بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                      "كتاب اللعان":
الكلام في اللعان يقع في مواضع: في بيان صورة اللعان وكيفيته, وفي بيان صفة اللعان, وفي بيان سبب وجوبه, وفي بيان شرائط الوجوب والجواز, وفي بيان ما يظهر به سبب الوجوب عند القاضي, وفي بيان معنى اللعان وماهيته شرعا, وفي بيان حكم اللعان, وفي بيان ما يسقط اللعان بعد وجوبه, وفي بيان حكمه إذا سقط أو لم يجب أصلا مع وجود القذف. "أما". صورة اللعان وكيفيته فالقذف لا يخلو إما أن يكون بالزنا أو بنفي الولد. فإن كان بالزنا فينبغي للقاضي أن يقيمهما بين يديه متماثلين فيأمر الزوج أولا أن يقول أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا, ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا, ثم يأمر المرأة أن تقول أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا, وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا. هكذا ذكر في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحتاج إلى لفظ المواجهة فيقول الزوج: فيما رميتك به من الزنا وتقول المرأة: فيما رميتني به من الزنا وهو قول زفر ووجهه أن خطاب المعاينة فيه احتمال؛ لأنه يحتملها ويحتمل غيرها ولا احتمال في خطاب المواجهة فالإتيان بلفظ لا احتمال فيه أولى والجواب أنه لما قال: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وأشار إليها فقد زال الاحتمال لتعيينها بالإشارة فكان لفظ المواجهة والمعاينة فيه سواء, وإن كان اللعان بنفي الولد فقد ذكر الكرخي أن الزوج يقول في كل مرة: فيما رميتك به من نفي ولدك, وتقول المرأة: فيما رميتني به من نفي ولدي. وذكر الطحاوي أن الزوج يقول في كل مرة: فيما رميتها به من الزنا في نفي ولدها, وتقول المرأة: فيما رماني به من الزنا في نفي ولده. وروى هشام عن محمد أنه قال: إذا لاعن الرجل بولد فقال في اللعان: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا في نفي ولدها بأن هذا الولد ليس مني, وتقول المرأة: أشهد بالله إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا بأن هذا الولد ليس منك. وذكر ابن سماعة عن محمد في نوادره أنه قال إذا نفى الولد يشهد بالله الذي لا إله إلا هو إنه لصادق فيما رماها به من الزنا ونفي هذا الولد قال القدوري: وهذا ليس باختلاف رواية وإنما هو اختلاف حال القذف فإن كان القذف من الزوج بقوله: هذا الولد ليس مني يكفي في اللعان أن يقول: فيما رميتك به من نفي الولد؛ لأنه ما قذفها إلا بنفي الولد وإن كان القذف بالزنا ونفي الولد لا بد من ذكر الأمرين؛ لأنه قذفها بالأمرين جميعا وإنما بدئ بالرجل لقوله سبحانه وتعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} والفاء للتعقيب فيقتضي أن يكون لعان الزوج عقيب القذف فيقع لعان المرأة بعد لعانه. وكذا روي أنه لما نزلت آية اللعان وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجري اللعان على ذينك الزوجين بدأ بلعان الرجل وهو قدوة؛ لأن لعان الزوج وجب حقا لها؛ لأن الزوج ألحق بها العار بالقذف فهي بمطالبتها إياه باللعان تدفع العار عن نفسها ودفع العار عن نفسها حقها وصاحب الحق إذا طالب من عليه الحق بإيفاء حقه لا يجوز له التأخير كمن عليه الدين فإن أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة ثم بالرجل ينبغي له أن يعيد اللعان على المرأة؛ لأن اللعان شهادة والمرأة بشهادتها تقدح في شهادة الزوج فلا يصح قبل وجود شهادته؛ ولهذا في باب الدعاوى يبدأ بشهادة المدعي ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له كذا ههنا فإن لم يعد لعانها حتى فرق بينهما نفذت الفرقة؛ لأن تفريقه صادف محل الاجتهاد؛ لأنه يزعم أن اللعان ليس بشهادة بل هو يمين ويجوز تقديم

 

ج / 3 ص -238-       إحدى اليمينين على الأخرى كتحالف المتداعيين أنه لا يلزم مراعاة الترتيب فيه بل يجوز تقديم أحدهما أيهما كان فكان تفريقه في موضع الاجتهاد فنفذ والقيام ليس بشرط كذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لا يضره قائما لاعن أو قاعدا؛ لأن اللعان إما أن يعتبر فيه معنى الشهادة وأما أن يعتبر فيه معنى اليمين أو يعتبر فيه المعنيان جميعا, والقيام ليس بلازم فيهما إلا أنه يندب إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب عاصما وامرأته إليه فقال: "يا عاصم قم فاشهد بالله وقال لامرأته: قومي فاشهدي بالله"؛ ولأن اللعان من جانبه قائم مقام حد القذف ومن جانبها قائم مقام حد الزنا والسنة في الحدود إقامتها على الإشهاد والإعلان والقيام أقرب إلى ذلك والله الموفق.

"فصل":
وأما صفة اللعان فله صفات منها أنه واجب عندنا, وقال الشافعي: ليس بواجب إنما الواجب على الزوج بقذفها هو الحد إلا أن له أن يخلص نفسه عنه بالبينة أو باللعان. والواجب على المرأة إذا لاعن الزوج هو حد الزنا ولها أن تخلص نفسها عنه باللعان حتى أن للمرأة أن تخاصمه إلى الحاكم وتطالبه باللعان عندنا, وإذا طالبته يجبره عليه, ولو امتنع يحبس لامتناعه عن الواجب عليه كالممتنع من قضاء الدين فيحبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه وعنده ليس لها ولاية المطالبة باللعان ولا يجبر عليه ولا يحبس إذا امتنع بل يقام عليه الحد. وكذا إذا التعن الرجل تجبر المرأة على اللعان ولو امتنعت تحبس حتى تلاعن أو تقر بالزنا عندنا, وعنده لا تجبر ولا تحبس بل يقام عليها الحد احتج الشافعي بقوله عز وجل: {
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أوجب سبحانه وتعالى الجلد على القاذف من غير فصل بين الزوج وغيره إلا أن القاذف إذا كان زوجا له أن يدفع الحد عن نفسه بالبينة إن كانت له بينة, وإن لم تكن له بينة يدفعه باللعان فكان اللعان مخلصا له عن الحد. وقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} جعل سبحانه وتعالى لعانها دفعا لحد الزنا عنها إذ الدرء هو الدفع لغة فدل أن الحد وجب عليها بلعانه ثم تدفعه بلعانها ولأن بلعانه يظهر صدقه في القذف؛ لأن الظاهر أنه لا يلاعن إلا وأن يكون صادقا في قذفه فيجب عليها الحد إلا أن لها أن تخلص نفسها عنه باللعان؛ لأنها إذا لاعنت وقع التعارض فلا يظهر صدق الزوج في القذف فلا يقام عليها الحد. "ولنا" قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} أي فليشهد أحدهم أربع شهادات بالله جعل سبحانه وتعالى موجب قذف الزوجات اللعان فمن أوجب الحد فقد خالف النص ولأن الحد إنما يجب لظهور كذبه في القذف وبالامتناع من اللعان لا يظهر كذبه إذ ليس كل من امتنع من الشهادة أو اليمين يظهر كذبه فيه بل يحتمل أنه امتنع منه صونا لنفسه عن اللعن والغضب والحد لا يجب مع الشبهة فكيف يجب مع الاحتمال؛ ولأن الاحتمال من اليمين بدل وإباحة والإباحة لا تجري في الحدود فإن من أباح للحاكم أن يقيم عليه الحد لا يجوز له أن يقيم. وأما آية القذف فقد قيل أن موجب القذف في الابتداء كان هو الحد في الأجنبيات والزوجات جميعا ثم نسخ في الزوجات وجعل موجب قذفهن اللعان بآية اللعان, والدليل عليه ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "كنا جلوسا في المسجد ليلة الجمعة فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله, أرأيتم الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن قتله قتلتموه وإن تكلم به جلدتموه وإن أمسك أمسك على غيظ ثم جعل يقول: اللهم افتح "فنزلت آية اللعان دل قوله: "وإن تكلم به جلدتموه" على أن موجب قذف الزوجة كان الحد قبل نزول آية اللعان ثم نسخ في الزوجات بآية اللعان فينسخ الخاص المتأخر العام المتقدم بقدره هكذا هو مذهب عامة مشايخنا, وعند الشافعي يبنى العام على الخاص ويتبين أن المراد من العام ما وراء قدر الخاص سواء كان الخاص سابقا أو لاحقا وسواء علم التاريخ وبينهما زمان يصلح للنسخ أو لا يصلح, أو جهل التاريخ بينهما فلم تكن الزوجات داخلات تحت آية القذف على قوله فكيف يصح احتجاجه بها ؟. وأما قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} فلا حجة له فيه؛ لأن دفع العذاب يقتضي توجه العذاب لا وجوبه؛ لأنه حينئذ يكون رفعا لا دفعا على أنه يحتمل أن يكون المراد من العذاب هو الحبس إذ الحبس يسمى عذابا قال الله تعالى في قصة الهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قيل في التفسير لأحبسنه وهذا؛ لأن العذاب ينبئ عن معنى المنع

 

ج / 3 ص -239-       في اللغة يقال: أعذب أي منع وأعذب أي امتنع يستعمل لازما ومتعديا ومعنى المنع يوجد في الحبس وهذا هو مذهبنا أنها إذا امتنعت من اللعان تحبس حتى تلاعن أو تقر بالزنا فيدرأ عنها العذاب وهو الحبس باللعان فإذا قلنا بموجب الآية الكريمة ومنها أنه لا يحتمل العفو والإبراء والصلح؛ لأنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف وفي جانبها قائم مقام حد الزنا وكل واحد منهما لا يحتمل العفو والإبراء والصلح؛ لما نذكر إن شاء الله تعالى في الحدود. وكذا لو عفت عنه قبل المرافعة أو صالحته على مال لم يصح وعليها رد بدل الصلح ولها أن تطالبه باللعان بعد ذلك كما في قذف الأجنبي ومنها أن لا تجرى فيه النيابة حتى لو وكل أحد الزوجين باللعان لا يصح التوكيل لما ذكرنا أنه بمنزلة الحد فلا يحتمل النيابة كسائر الحدود؛ ولأنه شهادة أو يمين وكل واحد منهما لا يحتمل النيابة فأما التوكيل بإثبات القذف بالبينة فجائز عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف لا يجوز ونذكر المسألة في كتاب الوكالة إن شاء الله تعالى.

                                                          "فصل":
وأما بيان سبب وجوب اللعان فسبب وجوبه القذف بالزنا وأنه نوعان: أحدهما بغير نفي الولد, والثاني بنفي الولد أما الذي بغير نفي الولد فهو أن يقول: لامرأته يا زانية أو زنيت أو رأيتك تزنين. ولو قال لها: جومعت جماعا حراما أو وطئت وطئا حراما فلا لعان ولا حد لعدم القذف بالزنا. ولو قذفها بعمل قوم لوط فلا لعان ولا حد في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يجب اللعان بناء على أن هذا الفعل ليس بزنا عنده فلم يوجب القذف بالزنا وعندهما هو زنا. والمسألة تأتي في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى ولو كان له أربع نسوة فقذفهن جميعا بالزنا في كلام واحد أو قذف كل واحدة بالزنا بكلام على حدة فإن كان الزوج وهن من أهل اللعان يلاعن في كل قذف مع كل واحدة على حدة لوجود سبب وجوب اللعان في حق كل واحدة منهن وهو القذف بالزنا, وإن لم يكن الزوج من أهل اللعان يحد حد القذف ويكتفى بحد واحد عن الكل؛ لأن حد القذف يتداخل. ولو كان الزوج من أهل اللعان والبعض منهن ليس من أهل اللعان يلاعن منهن من كانت من أهل اللعان لا غير. ولو قال لامرأته: يا زانية بنت الزانية وجب عليه اللعان والحد؛ لأنه قذف زوجته وقذف أمها وقذف الزوجة يوجب اللعان وقذف الأجنبية يوجب الحد ثم إنهما إذا اجتمعا على مطالبة الحد بدئ بالحد لأجل الأم؛ لأن في البداية إسقاط اللعان؛ لأنه يصير محدودا في القذف فلم يبق من أهل الشهادة واللعان شهادة والأصل أن الحدين إذا اجتمعا وفي البداية بأحدهما إسقاط الآخر بدئ بما فيه إسقاط الآخر لقوله صلى الله عليه وسلم
"ادرءوا الحدود ما استطعتم" وقد استطعنا درء الحد بهذا الطريق وإن لم تطالبه الأم وطالبته المرأة يلاعن بينهما ويقام حد القذف للأم بعد ذلك إن طالبته به كذا ذكر في ظاهر الرواية. وذكر الطحاوي أنه لا يقام الحد للأم بعد اللعان وهذا غير سديد؛ لأن المانع من إقامة اللعان في المسألة الأولى هو خروج الزوج من أهلية اللعان لصيرورته محدودا في القذف ولم يوجد ههنا, وكذلك لو كانت أمها ميتة فقال لها: يا زانية بنت الزانية كان لها المطالبة والخصومة في القذفين لوجوب اللعان والحد ثم إن خاصمته في القذفين جميعا يبدأ بالحد فيحد للأم حد القذف لما فيه من إسقاط اللعان, وإن لم تخاصم في قذف أمها ولكنها خاصمت في قذف نفسها يلاعن بينهما ويحد للأم لما ذكرنا, وكذلك الرجل إذا قذف أجنبية بالزنا ثم تزوجها وقذفها بالزنا بعد التزوج وجب عليه الحد واللعان لوجود سبب وجوب كل واحد منهما ثم إن خاصمته في القذفين جميعا يبدأ بحد القذف حتى يسقط اللعان ولو لم تخاصم في حد القذف وخاصمت في اللعان يلاعن بينهما ثم إذا خاصمت في الحد يحد لما قلنا والله أعلم وأما الذي ينفي الولد فهو أن يقول لامرأته: هذا الولد من الزنا, أو يقول: هذا الولد ليس مني فإن قيل: قوله هذا الولد ليس مني لا يكون قذفا لها بالزنا لجواز أن لا يكون ابنه بل يكون ابن غيره ولا تكون هي زانية بأن كانت وطئت بشبهة فالجواب نعم هذا الاحتمال ثابت لكنه ساقط الاعتبار بالإجماع؛ لأن الأمة أجمعت على أنه إن نفاه عن الأب المشهور بأن قال له: لست بأبيك يكون قاذفا لأمه حتى يلزمه حد القذف مع وجود هذا الاحتمال ولو جاءت زوجته بولد فقال لها: لم تلديه لم يجب اللعان لعدم القذف؛ لأنه أنكر الولادة, وإنكار الولادة لا يكون قذفا فإن أقر بالولادة أو شهدت القابلة على

 

ج / 3 ص -240-       الولادة ثم قال بعد ذلك: ليس بابني وجب اللعان لوجود القذف. ولو قال لامرأته وهي حامل: ليس هذا الحمل مني لم يجب اللعان في قول أبي حنيفة؛ لعدم القذف بنفي الولد, وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت القذف وجب اللعان وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يجب. وجه قولهما أنها إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت القذف فقد تيقنا بوجوده في البطن وقت القذف ولهذا لو أوصى لحمل امرأته فجاءت به لأقل من ستة أشهر استحق الوصية, وإذا تيقنا بوجوده وقت النفي كان محتملا للنفي إذ الحمل تتعلق به الأحكام, فإن الجارية ترد على بائعها ويجب للمعتدة النفقة لأجل حملها فإذا نفاه يلاعن فإذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر فلم تتيقن بوجوده عند القذف لاحتمال أنه حادث ولهذا لا تستحق الوصية ولأبي حنيفة أن القذف بالحمل لو صح إما أن يصح باعتبار الحال أو باعتبار الثاني لا وجه للأول؛ لأنه لا يعلم وجوده للحال لجواز أنه ريح لا حمل ولا سبيل إلى الثاني؛ لأنه يصير في معنى التعليق بالشرط كأنه قال: إن كنت حاملا فأنت زانية والقذف لا يحتمل التعليق بالشرط بخلاف الرد بعيب الحبل؛ لأنه يمكن القول بالرد على اعتبار الحال لوجود العيب ظاهرا, واحتمال الريح خلاف الظاهر فلا يورث إلا شبهة والرد بالعيب لا يمتنع بالشبهات بخلاف القذف, والنفقة لا يختص وجوبها بالحمل عندنا فإنها تجب لغير الحامل, ولا يقطع نسب الحمل قبل الولادة بلا خلاف بين أصحابنا أما عند أبي حنيفة فظاهر؛ لأنه لا يلاعن وقطع النسب من أحكام اللعان. "وأما" عندهما فلأن الأحكام إنما تثبت للولد لا للحمل وإنما يستحق اسم الولد بالانفصال ولهذا لا يستحق الميراث والوصية إلا بعد الانفصال, وعند الشافعي يلاعن ويقطع نسب الحمل واحتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين هلال بن أمية وبين امرأته وهي حامل وألحق الولد بها فدل أن القذف بالحمل يوجب اللعان وقطع نسب الحمل ولا حجة له فيه؛ لأن هلالا لم يقذفها بالحمل بل بصريح الزنا وذكر الحمل وبه نقول أن من قال لزوجته: زنيت وأنت حامل يلاعن؛ لأنه لم يعلق القذف بالشرط "وأما" قطع النسب فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم من طريق الوحي أن هناك ولدا. ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن جاءت به على صفة كذا فهو لكذا وإن جاءت به على صفة كذا فهو لكذا" ولا يعلم ذلك إلا بالوحي ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك فلا ينفى الولد والله الموفق.

                                                                "فصل":
وأما شرائط وجوب اللعان وجوازه فأنواع: بعضها يرجع إلى القاذف خاصة, وبعضها يرجع إلى المقذوف خاصة, وبعضها يرجع إليهما جميعا, وبعضها يرجع إلى المقذوف به, وبعضها يرجع إلى المقذوف فيه, وبعضها يرجع إلى نفس القذف. أما الذي يرجع إلى القاذف خاصة فواحد وهو عدم إقامة البينة؛ لأن الله تعالى شرط ذلك في آية اللعان بقوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية حتى لو أقام أربعة من الشهود على المرأة بالزنا لا يثبت اللعان ويقام عليها حد الزنا؛ لأنه قد ظهر زناها بشهادة الشهود ولو شهد أربعة أحدهم الزوج فإن لم يكن من الزوج قذف قبل ذلك تقبل شهادتهم ويقام عليها الحد عندنا, وعند الشافعي لا تقبل شهادة الزوج عليها. وجه قول الشافعي أن الزوج متهم في شهادته لاحتمال أنه حمله الغيظ على ذلك ولا شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه يدفع المغرم عن نفسه وهو اللعان ولا شهادة لدافع المغرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولنا" أن شهادته بالقبول أولى من شهادة الأجنبي؛ لأنها أبعد من التهمة إذ العادة أن الرجل يستر على امرأته ما يلحقه به شين فلم يكن متهما في شهادته فتقبل كشهادة الوالد على ولده, وقوله إنه يدفع المغرم عن نفسه بهذه الشهادة ممنوع فإنه لم يسبق منه قذف يوجب اللعان فإنه لم يسبق هذه الشهادة قذف ليدفع اللعان بها فصار كشهادة الأجنبي فإنها تقبل ولا يجعل دافعا للحد عن نفسه كذا هذا, وإن كان الزوج قذفها أولا ثم جاء بثلاثة سواه فشهدوا فهم قذفة يحدون وعلى الزوج اللعان؛ لأنه لما سبق منه القذف فقد وجب عليه اللعان فهو بشهادته جعل دافعا للضرر عن نفسه فلا تقبل شهادته والزنا لا يثبت بشهادة ثلاثة فصار قذفة فيحدون حد القذف, ويلاعن الزوج لقذف زوجته فإن جاء هو وثلاثة شهدوا أنها قد زنت فلم يعدلوا فلا

 

ج / 3 ص -241-       حد عليها؛ لأن زناها لم يثبت إلا بشهادة الفساق ولا حد عليهم؛ لأن الفاسق من أهل الشهادة. ألا ترى أن الله تعالى أمر بالتوفيق في بيانه؟ فقد وجد إتيان أربعة شهداء فكيف يجب عليهم الحد؟ ولا لعان على الزوج؛ لأنه شاهد وليس بقاذف فإن شهدوا معه ثلاثة عمي حد وحدوا أي يلاعن الزوج ويحدون في القذف؛ لأن العميان لا شهادة لهم قطعا فلم يكن قولهم حجة أصلا فكانوا قذفة فيحدون حد القذف ويلاعن الزوج؛ لأن قذف الزوج يوجب اللعان إذا لم يأت بأربعة شهداء ولم يأت بهم. وأما الذي يرجع إلى المقذوف خاصة فشيئان: أحدهما إنكارها وجود الزنا منها حتى لو أقرت بذلك لا يجب اللعان ويلزمها حد الزنا وهو الجلد إن كانت غير محصنة والرجم إن كانت محصنة لظهور زناها بإقرارها, والثاني عفتها عن الزنا فإن لم تكن عفيفة لا يجب اللعان بقذفها كما لا يجب الحد في قذف الأجنبية إذا لم تكن عفيفة؛ لأنه إذا لم تكن عفيفة فقد صدقته بفعلها فصار كما لو صدقته بقولها ولما نذكر في كتاب الحدود ونذكر تفسير العفة عن الزنا فيه إن شاء الله تعالى. وعلى هذا قالوا في المرأة إذا وطئت بشبهة ثم قذفها زوجها لا يجب عليه اللعان ولو قذفها أجنبي لا يجب عليه الحد؛ لأنها وطئت وطئا حراما فذهبت عفتها, ثم رجع أبو يوسف وقال: يجب بقذفها الحد واللعان؛ لأن هذا وطء يتعلق به ثبوت النسب ووجوب المهر فكان كالموجود في النكاح فلا يزيل العفة عن الزنا. والجواب أن الوطء حرام لعدم النكاح إنما الموجود شبهة النكاح فكان ينبغي أن يجب الحد عليها إلا أنه سقط للشبهة فلأن يسقط الحد واللعان عن القاذف لمكان الحقيقة أولى. وأما الذي يرجع إليهما جميعا فهو أن يكونا زوجين حرين عاقلين بالغين مسلمين ناطقين غير محدودين في القذف أما اعتبار الزوجية فلأن الله تبارك وتعالى خص اللعان بالأزواج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وأنه حكم ثبت تعبدا غير معقول المعنى فيقتصر على مورد التعبد وإنما ورد التعبد به في الأزواج فيقتصر عليهم وعلى هذا قال أصحابنا: إن من تزوج امرأة نكاحا فاسدا ثم قذفها لم يلاعنها لعدم الزوجية إذ النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة, وقال الشافعي: يلاعنها إذا كان القذف بنفي الولد؛ لأن القذف إذا كان بنفي الولد تقع الحاجة إلى قطع النسب والنسب يثبت بالنكاح الفاسد كما يثبت بالنكاح الصحيح فيشرع اللعان لقطع النسب والجواب أن قطع النسب يكون بعد الفراغ من اللعان ولا لعان إلا بعد وجوبه ولا وجوب لعدم شرطه وهو الزوجية. ولو طلق امرأته طلاقا بائنا أو ثلاثا ثم قذفها بالزنا لا يجب اللعان لعدم الزوجية لبطلانها بالإبانة والثلاث, ولو طلقها طلاقا رجعيا ثم قذفها يجب اللعان؛ لأن الطلاق الرجعي لا يبطل الزوجية ولو قذف امرأته بزنى كان قبل الزوجية فعليه اللعان عندنا, وعند الشافعي عليه حد القذف واحتج بآية القذف وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}, "ولنا" آية اللعان وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} من غير فضل بين ما إذا كان القذف بزنا بعد الزوجية أو قبلها والدليل على أنه قذف زوجته أنه أضاف القذف إليها وهي للحال زوجته إلا أنه قذفها بزنى متقدم وبهذا لا تخرج من أن تكون زوجته في الحال كما إذا قذف أجنبية بزنا متقدم حتى يلزمه القذف كذا ههنا. وأما آية القذف فهي متقدمة على آية اللعان فيجب تخريجها على التناسخ فينسخ الخاص المتأخر العام المتقدم بقدره عند عامة مشايخنا وعنده يقضي العام على الخاص بطريق التخصيص على ما مر ولو قذف امرأته بعد موتها لم يلاعن عندنا, وعند الشافعي يلاعن على قبرها واحتج بظاهر قوله عز وجل في آية اللعان: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} من غير فصل بين حال الحياة والموت. "ولنا" قوله عز وجل: {والذين يرمون أزواجهم} الآية خص سبحانه وتعالى اللعان بالأزواج وقد زالت الزوجية بالموت فلم يوجد قذف الزوجة فلا يجب اللعان وبه تبين أن الميتة لم تدخل تحت الآية؛ لأن الله تعالى أوجب هذه الشهادة بقذف الأزواج بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وبعد الموت لم تبق زوجة له. وأما اعتبار الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والنطق وعدم الحد في القذف فالكلام في اعتبار هذه الأوصاف شرطا لوجوب اللعان فرع الكلام في معنى اللعان وما يثبته شرعا وقد اختلف فيه قال أصحابنا: إن اللعان شهادة مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن

 

ج / 3 ص -242-       وبالغضب وإنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف وفي جانبها قائم مقام حد الزنا, وقال الشافعي: اللعان أيمان بلفظ الشهادة مقرونة باللعن والغضب فكل من كان من أهل الشهادة واليمين كان من أهل اللعان ومن لا فلا عندنا, وكل من كان من أهل اليمين فهو من أهل اللعان عنده سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن, ومن لم يكن من أهل الشهادة واليمين كان من أهل اللعان احتج الشافعي بقوله تعالى في تفسير اللعان: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فسر الله تعالى اللعان بالشهادة بالله والشهادة بالله يمين. ألا ترى أن من قال: أشهد بالله يكون يمينا إلا أنه يمين بلفظ الشهادة؛ ولأن اللعان لو كان شهادة لما قرنه بذكر اسم الله تعالى؛ لأن الشهادة لا تفتقر إلى ذلك وإنما اليمين هي التي تفتقر إليه؛ ولأنه لو كان شهادة لكانت شهادة على النصف من شهادة الرجل كما في سائر المواضع التي للمرأة فيها شهادة فينبغي أن تشهد المرأة عشر مرات فلما لم يكن ذلك دل أنه ليس بشهادة والدليل على أنه يمين ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرق بين المتلاعنين وكانت المرأة حبلى فقال لها: "إذا ولدت ولدا فلا ترضعيه حتى تأتيني به فلما انصرفوا عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ولدته أحمر مثل الدبس فهو يشبه أباه الذي نفاه, وإن ولدته أسود أدعج جعدا قططا فهو يشبه الذي رميت به فلما وضعت وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليه فإذا هو أسود أدعج جعد قطط على ما نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان التي سبقت لكان لي فيها رأي" وفي بعض الروايات "لكان لي ولها شأن" فقد سمى صلى الله عليه وسلم اللعان أيمانا لا شهادة فدل أنه يمين لا شهادة. "ولنا" قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} والاستدلال بالآية الكريمة من وجهين أحدهما أنه تعالى سمى الذين يرمون أزواجهم شهداء؛ لأنه استثناء من الشهداء بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} والمستثنى من جنس المستثنى منه, والثاني أنه سمى اللعان شهادة نصا بقوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} والخامسة أي الشهادة الخامسة وقال تعالى في جانبها: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} والخامسة أي الشهادة الخامسة إلا أنه تعالى سماه شهادة بالله تأكيدا للشهادة باليمين, فقوله أشهد يكون شهادة وقوله بالله يكون يمينا وهذا مذهبنا أنه شهادات مؤكدة بالأيمان وهو أولى مما قاله المخالف لأنه عمل باللفظين في معنيين وفيما قاله حمل اللفظين على معنى واحد فكان ما قلناه أولى والدليل على أنه شهادة أنه شرط فيه لفظ الشهادة وحضرة الحاكم. وأما قوله لو كان شهادة لكان في حق المرأة على النصف من شهادة الرجل فنقول هو شهادة مؤكدة باليمين فيراعى فيه معنى الشهادة ومعنى اليمين وقد راعينا معنى الشهادة فيه باشتراط لفظة الشهادة فيراعى معنى اليمين بالتسوية بين الرجل والمرأة في العدد عملا بالشبهين جميعا ولا حجة له في الحديث؛ لأنه روي في بعض الروايات لولا ما مضى من الشهادات وهذا حجة عليه حيث سماه شهادة نقول بموجبه أنه يمين لكن هذا لا ينفي أن يكون شهادة فهو شهادة مؤكدة باليمين والله تعالى الموفق. وإذا عرف هذا الأصل تخرج عليه المسائل, أما اعتبار العقل والبلوغ فلأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الشهادة واليمين فلا يكونان من أهل اللعان بالإجماع وأما الحرية فالمملوك ليس من أهل الشهادة فلا يكون من أهل اللعان بالإجماع وأما الإسلام فالكافر ليس من أهل الشهادة على المسلم وإن كان المسلم من أهل الشهادة على الكافر. وإذا كانا كافرين فالكافر وإن كان من أهل الشهادة على الكافر فليس من أهل اليمين بالله تعالى؛ لأنه ليس من أهل حكمها وهو الكفارة ولهذا لم يصح ظهار الذمي عندنا, واللعان عندنا شهادات مؤكدة بالأيمان فمن لا يكون من أهل اليمين لا يكون من أهل اللعان. وأما اعتبار النطق فلأن الأخرس لا شهادة له؛ لأنه لا يتأتى منه لفظة الشهادة؛ ولأن القذف منه لا يكون إلا بالإشارة, والقذف بالإشارة يكون في معنى القذف بالكتابة وإنه لا يوجب اللعان كما لا يوجب الحد لما نذكره في الحدود إن شاء الله تعالى. وأما المحدود في القذف فلا شهادة له؛ لأن الله تعالى رد شهادته على التأبيد ولا يلزم على هذا الأصل قذف الفاسق والأعمى فإنه يوجب اللعان ولا شهادة لهما؛ لأن الفاسق له شهادة في الجملة ولهما جميعا أهلية الشهادة. ألا ترى أن القاضي لو قضى بشهادتهما جاز قضاؤه ومعلوم

 

ج / 3 ص -243-       أنه لا يجوز القضاء بشهادة من ليس من أهل الشهادة كالصبي والمجنون والمملوك إلا أنه لا تقبل شهادة الأعمى في سائر المواضع؛ لأنه لا يميز بين المشهود له والمشهود عليه لا لأنه ليس من أهل الشهادة, ثم هذه الشرائط كما هي شرط وجوب اللعان فهي شرط صحة اللعان وجوازه حتى لا يجري اللعان بدونها, وعند الشافعي يجري اللعان بين المملوكين والأخرسين والمحدودين في القذف؛ لأن هؤلاء من أهل اليمين فكانوا من أهل اللعان وكذا بين الكافرين؛ لأن يمين الكافر صحيحة عنده لا من أهل الإعتاق والكسوة والإطعام ولهذا قال يجوز ظهار الذمي وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما إذا التعنا عند الحاكم ولم يفرق بينهما حتى عزل أو مات فالحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما؛ لأن اللعان لما كان شهادة فالشهود إذا شهدوا عند الحاكم فمات أو عزل قبل القضاء بشهادتهم لم يعتد الحاكم بتلك الشهادة, وعند محمد لا يستقبل اللعان. وقوله لا يخرج على هذا الأصل ولكن الوجه له أن اللعان قائم مقام الحد فإذا التعنا فكأنه أقيم الحد, والحد بعد إقامته لا يؤثر فيه العزل والموت والجواب أن حكم القذف لا يتناهى إلا بالتفريق فيؤثر العزل والموت قبله, ثم ابتداء الدليل لنا في المسألة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم: لا لعان بين المسلم والكافر, والعبد والحرة, والحر والأمة والكافر والمسلمة" وصورته الكافر أسلمت زوجته فقبل أن يعرض الإسلام على زوجها قذفها بالزنا. "ولنا" أصل آخر لتخريج المسائل عليه وهو أن كل قذف لا يوجب الحد لو كان القاذف أجنبيا لا يوجب اللعان إذا كان القاذف زوجا؛ لأن اللعان موجب القذف في حق الزوج كما أن الحد موجب القذف في الأجنبي وقذف واحد ممن ذكرنا لا يوجب الحد ولو كان أجنبيا فإذا كان زوجا لا يوجب اللعان. وابتداء ما يحتج به الشافعي عموم آية اللعان إلا من خص بدليل ولا حجة له فيها؛ لأن الله تعالى سمى الذين يرمون أزواجهم شهداء في آية اللعان واستثناهم من الشهداء المذكورين في آية القذف ولم يدخل واحد ممن ذكرنا في المستثنى منهم فكذا في المستثنى؛ لأن الاستثناء استخراج من تلك الجملة وتحصيل منها, "وأما" الذي يرجع إلى المقذوف به والمقذوف فيه ونفس القذف فنذكره في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

                                                           "فصل":
 وأما بيان ما يظهر به سبب وجوب اللعان وهو القذف عند القاضي فسبب ظهور القذف نوعان: أحدهما البينة إذا خاصمت المرأة فأنكر القذف والأفضل أن تترك الخصومة والمطالبة لما فيها من إشاعة الفاحشة وكذا تركها من باب الفضل والإكرام وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فإن لم تترك وخاصمته إلى القاضي يستحسن للقاضي أن يدعوهما إلى الترك فيقول لها: اتركي وأعرضي عن هذا؛ لأنه دعاء إلى ستر الفاحشة وأنه مندوب إليه فإن تركت وانصرفت ثم بدا لها أن تخاصمه فلها ذلك وإن تقادم العهد؛ لأن ذلك حقها وحق العبد لا يسقط بالتقادم فإن خاصمته وادعت عليه أنه قذفها بالزنا فجحد الزوج لا يقبل منها في إثبات القذف إلا بشهادة رجلين عدلين. ولا تقبل شهادة النساء, ولا الشهادة على الشهادة, ولا كتاب القاضي إلى القاضي كما لا يقبل في إثبات القذف على الأجنبي؛ لأن اللعان قائم مقام حد القذف وأسباب الحدود, ولا يقبل في إثباتها شهادة النساء على النساء ولا الشهادة على الشهادة ولا كتاب القاضي إلى القاضي لتمكن زيادة شبهة ليست في غيرها والحدود تدرأ بالشبهات, والثاني الإقرار بالقذف وشرط ظهور القذف بالبينة, والإقرار هو الخصومة والدعوى لما نذكر في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

                                                         "فصل":
وأما بيان ما يسقط اللعان بعد وجوبه وبيان حكمه إذا سقط أو لم يجب أصلا فنقول وبالله التوفيق: كل ما يمنع وجوب اللعان إذا اعترض بعد وجوبه يسقط كما إذا جنا بعد القذف أو جن أحدهما, أو ارتدا أو ارتد أحدهما, أو خرسا أو خرس أحدهما, أو قذف أحدهما إنسانا فحد حد القذف أو وطئت المرأة وطئا حراما فلا يجب عليه الحد وكذا إذا أبانها بعد القذف فلا حد ولا لعان أما عدم وجوب الحد فلأن القذف أوجب اللعان فلا يوجب الحد. "وأما" عدم وجوب اللعان فلزوال الزوجية وقيام الزوجية شرط جريان اللعان؛ لأن الله سبحانه

 

ج / 3 ص -244-       وتعالى خص اللعان بالأزواج ولو طلقها طلاقا رجعيا لا يسقط اللعان؛ لأن الطلاق الرجعي لا يبطل الزوجية. ولو قال لها: يا زانية أنت طالق ثلاثا فلا حد ولا لعان؛ لأن قوله يا زانية أوجب اللعان لا الحد؛ لأنه قذف الزوجة ولما قال: أنت طالق ثلاثا فقد أبطل الزوجية, واللعان لا يجري في غير الأزواج ولو قال لها: أنت طالق ثلاثا يا زانية يجب الحد ولا يجب اللعان؛ لأنه قذفها بعد الإبانة وهي أجنبية بعد الإبانة وقذف الأجنبية يوجب الحد لا اللعان, ولو أكذب الزوج نفسه سقط اللعان لتعذر الإتيان به إذ من المحال أن يؤمر أن يشهد بالله إنه لمن الصادقين وهو يقول إنه كاذب, ويجب الحد لما نذكر في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. ولو أكذبت المرأة نفسها في الإنكار وصدقت الزوج في القذف سقط اللعان لما قلنا ولا حد لما نذكر إن شاء الله تعالى ولو لم ينعقد القذف موجبا للعان أصلا لفوات شرط من شرائط الوجوب فهل يجب الحد؟ فمشايخنا أصلوا في ذلك أصلا فقالوا: إن كان عدم وجوب اللعان أو سقوطه بعد الوجوب لمعنى من جانبها فلا حدود ولا لعان, وإن كان القذف صحيحا وإن كان لمعنى من جانبه فإن لم يكن القذف صحيحا فكذلك وإن كان صحيحا يحد وعلى هذا الأصل خرجوا جنس هذه المسائل, فقالوا: إذا أكذب نفسه يحد؛ لأن سقوط اللعان لمعنى من جانبه وهو إكذابه نفسه والقذف صحيح؛ لأنه قذف عاقل بالغ فيجب الحد, ولو أكذبت نفسها في الإنكار وصدقت الزوج في القذف فلا حد ولا لعان وإن كانت على صفة الالتعان؛ لأن سقوط اللعان لمعنى من جانبها وهو إكذابها نفسها ولو كانت المرأة على صفة الالتعان والزوج عبد أو كافر أو محدود في قذف فعليه الحد؛ لأن قذفها صحيح وإنما سقط اللعان لمعنى من جهته وهو أنه على صفة لا يصح منه اللعان ولو كان الزوج صبيا أو مجنونا فلا حد ولا لعان وإن كانت المرأة على صفة الالتعان؛ لأن قذف الصبي والمجنون ليس بصحيح ولو كان الزوج حرا عاقلا بالغا مسلما غير محدود في قذف والزوجة لا بصفة الالتعان بأن كانت كافرة أو مملوكة أو صبية أو مجنونة أو زانية فلا حد على الزوج ولا لعان؛ لأن قذفها ليس بقذف صحيح. ألا ترى أن أجنبيا لو قذفها لا يحد ولو كانت المرأة مسلمة حرة عاقلة عفيفة إلا أنها محدودة في القذف فلا حد ولا لعان؛ لأن القذف وإن كان صحيحا لكن سقوط اللعان لمعنى من جانبها وهو أنها ليست من أهل الشهادة فلا يجب اللعان ولا الحد كما لو صدقته وإن كان كل واحد من الزوجين محدودا في قذف فقذفها فعليه الحد؛ لأن القذف صحيح وسقوط اللعان لمعنى في الزوج ولا يقال: إنه سقط لمعنى في المرأة بدليل أن الزوج لو لم يكن محدودا والمرأة محدودة لا يجب اللعان لاعتبار جانبها. وإن كان السقوط لمعنى من جانبها فينبغي أن لا يجب اللعان ولا الحد؛ لأنا نقول: القذف الصحيح إنما تعتبر فيه صفات المرأة إذا كان الزوج من أهل اللعان, فأما إذا لم يكن من أهل اللعان لا تعتبر وإنما تعتبر صفات الزوج فيعتبر المانع بما فيه لا بما فيها فكان سقوط اللعان لمعنى في الزوج بعد صحة القذف فيحد والله عز وجل أعلم.

                                                                      "فصل":
وأما حكم اللعان فالكلام في هذا الفصل في موضعين: أحدهما في بيان حكم اللعان, والثاني في بيان ما يبطل حكمه. أما بيان حكم اللعان فللعان حكمان: أحدهما أصلي, والآخر ليس بأصلي. أما الحكم الأصلي للعان فنذكر أصل الحكم ووصفه أما الأول فنقول اختلف العلماء فيه قال أصحابنا الثلاثة: هو وجوب التفريق ما داما على حال اللعان لا وقوع الفرقة بنفس اللعان من غير تفريق الحاكم حتى يجوز طلاق الزوج وظهاره وإيلاؤه ويجري التوارث بينهما قبل التفريق وقال زفر والشافعي: هو وقوع الفرقة بنفس اللعان إلا أن عند زفر لا تقع الفرقة ما لم يلتعنا, وعند الشافعي تقع الفرقة بلعان الزوج قبل أن تلتعن المرأة. وجه قول الشافعي أن الفرقة أمر يختص بالزوج. ألا ترى أنه هو المختص بسبب الفرقة؟ فلا يقف وقوعها على فعل المرأة كالطلاق, واحتج زفر بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" وفي بقاء النكاح اجتماعهما وهو خلاف النص. "ولنا" ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة". وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين عاصم بن عدي

 

ج / 3 ص -245-       وبين امرأته فرق بينهما". وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وبين امرأته فلما فرغا من اللعان فرق بينهما ثم قال عليه الصلاة والسلام: "الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب"؟ قال ذلك ثلاثا فأبيا ففرق بينهما فدلت الأحاديث على أن الفرقة لا تقع بلعان الزوج ولا بلعانها إذ لو وقعت لما احتمل التفريق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقوع الفرقة بينهما بنفس اللعان؛ ولأن ملك النكاح كان ثابتا قبل اللعان والأصل أن الملك متى ثبت لإنسان لا يزول إلا بإزالته أو بخروجه من أن يكون منتفعا به في حقه لعجزه عن الانتفاع به ولم توجد الإزالة من الزوج؛ لأن اللعان لا ينبئ عن زوال الملك؛ لأنه شهادة مؤكدة باليمين أو يمين, وكل واحد منهما لا ينبئ عن زوال الملك ولهذا لا يزول بسائر الشهادات والأيمان, والقدرة على الامتناع ثابتة فلا تقع الفرقة بنفس اللعان وقد خرج الجواب عما ذكره الشافعي ثم قول الشافعي مخالف لآية اللعان؛ لأن الله تعالى خاطب الأزواج باللعان بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلى آخر ما ذكر فلو ثبتت الفرقة بلعان الزوج فالزوجة تلاعنه وهي غير زوجة وهذا خلاف النص. وأما زفر فلا حجة له في الحديث؛ لأن المتلاعن متفاعل من اللعن وحقيقة المتفاعل المتشاغل بالفعل فبعد الفراغ منه لا يبقى فاعلا حقيقة فلا يبقى ملاعنا حقيقة فلا يصح التمسك به لإثبات الفرقة عقيب اللعان فلا تثبت الفرقة عقيبه, وإنما الثابت عقيبه وجوب التفريق فإن فرق الزوج بنفسه وإلا ينوب القاضي منابه في التفريق فإذا فرق بعد تمام اللعان وقعت الفرقة فإن أخطأ القاضي ففرق قبل تمام اللعان ينظر إن كان كل واحد منهما قد التعن أكثر اللعان نفذ القاضي إذا وقع بعد أكثر اللعان فقد قضى بالاجتهاد في موضع يسوغ الاجتهاد فيه فينفذ قضاؤه كما في سائر المجتهدات, والدليل على أن تفريقه صادف محل الاجتهاد وجوه ثلاثة: أحدها أنه عرف أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام فاقتضى اجتهاده إلى أن الأكثر يقوم مقام الكل في اللعان, والثاني أنه اجتهد أن التكرار في اللعان للتأكيد والتغليظ وهذا المعنى يوجد في الأكثر, والثالث أنه زعم أنه لما ساغ للشافعي الاقتصار على لعان الزوج إذا قذف المجنونة أو الميتة فلأن يسوغ له الاجتهاد بعد إكمال الزوج لعانه وإتيان المرأة بأكثر اللعان أولى فثبت أن قضاء القاضي صادف محل الاجتهاد فينفذ فإن قيل شرط جواز الاجتهاد أن لا يخالف النص وهذا قد خالف النص من الكتاب والسنة؛ لأن كتاب الله ورد باللعان بعدد مخصوص وكذا النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين الزوجين على ذلك العدد وإذا كان ذلك العدد منصوصا عليه فالاجتهاد إذا خالف النص باطل فالجواب ممنوع إن اجتهاد القاضي خالف النص فإن التنصيص على عدد لا ينفي جواز الأكثر وإقامته مقام الكل ولا يقتضي الجواز أيضا, فلم يكن الحكم منصوصا عليه بل كان مسكوتا عنه فكان محل الاجتهاد, وفائدته التنصيص على العدد المذكور والتنبيه على الأصل والأولى وهذا لا ينفي الجواز. "وأما" الثاني فقد اختلف العلماء فيه أيضا قال أبو حنيفة ومحمد: الفرقة في اللعان فرقة بتطليقة بائنة فيزول ملك النكاح وتثبت حرمة الاجتهاد والتزوج ما داما على حالة اللعان فإن أكذب الزوج نفسه فجلد الحد أو أكذبت المرأة نفسها بأن صدقته جاز النكاح بينهما ويجتمعان, وقال أبو يوسف وزفر والحسن بن زياد: هي فرقة بغير طلاق وإنها توجب حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع والمصاهرة واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" وهو نص في الباب وكذا روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أنهم قالوا: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا", ولأبي حنيفة ومحمد ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين عويمر العجلاني وبين امرأته فقال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا, وفي بعض الروايات كذبت عليها إن لم أفارقها فهي طالق ثلاثا فصار طلاق الزوج عقيب اللعان سنة المتلاعنين؛ لأن عويمر طلق زوجته ثلاثا بعد اللعان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب على كل ملاعن أن يطلق فإذا امتنع ينوب القاضي منابه في

 

ج / 3 ص -246-       التفريق فيكون طلاقا كما في العنين؛ ولأن سبب هذه الفرقة قذف الزوج؛ لأنه يوجب اللعان واللعان يوجب التفريق والتفريق يوجب الفرقة فكانت الفرقة بهذه الوسائط مضافة إلى القذف السابق وكل فرقة تكون من الزوج أو يكون فعل الزوج سببها تكون طلاقا كما في العنين والخلع والإيلاء ونحو ذلك وهو قول السلف: إن كل فرقة وقعت من قبل الزوج فهي طلاق من نحو إبراهيم والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم. وأما الحديث فلا يمكن العمل بحقيقته لما ذكرنا أن حقيقة المتفاعل هو المتشاغل بالفعل وكما فرغا من اللعان ما بقيا متلاعنين حقيقة فانصرف المراد إلى الحكم وهو أن يكون حكم اللعان فيهما ثابتا فإذا أكذب الزوج نفسه وحد حد القذف بطل حكم اللعان فلم يبق متلاعنا حقيقة وحكما فجاز اجتماعهما ونظيره قوله تعالى في قصة أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} أي ما داموا في ملتهم. ألا ترى أنهم إذا لم يفعلوا يفلحوا فكذا هذا وأما الحكم الذي ليس بأصلي للعان فهو وجوب قطع النسب في أحد نوعي القذف وهو القذف بالولد لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين هلال بن أمية وبين زوجته وفرق بينهما نفى الولد عنه وألحقه بالمرأة" فصار النفي أحد حكمي اللعان ولأن القذف إذا كان بالولد فغرض الزوج أن ينفي ولدا ليس منه في زعمه فوجب النفي تحقيقا لغرضه وإذا كان وجوب نفيه أحد حكمي اللعان فلا يجب قبل وجوده وعلى هذا قلنا إن القذف إذا لم ينعقد موجبا اللعان أو سقط بعد الوجوب ووجب الحد أو لم يجب أو لم يسقط لكنهما لم يتلاعنا بعد لا ينقطع نسب الولد, وكذا إذا نفى نسب ولد حرة فصدقته لا ينقطع نسبه لتعذر اللعان لما فيه من التناقض حيث تشهد بالله أنه لمن الكاذبين, وقد قالت: إنه صادق وإذا تعذر اللعان تعذر قطع النسب؛ لأنه حكمه ويكون ابنهما لا يصدقان على نفيه؛ لأن النسب قد ثبت والنسب الثابت بالنكاح لا ينقطع إلا باللعان ولم يوجد, ولا يعتبر تصادقهما على النفي؛ لأن النسب يثبت حقا للولد وفي تصادقهما على النفي إبطال حق الولد وهذا لا يجوز وعلى هذا يخرج ما إذا كان علوق الولد في حال لا لعان بينهما فيها ثم صارت بحيث يقع بينهما اللعان نحو ما إذا علقت وهي كتابية أو أمة ثم أعتقت الأمة أو أسلمت الكتابية فولدت فنفاه أنه لا ينقطع نسبه؛ لأنه لا تلاعن بينهما لعدم أهلية اللعان وقت العلوق. وقطع النسب حكم اللعان ثم لوجود قطع النسب شرائط: منها التفريق؛ لأن النكاح قبل التفريق قائم فلا يجب النفي, ومنها أن يكون القذف بالنفي بحضرة الولادة أو بعدها بيوم أو بيومين أو نحو ذلك من مدة توجد فيها لتهنئة أو ابتياع آلات الولادة عادة فإن نفاه بعد ذلك لا ينتفي ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا. وروي عن أبي حنيفة أنه وقت له سبعة أيام, وأبو يوسف ومحمد وقتاه بأكثر النفاس وهو أربعون يوما واعتبر الشافعي الفور فقال: إن نفاه على الفور انتفى وإلا لزمه. وجه قوله أن ترك النفي على الفور إقرار منه دلالة فكان كالإقرار نصا. وجه قولهما أن النفاس أثر الولادة فيصح نفي الولد ما دام أثر الولادة ولأبي حنيفة أن هذا أمر يحتاج إلى التأمل فلا بد له من زمان التأمل وإنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فتعذر التوقيت فيه فيحكم فيه العادة من قبول التهنئة وابتياع آلات الولادة أو مضي مدة يفعل ذلك فيها عادة فلا يصح نفيه بعد ذلك, وبهذا يبطل اعتبار الفور؛ لأن معنى التأمل والتروي لا يحصل بالفور وعلى هذا قالوا في الغائب عن امرأته: إذا ولدت ولم يعلم بالولادة حتى قدم أو بلغه الخبر وهو غائب أنه له أن ينفي عند أبي حنيفة في مقدار تهنئة الولد وابتياع آلات الولادة وعندهما في مقدار مدة النفاس بعد القدوم أو بلوغ الخبر؛ لأن النسب لا يلزم إلا بعد العلم به فصار حال القدوم وبلوغ الخبر كحال الولادة على المذهبين جميعا وروي عن أبي يوسف أنه قال: إن قدم قبل الفصال فله أن ينفيه في مقدار مدة النفاس وإن قدم بعد الفصال فليس له أن ينفيه ولم يرو هذا التفصيل عن محمد. كذا ذكره القدوري ووجهه أن الولد قبل الفصال لم ينتقل عن غذائه الأول فصار كمدة النفاس وبعد الفصال انتقل عن ذلك الغذاء وخرج عن حال الصغر فلو احتمل النفي بعد ذلك لاحتمل بعدما صار شيخا وذلك قبيح. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه إن بلغه الخبر في مدة النفاس فله أن ينفي إلى تمام مدة النفاس وإن بلغه الخبر بعد أربعين فقد روي عن أبي يوسف

 

ج / 3 ص -247-       أنه قال له أن ينفي إلى تمام سنتين؛ لأنه لما مضى وقت النفاس يعتبر وقت الرضاع ومدته سنتان عندهما, ولو بلغه الخبر بعد حولين فنفاه ذكر في غير رواية الأصول عن أبي يوسف أنه لا يقطع النسب ويلاعن وعن محمد أنه قال: ينتفي الولد إذا نفاه بعد بلوغ الخبر إلى أربعين يوما, "ومنها" أن لا يسبق النفي عن الزوج ما يكون إقرارا منه بنسب الولد لا نصا ولا دلالة فإن سبق لا يقطع النسب من الأب؛ لأن النسب بعد الإقرار به لا يحتمل النفي بوجه؛ لأنه لما أقر به فقد ثبت نسبه والنسب حق الولد فلا يملك الرجوع عنه بالنفي فالنص نحو أن يقول: هذا ولدي, أو هذا الولد مني. والدلالة هي أن يسكت إذا هنئ ولا يرد على المهنئ؛ لأن العاقل لا يسكت عند التهنئة بولد ليس منه عادة فكان السكوت والحالة هذه اعترافا بنسب الولد فلا يملك نفيه بعد الاعتراف وروى ابن رستم عن محمد أنه إذا هنئ بولد الأمة فسكت لم يكن اعترافا وإن سكت في ولد الزوجة كان اعترافا. ووجه الفرق أن نسب ولد الزوجة قد ثبت بالفراش إلا أن له غرضية النفي من الزوج فإذا سكت عند التهنئة دل على أنه لا ينفيه فبطلت الغرضية فتقرر النسب فأما ولد الأمة فلا يثبت إلا بالدعوة ولم توجد فإن جاءت بولدين في بطن فأقر بأحدهما ونفى الآخر فإن أقر بالأول ونفى الثاني لاعن ولزمه الولدان جميعا أما لزوم الولدين فلأن إقراره بالأول إقرار بالثاني؛ لأن الحمل حمل واحد فلا يتصور ثبوت بعض نسب الحمل دون بعض كالواحد أنه لا يتصور ثبوت نسب بعضه دون بعض فإذا نفى الثاني فقد رجع عما أقر به. والنسب المقر به لا يحتمل الرجوع عنه فلم يصح نفيه فيثبت نسبهما جميعا ويلاعن؛ لأن من أقر بنسب ولد ثم نفاه يلاعن وإن كان لا يقطع نسبه؛ لأن قطع النسب ليس من لوازم اللعان بل ينفصل عنه في الجملة. ألا ترى أنه شرع في المقذوفة بغير ولد ثم إنما وجب اللعان؛ لأنه لما أقر بالأول فقد وصف امرأته بالعفة ولما نفى الولد فقد وصفها بالزنا, ومن قال لامرأته: أنت عفيفة ثم قال لها أنت زانية يلاعن وإن نفى الأول وأقر بالثاني حد ولا لعان ويلزمانه جميعا أما ثبوت نسب الولدين فلأن نفي الأول وإن تضمن نفي الثاني فالإقرار بالثاني يتضمن الإقرار بالأول فيصير مكذبا نفسه ومن وجب عليه اللعان إذا أكذب نفسه يحد وإذا حد لا يلاعن؛ لأنهما لا يجتمعان ولأنه لما نفى الأول فقد قذفها بالزنا فلما أقر بالثاني فقد وصفها بالعفة. ومن قال لامرأته: أنت زانية ثم قال لها أنت عفيفة يحد حد القذف ولا يلاعن, "ومنها" أن يكون الولد حيا وقت قطع النسب وهو وقت التفريق فإن لم يكن لا يقطع نسبه من الأب حتى لو جاءت بولد فمات ثم نفاه الزوج يلاعن ويلزمه الولد؛ لأن النسب يتقرر بالموت فلا يحتمل الانقطاع ولكنه يلاعن لوجود القذف بنفي الولد وانقطاع النسب ليس من لوازم اللعان وكذلك إذا جاءت بولدين أحدهما ميت فنفاهما يلاعن ويلزمه الولدان لما قلنا, وكذلك إذا جاءت بولد فنفاه الزوج ثم مات الولد قبل اللعان يلاعن الزوج ويلزمه الولد لما قلنا وكذا لو جاءت بولدين فنفاهما ثم ماتا قبل اللعان أو قتلا يلاعن ويلزمه الولدان؛ لأن النسب بعد الموت لا يحتمل القطع ويلاعن لما قلنا. وكذا لو نفاهما ثم مات أحدهما قبل اللعان أو قتل لزمه الولدان؛ لأن نسب الميت منهما لا يحتمل القطع لتقرره بالموت فكذا نسب الحي؛ لأنهما توأمان "وأما" اللعان فقد ذكر الكرخي أنه يلاعن ولم يذكر الخلاف, وكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي وذكر ابن سماعة الخلاف في المسألة فقال: عند أبي يوسف يبطل اللعان وعند محمد لا يبطل. وجه قول محمد أن اللعان قد وجب بالنفي فلو بطل إنما يبطل لامتناع قطع النسب وامتناعه لا يمنع بقاء اللعان؛ لأن قطع النسب ليس من لوازم اللعان ولأبي يوسف أن المقصود من اللعان الواجب بهذا القذف أعني القذف بنفي الولد هو نفي الولد فإذا تعذر تحقيق هذا المقصود لم يكن في بقاء اللعان فائدة فلا ينفي الولد. ولو ولدت فنفاه ولاعن الحاكم بينهما وفرق وألزم الولد أمه أو لزمها بنفس التفريق ثم ولدت ولدا آخر من الغد لزمه الولدان جميعا واللعان ماض؛ لأنه قد ثبت نسب الولد الثاني إذ لا يمكن قطعه بما وجد من اللعان؛ لأن حكم اللعان قد بطل بالفرقة فيثبت نسب الولد الثاني وإن قال الزوج هما ابناي لا حد عليه لأنه صادق في إقراره بنسب الولدين لكونهما ثابتي النسب منه شرعا فإن قيل أليس إنه أكذب نفسه بقوله هما ابناي؛ لأنه سبق منه نفي الولد ومن

 

ج / 3 ص -248-       نفى الولد فلوعن ثم أكذب نفسه فيقام عليه الحد كما إذا جاءت بولد واحد فقال: هذا الولد ليس مني فلاعن الحاكم بينهما ثم قال: هو ابني فالجواب أن قوله هما ابناي يحتمل الإكذاب ويحتمل الإخبار عن حكم لزمه شرعا وهو ثبوت نسب الولدين فلا يجعل إكذابا مع الاحتمال بل حمله على الإخبار أولى؛ لأنه لو جعل إكذابا للزمه الحد, ولو جعل إخبارا عما قلنا لا يلزمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات", وقال "ادرءوا الحدود ما استطعتم" حتى لو قال: كذبت في اللعان وفيما قذفتها به من الزنا يحد؛ لأنه نص على الإكذاب فزال الاحتمال, وقد قال مشايخنا: إن الإقرار بالولد بعد النفي إنما يكون إكذابا إذا كان المقر بحال لو لم يقر به للوعن به إذا كان من أهل اللعان وههنا لم يوجد؛ لأنه لو لم يقر بهما لم يلاعن بخلاف الفصل الأول فإنه لو لم يقر بهما للوعن به. وعلى هذا قالوا: لو ولدت امرأته ولدا فقال: هو ابني ثم ولدت آخر فنفاه, ثم أقر به لا حد عليه؛ لأنه لم يصر مكذبا نفسه بهذا الإقرار. ألا ترى أنه لو لم يقر به لا يلاعن بنفي الولد لثبوت نسب الولدين. ولو قال: ليسا بابني كانا ابنيه ولا حد عليه؛ لأنه أعاد القذف الأول وكرره؛ لتقدم القذف منه واللعان, والملاعن إذا كرر القذف لا يجب عليه الحد. ولو طلق امرأته طلاقا رجعيا فجاءت بولد لأقل من سنتين بيوم فنفاه ثم جاءت بولد بعد سنتين بيوم فأقر به فقد بانت ولا لعان ولا حد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وقال محمد: هذه رجعية وعلى الزوج الحد فنذكر أصلهما وأصله وتخرج المسألة عليه فمن أصلهما أن الولد الثاني يتبع الولد الأول؛ لأنها جاءت به في مدة يثبت نسبه فيها وهكذا هو سابق في الولادة فكان الثاني تابعا له فجعل كأنها جاءت بهما لأقل من سنتين فلا تثبت الرجعة فتبين بالولد الثاني فتصير أجنبية فيتعذر اللعان. ومن أصله أن الولد يتبع الثاني؛ لأن الثاني حصل من وطء حادث بعد الطلاق بيقين إذ الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين والأول يحتمل أنه حصل من وطء حادث أيضا وإننا نرد المحتمل إلى المحكم فجعل الأول تابعا للثاني فصار كأنها ولدتهما بعد سنتين. والمطلقة طلاقا رجعيا إذا جاءت بولد لأكثر من سنتين ثبتت الرجعة؛ لأنه يكون من وطء حادث بعد الطلاق بيقين فيصير مراجعا لها بالوطء, فإذا أقر بالثاني بعد نفي الأول فقد أكذب نفسه فيحد, وإن كان الطلاق بائنا والمسألة بحالها يحد ويثبت نسب الولدين عندهما, وعند محمد لا حد ولا لعان ولا يثبت نسب الولدين؛ لأن من أصلهما أن الولد الثاني يتبع الأول فتجعل كأنها جاءت بهما لأقل من سنتين فيثبت نسبهما ولا يجب اللعان لزوال الزوجية ويجب الحد لإكذاب نفسه. ومن أصله أن الأول يتبع الثاني وتجعل كأنها جاءت به لأكثر من سنتين والمرأة مبتوتة والمبتوتة إذا جاءت بولد لأكثر من سنتين لا يثبت نسب الولد ولا يحد قاذفها؛ لأن معها علامة الزنا وهو ولد غير ثابت النسب فلم تكن عفيفة فلا يجب الحد على قاذفها. ومنها أن لا يكون نسب الولد محكوما بثبوته شرعا كذا ذكر الكرخي فإن كان لا يقطع نسبه فصورته ما روي عن أبي يوسف أنه قال في رجل جاءت امرأته بولد فنفاه ولم يلاعن حتى قذفها أجنبي بالولد الذي جاءت به فضرب القاضي الأجنبي الحد فإن نسب الولد يثبت من الزوج ويسقط اللعان؛ لأن القاضي لما حد قاذفها بالولد فقد حكم بكذبه والحكم بكذبه حكم بثبوت نسب الولد والنسب المحكوم بثبوته لا يحتمل النفي باللعان كالنسب المقر به وإنما سقط اللعان؛ لأن الحاكم لما حد قاذفها فقد حكم بإحصانها في عين ما قذفت به ثم إذا قطع النسب من الأب وألحق الولد بالأم يبقى النسب في حق سائر الأحكام من الشهادة والزكاة والقصاص وغيرها حتى لا يجوز شهادة أحدهما للآخر وصرف الزكاة إليه, ولا يجب القصاص على الأب بقتله ونحو ذلك من الأحكام إلا أنه لا يجري التوارث بينهما. ولا نفقة على الأب؛ لأن النفي باللعان يثبت شرعا بخلاف الأصل بناء على زعمه وظنه مع كونه مولودا على فراشه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" فلا يظهر في حق سائر الأحكام.

                                                         "فصل":
وأما بيان ما يبطل به حكم اللعان فكل ما يسقط اللعان بعد وجوبه يبطل الحكم بعد وجوده قبل التفريق وهو ما ذكرنا من جنونهما بعد اللعان قبل التفريق, أو جنون أحدهما, أو خرسهما أو خرس أحدهما, أو ردتهما أو ردة أحدهما, أو صيرورة أحدهما محدودا في القذف أو صيرورة المرأة موطوءة وطئا حراما وإكذاب أحدهما نفسه حتى

 

ج / 3 ص -249-       لا يفرق الحاكم بينهما ويكونان على نكاحهما والأصل أن بقاءهما على حال اللعان شرط بقاء حكم اللعان فإن بقيا على حال اللعان بقي حكم اللعان وإلا فلا. وإنما كان كذلك؛ لأن اللعان شهادة ولا بد من بقاء الشاهد على صفة الشهادة إلى أن يتصل القضاء بشهادته حتى يجب القضاء بها. وقد زالت صفة الشهادة بهذه العوارض فلا يجوز للقاضي التفريق ولو لاعنها بالولد ثم قذفها هو أو غيره لا يجب الحد ولو لاعنها بغير الولد ثم قذفها هو أو غيره يجب عليه الحد, والفرق أن اللعان لا يوجب تحقيق الزنا منها فلا تزول عفتها باللعان إلا أن في اللعان بالولد قذفها ومعها علامة الزنا وهو الولد بغير أب فلم تكن عفيفة فلا يقام الحد على قاذفها ولم يوجد ذلك في اللعان بغير ولد فبقيت عفتها فيجب الحد على قاذفها ولو أكذب نفسه بعد اللعان بولد أو بغير ولد ثم قذفها هو أو غيره يجب الحد لأن اللعان لا يحقق الزنا والولد بلا أب مع الإكذاب لا يكون علامة الزنا فتكون عفتها قائمة فيحد قاذفها والله عز وجل أعلم. 
                                         تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله "كتاب الرضاع".