بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع " كتاب النفقة "
النفقة أنواع أربعة:
نفقة الزوجات، ونفقة الأقارب، ونفقة الرقيق،
ونفقة البهائم والجمادات أما نفقة الزوجات
فالكلام فيها يقع في مواضع: في بيان وجوبها
وفي بيان سبب الوجوب، وفي بيان شرائط الوجوب،
وفي بيان مقدار الواجب منها، وفي بيان كيفية
وجوبها وبيان سبب الوجوب، وفي بيان ما يسقطها
بعد وجوبها وصيرورتها دينا في الذمة أما
وجوبها فقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع
والمعقول أما الكتاب العزيز فقوله عز وجل
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أي: على قدر ما يجده أحدكم من السعة والمقدرة والأمر بالإسكان أمر
بالإنفاق؛ لأنها لا تصل إلى النفقة إلا
بالخروج والاكتساب وفي حرف عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا
عليهن من وجدكم وهو نص وقوله عز وجل
{وَلا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}
أي: لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فتضيقوا
عليهن النفقة فيخرجن أو لا تضاروهن في المسكن
فتدخلوا عليهن من غير استئذان فتضيقوا عليهن
المسكن فيخرجن، وقوله عز وجل {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
وقوله عز وجل
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
وقوله عز وجل
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} وقوله عز وجل
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
قيل: هو المهر والنفقة وأما السنة فما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال
"اتقوا
الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن
لأنفسهن شيئا وإنما أخذتموهن بأمانة الله
واستحللتم فروجهن بكلمة الله لكم عليهن حق أن
لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يأذن في بيوتكم لأحد
تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في
المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم
كسوتهن ورزقهن بالمعروف ثم قال ثلاثا: ألا هل
بلغت" ويحتمل أن يكون هذا الحديث تفسيرا لما أجمل الحق في قوله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
فكان الحديث مبينا لما في الكتاب أصله وروي أن رجلا جاء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال ما حق المرأة
على الزوج؟ فقال صلى الله عليه وسلم
"يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا كسي وأن لا يهجرها إلا في المبيت ولا
يضربها ولا يقبح"
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي
سفيان "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك
ج / 4 ص -16-
بالمعروف" ولو لم تكن النفقة واجبة؛ لم يحتمل أن يأذن لها بالأخذ من غير
إذنهوأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على هذا،
وأما المعقول فهو أن المرأة محبوسة بحبس
النكاح حقا للزوج ممنوعة عن الاكتساب بحقه
فكان نفع حبسها عائدا إليه فكانت كفايتها عليه
كقوله صلى الله عليه وسلم
"الخراج بالضمان"
ولأنها إذا
كانت محبوسة بحبسة ممنوعة عن الخروج للكسب
بحقه فلو لم يكن كفايتها عليه لهلكت ولهذا جعل
للقاضي رزق في بيت مال المسلمين لحقهم؛ لأنه
محبوس لجهتهم ممنوع عن الكسب فجعلت نفقته في
مالهم وهو بيت المال كذا ههنا
"فصل" وأما سبب وجوب هذه
النفقة فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا:
سبب وجوبها استحقاق الحبس الثابت بالنكاح
للزوج عليها وقال الشافعي السبب هو الزوجية
وهو كونها زوجة له وربما قالوا: ملك النكاح
للزوج عليها وربما قالوا: القوامة واحتج بقوله
تعالى
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أوجب النفقة عليهم لكونهم قوامين والقوامة تثبت بالنكاح فكان سبب
وجوب النفقة النكاح؛ لأن الإنفاق على المملوك
من باب إصلاح الملك واستبقائه فكان سبب وجوبه
الملك، كنفقة المماليك ولنا أن حق الحبس
الثابت للزوج عليها بسبب النكاح مؤثر في
استحقاق النفقة لها عليه لما بينا فأما الملك
فلا أثر له؛ لأنه قد قوبل بعوض مرة وهو المهر
فلا يقابل بعوض آخر؛ إذ العوض الواحد لا يقابل
بعوضين، ولا حجة له في الآية؛ لأن فيها إثبات
القوامة بسبب النفقة لا إيجاب النفقة بسبب
القوامة وعلى هذا الأصل ينبني أنه لا نفقة على
مسلم في نكاح فاسد لانعدام سبب الوجوب وهو حق
الحبس الثابت للزوج عليها بسبب النكاح؛ لأن حق
الحبس لا يثبت في النكاح الفاسد وكذا النكاح
الفاسد ليس بنكاح حقيقة وكذا في عدة منه إن
ثبت حق الحبس؛ لأنه لم يثبت بسبب النكاح
لانعدامه وإنما يثبت لتحصين الماء ولأن حال
العدة لا يكون أقوى من حال النكاح فلما لم تجب
في النكاح فلأن لا تجب في العدة أولى وتجب في
العدة من نكاح صحيح لوجود سبب الوجوب وهو
استحقاق الحبس للزوج عليها بسبب النكاح؛ لأن
النكاح قائم من وجه فتستحق النفقة كما كانت
تستحقها قبل الفرقة بل أولى؛ لأن حق الحبس بعد
الفرقة تأكد بحق الشرع وتأكد السبب يوجب تأكد
الحكم فلما وجبت قبل الفرقة؛ فبعدها أولى سواء
كانت العدة عن فرقة بطلاق أو عن فرقة بغير
طلاق، وسواء كانت الفرقة بغير طلاق من قبل
الزوج أو من قبل المرأة إلا إذا كانت من قبلها
بسبب محظور استحسانا، أو شرح هذه الجملة أن
الفرقة إذا كانت من قبل الزوج بطلاق؛ فلها
النفقة والسكنى سواء كان الطلاق رجعيا أو
بائنا وسواء كانت حاملا أو حائلا بعد أن كانت
مدخولا بها عندنا لقيام حق حبس النكاح وعند
الشافعي إن كانت مطلقة طلاقا رجعيا أو بائنا
وهي حامل فكذلك فأما المبتوتة إذا كانت حاملا
فلها السكنى ولا نفقة لها لزوال النكاح
بالإبانة وكان ينبغي أن لا يكون لها السكنى
إلا أنه ترك القياس في السكنى بالنص وعند ابن
أبي ليلى لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى لها
والمسألة ذكرت في كتاب الطلاق وفي بيان أحكام
العدة وسواء كان الطلاق ببدل أو بغير بدل وهو
الخلع والطلاق على مال لما قلنا، ولو خالعها
على أن يبرأ من النفقة والسكنى؛ يبرأ من
النفقة ولا يبرأ من السكنى لكنه يبرأ عن مؤنة
السكنى؛ لأن النفقة حقها على الخلوص وكذا مؤنة
السكنى فتملك الإبراء عن حقها فأما السكنى
ففيها حق الله عز وجل فلا تملك المعتدة إسقاطه
ولو أبرأته عن النفقة من غير قطع لا يصح
الإبراء؛ لأن الإبراء إسقاط الواجب فيستدعي
تقدم الوجوب والنفقة تجب شيئا فشيئا على حسب
مرور الزمان فكان الإبراء إسقاطا قبل الوجوب
فلم يصح بخلاف ما إذا اختلعت نفسها على نفقتها
لما ذكرناه في الخلع ولأنها جعلت الإبراء عن
النفقة عوضا عن نفسها في العقد ولا يصح ذلك
إلا بعد سابقة الوجوب فيثبت الوجوب مقتضى
الخلع باصطلاحهما كما لو اصطلحا على النفقة
أنها تجب وتصير دينا في الذمة كذا هذا، وكذلك
الفرقة بغير طلاق إذا كانت من قبله فلها
النفقة والسكنى سواء كانت بسبب مباح كخيار
البلوغ أو بسبب محظور كالردة ووطء أمها أو
ابنتها أو تقبيلهما بشهوة بعد أن يكون بعد
الدخول بها لقيام السبب وهو حق
ج / 4 ص -17-
الحبس
للزوج عليها بسبب النكاح وإذا كانت من قبل
المرأة فإن كانت بسبب مباح كخيار الإدراك
وخيار العتق وخيار عدم الكفاءة فكذلك لها
النفقة والسكنى، وإن كانت بسبب محظور بأن
ارتدت أو طاوعت ابن زوجها أو أباه أو لمسته
بشهوة؛ فلا نفقة لها استحسانا ولها السكنى وإن
كانت مستكرهة والقياس أن يكون لها النفقة
والسكنى في ذلك كله، وجه القياس أن حق الحبس
قائم وتستحق النفقة كما إذا كانت الفرقة من
قبلها بسبب مباح وكما إذا كانت الفرقة من قبل
الزوج بسبب مباح أو محظور وللاستحسان وجهان:
أحدهما أن حق الحبس قد بطل بردتها ألا ترى
أنها تحبس بعد الردة جبرا لها على الإسلام
لثبوت بقاء حق النكاح فلم تجب النفقة بخلاف ما
إذا كانت الفرقة بسبب مباح؛ لأن هناك حبس
النكاح قائم فبقيت النفقة وكذا إذا كانت من
قبل الزوج بسبب هو معصية؛ لأنها لا تحبس بردة
الزوج فيبقى حبس النكاح فتبقى العدة لكن هذا
يشكل بما إذا طاوعت ابن زوجها أو قبلته بشهوة؛
أنها لا تستحق النفقة وإن بقي حبس النكاح ما
دامت العدة قائمة ولا إشكال في الحقيقة؛ لأن
هناك عدم الاستحقاق لانعدام شرط من شرائط
الاستحقاق وهو أن لا يكون الفرقة من قبلها
خاصة بفعل هو محظور مع قيام السبب وهو حبس
النكاح فاندفع الإشكال بحمد الله تعالى،
والثاني أن حبس النكاح إنما أوجب النفقة عليه
صلة لها فإذا وقعت الفرقة بفعلها الذي هو
معصية لم تستحق الصلة؛ إذ الجاني لا يستحق
الصلة بل يستحق الزجر وذلك في الحرمان لا في
الاستحقاق كمن قتل مورثه بغير حق أنه يحرم
الميراث لما قلنا كذا هذا بخلاف ما إذا كانت
مستكرهة على الوطء؛ لأن فعلها ليس بجناية فلا
يوجب حرمان الصلة وكذا إذا كانت الفرقة بسبب
مباح وبخلاف الزوج؛ لأن النفقة حقها قبل الزوج
فلا يؤثر فعله الذي هو معصية في إسقاط حق
الغير فهو الفرق بين الفصلين وإنما لم تحرم
السكنى بفعلها الذي هو معصية لما قلنا إن في
السكنى حق الله تعالى فلا يحتمل السقوط بفعل
العبد، ولو ارتدت في النكاح حتى حرمت النفقة
ثم أسلمت في العدة؛ لا تستحق النفقة ولو ارتدت
في العدة ثم أسلمت وهي في العدة تعود النفقة،
ووجه الفرق أن النفقة في الفصل الثاني بقيت
واجبة بعد الفرقة قبل الردة لبقاء سبب الوجوب
وهو حبس النكاح وقت وجوب العدة ثم امتنع
وجوبها من بعد تعارض الردة فإذا عادت إلى
الإسلام فقد زال العارض فتعود النفقة وأما في
الفصل الأول فالنفقة لم تبق واجبة وقت وجوب
العدة لبطلان سبب وجوبها بالردة في حق حبس
النكاح؛ لأن الردة أوجبت بطلان ذلك الحبس فلا
يعود من غير تجديد النكاح فلا تعود النفقة
بدونه والأصل في هذا أن كل امرأة لم تبطل
نفقتها بالفرقة ثم بطلت في العدة لعارض منها
ثم زال العارض في العدة؛ تعود نفقتها وكل من
بطلت نفقتها بالفرقة لا تعود النفقة في العدة
وإن زال سبب الفرقة في العدة بخلاف ما إذا
نشزت ثم عادت؛ أنها تستحق النفقة؛ لأن النشوز
لم يوجب بطلان حق الحبس الثابت بالنكاح وإنما
فوت التسليم المستحق بالعقد فإذا عادت فقد
سلمت نفسها فاستحقت النفقة ولو طاوعت ابن
زوجها أو أباه في العدة أو لمسته بشهوة فإن
كانت معتدة من طلاق وهو رجعي؛ فلا نفقة لها
لأن الفرقة ما وقعت بالطلاق وإنما وقعت بسبب
وجد منها وهو محظور وإن كان الطلاق بائنا أو
كانت معتدة عن فرقة بغير طلاق فلها النفقة
والسكنى بخلاف ما إذا ارتدت في العدة أنه لا
نفقة لها إلى أن تعود إلى الإسلام وهي في
العدة؛ لأن حبس النكاح يفوت بالردة ولا يفوت
بالمطاوعة والمس، ولو ارتدت في العدة ولحقت
بدار الحرب ثم عادت وأسلمت أو سبيت وأعتقت أو
لم تعتق؛ فلا نفقة لها لأن العدة قد بطلت
باللحاق بدار الحرب؛ لأن الردة مع اللحاق
بمنزلة الموت، ولو طلق امرأته وهي أمة طلاقا
بائنا وقد كان المولى بوأها مع زوجها بيتا حتى
وجبت النفقة ثم أخرجها المولى لخدمته حتى سقطت
النفقة ثم أراد أن يعيدها إلى الزوج ويأخذ
النفقة؛ كان له ذلك وإن لم يكن بوأها المولى
بيتا حتى طلقها الزوج ثم أراد أن يبوئها مع
الزوج في العدة لتجب النفقة فإنها لا تجب، وجه
الفرق أن النفقة كانت واجبة في الفصل الأول
لوجود سبب الوجوب وهو الاحتباس وشرطه وهو
التسليم إلا أنه لما أخرجها إلى خدمته فقد فوت
على الزوج الاحتباس الثابت حقا له والتسليم؛
فامتنع وجوب النفقة له، فإذا أعادها إلى الزوج
عاد حقه فيعود حق
ج / 4 ص -18-
المولى
في النفقة فأما في الفصل الثاني فالنفقة ما
كانت واجبة في العدة لانعدام سبب الوجوب أو
شرط الوجوب وهو التسليم فهو بالبينونة يريد
إلزام الزوج النفقة ابتداء في العدة فلا يملك
ذلك والأصل في ذلك أن كل امرأة كانت لها
النفقة يوم الطلاق ثم صارت إلى حال لا نفقة
لها فيها؛ فلها أن تعود وتأخذ النفقة، وكل
امرأة لا نفقة لها يوم الطلاق فليس لها نفقة
أبدا إلا الناشزة وتفسير ذلك والوجه فيه ما
ذكرنا ويستوي في نفقة المعتدة عدة الأقراء
وعدة الأشهر وعدة الحمل؛ لاستواء الكل في سبب
الاستحقاق فينفق عليها ما دامت في العدة وإن
تطاولت المدة لعذر الحبل أو لعذر آخر ويكون
القول في ذلك قولها؛ لأن ذلك أمر يعرف من
قبلها حتى لو ادعت أنها حامل أنفق عليها إلى
سنتين منذ طلقها؛ لأن الولد يبقى في البطن إلى
سنتين فإن مضت سنتان ولم تضع فقالت: كنت أتوهم
أني حامل ولم أحض إلى هذه الغاية وطلبت النفقة
لعذر امتداد الطهر وقال الزوج: إنك ادعيت
الحمل فإنما تجب علي النفقة لعلة الحمل، وأكثر
مدة الحمل سنتان وقد مضى ذلك فلا نفقة علي فإن
القاضي لا يلتفت إلى قوله ويلزمه النفقة إلى
أن تنقضي عدتها بالأقراء وتدخل في عدة الإياس؛
لأن أحد العذرين إن بطل وهو عذر الحمل فقد بقي
الآخر وهو عذر امتداد الطهر؛ إذ الممتد طهرها
من ذوات الأقراء وهي مصدقة في ذلكفإن لم تحض
حتى دخلت في حد الإياس؛ أنفق عليها ثلاثة أشهر
فإن حاضت في الأشهر الثلاثة واستقبلت العدة
بالحيض فلها النفقة؛ لأنها معتدة وكذلك لو
كانت صغيرة يجامع مثلها فطلقها بعد ما دخل بها
أنفق عليها ثلاثة أشهر فإن حاضت في الأشهر
الثلاثة واستقبلت عدة الأقراء أنفق عليها حتى
تنقضي عدتها لما قلنا وإن طالبته امرأة
بالنفقة وقدمته إلى القاضي فقال الرجل للقاضي:
قد كنت طلقتها منذ سنة وقد انقضت عدتها في هذه
المدة وجحدت المرأة الطلاق فإن القاضي لا يقبل
قول الزوج إنه طلقها منذ سنة، ولكن يقع الطلاق
عليها منذ أقر به عند القاضي؛ لأنه يصدق في حق
نفسه لا في إبطال حق الغير فإن أقام شاهدين
على أنه طلقها منذ سنة والقاضي لا يعرفهما
أمره القاضي بالنفقة وفرض لها عليه النفقة؛
لأن الفرقة منذ سنة لم تظهر بعد فإن أقام بينة
عادلة أو أقرت هي أنها قد حاضت ثلاث حيض في
هذه السنة فلا نفقة لها على الزوج وإن كانت
أخذت منه شيئا ترده عليه لظهور ثبوت الفرقة
منذ سنة وانقضاء العدة وإن قالت لم أحض في هذه
السنة؛ فالقول قولها ولها النفقة؛ لأن القول
في انقضاء العدة قولها فإن قال الزوج: قد
أخبرتني أن عدتها قد انقضت لم يقبل قوله في
إبطال نفقتها؛ لأنه غير مصدق عليها في إبطال
حقها، ولو طلق امرأته ثلاثا أو بائنا فامتدت
عدتها إلى سنتين ثم ولدت لأكثر من سنتين وقد
كان الزوج أعطاها النفقة إلى وقت الولادة فإنه
يحكم بانقضاء عدتها قبل الولادة لستة أشهر عند
أبي حنيفة ومحمد ويسترد نفقة ستة أشهر قبل
الولادة وعند أبي يوسف لا يسترد شيئا من
النفقة، وكذلك إذا طلق امرأته في حال المرض
فامتد مرضه إلى سنتين وامتدت عدتها إلى سنتين
ثم ولدت المرأة بعد الموت بشهر وقد كان أعطاها
النفقة إلى وقت الوفاة؛ فإنها لا ترث ويسترد
منها نفقة ستة أشهر عند أبي حنيفة ومحمد وعند
أبي يوسف ترث ولا يسترد شيئا من النفقة وقد
مرت المسألتان في كتاب الطلاق، ولا نفقة في
الفرقة قبل الدخول بأي سبب كانت لارتفاع
النكاح من كل وجه فينعدم السبب وهو الحبس
الثابت بالنكاح وأم الولد إذا أعتقها مولاها
ووجبت عليها العدة لا نفقة لها وإن كانت
محبوسة ممنوعة عن الخروج؛ لأن هذا الحبس لم
يثبت بسبب النكاح وإنما يثبت لتحصين الماء
فأشبهت المعتدة من النكاح الفاسد ولأن نفقتها
قبل العتق إنما وجبت بملك اليمين لا بالاحتباس
وقد زال بالإعتاق ونفقة الزوجة إنما وجبت
بالاحتباس وإنه قائم
"فصل" وأما شرط وجوب هذه النفقة فلوجوبها شرطان: أحدهما
يعم النوعين جميعا أعني: نفقة النكاح ونفقة
العدة والثاني يخص أحدهما وهو نفقة العدة أما
الأول فتسليم المرأة نفسها إلى الزوج وقت وجوب
التسليم ونعني بالتسليم: التخلية وهي أن تخلي
بين نفسها وبين زوجها برفع المانع من وطئها أو
الاستمتاع بها حقيقة إذا كان المانع من قبلها
أو من قبل غير الزوج فإن لم يوجد التسليم على
هذا التفسير وقت وجوب التسليم؛ فلا نفقة لها
وعلى هذا يخرج مسائل إذا
ج / 4 ص -19-
تزوج
بالغة حرة صحيحة سليمة ونقلها إلى بيته فلها
النفقة لوجود سبب الوجوب وشرطه وكذلك إذا لم
ينقلها وهي بحيث لا تمنع نفسها وطلبت النفقة
ولم يطالبها بالنقلة فلها النفقة؛ لأنه وجد
سبب الوجوب وهو استحقاق الحبس وشرطه وهو
التسليم على التفسير الذي ذكرنا فالزوج بترك
النقلة ترك حق نفسه مع إمكان الاستيفاء فلا
يبطل حقها في النفقة فإن طالبها بالنقلة
فامتنعت فإن كان امتناعها بحق بأن امتنعت
لاستيفاء مهرها العاجل فلها النفقة؛ لأنه لا
يجب عليها التسليم قبل استيفاء العاجل من
مهرها، فلم يوجد منها الامتناع من التسليم وقت
وجوب التسليم وعلى هذا قالوا: لو طالبها
بالنقلة بعد ما أوفاها المهر إلى دار مغصوبة
فامتنعت فلها النفقة؛ لأن امتناعها بحق فلم
يجب عليها التسليم فلم تمتنع من التسليم حال
وجوب التسليم ولو كانت ساكنة منزلها فمنعته من
الدخول عليها لا على سبيل النشوز فإن قالت
حولني إلى منزلك أو اكتر لي منزلا أنزله فإني
أحتاج إلى منزلي هذا آخذ كراءه فلها النفقة؛
لأن امتناعها عن التسليم في بيتها لغرض
التحويل إلى منزله أو إلى منزل الكراء امتناع
بحق؛ فلم يوجد منها الامتناع من التسليم وقت
وجوب التسليم وإن كان بغير حق بأن كان الزوج
قد أوفاها مهرها أو كان مؤجلا؛ فلا نفقة لها
لانعدام التسليم حال وجوب التسليم فلم يوجد
شرط الوجوب فلا تجب، ولهذا لم تجب النفقة
للناشزة وهذه ناشزة، ولو منعت نفسها عن زوجها
بعد ما دخل بها برضاها لاستيفاء مهرها فلها
النفقة عند أبي حنيفة؛ لأنه منع بحق عنده
وعندهما لا نفقة لها لكونه منعا بغير حق
عندهما ولو منعت نفسها عن زوجها بعد ما دخل
بها على كره منها فلها النفقة؛ لأنها محقة في
المنع وإن كانت صغيرة يجامع مثلها فهي
كالبالغة في النفقة؛ لأن المعنى الموجب للنفقة
يجمعهما وإن كانت لا يجامع مثلها؛ فلا نفقة
لها عندنا وعند الشافعي لها النفقة بناء على
أن سبب الوجوب عنده النكاح وشرطه عدم النشوز
وقد وجد وشرط الوجوب عندنا تسليم النفس ولا
يتحقق التسليم في الصغيرة التي لا يجامع مثلها
لا منها ولا من غيرها لقيام المانع في نفسها
من الوطء والاستمتاع لعدم قبول المحل لذلك
فانعدم شرط الوجوب؛ فلا يجب، وقال أبو يوسف
إذا كانت الصغيرة تخدم الزوج وينتفع الزوج بها
بالخدمة فسلمت نفسها إليه فإن شاء ردها وإن
شاء أمسكها فإن أمسكها فلها النفقة وإن ردها
فلا نفقة لها؛ لأنها لم تحتمل الوطء لم يوجد
التسليم الذي أوجبه العقد فكان له أن يمتنع من
القبول فإن أمسكها فلها النفقة؛ لأنه حصل له
منها نوع منفعة وضرب من الاستمتاع وقد رضي
بالتسليم القاصر، وإن ردها فلا نفقة لها حتى
يجيء حال يقدر فيها على جماعها لانعدام
التسليم الذي أوجبه العقد وعدم رضاه بالتسليم
القاصر وإن كان الزوج صغيرا والمرأة كبيرة؛
فلها النفقة لوجود التسليم منها على التفسير
الذي ذكرنا وإنما عجز الزوج عن القبض لأنه ليس
بشرط لوجوب النفقة، وكذلك لو كان الزوج مجبوبا
أو عنينا أو محبوسا في دين أو مريضا لا يقدر
على الجماع أو خارجا للحج فلها النفقة لما
قلنا ولو كانت المرأة مريضة قبل النقلة مرضا
يمنع من الجماع فنقلت وهي مريضة فلها النفقة
بعد النقلة وقبلها أيضا فإذا طلبت النفقة فلم
ينقلها الزوج وهي لا تمتنع من النقلة لو
طالبها الزوج وإن كانت تمتنع فلا نفقة لها
كالصحيحة كذا ذكر في ظاهر الروايةوروي عن أبي
يوسف أنه لا نفقة لها قبل النقلة فإذا نقلت
وهي مريضة؛ فله أن يردها، وجه رواية أبي يوسف
أنه لم يوجد التسليم؛ إذ هو تخلية وتمكين ولا
يتحقق ذلك مع المانع وهو تبوء المحل فلا تستحق
النفقة كالصغيرة التي لا تحتمل الوطء وإذا
أسلمت نفسها وهي مريضة له أن يردها؛ لأن
التسليم الذي أوجبه العقد وهو التسليم الممكن
من الوطء لما لم يوجد؛ كان له أن لا يقبل
التسليم الذي لم يوجبه العقد وهكذا قال أبو
يوسف في الصغيرة التي لم يجامع مثلها: أن له
أن يردها؛ لما قلنا، وجه ظاهر الرواية أن
التسليم في حق التمكين من الوطء إن لم يوجد
فقد وجد في حق التمكين من الاستمتاع وهذا يكفي
لوجوب النفقة كما في الحائض والنفساء والصائمة
صوم رمضان وإذا امتنعت فلم يوجد منها التسليم
رأسا؛ فلا تستحق النفقة، وقال أبو يوسف: إذا
كانت المريضة تؤنسه وينتفع بها في غير الجماع
فإن شاء ردها وإن شاء أمسكها فإن أمسكها فلها
النفقة وإن ردها فلا نفقة لها؛ لما ذكرنا في
الصغيرة وإن نقلت وهي صحيحة ثم مرضت في بيت
الزوج مرضا لا تستطيع معه الجماع لم تبطل
نفقتها بلا خلاف؛ لأن التسليم المطلق وهو
التسليم
ج / 4 ص -20-
الممكن
من الوطء والاستمتاع قد حصل بالانتقال؛ لأنها
كانت صحيحة كذا الانتقال ثم قصر التسليم لعارض
يحتمل الزوال فأشبه الحيض أو نقول التسليم
المستحق بالعقد في حق المريضة التي لا تحتمل
الجماع قبل الانتقال وبعده هو التسليم في حق
الاستمتاع لا في حق الوطء كما في حق الحائض
وكذا إذا نقلها ثم ذهب عقلها فصارت معتوهة
مغلوبة أو كبرت فطعنت في السن حتى لا يستطيع
زوجها جماعها أو أصابها بلاء فلها النفقة؛ لما
قلناولو حبست في دين ذكر في الجامع الكبير أن
لا نفقة لها ولم يفصل بين ما إذا كان الحبس
قبل الانتقال أو بعده وبين ما إذا كانت قادرة
على التخلية أو لا؛ لأن حبس النكاح قد بطل
بإعراض حبس الدين؛ لأن صاحب الدين أحق بحبسها
بالدين وفات التسليم أيضا بمعنى من قبلها وهو
مطلبها فصارت كالناشز، وذكر الكرخي أنها إذا
كانت محبوسة في دين من قبل النقلة فإن كانت
تقدر على أن تخلي بينه وبين نفسها فلها النفقة
وإن كانت في موضع لا تقدر على التخلية فلا
نفقة لها وهذا تفسير ما أجمله محمد في الجامع؛
لأنها إذا كانت تقدر على أن توصله إليها؛
فالظاهر منها عدم المنع لو طالبها الزوج وهذا
تفسير التسليم فإن لم يطالبها فالتقصير جاء من
قبله فلا يسقط حقها، وإن كانت لا تقدر على
التخلية فالتسليم فات بمعنى من قبلها وهو
مماطلتها فلا تستوجب النفقة ولو حبست بعد
النقلة لم تبطل نفقتها لما قلنا في المريضة،
وذكر القدوري أن ما ذكره الكرخي في الحبس
محمول على ما إذا كانت محبوسة لا تقدر على
قضائه فأما إذا كانت قادرة على القضاء فلم تقض
فلا نفقة لها وهذا صحيح؛ لأنها إذا لم تقض مع
القدرة على القضاء صارت كأنها حبست نفسها
فتصير بمعنى الناشزة ولو فرض القاضي لها
النفقة ثم أخذها رجل كارهة فهرب بها شهرا أو
غصبها غاصب لم يكن لها نفقة في المدة التي
منعها لفوات التسليم لا لمعنى من جهة الزوج
وروي عن أبي يوسف أن لها النفقة؛ لأن الفوات
ما جاء من قبلها، والرتقاء والقرناء لهما
النفقة بعد النقلة وقبلها إذا طلبتا ولم يظهر
منهما الامتناع في ظاهر الرواية وروي عن أبي
يوسف أن لهما النفقة بعد الانتقال فأما قبل
الانتقال فلا نفقة لهما، وجه رواية أبي يوسف
أن التسليم الذي أوجبه العقد لم يوجد في حقهما
قبل الانتقال وبعده إلا أنه لما قبلهما مع
العلم بالعيب فقد رضي بالتسليم القاصر كما قال
في المريضة، إلا أن ههنا قال: لا يجوز له أن
يردهما، وقال في الصغيرة التي ينتفع بها في
الخدمة والمريضة التي يستأنس بها أن له أن
يردهما، وجه ظاهر الرواية أن العقد انعقد في
حقهما موجبا تسليم مثلهما وهو التمكين من
الاستمتاع دون الوطء وهذا النوع من التسليم
يكفي لاستحقاق النفقة كتسليم الحائض والنفساء
والمحرمة والصائمة مع ما أن التسليم المطلق
يتصور منهما بواسطة إزالة المانع من الرتق
والقرن بالعلاج فيمكن الانتفاع بهما وطئا، ولو
حجت المرأة حجة فريضة فإن كان ذلك قبل النقلة
فإن حجت بلا محرم ولا زوج؛ فهي ناشزة وإن حجت
مع محرم لها دون الزوج فلا نفقة لها في قولهم
جميعا؛ لأنها امتنعت من التسليم بعد وجوب
التسليم فصارت كالناشزة، وإن كانت انتقلت إلى
منزل الزوج ثم حجت مع محرم لها دون الزوج فقد
قال أبو يوسف: لها النفقة وقال محمد: لا نفقة
لها، وجه قول محمد أن التسليم قد فات بأمر من
قبلها وهو خروجها فلا تستحق النفقة كالناشزة
ولأبي يوسف أن التسليم المطلق قد حصل
بالانتقال إلى منزل الزوج ثم فات بعارض أداء
فرض وهذا لا يبطل النفقة كما لو انتقلت إلى
منزل زوجها ثم لزمها صوم رمضان أو نقول حصل
التسليم المطلق بالانتقال ثم فات لعذر فلا
تسقط النفقة كالمريضة ثم إذا وجبت لها النفقة
على أصل أبي يوسف يفرض لها القاضي نفقة
الإقامة لا نفقة السفر؛ لأن الزوج لا يلزمه
إلا نفقة الحضر فأما زيادة المؤنة التي تحتاج
إليها المرأة في السفر من الكراء ونحو ذلك فهي
عليها لا عليه؛ لأنها لأداء الفرض، والفرض
عليها فكانت تلك المؤنة عليها لا عليه كما لو
مرضت في الحضر كانت المداواة عليها لا على
الزوج فإن جاورت بمكة أو أقامت بها بعد أداء
الحج إقامة لا تحتاج إليها سقطت نفقتها؛ لأنها
غير معذورة في ذلك فصارت كالناشزة فإن طلبت
نفقة ثلاثة أشهر قدر الذهاب والمجيء؛ لم يكن
على الزوج ذلك ولكن يعطيها نفقة شهر واحد فإذا
عادت أخذت ما بقي؛ لأن الواجب عليه لها نفقة
الإقامة لا نفقة السفر، ونفقة الإقامة تفرض
لها كل شهر فشهر
ج / 4 ص -21-
وهذه
الجملة لا تتفرع على أصل محمد هذا إذا لم يخرج
الزوج معها إلى الحج، فأما إذا خرج فلها
النفقة بلا خلاف لوجود التسليم المطلق لإمكان
الانتفاع بها وطئا واستمتاعا في الطريق فصارت
كالمقيمة في منزله، ولو آلى منها أو ظاهر منها
فلها النفقة؛ لأن حق الحبس قائم والتسليم
موجود ولتمكنه من وطئها والاستمتاع بها بغير
واسطة في الإيلاء وبواسطة تقديم الكفارة في
الظهار فوجد سبب وجوب النفقة وشرط وجوبها
فتجب، ولو تزوج أخت امرأته أو عمتها أو خالتها
ولم يعلم بذلك حتى دخل بها؛ فرق بينهم ووجب
عليه أن يعتزلها مدة عدة أختها فلامرأته
النفقة لوجود سبب الوجوب وشرطه وهو التسليم
إلا أنه امتنع الانتفاع بها بعارض يزول فأشبه
الحيض والنفاس وصوم رمضان ولا نفقة لأختها وإن
وجبت عليها العدة؛ لأنها معتدة من نكاح فاسد
وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا تزوج حر أو عبد
أمة أو قنة أو مدبرة أو أم ولد أنه إن بوأها
المولى تجب النفقة وإلا فلا؛ لأن سبب الوجوب
وهو حق الحبس وشرطه وهو التسليم لا يتحقق بدون
التبوئة؛ لأن التبوئة هو أن يخلي المولى بينها
وبين زوجها في منزل زوجها لا يستخدمها فإذا
كانت مشغولة بخدمة المولى؛ لم تكن محبوسة عند
الزوج ولا مسلمة إليه ولا يجبر المولى على
التبوئة؛ لأن خدمتها حق المولى فلا يجبر
الإنسان على إيفاء حق نفسه لغيره فإن بوأها
المولى ثم بدا له أن يستخدمها فله ذلك لما
ذكرنا أن خدمتها حق المولى؛ لأن منافع سائر
الأعضاء بقيت على ملكه وإنما أعارها للزوج
بالتبوئة وللمعير أن يسترد عاريته ولا نفقة
على الزوج مدة الاستخدام لفوات التسليم فيها
من جهة المولى، ولو بوأها مولاها بيت الزوج
فكانت تجيء في أوقات إلى مولاها فتخدمه من غير
أن يستخدمها قالوا لا تسقط نفقتها؛ لأن
الاسترداد إنما يحصل بالاستخدام ولم يوجد ولأن
هذا القدر من الخدمة لا يقدح في التسليم
كالحرة إذا خرجت إلى منزل أبيها وإن كانت
مكاتبة تزوجت بإذن المولى حتى جاز العقد فلها
النفقة ولا يشترط التبوئة؛ لأن خدمتها ليست حق
المولى؛ إذ لا حق للمولى في منافعها؛ ألا ترى
أنه ليس للمولى أن يستخدمها فكانت في منافعها
كالحرة فيجبر المولى على التسليم ويجب على
الزوج النفقة والعبد إذا تزوج بإذن المولى حرة
أو أمة فهو في وجوب النفقة كالحر لاستوائهما
في سبب الوجوب وهو حق الحبس وشرطه وهو
التسليم؛ ولهذا استويا في وجوب المهر إلا أن
الفرق بينهما أن النفقة إذا صارت مفروضة على
العبد تتعلق برقبته وكسبه؛ يباع فيها إلا أن
يفديه المولى فيسقط حق الغريم كسائر الديون
ويبدأ بها قبل الغلة لمولاه فإن كان المولى
ضرب عليه ضريبة فإن نفقة امرأته تقدم على
ضريبة مولاه؛ لأنها بالفرض صارت دينا في رقبته
حتى يباع بها فأشبه سائر الديون بخلاف الغلة
فإنها لا تجب للمولى على عبده دين في الحقيقة
فإن مات العبد قبل البيع؛ بطلت النفقة ولا
يؤخذ المولى بشيء لفوات محل التعليق فيبطل
التعليق كالعبد المرهون إذا هلك يبطل الدين
الذي تعلق به وكذلك إذا قتل العبد في ظاهر
الرواية، وذكر الكرخي أنه إذا قتل كانت النفقة
في قيمته وجه ما ذكره الكرخي أن القيمة قامت
مقام العبد؛ لأنها بدله فتقوم مقامه كأنه هو
كما في سائر الديونوجه ظاهر الرواية أن القيمة
إنما تقام مقام الرقبة في الديون المطلقة لا
فيما يجري مجرى الصلات، والنفقة تجري مجرى
الصلات على أصل أصحابنا لما نذكر إن شاء الله
تعالى فتسقط بالموت قبل القبض كسائر الصلات
ولهذا لو كان الزوج حرا فقتل خطأ؛ سقطت عندنا
ولا تقام الدية مقامه فكذا إذا كان عبدا وكذلك
المدبر وأم الولد لما قلنا غير أن هؤلاء لا
يباعون؛ لأن ديونهم تتعلق بأكسابهم لا برقابهم
لتعذر استيفائها من رقابهم؛ لأن الاستيفاء
بالبيع، ورقابهم لا تحتمل البيع وأما المكاتب
فعندنا يتعلق الدين برقبته وكسبه كالقن لتصور
الاستيفاء من رقبته لاحتمال العجز؛ لأنه إذا
عجز يعود قنا فيسعى فيها ما دام مكاتبا فإذا
قضي بعجزه وصار قنا يباع فيها إلا أن يفديه
المولى كما في الكتابة وأما المعتق البعض فهو
عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب إلا أنه لا
يتصور فيه العجز والبيع في الدين فيسعى في
نفقتها وعندهما هو حر عليه دين، ولا يجب على
العبد نفقة ولده سواء كان من امرأة حرة أو
أمة؛ لأنه إن كان من حرة يكون حرا فلا يجب على
العبد نفقة
ج / 4 ص -22-
الحر
وتكون على الأم نفقته إن كانت غنية وإن كانت
محتاجة فعلى من يرث الولد من القرابة وإن كان
من أمة فيكون عبدا لمولاها فلا يلزم غيره
نفقته، وكذلك الحر إذا تزوج أمة فولدت له
أولادا فنفقة الأولاد على مولى الأمة؛ لأنهم
مماليكه، والعبد والحر في ذلك سواء وكذلك
المدبرة، وأم الولد في هذا كالأمة القنة لما
قلنا وإن كان مولى الأمة في هذه المسائل فقيرا
والزوج أب الولد غنيا لا يؤمر الأب بالنفقة
على ولده بل إما أن يبيعه مولاه أو ينفق عليه
إن كان من أمة قنة وإن كان من مدبرة أو أم ولد
ينفق الأب عليه ثم يرجع على المولى إذا أيسر
لتعذر الجبر على البيع ههنا لعدم قبول المحل
فأما إذا كانت مكاتبة فنفقة أولادها لا تجب
على زوجها وإنما تجب على الأم المكاتبة سواء
كان الأب حرا أو عبدا؛ لأن ولد المكاتبة ملك
المولى رقبة وهو حق المكاتبة كسبا ألا ترى
أنها تستعين بأكسابه في رقبتها وعتقها وإذا
كانت أكسابه حقا لها؛ كانت نفقته عليها؛ لأن
نفقة الإنسان تتبع كسبه قال النبي صلى الله
عليه وسلم "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه" وإن زوج ابنته من عبده فلها النفقة على العبد؛ لأن البنت يجب لها
على أبيها دين فيجوز أن يجب على عبد أبيها وإن
زوج أمته من عبده فنفقتهما جميعا على المولى؛
لأنهما جميعا ملك المولى والله عز وجل أعلم
والكتابية في استحقاق النفقة على زوجها المسلم
كالمسلمة لاستوائهما في سبب الاستحقاق وشرطه
والذمي في وجوب النفقة عليه لزوجته التي ليست
من محارمه كالمسلم لاستوائهما في سبب الوجوب
وشرطه ولأن ما ذكرنا من دلائل الوجوب لا يوجب
الفصل بين المسلم والذمي في النفقة ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم
"وإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما
للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" وعلى المسلم نفقة زوجته فهكذا على الذمي وأما إذا كانت من محارمه
فقد قال أبو حنيفة: إنها إذا طلبت النفقة فإن
القاضي يقضي بالنفقة لها وعند أبي يوسف ومحمد
وزفر والشافعي لا يقضي بناء على أن هذا النكاح
فاسد عندهم وأما عند أبي حنيفة فقد ذكر بعض
مشايخنا أنه صحيح عندهم حتى قال إنهما يقران
عليه ولا يعترض عليهما قبل أن يترافعا أو يسلم
أحدهما، وذكر الكرخي أن هذا النكاح فاسد
بالإجماع وإنما أوجب أبو حنيفة النفقة مع فساد
هذا النكاح؛ لأنهما يقران عليه مع فساده عنده
فإن أبا حنيفة قال: إني أفرض عليه النفقة لكل
امرأة أقرت على نكاحها جائزا كان النكاح عندي
أو باطلا، ووجهه أنه لما أقره على نكاحها فقد
ألحق هذا النكاح بالنكاح الصحيح في حق وجوب
النفقة وقد يلحق النكاح الفاسد بالصحيح في بعض
الأحكام من النسب والعدة وغير ذلكويستوي في
استحقاق هذه النفقة المعسرة والموسرة فتستحق
الزوجة النفقة على زوجها وإن كانت موسرة
لاستوائهما في سبب الاستحقاق وشرطه ولأن هذه
النفقة لها شبه بالأعواض فيستوي فيها الفقير
والغني كنفقة القاضي والمضارب بخلاف نفقة
المحارم أنها لا تجب للغني لأنها تجب صلة محضة
لمكان الحاجة فلا تجب عند عدم الحاجة وتجب هذه
النفقة من غير قضاء القاضي لكنها لا تصير دينا
في الذمة إلا بقضاء أو رضا على ما نذكر إن شاء
الله تعالى بخلاف نفقة ذوي الأرحام فإنها لا
تجب من غير قضاء القاضي، ونفقة الوالدين
والمولودين تجب من غير قضاء القاضي والفرق بين
هذه الجملة يذكر في نفقة الأقارب إن شاء الله
تعالى ولا نفقة للناشزة لفوات التسليم بمعنى
من جهتها وهو النشوز والنشوز في النكاح أن
تمنع نفسها من الزوج بغير حق خارجة من منزله
بأن خرجت بغير إذنه وغابت أو سافرت فأما إذا
كانت في منزله ومنعت نفسها في رواية فلها
النفقة؛ لأنها محبوسة لحقه منتفع بها ظاهرا
وغالبا فكان معنى التسليم حاصلا والنشوز في
العدة أن تخرج من بيت العدة مراغمة لزوجها أو
تخرج لمعنى من قبلها وقد
روي "أن فاطمة
بنت قيس كانت تبدو على أحمائها فنقلها النبي
صلى الله عليه وسلم إلى بيت ابن أم مكتوم ولم
يجعل لها نفقة ولا سكنى"؛
لأن الإخراج كان بمعنى من قبلها فصارت كأنها
خرجت بنفسها مراغمة لزوجها وأما الثاني وهو
الشرط الذي يخص نفقة العدة فهو أن لا يكون
وجوب العدة بفرقة حاصلة من قبلها بسبب محظور
استحسانا، والقياس أنه ليس بشرط وقد مر، وجه
القياس والاستحسان فيما تقدم وكل امرأة لها
النفقة فلها الكسوة لقوله تعالى
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
وغير ذلك من النصوص التي ذكرناها فيما تقدم
ولأن سبب وجوبهما
ج / 4 ص -23-
لا
يختلف وكذا شرط الوجوب ويجبان على الموسر
والمعسر؛ لأن دليل الوجوب لا يفصل والله أعلم
وكل امرأة لها النفقة لها السكنى لقوله عز وجل
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ} وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن
من وجدكم ولأنهما استويا في سبب الوجوب وشرطه
وهو ما ذكرنا فيستويان في الوجوب ويستوي في
وجوبهما أصل الوجوب الموسر والمعسر؛ لأن دلائل
الوجوب لا توجب الفصل وإنما يختلفان في مقدار
الواجب منهما وسنبينه إن شاء الله تعالى في
موضعه، ولو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو
مع أحمائها كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها
وأقاربه فأبت ذلك؛ عليه أن يسكنها في منزل
مفرد؛ لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في
المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر ولأنه
يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق
ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث حتى لو كان
في الدار بيوت ففرغ لها بيتا وجعل لبيتها غلقا
على حدة قالوا: إنها ليس لها أن تطالبه ببيت
آخر، ولو كانت في منزل الزوج وليس معها أحد
يساكنها فشكت إلى القاضي أن الزوج يضربها
ويؤذيها؛ سأل القاضي جيرانها فإن أخبروا بما
قالت وهم قوم صالحون فالقاضي يؤدبه ويأمره بأن
يحسن إليها ويأمر جيرانه أن يتفحصوا عنها وإن
لم يكن الجيران قوما صالحين أمره القاضي أن
يحولها إلى جيران صالحين فإن أخبروا القاضي
بخلاف ما قالت؛ أقرها هناك ولم يحولها وللزوج
أن يمنع أباها وأمها وولدها من غيره ومحارمها
من الدخول عليها؛ لأن المنزل منزله فكان له أن
يمنع من شاء وليس له أن يمنعهم من النظر إليها
وكلامها خارج المنزل؛ لأن ذلك ليس بحق له إلا
أن يكون في ذلك فتنة بأن يخاف عليها الفساد
فله أن يمنعهم من ذلك أيضا
فصل: وأما بيان مقدار الواجب منها فالكلام في هذا الفصل
في موضعين: أحدهما في بيان ما تقدر به هذه
النفقة والثاني: في بيان من تقدر به أما الأول
فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا: هذه
النفقة غير مقدرة بنفسها بل بكفايتها، وقال
الشافعي مقدرة بنفسها، على الموسر مدان، وعلى
المتوسط مد ونصف، وعلى المعسر نصف مد واحتج
بظاهر قوله تعالى
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} أي قدر سعته فدل أنها مقدرة ولأنه إطعام واجب فيجب أن يكون مقدرا
كالإطعام في الكفارات ولأنها وجبت بدلا؛ لأنها
تجب بمقابلة الملك عندي ومقابلة الحبس عندكم
فكانت مقدرة كالثمن في المبيع والمهر في
النكاح ولنا قوله تعالى
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
مطلقا عن التقدير فمن قدر فقد خالف النص ولأنه
أوجبها باسم الرزق ورزق الإنسان كفايته في
العرف والعادة كرزق القاضي والمضاربوروي أن
هند امرأة أبي سفيان قالت يا رسول الله إن أبا
سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني
وولدي فقال صلى الله عليه وسلم "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف" نص عليه أفضل الصلاة والسلام على الكفاية فدل أن نفقة الزوجة مقدرة
بالكفاية ولأنها وجبت بكونها محبوسة بحق الزوج
ممنوعة عن الكسب لحقه فكان وجوبها بطريق
الكفاية كنفقة القاضي والمضاربوأما الآية فهي
حجة عليه؛ لأن فيها أمر الذي عنده السعة
بالإنفاق على قدر السعة مطلقا عن التقدير
بالوزن فكان التقدير به تقييدا لمطلق فلا يجوز
إلا بدليل وقوله: إنه إطعام واجب يبطل بنفقة
الأقارب فإنه إطعام واجب وهي غير مقدرة بنفسها
بل بالكفاية، والتقدير بالوزن في الكفارات ليس
لكونها نفقة واجبة بل لكونها عبادة محضة
لوجوبها على وجه الصدقة كالزكاة فكانت مقدرة
بنفسها كالزكاة ووجوب هذه النفقة ليس على وجه
الصدقة بل على وجه الكفاية فتتقدر بكفايتها
كنفقة الأقارب وأما قوله: إنها وجبت بدلا
ممنوع، ولسنا نقول: إنها تجب بمقابلة الحبس بل
تجب جزاء على الحبس ولا يجوز أن تكون واجبة
بمقابلة ملك النكاح لما ذكرنا وإذا كان وجوبها
على سبيل الكفاية فيجب على الزوج من النفقة
قدر ما يكفيها من الطعام والإدام والدهن؛ لأن
الخبز لا يؤكل عادة إلا مأدوما والدهن لا بد
منه للنساء ولا تقدر نفقتها بالدراهم
والدنانير على أي سعر كانت؛ لأن فيه إضرارا
بأحد الزوجين؛ إذ السعر قد يغلو وقد يرخص بل
تقدر لها على حسب اختلاف الأسعار غلاء ورخصا
رعاية للجانبين ويجب عليه من الكسوة في كل سنة
مرتين صيفية وشتوية؛ لأنها كما تحتاج إلى
الطعام والشراب تحتاج إلى اللباس
ج / 4 ص -24-
لستر
العورة ولدفع الحر والبرد ويختلف ذلك باليسار
والإعسار والشتاء والصيف على ما نذكر إن شاء
الله تعالى، وذكر في كتاب النكاح أن المعسر
يفرض عليه خمسة دراهم في الشهر والموسر عشرة
وذلك محمول على اعتبار قرار السعر في الوقت،
ولو جاء الزوج بطعام يحتاج إلى الطبخ والخبز
فأبت المرأة الطبخ والخبز يعني بأن تطبخ وتخبز
لما روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأعمال بين علي وفاطمة رضي الله
عنهما فجعل أعمال الخارج على علي وأعمال
الداخل على فاطمة رضي الله عنهما ولكنها لا تجبر على ذلك إن أبت ويؤمر الزوج أن يأتي لها بطعام
مهيأ، ولو استأجرها للطبخ والخبز؛ لم يجز ولا
يجوز لها أخذ الأجرة على ذلك؛ لأنها لو أخذت
الأجرة لأخذتها على عمل واجب عليها في الفتوى
فكان في معنى الرشوة فلا يحل لها الأخذ، وذكر
الفقيه أبو الليث أن هذا إذا كان بها علة لا
تقدر على الطبخ والخبز أو كانت من بنات
الأشراف، فأما إذا كانت تقدر على ذلك وهي ممن
تخدم بنفسها تجبر على ذلك وإن كان لها خادم
يجب لخادمها أيضا النفقة والكسوة إذا كانت
متفرغة لشغلها ولخدمتها لا شغل لها غيرها؛ لأن
أمور البيت لا تقوم بها وحدها فتحتاج إلى خادم
ولا يجب عليه لأكثر من خادم واحد في قول أبي
حنيفة ومحمد عند أبي يوسف يجب لخادمين ولا يجب
أكثر من ذلك وروي عنه رواية أخرى أن المرأة
إذا كانت يجل مقدارها عن خدمة خادم واحد
وتحتاج إلى أكثر من ذلك يجب لأكثر من ذلك
بالمعروف وبه أخذ الطحاوي وجه ظاهر قول أبي
يوسف إن خدمة امرأة لا تقوم بخادم واحد بل تقع
الحاجة إلى خادمين يكون أحدهما معينا للآخر
وجه قولهما أن الزوج لو قام بخدمتها بنفسه لا
يلزمه نفقة خادم أصلا وخادم واحد يقوم مقامه
فلا يلزمه غيره؛ لأنه إذا قام مقامه؛ صار كأنه
خدم بنفسه ولأن الخادم الواحد لا بد منه
والزيادة على ذلك ليس له حد معلوم يقدر به فلا
يكون اعتبار الخادمين أولى من الثلاثة
والأربعة فيقدر بالأقل وهو الواحد هذا إذا كان
الزوج موسرا فأما إذا كان معسرا فقد روى الحسن
عن أبي حنيفة أنه ليس عليه نفقة خادم وإن كان
لها خادم، وقال محمد: إن كان لها خادم فعليه
نفقته وإلا فلا، وجه قول محمد أنه لما كان لها
خادم علم أنها لا ترضى بالخدمة بنفسها فكان
على الزوج نفقة خادمها وإن لم يكن لها خادم؛
دل أنها راضية بالخدمة بنفسها فلا يجبر على
اتخاذ خادم لم يكن، وجه رواية الحسن أن الواجب
على الزوج المعسر من النفقة أدنى الكفاية، وقد
تكفى المرأة بخدمة نفسها فلا يلزمه نفقة
الخادم وإن كان لها خادم وأما الثاني: وهو
بيان من يقدر به هذه النفقة فقد اختلف فيه
أيضا ذكر الكرخي أن قدر النفقة والكسوة يعتبر
بحال الزوج في يساره وإعساره لا بحالها وهو
قول الشافعي أيضا، وذكر الخصاف أنه يعتبر
بحالهما جميعا حتى لو كانا موسرين فعليه نفقة
اليسار وإن كانا معسرين فعليه نفقة الإعسار،
وكذلك إذا كان الزوج معسرا والمرأة موسرة، ولا
خلاف في هذه الجملة فأما إذا كان الزوج موسرا
والمرأة معسرة؛ فعليه نفقة اليسار على ما ذكره
الكرخي وعلى قول الخصاف عليه أدنى من نفقة
الموسرات وأوسع من نفقة المعسرين حتى لو كان
الزوج مفرطا في اليسار يأكل خبز الحوارى ولحم
الحمل والدجاج، والمرأة مفرطة في الفقر تأكل
في بيتها خبز الشعير؛ لا يجب عليه أن يطعمها
ما يأكله ولا يطعمها ما كانت تأكل في بيت
أهلها أيضا ولكن يطعمها خبز الحنطة ولحم الشاة
وكذلك الكسوة على هذا الاعتبار، وجه قول
الخصاف إن في اعتبار حالتهما في تقدير النفقة
والكسوة نظرا من الجانبين فكان أولى من اعتبار
حال أحدهما والصحيح ما ذكره الكرخي لقوله
تعالى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا
آتَاهَا} وهذا
نص في الباب إذا عرف هذا فنقول إذا كان الزوج
معسرا ينفق عليها أدنى ما يكفيها من الطعام
والإدام والدهن بالمعروف ومن الكسوة أدنى ما
يكفيها من الصيفية والشتوية، وإن كان متوسطا
ينفق عليها أوسع من ذلك بالمعروف ومن الكسوة
أرفع من ذلك بالمعروف، وإن كان غنيا ينفق
عليها أوسع من ذلك كله بالمعروف ومن الكسوة
أرفع من ذلك كله بالمعروف وإنما كانت النفقة
والكسوة بالمعروف؛ لأن دفع الضرر عن الزوجين
واجب وذلك في إيجاب الوسط من الكفاية وهو
تفسير المعروف فيكفيها من الكسوة في الصيف
قميص وخمار
ج / 4 ص -25-
وملحفة
وسراويل أيضا في عرف ديارنا على قدر حاله من
الخشن واللين والوسط، والخشن إذا كان من
الفقراء واللين إذا كان من الأغنياء والوسط
إذا كان من الأوساط وذلك كله من القطن أو
الكتان على حسب عادات البلدان إلا الخمار فإنه
يفرض على الغني خمار حرير في الشتاء يزاد على
ذلك حشويا وفروة بحسب اختلاف البلاد في الحر
والبرد وأما نفقة الخادم فقد قيل: إن الزوج
الموسر يلزمه نفقة الخادم كما يلزم المعسر
نفقة امرأته وهو أدنى الكفاية وكذا الكسوة،
ولو اختلفا فقالت المرأة: إنه موسر وعليه نفقة
الموسرين، وقال الزوج: إني معسر وعلي نفقة
المعسرين والقاضي لا يعلم بحاله ذكره في كتاب
النكاح أن القول قول الزوج مع يمينه وكذا ذكر
القاضي والخصاف، وذكر محمد في الزيادات أن
القول قول المرأة مع يمينها وأصل هذا أنه متى
وقع الاختلاف بين الطالب وبين المطلوب في يسار
المطلوب وإعساره في سائر الديون فالمشايخ
اختلفوا فيه منهم من جعل القول قول المطلوب
مطلقا ومنهم من جعل القول قول الطالب مطلقا
ومنهم من حكم فيه رأي المطلوب ومحمد فصل بين
الأمرين فجعل القول قول الطالب في البعض وقول
المطلوب في البعض، وذكر في الفصل أصلا يوجب أن
يكون القول في النفقة قول المرأة وكذا فصل
الخصاف لكنه ذكر أصلا يقتضي أن يكون القول في
النفقة قول الزوجوبيان الأصلين وذكر الحجج
يأتي في كتاب الحبس إن شاء الله تعالى فإن
أقامت المرأة البينة على يساره قبلت بينتها
وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينتها؛ لأنها
مثبتة وبينة الزوج لا تثبت شيئا، ولو فرض
القاضي لها نفقة شهر وهو معسر ثم أيسر قبل
تمام الشهر يزيدها في الفرض؛ لأن النفقة تختلف
باختلاف اليسار والإعسار وكذلك لو فرض لها
فريضة للوقت والسعر رخيص ثم غلا فلم يكفها ما
فرض لها فإنه يزيدها في الفرض؛ لأن الواجب
كفاية الوقت وذلك يختلف باختلاف السعر، ولو
فرض لها نفقة شهر فدفعها الزوج إليها ثم ضاعت
قبل تمام الشهر فليس عليه نفقة أخرى حتى يمضي
الشهر وكذا إذا كساها الزوج فضاعت الكسوة قبل
تمام المدة فلا كسوة لها عليه حتى تمضي المدة
التي أخذت لها الكسوة بخلاف نفقة الأقارب فإن
هناك يجبر على نفقة أخرى وكسوة أخرى لتمام
المدة التي أخذ لها الكسوة إذا حلف أنها ضاعت،
ووجه الفرق أن تلك النفقة تجب للحاجة؛ ألا ترى
أنها لا تجب إلا للمحتاج وقد تحققت الحاجة إلى
نفقة أخرى وكسوة أخرى ووجوب هذه النفقة ليس
معلولا بالحاجة بدليل أنها تجب للموسرة إلا أن
لها شبها بالأعواض وقد جعلت عوضا عن الاحتباس
في جميع الشهر فلا يلزمه عوض آخر في هذه
المدة، ولو فرض القاضي لها نفقة أو كسوة فمضى
الوقت الذي أخذت له وقد بقيت تلك النفقة أو
الكسوة بأن أكلت من مال آخر أو لبست ثوبا آخر
فلها عليه نفقة أخرى وكسوة أخرى بخلاف نفقة
الأقارب والفرق ما ذكرنا أن نفقة الأقارب تجب
بعلة الحاجة صلة محضة ولا حاجة عند بقاء
النفقة والكسوة، ونفقة الزوجات لا تجب لمكان
الحاجة وإنما تجب جزاء على الاحتباس لكن لها
شبهة العوضية عن الاحتباس وقد جعلت عوضا في
هذه المدة وهي محتبسة بعد مضي هذه المدة بحبس
آخر فلا بد لها من عوض آخر، ولو نفدت نفقتها
قبل مضي المدة التي لها أخذت أو تخرق الثوب؛
فلا نفقة لها على الزوج ولا كسوة حتى تمضي
المدة بخلاف نفقة الأقارب وكسوتهم، والفرق نحو
ما ذكرنا والله أعلم
"فصل" وأما بيان كيفية وجوب هذه النفقة فقد اختلف العلماء في كيفية
وجوبها قال أصحابنا: إنها تجب على وجه لا يصير
دينا في ذمة الزوج إلا بقضاء القاضي أو بتراضي
الزوجين فإن لم يوجد أحد هذين؛ تسقط بمضي
الزمان وقال الشافعي: إنها تصير دينا في الذمة
من غير قضاء القاضي ولا رضاه ولا تسقط بمضي
الزمان فيقع الكلام في هذا الفصل في مواضع: في
بيان أن الفرض من القاضي أو التراضي هل هو شرط
صيرورة هذه النفقة دينا في ذمة الزوج أم لا
وفي بيان شرط جواز فرضها من القاضي على الزوج
إذا كان شرطا، وفي بيان حكم صيرورتها دينا في
ذمة الزوج أما الأول فهو على الاختلاف الذي
ذكرنااحتج الشافعي بقوله عز وجل
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} على كلمة إيجاب، فقد أخبر سبحانه وتعالى عن وجوب النفقة والكسوة
مطلقا عن الزمان، وقوله عز وجل
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ
ج / 4 ص -26-
مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أمر تعالى بالإنفاق مطلقا عن الوقت ولأن النفقة قد وجبت والأصل أن
ما وجب على إنسان لا يسقط إلا بالإيصال أو
الإبراء كسائر الواجبات ولأنها وجبت عوضا
لوجوبها بمقابلة المتعة فبقيت في الذمة من غير
قضاء كالمهر، والدليل عليه أن الزوج يجبر على
تسليم النفقة ويحبس عليها والصلة لا تحتمل
الحبس والجبر ولنا أن هذه النفقة تجري مجرى
الصلة وإن كانت تشبه الأعواض لكنها ليست بعوض
حقيقة؛ لأنها لو كانت عوضا حقيقة فأما إن كانت
عوضا عن نفس المتعة وهي الاستمتاع وأما إن
كانت عوضا عن ملك المتعة وهي الاختصاص بها لا
سبيل إلى الأول؛ لأن الزوج ملك متعتها بالعقد
فكان هو بالاستمتاع متصرفا في ملك نفسه
باستيفاء منافع مملوكة له ومن تصرف في ملك
نفسه لا يلزمه عوض لغيره ولا وجه للثاني؛ لأن
ملك المتعة قد قوبل بعوض مرة فلا يقابل بعوض
آخر فخلت النفقة عن معوض فلا يكون عوضا حقيقة
بل كانت صلة؛ ولذلك سماها الله تعالى رزقا
بقوله عز وجل {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}،
والرزق اسم للصلة كرزق القاضي، والصلات لا
تملك بأنفسها بل بقرينة تنضم إليها وهي القبض
كما في الهبة أو قضاء القاضي؛ لأن القاضي له
ولاية الإلزام في الجملة أو التراضي؛ لأن
ولاية الإنسان على نفسه أقوى من ولاية القاضي
عليه بخلاف المهر؛ لأنه أوجب بمقابلة ملك
المتعة فكان عوضا مطلقا فلا يسقط بمضي الزمان
كسائر الديون المطلقة ولا حجة له في الآيتين؛
لأن فيهما وجوب النفقة لا بقاؤها واجبة؛
لأنهما لا يتعرضان للوقت فلو ثبت البقاء إنما
يثبت باستصحاب الحال وأنه لا يصلح لإلزام
الخصم وأما قوله: إن الأصل فيما وجب على إنسان
لا يسقط إلا بالإيصال أو الإبراء فنقول: هذا
حكم الواجب مطلقا لا حكم الواجب على طريق
الصلة بل حكمه أنه يسقط بمضي الزمان كنفقة
الأقارب وأجرة المسكن وقد خرج الجواب عن قوله:
إنها وجبت عوضا وأما الجبر والحبس فالصلة
تحتمل ذلك في الجملة فإنه يجبر على نفقة
الأقارب ويحبس بها وإن كانت صلة وكذا من أوصى
بأن يوهب عبده من فلان بعد موته فمات الموصي
فامتنع الوارث من تنفيذ الهبة في العبد يجبر
عليه ويحبس؛ بأنه وإن كانت الهبة صلة فدل أن
الجبر والحبس لا ينفيان معنى الصلة وعلى هذا
يخرج ما إذا استدانت على الزوج قبل الفرض أو
التراضي فأنفقت أنها لا ترجع بذلك على الزوج
بل تكون متطوعة في الإنفاق سواء كان الزوج
غائبا أو حاضرا أنها لم تصر دينا في ذمة الزوج
لعدم شرط صيرورتها دينا في ذمته فكانت
الاستدانة إلزام الدين الزوج بغير أمره وأمر
من له ولاية الأمر فلم يصح وكذا إذا أنفقت من
مال نفسها لما قلنا، وكذا لو أبرأت زوجها من
النفقة قبل فرض القاضي والتراضي لا يصح
الإبراء؛ لأنه إبراء عما ليس بواجب والإبراء
إسقاط وإسقاط ما ليس بواجب ممتنع وكذا لو
صالحت زوجها على نفقة وذلك لا يكفيها ثم طلبت
من القاضي ما يكفيها فإن القاضي يفرض لها ما
يكفيها؛ لأنها حطت ما ليس بواجب والحط قبل
الوجوب باطل كالإبراء والله أعلم. وأما الثاني
فلوجوب الفرض على القاضي وجوازه منه شرطان
أحدهما طلب المرأة الفرض منه؛ لأنه إنما يفرض
النفقة على الزوج حقا لها فلا بد من الطلب من
صاحب الحق والثاني: حضرة الزوج حتى لو كان
الزوج غائبا فطلبت المرأة من القاضي أن يفرض
لها عليه نفقة لم يفرض وإن كان القاضي عالما
بالزوجية وهذا قول أبي حنيفة الآخر وهو قول
شريح وقد كان أبو حنيفة أولا يقول: وهو قول
إبراهيم النخعي: إن هذا ليس بشرط ويفرض القاضي
النفقة على الغائب وحجة هذا القول ما روينا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "قال لهند
امرأة أبي سفيان خذي من مال أبي سفيان ما
يكفيك وولدك بالمعروف" وذلك من النبي صلى الله
عليه وسلم كان فرضا للنفقة على أبي سفيان وكان
غائبا وحجة القول الأخير أن الفرض من القاضي
على الغائب قضاء عليه وقد صح من أصلنا أن
القضاء على الغائب لا يجوز إلا أن يكون عنه
خصم حاضر ولم يوجد وأما الحديث فلا حجة له
فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما
قال لهند على سبيل الفتوى لا على طريق القضاء
بدليل أنه لم يقدر لها ما تأخذه من مال أبي
سفيان وفرض النفقة من القاضي تقديرها فإذا لم
تقدر لم تكن فرضا فلم تكن قضاء تحقيقه أن من
يجوز القضاء على الغائب فإنما يجوزه إذا كان
غائبا
ج / 4 ص -27-
غيبة
سفر فأما إذا كان في المصر فإنه لا يجوز
بالإجماع؛ لأنه لا يعد غائبا وأبو سفيان لم
يكن مسافرا فدل أن ذلك كان إعانة لا قضاء فإن
لم يكن القاضي عالما بالزوجية فسألت القاضي أن
يسمع بينتها بالزوجية ويفرض على الغائب قال
أبو يوسف: لا يسمعها ولا يفرض، وقال زفر: يسمع
ويفرض لها وتستدين عليه فإذا حضر الزوج وأنكر
يأمرها بإعادة البينة في وجهه فإن فعلت نفذ
الفرض وصحت الاستدانة، وإن لم يفعل لم ينفذ
ولم يصح، وجه قول زفر أن القاضي إنما يسمع هذه
البينة لا لإثبات النكاح على الغائب ليقال: إن
الغيبة تمنع من ذلك بل ليتوصل بها إلى الفرض،
ويجوز سماع البينة في حق حكم دون حكم كشهادة
رجل وامرأتين على السرقة وأنها تقبل في حق
المال ولا تقبل في حق القطع كذا ههنا تقبل هذه
البينة في حق صحة الفرض لا في إثبات النكاح
فإذا حضر وأنكر استعاد منها البينة فإن أعادت؛
نفذ الفرض وصحت الاستدانة عليه وإلا فلا
والصحيح قول أبي يوسف؛ لأن البينة على أصل
أصحابنا لا تسمع إلا على خصم حاضر ولا خصم فلا
تسمع، وما ذكره زفر أن بينتها تقبل في حق صحة
الفرض غير سديد؛ لأن صحة الفرض مبنية على ثبوت
الزوجية فإذا لم يكن إلى إثبات الزوجية
بالبينة سبيل لعدم الخصم؛ لم يصح، فلا سبيل
إلى القبول في حق صحة الفرض ضرورة هذا إذا كان
الزوج غائبا ولم يكن له مال حاضر فأما إذا كان
له مال حاضر فإن كان المال في يدها وهو من جنس
النفقة فلها أن تنفق على نفسها منه بغير أمر
القاضي لحديث أبي سفيان فلو طلبت المرأة من
القاضي فرض النفقة في ذلك المال وعلم القاضي
بالزوجية وبالمال فرض لها النفقة؛ لأن لها أن
تأخذه فتنفق على نفسها من غير فرض القاضي فلم
يكن الفرض من القاضي في هذه الصورة قضاء بل
كان إعانة لها على استيفاء حقها وإن كان في يد
مودعه أو مضاربه أو كان له دين على غيره فإن
كان صاحب اليد مقرا الوديعة والزوجية أو كان
من عليه الدين مقرا بالدين والزوجية أو كان
القاضي عالما بذلك فرض لها في ذلك المال
نفقتها في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر: لا
يفرض، وجه قوله إن هذا قضاء على الغائب من غير
أن يكون عنه خصم حاضر؛ إذ المودع ليس بخصم على
الزوج وكذا المديون فلا يجوز ولنا أن صاحب
اليد وهو المودع إذا أقر الوديعة والزوجية أو
أقر المديون بالدين والزوجية فقد أقر أن لها
حق الأخذ والاستيفاء؛ لأن للزوجة أن تمد يدها
إلى مال زوجها فتأخذ كفايتها منه لحديث امرأة
أبي سفيان فلم يكن القاضي فرض لها النفقة في
ذلك المال قضاء بل كان إعانة لها على أخذ حقها
وله على إحياء زوجته؛ فكان له ذلك وإن جحد أحد
الأمرين ولا علم للقاضي به ولم يسمع البينة
ولم يفرض؛ لأن سماع البينة والفرض يكون قضاء
على الغائب من غير خصم حاضر؛ لأنه إن أنكر
الزوجية لا يمكنها إقامة البينة على الزوجية؛
لأن المودع ليس بخصم عنه في الزوجية وإن أنكر
الوديعة أو الدين لا يمكنها إقامة البينة على
الوديعة والدين؛ لأنها ليست بخصم عن زوجها في
إثبات حقوقه فكان سماع البينة على ذلك قضاء
على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر وذلك
غير جائز عندنا هذا إذا كانت الوديعة والدين
من جنس النفقة بأن كانت دراهم أو دنانير أو
طعاما أو ثيابا من جنس كسوتها فأما إذا كان من
جنس آخر فليس لها أن تتناول شيئا من ذلك وإن
طلبت من القاضي فرض النفقة فيه فإن كان عقارا
لا يفرض القاضي النفقة بالإجماع؛ لأنه لا يمكن
إيجاب النفقة فيه إلا بالبيع ولا يباع العقار
على الغائب في النفقة بالاتفاق وإن كان منقولا
من العروض فقد ذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي الخلاف فيه فقال القاضي: لا يبيع
العروض عليه في قول أبي حنيفة وعندهما: له أن
يبيعها عليه وهي مسألة الحجر على الحر العاقل
البالغ، وذكر القدوري المسألة على الاتفاق
فقال القاضي: إنما يبيع على أصلهما على الحاضر
الممتنع عن قضاء الدين لكونه ظالما في
الامتناع دفعا لظلمه والغائب لا يعلم امتناعه
فلا يعلم ظلمه فلا يباع عليه وإذا فرض القاضي
لها النفقة في شيء من ذلك وأخذ منها كفيلا فهو
حسن لاحتمال أن يحضر الزوج فيقيم البينة على
طلاقها أو على إيفاء حقها في النفقة عاجلا
فينبغي أن يستوثق فيما يعطيها بالكفالة ثم إذا
رجع الزوج ينظر إن كان لم يعجل لها النفقة؛
فقد مضى الأمر، وإن كان قد عجل وأقام البينة
على ذلك أو لم يقم له بينة واستحلفها فنكلت
فهو بالخيار إن شاء أخذ من المرأة وإن شاء أخذ
من الكفيل
ج / 4 ص -28-
ولو
أقرت المرأة أنها كانت قد تعجلت النفقة من
الزوج فإن الزوج يأخذ منها ولا يأخذ من
الكفيل؛ لأن الإقرار حجة قاصرة فيظهر في حقها
لا في حق الكفيل، ولو طلبت الزوجة من الحاكم
أن يدفع مهرها ونفقتها من الوديعة والدين؛ لم
يفعل ذلك وإن كان عالما بهما؛ لأن القضاء
بالنفقة في الوديعة والدين كان نظرا للغائب
لما في الإنفاق من إحياء زوجته بدفع الهلاك
عنها والظاهر أنه يرضى بذلك وهذا المعنى لا
يوجد في المهر والدين، ولو كان الحاكم فرض لها
على الزوج النفقة قبل غيبته فطلبت من الحاكم
أن يقضي لها بنفقة ماضية في الوديعة والدين
قضى لها بذلك؛ لأنه لما جاز القضاء بالنفقة في
الوديعة والدين يستوي فيه الماضي والمستقبل؛
لأن طريق الجواز لا يختلف وكذلك إذا كان
للغائب مال حاضر وهو من جنس النفقة وله أولاد
صغار فقراء وكبار ذكور زمنى فقراء أو إناث
فقيرات ووالدان فقيران فإن كان المال في
أيديهم فلهم أن ينفقوا منه على أنفسهم وإن
طلبوا من القاضي فرض النفقة منه فرض؛ لأن
الفرض منه يكون إعانة لا قضاء وإن كان المال
في يد مودعه أو كان دينا على إنسان فرض القاضي
نفقتهم منه وكذلك إذا أقر المودع والمديون
الوديعة والدين والنسب أو علم القاضي بذلك؛
لأن نفقة الوالدين والمولودين تجب بطريق
الإحياء؛ لأن الإنسان يرضى بإحياء كله وجزئه
من ماله ولهذا كان لأحدهما أن يمد يده إلى مال
الآخر عند الحاجة ويأخذه من غير قضاء ولا رضا
وقد تحققت الحاجة ههنا فكان للقاضي أن يفرض
ذلك من طريق الإعانة لصاحب الحق، وإن جحدهما
أو أحدهما ولا علم للقاضي به لم يفرض لما
ذكرنا في الزوجة ولا يفرض لغيرهما ولا من ذوي
الرحم المحرم نفقتهم في مال الغائب؛ لأن
نفقتهم من طريق الصلة المحضة؛ إذ ليس لهم حق
في مال الغائب أصلا ألا ترى أنه ليس لأحد أن
يمد يده إلى مال صاحبه فيأخذه وإن مست حاجته
من غير قضاء القاضي فكان الفرض قضاء على
الغائب من غير خصم حاضر؛ فلا يجوز وإن لم يكن
المال من جنس النفقة؛ فليس لهم أن يبيعوا
بأنفسهم وليس للقاضي أن يبيع على الغائب في
النفقة على هؤلاء العقار بالإجماع والحكم في
العروض ما بينا من الاتفاق أو الاختلاف وفي
بيع الأب العروض خلاف نذكره في نفقة
المحارموأما يسار الزوج فليس بشرط لوجوب الفرض
حتى لو كان معسرا وطلبت المرأة الفرض من
القاضي فرض عليه إذا كان حاضرا وتستدين عليه
فتنفق على نفسها؛ لأن الإعسار لا يمنع وجوب
هذه النفقة فلا يمنع الفرض، وإذا طلبت المرأة
من القاضي فرض النفقة على زوجها الحاضر فإن
كان قبل النقلة وهي بحيث لا تمتنع من التسليم
لو طالبها بالتسليم أو كان امتناعها بحق فرض
القاضي لها إعانة لها على الوصول إلى حقها
الواجب لوجود سبب الوجوب وشرطه وإن كان بعدما
حولها إلى منزله فزعمت أنه ليس ينفق عليها أو
شكت التضييق في النفقة؛ فلا ينبغي له أن يعجل
بالفرض ولكنه يأمره بالنفقة والتوسيع فيها؛
لأن ذلك من باب الإمساك بالمعروف وإنه مأمور
به ويتأتى في الفرض ويتولى الزوج الإنفاق
بنفسه قبل الفرض إلى أن يظهر ظلمه بالترك
والتضييق في النفقة فحينئذ يفرض عليه نفقة كل
شهر ويأمره أن يدفع النفقة إليها لتنفق هي
بنفسها على نفسها، ولو قالت: أيها القاضي إنه
يريد أن يغيب فخذ لي منه كفيلا بالنفقة لا
يجبره القاضي على إعطاء الكفيل؛ لأن نفقة
المستقبل غير واجبة للحال فلا يجبر على الكفيل
بما ليس بواجب يحققه أنه لا يجبر على التكفيل
بدين واجب فكيف بغير الواجب، وإلى هذا أشار
أبو حنيفة فقال: لا أوجب عليه كفيلا بنفقة لم
تجب لها بعد وقال أبو يوسف أستحسن أن آخذ لها
منه كفيلا بنفقة أشهر؛ لأنا نعلم بالعادة أن
هذا القدر يجب في السفر؛ لأن السفر يمتد إلى
شهر غالبا والجواب أن نفقة الشهر لا تجب قبل
الشهر فكان تكفيلا بما ليس بواجب فلا يجبر
عليه ولكن لو أعطاها كفيلا جاز؛ لأن الكفالة
بما ينوب على فلان جائزة وأما الثالث وهو بيان
حكم صيرورة هذه النفقة دينا في ذمة الزوج
فنقول إذا فرض القاضي لها نفقة كل شهر أو
تراضيا على ذلك ثم منعها الزوج قبل ذلك أشهرا
غائبا كان أو حاضرا فلها أن تطالبه بنفقة ما
مضى؛ لأنها صارت دينا بالفرض أو التراضي؛ صارت
في استحقاق المطالبة بها كسائر الديون بخلاف
نفقة الأقارب إذا مضت المدة ولم تؤخذ أنها
تسقط؛ لأنها لا تصير دينا رأسا؛ لأن وجوبها
ج / 4 ص -29-
للكفاية وقد حصلت الكفاية فيما مضى فلا يبقى
الواجب كما لو استغنى بماله فأما وجوب هذه
النفقة فليس للكفاية وإن كانت مقدرة
بالكفايةألا ترى أنها تجب مع الاستغناء بأن
كانت موسرة وليس في مضي الزمان إلا الاستغناء
فلا يمنع بقاء الواجب، ولو أنفقت من مالها بعد
الفرض أو التراضي لها أن ترجع على الزوج؛ لأن
النفقة صارت دينا عليه وكذلك إذا استدانت على
الزوج لما قلنا سواء كانت استدانتها بإذن
القاضي أو بغير إذنه غير أنها إن كانت بغير
إذن القاضي؛ كانت المطالبة عليها خاصة ولم يكن
للغريم أن يطالب الزوج بما استدانت وإن كانت
بإذن القاضي؛ لها أن تحيل الغريم على الزوج
فيطالبه بالدين وهو فائدة إذن القاضي
بالاستدانة، ولو فرض الحاكم النفقة على الزوج
فامتنع من دفعها وهو موسر وطلبت المرأة حبسه
لها أن تحبسه؛ لأن النفقة لما صارت دينا عليه
بالقضاء؛ صارت كسائر الديون إلا أنه لا ينبغي
أن يحبسه في أول مرة تقدم إليه بل يؤخر الحبس
إلى مجلسين أو ثلاثة يعظه في كل مجلس يقدم
إليه فإن لم يدفع؛ حبسه حينئذ كما في سائر
الديون لما نذكر في كتاب الحبس إن شاء الله
تعالى وإذا حبس لأجل النفقة فما كان من جنس
النفقة سلمه القاضي إليها بغير رضاه بالإجماع
وما كان من خلاف الجنس لا يبيع عليه شيئا من
ذلك ولكن يأمره أن يبيع بنفسه وكذا في سائر
الديون في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد
يبيع عليه وهي مسألة الحجر على الحر العاقل
البالغ نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله
تعالى فإن ادعى الزوج أنه قد أعطاها النفقة
وأنكرت فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الزوج
يدعي قضاء دين عليه وهي منكرة فيكون القول
قولها مع يمينها كما في سائر الديون، ولو
أعطاها الزوج مالا فاختلفا فقال الزوج: هو من
المهر وقالت هي: هو من النفقة فالقول قول
الزوج إلا أن تقيم المرأة البينة؛ لأن التمليك
منه فكان هو أعرف بجهة التمليك كما لو بعث
إليها شيئا فقالت: هو هدية، وقال: هو من المهر
أن القول فيه قوله إلا في الطعام الذي يؤكل
لما قلنا كذا هذا، ولو كان للزوج عليها دين
فاحتسبت عن نفقتها؛ جاز لكن برضا الزوج؛ لأن
التقاصر إنما يقع بين الدينين المتماثلين؛ ألا
ترى أنه لا يقع بين الجيد والرديء ودين الزوج
أقوى بدليل أنه لا يسقط بالموت ودين النفقة
يسقط بالموت فاشتبه الجيد بالرديء فلا بد من
المقاصة بخلاف غيرها من الديون والله أعلم
"فصل" وأما بيان ما يسقطها بعد وجوبها وصيرورتها دينا في ذمة الزوج
فالمسقط لها بعد الوجوب قيل صيرورتها دينا في
الذمة واحد وهو مضي الزمان من غير فرض القاضي
والتراضي وأما المسقط لها بعد صيرورتها دينا
في الذمة فأمور: منها الإبراء عن النفقة
الماضية؛ لأنها لما صارت دينا في ذمته كان
الإبراء إسقاطا لدين واجب فيصح كما في سائر
الديون، ولو أبرأته عما يستقبل من النفقة
المفروضة؛ لم يصح الإبراء؛ لأنها تجب شيئا
فشيئا على حسب حدوث الزمان فكان الإبراء منها
إسقاط الواجب قبل الوجوب وقبل وجود سبب الوجوب
أيضا وهو حق الحبس؛ لأنه لا يتجدد بتجدد
الزمان؛ فلم يصح وكذا يصح هبة النفقة الماضية؛
لأن هبة الدين يكون إبراء عنه فيكون إسقاط دين
واجب فيصح ولا تصح هبة ما يستقبل لما قلنا
ومنها: موت أحد الزوجين حتى لو مات الرجل قبل
إعطاء النفقة لم يكن للمرأة أن تأخذها من
ماله، ولو ماتت المرأة لم يكن لورثتها أن
يأخذوا لما ذكرنا أنها تجري مجرى الصلة والصلة
تبطل بالموت قبل القبض كالهبة فإن كان الزوج
أسلفها نفقتها وكسوتها ثم مات قبل مضي ذلك
الوقت لم ترجع ورثته عليها بشيء في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف سواء كان قائما أو مستهلكا،
وكذلك لو ماتت هي لم يرجع الزوج في تركتها
عندهما وقال محمد: لها حصة ما مضى من النفقة
والكسوة ويجب رد الباقي إن كان قائما وإن كان
هالكا فلا شيء بالإجماع، وروى ابن رستم عن
محمد أنها إن كانت قبضت نفقة شهر فما دونه؛ لم
يرجع عليها بشيء وإن كان المفروض أكثر من ذلك
يرفع عنها نفقة شهر وردت ما بقي، وجه هذه
الرواية أن الشهر فما دونه في حكم القليل فصار
كنفقة الحال، وما زاد عليه في حكم الكثير
فيثبت به الرجوع كالدين، وجه ظاهر قول محمد أن
هذه النفقة تشبه الأعواض فتسلم لها بقدر ما
سلم للزوج من المعوض كالإجارة إذا عجل
المستأجر الأجرة ثم مات أحدهما
ج / 4 ص -30-
قبل
تمام المدة وجه قوله أن هذه صلة اتصل بها
القبض فلا يثبت فيها الرجوع بعد الموت كسائر
الصلات المقبوضة وأما قوله: إنها تشبه الأعواض
فنعم لكن بوصفها لا بأصلها بل هي صلة بأصلها
ألا ترى أنها تسقط بالموت قبل القبض بلا خلاف
بين أصحابنا لاعتبار معنى الصلة فيراعي فيها
المعنيان جميعا فراعينا معنى الأصل بعد القبض
فقلنا: إنها لا تبطل بالموت بعد القبض فلا
يثبت فيها الرجوع اعتبارا للأصل وراعينا معنى
الوصف قبل القبض فقلنا: إنها تبطل بالموت قبل
القبض كالصلات وراعينا معنى الوصف بعد القبض
فقلنا: لا يثبت فيها الرجوع كالأعواض اعتبارا
للأصل والوصف جميعا على ما هو الأصل في العمل
بالشبهين عند الإمكان والله الموفق.
"فصل" وأما نفقة الأقارب فالكلام فيها أيضا يقع في المواضع التي ذكرناها
في نفقة الزوجات وهي بيان وجوب هذه النفقة
وسبب وجوبها وشرط الوجوب ومقدار الواجب وكيفية
الوجوب وما يسقطها بعد الوجوب أما الأول: وهو
بيان الوجوب فلا يمكن الوصول إليه إلا بعد
معرفة أنواع القرابات فنقول وبالله التوفيق:
القرابة في الأصل نوعان: قرابة الولادة،
وقرابة غير الولادة وقرابة غير الولادة نوعان
أيضا: قرابة محرمة للنكاح كالأخوة والعمومة
والخؤولة وقرابة غير محرمة للنكاح كقرابة بني
الأعمام والأخوال والخالات ولا خلاف في وجوب
النفقة في قرابة الولادة وأما نفقة الوالدين
فلقوله عز وجل
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي: أمر ربك وقضى أن لا تعبدوا إلا إياهأمر سبحانه وتعالى ووصى
بالوالدين إحسانا، والإنفاق عليهما حال فقرهما
من أحسن الإحسان وقوله عز وجل
{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وقوله تعالى
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}
والشكر للوالدين هو المكافأة لهما أمر سبحانه
وتعالى الولد أن يكافئ لهما ويجازي بعض ما كان
منهما إليه من التربية والبر والعطف عليه
والوقاية من كل شر ومكروه وذلك عند عجزهما عن
القيام بأمر أنفسهما والحوائج لهما وإدرار
النفقة عليهما حال عجزهما وحاجتهما من باب شكر
النعمة فكان واجبا وقوله عز وجل
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وهذا في الوالدين الكافرين فالمسلمان أولى والإنفاق عليهما عند
الحاجة من أعرف المعروف وقوله عز وجل
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} وأنه كناية عن كلام فيه ضرب إيذاء، ومعلوم أن معنى التأذي بترك
الإنفاق عليهما عند عجزهما وقدرة الولد أكثر
فكان النهي عن التأفيف نهيا عن ترك الإنفاق
دلالة، كما كان نهيا عن الشتم والضرب
دلالةوروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
أن
"رجلا جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبوه فقال:
يا رسول الله إن لي مالا وإن لي أبا وله مال
وإن أبي يريد أن يأخذ مالي فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك" أضاف مال الابن إلى الأب فاللام التمليك وظاهره يقتضي أن يكون للأب
في مال ابنه حقيقة الملك فإن لم تثبت الحقيقة
فلا أقل من أن يثبت له حق التمليك عند الحاجة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم
إذا احتجتم إليه بالمعروف"
والحديث حجة بأوله وآخره أما بآخره فظاهر؛
لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق للأب الأكل من
كسب ولده إذا احتاج إليه مطلقا عن شرط الإذن
والعوض فوجب القول به وأما بأوله فلأن معنى
قوله وإن ولده من كسبه أي: كسب ولده من كسبه؛
لأنه جعل كسب الرجل أطيب المأكول والمأكول
كسبه لا نفسه وإذا كان كسب ولده كسبه كانت
نفقته فيه؛ لأن نفقة الإنسان في كسبه ولأن
ولده لما كان من كسبه؛ كان كسب ولده ككسبه
وكسب كسب الإنسان كسبه، ككسب عبده المأذون
فكانت نفقته فيه وأما نفقة الولد فلقوله
تعالى
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}
إلى قوله
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي: رزق الوالدات المرضعات فإن كان المراد من الوالدات المرضعات
المطلقات المنقضيات العدة؛ ففيها إيجاب نفقة
الرضاع على المولود له وهو الأب لأجل الولد
كما في قوله تعالى
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} وإن كان المراد من " هن " المنكوحات أو المطلقات المعتدات فإنما
ذكر النفقة والكسوة في حال الرضاع وإن كانت
المرأة تستوجب ذلك من غير ولد؛ لأنها تحتاج
إلى فضل إطعام وفضل كسوة لمكان الرضاع ألا ترى
أن لها أن تفطر لأجل الرضاع إذا كانت صائمة
لزيادة حاجتها إلى الطعام بسبب
ج / 4 ص -31-
الولد
ولأن الإنفاق عند الحاجة من باب إحياء المنفق
عليه والولد جزء الوالد وإحياء نفسه واجب كذا
إحياء جزئه واعتبار هذا المعنى يوجب النفقة من
الجانبين ولأن هذه القرابة مفترضة الوصل محرمة
القطع بالإجماع والإنفاق من باب الصلة فكان
واجبا وتركه مع القدرة للمنفق وتحقق حاجة
المنفق عليه يؤدي إلى القطع فكان حراما واختلف
في وجوبها في القرابة المحرمة للنكاح سوى
قرابة الولادة قال أصحابنا: تجب وقال مالك
والشافعي: لا تجب غير أن مالكا يقول: لا نفقة
إلا على الأب للابن والابن للأب حتى قال: لا
نفقة على الجد لابن الابن ولا على ابن الابن
للجد وقال الشافعي: تجب على الوالدين
والمولودين، والكلام في هذه المسألة بناء على
أن هذه القرابة مفترضة الوصل محرمة القطع
عندنا خلافا لهما وعلى هذا ينبني العتق عند
الملك، ووجوب القطع بالسرقة وهي من مسائل
العتاق نذكرها هناك إن شاء الله تعالى ثم
الكلام في المسألة على سبيل الابتداء احتج
الشافعي فقال: إن الله تعالى أوجب النفقة على
الأب لا غير بقوله تعالى
{وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فمن كان مثل حاله في القرب يلحق به وإلا فلا ولا يقال: إن الله
تعالى قال
{وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ؛ لأن
ابن عباس رضي الله عنه صرف قوله ذلك إلى ترك
المضارة لا إلى النفقة والكسوة؛ فكان معناه لا
يضار الوارث باليتيم كما لا تضار الوالدة
والمولود له بولدهما ولنا قوله تعالى
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وروي عن عمر بن على ترك المضارة معناه الخطاب وزيد بن ثابت رضي
الله عنهما وجماعة من التابعين أنه معطوف على
النفقة والكسوة لا غير، لاوعلى الوارث مثل ما
على المولود له من النفقة والكسوة؛ ومصداق هذا
التأويل أنه لو جعل عطفا على هذا؛ لكان عطف
الاسم على الاسم وإنه شائع، ولو عطف على ترك
المضارة لكان عطف الاسم على الفعل؛ فكان الأول
أولى ولأنه لو جعل عطفا على قوله
{لا تُضَارَّ}
لكان من حق الكلام أن يقول: والوارث مثل ذلك
وجماعة من أهل التأويل عطفوا على الكل من
النفقة والكسوة وترك المضارة؛ لأن الكلام كله
معطوف بعضه على بعض بحرف الواو وإنه حرف جمع
فيصير الكل مذكورا في حالة واحدة فينصرف قوله
ذلك إلى الكل أي: على الوارث مثل ذلك من
النفقة والكسوة وأنه لا يضارها، ولا تضاره في
النفقة وغيرها وبه تبين رجحان هذين التأويلين
على تأويل ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما
قاله ابن عباس ومن تابعه لا ينفي وجوب النفقة
على الوارث بل يوجب لأن قوله تعالى
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} نهى سبحانه وتعالى عن المضارة مطلقا في النفقة وغيرها فإذا كان
معنى إضرار الوالد الوالدة بولدها بترك
الإنفاق عليها أو بانتزاع الولد منها وقد أمر
الوارث بقوله تعالى
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
أنه لا يضارها؛ فإنما يرجع ذلك إلى مثل ما لزم
الأب وذلك يقتضي أن يجب على الوارث أن يسترضع
الوالدة بأجرة مثلها ولا يخرج الولد من يدها
إلى يد غيرها إضرارا بها وإذا ثبت هذا فظاهر
الآية يقتضي وجوب النفقة والكسوة على كل وارث
أو على مطلق الوارث إلا من خص أو قيد
بدليلوأما القرابة التي بمحرمة للنكاح فلا
نفقة فيها عند عامة العلماء خلافا لابن أبي
ليلى واحتج بظاهر قوله تعالى
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} من غير فصل بين وارث ووارث، وإنا نقول: المراد من الوارث الأقارب
الذي له رحم محرم لا مطلق الوارث، عرفنا ذلك
بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعلى
الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ولأن وجوبها
في القرآن العظيم معلولا بكونها صلة الرحم
صيانة لها عن القطيعة فيختص وجوبها بقرابة يجب
وصلها ويحرم قطعها ولم توجد؛ فلا تجب ولهذا لا
يثبت العتق عند الملك ولا يحرم النكاح ولا
يمنع وجوب القطع بالسرقة، والله الموفق
"فصل" وأما سبب وجوب هذه النفقة أما نفقة الولادة فسبب وجوبها هو
الولادة؛ لأن به تثبت الجزئية والبعضية
والإنفاق على المحتاج إحياء له ويجب على
الإنسان إحياء كله وجزئه وإن شئت قلت: سبب
نفقة الأقارب في الولادة وغيرها من الرحم
المحرم هو القرابة المحرمة للقطع؛ لأنه إذا
حرم قطعها يحرم كل سبب مفض إلى القطع وترك
الإنفاق من ذي الرحم المحرم مع قدرته وحاجة
المنفق عليه تفضي إلى قطع الرحم فيحرم الترك
وإذا حرم الترك؛ وجب الفعل ضرورة وإذا عرف هذا
فنقول: الحال في القرابة الموجبة للنفقة لا
يخلو إما أن كانت حال الانفراد وإما إن كانت
حال
ج / 4 ص -32-
الاجتماع فإن كانت حال الانفراد بأن لم يكن
هناك ممن تجب عليه النفقة إلا واحدا تجب كل
النفقة عليه عند استجماع شرائط الوجوب لوجود
سبب وجوب كل النفقة عليه وهو الولادة والرحم
المحرم وشرطه من غير مزاحم، وإن كانت حال
الاجتماع فالأصل أنه متى اجتمع الأقرب
والأبعد؛ فالنفقة على الأقرب في قرابة الولادة
وغيرها من الرحم المحرم فإن استويا في القرب
ففي قرابة الولادة يطلب الترجيح من وجه آخر
وتكون النفقة على من وجد في حقه نوع رجحان فلا
تنقسم النفقة عليهما على قدر الميراث وإن كان
كل واحد منهما وارثا، وإن لم يوجد الترجيح
فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما وأما في
غيرها من الرحم المحرم فإن كان الوارث أحدهما
والآخر محجوبا؛ فالنفقة على الوارث ويرجح
بكونه وارثا وإن كان كل واحد منهما وارثا
فالنفقة عليهما على قدر الميراث وإنما كان
كذلك؛ لأن النفقة في قرابة الولادة تجب بحق
الولادة لا بحق الوراثة قال الله تعالى
{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} علق سبحانه وتعالى وجوبها باسم الولادة، وفي غيرها من الرحم المحرم
تجب بحق الوراثة لقوله عز وجل
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} علق سبحانه وتعالى الاستحقاق بالإرث فتجب بقدر الميراث ولهذا قال
أصحابنا: إن من أوصى لورثة فلان وله بنون
وبنات فالوصية بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين،
ولو أوصى لولد فلان؛ كان الذكر والأنثى فيه
سواء فدل به ما ذكرناوبيان هذا الأصل إذا كان
له ابن وابن ابن فالنفقة على الابن؛ لأنه
أقرب، ولو كان الابن معسرا وابن الابن موسرا
فالنفقة على الابن أيضا إذا لم يكن زمنا؛ لأنه
هو الأقرب ولا سبيل إلى إيجاب النفقة على
الأبعد مع قيام الأقرب إلا أن القاضي يأمر ابن
الابن بأن يؤدي عنه على أن يرجع عليه إذا أيسر
فيصير الأبعد نائبا عن الأقرب في الأداء، ولو
أدى بغير أمر القاضي لم يرجع، ولو كان له أب
وجد فالنفقة على الأب لا على الجد؛ لأن الأب
أقرب، ولو كان الأب معسرا والجد موسرا فنفقته
على الأب أيضا إذا لم يكن زمنا لكن يؤمر الجد
بأن ينفق ثم يرجع على الأب إذا أيسر، ولو كان
له أب وابن ابن فنفقته على الأب؛ لأنه أقرب
إلا أنه إذا كان الأب معسرا غير زمن وابن
الابن موسرا فإنه يؤدي عن الأب بأمر القاضي ثم
يرجع عليه إذا أيسر، ولو كان له أب وابن
فنفقته على الابن لا على الأب وإن استويا في
القرب والوراثة ويرجع الابن بالإيجاب عليه؛
لكونه كسب الأب فيكون له حقا في كسبه وكون
ماله مضافا إليه شرعا لقوله صلى الله عليه
وسلم
"أنت ومالك
لأبيك" ولا يشارك الولد في نفقة والده أحد لما قلنا وكذا في نفقة والدته
لعدم المشاركة في السبب وهو الولادة،
والاختصاص بالسبب يوجب الاختصاص بالحكم وكذا
لا يشارك الإنسان أحد في نفقة جده وجدته عند
عدم الأب والأم؛ لأن الجد يقوم مقام الأب عند
عدمه والجدة تقوم مقام الأم عند عدمها ولو كان
له ابنان فنفقته عليهما على السواء وكذا إذا
كان له ابن وبنت ولا يفضل الذكر على الأنثى في
النفقة؛ لاستوائهما في سبب الوجوب وهو
الولادة، ولو كان له بنت وأخت فالنفقة على
البنت؛ لأن الولادة لها، وهذا يدل على أن
النفقة لا تعتبر بالميراث؛ لأن الأخت ترث مع
البنت ولا نفقة عليها مع البنت ولا تجب على
الابن نفقة منكوحة أبيه؛ لأنها أجنبية عنه إلا
أن يكون الأب محتاجا إلى من يخدمه فحينئذ يجب
عليه نفقة امرأته؛ لأنه يؤمر بخدمة الأب بنفسه
أو بالأجير، ولو كان للصغير أبوان فنفقته على
الأب لا على الأم بالإجماع وإن استويا في
القرب والولادة ولا يشارك الأب في نفقة ولده
أحد؛ لأن الله تعالى خص الأب بتسميته بكونه
مولودا له وأضاف الولد إليه فاللام الملك وخصه
بإيجاب نفقة الولد الصغير عليه بقوله
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} أي رزق الوالدات المرضعات سمى الأم والدة والأب مولودا له وقال عز
وجل
{فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
خص سبحانه وتعالى الأب بإيتاء أجر الرضاع بعد
الطلاق، وكذا أوجب في الآيتين كل نفقة الرضاع
على الأب لولده الصغير وليس وراء الكل شيء ولا
يقال: إن الله عز وجل قال {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ثم قال
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
والأم وارثة فيقتضي أن تشارك في النفقة كسائر
الورثة من ذوي الرحم المحرم وكمن قال: أوصيت
لفلان من مالي بألف درهم وأوصيت لفلان مثل ذلك
ولم تخرج الوصيتان من الثلث أنهما يشتركان فيه
كذا هذا؛ لأنا نقول لما جعل الله عز وجل كل
النفقة على الأب بقوله
{وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} تعذر
إيجابها على الأم
ج / 4 ص -33-
حال
قيام الأب فيحمل على حال عدمه ليكون عملا
بالنص من كل وجه في الحالين ولم يوجد مثل هذا
في سائر ذوي الرحم المحرم وفي باب الوصية لا
يمكن العمل بكل واحدة من الوصيتين في حالين
وقد ضاق المحل عن قبولهما في حالة واحدة فلزم
القول بالشركة ضرورة، ولو كان الأب معسرا غير
عاجز عن الكسب والأم موسرة فالنفقة على الأب
لكن تؤمر الأم بالنفقة ثم ترجع بها على الأب
إذا أيسر؛ لأنها تصير دينا في ذمته إذا أنفقت
بأمر القاضي، ولو كان للصغير أب وأم أم
فالنفقة على الأب والحضانة على الجدة؛ لأن
الأم لما لم تشارك الأب في نفقة ولده الصغير
مع قربها؛ فالجدة مع بعدها أولى هذا إذا كان
الولد صغيرا فقيرا وله أبوان موسران، فأما إذا
كان كبيرا وهو ذكر فقير عاجز عن الكسب فقد ذكر
في كتاب النكاح أن نفقته أيضا على الأب خاصة،
وذكر الخصاف أنه على الأب والأم أثلاثا ثلثاها
على الأب وثلثها على الأم، وجه ما ذكره الخصاف
أن الأب إنما خص بإيجاب النفقة عليه لابنه
الصغير لاختصاصه بالولاية وقد زالت ولايته
بالبلوغ فيزول الاختصاص فتجب عليهما على قدر
ميراثهما، وجه رواية كتاب النكاح أن تخصيص
الأب بالإيجاب حال الصغر لاختصاصه بتسميته
بكونه مولودا له وهذا ثابت بعد الكبر فيختص
بنفقته كالصغر، واعتبار الولاية والإرث في هذه
النفقة غير سديد؛ لأنها تجب مع اختلاف الدين
ولا ولاية ولا إرث عند اختلاف الدين ولا يشارك
الجد أحد في نفقة ولد ولده عند عدم ولده؛ لأنه
يقوم مقام ولده عند عدمه ولا يشارك الزوج في
نفقة زوجته أحد؛ لأنه لا يشاركه أحد في سبب
وجوبها وهو حق الحبس الثابت بالنكاح، حتى لو
كان لها زوج معسر وابن موسر من غير هذا الزوج
أو أب موسر أو أخ موسر؛ فنفقتها على الزوج لا
على الأب والابن والأخ، لكن يؤمر الأب أو
الابن أو الأخ بأن ينفق عليها ثم يرجع على
الزوج إذا أيسر، ولو كان له جد وابن ابن
فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما في القرابة
والوراثة سواء ولا ترجيح لأحدهما على الآخر من
وجه آخر، فكانت النفقة عليهما على قدر
الميراث: السدس على الجد والباقي على ابن
الابن كالميراث، ولو كان له أم وجد كانت
النفقة عليهما أثلاثا: الثلث على الأم
والثلثان على الجد على قدر ميراثهما، وكذلك
إذا كان له أم وأخ لأب وأم أو لأب أو ابن أخ
لأب وأم أو لأب أو عم لأم وأب أو لأب؛ كانت
النفقة عليهما أثلاثا: ثلثها على الأم
والثلثان على الأخ وابن الأخ والعم وكذلك إذا
كان له أخ لأب وأم وأخت لأب وأم؛ كانت النفقة
عليهما أثلاثا على قدر ميراثهما، ولو كان له
أخ لأب وأم وأخ لأم فالنفقة عليهما أسداسا
سدسها على الأخ لأم وخمسة أسداسها على الأخ
لأب وأم، ولو كان له جد وجدة كانت النفقة
عليهما أسداسا على قدر الميراث، ولو كان له عم
وعمة فالنفقة على العم؛ لأنهما استويا في
القرابة المحرمة للقطع، والعم هو الوارث فيرجح
بكونه وارثا وكذلك لو كان له عم وخال لما
قلنا، ولو كان له عمة وخالة أو خال فالنفقة
عليهما أثلاثا: ثلثاها على العمة والثلث على
الخال أو الخالة، ولو كان له خال وابن عم
فالنفقة على الخال لا على ابن العم؛ لأنهما ما
استويا في سبب الوجوب وهو الرحم المحرم للقطع؛
إذ الخال هو ذو الرحم المحرم واستحقاق الميراث
للترجيح والترجيح يكون بعد الاستواء في ركن
العلة ولم يوجد، ولو كان له عمة وخالة وابن عم
فعلى الخالة الثلث وعلى العمة الثلثان
لاستوائهما في سبب استحقاق الإرث فيكون النفقة
بينهما على قدر الميراث ولا شيء على ابن العم
لانعدام سبب الاستحقاق في حقه وهو القرابة
المحرمة القطع، ولو كان له ثلاث أخوات متفرقات
وابن عم فالنفقة على الأخوات على خمسة أسهم:
ثلاثة أسهم على الأخت لأب وأم وسهم على الأخت
لأم وسهم على الأخت لأب على قدر الميراث ولا
يعتد بابن العم في النفقة لانعدام سبب
الاستحقاق في حقه فيلحق بالعدم كأنه ليس له
إلا الأخوات وميراثه لهن على خمسة أسهم كذا
النفقة عليهن، ولو كان له ثلاثة إخوة متفرقين
فالنفقة على الأخ للأب والأم وعلى الأخ للأم
على قدر الميراث أسداسا؛ لأن الأخ لا يرث
معهما فيلحق بالعدم، ولو كان له عم وعمة وخالة
فالنفقة على العم؛ لأن العم مساو لهما في سبب
الاستحقاق وهو الرحم وفضلهما بكونه وارثا؛ إذ
الميراث له لا لهما فكانت النفقة عليه لا
عليهما، وإن كان العم معسرا فالنفقة عليهما؛
لأنه يجعل كالميت، والأصل في هذا أن كل من كان
يحوز جميع الميراث
ج / 4 ص -34-
وهو
معسر يجعل كالميت وإذا جعل كالميت؛ كانت
النفقة على الباقين على قدر مواريثهم وكل من
كان يحوز بعض الميراث لا يجعل كالميت فكانت
النفقة على قدر مواريث من يرث معه بيان هذا
الأصل: رجل معسر عاجز عن الكسب وله ابن معسر
عاجز عن الكسب أو هو صغير وله ثلاثة إخوة
متفرقين فنفقة الأب على أخيه لأبيه وأمه وعلى
أخيه لأمه أسداسا: سدس النفقة على الأخ لأم
وخمسة أسداسها على الأخ لأب وأم، ونفقة الولد
على الأخ لأب وأم خاصة؛ لأن الأب يحوز جميع
الميراث فيجعل كالميت فيكون نفقة الأب على
الأخوين على قدر ميراثهما منه وميراثهما من
الأب هذا فأما الابن فوارثه العم لأب وأم لا
العم لأب ولا العم لأم؛ فكانت نفقته على عمه
لأب وأم، ولو كان للرجل ثلاث أخوات متفرقات
كانت نفقته عليهن أخماسا: ثلاثة أخماسها على
الأخت لأب وأم، وخمس على الأخت لأب وخمس على
الأخت لأم على قدر مواريثهن ونفقة الابن على
عمته لأب وأم؛ لأنها هي الوارثة منه لا غير،
ولو كان مكان الابن بنت والمسألة بحالها؛
فنفقة الأب في الإخوة المتفرقين على أخيه
لأبيه وأمه وفي الأخوات المتفرقات على أخته
لأبيه وأمه؛ لأن البنت لا تحوز جميع الميراث
فلا حاجة إلى أن تجعل كالميتة فكان الوارث
معها الأخ للأب والأم لا غير والأخت لأب وأم
لا غير؛ لأن الأخ والأخت لأم لا يرثان مع
الولد والأخ لأب لا يرث مع الأخ لأب وأم
والأخت لأب لا ترث مع البنت والأخت لأب وأم؛
لأن الأخوات مع البنات عصبة وفي العصبات يقدم
الأقرب فالأقرب فكانت النفقة عليهما وكذلك
نفقة البنت على العم لأب وأم أو على العمة لأب
وأم؛ لأنهما وارثاها بخلاف الفصل الأول؛ لأن
هناك لا يمكن الإيجاب للنفقة على الإخوة
والأخوات إلا بجعل الابن كالميت؛ لأنه يحوز
جميع الميراث فمست الحاجة إلى أن يجعل ميتا
حكما، ولو كان الابن ميتا كان ميراث الأب للأخ
لأب وأم وللأخ لأم أسداسا وللأخوات أخماسا،
فكذا النفقة وعلى هذا الأصل مسائل.
"فصل" وأما شرائط وجوب هذه النفقة فأنواع: بعضها يرجع إلى المنفق عليه
خاصة، وبعضها يرجع إلى المنفق خاصة، وبعضها
يرجع إليهم، وبعضها يرجع إلى غيرهما أما الذي
يرجع إلى المنفق عليه خاصة فأنواع ثلاثة:
أحدها إعساره فلا تجب لموسر على غيره نفقة في
قرابة الولاد وغيرها من الرحم المحرم؛ لأن
وجوبها معلول بحاجة المنفق عليه فلا تجب لغير
المحتاج ولأنه إذا كان غنيا لا يكون هو بإيجاب
النفقة له على غيره أولى من الإيجاب لغيره
عليه فيقع التعارض فيمتنع الوجوب بل إذا كان
مستغنى بماله كان إيجاب النفقة في ماله أولى
من إيجابها في مال غيره بخلاف نفقة الزوجات
أنها تجب للزوجة الموسرة؛ لأن وجوب تلك النفقة
لا يتبع الحاجة بل لها شبه بالأعواض فيستوي
فيها المعسرة والموسرة كثمن البيع والمهر
واختلف في حد المعسر الذي يستحق النفقة قيل:
هو الذي يحل له أخذ الصدقة ولا تجب عليه
الزكاة وقيل: هو المحتاج ولو كان له منزل
وخادم هل يستحق النفقة على قريبه الموسر؟ فيه
اختلاف الروايةفي رواية لا يستحق حتى لو كان
أختا لا يؤمر الأخ بالإنفاق عليها وكذلك إذا
كانت بنتا له أو أما وفي رواية يستحق وجه
الرواية الأولى أن النفقة لا تجب لغير المحتاج
وهؤلاء غير محتاجين؛ لأنه يمكن الاكتفاء
بالأدنى بأن يبيع بعض المنزل أو كله ويكتري
منزلا فيسكن بالكراء أو يبيع الخادم، وجه
الرواية الأخرى أن بيع المنزل لا يقع إلا
نادرا وكذا لا يمكن لكل أحد السكنى بالكراء أو
بالمنزل المشترك وهذا هو الصواب أن لا يؤمر
أحد ببيع الدار بل يؤمر القريب بالإنفاق عليه
ألا ترى أنه تحل الصدقة لهؤلاء ولا يؤمرون
ببيع المنزل ثم الولد الصغير إذا كان له مال
حتى كانت نفقته في ماله لا على الأب وإن كان
الأب موسرا فإن كان المال حاضرا في يد الأب
أنفق منه عليه وينبغي أن يشهد على ذلك؛ إذ لو
لم يشهد فمن الجائز أن ينكر الصبي إذا بلغ
فيقول للأب إنك أنفقت من مال نفسك لا من مالي
فيصدقه القاضي؛ لأن الظاهر أن الرجل الموسر
ينفق على ولده من مال نفسه وإن كان لولده مال
فكان الظاهر شاهدا للولد فيبطل حق الأب، وإن
كان المال غائبا ينفق من مال نفسه بأمر القاضي
إياه بالإنفاق ليرجع أو يشهد على أنه ينفق من
مال نفسه ليرجع به في مال ولده ليمكنه الرجوع
لما ذكرنا أن الظاهر أن الإنسان يتبرع
بالإنفاق من مال نفسه على ولده فإذا أمره
القاضي بالإنفاق من ماله ليرجع أو أشهد
ج / 4 ص -35-
على
أنه ينفق ليرجع فقد بطل الظاهر وتبين أنه إنما
أنفق من ماله على طريق القرض وهو يملك إقراض
ماله من الصبي فيمكنه الرجوع وهذا في القضاء
فأما فيما بينه وبين الله تعالى فيسعه أن يرجع
من غير أمر القاضي والإشهاد بعد أن نوى بقلبه
أنه ينفق ليرجع؛ لأنه إذا نوى صار ذلك دينا
على الصغير وهو يملك إثبات الدين عليه؛ لأنه
يملك إقراض ماله منه والله عز وجل عالم بنيته
فجاز له الرجوع فيما بينه وبين الله تعالى،
والله أعلم والثاني عجزه عن الكسب بأن كان به
زمانة أو قعد أو فلج أو عمى أو جنون أو كان
مقطوع اليدين أو أشلهما أو مقطوع الرجلين أو
مفقوء العينين أو غير ذلك من العوارض التي
تمنع الإنسان من الاكتساب حتى لو كان صحيحا
مكتسبا لا يقضى له بالنفقة على غيره وإن كان
معسرا إلا للأب خاصة والجد عند عدمه فإنه يقضى
بنفقة الأب وإن كان قادرا على الكسب بعد أن
كان معسرا على ولده الموسر وكذا نفقة الجد على
ولد ولده إذا كان موسرا، وإنما كان كذلك؛ لأن
المنفق عليه إذا كان قادرا على الكسب كان
مستغنى بكسبه فكان غناه بكسبه كغناه بماله فلا
تجب نفقته على غيره إلا الولد؛ لأن الشرع نهى
الولد عن إلحاق أدنى الأذى بالوالدين وهو
التأفيف بقوله عز وجل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ} ومعنى الأذى في إلزام الأب الكسب مع
غنى الولد أكثر فكان أولى بالنهي ولم يوجد ذلك
في الابن ولهذا لا يحبس الرجل بدين ابنه ويحبس
بدين أبيه ولأن الشرع أضاف مال الابن إلى الأب
فاللام الملك فكان ماله كماله وكذا هو كسب
كسبه؛ فكان ككسبه فكانت نفقته فيه والثالث: أن
الطلب والخصومة بين يدي القاضي في أحد نوعي
النفقة وهي نفقة غير الولاد فلا تجب بدونه؛
لأنها لا تجب بدون قضاء القاضي والقضاء لا بد
له من الطلب والخصومة. وأما الذي يرجع إلى
المنفق خاصة فيساره في قرابة غير الولاد من
الرحم المحرم فلا يجب على غير الموسر في هذه
القرابة نفقة وإن كان قادرا على الكسب؛ لأن
وجوب هذه النفقة من طريق الصلة والصلات تجب
على الأغنياء لا على الفقراء وإذا كان يسار
المنفق شرط وجوب النفقة عليه في قرابة ذي
الرحم؛ فلا بد من معرفة حد اليسار الذي يتعلق
به وجوب هذه النفقةروي عن أبي يوسف فيه أنه
اعتبر نصاب الزكاة قال: ابن سماعة قال في
نوادره: سمعت أبا يوسف قال: لا أجبر على نفقة
ذي الرحم المحرم من لم يكن معه ما تجب فيه
الزكاة، ولو كان معه مائتا درهم إلا درهما
وليس له عيال وله أخت محتاجة لم أجبره على
نفقتها وإن كان يعمل بيده ويكتسب في الشهر
خمسين درهماوروى هشام عن محمد أنه قال: إذا
كان له نفقة شهر وعنده فضل عن نفقة شهر له
ولعياله؛ أجبره على نفقة ذي الرحم المحرم قال
محمد: وأما من لا شيء له وهو يكتسب كل يوم
درهما يكتفي منه بأربعة دوانيق فإنه يرفع
لنفسه ولعياله ما يتسع به وينفق فضله على من
يجبر على نفقته، وجه رواية هشام عن محمد أن من
كان عنده كفاية شهر فما زاد عليها فهو غني عنه
في الحال والشهر يتسع للاكتساب؛ فكان عليه صرف
الزيادة إلى أقاربه، وجه قول أبي يوسف أن نفقة
ذي الرحم صلة والصلات إنما تجب على الأغنياء
كالصدقة وحد الغنى في الشريعة ما تجب فيه
الزكاة وما قاله محمد أوفق وهو أنه إذا كان له
كسب دائم وهو غير محتاج إلى جميعه فما زاد على
كفايته يجب صرفه إلى أقاربه كفضل ماله إذا كان
له مال ولا يعتبر النصاب؛ لأن النصاب إنما
يعتبر في وجوب حقوق الله تعالى المالية
والنفقة حق العبد فلا معنى للاعتبار بالنصاب
فيها وإنما يعتبر فيها إمكان الأداء، ولو طلب
الفقير العاجز عن الكسب من ذي الرحم المحرم
منه نفقة فقال: أنا فقير وادعى هو أنه غني
فالقول قول المطلوب؛ لأن الأصل هو الفقر
والغنى عارض فكان الظاهر شاهدا له فمحمد يحتاج
إلى الفرق بينه وبين نفقة الزوجات والفرق له
أن الإقدام على النكاح دليل القدرة فبطلت
شهادة الظاهر وأما قرابة الولاد فينظر إن كان
المنفق هو الأب؛ فلا يشترط يساره لوجوب النفقة
عليه بل قدرته على الكسب كافية حتى تجب عليه
النفقة على أولاده الصغار والكبار الذكور
الزمنى الفقراء والإناث الفقيرات وإن كن
صحيحات وإن كان معسرا بعد أن كان قادرا على
الكسب؛ لأن الإنفاق عليهم عند حاجتهم وعجزهم
عن الكسب إحياؤهم وإحياؤهم إحياء نفسه؛ لقيام
الجزئية والعصبية وإحياء نفسه واجب، ولو كان
لهم جد موسر لم يفرض النفقة على الجد ولكن
يؤمر
ج / 4 ص -36-
الجد
بالإنفاق عليهم عند حاجتهم ثم يرجع به على
ابنه؛ لأن النفقة لا تجب على الجد مع وجود
الأب إذا كان الأب قادرا على الكسبألا ترى أنه
لا يجب عليه نفقة ابنه فنفقة أولاده أولى وإن
لم يكن الأب قادرا على الكسب بأن كان زمنا قضي
بنفقتهم على الجد؛ لأن عليه نفقة أبيهم فكذا
نفقتهم وروي عن أبي يوسف أنه قال في صغير له
والد محتاج وهو زمن فرضت نفقته على قرابته من
قبل أبيه دون قرابته من قبل أمه كل من أجبرته
على نفقة الأب أجبرته على نفقة الغلام إذا كان
زمنا؛ لأن الأب إذا كان زمنا كانت نفقته على
قرابته فكذا نفقة ولده؛ لأنه جزؤه قال: فإن لم
يكن له قرابة من قبل أبيه قضيت بنفقته على
أبيه وأمرت الخال أن ينفق عليه ويكون ذلك دينا
على الأب، ووجه الفرق بين قرابة الأب وقرابة
الأم أن قرابة الأب تجب عليهم نفقة الأب إذا
كان زمنا فكذا نفقة ولده الصغير فأما قرابة
الأم فلا يجب عليهم نفقة الأب ولا نفقة الولد؛
لأن الأب لا يشاركه أحد في نفقة ولده وإن كان
المنفق هو الابن وهو معسر مكتسب ينظر في كسبه
فإن كان فيه فضل عن قوته يجبر على الإنفاق على
الأب من الفضل؛ لأنه قادر على إحيائه من غير
خلل يرجع إليه وإن كان لا يفضل من كسبه شيء
يؤمر فيما بينه وبين الله عز وجل أن يواسي
أباه؛ إذ لا يحسن أن يترك أباه ضائعا جائعا
يتكفف الناس وله كسب وهل يجبر على أن ينفق
عليه وتفرض عليه النفقة إذا طلب الأب الفرض أو
يدخل عليه في النفقة إذا طلب الأب ذلك قال
عامة الفقهاء: إنه لا يجبر على ذلك وقال
بعضهم: يجبر عليه واحتجوا بما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه قال: لو أصاب الناس السنة لأدخلت
على أهل كل بيت مثلهم فإن الناس لم يهلكوا على
أنصاف بطونهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"طعام الواحد يكفي الاثنين" وجه قول العامة أن الجبر على الإنفاق والإشراك في نفقة الولد
المعسر يؤدي إلى إعجازه عن الكسب؛ لأن الكسب
لا يقوم إلا بكمال القوة وكمال القوة بكمال
الغذاء فلو جعلناه نصفين؛ لم يقدر على الكسب
وفيه خوف هلاكهما جميعا، وذكر في الكتاب:
أرأيت لو كان الابن يأكل من طعام رجل غني
يعطيه كل يوم رغيفا أو رغيفين أيؤمر الابن أن
يعطي أحدهما أباه؟ قال: لا يؤمر به، ولو قال
الأب للقاضي: إن ابني هذا يقدر على أن يكتسب
ما يفضل عن كسبه مما ينفق علي لكنه يدع الكسب
عمدا يقصد بذلك عقوقي؛ ينظر القاضي في ذلك:
فإن كان الأب صادقا في مقالته أمر الابن بأن
يكتسب فينفق على أبيه، وإن لم يكن صادقا بأن
علم أنه غير قادر على اكتساب زيادة؛ تركه، هذا
إذا كان الولد واحدافإن كان له أولاد صغار
وزوجة ولا يفضل من كسبه شيء ينفق على أبيه
فطلب الأب من القاضي أن يدخله في النفقة على
عياله يدخله القاضي ههنا؛ لأن إدخال الواحد
على الجماعة لا يخل بطعامهم خللا بينا بخلاف
إدخال الواحد على الواحد هذا إذا لم يكن الأب
عاجزا عن الكسب فأما إذا كان عاجزا عنه بأن
كان زمنا يشارك الابن في قوته ويدخل عليه
فيأكل معه وإن لم يكن له عيال؛ لأنه ليس في
المشاركة خوف الهلاك وفي ترك المشاركة خوف
هلاك الأب فتجب المشاركة وكذلك الأم إذا كانت
فقيرة تدخل على ابنها فتأكل معه لكن لا يفرض
لهما عليه نفقة على حدة، والله عز وجل أعلم.
وأما الذي يرجع إليهما جميعا فنوعان: أحدهما
اتحاد الدين في غير قرابة الولاد من الرحم
المحرم فلا تجري النفقة بين المسلم والكافر في
هذه القرابة فأما في قرابة الولاد فاتحاد
الدين فيهما ليس بشرط فيجب على المسلم نفقة
آبائه وأمهاته من أهل الذمة ويجب على الذمي
نفقة أولاده الصغار الذين أعطي لهم حكم
الإسلام بإسلام أمهم ونفقة أولاده الكبار
المسلمين الذين هم من أهل استحقاق النفقة على
ما نذكره، ووجه الفرق من وجهين أحدهما أن وجوب
هذه النفقة على طريق الصلة ولا تجب صلة رحم
غير الوالدين عند اختلاف الدين وتجب صلة رحم
الوالدين مع اختلاف الدين بدليل أنه يجوز
للمسلم أن يبتدئ بقتل أخيه الحربي ولا يجوز له
أن يبتدئ بقتل أبيه الحربي وقد قال سبحانه في
الوالدين الكافرين
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} ولم يرد مثله في غير الوالدين والثاني: أن وجوب النفقة في قرابة
الولاد بحق الولادة لما ذكرنا أن الولادة توجب
الجزئية والبعضية بين الوالد والولد وذا لا
يختلف باختلاف الدين؛ فلا يختلف الحكم المتعلق
به والوجوب في غيرها من الرحم المحرم بحق
الوراثة ولا وراثة عند اختلاف الدين
ج / 4 ص -37-
فلا
نفقة، ولو كان للمسلم ابنان أحدهما مسلم
والآخر ذمي فنفقته عليهما على السواء لما
ذكرنا أن نفقة الولادة لا تختلف باختلاف الدين
والثاني اتحاد الدار في غير قرابة الولادة من
الرحم المحرم فلا تجري النفقة بين الذمي الذي
في دار الإسلام وبين الحربي في دار الحرب
لاختلاف الدارين ولا بين الذمي والحربي
المستأمن في دار الإسلام؛ لأن الحربي وإن كان
مستأمنا في دار الإسلام فهو من أهل الحرب
وإنما دخل دار الإسلام لحوائج يقضيها ثم
يعودألا ترى أن الإمام يمكنه من الرجوع إلى
دار الحرب ولا يمكنه من إطالة الإقامة في دار
الإسلام، فاختلف الداران وكذا لا نفقة بين
المسلم المتوطن في دار الإسلام وبين الحربي
الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا
لاختلاف الدارين وهذا ليس بشرط في قرابة
الولاد والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن
وجوب هذه النفقة في هذه القرابة بطريق الصلة
ولا تجب هذه الصلة عند اختلاف الدارين وتجب في
قرابة الولاد، والثاني: أن الوجوب ههنا بحق
الوراثة ولا وراثة عند اختلاف الدارين والوجوب
هناك بحق الولادة وإنه لا يختلف وأما الذي
يرجع إلى غيرهما فقضاء القاضي في أحد نوعي
النفقة وهي نفقة غير الولاد من الرحم المحرم
فلا تجب هذه النفقة من غير قضاء القاضي ولا
يشترط ذلك في نفقة الولاد حتى تجب من غير قضاء
كما تجب نفقة الزوجات، ووجه الفرق أن نفقة
الولاد تجب بطريق الإحياء لما فيها من دفع
الهلاك لتحقق معنى الجزئية والبعضية بين
المنفق والمنفق عليه ويجب على الإنسان إحياء
نفسه بدفع الهلاك عن نفسه ولا يقف وجوبه على
قضاء القاضي فأما نفقة سائر ذي الرحم المحرم
فليس وجوبها من طريق الإحياء لانعدام معنى
الجزئية وإنما تجب صلة محضة فجاز أن يقف
وجوبها على قضاء القاضي وبخلاف نفقة الزوجات؛
لأن لها شبها بالأعواض فمن حيث هي صلة لم تصر
دينا من غير قضاء ورضا ومن حيث هي عوض تجب من
غير قضاء عملا بالشبهين وعلى هذا يخرج ما إذا
كان الرجل غائبا وله مال حاضر أن القاضي لا
يأمر أحدا بالنفقة من ماله إلا الأبوين
الفقيرين وأولاده الفقراء الصغار الذكور
والإناث والكبار الذكور الفقراء العجزة عن
الكسب والإناث الفقيرات والزوجة؛ لأنه لا حق
لأحد في ماله إلا لهؤلاء ألا ترى أنه ليس
لغيرهم أن يمد يده إلى ماله فيأخذه وإن كان
فقيرا محتاجا ولهم ذلك؛ فكان الأمر من القاضي
بالإنفاق من ماله لغيرهم قضاء على الغائب من
غير خصم حاضر ولا يكون لهم قضاء بل يكون إعانة
ثم إن كان المال حاضرا عند هؤلاء وكان النسب
معروفا أو علم القاضي بذلك أمرهم بالنفقة منه؛
لأن نفقتهم واجبة من غير قضاء القاضي فكان
الأمر من القاضي بالإنفاق إعانة لا قضاء وإن
لم يعلم بالنسب فطلب بعضهم أن يثبت ذلك عند
القاضي بالبينة لا تسمع منه البينة؛ لأنه يكون
قضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر
وكذلك إن كان ماله وديعة عند إنسان وهو مقر
بها أمرهم القاضي بالإنفاق منها وكذا إذا كان
له دين على إنسان وهو مقر به لما قلنا، ولو
دفع صاحب اليد أو المديون إليهم بغير إذن
القاضي يضمن، وإذا وقع بإذنه لا يضمن واستوثق
القاضي منهم كفيلا إن شاء وكذا لا يأمر الجد
وولد الولد حال وجود الأب والولد؛ لأنهما حال
وجودهما بمنزلة ذوي الأرحام ويأمرهما حال
عدمهما؛ لأن الجد يقوم مقام الأب حال عدمه
وولد الولد يقوم مقام الولد حال عدمه، وإن كان
صاحب اليد أو المديون منكرا فأرادوا أن يقيموا
البينة لم يلتفت القاضي إلى ذلك لما ذكرنا فإن
أنفق الأب من مال ابنه ثم حضر الابن فقال
للأب: كنت موسرا، وقال الأب: كنت معسرا ينظر
إلى حال الأب وقت الخصومة فإن كان معسرا
فالقول قوله وإن كان موسرا فالقول قول الابن؛
لأن الظاهر استمرار حال اليسار والإعسار
والتغير خلاف الظاهر فيحكم الحال وصار هذا
كالآجر مع المستأجر إذا اختلفا في جريان الماء
وانقطاعه أنه يحكم الحال لما قلنا كذا هذافإن
أقاما البينة فالبينة بينة الابن؛ لأنها تثبت
أمرا زائدا وهو الغنى هذا إذا كان المال من
جنس النفقة من الدراهم والدنانير والطعام
والكسوة فإن كان من غير جنسها فالقاضي لا يبيع
على الغائب العقار لأجل القضاء بالإنفاق وكذا
الأب إلا إذا كان الولد صغيرا فليبع العقار
وأما العروض فهل يبيعها القاضي؟ فالأمر فيه
على ما ذكرنا من الاتفاق والاختلاف وهل يبيعها
الأب؟ قال أبو حنيفة: يبيع مقدار ما يحتاج
إليه لا الزيادة على ذلك وهو
ج / 4 ص -38-
استحسان، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يبيع ولا
خلاف أن الأم لا تبيع مال ولدها الصغير
والكبير وكذا الأولاد لا يبيعون مال الأبوين"
وجه " قولهما وهو القياس أنه لا ولاية للأب
على الولد الكبير فكان هو وغيره من الأقارب
سواء؛ ولهذا لا يبيع العقار وكذا العروض ولأبي
حنيفة أن في بيع العروض نظرا للولد الغائب؛
لأن العروض مما يخاف عليه الهلاك فكان بيعها
من باب الحفظ والأب يملك النظر لولده بحفظ
ماله وغير ذلك بخلاف العقار فإنه محفوظ بنفسه
فلا حاجة إلى حفظه بالبيع فيبقى بيعه تصرفا
على الولد الكبير فلا يملكه ولأن الشرع أضاف
مال الولد إلى الوالد وسماه كسبا له فإن لم
يظهر ذلك في حقيقة الملك فلا أقل من أن يظهر
في ولاية بيع عرضه عند الحاجة.
"فصل" وأما بيان مقدار الواجب من هذه النفقة فنفقة الأقارب مقدرة
بالكفاية بلا خلاف؛ لأنها تجب للحاجة فتتقدر
بقدر الحاجة وكل من وجبت عليه نفقة غيره يجب
عليه له المأكل والمشرب والملبس والسكنى
والرضاع إن كان رضيعا؛ لأن وجوبها للكفاية
والكفاية تتعلق بهذه الأشياء فإن كان للمنفق
عليه خادم يحتاج إلى خدمته تفرض له أيضا؛ لأن
ذلك من جملة الكفاية.
"فصل" وأما بيان كيفية وجوبها فهذه النفقة تجب على وجه لا تصير دينا في
الذمة أصلا سواء فرضها القاضي أو لا بخلاف
نفقة الزوجات فإنها تصير دينا في الذمة بفرض
القاضي أو بالتراضي حتى لو فرض القاضي للقريب
نفقة شهر فمضى الشهر ولم يأخذ ليس له أن
يطالبه بها بل تسقط وفي نفقة الزوجات للمرأة
ولاية المطالبة بما مضى من النفقة في مدة
الفرضوقد ذكرنا وجه الفرق بينهما في نفقة
الزوجات فيقع الفرق بين النفقتين في أشياء:
منها ما وصفناه آنفا أن نفقة المرأة تصير دينا
بالقضاء أو بالرضا ونفقة الأقارب لا تصير دينا
أصلا ورأسا، ومنها أن نفقة الأقارب أو كسوتهم
لا تجب لغير المعسر ونفقة الزوجات أو كسوتهن
تجب للمعسرة والموسرة ومنها أن نفقة الأقارب
أو كسوتهم إذا هلكت قبل مضي مدة الفرض تجب
نفقة أخرى وكسوة أخرى وفي نفقة الزوجات لا
تجبومنها أن نفقة الأقارب أو كسوتهم إذا تعيبت
بعد مضي المدة لا تجب أخرى وفي نفقة الزوجات
تجب وقد مر الفرق بين هذه الجملة في فصل نفقة
الزوجات ومنها أنه إذا عجل نفقة مدة في
الأقارب فمات المنفق عليه قبل تمام المدة لا
يسترد شيئا منها بلا خلاف وفي نفقة الزوجات
خلاف محمد ويحبس في نفقة الأقارب كما يحبس في
نفقة الزوجات أما غير الأب فلا شك فيه وأما
الأب فيحبس في نفقة الولد أيضا ولا يحبس في
سائر ديونه؛ لأن إيذاء الأب حرام في الأصل وفي
الحبس إيذاؤه إلا أن في النفقة ضرورة وهي
ضرورة دفع الهلاك عن الولد؛ إذ لو لم ينفق
عليه لهلك فكان هو بالامتناع من الإنفاق عليه
كالقاصد إهلاكه فدفع قصده بالحبس ويحمل هذا
القدر من الأذى لهذه الضرورة وهذا المعنى لم
يوجد في سائر الديون ولأن ههنا ضرورة أخرى وهي
ضرورة استدراك هذا الحق أعني: النفقة؛ لأنها
تسقط بمضي الزمان فتقع الحاجة إلى الاستدراك
بالحبس؛ لأن الحبس يحمله على الأداء فيحصل
الاستدراك، ولو لم يحبس يفوت حقه رأسا فشرع
الحبس في حقه لضرورة استدراك الحق صيانة له عن
الفوات وهذا المعنى لا يوجد في سائر الديون؛
لأنها لا تفوت بمضي الزمان فلا ضرورة إلى
الاستدراك بالحبس ولهذا قال أصحابنا: إن
الممتنع من النفقة يضر ولا يحبس بخلاف الممتنع
من سائر الحقوق؛ لأنه لا يمكن استدراك هذا
الحق بالحبس؛ لأنه يفوت بمضي الزمان فيستدرك
بالضرب بخلاف سائر الحقوق وكذلك الجد أب الأب
وإن علا لأنه يقوم مقام الأب عند عدمه.
ج / 4 ص -39-
بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول أما الكتاب
فقوله عز وجل
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} معطوفا على قوله
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أمر بالإحسان إلى المماليك ومطلق الأمر يحمل على الوجوب، والإنفاق
عليهم إحسان بهم فكان واجبا ويحتمل أن يكون
أمرا بالإحسان إلى المماليك أمرا بتوسيع
النفقة عليهم؛ لأن المرء لا يترك أصل النفقة
على مملوكه إشفاقا على ملكه وقد يقتر في
الإنفاق عليه لكونه مملوكا في يده فأمر الله
عز وجل السادات بتوسيع النفقة على مماليكهم
شكرا لما أنعم عليهم حيث جعل من هو من جوهرهم
وأمثالهم في الخلقة خدما وخولا أذلاء تحت
أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم
وأما السنة فما روي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يوصي بالمملوك خيرا ويقول
"أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإن
الله تعالى يقول
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وعن أنس رضي الله عنه قال كان آخر وصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين حضرته الوفاة "الصلاة
وما ملكت أيمانكم
وجعل صلى الله عليه وسلم يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه" وعليه إجماع الأمة أن نفقة المملوك واجبة، وأما المعقول فهو عبد
مملوك لا يقدر على شيء فلو لم تجعل نفقته على
مولاه؛ لهلك.
"فصل" وأما سبب وجوبها فالملك؛ لأنه يوجب الاختصاص بالمملوك انتفاعا
وتصرفا وهو نفس الملك فإذا كانت منفعته للمالك
كانت مؤنته عليه؛ إذ الخراج بالضمان وعلى هذا
يبنى أنه لا يجب على العبد نفقة ولده لعدم
الملك؛ لأن أمه إن كانت حرة؛ فهو حر، وإن كانت
مملوكة؛ فهو ملك مولاها فكانت نفقته على
المولى ولأن العبد لا مال له بل هو وما في يده
لمولاه والمولى أجنبي عن هذا الولد فكيف تجب
النفقة في مال الغير لملك الغير؟ وكذا لا يجب
على الحر نفقة ولده المملوك بأن تزوج حر أمة
غيره فولدت ولدا؛ لأنه ملك غيره فلا تجب عليه
نفقة مملوك غيره ولو أعتق عبده بطلت النفقة
لبطلان سبب الوجوب وهو الملك ثم إن كان بالغا
صحيحا فنفقته في كسبه وإن كان صغيرا أو زمنا؛
قالوا: إن نفقته في بيت المال؛ لأنه واحد من
المسلمين حر عاجز لا يعرف له قريب وبيت المال
مال المسلمين فكانت نفقته فيه، وكذا اللقيط
إذا لم يكن معه مال فنفقته في بيت المال لما
قلنا، وقالوا في الصغير في يد رجل: قال لرجل:
هذا عبدك أودعتنيه فجحد قال محمد: أستحلفه
بالله عز وجل ما أودعته فإن حلف قضيت بنفقته
على الذي هو في يده؛ لأنه أقر برقه ثم أقر به
لغيره وقد رد الغير إقراره فبقي في يده واليد
دليل الملك فيلزمه نفقته قال محمد: ولو كان
كبيرا لم أستحلف المدعى عليه؛ لأنه إذا كان
كبيرا كان في يد نفسه وكان دعواه هدرا فيقف
الأمر على دعوى الكبير فكل من ادعى عليه أنه
عبده وصدقه؛ فعليه نفقته، ولو كان العبد بين
شريكين فنفقته عليهما على قدر ملكيهما، وكذلك
لو كان في أيديهما كل واحد منهما يدعي أنه له
ولا بينة لهما فنفقته عليهما وقالوا في
الجارية المشتركة بين اثنين أتت بولد فادعاه
الموليان: إن نفقة هذا الولد عليهما وعلى
الولد إذا كبر نفقة كل واحد منهما؛ لأن كل
واحد منهما أب كامل في حقه، والله أعلم.
"فصل" وأما شرط وجوبها فهو أن يكون الرقيق مملوك المنافع والمكاسب للمولى
فإن لم يكن فلا تجب عليه نفقته فيجب على
الإنسان نفقة عبده القن والمدبر وأم الولد؛
لأن أكسابهم ملك المولى، ولا تجب عليه نفقة
مكاتبه؛ لأنه غير مملوك المكاسب لمولاه ألا
ترى أنه أحق بكسبه من مولاه فكان في مكاسبه
كالحر؛ فكانت نفقته في كسبه كالحر وكذا معتق
البعض؛ لأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة
وعندهما: حر عليه دين والعبد الموصى برقبته
لإنسان وبخدمته لآخر نفقته على صاحب الخدمة لا
على صاحب الرقبة؛ لأن منفعته لصاحب الخدمة،
ونفقة عبد الرهن على الراهن؛ لأن ملك الذات
والمنفعة له، ونفقة عبد الوديعة على المودع
لما قلنا، ونفقة عبد العارية على المستعير؛
لأن ملك المنفعة في زمن العارية له؛ إذ
الإعارة تمليك المنفعة، ونفقة عبد الغصب قبل
الرد على الغاصب؛ لأن منافعه تحدث على ملكه
على بعض طرق أصحابنا حتى لو لم تكن مضمونة على
الغاصب فكانت نفقته عليه ولأن رد المغصوب على
الغاصب ومؤنة الرد عليه لكونها من ضرورات الرد
والنفقة من ضرورات الرد؛ لأنه لا يمكنه إلا
باستبقائه ولا يبقى عادة إلا بالنفقة فكانت
النفقة من مؤنات الرد لكونها من ضروراته فكانت
على الغاصب، والله أعلم |