة بخلاف النذر فإنه
موضوع للإيجاب شرعا فإذا أوجب مع الوصف وجب
كذلك حتى لو أطلق النذر، لا رواية فيه فقيل:
إنه على هذا الخلاف الذي ذكرنا في
ج / 1 ص -298-
الشروع، وقيل: لا يلزمه بصفة القيام؛ لأن
التطوع لم يتناول القيام فلا يلزمه إلا
بالتنصيص عليه كالتتابع في باب الصوم، وقيل:
يلزمه قائما؛ لأن النذر وضع للإيجاب فيعتبر ما
أوجبه على نفسه بما أوجبه الله عليه مطلقا،
وهناك يلزمه بصفة القيام إلا من عذر كذا هذا.
وأما الشروع فليس بموضوع للوجوب وإنما جعل
موجبا بطريق الضرورة، والضرورة في حق الأصل
دون الوصف على ما مر.
افتتح التطوع قاعدا فأدى بعضها قاعدا وبعضها
قائما أجزأه لما روي عن عائشة رضي الله عنها
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح
التطوع قاعدا فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر
آيات، أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد
وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية، فقد انتقل
من القعود إلى القيام، ومن القيام إلى القعود"
فدل أن ذلك جائز في صلاة التطوع.
أنه يجوز التنفل على الدابة مع القدرة على
النزول، وأداء الفرض على الدابة مع القدرة على
النزول لا يجوز لما ذكرنا فيما تقدم.
ومنها أن القراءة في التطوع في الركعات كلها
فرض، والمفروض من القراءة في ذوات الأربع من
المكتوبات في ركعتين منها فقط حتى لو ترك
القراءة في الشفع الأول من الفرض لا يفسد
الشفع الثاني بل يقضيها في الشفع الثاني، أو
يؤديها بخلاف التطوع لما ذكرنا أن كل شفع من
التطوع صلاة على حدة، وقد روي عن عمر وابن
مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم موقوفا
عليهم، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "لا يصلى بعد صلاة مثلها" قال
محمد: تأويله لا يصلى بعد صلاة مثلها من
التطوع على هيئة الفريضة في القراءة أي:
ركعتان بقراءة وركعتان بغير قراءة أي: لا يصلي
بعد أربع الفريضة أربعا من التطوع يقرأ في
ركعتين ولا يقرأ في ركعتين، والنهي عن الفعل
أمر بضده، فكان هذا أمر بالقراءة في الركعات
كلها في التطوع، ولا يحمل على المماثلة في
أعداد الركعات؛ لأن ذلك غير منهي بالإجماع
كالفجر بعد الركعتين، والظهر بعد الأربع في حق
المقيم، والركعتين بعد الظهر في حق المسافر،
وتأويل أبي يوسف أي: لا تعاد الفرائض الفوائت؛
لأنه في بداية الإسلام كانت الفرائض تقضى ثم
تعاد من الغد لوقتها فنهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك. ومصداق هذا التأويل ما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من نام عن صلاة، أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، أو استيقظ من الغد
لوقتها"، ثم نسخ
هذا الحديث بقوله "لا يصلى بعد صلاة مثلها"
ويمكن حمل الحديث على النهي عن قضاء الفرض بعد
أدائه مخافة دخول فساد فيه بحكم الوسوسة وتكون
فائدة الحديث على هذا التأويل وجوب دفع
الوسوسة، والنهي عن اتباعها، ويجوز أن يحمل
الحديث على النهي عن تكرار الجماعة في مسجد
واحد، وعلى هذا التأويل يكون الحديث حجة لنا
على الشافعي في تلك المسألة والله أعلم.
ومنها أن القعدة على رأس الركعتين في ذوات
الأربع في الفرائض ليست بفرض بلا خلاف حتى لا
يفسد بتركها، وفي التطوع اختلاف على ما مر.
ولو قام إلى الثالثة قبل أن يقعد ساهيا في
الفرض، فإن استتم قائما لم يعد، وإن لم يستتم
قائما عاد وقعد وسجد سجدتي السهو. وأما في
التطوع فقد ذكر محمد أنه إذا نوى أن يتطوع
أربع ركعات وقام ولم يستتم قائما أنه يعود،
ولم يذكر أنه إذا استتم قائما هل يعود أم لا ؟
قال بعض مشايخنا: لا يعود استحسانا؛ لأنه لما
نوى الأربع التحق بالظهر، وبعضهم قال: يعود؛
لأن كل شفع صلاة على حدة، والأول أوجه. ولو
كان نوى أن يتطوع بركعتين فقام من الثانية إلى
الثالثة قبل أن يقعد فيعود ههنا بلا خلاف بين
مشايخنا؛ لأن كل شفع بمنزلة صلاة الفجر.
ومنها أن الجماعة في التطوع ليست بسنة إلا في
قيام رمضان، وفي الفرض واجبة أو سنة مؤكدة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجده
إلا المكتوبة" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصلي ركعتي الفجر في بيته،
ثم يخرج إلى المسجد" ولأن الجماعة من شعائر
الإسلام وذلك مختص بالفرائض أو الواجبات دون
التطوعات، وإنما عرفنا الجماعة سنة في
التراويح بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى التراويح في
المسجد ليلتين، وصلى الناس بصلاته" وعمر رضي
الله عنه في خلافته استشار الصحابة أن يجمع
الناس على قارئ واحد فلم يخالفوه فجمعهم على
أبي بن كعب.
ومنها أن التطوع غير موقت بوقت خاص، ولا مقدر
بمقدار مخصوص فيجوز في أي وقت كان على أي
مقدار كان إلا أنه يكره
ج / 1 ص -299-
في بعض الأوقات، وعلى بعض المقادير على ما مر والفرض مقدر بمقدار
خاص موقت بأوقات مخصوصة، فلا تجوز الزيادة على
قدره، وتخصيص جوازه ببعض الأوقات دون بعض على
ما مر في موضعه.
ومنها أن التطوع يتأدى بمطلق النية، والفرض لا
يتأدى إلا بتعيين النية، وقد ذكرنا الفرق في
موضعه،.
ومنها أن مراعاة الترتيب يختص بالفرائض دون
التطوعات حتى لو شرع في التطوع ثم تذكر فائتة
مكتوبة لم يفسد تطوعه. ولو كان في الفرض تفسد
الفريضة؛ لأن المفسد للفرض كونه مؤديا للفرض
قبل وقته، وليس للتطوع وقت مخصوص بخلاف الفرض؛
ولأنه لو تذكر فائتة عليه في صلاة الفرض ينقلب
فرضه تطوعا ولا يبطل أصلا، فإذا تذكر في
التطوع لأن يبقى تطوعا ولا يبطل كان أولى
والله أعلم.
"فصل": وأما صلاة الجنازة فالكلام في الجنائز يقع في الأصل في ستة مواضع:
أحدها في غسل الميت، والثاني في تكفينه،
والثالث في حمل جنازته، والرابع في الصلاة
عليه، والخامس في دفنه، والسادس في الشهيد
وقبل أن نشتغل ببيان ذلك نبدأ بما يستحب أن
يفعل بالمريض المحتضر وما يفعل بعد موته إلى
أن يغسل فنقول: إذا احتضر الإنسان فالمستحب أن
يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن، كما يوجه في
القبر؛ لأنه قرب موته فيضجع كما يضجع الميت في
اللحد، ويلقن كلمة الشهادة لقول النبي صلى
الله عليه وسلم
"لقنوا موتاكم لا إله إلا
الله" والمراد من الميت المحتضر؛ لأنه قرب موته فسمي ميتا لقربه من
الموت، قال الله تعالى:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وإذا قضى نحبه تغمض عيناه، ويشد لحياه؛ لأنه لو ترك كذلك لصار كريه
المنظر في نظر الناس كالمثلة، وقد روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم "أنه دخل على أبي
سلمة، وقد شق بصره فغمضه" ولا بأس بإعلام
الناس بموته من أقربائه وأصدقائه وجيرانه
ليؤدوا حقه بالصلاة عليه، والدعاء والتشييع،
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال
في المسكينة التي كانت في ناحية المدينة إذا
ماتت فآذنوني"؛ ولأن في الإعلام تحريضا على
الطاعة وحثا على الاستعداد لها فيكون من باب
الإعانة على البر والتقوى، والتسبب إلى الخير
والدلالة عليه، وقد قال الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"الدال على الخير كفاعله" إلا
أنه يكره النداء في الأسواق والمحال؛ لأن ذلك
يشبه عزاء أهل الجاهلية. ويستحب أن يسرع في
جهازه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "عجلوا بموتاكم فإن يك خيرا قدمتموه إليه، وإن يك شرا فبعدا لأهل
النار" ندب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعجيل ونبه
على المعنى فيبدأ بغسله.
"فصل": والكلام في الغسل يقع في مواضع: في بيان أنه واجب، وفي بيان كيفية
وجوبه، وفي بيان كيفية الغسل، وفي بيان شرائط
وجوبه، وفي بيان من يغسل ومن لا يغسل. أما
الأول فالدليل على وجوبه النص، والإجماع،
والمعقول أما النص فما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال
"للمسلم على المسلم ست حقوق" وذكر
من جملتها أن يغسله بعد موته وعلى: كلمة
إيجاب. وروي أنه لما توفي آدم صلوات الله عليه
غسلته الملائكة ثم قالت لولده هذه سنة موتاكم،
والسنة المطلقة في معنى الواجب، وكذا الناس
توارثوا ذلك من لدن آدم صلى الله عليه وسلم
إلى يومنا هذا فكان تاركه مسيئا لتركه السنة
المتوارثة، والإجماع منعقد على وجوبه. وأما
المعقول فقد اختلفت فيه عبارات مشايخنا، ذكر
محمد بن شجاع البلخي أن الآدمي لا يتنجس
بالموت بتشرب الدم المسفوح في أجزائه كرامة
له؛ لأنه لو تنجس لما حكم بطهارته بالغسل
كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت،
والآدمي يطهر بالغسل، حتى روي عن محمد أن
الميت لو وقع في البئر قبل الغسل يوجب تنجيس
البئر. ولو وقع بعد الغسل لا يوجب تنجسه فعلم
أنه لم يتنجس بالموت ولكن وجب غسله للحدث؛ لأن
الموت لا يخلو عن سابقة حدث لوجود استرخاء
المفاصل، وزوال العقل، والبدن في حق التطهير
لا يتجزأ فوجب غسله كله، إلا أنا اكتفينا بغسل
هذه الأعضاء الظاهرة حالة الحياة دفعا للحرج
لغلبة وجود الحدث في كل وقت، حتى إن خروج
المني عن شهوة لما كان لا يكثر وجوده لم يكتف
فيه إلا بالغسل ولا حرج بعد الموت فوجب غسل
الكل. وعامة مشايخنا قالوا: إن بالموت يتنجس
الميت لما فيه من الدم المسفوح كما يتنجس سائر
الحيوانات التي لها دم سائل بالموت، ولهذا لو
وقع في البئر يوجب تنجسه إلا أنه إذا غسل يحكم
بطهارته كرامة له فكانت الكرامة عندهم في
ج / 1 ص -300-
الحكم
بالطهارة عند وجود السبب المطهر في الجملة،
وهو الغسل لا في المنع من حلول النجاسة، وعند
البلخي الكرامة في امتناع حلول النجاسة
وحكمها، وقول العامة أظهر؛ لأن فيه عملا
بالدليلين: إثبات النجاسة عند وجود سبب
النجاسة، والحكم بالطهارة عند وجود ما له أثر
في التطهير في الجملة. ولا شك أن هذا في
الجملة أقرب إلى القياس من منع ثبوت الحكم
أصلا مع وجود السبب.
"فصل": وأما بيان كيفية وجوبه فهو واجب على سبيل الكفاية إذا قام به البعض
سقط عن الباقين لحصول المقصود بالبعض كسائر
الواجبات على سبيل الكفاية، وكذا الواجب هو
الغسل مرة واحدة، والتكرار سنة وليس بواجب حتى
لو اكتفى بغسلة واحدة، أو غمسة واحدة في ماء
جار جاز؛ لأن الغسل إن وجب لإزالة الحدث كما
ذهب إليه البعض فقد حصل بالمرة الواحدة كما في
غسل الجنابة، وإن وجب لإزالة النجاسة المتشربة
فيه كرامة له على ما ذهب إليه العامة فالحكم
بالزوال بالغسل مرة واحدة أقرب إلى معنى
الكرامة ولو أصابه المطر لا يجزئ عن الغسل؛
لأن الواجب فعل الغسل ولم يوجد، ولو غرق في
الماء فأخرج إن كان المخرج حركه كما يحرك
الشيء في الماء بقصد التطهير سقط الغسل وإلا
فلا لما قلنا والله أعلم.
"فصل": وأما بيان كيفية الغسل فنقول: يجرد الميت إذا أريد غسله عندنا،
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يجرد بل
يغسل وعليه ثوبه استدلالا بغسل النبي صلى الله
عليه وسلم حيث غسل في قميصه، ولنا أن المقصود
من الغسل هو التطهير ومعنى التطهير لا يحصل
بالغسل وعليه الثوب لتنجس الثوب بالغسالات
التي تنجست بما عليه من النجاسات الحقيقية،
وتعذر عصره أو حصوله بالتجريد أبلغ فكان أولى.
وأما غسل النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه
فقد كان مخصوصا بذلك لعظم حرمته، فإنه روي
أنهم لما قصدوا أن ينزعوا قميصه قيض الله
السنة عليهم فما فيهم أحد إلا ضرب ذقنه على
صدره، حتى نودوا من ناحية البيت لا تجردوا
نبيكم. وروي غسلوا نبيكم وعليه قميصه فدل أنه
كان مخصوصا بذلك، ولا شركة لنا في خصائصه،
ولأن المقصود من التجريد هو التطهير، وأنه صلى
الله عليه وسلم كان طاهرا حتى قال علي رضي
الله عنه حين تولى غسله: طبت حيا وميتا.
ويوضع على التخت؛ لأنه لا يمكن الغسل إلا
بالوضع عليه؛ لأنه لو غسل على الأرض لتلطخ، ثم
لم يذكر في ظاهر الرواية كيفية وضع التخت أنه
يوضع إلى القبلة طولا أو عرضا، فمن أصحابنا من
اختار الوضع طولا كما يفعل في مرضه إذا أراد
الصلاة بالإيماء، ومنهم من اختار الوضع عرضا
كما يوضع في قبره، والأصح أنه يوضع كما تيسر؛
لأن ذلك يختلف باختلاف المواضع.
, وتستر عورته بخرقة؛ لأن حرمة النظر إلى
العورة باقية بعد الموت قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لا تنظروا
إلى فخذ حي ولا ميت"
ولهذا لا
يباح للأجنبي غسل الأجنبية دل عليه ما روي عن
عائشة أنها قالت كسر عظم الميت ككسره وهو حي
ليعلم أن الآدمي محترم حيا وميتا وحرمة النظر
إلى العورة من باب الاحترام. وقد روى الحسن عن
أبي حنيفة أنه يؤزر بإزار سابغ كما يفعله في
حياته إذا أراد الاغتسال والصحيح ظاهر
الرواية؛ لأنه يشق عليهم غسل ما تحت الإزار،
ثم الخرقة ينبغي أن تكون ساترة ما بين السرة
إلى الركبة؛ لأن كل ذلك عورة وبه أمر في الأصل
حيث قال: وتطرح على عورته خرقة هكذا ذكر عن
أبو عبد الله البلخي نصا في نوادره، ثم تغسل
عورته تحت الخرقة بعد أن يلف على يده خرقة كذا
ذكر البلخي؛ لأن حرمة مس عورة الغير فوق حرمة
النظر، فتحريم النظر يدل على تحريم المس بطريق
الأولى.
, وتستر عورته بخرقة؛ لأن حرمة النظر إلى
العورة باقية بعد الموت قال النبي صلى الله
عليه وسلم:
"لا
تنظروا إلى فخذ حي ولا ميت" ولهذا لا
يباح للأجنبي غسل الأجنبية دل عليه ما روي عن
عائشة أنها قالت كسر عظم الميت ككسره وهو حي
ليعلم أن الآدمي محترم حيا وميتا وحرمة النظر
إلى العورة من باب الاحترام. وقد روى الحسن عن
أبي حنيفة أنه يؤزر بإزار سابغ كما يفعله في
حياته إذا أراد الاغتسال والصحيح ظاهر
الرواية؛ لأنه يشق عليهم غسل ما تحت الإزار،
ثم الخرقة ينبغي أن تكون ساترة ما بين السرة
إلى الركبة؛ لأن كل ذلك عورة وبه أمر في الأصل
حيث قال: وتطرح على عورته خرقة هكذا ذكر عن
أبو عبد الله البلخي نصا في نوادره، ثم تغسل
عورته تحت الخرقة بعد أن يلف على يده خرقة كذا
ذكر البلخي؛ لأن حرمة مس عورة الغير فوق حرمة
النظر، فتحريم النظر يدل على تحريم المس بطريق
الأولى.
ثم يوضأ وضوءه للصلاة لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال "للاتي غسلن ابنته
ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها"؛ ولأن
هذا سنة الاغتسال في حالة الحياة فكذا
ج / 1 ص -301-
بعد
الممات؛ لأن الغسل في الموضعين لأجل الصلاة
إلا أنه لا يمضمض الميت، ولا يستنشق؛ لأن
إدارة الماء في فم الميت غير ممكن، ثم يتعذر
إخراجه من الفم إلا بالكب، وذا مثله مع أنه لا
يؤمن أن يسيل منه شيء لو فعل ذلك به، وكذا
الماء لا يدخل الخياشيم إلا بالجذب بالنفس،
وذا غير متصور من الميت. ولو كلف الغاسل ذلك
لوقع في الحرج، وكذا لا يؤخر غسل رجليه عند
التوضئة بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك الغسالة
تجتمع عند رجليه، ولا تجتمع الغسالة على التخت
فلم يكن التأخير مفيدا، وكذا لا يمسح رأسه،
ويمسح في حالة الحياة في ظاهر الرواية؛ لأن
المسح هناك سن تعبدا لا تطهيرا، وههنا لو سن
لسن تطهيرا لا تعبدا، والتطهير لا يحصل
بالمسح.
ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمي؛ لأن ذلك أبلغ في
التنظيف فإن لم يكن فبالصابون وما أشبهه، فإن
لم يكن فيكفيه الماء القراح ولا يسرح لما روي
عن عائشة أنها رأت قوما يسرحون ميتا فقالت:
علام تنصون ميتكم ؟، أي: تسرحون شعره، وهذا
قول روي عنها، ولم يرو عن غيرها خلاف ذلك فحل
محل الإجماع؛ ولأنه لو سرح ربما يتناثر شعره،
والسنة أن يدفن الميت بجميع أجزائه، ولهذا لا
تقص أظفاره وشاربه ولحيته، ولا يختن ولا ينتف
إبطه ولا تحلق عانته؛ ; ولأن ذلك يفعل لحق
الزينة والميت ليس بمحل الزينة، ولهذا لا يزال
عنه شيء مما ذكرنا وإن كان فيه حصول زينة،
وهذا عندنا وعند الشافعي يسرح ويزال عنه شعر
العانة والإبط إذا كانا طويلين، وشعر الرأس
يزال إن كان يتزين بإزالة الشعر، ولا يحلق في
حق من كان لا يحلق في حال الحياة، وكان يتزين
بالشعر واحتج الشافعي بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم" ثم هذه الأشياء تصنع بالعروس فكذا بالميت. "ولنا" ما روينا عن
عائشة وذكرنا من المعقول، وبه تبين أن ما رواه
ينصرف إلى زينة ليس فيها إزالة شيء من أجزاء
الميت كالطيب، والتنظيف من الدرن ونحو ذلك،
بدليل ما روينا.
ثم يضجعه على شقه الأيسر لتحصل البداية بجانبه
الأيمن إذ السنة هي البداية بالميامن على ما
مر، فيغسله بالماء القراح حتى ينقيه ويرى أن
الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه، ثم قد كان
أمر الغاسل قبل ذلك أن يغلي الماء بالسدر فإن
لم يكن سدر فحرض، فإن لم يكن واحد منهما
فالماء القراح، ثم يضجعه على شقه الأيمن
فيغسله بماء السدر، أو الحرض، أو الماء القراح
حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه
ثم يقعده ويسنده إلى صدره أو يده فيمسح بطنه
مسحا رفيقا، حتى إن بقي شيء عند المخرج يسيل
منه هكذا ذكر في ظاهر الرواية. وروي عن أبي
حنيفة في غير رواية الأصول أنه يقعده ويمسح
بطنه أولا، ثم يغسله بعد ذلك، ووجهه أنه قد
يكون في بطنه شيء فيمسح حتى لو سال منه شيء
يغسله بعد ذلك ثلاث مرات فيطهر، ووجه ظاهر
الرواية أن الميت قد يكون في بطنه نجاسة
منعقدة لا تخرج بالمسح قبل الغسل، وتخرج بعد
ما غسل مرتين بماء حار فكان المسح بعد المرتين
أولى، والأصل في المسح ما روي "أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما تولى غسله علي، والعباس،
والفضل بن العباس، وصالح مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعلي أسند رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى نفسه ومسح بطنه مسحا رفيقا فلم
يخرج منه شيء فقال علي رضي الله عنه: طبت حيا
وميتا" وروي أنه لما مسح بطنه فاح ريح المسك
في البيت، ثم إذا مسح بطنه فإن سال منه شيء
يمسحه كي لا يتلوث الكفن، ويغسل ذلك الموضع
تطهيرا له عن النجاسة الحقيقية، ولم يذكر في
ظاهر الرواية سوى المسح ولا يعيد الغسل ولا
الوضوء عندنا، وقال الشافعي: يعيد الوضوء
استدلالا بحالة الحياة. "ولنا" أن الموت أشد
من خروج النجاسة ثم هو لم يمنع حصول الطهارة،
فلأن لا يرفعها الخارج مع أن المنع أسهل أولى.
ثم يضجعه على شقه الأيمن فيغسله بالماء القراح
حتى ينقيه ليتم عدد الغسل ثلاثا لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قال للائي غسلن
ابنته:
"اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا"؛ ولأن الثلاث هو العدد المسنون في الغسل حالة الحياة فكذا بعد
الموت، فالحاصل أنه يغسل في المرة الأولى
بالماء القراح ليبتل الدرن والنجاسة، ثم في
المرة الثانية بماء السدر، أو ما يجري مجراه
في التنظيف؛ لأن ذلك أبلغ في التطهير وإزالة
الدرن، ثم في المرة الثالثة بالماء القراح
وشيء من الكافور، وقال الشافعي: في المرة
الأولى لا يغسل بالماء الحار؛ لأنه يزيده
استرخاء فينبغي أن يغسله بالماء البارد، وهذا
غير سديد؛ لأنه إنما يغسله ليسترخي فيزول عنه
ما عليه من الدرن والنجاسة، ثم ينشفه في ثوب
كي لا تبتل أكفانه كما يفعل في حالة الحياة
بعد الغسل.
ج / 1 ص -302-
وحكم
المرأة في الغسل حكم الرجل، وكذا الصبي في
الغسل كالبالغ؛ لأن غسل الميت للصلاة عليه،
والصبي والمرأة يصلى عليهما إلا أن الصبي إذا
كان لا يعقل الصلاة لا يوضأ عند غسله؛ لأن
حالة الموت معتبرة بحالة الحياة، وفي حالة
الحياة لا يعتبر وضوء من لا يعقل، فكذا بعد
الموت وكذا المحرم وغير المحرم سواء؛ لأن
الإحرام ينقطع بالموت في حق أحكام الدنيا
والله أعلم.
"فصل": وأما شرائط وجوبه فمنها أن يكون ميتا مات بعد الولادة حتى لو ولد
ميتا لم يغسل كذا روي عن أبي حنيفة أنه قال:
إذا استهل المولود سمي وغسل وصلي عليه وورث
وورث عنه، وإذا لم يستهل لم يسم ولم يغسل ولم
يرث. وعن محمد أيضا أنه لا يغسل ولا يسمى ولا
يصلى عليه، وهكذا ذكر الكرخي وروي عن أبي يوسف
أنه يغسل ويسمى ولا يصلى عليه، وكذا ذكر
الطحاوي وقال محمد: في السقط الذي استبان
خلقه: أنه يغسل ويكفن ويحنط ولا يصلى عليه،
فاتفقت الروايات على أنه لا يصلى على من ولد
ميتا، والخلاف في الغسل. وجه ما اختاره
الطحاوي أن المولود ميتا نفس مؤمنة فيغسل وإن
كان لا يصلى عليه كالبغاة وقطاع الطريق، وجه
ما ذكره الكرخي ما روي عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا استهل المولود غسل وصلي عليه وورث، وإن لم يستهل لم يغسل ولم يصل
عليه ولم يرث"
ولأن وجوب الغسل بالشرع وأنه ورد باسم الميت،
ومطلق اسم الميت في العرف لا يقع على من ولد
ميتا ولهذا لا يصلى عليه، وقال الشافعي إن
أسقط قبل أربعة أشهر لا يغسل، ولا يصلى عليه
قولا واحدا، وإن كان لأربعة أشهر من وقت
العلوق، وقد استبان خلقه فله فيه قولان،
والصحيح قولنا لما ذكرنا، وهذا إذا لم يستهل
فأما إذا استهل بأن حصل منه ما يدل على حياته
من بكاء أو تحريك عضو، أو طرف، أو غير ذلك
فإنه يغسل بالإجماع لما روينا؛ ولأن الاستهلال
دلالة الحياة فكان موته بعد ولادته حيا فيغسل.
ولو شهدت القابلة، أو الأم على الاستهلال تقبل
في حق الغسل والصلاة عليه؛ لأن خبر الواحد في
باب الديانات مقبول إذا كان عدلا. وأما في حق
الميراث فلا يقبل قول الأم بالإجماع؛ لكونها
متهمة لجرها المغنم إلى نفسها، وكذا شهادة
القابلة عند أبي حنيفة، وقالا: تقبل إذا كانت
عدلة على ما يعرف في موضعه.
وعلى هذا يخرج ما إذا وجد طرف من أطراف
الإنسان كيد أو رجل أنه لا يغسل؛ لأن الشرع
ورد بغسل الميت، والميت اسم لكله ولو وجد
الأكثر منه غسل؛ لأن للأكثر حكم الكل، وإن وجد
الأقل منه، أو النصف لم يغسل كذا ذكر القدوري
في شرحه مختصر الكرخي؛ لأن هذا القدر ليس بميت
حقيقة وحكما، ولأن الغسل للصلاة وما لم يزد
على النصف لا يصلى عليه، فلا يغسل أيضا، وذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه إذا وجد
النصف ومعه الرأس يغسل، وإن لم يكن معه الرأس
لا يغسل فكأنه جعله مع الرأس في حكم الأكثر؛
لكونه معظم البدن. ولو وجد نصفه مشقوقا لا
يغسل لما قلنا، ولأنه لو غسل الأقل أو النصف
يصلى عليه؛ لأن الغسل لأجل الصلاة. ولو صلي
عليه لا يؤمن أن يوجد الباقي فيصلى عليه فيؤدي
إلى تكرار الصلاة على ميت واحد، وذلك مكروه
عندنا، أو يكون صاحب الطرف حيا فيصلى على
بعضه، وهو حي وذلك فاسد، وهذا كله مذهبنا،
وقال الشافعي: إن وجد عضو يغسل ويصلى عليه
واحتج بما روي أن طائرا ألقى يدا بمكة زمن
وقعة الجمل فغسلها أهل مكة وصلوا عليها، وقيل:
إنها يد طلحة، أو يد عبد الرحمن بن عتاب بن
أسيد رضي الله عنهم وروي عن عمر رضي الله عنه
أنه صلى على عظام بالشام وعن أبي عبيدة بن
الجراح رضي الله عنه أنه صلى على رءوس؛ ولأن
صلاة الجنازة شرعت لحرمة الآدمي، وكذا الغسل
وكل جزء منه محترم. ولنا ما روي عن ابن مسعود
وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: " لا
يصلى على عضو " وهذا يدل على أنه لا يغسل؛ لأن
الغسل لأجل الصلاة، ولما ذكرنا من المعاني
أيضا. وأما حديث أهل مكة فلا حجة فيه؛ لأن
الراوي لم يرو أن الذي صلى عليه من هو حتى
ننظر أهو حجة أم لا، أو نحمل الصلاة على
الدعاء، وكذا حديث عمر وأبي عبيدة رضي الله
عنهما ألا ترى أن العظام لا يصلى عليها
بالإجماع.
ومنها أن يكون الميت مسلما حتى لا يجب غسل
الكافر؛ لأن الغسل وجب كرامة وتعظيما للميت،
والكافر ليس من أهل استحقاق الكرامة والتعظيم،
لكن إذا كان ذا رحم محرم
ج / 1 ص -303-
من
المسلم لا بأس بأن يغسله ويكفنه ويتبع جنازته
ويدفنه؛ لأن الابن ما نهي عن البر بمكان أبيه
الكافر، بل أمر بمصاحبتهما بالمعروف بقوله
تعالى:
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} ومن البر القيام بغسله، ودفنه وتكفينه، والأصل فيه ما روي "عن علي
رضي الله عنه لما مات أبوه أبو طالب جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله إن عمك الضال قد توفي فقال: اذهب وغسله
وكفنه وواره ولا تحدثن حدثا حتى تلقاني قال:
ففعلت ذلك وأتيته فأخبرته فدعا لي بدعوات ما
أحب أن يكون لي بها حمر النعم" وقال سعيد بن
جبير: سأل رجل عبد الله بن عباس رضي الله
تعالى: عنهما فقال: إن امرأتي ماتت نصرانية
فقال: اغسل ها وكفنها وادفنها، وعن الحارث بن
أبي ربيعة أن أمه ماتت نصرانية فتبع جنازتها
في نفر من الصحابة رضي الله تعالى: عنهم ثم
إنما يقوم ذو الرحم بذلك إذا لم يكن هناك من
يقوم به من أهل دينه، فإن كان خلى المسلم بينه
وبينهم ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم.
وإن مات مسلم وله أب كافر هل يمكن من القيام
بتغسيله وتجهيزه ؟ لم يذكر في الكتاب، وينبغي
أن لا يمكن من ذلك، بل يغسله المسلمون؛ لأن
اليهودي لما آمن برسول الله صلى الله عليه
وسلم عند موته ما قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى مات "فقال صلى الله عليه وسلم
لأصحابه:
"تولوا أخاكم" ولم يخل
بينه وبين والده اليهودي؛ ولأن غسل الميت شرع
كرامة له، وليس من الكرامة أن يتولى الكافر
غسله.
ومنها أن يكون عادلا حتى لا يغسل الباغي إذا
قتل، ولا يصلى عليه كذا روى المعلى عن أبي
يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ومحمد،
وعند الشافعي يغسل ويصلى عليه وسنذكر المسألة،
وذكر الفقيه أبو الحسن الرستغفني صاحب الشيخ
أبي منصور الماتريدي رحمهما الله تعالى: أنه
يغسل ولا يصلى عليه، وفرق بينهما بأن الغسل
حقه، والصلاة حق الله تعالى: فما كان من حقه
يؤتى به، وما كان من حق الله تعالى: لا يؤتى
به إهانة، ولهذا يغسل الكافر ولا يصلى عليه.
ولو اجتمع الموتى المسلمون والكفار ينظر إن
كان بالمسلمين علامة يمكن الفصل بها يفصل،
وعلامة المسلمين أربعة أشياء: الختان والخضاب،
ولبس السواد وحلق العانة، وإن لم يكن بهم
علامة ينظر إن كان المسلمون أكثر غسلوا وكفنوا
ودفنوا في مقابر المسلمين وصلي عليهم وينوي
بالدعاء المسلمين، وإن كان الكفار أكثر يغسلوا
ولا يصلى عليهم، كذا ذكر القدوري في شرحه
مختصر الكرخي؛ لأن الحكم للغالب، وذكر القاضي
في شرحه مختصر الطحاوي أنه إن كانت الغلبة
لموتى الكفار لا يصلى عليهم، لكن يغسلون
ويكفنون ويدفنون في مقابر المشركين، ووجهه أن
غسل المسلم واجب وغسل الكافر جائز في الجملة
فيؤتى بالجائز في الجملة لتحصيل الواجب. وأما
إذا كانوا على السواء فلا يشكل أنهم يغسلون
لما ذكرنا أن فيه تحصيل الواجب مع الإتيان
بالجائز في الجملة وهذا أولى من ترك الواجب
رأسا، وهل يصلى عليهم ؟ قال بعضهم: لا يصلى
عليهم؛ لأن ترك الصلاة على المسلم أولى من
الصلاة على الكافر؛ لأن الصلاة على الكافر غير
مشروعة أصلا. قال الله تعالى:
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا
وَهُمْ فَاسِقُونَ} وترك الصلاة على المسلم مشروعة في الجملة كالبغاة وقطاع الطريق
فكان الترك أهون، وقال بعضهم: يصلى عليهم
وينوي بالصلاة والدعاء المسلمين؛ لأنهم إن
عجزوا عن تعيين العمل للمسلمين لم يعجزوا عن
تمييز القصد في الدعاء لهم. وأما الدفن فلا
رواية فيه في المبسوط، وذكر الحاكم الجليل في
مختصره أنهم يدفنون في مقابر المشركين، واختلف
المشايخ فيه، قال بعضهم: يدفنون في مقابر
المسلمين وقال بعضهم: في مقابر المشركين، وقال
بعضهم: تتخذ لهم مقبرة على حدة وتسوى قبورهم،
ولا تسنم وهو قول الفقيه أبي جعفر الهندواني
وهو أحوط.
وأصل الاختلاف في كتابية تحت مسلم حبلت ثم
ماتت وفي بطنها ولد مسلم لا يصلى عليها
بالإجماع؛ لأن الصلاة على الكافرة غير مشروعة،
وما في بطنها لا يستحق الصلاة عليه ولكنها
تغسل وتكفن، واختلف الصحابة في الدفن قال
بعضهم: تدفن في مقابر المسلمين ترجيحا لجانب
الولد، وقال بعضهم: في مقابر المشركين؛ لأن
الولد في حكم جزء منها ما دام في البطن، وقال
واثلة بن الأسقع: يتخذ لها مقبرة على حدة،
وهذا أحوط.
ولو وجد ميت أو قتيل في دار الإسلام فإن كان
عليه سيما المسلمين يغسل ويصلى عليه ويدفن في
مقابر المسلمين، وهذا ظاهر، وإن لم يكن معه
سيما المسلمين ففيه روايتان، والصحيح أنه يغسل
ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين لحصول
غلبة الظن بكونه مسلما بدلالة
ج / 1 ص -304-
المكان، وهي دار الإسلام، ولو وجد في دار الحرب فإن كان معه سيما
المسلمين يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر
المسلمين بالإجماع، وإن لم يكن معه سيما
المسلمين ففيه روايتان، والصحيح أنه لا يغسل
ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين،
والحاصل أنه لا يشترط الجمع بين السيما ودليل
المكان، بل يعمل بالسيما وحده بالإجماع، وهل
يعمل بدليل المكان وحده ؟ فيه روايتان،
والصحيح أنه يعمل به لحصول غلبة الظن عنده.
ومنها أن لا يكون ساعيا في الأرض بالفساد فلا
يغسل البغاة وقطاع الطريق والمكاثرون
والخناقون إذا قتلوا؛ لأن المسلم يغسل كرامة
له، وهؤلاء لا يستحقون الكرامة بل الإهانة،
وعن الفقيه أبي الحسن الرستغفني صاحب أبي
منصور الماتريدي أن الباغي لا يغسل، ولا يصلى
عليه؛ لأن الغسل حقه فيؤتى به، والصلاة حق
الله تعالى: فلا يصلى عليه إهانة له كالكافر
أنه يغسل ولا يصلى عليه، كذا ذكره في العيون،
وعن محمد أن من قتل مظلوما لا يغسل ويصلى
عليه، ومن قتل ظالما يغسل ولا يصلى عليه
والباغي قتل ظالما فيغسل ولا يصلى عليه.
ومنها وجود الماء؛ لأن وجود الفعل مقيد بالوسع
ولا وسع مع عدم الماء فسقط الغسل، ولكن ييمم
بالصعيد لأن التيمم صلح بدلا عن الغسل في حال
الحياة فكذا بعد الموت، غير أن الجنس ييمم
الجنس بيده؛ لأنه يباح له مس مواضع التيمم منه
من غير شهوة، كما في حالة الحياة فكذا بعد
الموت. وأما غير الجنس فإن كانا ذوي رحم محرم
فكذلك لما قلنا، وإن كانا أجنبيين فإن لم
يكونا زوجين ييممه بخرقة تستر يده؛ لأن حرمة
المس بينهما ثابتة، كما في حالة الحياة إلا
إذا كان أحدهما مما لا يشتهى كالصغير، أو
الصغيرة فييممه من غير خرقة، وإن كانا زوجين،
فالمرأة تيمم زوجها بلا خرقة؛ لأنها تغسله بلا
خرقة فالتيمم أولى إذا لم تبن منه في حال
حياته بالإجماع، ولا حدث بعد وفاته ما يوجب
البينونة عند علمائنا الثلاثة خلافا لزفر بناء
على ما نذكر؛ لأنها تغسله بلا خرقة فالتيمم
أولى. وأما الزوج فلا ييمم زوجته بلا خرقة
عندنا خلافا للشافعي على ما نذكر.
ومنها أن لا يكون الميت شهيدا؛ لأن الغسل ساقط
عن الشهيد بالنص على ما نذكر في فصله إن شاء
الله تعالى:.
"فصل": وأما بيان الكلام فيمن يغسل فنقول: الجنس يغسل الجنس، فيغسل الذكر
الذكر، والأنثى الأنثى؛ لأن حل المس من غير
شهوة ثابت للجنس حالة الحياة فكذا بعد الموت،
وسواء كان الغاسل جنبا أو حائضا؛ لأن المقصود
وهو التطهير حاصل فيجوز. وروي عن أبي يوسف أنه
كره للحائض الغسل؛ لأنها لو اغتسلت بنفسها لم
تعتد به فكذا إذا غسلت، ولا يغسل الجنس خلاف
الجنس؛ لأن حرمة المس عند اختلاف الجنس ثابتة
حالة الحياة فكذا بعد الموت، والمجبوب والخصي
في ذلك مثل الفحل، كما في حالة الحياة؛ لأن كل
ذلك منهي إلا المرأة لزوجها إذا لم تثبت
البينونة بينهما في حالة حياته، ولا حدث بعد
وفاته ما يوجب البينونة، أو الصغير والصغيرة،
فبيان ذلك في الرجل والمرأة.
أما الرجل فنقول: إذا مات رجل في سفر فإن كان
معه رجال يغسله الرجل، وإن كان معه نساء لا
رجل فيهن، فإن كان فيهن امرأته غسلته وكفنته
وصلين عليه وتدفنه، أما المرأة فتغسل زوجها
لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو
استقبلنا من الأمر ما استدبرنا لما غسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه ومعنى ذلك
أنها لم تكن عالمة وقت وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم بإباحة غسل المرأة لزوجها، ثم
علمت بعد ذلك. وروي أن أبا بكر الصديق رضي
الله عنه أوصى إلى امرأته أسماء بنت عميس أن
تغسله بعد وفاته، وهكذا فعل أبو موسى الأشعري؛
ولأن إباحة الغسل مستفادة بالنكاح فتبقى ما
بقي النكاح، والنكاح بعد الموت باق إلى وقت
انقطاع العدة، بخلاف ما إذا ماتت المرأة حيث
لا يغسلها الزوج؛ لأن هناك انتهى ملك النكاح
لانعدام المحل، فصار الزوج أجنبيا فلا يحل له
غسلها واعتبر بملك اليمين حيث لا ينتفي عن
المحل بموت المالك، ويبطل بموت المحل فكذا
هذا، وهذا إذا لم تثبت البينونة بينهما في حال
حياة الزوج، فأما إذا ثبتت بأن طلقها ثلاثا،
أو بائنا ثم مات وهي في العدة لا يباح لها
غسله؛ لأن ملك النكاح ارتفع بالإبانة وكذا إذا
قبلت ابن زوجها، ثم مات وهي في العدة؛ لأن
الحرمة ثبتت بالتقبيل على سبيل التأبيد فبطل
ملك النكاح ضرورة. وكذا لو ارتدت عن الإسلام
والعياذ بالله ثم أسلمت بعد موته؛ لأن الردة
توجب زوال ملك النكاح. ولو طلقها
ج / 1 ص -305-
طلاقا
رجعيا ثم مات وهي في العدة لها أن تغسله؛ لأن
الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح. وأما إذا
حدث بعد وفاة الزوج ما يوجب البينونة لا يباح
لها أن تغسله عندنا وعند زفر يباح بأن ارتدت
المرأة بعد موته ثم أسلمت، وجه قول زفر: أن
الردة بعد الموت لا ترفع النكاح؛ لأنه ارتفع
بالموت فبقي حل الغسل، كما كان بخلاف الردة في
حالة الحياة، ولنا أن زوال النكاح موقوف على
انقضاء العدة فكان النكاح قائما فيرتفع
بالردة، وإن لم يبق مطلقا فقد بقي في حق حل
المس والنظر، وكما ترفع الردة مطلق الحل ترفع
ما بقي منه وهو حل المس والنظر وعلى هذا
الخلاف إذا طاوعت ابن زوجها، أو قبلته بعد
موته، أو وطئت بشبهة بعد موته فوجب عليها
العدة، ليس لها أن تغسله عندنا خلافا لزفر.
ولو مات الزوج وهي معتدة من وطء شبهة ليس لها
أن تغسله وكذا إذا انقضت عدتها من ذلك الغير
عندنا، خلافا لأبي يوسف؛ لأنه لم يثبت لها حل
الغسل عند الموت فلا يثبت بعده، وكذلك إذا دخل
الزوج بأخت امرأته بشبهة ووجبت عليها العدة ثم
مات فانقضت عدتها بعد موته فهو على هذا
الخلاف، وكذلك المجوسي إذا أسلم ثم مات ثم
أسلمت امرأته المجوسية لم تغسله عندنا، خلافا
لأبي يوسف كذا ذكره الشيخ الإمام السرخسي
الخلاف في هذه المسائل الثلاث، وذكر القاضي في
شرحه مختصر الطحاوي أن للمرأة أن تغسله في هذه
المواضع عندنا، وعند زفر ليس لها أن تغسله.
ولو لم يكن فيهن امرأته ولكن معهن رجل كافر
علمنه غسل الميت ويخلين بينهما حتى يغسله
ويكفنه، ثم يصلين عليه ويدفنه؛ لأن نظر الجنس
إلى الجنس أخف وإن لم يكن بينهما موافقة في
الدين، فإن لم يكن معهن رجل لا مسلم ولا كافر،
فإن كان معهن صبية صغيرة لم تبلغ حد الشهوة
وأطاقت الغسل علمنها الغسل، ويخلين بينه
وبينها حتى تغسله وتكفنه؛ لأن حكم العورة غير
ثابت في حقها وإن لم يكن معهن ذلك فإنهن لا
يغسلنه، سواء كن ذوات رحم محرم منه أو لا؛ لأن
المحرم في حكم النظر إلى العورة والأجنبية
سواء، فكما لا تغسله الأجنبية فكذا ذوات
محارمه، ولكن ييممنه غير أن الميممة إذا كانت
ذات رحم محرم منه تيممه بغير خرقة، وإن لم تكن
ذات رحم محرم منه تيممه بخرقة تلفها على كفها؛
لأنه لم يكن لها أن تمسه في حياته فكذا بعد
وفاته، وكذا لو كان فيهن أم ولده لم تغسله في
قول أبي حنيفة الآخر، وفي قوله الأول وهو قول
زفر والشافعي لها أن تغسله؛ لأنها معتدة
فأشبهت المنكوحة، ولنا أن الملك لا يبقى فيها
ببقاء العدة؛ لأن الملك فيها كان ملك يمين وهو
يعتق بموت السيد، والحرية تنافي ملك اليمين
فلا يبقى بخلاف المنكوحة، فإن حريتها لا تنافي
ملك النكاح، كما في حال حياة الزوج، وكذا لو
كان فيهن أمته، أو مدبرته، أما الأمة؛ فلأنها
زالت عن ملكه بالموت إلى الورثة، ولا يباح
لأمة الغير عورته غير أنها لو يممته تيممه
بغير خرقة؛ لأنه يباح للجارية مس موضع التيمم
بخلاف أم الولد فإنها تعتق وتلتحق بسائر
الحرائر الأجنبيات. وأما المدبرة؛ فلأنها تعتق
ولا يجب عليها العدة، ثم أم الولد لا تغسله
فلأن لا تغسله هذه أولى، وقال الشافعي الأمة
تغسل مولاها؛ لأنه يحتاج إلى من يغسله فبقي
الملك له فيها حكما، وهذا غير سديد؛ لأن حاجته
تندفع بالجنس أو بالتيمم.
وأما المرأة فنقول: إذا ماتت امرأة في سفر فإن
كان معها نساء غسلنها وليس لزوجها أن يغسلها
عندنا خلافا للشافعي، واحتج بحديث عائشة "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي
تقول: وارأساه فقال:
"وأنا وارأساه لا عليك أنك إذا مت غسلتك وكفنتك وصليت عليك" وما جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز لأمته، هو الأصل إلا
ما قام عليه الدليل وروي أن عليا غسل فاطمة
بعد موتها، ولأن النكاح جعل قائما حكما لحاجة
الميت إلى الغسل، كما إذا مات الزوج، ولنا ما
روي عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سئل عن امرأة تموت بين رجال فقال:
"تيمم بالصعيد"
ولم يفصل بين أن يكون فيهم زوجها، أو لا يكون؛
ولأن النكاح ارتفع بموتها فلا يبقى حل المس
والنظر، كما لو طلقها قبل الدخول، ودلالة
الوصف أنها صارت محرمة على التأبيد، والحرمة
على التأبيد تنافي النكاح ابتداء وبقاء، ولهذا
جاز للزوج أن يتزوج بأختها وأربع سواها. وإذا
زال النكاح صارت أجنبية فبطل حل المس والنظر،
بخلاف ما إذا مات الزوج؛ لأن هناك ملك النكاح
قائم؛ لأن الزوج مالك، والمرأة مملوكة والملك
لا يزول عن المحل بموت المالك، ويزول بموت
المحل، كما في ملك اليمين فهو الفرق، وحديث
عائشة محمول على الغسل تسببا فمعنى قوله:
"غسلتك" قمت بأسباب غسلك، كما يقال بنى الأمير
دارا حملناه على
ج / 1 ص -306-
هذا
صيانة لمنصب النبوة عما يورث شبهة نفرة الطباع
عنه، وتوفيقا بين الدلائل على أنه يحتمل أنه
كان مخصوصا بأنه لا ينقطع نكاحه بعد الموت
لقوله: صلى الله عليه وسلم "كل سبب ونسب ينقطع
بالموت إلا سببي ونسبي". وأما حديث علي رضي
الله عنه فقد روي أن فاطمة رضي الله عنها
غسلتها أم أيمن. ولو ثبت أن عليا غسلها فقد
أنكر عليه ابن مسعود حتى قال علي: أما علمت
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن
فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة" فدعواه
الخصوصية دليل على أنه كان معروفا بينهم أن
الرجل لا يغسل زوجته وإن لم يكن هناك نساء
مسلمات ومعهم امرأة كافرة علموها الغسل ويخلون
بينهما حتى تغسلها وتكفنها، ثم يصلي عليها
الرجال ويدفنوها لما ذكرنا وإن لم يكن معهم
نساء لا مسلمة ولا كافرة، فإن كان معهم صبي لم
يبلغ حد الشهوة وأطاق الغسل علموه الغسل
فيغسلها ويكفنها لما بينا، وإن لم يكن معهم
ذلك فإنها لا تغسل، ولكنها تيمم لما ذكرنا غير
أن الميمم لها إن كان محرما لها ييممها بغير
خرقة، وإن لم يكن محرما لها فمع الخرقة يلفها
على كفه لما مر ويعرض بوجهه عن ذراعيها؛ لأن
في حالة الحياة ما كان للأجنبي أن ينظر إلى
ذراعيها فكذا بعد الموت، ولا بأس أن ينظر إلى
وجهها، كما في حالة الحياة.
ولو مات الصبي الذي لا يشتهى لا بأس أن تغسله
النساء، وكذلك الصبية التي لا تشتهى إذا ماتت
لا بأس أن يغسلها الرجال؛ لأن حكم العورة غير
ثابت في حق الصغير والصغيرة، ثم إذا غسل الميت
يكفن.
"فصل": والكلام في تكفينه في مواضع: في بيان وجوب التكفين، وفي بيان كيفية
وجوبه، وفي بيان كمية الكفن، وفي بيان صفته،
وفي بيان كيفية التكفين، وفي بيان من يجب عليه
الكفن. أما الأول فالدليل على وجه النص،
والإجماع، والمعقول، أما النص فما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"البسوا هذه الثياب البيض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" وظاهر
الأمر لوجوب العمل وروي أن الملائكة لما غسلت
آدم صلوات الله عليه كفنوه ودفنوه ثم قالت
لولده: هذه سنة موتاكم، والسنة المطلقة في
معنى الواجب، والإجماع منعقد على وجوبه؛ ولهذا
توارثه الناس من لدن وفاة آدم صلوات الله
وسلامه عليه إلى يومنا هذا، وذا دليل الوجوب.
وأما المعقول فهو أن غسل الميت إنما وجب كرامة
له، وتعظيما، ومعنى والكرامة التعظيم إنما يتم
بالتكفين فكان واجبا.
"فصل": وأما كيفية وجوبه فوجوبه على سبيل الكفاية قضاء لحق الميت، حتى إذا
قام به البعض يسقط عن الباقين؛ لأن حقه صار
مقضيا، كما في الغسل.
وأما الكلام في كمية الكفن. فنقول: أكثر ما
يكفن فيه الرجل ثلاثة أثواب: إزار، ورداء،
وقميص وهذا عندنا، وقال الشافعي: لا يسن
القميص في الكفن، وإنما الكفن ثلاث لفائف،
واحتج بما روي عن عائشة "أن النبي صلى الله
عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس
فيها قميص ولا عمامة" ولنا ما روي عن عبد الله
بن مغفل رضي الله عنه أنه قال: كفنوني في
قميصي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن
في قميصه الذي توفي فيه"، وهكذا روي عن ابن
عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في
ثلاثة أثواب: أحدها القميص الذي توفي فيه"
والأخذ برواية ابن عباس أولى من الأخذ بحديث
عائشة؛ لأن ابن عباس حضر تكفين رسول الله صلى
الله عليه وسلم ودفنه وعائشة ما حضرت ذلك على
أن معنى قولها: ليس فيه قميص أي: لم يتخذ
قميصا جديدا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه
قال: " كفن المرأة خمسة أثواب، وكفن الرجل
ثلاثة، " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
"؛ ولأن حال ما بعد الموت يعتبر بحال حياته،
والرجل في حال حياته يخرج في ثلاثة أثواب
عادة: قميص، وسراويل، وعمامة، فالإزار بعد
الموت قائم مقام السراويل في حال الحياة؛ لأنه
في حال حياته إنما كان يلبس السراويل لئلا
تنكشف عورته عند المشي، وذلك غير محتاج إليه
بعد موته فأقيم الإزار مقامه، ولذا لم يذكر
العمامة في الكفن، وقد كرهه بعض مشايخنا؛ لأنه
لو فعل ذلك لصار الكفن شفعا، والسنة فيه أن
يكون وترا، واستحسنه بعض مشايخنا لحديث ابن
عمر أنه كان يعمم الميت ويجعل ذنب العمامة على
وجهه، بخلاف حال الحياة فإنه يرسل ذنب العمامة
من قبل القفا؛ لأن ذلك لمعنى الزينة، وقد
انقطع ذلك بالموت، والدليل على أن السنة في حق
الرجل ثلاثة أثواب ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم "أنه كفن في برد وحلة" والحلة اسم
للزوج من الثياب، والبرد اسم للفرد منها وأدنى
ما يكفن فيه في حالة الاختيار
ج / 1 ص -307-
ثوبان: إزار ورداء لقول الصديق: كفنوني في ثوبي هذين؛ ولأن أدنى ما
يلبسه الرجل في حال حياته ثوبان، ألا ترى أنه
يجوز له أن يخرج فيهما ويصلي فيهما من غير
كراهة، فكذا يجوز أن يكفن فيهما أيضا.
ويكره أن يكفن في ثوب واحد؛ لأن في حالة
الحياة تجوز صلاته في ثوب واحد مع الكراهة،
فكذا بعد الموت يكره أن يكفن فيه إلا عند
الضرورة بأن كان لا يوجد غيره لما روي أن
"مصعب بن عمير لما استشهد كفن في نمرة فكان
إذا غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطي بها
رجلاه بدا رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
أن يغطى بها رأسه ويجعل على رجليه شيء من
الإذخر". وكذا روي "أن حمزة رضي الله عنه لما
استشهد كفن في ثوب واحد لم يوجد له غيره" فدل
على الجواز عند الضرورة.
والغلام المراهق كالرجل يكفن فيما يكفن فيه
الرجل؛ لأن المراهق في حال حياته يخرج فيما
يخرج فيه البالغ عادة فكذا يكفن فيما يكفن
فيه، وإن كان صبيا لم يراهق فإن كفن في
خرقتين: إزار، ورداء فحسن، وإن كفن في إزار
واحد جاز؛ لأن في حال حياته كان يجوز الاقتصار
على ثوب واحد في حقه فكذا بعد الموت.
وأما المرأة فأكثر ما تكفن فيه خمسة أثواب:
درع، وخمار، وإزار، ولفافة، وخرقة هو السنة في
كفن المرأة لما روي عن أم عطية "أن النبي صلى
الله عليه وسلم ناول اللواتي غسلن ابنته في
كفنها ثوبا ثوبا حتى ناولهن خمسة أثواب آخرهن
خرقة تربط بها ثدييها" ولما روينا عن علي رضي
الله عنه؛ ولأن المرأة في حال حياتها تخرج في
خمسة أثواب عادة: درع، وخمار، وإزار، وملاءة،
ونقاب، فكذلك بعد الموت تكفن في خمسة أثواب،
ثم الخرقة تربط فوق الأكفان عند الصدر فوق
الثديين، والبطن كي لا ينتشر عليها الكفن إذا
حملت على السرير، والصحيح قولنا لما روينا في
حديث أم عطية أنها قالت: آخرهن خرقة تربط بها
ثدييها.
, وأدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب:
إزار، ورداء، وخمار؛ لأن معنى الستر في حالة
الحياة يحصل بثلاثة أثواب حتى يجوز لها أن
تصلي فيها وتخرج فكذلك بعد الموت ويكره أن
تكفن المرأة في ثوبين، وأما الصغيرة فلا بأس
بأن تكفن في ثوبين. والجارية المراهقة بمنزلة
البالغة في الكفن لما ذكرنا.
والسقط يلف في خرقة؛ لأنه ليس له حرمة كاملة؛
ولأن الشرع إنما ورد بتكفين الميت، واسم الميت
لا ينطلق عليه، كما لا ينطلق على بعض الميت.
وكذا من ولد ميتا، أو وجد طرف من أطراف
الإنسان، أو نصفه مشقوقا طولا أو نصفه مقطوعا
عرضا لكن ليس معه الرأس لما قلنا، فإن كان معه
الرأس ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه
يكفن وعلى قياس ما ذكره القدوري في شرحه مختصر
الكرخي في الغسل يلف في خرقة لما ذكرنا في فصل
الغسل، وإن وجد أكثره يكفن؛ لأن للأكثر حكم
الكل..
ولا يكفن الشهيد كفنا جديدا غير ثيابه لقول
النبي صلى الله عليه وسلم
"زملوهم بثيابهم وكلومهم".
"فصل": وأما صفة الكفن فالأفضل أن يكون التكفين بالثياب البيض لما روي عن
جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"أحب الثياب إلى الله تعالى: البيض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها
موتاكم" وفي رواية
قال:
"البسوا هذه الثياب البيض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم"، وقال
النبي: صلى الله عليه وسلم "حسنوا أكفان الموتى فإنهم
يتزاورون فيما بينهم ويتفاخرون بحسن أكفانهم"،
وقال: صلى الله عليه وسلم "إذا ولي
أحدكم أخاه ميتا فليحسن كفنه "
والبرود والكتان والقصب كل ذلك حسن، والخلق
إذا غسل والجديد سواء لما روي عن أبي بكر رضي
الله عنه أنه قال: اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني
فيهما فإنهما للمهل والصديد، وإن الحي أحوج
إلى الجديد من الميت، والحاصل أن ما يجوز لكل
جنس أن يلبسه في حياته يجوز أن يكفن فيه بعد
موته حتى يكره أن يكفن الرجل في الحرير
والمعصفر والمزعفر، ولا يكره للنساء ذلك
اعتبارا باللباس في حال الحياة.
"فصل": وأما كيفية التكفين فينبغي أن تجمر الأكفان أولا وترا أي: مرة، أو
ثلاثا، أو خمسا ولا يزيد عليه لما روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا أجمرتم الميت فأجمروه وترا"؛ ولأن الثوب الجديد أو الغسيل مما يطيب ويجمر في حالة الحياة، فكذا
بعد الممات، والوتر مندوب إليه في ذلك لقوله:
صلى الله عليه وسلم
"إن الله تعالى: وتر يحب
ج / 1 ص -308-
الوتر" ثم تبسط اللفافة وهي الرداء طولا، ثم يبسط الإزار عليها طولا ثم
يلبسه القميص إن كان له قميص وإن لم يكن
سرواله؛ لأن اللبس بعد الوفاة معتبر بحال
الحياة إلا أن في حياته كان يلبس السراويل حتى
لا تنكشف عورته عند المشي، ولا حاجة إلى ذلك
بعد موته فأقيم الإزار مقام السراويل، إلا أن
الإزار في حال حياته تحت القميص وبعد الموت
فوق القميص من المنكب إلى القدم؛ لأن الإزار
تحت القميص حالة الحياة ليتيسر عليه المشي
وبعد الموت لا يحتاج إلى المشي، ثم يوضع
الحنوط في رأسه ولحيته. لما روي أن آدم صلوات
الله وسلامه عليه لما توفي غسلته الملائكة
وحنطوه ويوضع الكافور على مساجده يعني جبهته
وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه لما روي عن ابن
مسعود أنه قال: وتتبع مساجده بالطيب يعني
بالكافور؛ ولأن تعظيم الميت واجب ومن تعظيمه
أن يطيب لئلا تجيء منه رائحة منتنة وليصان عن
سرعة الفساد، وأولى المواضع بالتعظيم مواضع
السجود، وكذا الرأس واللحية هما من أشرف
الأعضاء؛ لأن الرأس موضع الدماغ، ومجمع
الحواس، واللحية من الوجه، والوجه من أشرف
الأعضاء، وعن زفر أنه قال: يذر الكافور على
عينيه وأنفه وفمه؛ لأن المقصود أن يتباعد
الدود من الموضع الذي يذر عليه الكافور فخص
هذه المحال من بدنه لهذا، وإن لم يجد ذلك لم
يضره ولا بأس بسائر الطيب غير الزعفران والورس
في حق الرجل لما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه "نهى الرجال عن المزعفر" ولم يذكر في
الأصل أنه هل تحشى محارقه ؟ وقالوا: إن خشي
خروج شيء يلوث الأكفان فلا بأس بذلك في أنفه
وفمه، وقد جوز الشافعي في دبره أيضا، واستقبح
ذلك مشايخنا وإن لم يخش جاز الترك؛ لانعدام
الحاجة إليه، ثم يعطف الإزار عليه من قبل شقه
الأيسر وإن كان الإزار طويلا حتى يعطف على
رأسه وسائر جسده فهو أولى، ثم يعطف من قبل شقه
الأيمن كذلك فيكون الأيمن فوق الأيسر، ثم تعطف
اللفافة، وهي الرداء كذلك؛ لأن المنتقب في
حالة الحياة هكذا يفعل إذا تحزم بدأ بعطف شقه
الأيسر على الأيمن ثم يعطف الأيمن على الأيسر
فكذا يفعل به بعد الممات، فإن خيف أن تنتشر
أكفانه تعقد، ولكن إذا وضع في قبره تحل العقد
لزوال ما لأجله عقد والله أعلم.
وأما المرأة فيبسط لها اللفافة والإزار
واللفافة فوق الخمار والخرقة تربط فوق الأكفان
عند الصدر فوق الثديين والبطن كي لا ينتشر
الكفن باضطراب ثدييها عند الحمل على السرير،
وعرض الخرقة ما بين الثدي والسرة هكذا ذكر
محمد في غير رواية الأصول ويسدل شعرها ما بين
ثدييها من الجانبين جميعا تحت الخمار، ولا
يسدل شعرها خلف ظهرها، وعند الشافعي يسدل خلف
ظهرها واحتج بحديث أم عطية أنها قالت: "لما
توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضفرنا شعرها ثلاثة فروق في ناصيتها وقرنيها
وألقيناها خلفها" فدل أن السنة هكذا، ولنا أن
إلقاءها إلى ظهرها من باب الزينة، وهذه ليست
بحال زينة ولا حجة في حديث أم عطية؛ لأن ذلك
كان فعل أم عطية، وليس في الحديث أن النبي صلى
الله عليه وسلم علم ذلك.
ثم المحرم يكفن، كما يكفن الحلال عندنا أي:
يغطى رأسه ووجهه ويطيب، وقال الشافعي: لا يخمر
رأسه ولا يقرب منه طيب واحتج بما روى ابن عباس
"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن محرم
وقصت به ناقته واندق عنقه فقال: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم
القيامة ملبيا"
وفي رواية قال: "ولا تقربوا منه طيبا" ولنا ما
روي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه "قال في المحرم يموت: "خمروهم ولا تشبهوهم باليهود" وروي عن علي أنه قال في المحرم: إذا مات انقطع إحرامه ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة:
ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية وعلم علمه
الناس ينتفعون به"
والإحرام ليس من هذه الثلاثة وما روي معارض
بما روينا في المحرم فبقي لنا الحديث المطلق
الذي روينا أن هذا العمل منقطع على أن ذلك
الحديث محمول على محرم خاص جعله النبي صلى
الله عليه وسلم مخصوصا به بدليل ما روينا.
"فصل": وأما بيان من يجب عليه الكفن فنقول: كفن الميت في ماله إن كان له
مال، ويكفن من جميع ماله قبل الدين والوصية
والميراث؛ لأن هذا من أصول حوائج الميت فصار
كنفقته في حال حياته، وإن لم يكن له مال فكفنه
على من تجب عليه نفقته، كما تلزمه كسوته في
حال حياته إلا المرأة فإنه لا يجب كفنها على
زوجها عند محمد؛ لأن الزوجية
ج / 1 ص -309-
انقطعت
بالموت فصار كالأجنبي وعن أبي يوسف يجب عليه
كفنها، كما تجب عليه كسوتها في حال حياتها،
ولا يجب على المرأة كفن زوجها بالإجماع، كما
لا يجب عليها كسوته في حال الحياة، وإن لم يكن
له مال ولا من ينفق عليه فكفنه في بيت المال
كنفقته في حال حياته؛ لأنه أعد لحوائج
المسلمين.
وعلى هذا إذا نبش الميت وهو طري لم يتفسخ بعد
كفن ثانيا من جميع المال؛ لأن حاجته إلى الكفن
في المرة الثانية كحاجته إليه في المرة
الأولى، فإن قسم المال فهو على الوارث دون
الغرماء وأصحاب الوصايا؛ لأن بالقسم انقطع حق
الميت عنه فصار كأنه مات ولا مال له فيكفنه
وارثه إن كان له مال، وإن لم يكن له مال ولا
من تفترض عليه نفقته فكفنه في بيت المال
بمنزلة نفقته في حال حياته.
وإن نبش بعدما تفسخ وأخذ كفنه كفن في ثوب
واحد؛ لأنه إذا تفسخ خرج عن حكم الآدميين ألا
ترى أنه لا يصلى عليه فصار كالسقط والله أعلم
ثم إذا كفن الميت يحمل على الجنازة.
"فصل": والكلام في حمله على الجنازة في مواضع في بيان كمية من يحمل
الجنازة، وكيفية حملها وتشييعها ووضعها وما
يتصل بذلك مما يسن وما يكره أما بيان كمية من
يحمل الجنازة وكيفية حملها فالسنة في حمل
الجنازة أن يحملها أربعة نفر من جوانبها
الأربع عندنا، وقال الشافعي: السنة حملها بين
العمودين وهو أن يحملها رجلان يتقدم أحدهما
فيضع جانبي الجنازة على كتفيه ويتأخر الآخر
فيفعل مثل ذلك، وهذا النوع من الحمل مكروه،
وكذا ذكره الحسن بن زياد في المجرد. واحتج
الشافعي بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم
حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين" ولنا ما
روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "السنة أن
تحمل الجنازة من جوانبها الأربع" وروي أن ابن
عمر رضي الله عنهما كان يدور على الجنازة من
جوانبها الأربع؛ ولأن عمل الناس اشتهر بهذه
الصفة وهو آمن من سقوط الجنازة وأيسر على
الحاملين المتداولين بينهم، وأبعد من تشبيه
حمل الجنازة بحمل الأثقال، وقد أمرنا بذلك؛
ولهذا يكره حملها على الظهر أو على الدابة.
وأما الحديث فتأويله أنه كان لضيق المكان أو
لعوز الحاملين ومن أراد إكمال السنة في حمل
الجنازة ينبغي له أن يحملها من الجوانب الأربع
لما روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان
يدور على الجنازة على جوانبها الأربع فيضع
مقدم الجنازة على يمينه، ثم مؤخرها على يمينه
ثم مقدمها على يساره، ثم مؤخرها على يساره،
كما بين في الجامع الصغير وهذا؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم "كان يحب التيامن في كل شيء"
وإذا حمل هكذا حصلت البداية بيمين الحامل
ويمين الميت، وإنما بدأنا بالأيمن المقدم دون
المؤخر؛ لأن المقدم أول الجنازة، والبداية
بالشيء إنما تكون من أوله ثم يضع مؤخرها
الأيمن على يمينه؛ لأنه لو وضع مقدمها الأيسر
على يساره لاحتاج إلى المشي أمامها، والمشي
خلفها أفضل؛ ولأنه لو فعل ذلك أو وضع مؤخرها
الأيسر على يساره لقدم الأيسر على الأيمن، ثم
يضع مقدمها الأيسر على يساره؛ لأنه لو فعل
كذلك يقع الفراغ خلف الجنازة فيمشي خلفها، وهو
أفضل، كذلك كان الحمل، ولكمال السنة، كما
وصفنا من الترتيب وينبغي أن يحمل من كل جانب
عشر خطوات لما روي في الحديث "من حمل جنازة
أربعين خطوة كفرت أربعين كبيرة" وأما جنازة
الصبي فالأفضل أن يحملها الرجال ويكره أن توضع
جنازته على دابة؛ لأن الصبي مكرم محترم
كالبالغ، ولهذا يصلى عليه، كما يصلى على
البالغ، ومعنى الكرامة والاحترام في الحمل على
الأيدي، فأما الحمل على الدابة فإهانة له؛
لأنه يشبه حمل الأمتعة، وإهانة المحترم مكروه،
ولا بأس بأن يحمله راكب على دابته وهو أن يكون
الحامل له راكبا؛ لأن معنى الكرامة حاصل، وعن
أبي حنيفة في الرضيع والفطيم لا بأس بأن يحمله
في طبق يتداولونه والله أعلم والإسراع
بالجنازة أفضل من الإبطاء لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"عجلوا بموتاكم فإن يك خيرا قدمتموه إليه وإن يك شرا ألقيتموه عن
رقابكم"
وفي رواية
"فبعدا لأهل النار" لكن ينبغي أن يكون الإسراع
دون الخبب لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه
أنه قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المشي بالجنازة فقال: ما دون الخبب"؛ ولأن
الخبب يؤدي إلى الإضرار بمشيعي الجنازة، ويقدم
الرأس في حال حمل الجنازة؛ لأنه من أشرف
الأعضاء فكان تقديمه أولى ولأن معنى الكرامة
في التقديم.
وأما كيفية التشييع فالمشي خلف الجنازة أفضل
عندنا، وقال الشافعي: " المشي أمامها أفضل "
واحتج بما روى الزهري عن سالم عن عبد الله بن
عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر
وعمر
ج / 1 ص -310-
كانوا يمشون أمام الجنازة" وهذا حكاية عادة وكانت عادتهم اختيار
الأفضل؛ ولأنهم شفعاء الميت، والشفيع أبدا
يتقدم؛ لأنه أحوط للصلاة لما فيه من التحرز عن
احتمال الفوت. ولنا ما روي عن ابن مسعود
موقوفا عليه، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "الجنازة متبوعة وليست
بتابعة ليس معها من تقدمها" وروي عنه أنه عليه
السلام "كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ" وروى
معمر عن طاوس عن أبيه قال: "ما مشى رسول الله
حتى مات إلا خلف الجنازة" وعن ابن مسعود فضل
المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل
المكتوبة على النافلة؛ ولأن المشي خلفها أقرب
إلى الاتعاظ؛ لأنه يعاين الجنازة فيتعظ فكان
أفضل، والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
لبيان الجواز وتسهيل الأمر على الناس عند
الازدحام، وهو تأويل فعل أبي بكر وعمر،
والدليل عليه ما روي عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى أنه قال: بينا أنا أمشي مع علي خلف
الجنازة وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها فقلت:
لعلي ما بال أبي بكر وعمر يمشيان أمام الجنازة
فقال: إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من
المشي أمامها إلا أنهما يسه لان على الناس
ومعناه أن الناس يتحرزون عن المشي أمامها
تعظيما لها، فلو اختار المشي خلف الجنازة لضاق
الطريق على مشيعيها. وأما قوله: " إن الناس
شفعاء الميت " فينبغي أن يتقدموا فيشكل هذا
بحالة الصلاة، فإن حالة الصلاة حالة الشفاعة
ومع ذلك لا يتقدمون الميت بل الميت قدامهم،
وقوله: " هذا أحوط للصلاة " قلنا: عندنا إنما
يكون المشي خلفها أفضل إذا كان بقرب منها بحيث
يشاهدها، وفي مثل هذا لا تفوت الصلاة. ولو مشى
قدامها كان واسعا؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما فعلوا ذلك
في الجملة على ما ذكرنا غير أنه يكره أن يتقدم
الكل عليها؛ لأن فيه إبطال متبوعية الجنازة من
كل وجه.ولا بأس بالركوب إلى صلاة الجنازة
والمشي أفضل؛ لأنه أقرب إلى الخشوع، وأليق
بالشفاعة ويكره للراكب أن يتقدم الجنازة؛ لأن
ذلك لا يخلو عن الضرر بالناس. ولا تتبع
الجنازة بنار إلى قبره يعني: الإجمار في قبره
لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في
جنازة فرأى امرأة في يدها مجمر فصاح عليها
وطردها حتى توارث بالأكام" وروي عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه قال لا تحملوا معي مجمرا؛
ولأنها آلة العذاب فلا تتبع معه تفاؤلا، قال
إبراهيم النخعي: أكره أن يكون آخر زاده من
الدنيا نارا؛ ولأن هذا فعل أهل الكتاب فيكره
التشبه بهم.ولا ينبغي أن يرجع من يتبع الجنازة
حتى يصلي؛ لأن الاتباع كان للصلاة عليها فلا
يرجع قبل حصول المقصود.ولا ينبغي للنساء أن
يخرجن في الجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهاهن عن ذلك، وقال:
"انصرفن مأزورات غير مأجورات".ولا
ينبغي لأحد أن يقوم للجنازة إذا أتي بها بين
يديه إلا أن يريد اتباعها.ويكره النوح والصياح
في الجنازة ومنزل الميت لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه "نهى عن الصوتين الأحمقين:
صوت النائحة، والمغنية" فأما البكاء فلا بأس
به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه
بكى على ابنه إبراهيم وقال: "العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم
لمحزونون".وإذا
كان مع الجنازة نائحة أو صائحة زجرت فإن لم
تنزجر فلا بأس بأن يتبع الجنازة معها ويمتنع
لأجلها؛ لأن اتباع الجنازة سنة فلا يترك ببدعة
من غيره.ويطيل الصمت إذا اتبع الجنازة ويكره
رفع الصوت بالذكر لما روي عن قيس بن عبادة أنه
قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكرهون رفع الصوت عند ثلاثة: عند القتال، وعند
الجنازة، والذكر؛ ولأنه تشبه بأهل الكتاب فكان
مكروها., ويكره لمتبعي الجنازة أن يقعدوا قبل
وضع الجنازة؛ لأنهم أتباع الجنازة، والتبع لا
يقعد قبل قعود الأصل؛ ولأنهم إنما حضروا
تعظيما للميت، وليس من التعظيم الجلوس قبل
الوضع، فأما بعد الوضع فلا بأس بذلك لما روي
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم "كان لا يجلس حتى يوضع الميت
في اللحد" "وكان قائما مع أصحابه على رأس قبر
فقال يهودي: هكذا نفعل بموتانا فجلس صلى الله
عليه وسلم وقال لأصحابه: خالفوهم".وأما كيفية
الوضع فنقول: إنها توضع عرضا للقبلة هكذا
توارثه الناس والله أعلم ثم إذا وضعت الجنازة
يصلى عليها.
"فصل": والكلام في صلاة الجنازة في مواضع في بيان أنها فريضة، وفي بيان
كيفية فرضيتها، وفي بيان من يصلى عليه، وفي
بيان كيفية الصلاة، وفي بيان ما تصح به الصلاة
وما يفسدها وما يكره، وفي بيان من له ولاية
الصلاة. أما
ج / 1 ص -311-
الأول:
فالدليل على فرضيتها ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"صلوا على كل بر وفاجر" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للمسلم على المسلم ست حقوق"
وذكر من جملتها أنه "يصلى على جنازته" وكلمة على للإيجاب وكذا
مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي
الله عنهم والأمة من لدن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى يومنا هذا عليها، دليل الفرضية
والإجماع منعقد على فرضيتها أيضا إلا أنها فرض
كفاية إذا قام به البعض يسقط عن الباقين؛ لأن
ما هو الفرض، وهو قضاء حق الميت يحصل بالبعض،
ولا يمكن إيجابها على كل واحد من آحاد الناس
فصار بمنزلة الجهاد، لكن لا يسع الاجتماع على
تركها كالجهاد.
وأما بيان من يصلى عليه فكل مسلم مات بعد
الولادة يصلى عليه صغيرا كان، أو كبيرا، ذكرا
كان، أو أنثى، حرا كان، أو عبدا إلا البغاة
وقطاع الطريق، ومن بمثل حالهم لقول النبي: صلى
الله عليه وسلم
"صلوا على كل بر وفاجر"
وقوله: "للمسلم على المسلم ست حقوق" وذكر من
جملتها أن يصلى على جنازته من غير فصل إلا ما
خص بدليل، والبغاة ومن بمثل حالهم مخصوصون لما
ذكرنا.
ولا يصلى على من وجد ميتا، وقد ذكرناه في باب
الغسل.
وإن مات في حال ولادته، فإن كان خرج أكثره صلي
عليه وإن كان أقله لم يصل عليه اعتبارا
للأغلب، وإن كان خرج نصفه لم يذكر في الكتاب،
ويجب أن يكون هذا على قياس ما ذكرنا من الصلاة
على نصف الميت.
ولا يصلى على بعض الإنسان حتى يوجد الأكثر منه
عندنا؛ لأنا لو صلينا على هذا البعض يلزمنا
الصلاة على الباقي إذا وجدناه فيؤدي إلى
التكرار، وأنه ليس بمشروع عندنا بخلاف الأكثر؛
لأنه إذا صلي عليه لم يصل على الباقي إذا وجد،
وقد ذكرناه في باب الغسل، وذكرنا اختلاف رواية
الكرخي والطحاوي في النصف المقطوع.
ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة لا جماعة ولا
وحدانا عندنا، إلا أن يكون الذين صلوا عليها
أجانب بغير أمر الأولياء، ثم حضر الولي فحينئذ
له أن يعيدها، وقال الشافعي: " يجوز لمن لم
يصل أن يصلي " واحتج بما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم "صلى على النجاشي" ولا شك أنه
كان صلى عليه وروي "أنه صلى الله عليه وسلم مر
بقبر جديد فسأل عنه فقيل: قبر فلانة فقال: هلا
آذنتموني بالصلاة عليها فقيل: إنها دفنت ليلا
فخشينا عليك هوام الأرض فقال صلى الله عليه
وسلم: إذا مات إنسان فآذنوني فإن صلاتي عليه
رحمة، وقام وجعل القبر بينه وبين القبلة وصلى
عليه". وكذا الصحابة رضي الله عنهم صلوا على
النبي صلى الله عليه وسلم جماعة بعد جماعة؛
ولأنها دعاء، ولا بأس بتكرار الدعاء؛ ولأن حق
الميت وإن قضي فلكل مسلم في الصلاة حق؛ ولأنه
يثاب بذلك، وعسى أن يغفر له ببركة هذا الميت
كرامة له، ولم يقض هذا الحق في حق كل شخص فكان
له أن يقضي حقه. "ولنا" ما روي "أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى على جنازة فلما فرغ جاء
عمر ومعه قوم فأراد أن يصلي ثانيا، فقال له
النبي: صلى الله عليه وسلم الصلاة على الجنازة
لا تعاد،
"ولكن ادع للميت واستغفر له" وهذا نص في الباب وروي أن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى: عنهم
فاتتهما صلاة على جنازة فلما حضرا ما زادا على
الاستغفار له وروي عن عبد الله بن سلام أنه
فاتته الصلاة على جنازة عمر رضي الله عنه فلما
حضر قال: إن سبقتموني بالصلاة عليه فلا
تسبقوني بالدعاء له، والدليل عليه أن الأمة
توارثت ترك الصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعلى الخلفاء الراشدين والصحابة رضي
الله عنهم. ولو جاز لما ترك مسلم الصلاة عليهم
خصوصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه
في قبره كما وضع فإن لحوم الأنبياء حرام على
الأرض، به ورد الأثر، وتركهم ذلك إجماعا منهم
دليل على عدم جواز التكرار؛ ولأن الفرض قد سقط
بالفعل مرة واحدة؛ لكونها فرض كفاية، ولهذا إن
من لم يصل لو ترك الصلاة ثانيا لا يأثم وإذا
سقط الفرض، فلو صلى ثانيا كان نفلا. والتنفل
بصلاة الجنازة غير مشروع بدليل أن من صلى مرة
لا يصلي ثانيا، وهذا بخلاف ما إذا تقدم غير
الولي فصلى إن للولي أن يصلي عليه؛ لأنه إذا
لم يجز الأول تبين أن الأول لم يقع فرضا؛ لأن
حق التقدم كان له، فإذا تقدم غيره بغير إذنه
كان له أن يستوفي حقه في التقدم فيقع الأول
فرضا، فهو الفرق، والنبي صلى الله عليه وسلم
إنما أعاد؛ لأن ولاية الصلاة كانت له، فإن كان
أولى الأولياء قال الله تعالى:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ} وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يصلي على موتاكم غيري ما دمت بين أظهركم" فلم يسقط بأداء غيره، وهذا هو تأويل فعل الصحابة رضي الله عنهم
فإن
ج / 1 ص -312-
الولاية كانت لأبي بكر؛ لأنه هو الخليفة إلا
أنه كان مشغولا بتسوية الأمور وتسكين الفتنة
فكانوا يصلون عليه قبل حضوره، فلما فرغ صلى
عليه ثم لم يصل بعده عليه والله أعلم. وأما
حديث النجاشي فيحتمل أنه دعاء؛ لأن الصلاة
تذكر ويراد بها الدعاء، ويحتمل أنه خصه بذلك.
وأما قوله: إن لكل واحد من الناس حقا في
الصلاة عليه قلنا: نعم لكن لا وجه لاستدراك
ذلك لسقوط الفرض، وعدم جواز التنفل بها، وهو
الجواب عن قوله: " إنها دعاء واستغفار "؛ لأن
التنفل بالدعاء والاستغفار مشروع، وبالصلاة
على الجنازة غير مشروع.
وعلى هذا قال أصحابنا: لا يصلى على ميت غائب،
وقال الشافعي: يصلى عليه استدلالا بصلاة النبي
صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب، ولا
حجة له فيه لما بينا على أنه روي أن الأرض
طويت له، ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره، ثم ما
ذكره غير سديد؛ لأن الميت إن كان في جانب
المشرق فإن استقبل القبلة في الصلاة عليه كان
الميت خلفه، وإن استقبل الميت كان مصليا لغير
القبلة وكل ذلك لا يجوز.
وعلى هذا قال أصحابنا: لا يصلى على ميت غائب،
وقال الشافعي: يصلى عليه استدلالا بصلاة النبي
صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب، ولا
حجة له فيه لما بينا على أنه روي أن الأرض
طويت له، ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره، ثم ما
ذكره غير سديد؛ لأن الميت إن كان في جانب
المشرق فإن استقبل القبلة في الصلاة عليه كان
الميت خلفه، وإن استقبل الميت كان مصليا لغير
القبلة وكل ذلك لا يجوز.
ولا يصلى على البغاة وقطاع الطريق عندنا، وقال
الشافعي: يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون قال الله
تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا} الآية فدخلوا تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم "صلوا على كل بر وفاجر". "ولنا" ما روي عن علي أنه لم يغسل أهل نهروان ولم يصل عليهم فقيل
له: أكفار هم ؟ فقال: لا ولكن هم إخواننا بغوا
علينا أشار إلى ترك الغسل والصلاة عليهم إهانة
لهم ليكون زجرا لغيرهم، وكان ذلك بمحضر من
الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد
فيكون إجماعا وهو نظير المصلوب ترك على خشبته
إهانة وزجرا لغيره كذا هذا، وإذا ثبت الحكم في
البغاة ثبت في قطاع الطريق؛ لأنهم في معناهم
إذ هم يسعون في الأرض بالفساد كالبغاة فكانوا
في استحقاق الإهانة مثلهم، وبه تبين أن البغاة
ومن بمثلهم مخصوصون عن الحديث بإجماع الصحابة
رضي الله عنهم، وكذلك الذي يقتل بالخنق كذا
روي عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف: وكذلك من
يقتل على متاع يأخذه والمكاثرون في المصر
بالسلاح؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد
فيلحقون بالبغاة والله أعلم.
"فصل": وأما بيان كيفية الصلاة على الجنازة فينبغي أن يقوم الإمام عند
الصلاة بحذاء الصدر من الرجل والمرأة، وروى
الحسن في كتاب صلاته عن أبي حنيفة أنه قال في
الرجل: " يقوم بحذاء وسطه ومن المرأة بحذاء
صدرها " وهو قول ابن أبي ليلى، وجه رواية
الحسن: أن في القيام بحذاء الوسط تسوية بين
الجانبين في الحظ من الصلاة، إلا أن في المرأة
يقوم بحذاء صدرها ليكون أبعد عن عورتها
الغليظة، وجه ظاهر الرواية أن الصدر هو وسط
البدن؛ لأن الرجلين والرأس من جملة الأطراف
فيبقى البدن من العجيزة إلى الرقبة فكان وسط
البدن هو الصدر، والقيام بحذاء الوسط أولى
ليستوي الجانبان في الحظ من الصلاة؛ ولأن
القلب معدن العلم والحكمة، فالوقوف بحياله
أولى. ولا نص عن الشافعي في كيفية القيام،
وأصحابه يقولون: يقوم بحذاء رأس الرجل وبحذاء
عجز المرأة، ويكون هذا مذهب الشافعي لما روي
عن أنس "أنه صلى على امرأة فوقف عند عجيزتها
وصلى على رجل فقام عند رأسه فقيل له: أكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كذلك ؟
قال: "نعم" قالوا: ومذهب الشافعي لا يخالف
السنة، فيكون هذا مذهبه وإن لم يرو عنه. ولكنا
نقول: هذا معارض بما روى سمرة بن جندب أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم "صلى على أم قلابة
ماتت في نفاسها فقام وسطها" وهذا موافق
لمذهبنا لما ذكرنا أنه يقوم بحذاء صدر كل واحد
منهما؛ لأن الصدر وسط البدن، أو نؤول فنقول:
يحتمل أنه وقف بحذاء الوسط إلا أنه مال في أحد
الموضعين إلى الرأس، وفي الآخر إلى العجز فظن
الراوي أنه فرق بين الأمرين.
ثم يكبر أربع تكبيرات وكان ابن أبي ليلى يقول:
خمس تكبيرات وهو رواية عن أبي يوسف، وقد
اختلفت الروايات في فعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فروي عنه الخمس والسبع والتسع،
وأكثر من ذلك إلا أن آخر فعله كان أربع
تكبيرات لما روي عن عمر أنه جمع الصحابة رضي
الله عنهم حين اختلفوا في عدد التكبيرات وقال
لهم: إنكم اختلفتم فمن يأتي بعدكم يكون أشد
اختلافا فانظروا آخر صلاة صلا ها رسول الله
صلى الله عليه وسلم على جنازة فخذوا بذلك
فوجده صلى على امرأة كبر عليها أربعا فاتفقوا
على ذلك فكان هذا دليلا على كون التكبيرات
ج / 1 ص -313-
في
صلاة الجنازة أربعا؛ لأنهم أجمعوا عليها حتى
قال عبد الله بن مسعود حين سئل عن تكبيرات
الجنازة: كل ذلك قد كان، ولكني رأيت الناس
أجمعوا على أربع تكبيرات، والإجماع حجة وكذا
رووا عنه أنه صلى الله عليه وسلم كذا كان يفعل
ثم أخبروا أن آخر صلاة صلاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم كانت بأربع تكبيرات، وهذا خرج
مخرج التناسخ حيث لم تحمل الأمة الأفعال
المختلفة على التخيير فدل أن ما تقدم نسخ بهذه
التي صلاها آخر صلاته؛ ولأن كل تكبيرة قائمة
مقام ركعة وليس في المكتوبات زيادة على أربع
ركعات. إلا أن ابن أبي ليلى يقول: التكبيرة
الأولى للافتتاح فينبغي أن يكون بعدها أربع
تكبيرات، كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، والرافضة
زعمت أن عليا كان يكبر على أهل بيته خمس
تكبيرات، وعلى سائر الناس أربعا، وهذا افتراء
منهم عليه فإنه روي عنه أنه كبر على فاطمة
أربعا. وروي أنه صلى على فاطمة أبو بكر وكبر
أربعا، وعمر صلى على أبي بكر الصديق وكبر
أربعا، فإذا كبر الأولى أثنى على الله تعالى:
وهو أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره.
وذكر الطحاوي أنه لا استفتاح فيه ولكن النقل
والعادة أنهم يستفتحون بعد تكبيرة الافتتاح،
كما يستفتحون في سائر الصلوات، وإذا كبر
الثانية يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم وهي الصلاة المعروفة وهي أن يقول: اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد إلى قوله إنك حميد
مجيد، وإذا كبر الثالثة يستغفرون للميت
ويشفعون وهذا؛ لأن صلاة الجنازة دعاء للميت
والسنة في الدعاء أن يقدم الحمد، ثم الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء بعد
ذلك ليكون أرجى أن يستجاب، والدعاء أن يقول
اللهم اغفر لحينا وميتنا إن كان يحسنه، وإن لم
يحسنه يذكر ما يدعو به في التشهد اللهم اغفر
للمؤمنين والمؤمنات إلى آخر هذا إذا كان
بالغا، فأما إذا كان صبيا فإنه يقول: اللهم
اجعله لنا فرطا وذخرا وشفعه فينا كذا روي عن
أبي حنيفة وهو المروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم ثم يكبر التكبيرة الرابعة ويسلم
تسليمتين؛ لأنه جاء أوان التحلل، وذلك بالسلام
وهل يرفع صوته بالتسليم لم يتعرض له في ظاهر
الرواية، وذكر الحسن بن زياد أنه لا يرفع صوته
بالتسليم في صلاة الجنازة؛ لأن رفع الصوت
مشروع للإعلام، ولا حاجة إلى الإعلام بالتسليم
في صلاة الجنازة؛ لأنه مشروع عقب التكبيرة
الرابعة بلا فصل، ولكن العمل في زماننا هذا
يخالف ما يقوله الحسن، وليس في ظاهر المذهب
بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وقد
اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات:
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة إلخ.
فإن كبر الإمام خمسا لم يتابعه المقتدي في
الخامسة، وعند زفر يتابعه وجه قوله: أن هذا
مجتهد فيه فيتابع المقتدي إمامه، كما في
تكبيرات العيد ولنا أن هذا عمل بالمنسوخ؛ لأن
ما زاد على أربع تكبيرات ثبت انتساخه بما
روينا فظهر خطؤه بيقين فيه فلا يتابعه في
الخطأ، بخلاف تكبيرات العيدين؛ لأنه لم يظهر
خطؤه بيقين حتى لو ظهر لا يتابعه على ما ذكرنا
في صلاة العيدين. ثم اختلفت الروايات عن أبي
حنيفة أن المقتدي ماذا يفعل إذا لم يتابعه في
التكبيرة الزائدة في رواية ؟ قال ينتظر الإمام
حتى يتابعه في التسليم؛ لأن البقاء في حرمة
الصلاة ليس بخطأ إنما الخطأ متابعته في
التكبيرة فينتظره ولا يتابع، وفي رواية قال:
يسلم ولا ينتظر؛ لأن البقاء في التحريمة بعد
التكبيرة الرابعة خطأ؛ لأن التحليل عقيبها هو
المشروع بلا فصل فلا يتابعه في البقاء، كما لا
يتابعه في التكبيرة الزائدة.
ولا يقرأ في الصلاة على الجنازة بشيء من
القرآن، وقال الشافعي: يفترض قراءة الفاتحة
فيها، وذلك عقيب التكبيرة الأولى بعد الثناء،
وعندنا لو قرأ الفاتحة على سبيل الدعاء
والثناء لم يكره، واحتج الشافعي بقول النبي:
صلى الله عليه وسلم
"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ، وقوله:
"لا صلاة إلا بقراءة" وهذه
صلاة بدليل شرط الطهارة واستقبال القبلة فيها،
وعن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر
على ميت أربعا وقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة
الأولى وعن" ابن عباس رضي الله عنهما "أنه
صلى على جنازة فقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وجهر
بها وقال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة" ، ولنا
ما روي عن ابن مسعود "أنه سئل عن صلاة الجنازة
هل يقرأ فيها ؟ فقال: لم يوقت لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم قولا ولا قراءة" ، وفي
رواية دعاء ولا قراءة كبر ما كبر الإمام واختر
من أطيب الكلام ما شئت، وفي رواية واختر من
الدعاء أطيبه وروي عن عبد الرحمن بن عوف، وابن
عمر أنهما قالا: ليس فيها قراءة شيء من
القرآن
ج / 1 ص -314-
ولأنها
شرعت للدعاء، ومقدمة الدعاء الحمد والثناء
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا
القراءة، وقوله عليه السلام "لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب" ولا صلاة إلا بقراءة لا
يتناول صلاة الجنازة؛ لأنها ليست بصلاة حقيقة
إنما هي دعاء واستغفار للميت، ألا ترى أنه ليس
فيها الأركان التي تتركب منها الصلاة من
الركوع والسجود إلا أنها تسمى صلاة لما فيها
من الدعاء، واشتراط الطهارة، واستقبال القبلة
فيها لا يدل على كونها صلاة حقيقية كسجدة
التلاوة؛ ولأنها ليست بصلاة مطلقة فلا
يتناولها مطلق الاسم وحديث ابن عباس معارض
بحديث ابن عمر وابن عوف، وتأويل حديث جابر أنه
كان قرأ على سبيل الثناء لا على سبيل قراءة
القرآن، وذلك ليس بمكروه عندنا.
ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى وكثير
من أئمة بلخ اختاروا رفع اليد في كل تكبيرة من
صلاة الجنازة، وكان نصير بن يحيى يرفع تارة
ولا يرفع تارة، وجه قول من اختار الرفع: أن
هذه تكبيرات يؤتى بها في قيام مستوي فيرفع
اليد عندها كتكبيرات العيد وتكبير القنوت،
والجامع الحاجة إلى إعلام من خلفه من الأصم،
وجه ظاهر الرواية قول النبي صلى الله عليه
وسلم "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وليس
فيها صلاة الجنازة" وعن علي وابن عمر رضي
الله عنهما أنهما قالا: لا ترفع الأيدي فيها
إلا عند تكبيرة الافتتاح؛ لأن كل تكبيرة قائمة
مقام ركعة، ثم لا ترفع الأيدي في سائر الصلوات
إلا عند تكبيرة الافتتاح عندنا فكذا في صلاة
الجنازة.
ولا يجهر بما يقرأ عقيب كل تكبيرة لأنه ذكر،
والسنة فيه المخافتة.
صلين النساء جماعة على جنازة قامت الإمامة
وسطهن، كما في الصلاة المفروضة المعهودة.
ولو كبر الإمام تكبيرة، أو تكبيرتين، أو ثلاث
تكبيرات، ثم جاء رجل لا يكبر، ولكنه ينتظر حتى
يكبر الإمام فيكبر معه، ثم إذا سلم الإمام قضى
ما عليه قبل أن ترفع الجنازة، وهذا في قول أبي
حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يكبر واحدة حين
يحضر، ثم إن كان الإمام كبر واحدة لم يقض
شيئا، وإن كان كبر ثنتين قضى واحدة ولا يقضي
تكبيرة الافتتاح هو يقول: إنه مسبوق فلا بد من
أن يأتي بتكبيرة الائتمام حين انتهى إلى
الإمام، كما في سائر الصلوات، وكما لو كان
حاضرا مع الإمام ووقع تكبير الافتتاح سابقا
عليه أنه يأتي بالتكبير ولا ينتظر أن يكبر
الإمام الثانية بالإجماع كذا هذا، ولهما ما
روي عن ابن عباس أنه قال في الذي انتهى إلى
الإمام وهو في صلاة الجنازة، وقد سبقه الإمام
بتكبيرة: أنه لا يشتغل بقضاء ما سبقه الإمام
بل يتابعه وهذا قول روي عنه، ولم يرو عن غيره
خلافه فحل محل الإجماع؛ ولأن كل تكبيرة من هذه
الصلاة قائمة مقام ركعة، بدليل أنه لو ترك
تكبيرة منها تفسد صلاته. كما لو ترك ركعة من
ذوات الأربع، والمسبوق بركعة يتابع الإمام في
الحالة التي أدركها، ولا يشتغل بقضاء ما فاته
أولا؛ لأن ذاك أمر منسوخ، كذا ههنا، وهذا
بخلاف ما إذا كان حاضرا؛ لأن من كان خلف
الإمام فهو في حكم المدرك لتكبيرة الافتتاح،
ألا ترى أن في تكبيرة الافتتاح يكبرون بعد
الإمام، ويقع ذلك أداء لا قضاء فيأتي بها حين
حضرته النية بخلاف المسبوق فإنه غير مدرك
للتكبيرة الأولى، وهي قائمة مقام ركعة، فلا
يشتغل بقضائها قبل سلام الإمام كسائر
التكبيرات، ثم عندهما يقضي ما فاته؛ لأن
المسبوق يقضي الفائت لا محالة ولكن قبل أن
ترفع الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة بدون الجنازة
لا تتصور. وعند أبي يوسف إن كان الإمام كبر
واحدة لم يقض شيئا، وإن كبر ثنتين قضى واحدة
لما ذكرنا.
ولو جاء بعدما كبر الإمام الرابعة قبل السلام
لم يدخل معه، وقد فاتته الصلاة عند أبي حنيفة
ومحمد، وعند أبي يوسف يكبر واحدة وإذا سلم
الإمام قضى ثلاث تكبيرات، كما لو كان حاضرا
خلف الإمام ولم يكبر شيئا حتى كبر الإمام
الرابعة، الصحيح قولهما: لأنه لا وجه إلى أن
يكبر وحده لما قلنا: الإمام لا يكبر بعد هذا
لتتابعه، والأصل في الباب عندهما أن المقتدي
يدخل بتكبيرة الإمام فإذا فرغ الإمام من
الرابعة تعذر عليه الدخول، وعند أبي يوسف يدخل
إذا بقيت التحريمة، وذكر عصام بن يوسف أن عند
محمد ههنا يكبر أيضا بخلاف ما إذا جاء وقد كبر
الإمام ثلاث تكبيرات حيث لا يكبر بل ينتظر
الإمام حتى يكبر الرابعة عند محمد؛ لأن
الاشتغال بقضاء ما سبق قبل فراغ الإمام إن كان
لا يجوز لكن جوزنا ههنا لمكان الضرورة؛ لأنه
لو انتظر الإمام ههنا فاتته الصلاة بخلاف تلك
الصورة، والله تعالى: أعلم.
ج / 1 ص -315-
فصل": وأما بيان ما تصح به، وما تفسد، وما يكره. أما ما تصح به فكل ما
يعتبر شرطا لصحة سائر الصلوات من الطهارة
الحقيقية، والحكمية، واستقبال القبلة، وستر
العورة، والنية يعتبر شرطا لصحتها حتى أنهم لو
صلوا على جنازة والإمام غير طاهر فعليهم
إعادتها؛ لأن صلاة الإمام غير جائزة لعدم
الطهارة فكذا صلاتهم؛ لأنها بناء على صلاته.
ولو كان الإمام على الطهارة والقوم على غير
طهارة جازت صلاة الإمام ولم يكن عليهم
إعادتها؛ لأن حق الميت تأدى بصلاة الإمام،
ودلت المسألة على أن الجماعة ليست بشرط في هذه
الصلاة.
ولو أخطئوا بالرأس فوضعوه في موضع الرجلين
وصلوا عليها جازت الصلاة؛ لاستجماع شرائط
الجواز، وإنما الحاصل بغير صفة الوضع، وذا لا
يمنع الجواز إلا أنهم إن تعمدوا ذلك فقد
أساءوا لتغييرهم السنة المتوارثة.
ولو تحروا على جنازة فأخطئوا القبلة جازت
صلاتهم؛ لأن المكتوبة تجوز فهذه أولى، وإن
تعمدوا خلافها لم تجز، كما في اعتبار شرط
القبلة؛ لأنه لا يسقط حالة الاختيار، كما في
سائر الصلوات.
ولو صلى راكبا أو قاعدا من غير عذر لم تجزهم
استحسانا، والقياس أن تجزئهم كسجدة التلاوة؛
ولأن المقصود منها الدعاء للميت وهو لا يختلف
والأركان فيها التكبيرات ويمكن تحصيلها في
حالة الركوب، كما يمكن تحصيلها في حالة
القيام، وجه الاستحسان: أن الشرع ما ورد بها
إلا في حالة القيام فيراعى فيها ما ورد به
النص؛ ولهذا لا يجوز إثبات الخلل في شرائطها،
فكذا في الركن، بل أولى؛ لأن الركن أهم من
الشرط؛ ولأن الأداء قعودا أو ركبانا يؤدي إلى
الاستخفاف بالميت، وهذه الصلاة شرعت لتعظيم
الميت؛ ولهذا تسقط في حق من تجب إهانته
كالباغي، والكافر، وقاطع الطريق فلا يجوز أداء
ما شرع للتعظيم على وجه يؤدي إلى الاستخفاف؛
لأنه يؤدي إلى أن يعود على موضوعه بالنقص وذلك
باطل.
ولو كان ولي الميت مريضا فصلى قاعدا وصلى
الناس خلفه قياما أجزأهم في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف، وقال محمد: يجزئ الإمام، ولا يجزئ
المأموم بناء على اقتداء القائم بالقاعد، وقد
مر ذلك.
ولو ذكروا بعد الصلاة على الميت أنهم لم
يغسلوه فهذا على وجهين: إما أن ذكروا قبل
الدفن، أو بعده: فإن كان قبل الدفن غسلوه
وأعادوا الصلاة عليه؛ لأن طهارة الميت شرط
لجواز الصلاة عليه، كما أن طهارة الإمام شرط؛
لأنه بمنزلة الإمام فتعتبر طهارته، فإذا فقدت
لم يعتد بالصلاة فيغسل ويصلى عليه، وإن ذكروا
بعد الدفن لم ينبشوا عنه؛ لأن النبش حرام حقا
لله تعالى:، فيسقط الغسل ولا تعاد الصلاة
عليه؛ لأن طهارة الميت شرط جواز الصلاة عليه
لما بينا. وروي عن محمد أنه يخرج ما لم يهيلوا
عليه التراب؛ لأن ذلك ليس بنبش، فإن أهالوا
التراب لم يخرج، وتعاد الصلاة عليه؛ لأن تلك
الصلاة لم تعتبر لتركهم الطهارة مع الإمكان،
والآن فات الإمكان فسقطت الطهارة فيصلى عليه.
ولو دفن بعد الغسل قبل الصلاة عليه صلي عليه
في القبر ما لم يعلم أنه تفرق وفي الأمالي عن
أبي يوسف أنه قال: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام
هكذا ذكر ابن رستم عن محمد، أما قبل مضي ثلاثة
أيام فلما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى على قبر تلك المرأة فلما جازت الصلاة على
القبر بعد ما صلي على الميت مرة فلأن تجوز في
موضع لم يصل عليه أصلا أولى. وأما بعد الثلاثة
أيام لا يصلى؛ لأن الصلاة مشروعة على البدن
وبعد مضي الثلاث ينشق ويتفرق فلا يبقى البدن
وهذا؛ لأن في المدة القليلة لا يتفرق وفي
الكثيرة يتفرق، فجعلت الثلاث في حد الكثرة؛
لأنها جمع والجمع ثبت بالكثرة؛ ولأن العبرة
للمعتاد والغالب في العادة أن بمضي الثلاث
يتفسخ ويتفرق أعضاؤه، والصحيح أن هذا ليس
بتقدير لازم؛ لأنه يختلف باختلاف الأوقات في
الحر والبرد، وباختلاف حال الميت في السمن
والهزال، وباختلاف الأمكنة فيحكم فيه غالب
الرأي وأكبر الظن، فإن قيل: روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم "أنه صلى على شهداء أحد بعد
ثمان سنين" فالجواب أن معناه والله أعلم أنه
دعا لهم قال الله تعالى:
{وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}،
والصلاة في الآية بمعنى الدعاء، وقيل: إنهم لم
تتفرق أعضاؤهم فإن معاوية لما أراد أن يحولهم
وجدهم، كما دفنوا فتركهم.
الصلاة على الجماعة مرة واحدة فإذا اجتمعت
الجنائز فالإمام بالخيار إن شاء صلى عليهم
دفعة واحدة، وإن شاء صلى على كل جنازة على
حدة؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"صلى يوم أحد على كل عشرة من الشهداء صلاة
واحدة" ؛ ولأن ما هو المقصود وهو الدعاء
والشفاعة للموتى يحصل بصلاة واحدة، فإن أراد
أن يصلي على كل واحدة على حدة، فالأولى أن
يقدم الأفضل فالأفضل، فإن لم يفعل فلا بأس به.
ثم كيف توضع الجنائز إذا اجتمعت ؟ فنقول لا
يخلو إما
ج / 1 ص -316-
أن كانت من جنس واحد، أو اختلف الجنس فإن كان الجنس متحدا فإن شاءوا
جعلوها صفا واحدا، كما يصطفون في حال حياتهم
عند الصلاة، وإن شاءوا وضعوا واحدا بعد واحد
مما يلي القبلة؛ ليقوم الإمام بحذاء الكل، هذا
جواب ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة في غير
رواية الأصول أن الثاني أولى من الأول؛ لأن
السنة هي قيام الإمام بحذاء الميت، وهو يحصل
في الثاني دون الأول، وإذا وضعوا واحدا بعد
واحد ينبغي أن يكون أفضلهم مما يلي الإمام كذا
روي عن أبي حنيفة أنه يوضع أفضلهما مما يلي
الإمام وأسنهما وقال أبو يوسف: " والأحسن عندي
أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام لقول النبي:
صلى الله عليه وسلم
"ليليني منكم أولو الأحلام والنهى". ثم إن وضع رأس كل واحد منهم بحذاء رأس صاحبه فحسن، وإن وضع شبه
الدرج، كما قال ابن أبي ليلى: وهو أن يكون رأس
الثاني عند منكب الأول فحسن، كذا روي عن أبي
حنيفة أنه إن وضع هكذا فحسن أيضا؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم وصاحبيه دفنوا على هذه
الصفة فيحسن الوضع للصلاة على هذا الترتيب
أيضا. وأما إذا اختلف الجنس بأن كانوا رجالا
ونساء توضع الرجال مما يلي الإمام، والنساء
خلف الرجال مما يلي القبلة؛ لأنهم هكذا يصطفون
خلف الإمام في حال الحياة، ثم إن الرجال
يكونون أقرب إلى الإمام من النساء فكذا بعد
الموت. ومن العلماء من قال: توضع النساء مما
يلي الإمام، والرجال خلفهن؛ لأن في الصلاة
بالجماعة في حال الحياة صف النساء خلف صف
الرجال إلى القبلة فكذا في وضع الجنائز.
ولو اجتمع جنازة رجل وصبي وخنثى وامرأة وصبية
وضع الرجل مما يلي الإمام، والصبي وراءه، ثم
الخنثى، ثم المرأة، ثم الصبية والأصل فيه قول
النبي: صلى الله عليه وسلم
"ليليني منكم أولوا الأحلام
والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"
؛ ولأنهم هكذا يقومون في الصف خلف الإمام حالة
الحياة فيوضعون كذلك بعد الموت.
ولو كبر الإمام على جنازة ثم أتي بجنازة أخرى
فوضعت معها مضى على الأولى ويستأنف الصلاة على
الأخرى؛ لأن التحريمة انعقدت للصلاة على
الأولى فيتمها، فإن كبر الثانية ينويهما فهي
للأولى؛ لأنه لم يقصد الخروج عن الأولى فبقي
فيها ولم يقع للثانية، وإن كبر ينوي الثانية
وحدها فهي للثانية؛ لأنه خرج عن الأولى
بالتكبيرة مع النية، كما إذا كان في الظهر
فكبر ينوي العصر صار منتقلا من الظهر فكذا
هذا، بخلاف ما إذا نواهما جميعا؛ لأنه ما رفض
الأولى فبقي فيها فلا يصير شارعا في الثانية،
ثم إذا صار شارعا في الثانية فإذا فرغ منها
أعاد الصلاة على الأولى أي: يستقبل والله
أعلم.
"فصل": وأما بيان ما تفسد به صلاة الجنازة فنقول: إنها تفسد بما تفسد به
سائر الصلوات وهو ما ذكرنا من الحدث العمد،
والكلام، والقهقهة، وغيرها من نواقض الصلاة
إلا المحاذاة فإنها غير مفسدة في هذه الصلاة؛
لأن فساد الصلاة بالمحاذاة عرف بالنص، والنص
ورد في الصلاة المطلقة فلا يلحق بها غيرها،
ولهذا لم يلحق بها سجدة التلاوة حتى لم تكن
المحاذاة فيها مفسدة. وكذا القهقهة في هذه
الصلاة لا تنقض الطهارة؛ لأنا عرفنا القهقهة
حدثا بالنص الوارد في صلاة مطلقة فلا يجعل
واردا، في غيرها فرق بين هاتين المسألتين وبين
البناء: فإنه لو سبقه الحدث في صلاة الجنازة
يبني، وإن عرف البناء بالنص وأنه وارد في صلاة
مطلقة، والفرق أن القهقهة جعلت حدثا لقبحها في
الصلاة، وقبحها يزداد بزيادة حرمة الصلاة ولا
شك أن حرمة الصلاة المطلقة فوق حرمة صلاة
الجنازة فكان قبحها في تلك الصلاة فوق قبحها
في هذه فجعلها حدثا هناك لا يدل على جعلها
حدثا ههنا، وكذا المحاذاة جعلت مفسدة في تلك
الصلاة تعظيما لها وليست هذه مثل تلك في معنى
التعظيم، بخلاف البناء؛ لأن الجواز وتحمل
المشي في أعلى العبادتين يوجب التحمل والجواز
في أدناهما دلالة، ولأنا لو لم نجوز البناء
ههنا تفوته الصلاة أصلا؛ لأن الناس يفرغون من
الصلاة قبل رجوعه من التوضؤ ولا يمكنه
الاستدراك بالإعادة لما مر. ولو لم نجوز
البناء هناك لفاتته الصلاة أصلا فلما جاز
البناء هناك فلأن يجوز ههنا أولى.
"فصل": وأما بيان ما يكره فيها فنقول: تكره الصلاة على الجنازة عند طلوع
الشمس وغروبها، ونصف النهار لما روينا من حديث
عقبة بن عامر أنه قال: "ثلاث ساعات نهانا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها وأن
نقبر فيها موتانا" والمراد من قوله: " أن
نقبر فيها موتانا " الصلاة على الجنازة دون
الدفن إذ لا بأس بالدفن في هذه
ج / 1 ص -317-
الأوقات فإن صلوا في أحد هذه الأوقات لم يكن
عليهم إعادتها؛ لأن صلاة الجنازة لا يتعين
لأدائها وقت ففي أي وقت صليت وقعت أداء لا
قضاء، ومعنى الكراهة في هذه الأوقات يمنع جواز
القضاء فيها دون الأداء، كما إذا أدى عصر يومه
عند تغير الشمس على ما ذكرنا فيما تقدم، ولا
تكره الصلاة على الجنازة بعد صلاة الفجر، وبعد
صلاة العصر قبل تغير الشمس؛ لأن الكراهة في
هذه الأوقات ليست لمعنى في الوقت فلا يظهر في
حق الفرائض لما بينا فيما تقدم. ولو أرادوا أن
يصلوا على جنازة وقد غربت الشمس فالأفضل أن
يبدءوا بصلاة المغرب ثم يصلون على الجنازة؛
لأن المغرب آكد من صلاة الجنازة فكان تقديمه
أولى؛ ولأن في تقديم الجنازة تأخير المغرب
وأنه مكروه.
"فصل": وأما بيان من له ولاية الصلاة على الميت فذكر في الأصل أن إمام
الحي أحق بالصلاة على الميت وروى الحسن عن أبي
حنيفة أن الإمام الأعظم أحق بالصلاة إن حضر،
فإن لم يحضر فأمير المصر، وإن لم يحضر فإمام
الحي، فإن لم يحضر فالأقرب من ذوي قراباته،
وهذا هو حاصل المذهب عندنا، والتوفيق بين
الروايتين ممكن؛ لأن السلطان إذا حضر فهو
أولى؛ لأنه إمام الأئمة فإن لم يحضر فالقاضي؛
لأنه نائبه فإن لم يحضر فإمام الحي؛ لأنه رضي
بإمامته في حال حياته، فيدل على الرضا به بعد
مماته؛ ولهذا لو عين الميت أحدا في حال حياته
فهو أولى من القريب لرضاه به إلا أنه بدأ في
كتاب الصلاة بإمام الحي؛ لأن السلطان قلما
يحضر الجنائز، ثم الأقرب فالأقرب من عصبته
وذوي قراباته؛ لأن ولاية القيام بمصالح الميت
له. وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد فأما على
قول أبي يوسف، وهو قول الشافعي القريب أولى من
السلطان، لأبي يوسف والشافعي أن هذا أمر مبني
على الولاية، والقريب في مثل هذا مقدم على
السلطان، كما في النكاح وغيره من التصرفات؛
ولأن هذه الصلاة شرعت للدعاء والشفاعة للميت،
ودعاء القريب أرجى؛ لأنه يبالغ في إخلاص
الدعاء، وإحضار القلب بسبب زيادة شفقته، وتوجد
منه زيادة رقة وتضرع فكان أقرب إلى الإجابة،
ولأبي حنيفة ومحمد ما روي "أن الحسن بن علي
لما مات قدم الحسين بن علي سعيد بن العاص
ليصلي عليه وكان واليا بالمدينة وقال: لولا
السنة ما قدمتك، وفي رواية قال: لولا أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن التقدم لما قدمتك"
؛ ولأن هذا من الأمور العامة فيكون متعلقا
بالسلطان كإقامة الجمعة والعيدين بخلاف النكاح
فإنه من الأمور الخاصة، وضرره ونفعه يتصل
بالولي لا بالسلطان، فكان إثبات الولاية
للقريب أنفع للمولى عليه، وتلك ولاية نظر ثبتت
حقا للمولى عليه قبل الولي بخلاف ما نحن فيه.
أما قوله: " إن دعاء القريب، وشفاعته أرجى "
فنقول: بتقدم الغير لا يفوت دعاء القريب
وشفاعته مع أن دعاء الإمام أقرب إلى الإجابة
على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "ثلاث لا يحجب دعاؤهم وذكر فيهم
الإمام" ، ثم تقدم إمام الحي ليس بواجب ولكنه
أفضل لما ذكرنا أنه رضيه في حال حياته. وأما
تقديم السلطان فواجب لأن تعظيمه مأمور به؛
ولأن ترك تقديمه لا يخلو عن فساد التجاذب
والتنازع على ما ذكرنا في صلاة الجمعة
والعيدين.
ولو كان للميت وليان في درجة واحدة فأكبرهما
سنا أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بتقديم الأسن في الصلاة، ولهما أن يقدما
غيرهما ولو قدم كل واحد منهما رجلا على حدة،
فالذي قدمه الأكبر أولى، وليس لأحدهما أن يقدم
إنسانا إلا بإذن الآخر؛ لأن الولاية ثابتة
لهما إلا أنا قدمنا الأسن لسنه، فإذا أراد أن
يستخلف غيره كان الآخر أولى فإن تشاجر الوليان
فتقدم أجنبي بغير إذنهما فصلى ينظر إن صلى
الأولياء معه جازت الصلاة ولا تعاد، وإن لم
يصلوا معه فلهم إعادة الصلاة، وإن كان أحدهما
أقرب من الآخر فالولاية إليه وله أن يقدم من
شاء؛ لأن الأبعد محجوب به فصار بمنزلة
الأجنبي. ولو كان الأقرب غائبا بمكان تفوت
الصلاة بحضوره بطلت ولايته وتحولت الولاية إلى
الأبعد. ولو قدم الغائب غيره بكتاب كان للأبعد
أن يمنعه وله أن يتقدم بنفسه، أو يقدم من شاء؛
لأن ولاية الأقرب قد سقطت لما أن في التوقيف
على حضوره ضرر بالميت، والولاية تسقط مع ضرر
المولى عليه فتنقل إلى الأبعد، والمريض في
المصر بمنزلة الصحيح يقدم من شاء، وليس للأبعد
منعه ولأن ولايته قائمة، ألا ترى أن له أن
يتقدم مع مرضه فكان له حق التقديم، ولا حق
للنساء والصغار والمجانين في التقديم؛ لانعدام
ولاية التقدم.
ولو ماتت امرأة ولها زوج وابن بالغ عاقل
فالولاية للابن دون الزوج لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه ماتت له امرأة
ج / 1 ص -318-
فقال
لأوليائها: كنا أحق بها حين كانت حية، فأما
إذا ماتت فأنتم أحق بها؛ ولأن الزوجية تنقطع
بالموت، والقرابة لا تنقطع لكن يكره للابن أن
يتقدم أباه، وينبغي أن يقدمه مراعاة لحرمة
الأبوة. قال أبو يوسف: وله في حكم الولاية أن
يقدم غيره؛ لأن الولاية له وإنما منع من
التقدم حتى لا يستخف بأبيه، فلم تسقط ولايته
في التقديم، وإن كان لها ابن من زوج آخر فلا
بأس بأن يتقدم على هذا الزوج؛ لأنه هو الولي،
وتعظيم زوج أمه غير واجب عليه، وسائر القرابات
أولى من الزوج وكذا مولى العتاقة وابن المولى
ومولى الموالاة لما ذكرنا أن السبب قد انقطع
فيما بينهما فإن تركت أبا وزوجا وابنا من هذا
الزوج فلا ولاية للزوج لما بينا. وأما الأب
والابن فقد ذكر في كتاب الصلاة أن الأب أحق من
غيره، وقيل: هو قول محمد. وأما عند أبي يوسف
فالابن أحق إلا أنه يقدم الأب تعظيما له، وعند
محمد الولاية للأب، وقيل: هو قولهم جميعا في
صلاة الجنازة؛ لأن للأب فضيلة على الابن
وزيادة سن، والفضيلة تعتبر ترجيحا في استحقاق
الإمامة، كما في سائر الصلوات بخلاف سائر
الولايات، ومولى الموالاة أحق من الأجنبي؛
لأنه التحق بالقريب بعقد الموالاة.
ولو مات الابن وله أب وأب الأب فالولاية
لأبيه، ولكنه يقدم أباه الذي هو جد الميت
تعظيما له.
وكذلك المكاتب إذا مات ابنه أو عبده ومولاه
حاضرا فالولاية للمكاتب لكنه يقدم مولاه
احتراما له، ثم إذا صلي على الميت يدفن.
"فصل": والكلام في الدفن في مواضع: في بيان وجوبه، وكيفية وجوبه، وفي بيان
سنة الحفر والدفن وما يتصل بهما. أما الأول
فالدليل على وجوبه: توارث الناس من لدن آدم
صلوات الله عليه إلى يومنا هذا مع النكير على
تاركه، وذا دليل الوجوب إلا أن وجوبه على سبيل
الكفاية حتى إذا قام به البعض سقط عن الباقين؛
لحصول المقصود.
"فصل": وأما سنة الحفر فالسنة فيه اللحد عندنا، وعند الشافعي الشق، واحتج
أن توارث أهل المدينة الشق دون اللحد،
وتوارثهم حجة، ولنا قول النبي: صلى الله عليه
وسلم
"اللحد لنا
والشق لغيرنا" وفي رواية
"اللحد لنا والشق لأهل الكتاب" وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما توفي اختلف الناس أن
يشق له، أو يلحد، وكان أبو طلحة الأنصاري
لحادا، وأبو عبيدة بن الجراح شاقا فبعثوا رجلا
إلى أبي عبيدة ورجلا إلى أبي طلحة فقال العباس
بن عبد المطلب: اللهم خر لنبيك أحب الأمرين
إليك فوجد أبا طلحة من كان بعث إليه، ولم يجد
أبا عبيدة من بعث إليه، والعباس رضي الله عنه
كان مستجاب الدعوة، وأهل المدينة إنما توارثوا
الشق؛ لضعف أراضيهم بالبقيع ولهذا اختار أهل
بخارى الشق دون اللحد؛ لتعذر اللحد لرخاوة
أراضيهم. وصفة اللحد أن يحفر القبر، ثم يحفر
في جانب القبلة منه حفيرة فيوضع فيه الميت
وصفة الشق أن يحفر حفيرة في وسط القبر، فيوضع
فيه الميت ويجعل على اللحد اللبن والقصب لما
روي أنه وضع على قبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم طن من قصب. وروي "أنه صلى الله عليه وسلم
رأى فرجة في قبر فأخذ مدورة وناولها الحفار
وقال
"سد: بها
تلك الفرجة فإن الله تعالى: يحب من كل صانع أن
يحكم صنعته" والمدرة قطعة من اللبن وروي عن سعيد بن العاص أنه قال اجعلوا على
قبري اللبن والقصب، كما جعل على قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر؛
ولأن اللبن والقصب لا بد منهما ليمنعا ما يهال
من التراب على القبر من الوصول إلى الميت.
ويكره الآجر ودفوف الخشب لما روي عن إبراهيم
النخعي أنه قال: كانوا يستحبون اللبن والقصب
على القبور، وكانوا يكرهون الآجر. وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن تشبه القبور
بالعمران، والآجر والخشب للعمران" ، ولأن
الآجر مما يستعمل للزينة ولا حاجة إليها
للميت، ولأنه مما مسته النار فيكره أن يجعل
على الميت تفاؤلا، كما يكره أن يتبع قبره بنار
تفاؤلا، وكان الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل
البخاري يقول: لا بأس بالآجر في ديارنا لرخاوة
الأراضي، وكان أيضا يجوز دفوف الخشب واتخاذ
التابوت للميت حتى قال: لو اتخذوا تابوتا من
حديد لم أر به بأسا في هذه الديار.
ج / 1 ص -319-
به إلى
أن تصير رجلاه إلى موضعهما، ويدخل رأسه القبر
احتج بما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم أدخل في القبر سلا وقال الشافعي في
كتابه: وهذا أمر مشهور يستغنى فيه عن رواية
الحديث، فإنه نقلته العامة عن العامة بلا خلاف
بينهم ولنا ما روي "أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أخذ أبا دجانة من قبل القبلة" وروي
عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم أدخل في القبر من قبل القبلة فصار
هذا معارضا لما رواه الشافعي، على أنا نقول:
إنه صلى الله عليه وسلم إنما أدخل إلى القبر
سلا لأجل الضرورة؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم مات في حجرة عائشة من قبل الحائط وكانت
السنة في دفن الأنبياء عليهم السلام في الموضع
الذي قبضوا فيه فكان قبره لزيق الحائط، واللحد
تحت الحائط فتعذر إدخاله من قبل القبلة فسل
إلى قبره سلا لهذه الضرورة. وعن ابن عباس وابن
عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: يدخل الميت
قبره من قبل القبلة؛ ولأن جانب القبلة معظم
فكان إدخاله من هذا الجانب أولى، وقول
الشافعي: هذا أمر مشهور، قلنا: روي عن أبي
حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي أنه قال:
حدثني من رأى أهل المدينة في الزمن الأول أنهم
كانوا يدخلون الميت من قبل القبلة، ثم أحدثوا
السل لضعف أراضيهم بالبقيع فإنها كانت أرضا
سبخة والله أعلم.
ولا يضر وتر دخل قبره أم شفع عندنا، وقال
الشافعي: السنة هي الوتر اعتبارا بعدد الكفن
والغسل والإجمار، ولنا ما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما دفن أدخله العباس والفضل
بن العباس وعلي وصهيب وقيل في الرابع: إنه
المغيرة بن شعبة وقيل: إنه أبو رافع فدل أن
الشفع سنة؛ ولأن الدخول في القبر للحاجة إلى
الوضع فيقدر بقدر الحاجة، والوتر والشفع فيه
سواء؛ ولأنه مثل حمل الميت ويحمله على الجنازة
أربعة عندنا، وعنده اثنان وإن كان شفعا فكذا
ههنا، وما ذكر من الاعتبار غير سديد لانتقاضه
بحمل الجنازة ومخالفته فعل الصحابة مع أنه لا
يظن بهم ترك السنة، خصوصا في دفن النبي صلى
الله عليه وسلم.
ويكره أن يدخل الكافر قبر أحد من قرابته من
المؤمنين؛ لأن الموضع الذي فيه الكافر تنزل
فيه السخطة واللعنة فينزه قبر المسلم عن ذلك،
وإنما يدخل قبره المسلمون ليضعوه على سنة
المسلمين، ويقولوا عند وضعه: باسم الله وعلى
ملة رسول الله، وإذا وضع في اللحد قال واضعه:
باسم الله وعلى ملة رسول الله، وذكر الحسن في
المجرد عن أبي حنيفة أنه يقول: " باسم الله
وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله " لما روي
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدخل
ميتا قبره أو وضعه في اللحد قال: باسم الله
وبالله وعلى ملة رسول الله" وهكذا روي عن علي
أنه كان إذا دفن ميتا أو نام قال: باسم الله
وبالله وعلى ملة رسول الله وكان يقول: النوم
وفاة قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: معنى هذا
باسم الله دفناه وعلى ملة رسول الله دفناه.
وليس هذا بدعاء للميت؛ لأنه إذا مات على ملة
رسول الله لم يجز أن تبدل عليه الحالة، وإن
مات على غير ذلك لم يبدل إلى ملة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ولكن المؤمنين شهداء
الله في الأرض، فيشهدون بوفاته على الملة وعلى
هذا جرت السنة، ويوضع على شقه الأيمن متوجها
إلى القبلة لما روي عن علي رضي الله عنه أنه
قال: "شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة
رجل فقال يا: علي استقبل به استقبالا وقولوا
جميعا باسم الله، وعلى ملة رسول الله، وضعوه
لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه لظهره" .
وتحل عقد أكفانه إذا وضع في القبر؛ لأنها عقدت
لئلا تنتشر أكفانه، وقد زال هذا المعنى
بالوضع.
ولو وضع لغير القبلة فإن كان قبل إهالة التراب
عليه، وقد سرحوا اللبن أزالوا ذلك؛ لأنه ليس
بنبش، وإن أهيل عليه التراب ترك ذلك؛ لأن
النبش حرام.
, ولا يدفن الرجلان أو أكثر في قبر واحد هكذا
جرت السنة من لدن آدم إلى يومنا هذا، فإن
احتاجوا إلى ذلك قدموا أفضلهما وجعلوا بينهما
حاجزا من الصعيد لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم "أنه أمر بدفن قتلى أحد وكان يدفن
في القبر رجلان، أو ثلاثة، وقال: قدموا أكثرهم
قرآنا" وإن كان رجل وامرأة قدم الرجل مما يلي
القبلة، والمرأة خلفه اعتبارا بحال الحياة.
ولو اجتمع رجل وامرأة، أو صبي وخنثى وصبية دفن
الرجل مما يلي القبلة، ثم الصبي خلفه، ثم
الخنثى، ثم الأنثى، ثم الصبية؛ لأنهم هكذا
يصطفون خلف الإمام حالة الحياة، وهكذا توضع
جنائزهم عند الصلاة عليها فكذا في القبر،
ويسجى قبر المرأة بثوب لما روي أن فاطمة رضي
الله عنها سجي
ج / 1 ص -320-
قبرها
بثوب ونعش على جنازتها؛ لأن مبنى حالها على
الستر، فلو لم يسج ربما انكشفت عورة المرأة
فيقع بصر الرجال عليها، ولهذا يوضع النعش على
جنازتها دون جنازة الرجل.
وذو الرحم المحرم أولى بإدخال المرأة القبر من
غيره؛ لأنه يجوز له مسها حالة الحياة فكذا بعد
الموت، وكذا ذو الرحم المحرم منها أولى من
الأجنبي ولو لم يكن فيهم ذو رحم فلا بأس
للأجانب وضعها في قبرها، ولا يحتاج إلى إتيان
النساء للوضع.
وأما قبر الرجل فلا يسجى عندنا، وعند الشافعي
يسجى احتج بما روي "أن النبي صلى الله عليه
وسلم أقبر سعد بن معاذ ومعه أسامة بن زيد فسجى
قبره" ولنا ما روي عن علي أنه مر بميت يدفن،
وقد سجي قبره فنزع ذلك عنه وقال: إنه رجل وفي
رواية قال لا تشبهوه بالنساء. وأما حديث سعد
بن معاذ فيحتمل أنه إنما سجي؛ لأن الكفن لا
يعمه فستر القبر حتى لا يبدو منه شيء، ويحتمل
أنه كان لضرورة أخرى من دفع مطر أو حر عن
الداخلين في القبر، وعندنا لا بأس بذلك في
حالة الضرورة.
ويسنم القبر ولا يربع، وقال الشافعي: يربع
ويسطح لما روى المزني بإسناده "عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه لما توفي ابنه إبراهيم
جعل قبره مسطحا" ، ولنا ما روي عن إبراهيم
النخعي أنه قال: أخبرني من رأى قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر أنها
مسنمة وروي أن عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما لما مات بالطائف صلى عليه محمد بن
الحنفية، وكبر عليه أربعا، وجعل له لحدا
وأدخله القبر من قبل القبلة، وجعل قبره مسنما
وضرب عليه فسطاطا؛ ولأن التربيع من صنيع أهل
الكتاب، والتشبيه بهم فيما منه بد مكروه، وما
روي من الحديث محمول على أنه سطح قبره أولا،
ثم جعل التسنيم في وسطه حملناه على هذا بدليل
ما روينا، ومقدار التسنيم أن يكون مرتفعا من
الأرض قدر شبر، أو أكثر قليلا.
ويكره تجصيص القبر وتطيينه وكره أبو حنيفة
البناء على القبر وأن يعلم بعلامة، وكره أبو
يوسف الكتابة عليه ذكره الكرخي لما روي عن
جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "لا تجصصوا القبور ولا تبنوا عليها
ولا تقعدوا ولا تكتبوا عليها" ؛ ولأن ذلك من
باب الزينة ولا حاجة بالميت إليها؛ ولأنه
تضييع المال بلا فائدة فكان مكروها.
ويكره أن يزاد على تراب القبر الذي خرج منه؛
لأن الزيادة عليه بمنزلة البناء.
بأس برش الماء على القبر؛ لأنه تسوية له وروي
عن أبي يوسف أنه كره الرش؛ لأنه يشبه التطيين،
وكره أبو حنيفة أن يوطأ على قبر، أو يجلس
عليه، أو ينام عليه أو تقضى عليه حاجة من بول
أو غائط لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أنه نهى عن الجلوس على القبور" .
ويكره أن يصلى على القبر لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم "أنه نهى أن يصلى على القبر"
قال: أبو حنيفة: ولا ينبغي أن يصلى على ميت
بين القبور، وكان علي وابن عباس يكرهان ذلك،
وإن صلوا أجزأهم لما روي أنهم صلوا على عائشة،
وأم سلمة بين مقابر البقيع، والإمام أبو هريرة
وفيهم ابن عمر رضي الله عنهم.
بأس بزيارة القبور والدعاء للأموات إن كانوا
مؤمنين من غير وطء القبور لقول النبي صلى الله
عليه وسلم:
"إني كنت
نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها
تذكركم الآخرة" ، ولعمل الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
.
"فصل": وأما الشهيد فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في بيان من يكون شهيدا
في الحكم، ومن لا يكون، والثاني في بيان حكم
الشهادة في الدنيا. أما الأول: فبني على شرائط
الشهادة وهي أنواع: منها أن يكون مقتولا حتى
لو مات حتف أنفه، أو تردى من موضع، أو احترق
بالنار، أو مات تحت هدم أو غرق لا يكون شهيدا
لأنه ليس بمقتول فلم يكن في معنى شهداء أحد،
وبأي شيء قتل في المعركة من سلاح أو غيره، فهو
سواء في حكم الشهادة؛ لأن شهداء أحد ما قتل
كلهم بسلاح، بل منهم من قتل بغير سلاح، وأما
في المصر فيختلف الحكم فيه على ما نذكر.
ومنها أن يكون مظلوما حتى لو قتل بحق في قصاص
أو رجم لا يكون شهيدا؛ لأن شهداء أحد قتلوا
مظلومين وروي "أنه لما رجم ماعز جاء عمه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتل ماعز، كما
تقتل الكلاب فماذا تأمرني أن أصنع به فقال
النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تقل هذا
فقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض
لوسعتهم اذهب فاغسله، وكفنه، وصل عليه" .
وكذلك من مات من حد أو
تعزير أو عدا على قوم ظلما فقتلوه لا يكون
شهيدا؛ لأنه ظلم نفسه، وكذا لو
ج / 1 ص -321-
قتله
سبع لانعدام تحقق الظلم.
ومنها أن لا يخلف عن نفسه بدلا هو مال حتى لو
كان مقتولا خطأ، أو شبه عمد بأن قتله في المصر
نهارا بعصا صغيرة، أو سوط، أو وكزه باليد، أو
لكزه بالرجل لا يكون شهيدا؛ لأن الواجب في هذه
المواضع هو المال دون القصاص، وذا دليل خفة
الجناية، فلم يكن في معنى شهداء أحد؛ ولأن غير
السلاح مما يلبث فكان بحال لو استغاث لحقه
الغوث فإذا لم يستغث جعل كأنه أعان على قتل
نفسه بخلاف ما إذا قتل في المفازة بغير
السلاح؛ لأن ذلك يوجب القتل بحكم قطع الطريق
لا المال؛ ولأنه لو استغاث لا يلحقه الغوث فلم
يصر بترك الاستغاثة معينا على قتل نفسه، وكذلك
إذا قتله بعصا كبيرة، أو بمدقة القصارين، أو
بحجر كبير، أو بخشبة عظيمة، أو خنقه، أو غرقه
في الماء، أو ألقاه من شاهق الجبل عند أبي
حنيفة؛ لأن هذا كله شبه عمد عنده، فكان الواجب
فيه الدية دون القصاص، وعند أبي يوسف، ومحمد
الواجب هو القصاص فكان المقتول شهيدا.
ولو نزل عليه اللصوص ليلا في المصر فقتل
بسلاح، أو غيره، أو قتله قطاع الطريق خارج
المصر بسلاح، أو غيره فهو شهيد؛ لأن القتيل لم
يخلف في هذه المواضع بدلا هو مال.
ولو قتل في المصر نهارا بسلاح ظلما بأن قتل
بحديدة، أو ما يشبه الحديدة كالنحاس، والصفر،
وما أشبه ذلك، أو ما يعمل عمل الحديد من جرح،
أو قطع، أو طعن بأن قتله بزجاجة، أو بليطة
قصب، أو طعنه برمح لا زج له، أو رماه بنشابة
لا نصل لها، أو أحرقه بالنار، وفي الجملة كل
قتل يتعلق به وجوب القصاص فالقتيل شهيد، وقال
الشافعي: " لا يكون شهيدا "، واحتج بما روي أن
عمر، وعليا غسلا، ولأن هذا قتيل أخلف بدلا،
وهو المال، أو القصاص فما هو في معنى شهداء
أحد كالقتل خطأ، أو شبه عمد، ولنا أن وجوب هذا
البدل دليل انعدام الشبهة، وتحقق الظلم من
جميع الوجوه، إذ لا يجب القصاص مع الشبهة فصار
في معنى شهداء أحد بخلاف ما إذا أخلف بدلا هو
مال؛ لأن ذلك أمارة خفة الجناية؛ لأن المال لا
يجب إلا عند تحقق الشبهة في القتل فلم يكن في
معنى شهداء أحد؛ ولأن الدية بدل عن المقتول
فإذا، وصل إليه البدل صار المبدل كالباقي من،
وجه لبقاء بدله فأوجب خللا في الشهادة، فأما
القصاص فليس ببدل عن المحل بل هو جزاء الفعل
على طريق المساواة فلا يسقط به حكم الشهادة،
وإنما غسل عمر، وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما
ارتثا، والارتثاث يمنع الشهادة على ما نذكر.
ولو وجد قتيل في محلة، أو موضع يجب فيه
القسامة، والدية لم يكن شهيدا لما قلنا. ولو
وجب القصاص ثم انقلب مالا بالصلح لا تبطل
شهادته؛ لأنه لم يتبين أنه أخلف بدلا هو مال.
وكذا الأب إذا قتل ابنه عمدا كان شهيدا؛ لأنه
أخلف القصاص ثم انقلب مالا، وفائدة الوجوب
شهادة المقتول.
ومنها أن يكون مرتثا في شهادته وهو أن لا يخلق
شهادته مأخوذ من الثوب الرث، وهو الخلق،
والأصل فيه ما روي أن عمر لما طعن حمل إلى
بيته فعاش يومين ثم مات فغسل، وكان شهيدا وكذا
علي حمل حيا بعد ما طعن ثم مات فغسل، وكان
شهيدا، وعثمان أجهز عليه في مصرعه، ولم يرتث
فلم يغسل ", وسعد بن معاذ ارتث فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: بادروا إلى غسل صاحبكم سعد كي
لا تسبقنا الملائكة بغسله، كما سبقتنا بغسل
حنظلة". ولأن شهداء أحد ماتوا على مصارعهم،
ولم يرتثوا، حتى روي أن الكأس كان يدار عليهم
فلم يشربوا خوفا من نقصان الشهادة، فإذا ارتث
لم يكن في معنى شهداء أحد، وهذا؛ لأنه لما
ارتث، ونقل من مكانه يزيده النقل ضعفا، ويوجب
حدوث آلام لم تحدث لولا النقل، والموت يحصل
عقيب ترادف الآلام فيصير النقل مشاركا للجراحة
في إثارة الموت. ولو تم الموت بالنقل لسقط
الغسل. ولو تم بإيلام سوى الجرح لا يسقط فلا
يسقط بالشك؛ ولأن القتل لم يتمحض بالجرح بل
حصل به وبغيره، وهو النقل، والجرح محظور،
والنقل مباح فلم يمت بسبب تمحض حراما فلم يصر
في معنى شهداء أحد، ثم المرتث من خرج عن صفة
القتلى، وصار إلى حال الدنيا بأن جرى عليه شيء
من أحكامها، أو وصل إليه شيء من منافعها. وإذا
عرف هذا فنقول من حمل من المعركة حيا ثم مات
في بيته، أو على أيدي الرجال فهو مرتث، وكذلك
إذا أكل، أو شرب، أو باع أو ابتاع، أو تكلم
بكلام طويل، أو قام من مكانه ذلك، أو تحول من
مكانه إلى مكان آخر، وبقي على مكانه ذلك حيا
يوما كاملا، أو ليلة كاملة، وهو يعقل فهو
مرتث. وروي عن أبي يوسف إذا بقي وقت صلاة كامل
حتى صارت الصلاة دينا في ذمته، وهو يعقل فهو
مرتث، وإن بقي مكانه لا يعقل فليس بمرتث، وقال
محمد: " إن بقي يوما فهو مرتث ". ولو أوصى
ج / 1 ص -322-
كان ارتثاثا عند أبي يوسف خلافا لمحمد،
وقيل: لا خلاف بينهما في الحقيقة فجواب أبي
يوسف خرج فيما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا،
وذلك يوجب الارتثاث بالإجماع؛ لأن الوصية
بأمور الدنيا من أحكام الدنيا، ومصالحها فينقض
ذلك معنى الشهادة، وجواب محمد محمول على ما
إذا أوصى بشيء من أمور الآخرة، وذلك لا يوجب
الارتثاث بالإجماع كوصية سعد بن الربيع، وهو
ما روي أنه "لما أصيب المسلمون يوم أحد، ووضعت
الحرب أوزارها قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "هل من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع ؟" فنظر عبد الله بن عبد الرحمن من بني النجار رضي الله تعالى: عنهم
فوجده جريحا في القتلى، وبه رمق فقال له: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر،
في الأحياء أنت أم في الأموات ؟ فقال: أنا في
الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول:
جزاك الله عنا خير ما يجزى نبي عن أمته، وأبلغ
قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعدا يقول: لا
عذر لكم عند الله تعالى: أن يخلص إلى نبيكم،
وفيكم عين تطرف قال: ثم لم أبرح حتى مات فلم
يغسل، وصلي عليه" ، وذكر في الزيادات أنه إن،
أوصى بمثل وصية سعد بن معاذ فليس بارتثاث،
والصلاة ارتثاث؛ لأنها من أحكام الدنيا، ولو
جر برجله من بين الصفين حتى تطؤه الخيول فمات
لم يكن مرتثا؛ لأنه ما نال شيئا من راحة
الدنيا، بخلاف ما إذا مرض في خيمته، أو في
بيته؛ لأنه قد نال الراحة بسبب ما مرض فصار
مرتثا، ثم المرتث وإن لم يكن شهيدا في حكم
الدنيا فهو شهيد في حق الثواب حتى إنه ينال
ثواب الشهداء كالغريق، والحريق، والمبطون،
والغريب إنهم شهداء بشهادة الرسول صلى الله
عليه وسلم لهم بالشهادة، وإن لم يظهر حكم
شهادتهم في الدنيا.
كون المقتول مسلما فإن كان كافرا كالذمي إذا
خرج مع المسلمين للقتال فقتل يغسل؛ لأن سقوط
الغسل عن المسلم إنما ثبت كرامة له، والكافر
لا يستحق الكرامة.
ومنها كون المقتول مكلفا، هو شرط صحة الشهادة
في قول أبي حنيفة فلا يكون الصبي، والمجنون
شهيدين عنده، وعند أبي يوسف، ومحمد ليس بشرط،
ويلحقهما حكم الشهادة، وجه قولهما: أنه مقتول
ظلما ولم يخلف بدلا هو مال فكان شهيدا كالبالغ
العاقل، ولأن القتل ظلما لما، أوجب تطهير من
ليس بطاهر لارتكابه المعاصي والذنوب فلأن يوجب
تطهير من هو طاهر، أولى، ولأبي حنيفة أن النص،
ورد بسقوط الغسل في حقهم كرامة لهم فلا يجعل،
واردا فيمن لا يساويهم في استحقاق الكرامة.
وما ذكروا من معنى الطهارة غير سديد؛ لأن سقوط
الغسل غير مبني على الطهارة بدليل أن الأنبياء
صلوات الله عليهم غسلوا، ورسولنا سيد البشر
صلى الله عليه وسلم غسل، والأنبياء عليهم
الصلاة والسلام أطهر خلق الله تعالى: فلا، وجه
لتعليق ذلك بالتطهير مع أنه لا ذنب للصبي
يطهره السيف فكان القتل في حقه، والموت حتف
أنفه سواء، ومنها الطهارة عن الجنابة شرط في
قول أبي حنيفة، وعندهما ليس بشرط حتى لو قتل
جنبا لم يكن شهيدا عنده خلافا لهما، وجه
قولهما أن القتل على طريق الشهادة أقيم مقام
الغسل كالذكاة أقيمت مقام غسل العروق بدليل
أنه يرفع الحدث، ولأبي حنيفة ما روي "أن حنظلة
استشهد جنبا فغسلته الملائكة حتى قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما باله" فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهيعة فقال صلى الله
عليه وسلم: "لذلك غسلته
الملائكة" أشار إلى أن الجنابة علة الغسل، والمعنى فيه أن الشهادة عرفت
مانعة من حلول نجاسة الموت لا رافعة لنجاسته
كانت كالذكاة فإنها تمنع من حلول نجاسة الموت
فيما كان حلالا إما لا ترفع حرمة كانت ثابتة
وهذا؛ لأنها عرفت مانعة بخلاف القياس فلا تكون
رافعة؛ لأن المنع أدون من الرفع فأما الحدث
فإنما ترفعه ضرورة المنع؛ لأن الموت لا يخلو
عن الحدث إذ لا بد من زوال العقل سابقا على
الموت فيثبت الحدث لا محالة، والشهادة مانعة
من نجاسة الموت فلو لم يرتفع الحدث بالشهادة
لاحتيج إلى غسل أعضاء الطهارة فلم يظهر أثر
منع الشهادة حلول النجاسة فقلنا: إن الشهادة
ترفع ذلك الحدث لهذه الضرورة، ولا ضرورة في
الجنابة؛ لأنها لا توجد لا محالة لينعدم أثر
الشهادة بل توجد في الندرة فلم يرفع.
وأما الحائض، والنفساء إذا استشهدتا فإن كان
ذلك بعد انقطاع الدم، وطهارتهما قبل الاغتسال،
فالكلام فيهما وفي الجنب سواء، وإن كان قبل
انقطاع الدم فعن أبي حنيفة فيه روايتان: في
رواية يغسلان كالجنب
ج / 1 ص -323-
لوجود
شرط الاغتسال، وهو الحيض، والنفاس، وفي رواية
لا يغسلان؛ لأنه لم يكن، وجب بعد قبل الموت
قبل انقطاع الدم فلو، وجب وجب بالموت،
والاغتسال الذي يجب بالموت يسقط بالشهادة، ولا
تشترط الذكورة لصحة الشهادة بالإجماع؛ لأن
النساء مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن
فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهدا لهن
كالرجال، والله أعلم.
وإذا عرف شرائط الشهادة فنقول: إذا قتل الرجل
في المعركة، أو غيرها وهو يقاتل أهل الحرب، أو
قتل مدافعا عن نفسه، أو ماله، أو أهله، أو
واحد من المسلمين، أو أهل الذمة فهو شهيد سواء
قتل بسلاح، أو غيره؛ لاستجماع شرائط الشهادة
في حقه فالتحق بشهداء أحد، وكذلك إذا صار
مقتولا من جهة قطاع الطريق؛ لأنه قتل ظلما لم
يخلف بدلا هو مال دل عليه قوله: عليه الصلاة
والسلام "من قتل دون ماله فهو شهيد" ، وهذا قتل دون ماله فيكون شهيدا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم
وكذا إذا قتل في محاربة أهل البغي وعند
الشافعي يغسل في أحد قوليه؛ لأن على أحد قوليه
يجب القصاص على الباغي فهذا قتيل أخلف بدلا،
وهو القصاص، وهذا يمنع الشهادة عنده على ما
مر. ولنا ما روي عن عمار أنه لما استشهد بصفين
تحت راية علي رضي الله عنه فقال: لا تغسلوا
عني دما، ولا تنزعوا عني ثوبا فإني ألتقي
ومعاوية بالجادة، وكان قتيل أهل البغي على ما
قال النبي: صلى الله عليه وسلم "تقتلك الفئة
الباغية". وروي أن زيد بن صوحان لما استشهد
يوم الجمل فقال: لا تغسلوا عني دما، ولا
تنزعوا عني ثوبا فإني رجل محاج أحاج يوم
القيامة من قتلني، وعن علي رضي الله عنه أنه
كان لا يغسل من قتل من أصحابه؛ ولأنه في معنى
شهداء أحد؛ لأنه قتل قتلا تمحض ظلما، ولم يخلف
بدلا هو مال، ووجوب القصاص في قتل الباغي
ممنوع، وعليه إجماع الصحابة أن كل دم أريق
بتأويل القرآن فهو باطل وقتيل غير الباغي وإن
وجب عليه القصاص لكن ذلك أمارة تغلظ الجناية
على ما مر فلا يوجب قدحا في الشهادة، بخلاف
وجوب الدية. ولو وجد في المعركة فإن لم يكن به
أثر القتل من جراحة، أو خنق، أو ضرب، أو خروج
الدم لم يكن شهيدا؛ لأن المقتول إنما يفارق
الميت حتف أنفه بالأثر فإذا لم يكن به أثر
فالظاهر أنه لم يكن بفعل مضاف إلى العدو، بل
لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة
الفزع، وقد يبتلى الجبان بهذا فإن كان به أثر
القتل كان شهيدا؛ لأن الظاهر أن موته كان بذلك
السبب، وإنه كان من العدو، والأصل أن الحكم
متى ظهر عقيب سبب يحال عليه وإن كان الدم يخرج
من محارقه ينظر إن كان موضعا يخرج الدم منه من
غير آفة في الباطن كالأنف، والذكر، والدبر لم
يكن شهيدا؛ لأن المرء قد يبتلى بالرعاف، وقد
يبول دما لشدة الفزع، وقد يخرج الدم من الدبر
من غير جرح في الباطن فوقع الشك في سقوط الغسل
فلا يسقط بالشك.
وإن كان الدم يخرج من أذنه، أو عينه كان
شهيدا؛ لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين
عادة إلا لآفة في الباطن، فالظاهر أنه ضرب على
رأسه حتى خرج الدم من أذنه، أو عينه وإن كان
الدم يخرج من فمه، فإن كان ينزل من رأسه لم
يكن شهيدا؛ لأن ما ينزل من الرأس فنزوله من
جانب الفم، أو من جانب الأنف سواء، وإن كان
يعلو من جوفه كان شهيدا؛ لأن الدم لا يصعد من
الجوف إلا لجرح في الباطن، وإنما نميز بينهما
بلون الدم، والله أعلم.
ولو وجد في عسكر المسلمين فإن كانوا لقوا
العدو فهو شهيد، وليس فيه قسامة، ولا دية؛
لأنه قتيل العدو وظاهرا، كما لو وجد قتيلا في
المعركة، وإن كانوا لم يلقوا العدو، لم يكن
شهيدا؛ لأنه ليس قتيل العدو ألا ترى أن فيه
القسامة، والدية.
ولو وطئته دابة العدو، وهم راكبوها، أو
سائقوها، أو قائدوها فمات، أو نفر العدو
دابته، أو نخسها فألقته فمات، أو رماه العدو
بالنار فاحترق، أو كان المسلمون في سفينة
فرماهم العدو بالنار فاحترقوا، أو تعدى هذا
الحريق إلى سفينة أخرى فيها مسلمون فاحترقوا،
أو سيلوا عليهم الماء حتى غرقوا، أو ألقوهم في
الخندق، أو من السور بالطعن بالرمح، والدفع
حتى ماتوا، أو ألقوا عليهم الجدار كانوا
شهداء؛ لأن موتهم حصل بفعل مضاف إلى العدو
فيلحقهم حكم الشهادة.
ولو نفرت دابة مسلم من دابة العدو، أو من
سوادهم من غير تنفير منهم فألقته فمات، أو
انهزم المسلمون فألقوا أنفسهم في الخندق، أو
من السور حتى ماتوا لم يكونوا شهداء؛ لأن
موتهم غير مضاف إلى فعل العدو، وكذلك إذا حمل
على العدو فسقط عن فرسه، أو كان المسلمون
ينقبون عليهم الحائط فسقط عليهم فماتوا لم
يكونوا شهداء عند محمد خلافا لأبي يوسف، وأصل
محمد في الزيادات في
ج / 1 ص -324-
هذه
المسائل أصلا فقال: إذا صار مقتولا بفعل ينسب
إلى العدو كان شهيدا، وإلا فلا، والأصل عند
أبي يوسف أنه إذا صار مقتولا بعمل الحراب،
والقتال كان شهيدا، وإلا فلا سواء كان منسوبا
إلى العدو، أو لا، والأصل عند الحسن بن زياد
أنه إذا صار مقتولا بمباشرة العدو، بحيث لو
وجد ذلك القتل فيما بين المسلمين في دار
الإسلام لا يخلو عن وجوب قصاص، أو كفارة كان
شهيدا، وإذا صار مقتولا بالتسبب لم يكن شهيدا،
وجنس هذه المسائل في الزيادات.
"فصل": وأما حكم الشهادة في الدنيا فنقول: إن الشهيد كسائر الموتى في
أحكام الدنيا، وإنما يخالفهم في حكمين: أحدهما
أنه لا يغسل عند عامة العلماء. وقال الحسن
البصري: يغسل؛ لأن الغسل كرامة لبني آدم،
والشهيد يستحق الكرامة حسبما يستحقه غيره بل
أشد فكان الغسل في حقه أوجب، ولهذا يغسل
المرتث، ومن قتل بحق فكذا الشهيد؛ ولأن غسل
الميت، وجب تطهيرا له ألا ترى أنه إنما تجوز
الصلاة عليه بعد غسله لا قبله، والشهيد يصلى
عليه فيغسل أيضا تطهيرا له، وإنما لم تغسل
شهداء أحد تخفيفا على الأحياء لكون أكثر الناس
كان مجروحا لما أن ذلك اليوم كان يوم بلاء،
وتمحيص فلم يقدروا على غسلهم. "ولنا" ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قال: في
شهداء أحد: زملوهم بكلومهم، ودمائهم فإنهم
يبعثون يوم القيامة، وأوداجهم تشخب دما اللون
لون الدم، والريح ريح المسك" وفي بعض
الروايات "زملوهم بدمائهم، ولا تغسلوهم فإنه
ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا، وهو يأتي
يوم القيامة، وأوداجه تشخب دما اللون لون
الدم، والريح ريح المسك". وهذه الرواية أعم
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالغسل،
وبين المعنى، وهو أنهم يبعثون يوم القيامة،
وأوداجهم تشخب دما فلا يزال عنهم الدم بالغسل
ليكون شاهدا لهم يوم القيامة، وبه تبين أن ترك
غسل الشهيد من باب الكرامة له، وأن الشهادة
جعلت مانعة عن حلول نجاسة الموت، كما في شهداء
أحد وما ذكر من تعذر الغسل غير سديد لما بينا
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يزملوهم
بدمائهم، وبين المعنى، ولأن الجراحات التي
أصابتهم لما لم تكن مانعة لهم من الحفر،
والدفن، كيف صارت مانعة من الغسل ؟ وهو أيسر
من الحفر والدفن؛ ولأن ترك الغسل لو كان
للتعذر لأمر أن ييمموا، كما لو تعذر غسل الميت
في زماننا لعدم الماء، والدليل عليه أنه كما
لم تغسل شهداء أحد لم تغسل شهداء بدر،
والخندق، وخيبر وما ذكر من التعذر لم يكن
يومئذ، ولذا لم يغسل عثمان وعمار وكان
بالمسلمين قوة فدل أنهم فهموا من ترك الغسل
على قتلى أحد غير ما فهم الحسن.
والثاني أنه يكفن في ثيابه لقول النبي صلى
الله عليه وسلم
"زملوهم بدمائهم، وقد روي في ثيابهم" وروينا عن عمار، وزيد بن صوحان أنهما قالا: لا تنزعوا عني ثوبا
الحديث غير أنه ينزع عنه الجلد، والسلاح،
والفرو، والحشو، والخف، والمنطقة، والقلنسوة،
وعند الشافعي لا ينزع عنه شيء مما ذكرنا
لقوله: عليه الصلاة والسلام "زملوهم بثيابهم".
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال تنزع
عنه العمامة، والخفين، والقلنسوة وهذا؛ لأن ما
يترك يترك ليكون كفنا، والكفن ما يلبس للستر،
وهذه الأشياء تلبس إما للتجمل، والزينة، أو
لدفع البرد، أو لدفع معرة السلاح، ولا حاجة
للميت إلى شيء من ذلك فلم يكن شيء من ذلك
كفنا، وبه تبين أن المراد من قوله: صلى الله
عليه وسلم
"زملوهم بثيابهم"
الثياب التي يكفن بها، وتلبس للستر؛ ولأن هذا
عادة أهل الجاهلية فإنهم كانوا يدفنون أبطالهم
بما عليهم من الأسلحة، وقد نهينا عن التشبه
بهم، ويزيدون في أكفانهم ما شاءوا، وينقصون ما
شاءوا لما روي "أن حمزة رضي الله عنه كان عليه
نمرة لو غطي رأسه بها بدت رجلاه ولو غطيت بها
رجلاه بدا رأسه فأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يغطى بها رأسه، ويوضع على رجليه شيء
من الإذخر". وذاك زيادة في الكفن؛ ولأن
الزيادة على ما عليه حتى يبلغ عدد السنة من
باب الكمال فكان لهم ذلك، والنقصان من باب دفع
الضرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثياب
ما يضر تركه بالورثة فأما فيما سوى ذلك فهو
كغيره من الموتى وقال الشافعي: إنه لا يصلى
عليه، كما لا يغسل واحتج بما روي عن جابر "أن
النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى على أحد من
شهداء أحد" ؛ ولأن الصلاة على الميت شفاعة له،
ودعاء لتمحيص ذنوبه، والشهيد قد تطهر بصفة
الشهادة عن دنس الذنوب على ما قال النبي: صلى
الله عليه وسلم "السيف محاء للذنوب" فاستغني عن ذلك، كما استغني عن الغسل؛ ولأن الله تعالى: وصف
ج / 1 ص -325-
الشهداء بأنهم أحياء في كتابه، والصلاة على
الميت لا على الحي، ولنا ما روي "أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد صلاة
الجنازة" حتى روي "أنه صلى على حمزة سبعين
صلاة" وبعضهم أولوا ذلك بأنه كان يؤتى بواحد،
واحد فيصلي عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وحمزة رضي الله عنه بين يديه فظن الراوي
أنه كان يصلي على حمزة في كل مرة فروى أنه صلى
عليه سبعين صلاة، ويحتمل أنه كان ذلك على حسب
الرواية، وكان مخصوصا بتلك الكرامة، وما روي
عن جابر رضي الله عنه فغير صحيح، وقيل: إنه
كان يومئذ مشغولا فإنه قتل أبوه، وأخوه، وخاله
فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى
المدينة فلم يكن حاضرا حين صلى النبي صلى الله
عليه وسلم عليهم فلهذا روى ما روى، ومن شاهد
النبي صلى الله عليه وسلم قد روي أنه صلى
عليهم ثم سمع جابر منادي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن تدفن القتلى في مصارعهم فرجع
فدفنهم فيها؛ ولأن الصلاة على الميت لإظهار
كرامته، ولهذا اختص بها المسلمون دون الكفرة،
والشهيد، أولى بالكرامة، وما ذكر من حصول
الطهارة بالشهادة، فالعبد وإن جل قدره لا
يستغني عن الدعاء ألا ترى أنهم صلوا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن درجته كانت
فوق درجة الشهداء وإنما وصفهم بالحياة في حق
أحكام الآخرة ألا ترى إلى قوله تعالى:
{بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}،
فأما في حق أحكام الدنيا فالشهيد ميت يقسم
ماله، وتنكح امرأته بعد انقضاء العدة، ووجوب
الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان ميتا فيه
فيصلى عليه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله كتاب
الزكاة |