بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                        "كتاب الظهار":
يحتاج في هذا الكتاب إلى معرفة ركن الظهار, وإلى معرفة شرائط الركن, وإلى معرفة حكم الظهار, وإلى معرفة ما ينتهي به حكمه, وإلى معرفة كفارة الظهار أما. ركن الظهار فهو اللفظ الدال على الظهار والأصل فيه قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي, يقال: ظاهر الرجل من امرأته وظاهر وتظاهر وأظهر وتظهر أي قال لها: أنت علي كظهر أمي, ويلحق به قوله أنت علي كبطن أمي أو فخذ أمي أو فرج أمي, ولأن معنى الظهار تشبيه الحلال بالحرام؛ ولهذا وصفه الله تعالى بكونه منكرا من القول وزورا فقال سبحانه وتعالى في آية الظهار:
{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} وبطن الأم وفخذها في الحرمة مثل ظهرها, ولفرجها مزيد حرمة فتزداد جنايته في كون قوله منكرا وزورا فيتأكد الجزاء وهو الحرمة.

 

ج / 3 ص -230-                                                            "فصل":
وأما الشرائط فأنواع بعضها يرجع إلى المظاهر وبعضها يرجع إلى المظاهر منه وبعضها يرجع إلى المظاهر به. أما الذي يرجع إلى المظاهر فأنواع: منها أن يكون عاقلا إما حقيقة أو تقديرا فلا يصح ظهار المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن حكم الحرمة وخطاب التحريم لا يتناول من لا يعقل. "ومنها" أن لا يكون معتوها ولا مدهوشا ولا مبرسما ولا مغمى عليه ولا نائما فلا يصح ظهار هؤلاء كما لا يصح طلاقهم, وظهار السكران كطلاقه وهو على التفصيل الذي ذكرناه في كتاب الطلاق ومنها أن يكون بالغا فلا يصح ظهار الصبي وإن كان عاقلا؛ لما مر في ظهار المجنون ولأن الظهار من التصرفات الضارة المحضة فلا يملكه الصبي كما لا يملك الطلاق والعتاق وغيرهما من التصرفات التي هي ضارة محضة, ومنها أن يكون مسلما فلا يصح ظهار الذمي وهذا عندنا, عند الشافعي إسلام المظاهر ليس بشرط لصحة ظهاره ويصح ظهار الذمي واحتج بعموم قوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} من غير فصل بين المسلم والكافر ولأن الكافر من أهل الظهار؛ لأن حكمه الحرمة, والكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات, ولهذا كان أهلا للطلاق فكذا للظهار. ولنا أن عمومات النكاح لا تقتضي حل وطء الزوجات على الأزواج نحو قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وقوله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} والظهار لا يوجب زوال النكاح والزوجية؛ لأن لفظ الظهار لا ينبئ عنه ولهذا لا يحتاج إلى تجديد النكاح بعد الكفارة؛ لأن المسلم صار مخصوصا, فمن ادعى تخصيص الذمي يحتاج إلى الدليل؛ ولأن حكم الظهار حرمة مؤقتة بالكفارة أو بتحرير يخلفه الصوم والكافر ليس من أهل هذا الحكم فلا يكون من أهل الظهار وقد خرج الجواب عما ذكره من المعنى "وأما" آية الظهار فإنها تتناول المسلم لدلائل: أحدها أن أول الآية خاص في حق المسلمين وهو قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} فقوله تعالى: {مِنْكُمْ} كناية عن المسلمين. ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}؟ والكافر غير جائز المغفرة. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} بناء على الأول, والثاني أن فيها أمرا بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع وكل ذلك لا يتصور إلا في حق المسلم, والثالث أن المسلم مراد من هذه الآية بلا شك, والمذهب عندنا أن العام يبنى على الخاص ومتى بني العام على الخاص خرج المسلم من عموم الآية ولم يقل به أحد. وأما كونه حرا فليس بشرط لصحة الظهار فيصح ظهار العبد؛ لأن الظهار تحريم والعبد من أهل التحريم. ألا ترى أنه يملك التحريم بالطلاق؟ فكذا بالظهار ولعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فإن قيل هذه الآية لا تتناول العبد؛ لأنه جعل حكم الظهار التحرير بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والعبد ليس من أهل التحرير فلا يكون من أهل حكم الظهار فلا يكون من أهل الظهار فلا يتناوله نص الظهار فالجواب أنه ممنوع, أنه جعل حكم الظهار التحرير على الإطلاق بل جعل حكمه في حق من وجد فأما في حق من لم يجد فإنما جعل حكمه الصيام بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} والعبد غير واجد؛ لأنه لا يكون واجدا إلا بالملك, والعبد ليس من أهل الملك فلا يكون واجدا فلا يكون الإعتاق حكم الظهار في حقه إذ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز له التكفير بالإعتاق وكذا بالإطعام إذ الإطعام على وجه التمليك أو الإباحة, والإباحة لا تتحقق بدون الملك. ولو كفر العبد بهما بإذن مولاه أو المولى كفر عنه بهما لم يجز؛ لأن الملك لم يثبت له فلا يقع الإعتاق والإطعام عنه بخلاف الفقير إذا أعتق عنه غيره أو أطعم فإنه يجوز؛ لأن الفقير من أهل الملك فثبت الملك له أولا ثم يؤدى عنه بطريق النيابة, والعبد ليس من أهل الملك فلا يملك المؤدى فلا يجزيه في الكفارة إلا الصيام وليس لمولاه أن يمنعه من صيام الظهار بخلاف صيام النذر وكفارة اليمين؛ لأن للمولى أن يمنعه عن ذلك؛ لأن صوم الظهار قد تعلق به حق المرأة؛ لأنه يتعلق به استباحة وطئها الذي استحقه بعقد النكاح فكان منعه إياها عن الصيام منعا له عن إيفاء حق مستحق للغير فلا يملك ذلك بخلاف صوم النذر وكفارة اليمين؛ لأنه لم يتعلق به حق أحد فكان العبد بالصوم متصرفا في المنافع المملوكة لمولاه من غير إذنه لا حق لأحد فيه فكان له منعه عن ذلك سواء

 

ج / 3 ص -231-       كان العبد قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا أو مستسعى, على أصل أبي حنيفة لما قلنا. وكذا كونه جادا فليس بشرط لصحة الظهار حتى يصح ظهار الهازل كما يصح طلاقه, وكذا كونه طائعا أو عامدا ليس بشرط عندنا فيصح ظهار المكره والخاطئ كما يصح طلاقهما, وعند الشافعي شرط فلا يصح ظهارهما كما لا يصح طلاقهما وهذه من مسائل الإكراه. وكذا التكلم بالظهار ليس بشرط حتى يصير مظاهرا بالكتابة المستبينة والإشارة المعلومة من الأخرس, وكذا الخلو عن شرط الخيار ليس بشرط فيصح ظهار شرط الخيار لما ذكرنا في كتاب الطلاق. وأما كون المظاهر رجلا فهل هو شرط صحة الظهار ؟, قال أبو يوسف: ليس بشرط وقال محمد شرط حتى لو قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي تصير مظاهرة عند أبي يوسف وعليها كفارة الظهار, وعند محمد لا تصير مظاهرة ولما حكي قولهما للحسن بن زياد فقال: هما شيخا الفقه أخطآ, عليهما كفارة اليمين إذا وطئها زوجها. "وجه" قول الحسن أن الظهار تحريم فتصير كأنها قالت لزوجها: أنت علي حرام, ولو قالت ذلك تلزمها الكفارة إذا وطئها كذا هذا. "وجه" قول محمد أن الظهار تحريم بالقول والمرأة لا تملك التحريم بالقول. ألا ترى أنها لا تملك الطلاق؟ فكذا الظهار, ولأبي يوسف أن الظهار تحريم يرتفع بالكفارة وهي من أهل الكفارة فكانت من أهل الظهار والله أعلم. ومنها النية عند أبي حنيفة وأبي يوسف في بعض أنواع الظهار دون بعض. وبيان ذلك أنه لو قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي كان مظاهرا سواء نوى الظهار أو لا نية له أصلا؛ لأن هذا صريح في الظهار إذ هو ظاهر المراد مكشوف المعنى عند السماع بحيث يسبق إلى إفهام السامعين فكان صريحا لا يفتقر إلى النية كصريح الطلاق في قوله: أنت طالق, وكذا إذا نوى به الكرامة أو المنزلة أو الطلاق أو تحريم اليمين لا يكون إلا ظهارا؛ لأن هذا اللفظ صريح في الظهار فإذا نوى به غيره فقد أراد صرف اللفظ عما وضع له إلى غيره فلا ينصرف إليه, كما إذا قال لامرأته: أنت طالق ونوى به الطلاق عن الوثاق أو الطلاق عن العمل أنه لا ينصرف إليه ويقع الطلاق لما قلنا كذا هذا, ولو قال: أردت به الإخبار عما مضى كذبا لا يصدق في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر؛ لأن هذا اللفظ في الشرع جعل إنشاء فلا يصدق في إرادة الإخبار عنه كقوله: أنت طالق إذا أراد به الإخبار عن الماضي كذبا ولا يسع للمرأة أن تصدقه كما لا يسع للقاضي؛ لأن القاضي إنما يصدقه لادعائه خلاف الظاهر وهذا موجود في حق المرأة ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه نوى ما يحتمله كلامه, وكذا إذا قال: أنا منك مظاهر وقد ظاهرتك فهو مظاهر نوى به الظهار أو لا نية له؛ لأن هذا اللفظ صريح في الظهار أيضا إذ هو مكشوف المراد عند السامع فلا يفتقر إلى النية, وأي شيء نوى لا يكون إلا ظهارا وإن أراد به الخبر عن الماضي كاذبا لا يصدق قضاء ويصدق ديانة لما قلنا كما لو قال: أنت مطلقة أو قد طلقتك. وكذا لو قال: أنت علي كبطن أمي أو كفخذ أمي أو كفرج أمي فهذا وقوله: أنت علي كظهر أمي على السواء؛ لأنه يجري مجرى الصريح لما ذكرنا فيما تقدم, ولو قال: أنت علي كأمي أو مثل أمي يرجع إلى نيته فإن نوى به الظهار كان مظاهرا, وإن نوى به الكرامة كان كرامة, وإن نوى به الطلاق كان طلاقا, وإن نوى به اليمين كان إيلاء؛ لأن اللفظ يحتمل كل ذلك إذ هو تشبيه المرأة بالأم فيحتمل التشبيه في الكرامة والمنزلة أي أنت علي في الكرامة والمنزلة كأمي ويحتمل التشبيه في الحرمة ثم يحتمل ذلك حرمة الظهار ويحتمل حرمة الطلاق وحرمة اليمين فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله لفظه فيكون على ما نوى. وإن لم يكن له نية لا يكون ظهارا عند أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف إلا أن عند أبي حنيفة لا يكون شيئا, وعند أبي يوسف يكون تحريم اليمين, وعند محمد يكون ظهارا واحتج محمد بقوله تعالى في آية الظهار ردا على المظاهرين: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} وذكر الله سبحانه وتعالى الأم ولم يذكر ظهر الأم فدل أن تشبيه المرأة وهو قوله: أنت علي كأمي ظهار حقيقة كقوله: أنت علي كظهر أمي بل أولى؛ لأن قوله أنت علي كظهر أمي تشبيه المرأة بعضو من أعضائها, وقوله أنت كأمي تشبيه بكلها ثم ذاك لما كان ظهارا فهذا أولى؛ ولأن كاف التشبيه تختص بالظهار فعند الطلاق تحمل عليه ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن هذا اللفظ يحتمل الظهار وغيره احتمالا على السواء لما ذكرنا فلا يتعين الظهار إلا بدليل

 

ج / 3 ص -232-       معين ولم يوجد إلا أن أبا يوسف يقول يحمل على تحريم اليمين لأن الظهار أنه أراد بهذا التشبيه التشبيه في التحريم وذلك يحتمل تحريم الطلاق وتحريم اليمين إلا أن تحريم اليمين أدنى فيحمل عليه والجواب أنا لا نسلم أنه أراد به التشبيه في التحريم بل هو محتمل يحتمل الحرمة وغيرها فلا يتغير التحريم من غير دليل مع ما أن معنى الكرامة والمنزلة أدنى فيحمل مطلق التشبيه عليه. وما ذكره محمد أن الله تعالى ذكر الأمهات لا ظهورهن قلنا هذا لا يدل على أن التشبيه بالأم ظهار حقيقة؛ لأنه لو كان حقيقة لقال ما هن كأمهاتهم؛ لأنه أثبت الأمومية لها ولو قال: أنت علي حرام كأمي حمل على نيته؛ لأنه إذا ذكر مع التشبيه التحريم لم يحتمل معنى الكرامة فتعين التحريم, وهو يحتمل تحريم الظهار ويحتمل تحريم الطلاق والإيلاء فيرجع إلى نيته فإن لم يكن له نية يكون ظهارا؛ لأن حرف التشبيه يختص بالظهار فمطلق التحريم يحمل عليه. ولو قال: أنت علي حرام كظهر أمي فإن نوى الظهار أو لا نية له أصلا فهو ظهار وإن نوى الطلاق لم يكن إلا ظهارا في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يكون طلاقا وروي عن أبي يوسف أنه يكون ظهارا وطلاقا معا. وجه قولهما أن قوله: أنت علي حرام يحتمل الطلاق كما يحتمل الظهار فإذا نوى به الطلاق فقد نوى ما يحتمله لفظه فصحت نيته وأبو حنيفة يقول: لما قال بعد قوله حرام كظهر أمي فقد فسر التحريم بتحريم الظهار فزال الاحتمال فكان صريحا في الظهار فلا تعمل فيه النية, وما روي عن أبي يوسف غير سديد؛ لأنه حمل اللفظ الواحد على معنيين واللفظ الواحد لا ينتظم معنيين مختلفين ولو قال: أنت علي كالميتة, أو كالدم, أو كالخمر, أو كلحم الخنزير يرجع إلى نيته إن نوى الطلاق كان طلاقا وإن نوى التحريم أو لا نية له يكون يمينا ويصير موليا. وإن قال: عنيت به الكذب لم يكن شيئا ولا يصدق في نفي اليمين في القضاء, وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق في فصل الإيلاء.

                                                           "فصل":
وأما الذي يرجع إلى المظاهر منه فمنها أن تكون زوجته وهي أن تكون مملوكة له بملك النكاح فلا يصح الظهار من الأجنبية لعدم الملك ويصح ظهار زوجته تنجيزا وتعليقا وإضافة إلى وقت بأن قال لها: أنت علي كظهر أمي إلى رأس شهر كذا لقيام الملك وتعليقا في الملك بأن قال لها: إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا فأنت علي كظهر أمي لوجود الملك وقت اليمين. وأما تعليقه بالملك وهو إضافته إلى سبب الملك فصحيح عندنا خلافا للشافعي بأن قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي حتى لو تزوجها صار مظاهرا عندنا لوجود الإضافة إلى سبب الملك, وعنده لا يصح لعدم الملك للحال. ولو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي لا يقع الظهار حتى لو تزوجها فدخلت الدار لا يصير مظاهرا بالإجماع لعدم الملك والإضافة إلى سبب الملك وعلى هذا يخرج الظهار من الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة على أصل أبي حنيفة أنه لا يصح لعدم الزوجية ثم إنما كانت الزوجية شرطا لصحة الإظهار؛ لأن ثبوت الحرمة بالظهار أمر ثبت تعبدا غير معقول المعنى؛ لأن قوله: أنت علي كظهر أمي تشبيه المرأة بالأم وأنه محتمل يحتمل التشبيه في الكرامة والمنزلة ويحتمل التشبيه في الحرمة, ثم التشبيه في الحرمة محتمل أيضا يحتمل حرمة الظهار وهي الحرمة المؤقتة بالكفارة ويحتمل حرمة الطلاق وحرمة اليمين وهذه الوجوه كلها في احتمال اللفظ سواء فلا يجوز تنزيله على بعض الوجوه من غير دليل معين إلا أن هذه الحرمة تثبت شرعا غير معقول فيقصر على مورد الشرع وهي الزوجية قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} والمراد منه الزوجات كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وقوله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ونحو ذلك, وسواء كانت الزوجة حرة أو أمة قنة أو مدبرة وأم ولد وولد أم ولد أو مكاتبة أو مستسعاة على أصل أبي حنيفة لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ومنها قيام ملك النكاح من كل وجه فلا يصح الظهار من المطلقة ثلاثا ولا المبانة والمختلعة وإن كانت في العدة بخلاف الطلاق؛ لأن المختلعة والمبانة يلحقهما صريح الطلاق؛ لأن الظهار تحريم وقد ثبتت الحرمة بالإبانة والخلع, وتحريم المحرم محال ولأنه لا يفيد؛ لأن الثاني لا يفيد إلا ما أفاده الأول فيكون عبثا لخلوه عن العاقبة الحميدة بخلاف الطلاق؛ ولأن الطلاق إزالة حل المحلية وأنه قائم بعد الإبانة فلم يكن إثبات الثابت فلم يكن مستحيلا وكذا الثاني يفيد غير ما أفاده

 

ج / 3 ص -233-       الأول وهو نقصان العدد فهو الفرق بين الفصلين وكذا إذا علق الطلاق بشرط ثم أبانها قبل وجود الشرط ثم وجد الشرط وهي في العدة أنه لا ينزل الظهار بخلاف ما إذا علق الإبانة بشرط فنجز الإبانة ثم وجد الشرط وهي في العدة أنه يلحقها البائن المعلق لما ذكرنا أن الظهار تحريم والمبانة محرمة فلو لحقها الظهار بيمين كانت قبل الإبانة لكان تحريم المحرم, وهو مستحيل ثم هو غير مفيد فاستوى فيه الظهار المبتدأ والمعلق بشرط بخلاف البينونة المعلقة بشرط؛ لأن ثبوتها بعد تنجيز الإبانة غير مستحيل وهو مفيد أيضا وهو نقصان العدد والله عز وجل الموفق. "ومنها" أن يكون الظهار مضافا إلى بدن الزوجة أو إلى عضو منها جامع أو شائع وهذا عندنا, وعند الشافعي ليس بشرط وتصح الإضافة إليها أو إلى كل عضو منها على هذا يخرج ما إذا قال لها: رأسك علي كظهر أمي أو وجهك أو رقبتك أو فرجك أنه يصير مظاهرا؛ لأن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن فكانت الإضافة إليها إلى جميع البدن, وكذا إذا قال لها ثلثك علي كظهر أمي أو ربعك أو نصفك ونحو ذلك من الأجزاء الشائعة. ولو قال: يدك أو رجلك أو أصبعك لا يصير مظاهرا عندنا خلافا للشافعي. واختلف مشايخنا في الظهر والبطن وهذه الجملة قد مرت في كتاب الطلاق.

                                                          "فصل":
وأما الذي يرجع إلى المظاهر به فمنها أن يكون من جنس النساء حتى لو قال لها: أنت علي كظهر أبي أو ابني لا يصح؛ لأن الظهار عرفا موجبا بالشرع, والشرع إنما ورد بها فيما إذا كان المظاهر به امرأة. ومنها أن يكون عضوا لا يحل له النظر إليه من الظهر والبطن والفخذ والفرج حتى لو شبهها برأس أمه أو بوجهها أو يدها أو رجلها لا يصير مظاهرا؛ لأن هذه الأعضاء من أمه يحل له النظر إليها. ومنها أن تكون هذه الأعضاء من امرأة يحرم نكاحها عليه على التأبيد سواء حرمت عليه بالرحم كالأم والبنت والأخت وبنت الأخ والأخت والعمة والخالة, أو بالرضاع, أو بالصهرية كامرأة أبيه وحليلة ابنه؛ لأنه يحرم عليه نكاحهن على التأبيد, وكذا أم امرأته سواء كانت امرأته مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لأن نفس العقد على البنت محرم للأم فكانت محرمة عليه على التأبيد. وأما بنت امرأته فإن كانت امرأته مدخولا بها فكذلك؛ لأنه إذا دخل بها فقد حرمت عليه ابنتها على التأبيد, وإن كانت غير مدخول بها لا يصير مظاهرا لعدم الحرمة على التأبيد, ولو شبهها بظهر امرأة زنى بها أبوه أو ابنه قال أبو يوسف هو مظاهر وقال محمد: ليس بمظاهر بناء على أن قاضيا لو قضى بجواز نكاح امرأة زنى بها أبوه أو ابنه لا ينفذ قضاؤه عند أبي يوسف حتى لو رفع قضاؤه إلى قاض آخر أبطله فكانت محرمة النكاح على التأبيد, وعند محمد ينفذ قضاؤه وليس للقاضي الثاني أن يبطله إذا رفع إليه فلم تكن محرمة على التأبيد. "وجه" قول أبي يوسف أن حرمة نكاح موطوءة الأب منصوص عليها قال الله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}؛ لأن النكاح في اللغة الضم وحقيقة الضم في الوطء فلم يكن هذا محل الاجتهاد إذ الاجتهاد المخالف للنصوص باطل فالقضاء بالجواز يكون مخالفا للنص فكان باطلا بخلاف ما إذا شبهها بامرأة قد فرق بينه وبينها باللعان أنه لا يكون مظاهرا, وإن كان لا يجوز له نكاحها عندي؛ لأنه لو حكم بجواز نكاحها جاز لأن حرمة نكاحها غير منصوص عليه فلم تكن محرمة على التأييد. وجه قول محمد أن جواز نكاح هذه المرأة مجتهد فيه ظاهر الاجتهاد, وإنه جائز عند الشافعي وقد ظهر الاختلاف فيه في السلف فكان محل الاجتهاد, وظاهر النص محتمل التأويل فكان للاجتهاد فيه مساغا وللرأي مجالا. ولو شبهها بظهر امرأة هي أم المزني بها أو بنت المزني بها لم يكن مظاهرا؛ لأن هذا فصل مجتهد فيه ظاهر الاجتهاد في السلف فلم تكن المرأة المظاهر بها محرمة على التأبيد ولو قبل أجنبية بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم شبه زوجته بابنتها لم يكن مظاهرا عند أبي حنيفة, قال ولا يشبه هذا الوطء, الوطء أبين وأظهر عنى بذلك لو شبه زوجته ببنت موطوءته فلا يصير مظاهرا فهذا أولى؛ لأن التقبيل واللمس والنظر إلى الفرج سبب مفض إلى الوطء فكان دون حقيقة الوطء فلما لم يصر مظاهرا بذلك فبهذا أولى. وعند أبي يوسف يكون مظاهرا؛ لأن الحرمة بالنظر منصوص عليها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كشف خمار امرأة أو نظر إلى فرجها حرمت عليه أمها وابنتها" وعلى هذا يخرج ما إذا شبهها بامرأة محرمة عليه في الحال وهي ممن تحل له في حال

 

ج / 3 ص -234-       أخرى كأخت امرأته أو امرأة لها زوج أو مجوسية أو مرتدة أنه لا يكون مظاهرا؛ لأنها غير محرمة على التأبيد والله أعلم.

                                                         "فصل":
وأما حكم الظهار فللظهار أحكام: منها حرمة الوطء قبل التكفير ولقوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فليحرروا كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي ليرضعن. وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي ليتربصن, أمر المظاهر بتحرير رقبة قبل المسيس فلو لم يحرم الوطء قبل المسيس لم يكن للأمر بتقديم التحرير قبل المسيس معنى وهو كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وإنه يدل على حرمة النجوى قبل الصدقة إذ لو لم يحرم لم يكن للأمر بتقديم الصدقة على النجوى معنى فكذا هذا. وروي أن مسلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته ثم أبصرها في ليلة قمراء وعليها خلخال فضة فأعجبته فوطئها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" أمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والاستغفار إنما يكون عن الذنب فدل على حرمة الوطء وكذا نهى المظاهر عن العود إلى الجماع, ومطلق النهي للتحريم فيدل على حرمة الجماع قبل الكفارة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إذا قال أنت علي كظهر أمي لم تحل له حتى يكفر ومنها حرمة الاستمتاع بها من المباشرة والتقبيل واللمس عن شهوة والنظر إلى فرجها عن شهوة قبل أن يكفر؛ لقوله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وأخف ما يقع عليه اسم المس هو اللمس باليد إذ هو حقيقة لهما جميعا أعني الجماع واللمس باليد لوجود معنى المس باليد فيهما؛ ولأن الاستمتاع داع إلى الجماع فإذا حرم الجماع حرم الداعي إليه إذ لو لم يحرم لأدى إلى التناقض ولهذا حرم في الاستبراء وفي الإحرام بخلاف باب الحيض والنفاس؛ لأن الاستمتاع هناك يفضي إلى الجماع لوجود المانع وهو استعمال الأذى فامتنع عمل الداعي للتعارض فلا يفضي إلى الجماع ولأن هذه الحرمة إنما حصلت بتشبيه امرأته بأمه فكانت قبل انتهائها بالتكفير وحرمة الأم سواء, وتلك الحرمة تمنع من الاستمتاع كذا هذه ولأن الظهار كان طلاق القوم في الجاهلية فنقله الشرع من تحريم المحل إلى تحريم الفعل فكانت حرمة الفعل في المظاهر منها مع بقاء النكاح كحرمة الفعل في المطلقة بعد زوال النكاح, وتلك الحرمة تعم البدن كله كذا هذه. ولا ينبغي للمرأة إذا ظاهر منها زوجها أن تدعه يقربها بالوطء والاستمتاع حتى يكفر؛ لأن ذلك حرام عليه والتمكين من الحرام حرام. ومنها أن للمرأة أن تطالبه بالوطء وإذا طالبته به فعلى الحاكم أن يجبره حتى يكفر ويطأ؛ لأنه بالتحريم بالظهار أضر بها حيث منعها حقها في الوطء مع قيام الملك فكان لها المطالبة بإيفاء حقها ودفع التضرر عنها وفي وسعه إيفاء حقها بإزالة الحرمة بالكفارة فيجب عليه ذلك ويجبر عليه لو امتنع. ويستوي في هذه الأحكام جميع أنواع الكفارات كلها من الإعتاق والصيام والطعام أعني كما أنه لا يباح له وطؤها والاستمتاع بها قبل التحرير والصوم لا يباح له قبل الإطعام وهذا قول عامة العلماء, وقال مالك: إن كانت كفارته الإطعام جاز له أن يطأها قبله؛ لأن الله تعالى ما شرط تقديم هذا النوع على المسيس في كتابه الكريم. ألا ترى أنه لم يذكر فيه من قبل أن يتماسا؟ وإنما شرط سبحانه وتعالى في النوعين الأولين فقط فيقتصر الشرط على الموضع المذكور "ولنا" أنه لو أبيح له الوطء قبل الإطعام فيطؤها ومن الجائز أنه يقدر على الإعتاق والصيام في خلال الطعام فتنتقل كفارته إليه, فتبين أن وطأه كان حراما فيجب صيانته عن الحرام بإيجاب تقديم الإطعام احتياطا وعلى هذا يخرج ما إذا ظاهر الرجل من أربع نسوة له أن عليه أربع كفارات سواء ظاهر منهن بأقوال مختلفة أو بقول واحد, وقال الشافعي: إذا ظاهر بكلمة واحدة فعليه كفارة واحدة. وجه قوله أن الظهار أحد نوعي التحريم فيعتبر بالنوع الآخر وهو الإيلاء, وهناك لا يجب إلا كفارة واحدة بأن قال لنسائه الأربع: والله لا أقربكن فقربهن فكذا ههنا. "ولنا" الفرق بين الظهار وبين الإيلاء وهو أن الظهار وإن كان بكلمة واحدة فإنها تتناول كل واحدة منهن على حيالها فصار مظاهرا من كل واحدة منهن. والظهار تحريم

 

ج / 3 ص -235-       لا يرتفع إلا بالكفارة فإذا تعدد التحريم تتعدد الكفارة بخلاف الإيلاء؛ لأن الكفارة ثمة تجب لحرمة اسم الله تعالى جبرا لهتكه والاسم اسم واحد فلا تجب إلا كفارة واحدة, وكذا إذا ظاهر من امرأة واحدة بأربعة أقوال يلزمه أربع كفارات؛ لأنه أتى بأربع تحريمات, ولو ظاهر من امرأة واحدة في مجلس واحد ثلاثا أو أربعا فإن لم يكن له نية فعليه لكل ظهار كفارة؛ لأن كل ظهار يوجب تحريما لا يرتفع إلا بالكفارة فإن قيل أنها إذا حرمت بالظهار الأول فكيف تحرم بالثاني؟ وأنه إثبات الثابت وأنه محال ثم هو غير مفيد فالجواب أن الثاني إن كان لا يفيد تحريما جديدا فإنه يفيد تأكيد الأول فلئن تعذر إظهاره في التحريم أمكن إظهاره في التكفير فكان مفيدا فائدة التكفير, وإن نوى به الظهار الأول فعليه كفارة واحدة؛ لأن صيغته صيغة الخبر وقد يكرر الإنسان اللفظ على إرادة التغليظ والتشديد دون التجديد, والظهار لا يوجب نقصان العدد في الطلاق؛ لأنه ليس بطلاق ولا يوجب البينونة وإن طالت المدة؛ لأنه لا يوجب زوال الملك وإنما يحرم الوطء قبل التكفير مع قيام الملك وإن جامعها قبل أن يكفر لا يلزمه كفارة أخرى وإنما عليه التوبة والاستغفار ولا يجوز له أن يعود حتى يكفر لما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل الذي ظاهر من امرأته فواقعها قبل أن يكفر "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" فأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لما فعل لا بالكفارة ونهاه صلى الله عليه وسلم عن العود إليه إلا بتقديم الكفارة عليه والله عز وجل أعلم.

                                                        "فصل":
وأما بيان ما ينتهي به حكم الظهار أو يبطل فحكم الظهار ينتهي بموت أحد الزوجين لبطلان محل حكم الظهار ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله وينتهي بالكفارة وبالوقت إن كان موقتا وبيان ذلك أن الظهار لا يخلو إما أن كان مطلقا وأما أن كان موقتا فالمطلق كقوله: أنت علي كظهر أمي وحكمه لا ينتهي إلا بالكفارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لذلك المظاهر
"استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" نهاه عن الجماع ومد النهي إلى غاية التكفير فيمتد إليها ولا يبطل ببطلان ملك النكاح ولا ببطلان حل المحلية حتى لو ظاهر منها طلاقا ثم طلقها طلاقا بائنا ثم تزوجها لا يحل له وطؤها والاستمتاع بها حتى يكفر. وكذا إذا كانت زوجته أمة فظاهر منها ثم اشتراها حتى بطل النكاح بملك اليمين, وكذا لو كانت حرة فارتدت عن الإسلام ولحقت بدار الحرب فسبيت ثم اشتراها. وكذا إذا ظاهر منها ثم ارتدت عن الإسلام في قول أبي حنيفة واختلفت الرواية عن أبي يوسف على ما ذكرنا في الإيلاء وكذا إذا طلقها ثلاثا فتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الأول لا يحل له وطؤها بدون تقديم الكفارة عليه؛ لأن الظهار قد انعقد موجبا حكمه وهو الحرمة والأصل أن التصرف الشرعي إذا انعقد مفيدا لحكمه وفي بقائه احتمال الفائدة أو وهم الفائدة يبقى لفائدة محتملة أو موهومة أصله الإباق الطارئ على البيع, واحتمال العود ههنا قائم فيبقى وإذا بقي يبقى على ما انعقد عليه وهو ثبوت حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة وإن كان موقتا بأن كان قال: لها أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو سنة صح التوقيت وينتهي بانتهاء الوقت بدون الكفارة عند عامة العلماء وهو أحد قولي الشافعي, وفي قوله الآخر وهو قول مالك يبطل التأقيت ويتأبد الظهار وجه قوله أن الظهار أخو الطلاق إذ هو أحد نوعي التحريم, ثم تحريم الطلاق لا يحتمل التأقيت كذا تحريم الظهار "ولنا" أن تحريم الظهار أشبه بتحريم اليمين من الطلاق؛ لأن الظهار تحله الكفارة كاليمين يحله الحنث, ثم اليمين تتوقت كذا الظهار بخلاف الطلاق؛ لأنه لا يحله شيء فلا يتوقت والله عز وجل أعلم.

                                                             "فصل":
وأما بيان كفارة الظهار فالكلام فيه يقع في مواضع في تفسير كفارة الظهار, وفي بيان سبب وجوبها, وفي بيان شرط وجوبها, وفي بيان شرط جوازها أما تفسيرها فما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز من أحد الأنواع الثلاثة لكن على الترتيب الإعتاق ثم الصيام ثم الإطعام. وأما سبب وجوب الكفارة فلا خلاف في أن الكفارة لا تجب إلا بعد وجود العود والظهار لقوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} غير أنه اختلف في العود. قال أصحاب الظواهر هو أن يكرر لفظ الظهار, وقال الشافعي: هو إمساك المرأة على النكاح بعد

 

ج / 3 ص -236-       الظهار وهو أن يسكت عن طلاقها عقيب الظهار مقدار ما يمكنه طلاقها فيه إذا أمسكها على النكاح عقيب الظهار مقدار ما يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فقد وجبت عليه الكفارة على وجه لا يحتمل السقوط بعد ذلك سواء غابت أو ماتت. وإذا غاب فسواء طلقها أو لم يطلقها راجعها أو لم يراجعها ولو طلقها عقيب الظهار بلا فصل يبطل الظهار فلا تجب الكفارة لعدم إمساك المرأة عقيب الظهار, وقال أصحابنا: العود هو العزم على وطئها عزما مؤكدا حتى لو عزم ثم بدا له في أن يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنه وجبت الكفارة بنفس العزم ثم سقطت كما قال بعضهم؛ لأن الكفارة بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد. وجه قول أصحاب الظواهر التمسك بظاهر لفظة العود؛ لأن العود في القول عبارة عن تكراره قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فكان معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي يرجعون إلى القول الأول فيكررونه. وجه قول الشافعي أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ} يقتضي وجوب الكفارة بعد العود وذلك فيما قلنا لا فيما قلتم؛ لأن عندكم لا تجب الكفارة وإنما يحرم الوطء إلى أن يؤدي الكفارة فترفع الحرمة وهذا خلاف النص. "ولنا" أن قول القائل: قال فلان كذا ثم عاد, قال في اللغة يحتمل أن يكون معناه عاد إلى ما قال وفيما قال أي كرره, ويحتمل أن يكون معناه عاد لنقض ما قال فإنه حكي أن أعرابيا تكلم بين يدي الأصمعي بأنه كان يبني بناء ثم يعود له فقال له الأصمعي: ما أردت بقولك أعود له فقال أنقضه, ولا يمكن حمله على الأول وهو التكرار؛ لأن القول لا يحتمل التكرار؛ لأن التكرار إعادة عين الأول ولا يتصور ذلك في الإعراض لكونها مستحيلة البقاء فلا يتصور إعادتها, وكذا النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أويسا بالكفارة لم يسأله أنه هل كرر الظهار أم لا؟ ولو كان ذلك شرطا لسأله إذ الموضع موضع الإشكال وكذا الظهار الذي كان متعارفا بين أهل كرر الظهار أم لا؟ ولو كان ذلك شرطا لسأله إذ الموضع موضع الإشكال, وكذا الظهار الذي كان متعارفا بين أهل الجاهلية لم يكن فيه تكرار القول وإذا تعذر حمله على الوجه الأول يحمل على الثاني وهو العود لنقض ما قالوا وفسخه فكان معناه ثم يرجعون عما قالوا وذلك بالعزم على الوطء؛ لأن ما قاله المظاهر هو تحريم الوطء فكان العود لنقضه وفسخه استباحة الوطء وبهذا تبين فساد تأويل الشافعي العود بإمساك المرأة واستبقاء النكاح لأن إمساك المرأة لا يعرف عودا في اللغة ولا إمساك شيء من الأشياء يتكلم فيه بالعود ولأن الظهار ليس برفع النكاح حتى يكون العود لما قال استبقاء للنكاح فبطل تأويل العود بالإمساك على النكاح والدليل على بطلان هذا التأويل أن الله تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وثم للتراخي فمن جعل العود عبارة عن استبقاء النكاح وإمساك المرأة عليه فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخي وهذا خلاف النص. أما قوله إن النص يقتضي وجوب الكفارة وعندكم لا تجب الكفارة فليس كذلك بل عندنا تجب الكفارة إذا عزم على الوطء كأنه قال تعالى إذا عزمت على الوطء فكفر قبله كما قال سبحانه وتعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} وقوله سبحانه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} ونحو ذلك واختلف أيضا في سبب وجوب هذه الكفارة قال بعضهم: إنها تجب بالظهار والعود جميعا؛ لأن الله تعالى علقها بهما بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقال بعضهم: سبب الوجوب هو الظهار والعود شرط؛ لأن الظهار ذنب. ألا ترى أن الله تعالى جعله منكرا من القول وزورا؟ والحاجة إلى رفع الذنب والزجر عنه في المستقبل ثابتة فتجب الكفارة؛ لأنها رافعة للذنب وزاجرة عنه والدليل عليه أنه تضاف الكفارة إلى الظهار لا إلى العود يقال: كفارة الظهار والأصل أن الأحكام تضاف إلى أسبابها لا إلى شروطها, وقال بعضهم: سبب الوجوب وهو العود والظهار شرط؛ لأن الكفارة عبادة والظهار محظور محض فلا يصح سببا لوجوب العبادة, وقال بعضهم: كل واحد منهما شرط, وسبب الوجوب أمر ثالث هو كون الكفارة طريقا متعينا لإيفاء الواجب, وكونه قادرا على الإيفاء؛ لأن إيفاء حقها في الوطء واجب ويجب عليه في الحكم إن كانت بكرا أو ثيبا ولم يطأها مرة وإن كانت ثيبا وقد وطئها مرة لا تجب فيما بينه وبين الله تعالى اتصال ذلك أيضا لإيفاء حقها, وعند بعض أصحابنا يجب في الحكم أيضا حتى يجبر عليه ولا يمكنه إيفاء الواجب إلا برفع الحرمة ولا ترتفع الحرمة إلا بالكفارة فتلزمه الكفارة ضرورة إيفاء

 

ج / 3 ص -237-       الواجب على الأصل المعهود أن إيجاب الشيء إيجاب له ولما لا يتوصل إليه إلا به كالأمر بإقامة الصلاة يكون أمرا بالطهارة ونحو ذلك والله أعلم. وأما شرط وجوبها فالقدرة على أدائها لاستحالة وجوب الفعل بدون القدرة عليه فلا يجب على غير القادر وكذا العود أو الظهار أو كلاهما على حسب اختلاف المشايخ فيه على ما مر. وأما شرط جوازها فلجواز هذه الكفارة من الأنواع الثلاثة أعني الإعتاق والصيام والإطعام شرائط نذكرها في كتاب الكفارات إن شاء الله تعالى والله عز وجل أعلم.